الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الكامل في اللغة/الجزء السابع»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
ط تعديل تصنيف
 
سطر 51:
أفي الولائم أولاداً لـواحـدة وفي المحافل أولاداً لعلات!
قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ.
وقوله: لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " تقتلك الفئة الباغية ".
وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: " ما لكم من ولايتهم من شيء " " الأنفال: 72 ". والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال :آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
وقوله:
سطر 111:
وكان عروة بن أدية نجا من حرب النهروان، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أتي به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب? فتولى عثمان ست سنين من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر! وفعل في أمر علي مثل ذلك إلى أن حكم، ثم شهد عليه بالكفر! ثم سأله عن معاوية، فسبه سباً قبيحاً! ثم سأله عن نفسه? فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك! ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: صف لي أموره? فقال: أأطنب أم أختصر? فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط.
مناظرة علي بن أبي طالب لهم
وكان سبب تسميتهم الحرورية أن علياً رضوان الله عليه، لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، كان فيما قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني، ثم سألوني التحكيم، أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني? قالوا: الله نعم قال: فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وانتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني? قالوا: اللهم نعم - وفيهم من ذلك الوقت ابن الكواء، وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن حباب? فإما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة - فقالوا: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون! فاقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشأم ، فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته ، فقال تبارك وتعالى: " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " " النساء: 35 "، وفي صيد أصيب في الحرم، كأرنب تساوي ربع درهم ، فقال عز وجل: " يحكم به ذوا عدل منكم " " المائدة: 95 "? فقالوا: إن عمراً لما أبى عليك أنم تقول في كتابك: " هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين " محوت اسمك من الخلافة، وكتبت علي بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: " هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو " فقال: لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك ، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: " محمد بن عبد الله "، فقال لي: " يا علي امح رسول الله "، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال عليه السلام: " فقفني عليه " فمحاه بيده صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، ثم قال: " اكتب محمد بن عبد الله "، ثم تبسم إلي فقال: " يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي ". فرجع معه منهم ألفان من حروراء ، وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم علي صلوات الله عليه: ما نسميكم? ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء.
والنسب إلى مثل حروراء حروراوي، فاعلم، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة لكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد، فقيل :الحروري.
للصلتان العبدي
سطر 172:
وروي عن علي صلوات الله عليه أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمر بجماعة تتحدث، فسل وسلموا عليه، فقال وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها، الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته.
من شعر علي بن أبي طالب
ومن شعر علي بن أبي طالب رحمه الله الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وأنه كان يردده، أنهم لما ساموه أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: أبعد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} والرفقة في الدين أرجع كافراً!:
يا شاهد الله علي فـاشـهـد أني على دين النبي أحـمـد
من شك في الله فإني مهتدي
سطر 178:
أني توليت ولي أحمد
في تقسيم غنائم خيبر
ويروى أن رجلاً أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صلى الله عليه وهو يقسم غنائم خيبر - ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية - فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، فقال: ماعدلت منذ اليوم! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب: لا أقتله يا رسول الله? فقال رسول الله: إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ.
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال له: " ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل "? ثم قال لأبي بكر : " اقتله " فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، رأيته راكعاً، ثم قال لعمر: " اقتله ". فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً، ثم قال لعلي: " اقتله ". فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله: " لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله ".
 
قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة في إسناد ذكره، أن علياً رضي الله عنه وجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} بذهبة من اليمن، فقسمها أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الفزاري، وربعاً لعلقمة بن علاقة الكلابي. فقام إليه رجل مضطرب الخق غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله!، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حتى تورد خداه، ثم قل: " أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني? "! فقام إليه عمر فقال: ألا أقتله يا رسول الله? فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " إنه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرصاف فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق " .
قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " من ضئضئ هذا " أي من جنس هذا. يقال: فلان من ضئضئ صدق، في محتد صدق ، وفي مركب صدق. وقال جرير للحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة:
أقبلن من ثهـلان أو وادي حـيم على قلاص مثل خيطان السلـم
إذا قطعن عـلـمـاً بـدا عـلـم حتى أنخناها إلى باب الـحـكـم
سطر 202:
الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار
فهذا ما يرويه المتكلمون.
وقتله المهدي على الإلحاد، وقد روى قوم أن كتبه فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه: إني أردت هجاء آل سليمان بن علي، فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فأمسكت عنهم ، إلا أني قلت:
دينار آل سليمان ودرهمـهـم كبابليين حفاً بالـعـفـاريت
لا يرجيان ولا يرجى نوالهمـا كما سمعت بهاروت وماروت
سطر 308:
ورووا أن علياً عليه السلام لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر والبغيبغة فهذا غلط، لأن وقفه هذين الموضعين لسنتين من خلافته.
