===الخضاب===
قال النبي {{صل}}: غَيِّروا هذا الشّيبَ " وجَنِّبوه السوادَ ".
وكان أبو بكر يَخْضب بالحِنَّاء والكَتَموالكَتَم.
وقال مالك بنُ أسماء بن خارجة لجاريتهلجاريته: " قُومي " اخضبِي رأسي ولِحيتىِ فقالتفقالت: دَعْني قد عَييت بما أُرقِّعكأُرقِّعك.
فقال مالك بنُ أسماءأسماء: عَيَّرْتِني خَلَقاً أَبليتُ جِدَّته وهل رأيت جَديداً لم يَعُدْ خَلَقَا ودخلِ أبو الأسود الدُؤليّ على معاوية وقد خَضَب فقالفقال: لقد أصبحتَ يا أبا الأسود جميلاَ فلو عَلَّقت تميمةتميمة.
فأنشأ أبو الأسود يقوليقول: أَفْنى الشّبابَ الذي فارقتُ بهجَته مَرُّ الجديدَيْن من آتٍ ومُنْطلقِ لم يُبْقِيا ليَ في طُول اختلافهما شيئاً يُخاف عليه لَذْعةُ الحَدَق وذُكر عن الأصمعيّ قالقال: بَلغني عن بعض العَرب فصاحةٌ فأتيتُه فوجدتُه يَخْضب فقالفقال: يا بن أخي ما الذيَ أَقصدَك إليِّ قلتُقلتُ: الاستئناسُ بك والاستماع من حديثك قالقال: يا بن أخي قَصدْتَني وأنا أخْضِب والخضاب من مُقدِّمات الضّعف ولطالما فَزّعت الوُحوش وقُدْت الجيوش وَرَوَّيْت السّيف وقَرَيت الضَّيف وحَميت الجارَ وأبيت العار وشَرِبْتُ الرَّاح وجالستُ المِلاَح وعاديت القُروم وعَلوت الخُصوم واليوم يا بن أخي الكِبَرُ وضعف البصر تركا من بعد الصَّفو الكَدَر وأنشأ يقوليقول: شَيْبٌ نُعَلِّله كيما نُسرّ به كهيئة الثَّوب مطويا على خِرَقِ فكنتُ كالغُصْ يَرْتاح الفؤادُ به فصرْتُ عُوداً بلا ماءٍ ولا وَرَق صَبْراً على الدَّهر إنِّ الدّهر ذو غِيَرٍ وأهْلُه منه بين الصفو والرَّنَق " ودخل مُعاويةُ على ابن جعفر يعوده فوجده مُفيقاً وعنده جاريةٌ في حِجْرها عودٌ فقالفقال: ما هذا يا بن جعفر فقالفقال: هذه جارية أروَيها رقيقَ الشعر فَتَزِيده حُسناً بحُسْن نَغْمتهانَغْمتها.
قال: فَلْتقل.
قال: فَلْتقل.
فحرَّكت عُودَها وغنَّت وكان معاوية قد خَضبخَضب: أليس عندك شُكْرٌ للَّتي جَعلتْ ما ابيضَ من قادمات الرِّيش كالحُمَم جَدَّت منك ما قد كان أخْلَقه رَيْبُ الزمان وصَرْفُ الدهر والقِدَم فحرَّك معاويةُ رجلَه فقال له ابن جعفرجعفر: لم حركت رجلَك يا أميرَ المؤمنين قالقال: كلُّ كريم طَروبطَروب.
وقال محمود الورّاق في الخِضابالخِضاب: للضيف أَنْ يُقرَى ويُعْرفَ حقُّه والشَّيبُ ضيفُك فاْقْرِه بِخِضَابِ وافي بأكْذَب شاهِد ولربَّما وافي المَشيبُ بشاهِدٍ كذّابِ فافسَخ شهادتَه عليك بخَضبِه تَنْفي الظُّنون به عن المُرْتاب فإذا دنا وَقْتُ المَشيب فخلِّه والشَّيبَ يذهبُ فيه كلِّ ذَهاب وقال آخرآخر: وقائلةٍ تقولُ وقد رَأتنْي أًرَقِّع عارضَيّ من القَتِيرِ عليك الخِطْرَ أن تُدَنى إلى بِيضٍ ترائبُهنّ حُور فقلتُ لها المشيبُ نَذِيرُ عُمْري ولستُ مُسَوِّداً وجهَ النَّذير إنّ شَيباً صَلاحُه بخِضَاب لَعَذَابٌ مُوَكَّلٌ بِعَذَاب فوَحَقِّ الشَّباب لولا هَوَى الْبِي ض وأَنْ تَشْمَئِزّ نفسُ الكَعَاَب لأرَحْتُ الخَدًّين مِن وَضر الْخِط ر وآذنتُ بانقضاء الشَّباب وقال غيرهغيره: َبكَرت تحسِّن لي سوادَ خِضابي لكأنّ ذاك يُعيدني لِشَبابي وإذا أدِيمُ الوَجْه أَخْلَقَه البِلَى لم يُنتَفَع فيه بحُسْن خِضاب ماذا تُرَى يجْدِي عليكِ سوادهُ وخلافُ ما يُرْضيك تحت ثِيابي ما الشَيبُ عندي والخضاب لواصِفٍ إلا كَشَمس جلَلَت بسَحاب تَخْفي قليلاً ثم تَقْشَعه الصَبا فيصيرُ ما سُتِرَت به لِذَهاب ومن قولنا هذا المعنيالمعني: أصمَّم في الغَواية أم أَنابا وشَيبُ الرَّأس قد خَلَس الشَّبَابا إذا نَصل الخِضاب بَكى عليه وَيَضحَك كلما وَصَل الخضابا كأن حمامةً بيضاءَ ظَلَّت تُقاتل في مَفارقه غُرابا قال النبي {{صل}}: مَن شَاب شَيْبة في الإسلام كانت له نُوراً يومَ القيامةالقيامة.
وقال ابن أبي شَيبةشَيبة: نهى رسولُ الله {{صل}} عن نَتْف الشَّيب وقالوقال: هو نُور المُؤمنالمُؤمن.
وقالواوقالوا: أوَّل مَن رأى الشيب إبراهيمُ خليل الرحمن فقالفقال: يا ربِّ ما هذا قال لهله: هذا الوَقار قالقال: ربِّ زِدني وقارًاوقارًا.
وقال أبو نُواسنُواس: يَقُولون في الشّيب الوقارُ لأهْلِه وشَيبي بحمد الله غير وقارِ وقال غيرُهغيرُه: يقُولون هلْ بعد الثلاثين مَلْعب فقلتُ وهل قبلَ الثلاثين مَلْعبُ لقد جَلَّ قَدْرُ الشَيب إن كان كُلّما بَدت شَيْبةٌ يَعْرَى من اللهو مَركب دخل أبو دُلَف على المأمون وعنده جارية وقد ترك أبو دُلف الخِضَابَ فغمز المأمونُ الجاريَةَ فقالت " له ": شِبْت أبا دُلف إنا لله وإنا إليه راجعون " لا " عليكعليك! فسكت أبو دُلفدُلف.
فقال له المأمونالمأمون: أجِبْها أبا دُلفدُلف: فأطرق ساعةً ثم رَفع رأسه فقالفقال: تَهزأت أن رأت شيْبي فقلتُ لها لا تَهْزَئِي مَن يطل عُمرٌ به يَشبِ شَيْبُ الرِّجال لهم زينٌ وَمَكْرُمة وَشَيْبُكًن لَكُنّ الوَيْلُ فاكتئبي وقال محمود الوراقالوراق: وعائب عابني بشيبٍ لم يَعْدُ لمّا ألم وَقْتَه فقلتُ للعائبي بشيبي ياعائبَ الشَيب لا بَلغتَه " أنشدني أبو عبد الله الإسْكَنْدراني " معلَم الإخْوةالإخْوة: وممّا زادَ في طول اكتئابي طلائعُ شيبتين ألمتا بي فأمِّا شَيْبَةٌ فَفَزِعْتُ فيها إلى المِقراض من حُبِّ التَّصابيِ وأمّا شَيْبةٌ فَعَفَوت عنها لتَشْهد بالبَرَاء من الخِضاب " وقال محمد بن مُناذِرمُناذِر: لا سَلامٌ على الشَّباب ولا حَي يا الإلهُ الشبابَ من مَعْهودِ قد لَبِسْت الجديدَ من كلّ شيء فوجدتُ الشَّباب شرَّ جَديد صاحبٌ ما يزال يَدْعو إلى الغي ي وما مِن دُعاً له برَشِيد ولَنِعْم المَشيبُ والوازعُ الشَّي - ب ونِعم المًفادُ لِلْمستفيد كبر السن قيل لأعرابيّ قد أَخذته كَبْرة السِّنالسِّن: كيف أصبحتَ فقالفقال: أصبحتُ تقيِّدني الشَّعرةُ وأَعثُر بالبَعْرة قد أقام الدهرُ صَعَرِي بعد أن أقمتُ صَعَرهصَعَره.
وقالوقال: " آخر ": لقد كنت أنْكِر البيضاءَ فصرْت أُنْكِر السوداءَ فيا خير مَبْدول ويا شرَّ بَدَلبَدَل.
ودخل المُسْتَوْغِرِ بنُ ربيعة على معاويةَ بن أبي سُفيان وهو ابن ثلثمائة سنة فقالفقال: كيف تَجدك يا مُسْتوغر فقالفقال: أَجِدني يا أميرَ المؤمنين قد لان مِنِّي ما كنتُ أحبّ أن يشتدّ واشتدّ مني ما كنتُ أحبُّ أن يَلين وابيضّ مني ما كنتُ أحبُ أن يسودّ واسودّ مني ما كنتُ أحبّ أن يَبْيضَ ثم أَنشأ يقوليقول: سَلْني أنَبِّئك بآياتِ الكِبَرْ نوم العِشاءِ وسُعال بالسَّحَرْ " وقِلَّةَ النَّوْم إذا الليل آعْتَكر " وقِلّة الطُّعْم إذا الزَّاد حَضَر " وسُرْعة الطَّرَف وتَحْمِيج النظر " وتَرْكُك الحَسناءَ في قُبْل الطُّهُر والناسُ يَبْلَوْن كما يَبْلى الشًجَر وقال أعرابيأعرابي: أشْكو إليك وَجَعاً برُكْبتي وَهَدجاناً لم يَكًن في مِشْيتي كهَدَجان الرَّأل خَلْف الهَيْقَتِ وقال آخرآخر: وقال جريرجرير: تَحِنّ العِظام الرّاجفاتُ من البِلَى ولَيْس لداء الركْبتين طبيبُ وقال أعرابيّ في امرأة " عَجُوز ": يا بِكْرَ حَوَّاءَ من الأوْلاد وأقدمَ العالم في المِيلادِ عُمْركِ ممدودٌ إلى التَّنادِي فحدًثينا بحَدِيث عادِ ومُبْتدا فِرعون ذي الأوْتاد وكيف حالُ السَّيل بالأطْوادِ وقال آخرآخر: إذا عاش سَبْعين عاماً فقد ذَهب المَسرةُ والفَتَاءُ كان في غَطفان نَصْر بنُ دُهْمان قادَ غَطفان وسادَها حتى خرِف وعُمِّر تسعين ومائة سنةٍ حتى اسودَّ شَعرُه ونَبتت أضراسُه وعاد شاباً فلا تُعرف في العرب أعجوبة مثلهمثله.