وقف عين أبي نيزر
حدثنا أبو ملحم محمد بن هشام في إسناد ذكره أخوه أبو نيزر، وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي - يعني أبا نيزر - فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فأسلم. وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليهم السلام. قال أبو نيزر: جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة ، فقال لي: هل عندك طعام? فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة ، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه، كل واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حساً من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر، إن الأكف أنظف الآنية. ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول وانحدر في العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه المساء. فخرج وقد تفضج جبينه عرقاً . فانتكف العرق عن جبينه. ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم فالثالث كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق لهما، وليس لأحد غيرهما.
قال محمد بن هشام: فركب الحسين رضي الله عنه دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء.
كتاب معاوية إلى مروان بن الحكم
سطر 317:
قال أبو العباس: رجع الحديث إلى ذكر الخوارج أمر علي بن أبي طالب رحمه الله.
 
قال: ويروى أن علياً في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن العباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطاقة? فقال: بزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي إليهم إلى حروراء. فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل على الناس، ثم قال: هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة. أنشدكم الله، أعلمتم أحداً منكم كان أكره للحكومة مني! قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني، حتى قبلتها? قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني? قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله، فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال علي: إني أستغفر من كل ذنب. فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم ورآه ضلالاً، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع ، ويجبى المال، فينهض إلى الشام. فأتى الأشعث بن قيس علياً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، فخطب علي الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالاً فهو أضل. فخرجت الخوارج من المسجد، فحكمت. فقيل لعلي: إنهم خارجون عليك، فقال لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون. فوجه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه. فرأى منهم جباهاً قرحة لطول السجود، وأيدياً كثفنات الإبل ، وعليهم قمص مرحضة ، وهم مشمرون، فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس? فقال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وابن عمه، وأعلمنا برب وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم! أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته? فقالوا: اللهم نعم، فقال: فأنشدكم الله فهل علمتم أ، رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية? قالوا: نعم، ولكن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين، قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه. وقد محا رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعلي أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال فأيهما رأيتموه أولى فولهوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس. ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء، وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، فلم يزالوا على ذلك يومين، حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن هب الراسبي، قال: ومضى القوم إلى النهروان ، وكانوا أرادوا المضي إلى المدائن.
خبرهم من عبد الله بن خباب وقتلهم له
قال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.
ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له : إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. فقال : ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه. فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به فلفظها تورعاً، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فقال عبد الله بن خباب: ما علي منكم بأس، إني لمسلم، قالوا له: حدثنا عن أبيك? قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يقول: " تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل ".
قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر? فأثنى خيراً، فقالوا: ما تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمان ست سنين? فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم? قال: أقول إن علياً أعلم بالله منكم ، وأشد توقياً على دينه، وأبعد بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال عل أسمائها.
ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامذقر دمه، أي جرى مستطيلاً على دقة.
سطر 371:
ويكون العزيز في ساعة الرو ع بصدق الطعان يوم الطعان
ثم نرجع إلى ذكر الخوارج : قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: " وعجلت إليك رب لترضى " " طه: 84 ".
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} أنه لما وصفهم قال: " سيماهم التحليق يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد " .
وفي حديث عبد الله بن عمرو: " رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة "، أو " الخنيصرة ".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}}: أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: " ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: " ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}: لو قتل لكان أول فتنة وآخرها ".
حديث المخدج
ويروى عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ذكر المخدج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد وكان فقيراً، وكان يحضر طعام علي إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته ترساً لي، فلما خرج القوم إلى حروراء قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى صرت إلى ابن الكواء وشبث بن ربعي، ورسل علي تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف، فحمل الرجل سرجه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم انصرف القوم إلى الكوفة، فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج، كان مني قريباً، فقلت: أكنت مع القوم? فقال: أخذت سلاحي أريدهم، فإذا بجماعة من الصبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي، وجعلوا يتلاعبون بي فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج. فطلبوه فلم يجدوه، حتى ساء ذلك علياً، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هو فيهم، فقال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين، فخر علي ساجداً، وكان إذا أتاه ما يسر به من الفتوح سجد وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته، ثم قال: سيماه أن يده كالثدي، عليها شعرات كشارب السنور، ايتوني بيده المخدجة، فأتوه بها، فنصبها.