وقال محمد بن مناذر في رجل من المُعمَّرينالمُعمَّرين: إنَّ مُعاذَ بنَ مُسْلم رَجلٌ قد ضَجّ من طُول عُمره الأبدُ قد شابَ رأسُ الزَّمان واكتهل الدَّه ر وأثوابُ عُمْره جدُد يا نَسْرَ لُقمان كم تعيشُ وكم تَسْحَبُ ذَيْلَ الحياةِ يا لُبَد تَسأالُ غِرْبانها إذا حجَلت كيفَ يكون الصّدَاع والرَّمد ودخل الشّعبيّ على عبد الملك بن مَرْوَان فوَجده قد كبا مُهْتَمًّا فقالتفقالت: ما بالُ أمير المؤمنين قالقال: يا شعبيِّ ذكرتُ قولَ زُهيرزُهير: كأني وقد جاوزت سَبْعين حِجًةً خَلعتُ بها عنِّي عِذَارَ لجامي رَمَتني بناتُ الدهر من حيث لا أَرى فكيف بمن يُرْمى وليس بِرَامي فلو أنني أرْمَى بِنبْلٍ رأيتها ولكنًني أرْمَى بغير سِهام عَلَى الرَّاحَتَيْن تارةً وعلى العصا أُنُوءُ ثلاثاً بعدهنَّ قِيامي قال له الشًعبيُّالشًعبيُّ: ليس كذلك يا أميرَ المؤمنين ولكن كما قال لَبِيدُ ابن ربيعة وقد بلغ سبعين سنة كأني وقد جاوزتُ سَبْعينَ حِجَّةً خلعتُ بها عن مَنْكِبَّيَّ رِدَائيَا فلما بلغ سبعاً وسبعين قالقال: باتت تَشكّى إلى النفسُ مُجهِشةً وقد حملتُكِ سبعاً بعد سَبْعيناً فإن تُزَادي ثلاثاً تَبْلُغي أملاً وفي الثلاثِ وفاءٌ للثّمانينَا فلما بلغ مائة سنة قالقال: فلما بلغ مائة سنةٍ وعشراً قالقال: أليسَ في مائةٍ قد عاشها رجُلٌ وفي تَكامُل عَشْرٍ بعدها عُمُرُ فلما بلغ ثلاثينَ ومائةً وقد حضرَتْه الوفاة قالقال: تَمَنَئ ابنتاي أن يَعيشَ أبوهما وهل أنا إلا منِ رَبيعةَ أو مُضرْ فقُوما وقُولا بالذي تَعْلمانه ولاتَخْمِشَا وجها ولا تَحْلِقَا شَعَر وقولا هو المرءُ الذي لا صَدِيقَه أضاع ولا خانَ الخليلَ ولا غَدر إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلام عليكما ومَن يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَر قال الشّعبيّالشّعبيّ: فلقد رأيت السرورَ في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشهايعيشها.
وقال لبيد أيضاًأيضاً: أليسَ ورائِي إن تراختْ مَنِيَّتي لُزُومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ أخَبر أخبارَ القُرون التي مَضت أدِبُّ كأنّي كلما قمتُ راكِع فأصبحتُ مثل السيفِ أَخْلق جَفْنَه تَقادمُ عهدِ القَيْن والنَصْلُ قاطِع وقالواوقالوا: مكتوبٌ في الزّبورالزّبور: مَن بَلغ السبعين أشتكي من غير علّةعلّة.
وقال محمد ابن حسّان النِّبطيالنِّبطي: لا تَسأل نفسك العامَ ما أعطتك في العام الماضيالماضي.
وقال مُعاويةُ لما أَسنَّأَسنَّ: ما مَرَّ شيءٌ كنتُ أستلذّه وأنا شابّ فأجِده اليومَ كما أجده إلا اللبن والحديث الحَسَنالحَسَن.
عاش ضِرَارُ بن عمرو حتى وُلد له ثلاثةَ عشرَ ذكراً فقالفقال: مَن سَرَّه بنوه ساءته نفسُهنفسُه.
وقال ابن أبي فَننِفَننِ: مَن عاشَ أَخْلقتِ الأيام جدَته وخانَه ثِقَتاه السَّمعُ والبَصرُ قالت عَهِدْتًك مَجنوناً فقلتُ لها إنّ الشبَابَ جُنونٌ بُرْؤُه الكِبر قال أبو عُبيدةعُبيدة: قيل لشَيْخلشَيْخ: ما بَقَى منك قال يَسْبقني مَن بي يَديّ ويُدْركني مَن خَلْفي وأذكر القديمَ وأنْسى الحديثَ وأنْعسِ في الملا وأسْهرُ في الخَلا وإذا قمتُ قَرُبَتِ الأرض مِنِّي وإذا قَعدْتُ تباعدت عَنّيعَنّي.
وقال حُمَيد بن ثَوْر الهِلاليّالهِلاليّ: أرى بَصرِي قد رابني بعد صِحَّةٍ وحَسْبُك داءً أن تَصِحَّ وتَسْلَمَا وِقال آخرآخر: كانت قَنَاتي لا تَلِينُ لغامزٍ فألانَهَا الإصباحُ والِإمْساءُ وَدَعَوْتُ رَبِّي بالسلاَمة جاهِداُ لِيُصِحًني فإذا السلامةُ داء وقال أبو العتاهية " ويروى للقُطاميّ ": " أَلستَ تَرَى أنّ الزَّمانَ طواني وبدَّل عقلي كلّه وبَرَاني " تَحَيَّفَني عُضْواً فَعُضْواً فلم يَدَع سوى اسمي صحيحاً وحدَه ولِساني ولو كانت الأسماء يَدْخُلها البِلَىِ إذاً بَليَ اسمي لامتدادِ زَمانِي وما ليَ أَبْلَى لِسَبْعِينَ حجَّةَ وَسبع أَتَتْ مِن بعدها سَنَتان إذا عَنًّ لي شيءٌ تَخيَّل دونه شَبيهُ ضَباب أو شَبيهُ دُخان وقال الغَزالالغَزال: أصبحتُ واللهّ مَحْسودأً على أَمدٍ مِنَ الحياة قَصيرِ غير مُمتَدِّ حتى بقيتُ بحمد الله في خَلَفٍ كأنّني بينهم من وَحْشًةٍ وَحْدي وما أُفارق يوماً مَن أفارقه إلا حَسِبْت فِراقِي آخرَ العَهد وقال آخرآخر: يا مَن لشيخٍ قد تَخَدَّد لحمُه أَفنَى ثلاثَ عمائمٍ أَلوانا سوداءَ حالكةً وسَحْقَ مُفوَف وأجدَّ لوناً بعد ذاك هِجَانَا قَصَرَ اللّيالي خَطْوَه فَتَدَاني وحَنَينْ قائم صُلبه فتحانىَ إنِّي وإن كان مَسنَّى كِبر على ما قد تَرَيْنَ من كِبَرِى أَعرفُ من قبل أن تُفَارِقَني موقعَ سَهْمِي والسهمُ في الوتَر " من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه كان حارثةُ بن بَدر الغُدَانيِّ فارسَ بني تميم وكان شاعراً أديبَا ظريفاً وكان يُعاقرا الشَّرابَ ويَصْحب زياداَ فقيل لزيادلزياد: إنك تَصْحب هذا الرجلَ وليس من شاكِلَتك إنهُ يُعاقر الشراب فقالفقال: كيف لا أَصحبه ولم أَسْأله عن شيء قطّ إلا وجدتُ عنده منه عِلماً ولا مَشىَ أمامي فاضطرَّني أن أناديه ولا مَشى خَلْفي فاضطرَّني أن أَلتفتَ إليه ولا راكَبني فمسَّتْ رُكْبتي رُكْبَتَهرُكْبَتَه.
فلما هلك زيادٌ قال حارثةُ بنُ بَدْر يَرْثيهيَرْثيه: أَبا المُغِيرَةِ والدُنيا مُغَرِّرَةٌ وإِنّ مَن غَرَّت الدُّنيا لَمَغْرورُ قد كان عِنْدك للمَعْروف مَعْرِفَةٌ وكان عندك للتَّنْكير تَنْكِير لو خلدَ الخيرُ والإسلامُ ذا قِدَمٍ إذاً لخلّدَك الإسلامُ والخِير وتمامُ هذه الأبياتِ قد وقعتْ في الكتاب الذي أَفْرَدناه للمَرَاثيللمَرَاثي.
وكان زياد لا يُدَاعب " أحداً " في مجلسه ولا يَضْحَك فاختصم إليه بنو راسِب وبنو الطُّفَاوَة في غُلام أثْبته هؤلاء وهؤلاء فَتَحَيَّر زيادٌ في الحًكمالحًكم.
فقال له حارثةُ ابن بدربدر: عِنْدي أكرمَ اللهّ الأميرَ في هذا الغلام أمرٌ إن أذِن الأميرُ تكلّمت به فيه قالقال: وما عندك فيه قالقال: أرى أن يُلْقَى في دِجْلة فإن رَسَب فهو لِبَني راسِب وإن طفا فهو لبني الطُّفَاوَة فتبسَّم زياد وأَخَذَ نَعْليه ودخل ثم خَرج فقال لحارثةلحارثة: ما حَمَلك على الدُّعابة في مَجلسي قالقال: طَيِّبَةٌ حَضرَتْني أبقى الله الأمير خِفْت أن تَفُوتنِى قالقال: لا تَعُدْ إلى مثلهامثلها.
ولما وَليَ عُبيد اللهّ بن زياد بعد موت أبيه اطرحَ حارثةَ بنَ بدر وجفاهوجفاه.
فقال له حارثةُحارثةُ: مالك لا تُنْزلني المنزلةَ التي كان يُنزِلني أبوك أتدَّعي أنّكَ أفضلُ منه أو أعقل قال لهله: إنّ أبي كان بَرَع في الفضل بُرُوعاَ لا تَضرّه صُحْبَة مثلك وأنا حَدَث أخشى أن تَحْرِقني بنارك فإنْ شِئْتَ فاتْرُك الشراب وتكونَ أوَلَ داخل وآخِرَ خارج قالقال: والله ما تركتُه لله فكيف أتركه لك قالقال: فتخَيَّرْ بلداً أوَلِّيكهأوَلِّيكه.
فاختار سُرَّق من أرض العِراق فولاّه إياهاإياها.
فكتب إليه أبو الأسود الدُؤلي وكان صديقاً لهله: أحارَ بنَ بَدْرٍ قَدْ وَليتَ وِلايةً فكُنْ جًرَذاً فيها تَخُون وتَسْرِقُ وباهِ تَمِيَماَ بالغِنى إنّ للغنى لِساناً به المرْء الهيوبة يَنطق وما الناس إلا اثنان إما مُكَذِّبٌ يقول بما يهْوَى وإمَّا مُصدِّق يقُولون أقوالاً ولا يحْكِمُونها فإنْ قيل يوماً حققوا لم يُحَقَقُوا فدع عنك ما قالوا ولا تَكْترث بهم فحظك من مال العِرَاقين سُرّق وكان ابن الوليد البَجليّ وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القَسْرِيّ ولي أصبهان وكان رجلاً مُتَسَمِّتاً مُتَصَلحاً فَقدِمَ عليه حمزةُ بن بيض بن عَوْف " راغباً " في صُحْبته فقيل لهله: إنّ مثل حمزة لا يَصْحب مثلَك لأنه صاحبُ كِلاب ولهو فبعث إليه ثلاثةَ آلاف درْهم وأمره بالانصرافبالانصراف.
فقال فيهفيه: يابن الوليد المُرْتَجَى سَيْبهُ ومن يُجَلي الحدث الحالِكَا سَبِيلُ مَعْروفك مني عَلَى بالٍ فما بالِي عَلَى بالِكا حَشْوُ قميصي شاعرٌ مُفْلِقٌ والجودُ أمْسى حشو سربالِكا يلومك النَّاسُ على صُحْبتٍي والمِسْكُ قد يستصحبِ الرّامِكا إنْ كُنتَ لا تَصحَب إلا فَتى مِثْلك لن تُؤْتىَ بأمْثَالِكا إنيّ آمرُؤ جئتُ أريد الهُدَى فَعُد على جَهلي بإسْلامِكا قال لهله: صدقتَ وقَرَّبه وحَسُنت منزلته " عنده ".
وكان عبدُ الرحمن بن الحَكم الأمير قد عَتَب على نُدمائهنُدمائه! فأَمرَ نَصْراً الفتى بإسقاطهم من ديوان عَطائه ولم يَسْتبدل بهمبهم.
فلما كان بعد أيام أستوحش لهم فقال لِنصرلِنصر: قد استوحشنا لأصحابنا أولئك فقال له نصرنصر: قد نالهم من سخْط الأمير ما فيه أدبٌ لهم فإن رأى أن يُرْسل فيهم أرْسلت قالقال: أرْسِلْأرْسِلْ.
فأقبل القومُ وعليهم كآبة فأخذُوا مجالسهم ولم يَنشرحوا ولا خاضُوا فيما كانوا يَخُوضون فيه فقال الأميرُ لِنصرلِنصر: ما يَمنع هؤلاء من الانشراح قالقال: عليهم أَبقى الله الأمير وَجْمَةُ السُخط الذي نالهم قالقال: قُلْ لهملهم: قد عَفَوْنا فليَنْشرحوافليَنْشرحوا.