سطر 405:
وقال آخر يعني الحرب:
فإن شمرت لك عن ساقها فويهاً حذيف ولا تسـأم
ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، مع ا خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء ، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر.
ومما سأله عنه: " الم ذلك الكتاب " " البقرة: 1 - 2 "، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن.
هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: ذلك الكتاب أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: " فلا جاءهم ما عرفوا كفروا به " " البقرة: 89 "؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " " البقرة: 146 "، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل ، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة:
سطر 442:
وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن ، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: " وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى " " طه: 119 "، والضح: الشمس، وليس من: ضحيت، يقال: جاء فلان بالضح والريح يراد به الكثرة، قال علقمة:
أغر أبرزه للضح راقـبـه مقلد قضب الريحان مفغوم
له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " كن أبا خيثمة "، فكانه.
وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول.
الحجاج وامرأة من الخوارج
سطر 458:
وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً، وأبرعهم أدباً، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: " هذا فراق بيني وبينك " " الكهف: 78 ".
صديق عبد الملك بن مروان
قال أبو العباس: وحدثني ابن عائشة عن حماد بن سلمة في إسناد ذكره: أن عبد الملك كان له صديق، وكان من أهل الكتاب، يقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوماً، وهو في عنفوان نسكه، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري، من مرة غطفان، تريد المدينة ألا ترى خيل عدو الله قاصدة لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}? فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه ثم قال: معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكاً ولا مرتاباً، وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك: ثم ماذا? قال: ثم يتداولها رهطك. قال: إلى متى? قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان.
حديث ابن جعدبة للمنصور
قال: وحدثت عن ابن جعدبة، قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور، في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: فغمه ذلك، حتى امتنع من الغداء في وقته، وطال عليه فكره، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك حديثاً: كنت مع مروان بن محمد، وقد قصده عبد الله بن علي، قال : فإنا لكذلك إذ نظر إلى الأعلام السود من بعد، فقال: ما هذه البخت المجللة ? قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها? قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: وأيهم عبد الله? قلت : التفتى المعروق الطويل، الخفيف العارضين، الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد، فسألتني عنه فنسبته لك، فقلت: إن هذا الفتى لتلقامة ، قال: قد عرفته؛ والله لوددت أ، علي بن أبي طالب مكانه. قال: فقال لي المنصور: الله لسمعت هذا من مروان بن محمد? قلت: والله لقد سمعته منه، قال: يا غلام، هات الغداء.
قتال أهل النخيلة
قال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب، وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل علياً، ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد، من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أتانا بالعدل تخفق راياته، مقلباً مقالته، مبلغاً عن ربه، ناصحاً لأمته، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة، فرأى تعطيل إحداهما طعناً على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً، ثم قام بعده الفاروق، ففرق بين الحق والباطل، مسوياً بين الناس في إعطائه، لا مؤثراً لأقاربه، ولا محكماً في دين ربه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " " النساء: 95 "، فكل أجاب وبايع.
فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً، فأبوا، فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تخرج في هذه الساعة؛ فإنها ساعة نحس لعدوك عليك؛ فقال له علي: توكلت على الله وحده، وعصيت رأي كل متكهن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، " إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " " هود: 56 "، ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً، لم يفلت منهم إلا خمسة، منهم المستورد، وابن جوين الطائي، وفروة بن شريك الأشجعي، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري، فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً.
وفيهم يقول عمران بن حطان:
سطر 498:
ولو لم تكن في بقيا عليك نظرت لنفسي كما تنظر
من أخبار مقتل الإمام علي، ووصيته لأبنائه
ويروى من حديث محمد بن كعب القرظي قال: قال عمار بن ياسر، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في غزوة ذات العشيرة فلما قفلنا نزلنا منزلاً، فخرجت أنا وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون، فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب، فما نبهنا إلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، فقال لعلي: " يا أبا تراب - لما عليه من التراب - أتعلم من أشقى الناس "? فقال: خبرني يا رسول الله? فقال: " أشقى الناس اثنان: أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه " - ووضع يده على لحيته - من هذا، ووضع يده على قرنه.
ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقاني عل صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي: من أنت? قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه.
ويروى: أنه كان يقول كثيراً - قال أبو العباس: أحسبه عند الضجر بأصحابه -: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا!.
ويروى عن رجل من ثقيف أنه خرج الناس يعلفون دوابهم بالمدائن، وأراد علي أمير المؤمنين المسير إلى الشأم، فوجه معقل بن قيس الرياحي ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في آخر من خرج فأتيت الحسن بن علي عليه السلام ذات عشية، فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه عن ابن عمي، فإنه في آخر من خرج، فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى، فبت ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن، وإذا به في دار علي عليه السلام، فقال: لو لا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني، إني صليت ما رزق الله، ثم نمت نومة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. قال الحسن :ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت.