قال فقام عبد الرحمن بن الشَمر الشاعرِ المُتنجِّم فجثا بين يديه ثم أنشد شَعراً له أقذع فيه على بعض أصْحابه إلا أنه خَتمه ببيتين بديعين وهماوهما: فيا رَحْمَةَ الله في خَلْقه ومَن جُوده أبداً يَسْكُبُ لئن عِفْتَ صُحْبة أهل الذُّنوب لقلَّ مِن الناس من يُصْحَب وأَحسنُ ما قيل في هذا المعنى قولُ النابغةالنابغة: ولمسْتَ بِمُسْتَبْق أخا لا تَلُمّه على شَعَثٍ أيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ قولهم في القرآن كتب المَرِيسيّ إلى أبي يحيى مَنصور بن محمدمحمد: اكتب إليَّإليَّ: القرآنُ خالق أو مَخْلوق فكتب إليهإليه: عافانا الله وإياك من كلِّ فِتْنة وجَعَلنا وإِيَّاك من أهل السُّنة وممن لا يَرْغب بنفْسه عن الجماعة فإنه إن تَفْعل فأعْظِم بها مِنَّة وإن لا تَفْعل فهي الهَلَكة ونحن نقولنقول: إنّ الكلامَ في القرآن بِدعة يتكلّف المُجيبُ ما ليس عليه ويتعاطى السائل ما ليس له وما نعلم خالقاً إلا الله وما سِوى الله فمخلوق والقرآنُ كلام الله فانْتَه بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكونَ من الضالين جَعلنا الله وإياك من الذين يَخْشَوْن رَبَّهم بالغيب وهم من الساعة مُشْفِقونمُشْفِقون.
==كتاب الجوهرة في الأمثال==
" قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه ": قدْ مَضى قولُنا في العِلْم والأدب وما يتولّد منهما ويُنْسب إليهما من الحِكَم النادرة والفِطَن البارعة ونحن قائلون بعَوْن الله وتوفيقه في الأمثال التي هي وَشيُ الكلام وجوهر اللفظ وحَلْى المعاني والتي تخيَّرتْها العربُ وقَدَّمتها العجم ونُطِق بها " في " كل زمان وعلى كلِّ لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يَسِرْ شيءٌ مَسِيرَها ولا عَمَّ عُمومَها حتى قيلقيل: أسير من مثلمثل.
" وقال الشاعر ": ما أنتَ إلا مَثَلٌ سائرُ يَعْرفه الجاهلُ والخابرُ وقد ضرب الله عزَّ وجلَّ الأمثالَ في كتابه وضربها رسول الله {{صل}} في كلامه قال اللهّ عز وجلوجل: " يَا أَيُّهَا الناسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَه ".
وقالوقال: " وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَينْ ".
ومِثْلُ هذا كثير في آي القرآنالقرآن.
فأوّلُ ما نبدأ به أمثالُ رسول اللهّ {{صل}} ثم أمثالُ العلماءالعلماء.
ثم أمثالُ أكْثَم بن صَيْفِيّ وبُزُرْجِمهر الفارسيّ وهي التي كان يَسْتَعملها عفرُ بن يحيى في كلامه ثم أمثالًُالعرب التي رواها أبو عُبيد وما أشبهها من أمثال العامة ثم الأمثالُ التي أمثال رسول الله {{صل}} قال النبي {{صل}}: ضرب الله مثلاً صِراطاً مُستقيماً وعلى جَنْبي الصراط أبوابٌ مُفَتَحة وعلى الأبواب سُتور مَرْخِيَّة وعلى رأس الصراط داعٍ يقوليقول: ادخُلوا الصراطَ ولا تَعْوَجُّواتَعْوَجُّوا.
فالصراطُ الإسلامِ والستورُ حدودُ الله والأبواب محارمُ الله والداعي القرِانالقرِان.
وقال " النبي " {{صل}}: مَثلُ المُؤْمن كالخامة من الزرع يُقَلِّبها الريِحُ مرَّة كذا ومرَة كذا ومَثلُ الكافر مثل الأرزَة المُجْذِيَة على الأرض " حتى " يكون انجعافُها بِمَرّةبِمَرّة.
وسأله حُذَيفةحُذَيفة: أبعدَ هذا الخير شرّ يا رسول الله فقالفقال: جماعة " على " أقْذَاء وهُدْنَة على دَخَندَخَن.
وقولُه حين ذَكر الدنيا وزينتَها فقالفقال: إنَّ مما يُنْبت الرّبيعُ ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلِمّيُلِمّ.
وقال لأبي سُفْيانسُفْيان: أنت أبا سفيان كما قالواقالوا: كلُّ الصيد في جَوْف الفَرَاالفَرَا: وقال حين ذكر الغُلوّ في العِبَادةالعِبَادة: إنّ المنبَتّ لا أرضاً قَطع ولا ظَهْراً أبْقىأبْقى.
وقال {{صل}}: إياكم وخَضرَاءَ الدِّمنالدِّمن.
قالواقالوا: وما خَضراء الدِّمن قالقال: المرأةُ الحَسْناء في المَنْبت السّوءالسّوء.
وذكر الرِّبا في آخر الزمان وافْتِنَانَ الناس به فقالفقال: مَن لم يَأكلْه أصابه غُبارُهغُبارُه.
وقالوقال: الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْكالفَتْك.
وقال {{صل}}: الولدُ لِلْفراش وللعاهر الحَجَرالحَجَر.
وقال في فرسفرس: وجدتُه بَحْراًبَحْراً.
وقالوقال: إنّ من البيان لَسِحراًلَسِحراً.
وقالوقال: لا ترْفع عصاك عن أهلكأهلك.
وقال {{صل}}: لا يُلْدغ المؤمن من جُحر مرَّتينمرَّتين.
وقالوقال: الحَرْب خدَعةخدَعة.
وله {{صل}} وعلى آله أمثالٌ كثيرة غيرُ هذه ولكنَّا لم نذهب في كل باب إلى استقصائه وإنما ذهبنا إلى أن نِكْتَفيَ بالبعض ونَسْتدلّ بالقليل على الكثير ليكونَ أسهلَ مَأخذاً للحفظ وأبرأ من المَلالة والهربوالهرب.
وتفسيرهاوتفسيرها: أمِا المثل الأول فقد فَسَّره النبي {{صل}}.
وأما قولهقوله: المؤمن كالخامة والكافر كالأرْزة فإنَه شَبه المُؤْمن في تصرّف الأيام به وما يناله من بلائها بالخامة من الزَرْع تُقلَبها الريحُ مرة كذا ومرة كذاكذا.
والخامة " في قول أبي عُبيد ": الغَضّة الرَّطبة من الزَرعالزَرع.
والارْزةوالارْزة: واحدة الأرز وهو شجر له ثمر يقال له الصَّنَوْبرالصَّنَوْبر.
والمُجْذِيةوالمُجْذِية: الثابتة وفيها لغتانلغتان: جَذَي يجذو وأجْذَى يجذِييجذِي.
والانجعافوالانجعاف: الانقلاع يقاليقال: جَعفت الرجل إذا قلعتَه وصرعتَه وضربت به الأرضالأرض.
وقوله لحُذيفةلحُذيفة: هُدْنة على دَخَن وجَمَاعة على أقذاء أراد ما تَنطوي عليه القُلوب من الضًغائن والأحقاد فشبّه ذلك بإغضاء الجفون على الأقذاءالأقذاء.
والدَّخنوالدَّخن: مأخوذ من الدُّخان جعله مثلا لما في الصُّدور من الغِلّالغِلّ.
وقولهوقوله: إنَ مما يُنبت الرّبيع ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلمّ فالحَبط كما ذكر أبو عُبيد عن الأصمعيّالأصمعيّ: أن تأكل الدابة حتى تَنْتفخ بطنُها وَتمْرَض منه يقاليقال: حَبِطَتِ الدَّابةُ تَحْبِط حَبَطاًحَبَطاً.
وقولهوقوله: أو يُلم معناهمعناه: أو يَقْرُب من ذلك ومنه قوله إذ ذكر أهل الجنة فقالفقال: إنّ أحدَهم إذا نَظر إلى ما أعدَّ الله له في الجنَّة فلولا أنه شيء قَضَاه الله له لألمّ أن يَذهب بَصرُه " يَعْنى " لما يَرى فيها يقوليقول: لَقَرُب أن يَذهب بصرُهبصرُه.
وقوله لأبي سُفيانسُفيان: كلُّ الصَّيد في جَوْف الفَرا فمعناه أنّك في الرجال كالفَرا في الصيد وهو الحمار الوَحْشيّ وقال له ذلك يتألّفه على الإسلامالإسلام.
وقولُه حين ذكر الغلوَّ في العبادةالعبادة: إن المنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقىأبقى.
يقوليقول: إن المُغِذَّ في السير إذا أَفرط في الإغذاذ عطبت راحلتُه من قبل أن يَبْلُغ حاجَته أو يَقْضيَ سَفَرَه فشبّه بذلك مَن أَفْرَطَ في العِبادة حتى يَبْقى حَسِيراًحَسِيراً.
وقوله في الرِّباالرِّبا: من لم يأكله أصابه غُباره إنما هو مَثل لما ينال الناسَ من حُرْمته وليس هناك " تُراب ولا " غُبارغُبار.
وقولُهوقولُه: الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك أي مَنع منه كأنه قَيْدٌ لهله.
وفي حديث آخرآخر: لا يَفْتك مؤمنمؤمن.
وقوله في فرسفرس: وجدتُه بَحْراً وإنّ من البيان لَسِحْراً إنما هو على التمثيل لا على التحقيقالتحقيق.
وكذلك قولهقوله: الولد لِلفِراش وللعاهر الحَجَرالحَجَر.
معناهمعناه: أنه لا حق له في نَسب الوِلدالوِلد.
وقوله {{صل}}: لا ترفَعْ عَصاك عن أهلك إنما هو الأدب بالقَول ولم يُرد ألا تَرْفع عنهم العصاالعصا.
وقولهوقوله: لا يُلْدغ المُؤمن من جُحر مرّتين معناه أنّ لَدْغَ مرة يَحْفظ من أخرىأخرى.
وقولُهوقولُه: الحرب خَدعة يريد أنها بالمكر والخديعةوالخديعة.
خَطب النعمانُ بن بَشِير على مِنْبر الكوفة فقالفقال: يا أهلَ الكوفة إني وجدتُ مَثَلي ومَثَلَكم كالضّبُع والثَعلب أتيا الضَب في جُحْره فقالافقالا: أبا حِسْلحِسْل: قالقال: أجِبْتما " لمَ جِئْتُما " قالاقالا: جِئناك نَخْتصم قالقال: في بَيْته يؤتىَ الحَكم قالت الضَبعالضَبع: فتحتُ عَيْبتي قالقال: فِعْلَ النساء فعلتِ قالتقالت: فلقطتُ تمرة قالقال: حُلْوًا جنيتِ قالت فاختطفها ثُعالة قالقال: نفسه بَغَى - ثُعالةثُعالة: اسم الثعلب الذكر والأنثى - قالتقالت.
فلطمتُه لطمةً قال حقًا قضيتِ قالتقالت: فلَطَمني أخرى قالقال: كان حُرّا فانتصر قالتقالت: فاحكم الآن بيننا قالقال: حَدِّث حديثين امرأة وإن لم تَفْهم فأَرْبعةفأَرْبعة.
وقال عبد الله بنً الزُّبير لأهل العِراقالعِراق: وَدِدْتُ والله أنّ لي بكم من أهل الشام صَرْفَ الدِّينار بالدِّرهمبالدِّرهم.
قال له رجلٌ منهممنهم: أتدري يا أَميرَ المؤمنينَ ما مَثلنا ومَثلك ومَثل أهل الشام قالقال: وما ذاك قالقال: ما قاله أعشى بكر حيث يقوليقول: عُلِّقْتُها عَرَضاً وعُلِّقت رجلاً غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرجلُ أَحببناك نحن وأحببتَ أنتَ أهلَ الشام وأحب أهل الشام عبد الملك " بن مروان ".
مثل في الرياء يحيى بنُ عبد العزيز قالقال: حدَّثني نعَيم عن إسماعيل " عن " رجلٍ من ولد أبي بكر الصدِّيق رضوانُ الله عليه عن وَهْب بن مُنَبِّه قالقال: نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فَخّا فجاءت عُصفورة فنزلت عليه فقالتفقالت: مالي أراك مُنْحَنياً قالقال: لكثرة صلاتي انحنيت قالتقالت: فمالي أراك باديةً عِظامُك قالقال: لكثرة صيامي بدت عظامي قالتقالت: فمالي أرى هذا الصُّوفَ عليك قالقال: لزُهْدي في الدُّنيا لبستُ الصُوف قالتقالت: فما هذا العِصا عندك قالقال: أتوكأ عليها وأقضي " بها " حَوائجي قالتقالت: فما هذه الحبّة في يَدك قالقال: قُرْبان إِن مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياها قالتقالت: فإنِّي مِسكينة قالقال: فخَذيهافخَذيها.
فَدَنت فَقَبضت على الحبّة فإذا الفخُّ في عُنقهاعُنقها.
فجعلت تقول قَعِي قَعِي تفسيرهتفسيره: لا غرّني ناسكٌ مُرَاءٍ بعدك أبداًأبداً.