وحدثت من غير وجه أن علياً لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية ثم أفاق. فدعا الحسن والحسين، فقال :أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاكما منها. اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. ثم دعا محمداً فقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك? قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيراً، فإنه شقيقكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه، فأحباه. فلما قضى علي كرم الله وجهه، قالت أم العريان:
وكنا قبل مهلكـه زمـانـاً نرى نجوى رسول الله فينا
سطر 514:
وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فكفر بها فقتلها. ثم عراها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج قلن: لو لا التعرية لسارعنا.
قتل مصعب لامرأة المختار
ولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، امرأة المختار - وليس هذا من أخبار الخوارج - أنكره الخوارج غاية الإنكار، ورأوه قد أتى بقتل النساء أمراً عظيماً، لأنه أتى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في سائر نساء المشركين. وللخواص منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
إن من أعظم الكبائر عنـدي قتل حسناء غادة عطـبـول
قتلت باطلاً عل غـير ذنـب إن لله درها مـن قـتـيل!
سطر 624:
وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده ، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل .
فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك ، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد صلى الله عليه وسلم{{ص}}.
فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب.
فلما صار ابن الأشتر بخازر وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول.
سطر 677:
فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير.
ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا .
فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: " فقولا ل قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " " طه: 44 "، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى " فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا " " لقمان: 15 " وقال جل ثناؤه: " وقولوا للناس حسناً " " البقرة: 83 "، وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله.
فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم{{ص}}. ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض ".
فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: " سبقته إلى الجنة "، وقال: " أوجب طلحة ". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: " لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " " الفتح: 18 "، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم{{ص}}. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " " الأحزاب: 6 ".
فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه.
وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة:
سطر 708:
فلما تتابع نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم في جماعة قد بايعوه، فلما انخزل نجدة خلعوا أبا طالوت، وصاروا إلى نجدة فبايعوه، ولقي نجدة وأصحابه قوماً من الخوارج بالعرمة والعرمة كالسكر ، وجمعها عرم، وفي القرآن المجيد: " فأرسلنا عليهم سيل العرم " " سبأ: 16 "، وقل النابغة الجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما
فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعاً قد أكفر القعد ورأى الاستعراض، وقتل الأطفال، فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتاب إلى نافع: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد: فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين? فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصه، وركبت مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك، فغويت فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفون حرج إذا نصحوا لله ورسوله " " التوبة: 91 ". ثم سماهم أحسن الأسماء، فقال: " ما على المحسنين من سبيل " " التوبة: 91 ". ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} عن قتلهم، وقال الله عز ذكره: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " " الأنعام: 164 " وقال في القعد خيراً، وفضل الله من جاهد عليهم. ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " " النساء: 95 "، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ورأيت ألا تؤدي الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يوماً: " لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً " " لقمان: 33 "، فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام.
فكتب إليه نافع: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله.
أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقة، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز جل فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: " كنا مستضعفين في الأرض " " النساء: 97 "، فقيل لهم: " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " " النساء: 97 "، وقال: " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " " التوبة: 81 "، وقال: " وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم " " التوبة: 90 "، فخبر بتذيرهم، وأنهم كذبوا، الله ورسوله، وقال: " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم " " التوبة: 90 ". فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله - يا نجدة - مني ومنك، فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " " إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " " نوح: 26، 27 "، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر " " القمر: 43 "، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استغلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق ، وأموالهم فيء للمسلمين. فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا، والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به.
سطر 718:
وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة:
" بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد، فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: " وقاتلوا المشركين كافة " " التوبة: 36 "، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: " انفروا خفافاً وثقالاً " " التوبة: 41 "! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين، فقال: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله " " النساء: 95 "؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة ، وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه ؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " " البقرة: 197 "، والسلام على من اتبع الهدى.
فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم ، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين.
فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته.
وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم: سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً:
فارقت نجدت والذين تزرقوا وابن الزبير وشيعة الكذاب
والصفرة الأذان الذين تخيروا ديناً بلا ثقة ولا بـكـتـاب
سطر 848:
فيا ندمى على تركي عطائي معاينة وأطلبـه ضـمـارا
إذا الرحمن يسر لي قـفـولاً فحرق في قرى سولاف نارا
قوله: الأعور الكذاب، يعني المهلب، ويقال: غارت عينه بسهم كان أصابها. وقال: الكذاب لأن المهلب كان فقيهاً، وكان يعلم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من قوله: " كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين الرجلين، وكذب الرجل لامرأته يعدها، وكذب الرجل في الحرب يتوعد ويتهدد ".