داودُ بنُ أي هِنْد عن الشّعْبِيّالشّعْبِيّ: أنّ رجلاً من بني إسرائيل صاد قُبَّرة فقالتفقالت: ما تُريد أن تَصنع بي قالقال: أذبحك فآكلُك قالتقالت: والله ما أشْفي من قَرَم ولا أغْنى من جُوع ولكنِّي أعلِّمك ثلاثَ خِصال هي خَيْر لك من أَكْليأَكْلي: أما الواحدة فأعلِّمك إياها وأنا في يدك والثانيةُ إذا صرتُ على هذه الشجرة والثالثة إذا صِرْت على هذا الجَبلالجَبل.
فقالفقال: هاتِ " الأولى ".
قالتقالت: لا تَتَلَهَّفنَّ علٍى ما فاتك فخلَّى عنهاعنها.
فلما صارتْ فوْقَ الشجرة قالقال: هاتِ الثانيةَ قالتقالت: لا تصِدِّقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالتفقالت: يا شَقيّ لو ذَبحتني لأخْرجت من حَوْصلتي درَّة وَزْنها عشرون مثقالامثقالا.
قالقال: فَعَضّ علىٍ شَفَتَيْه وتلهّف ثم قالقال: هاتِ الثالثة قالت لهله: أنت قد نَسِيت الاثنتين فكَيف أعلّمك الثالثة ألم أقل لكلك: لا تتلهفنَّ على ما فاتك فقد تلهفت عَلَيّ إذ فُتُّك وقلت لكلك: لا تُصَدِّقن بما لا يكون أنه يكون فصدّقت أنا وعَظْمِي وريشي لا أَزن عشرين مثقالا فكيف يكون في حوْصلتي ما يزنهايزنها! وفي كتاب للهندللهند: مثلُ الدُّنيا وآفاتها ومَخاوفها والموت والمعاد الذي إليه مَصير الإنسانالإنسان.
قال الحكيمُالحكيمُ: وجدت مثل الدنيا والمَغرُور بالدنيا المَملوءة آفات مثلَ رجل ألجأ خوْفٌ إلى بِئر تدلى فيها وتعلَّق بغُصْنين نابتين على شَفير البئر ووقعتْ رجلاه على شيء فمدَهما فنظر فإذا بحيّات أَرْبع قد أَطْلعن رؤوسهن من جُحورهن ونظر إلى أسفل البئر فإذا بثُعبان فاغر فاهُ نحوَه فرفع بصره إلى الغُصْن الذي يتعلق به فإذا في أصله جُرَذان أبيضُ وأسود يَقْرضان الغُصن دائبيَنْ لا يَفْتُرَان فبينما هو مُغْتمّ بنفسه وابتغاء الحيلة في نجاته إذ نظر فإذا بجانب منه جُحْرُ نَحْل قد صَنَعْن شيئاً من عَسل فَتَطاعم منه فَوَجَدَ حلاوتَه فَشغلته عن الًفِكْر في أمره واْلتماس النَّجاة لنفسه ولم يَذْكُر أنّ رِجْلَيْه فوق أربع حيَّات لا يدْري متى تُسَاوره إحداهن وأنّ الجُرَذَيْنِ دائبان في قَرْض الغُصْن الذي يتعلَق به وأنهما إذا قطعاه وقع في لَهْوة التِّنّين ولم يزل لاهياً غافلاً حتى هَلَكهَلَك.
قال الحكيمالحكيم: فشبَّهت الدنيا المملوءة آفاتٍ وشروراً ومخاوفَ بالبئر وشبَّهت الأخلاط التي بُني جَسَدُ الإنسان عليها من المِرَّتين والبَلغم والدَّم بالحيّات الأربع وشَبهت الحياة بالغُصنين اللذين تعلَّق بهما وشَبَّهت الليل والنهار ودورانهما في إفْناء الأيام والأجيالوالأجيال! بالجُرَذَين الأبيض والأسود اللذين يَقْرِضان الغُصْنَ دائبَينْ لا يَفْترَان وشبّهتُ الموت الذي لا بد منه بالتِّنين الفاغر فاه وشبَّهْتُ الذي يرى الإنسانُ ويَسمع " ويَطعم " ويَلْمس فَيُلْهيه ذلك عن عاقبة أمره وما إليه مَصِيرة بالعُسَيلة التي تطاعمهاتطاعمها.
من ضرب به المثل من الناس قالت العربُالعربُ: أَسْخَى من حاتم وأَشجع من رَبيعةَ بن مُكَدَّم وأَدْهَى من قَيْس بن زُهير وأعزُّ من كُلَيب وائل وأَوْفي من السّمَوأَل وأَذْكى من إياس بن معاوية وأَسْود من قَيْس بن عاصم وأَمْنع من الحارث بن طالم وأبلغ من سَحْبان وائل وأَحْلم من الأحْنف بن قيس وأَصْدق من أبي ذرّ الغفاريّ وأكذب من مُسَيلمة الحَنَفيّ وأعيا من باقل وأَمْضى من سُليك المَقَانب وأنْعم من خُرَيم النَّاعم وأحمق من هَبنَّقة وأفْتك من البراضالبراض.
من يضرب به المثل من النساء يقاليقال: أشْأم من البَسُوس وأمنع من أم قِرْفة وأحمق من دُغة وأَقْوَد من ظُلْمِة وأبصرَ من زَرْقاء اليمامة - البَسوسالبَسوس: جارة جساس بن مُرَّة بن ذهل بن شيْبان ولها كانت الناقة التي قُتل من أجلها كُلَيب بن وائل وبها ثارت بين بَكر بن وائل وتَغْلب " الحرب " التي يُقال لها حَرْب البَسوسالبَسوس.
وأم قِرْفةقِرْفة: امرأة مالك بن حُذَيفة بن بَدْر الفَزاريّ وكان يُعَلَق في بيتها خمسون سيفاً كلُّ سيف منها لذي مَحْرَم لهالها.
ودُغَةودُغَة: امرأة من عِجْل بن لُجَيم تزوَجت في بني العَنْبر بن عمرو بن تميمتميم.
وزَرقاء بني نُميرنُمير: امرأة كانت باليمامة تُبصر الشَعَرةَ البيضاء " في اللبن وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام وكانت تُنذر قومها الجُيوش إِذا غَزَتهم فلا يَأتيهم جَيْشٌ إلا وقد استعدُّوا له حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم فأمر أصحابَه فقطعوا شجراً وأمْسكوه أمامهم بأيديهم ونظرت الزَرقاء فقالتفقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم قالوا لهالها: قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك فكذَّبوها وَصبِّحتهم الخيلُ وأغارت عليهم وقُتلت الزَّرقاءالزَّرقاء.
قالقال: فَقوَّرُوا عَينيها فوجدوا عُروق عينيها قد غرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تَكْتحل بهبه.
وظُلمةوظُلمة: امرأة من هُذيل زَنت أربعين عاماً " وقادت أربعين عاماً فلما عَجزت عن الزِّنا والقَوْد اتَّخَذت تَيْساَ وعَنْزاً فكانت تُنْزِى التَيْس على العنز فقِيل لهالها: لم تَفْعلين ذلك قالتقالت: حتى أسمع أنْفاس الْجِماعالْجِماع.
ما تمثلوا به من البهائم قالواقالوا: أَشجع من أسد وأَجْبن من الصَّافر وأمْضى من لَيْث عِفَرِّين وأحْذَر من غُراب وأبصر منِ عُقاب " مَلاَع " وأَزْهَى من غُرَاب وِأَذلُّ من قراد " بمَنْسِم " وأَسْمَع من فرَس وأنوَم من فَهْد وأعقُّ من ضب وأجبن من صِفْرِد " وأحقد من جَمَل " وأضرع من سِنَّوْر وأسرَق من زَبابة وأصبر من عَوْد وأَظْلم من حَيّة وأَحنُّ من ناب وأكذبُ من فاخِتة وأعزُّ من بيْض الأنُوق وأَجْوَع من كلْبة حَوْمل وأعزُّ من الأبلق العقوق 0 الصَافرالصَافر: ذو الصَّفير من الطّير والعَوْدوالعَوْد: المُسِن من الجمالالجمال.
والزَّبابةوالزَّبابة: الفأرة تَسرِق دود الحريرالحرير.
والأنُوقوالأنُوق: طَيْر يقال إنهإنه: يبيض في الهواءالهواء.
وفاخِتةوفاخِتة: طير يَطير بالرًّطب في غير أيامهأيامه.
===ما ضرب به المثل من غير الحيوان===
قالواقالوا: أَهْدَى من النجم وأجود من الدِّيم وأصْبح من الصّبح وأَسْمَح من البَحر وأنْوَر مِن النَهار وأقْوَدُ من ليل وأمْضى من السيل وأحمق من رِجْلة وأحْسن من دُمية وأَنْزَه منْ روْضة وأَوسع من الدَهناء وآنسُ من جَدْول وأضيق من قَرَار حافِر وأوْحش من مَفازة وأثقل من جَبل وأبقى من الوَحْي في صُمِّ الصِّلاب وأخفُّ من ريش الحَواصِلالحَواصِل.
مما ضربوا به المثل قولهمقولهم: قَوْس حاجِب وقرْط مارِيَة وحَجَّام سَابَاط وشَقَائِق النعمان وندَامة الكسَعِيِّ وحَدِيث خرافة وكَنْزُ النّطِف وخُفَّا حُنَيْن وعِطْر مَنْشِممَنْشِم.
أمّا قوسُ حاجب فقد فَسرَّنا خبرَه في كتاب الوفود وأما قُرْط مارية فإِنها مارية بنتُ ظالم بن وَهْب بن الحارث بن مُعاوية الكِنْدِي وأختها هِنْد الهُنود امرأة حُجْر آكل المُرار وابنها الحارث الأعرج الذي ذَكره النابغة والحارثُ الأعْرج خَيْرُ الأنام وإياها يَعْنى حسانُ بن ثابت بقولهبقوله: أولادُ جَفْنةَ حَوْلَ قَبْر أبيهمُ قبر ابن ماريةَ الكريم المُفضِل وأما حَجام ساباط فإنه كان يَحْجُم الجيوشَ بِنَسِيئةٍ إلى انصرافهم من شدّة كَساده وكان فارسيّا وساباط هو ساباط كِسْرىكِسْرى.
ونُسبت شَقائق النُّعمان إليه لأنّ النُعمان بنَ المُنذر أمرَ بأن تُحْمَى وتُضْر قَبته فيها استحساناً لها فنُسبت إليه والعربُ تُسَمِّيها الشَقِرالشَقِر.
وأما خُرافة فإن أنس بنَ مالك يَرْوي عن النبي {{صل}} أنه قال لعائشة رضي الله عنهاعنها: إن من أصدق الأحاديث حديث خُرافةخُرافة.
وكان رجلاً من بني عُذْرة سَبتَهْ الجِنّ وكان معهم فإذا استرقوا السمعَ أخبروه فيًخُبِرُ به أهلَ الأرض فَيَجدُونه كما قالقال.
وأما كَنْز النَّطِف فهو رجلٌ من بني يَرْبوع كان فقيراً يَحْمل الماء على ظَهْره فَيَنْطُف أي يَقْطُر وكان أغار علىِ مالٍ بَعث به باذانُ من اليمن إلى كِسْرى فأَعْطِى منه يوماً حتى غَرُبت الشمس فَضربت به العربُ المَثل " في كثْرة المال ".
وأما خُفَا حُنَين فإنه كان إِسكافاً من أهل الحيرة ساوَمَه أعرابي بخُفَّين فاختلفا حتى أَغْضبه فأَراد أن يَغِيظ الأعرابيّ فلما ارتحل أخذ أحدَ الخُفين فألقاه في طريق الأعرابيّ ثم أَلقى الآخر بموضع آخر على طَرِيقه فلما مَرَّ الأعرابيّ بالخُف الأول قالقال: ما أشبه هذا بِخُفِّ حُنين لو كان معه صاحبُه لأخذتُه فلمِا مَرَّ بِالآخر نَدِم على تَرْك الأوّل فأناخ راحلتَه وانصرف إلى الأوّل وقد كَمن له حُنين فوَثب على راحلته وذَهب بها وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير خفَّي حُنَين فَذَهبت مَثَلاًمَثَلاً.
وأما عِطْر مَنْشِم فإِنها كانت امرأة تَبيع الحُنوط في الجاهليّة فقِيل للقوم إذا تَحاربواتَحاربوا: دَقّوا عِطْر مَنْشِم يُراد بذلك طِيب المَوْتىالمَوْتى.
وأما نَدامة الكُسَعيّ فإنه رجل رَمى فأصاب وظَنّ أنه أخطأ فكَسر قوسَه فلما علم نَدِم على كَسر قوسه فضرِب به المثلالمثل.
{{العقد الفريد/الجزء الثاني}}
|