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " إنما أنت رجل، فخذل عنا، فإنما الحرب خدعة ".
وقال عليه السلام في حرب الخندق لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ، وهما سيدا الحيين، الخزرج والأوس: " إيتيا بني قريظة، فإن كانوا على العهد فأعلنا بذلك، وإن كانوا قد نقضوا ما بيننا فالحنا لي لحناً أعرفه. ولا تفتا في أعضاد المسلمين. فرجعا بغدر القوم فقالا: يا رسول الله عضل والقرة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}: " أبشروا فإن الأمر ما تحبون ": قال الأخفش: سألت المبرد عن قولهما: عضل والقارة فقال: هذان حيان كانا في نهاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}}. فأرادا في الانحراف عنه والغدر به كهاتين القبيلتين.
قال أبو العباس: فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ويضعف من أمر الخوارج. فكان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحاً إليهم قالوا: قد راح المهلب ليكذب! وفيه يقول رجل منهم:
أنت الفتى كل الفـتـى لو كنت تصدق ما تقول
سطر 882:
وأقام المهلب في عسكره يأمرهم بالاحتراس، حتى إذا كان نصف الليل وجه رجلاً من اليحمد قال الأخفش: اليحمد من الأزد، والخليل من بطن منهم، يقال لهم الفراهيد. والفرهود في الأصل الحمل. فإن نسبت إلى الحي قلت: فراهيدي، وإن نسبت إلى الحملان قلت: فرهودي لا غير.
في عشرة، فصاروا إلى عسكر الخوارج. فإذا القوم قد تحملوا إلى أرجان. فرجع إلى المهلب فأعلمه. فقال: أنا لهم الساعة أشد خوفاً، فاحذروا البيات.
قال أبو العباس: ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوماً: إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات. فإن كان ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان يأمر بها ويروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.
فلما أصبح المهلب غدا على القتلى، فأصاب ابن الماحوز فيهم.
ففي ذلك يقول رجل من الخوارج:
سطر 905:
قال أبو العباس: فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإنا لقينا لأزارقة المارقة بحد وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر، بنيات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد. فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا درئة رماحنا، وضرائب سيوفنا . وقتل الله أميرهم ابن الماحوز، ارجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها، والسلام.
وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه، ولم يكتب إليه الأحنف، ولكن قال: اقرأوا عليه السلام، وقولوا له: أنا لك على ما فارقتك عليه. فلم يزل يقرأ الكتب ويلتمس في أضعافها كتاب الأحنف. فلما لم يره قال لأصحابه: أما كتب إلينا? فقال له الرسول: حملني إليك رسالة، وأبلغه. فقال: هذه أحب إلي من هذه الكتب.
واجتمعت الخوارج بأرجان، فبايعوا الزبير بن علي، وهو من بني سليط بن يربوع. من رهط ابن الماحوز. فرأى فيهم انكساراً شديداً وضعفاً بيناً. فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم،{{ص}}، ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف. وقد أصبتم فيهم مسلم بن عبيس وربيعاً الأجذم والحجاج بن باب وحارثة بن بدر. وأشجيتم المهلب. وقتلتم أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس " " آل عمران: 140 "، فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصاً، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالاً. فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، والعاقبة للمتقين.
ثم تحمل لمحاربة المهلب، فنفحهم المهلب نفحة، فرجعوا. فأكمن للمهلب في غمض من غموض الأرض ، يقرب من عسكره، مائة فارس ليغتالوه. فسار المهلب يوماً يطوف بعسكره ويتفقد سواده، فوقف على جبل فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كميناً. فبعث عشرة فوارس، فاطلعوا على المائة. فلما علموا أنهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا، وكسفت الشمس، فصاحوا بهم: يا أعداء الله! لو قامت القيامة لجددنا في جهادكم. ثم يئس الزبير من ناحية المهلب، فضرب إلى ناحية أصبهان، ثم كر راجعاً إلى أرجان، وقد جمع جموعاً. وكان المهلب يقول: كأني بالزبير وقد جمع جموعاً، فلا ترهبوهم فتخبث قلوبكم، ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم. فجاءوه من أرجان فألفوه مستعداً آخذاً بأفواه الطرق، فحاربوه فظهر عليهم ظهوراً بيناً. ففي ذلك يقول رجل من بني تميم، أحسبه من بني رياح بن يربوع:
سقى الله المهلب كل غـيث من الوسمي ينتحر انتحارا