الفرق بين المراجعتين لصفحة: «تفسير القرآن الحكيم/سورة الفاتحة»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
أنشأ الصفحة ب'{{ترويسة | عنوان = ../سورة الفاتحة | مؤلف = محمد رشيد رضا | مترجم = | باب = سورة الفات...'
 
 
سطر 13:
إن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة قوارع تصخ الجنان ، وتصدع الوجدان ، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف ، وتدع العقول إلى إطالة الفكر في الخطبين الغائب والعتيد ، والخطرين القريب والبعيد ، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال ، أو الفتح الذاهب بالاستقلال ، وعذاب الآخرة وهو أشد وأقوى ، وأنكى وأخزى - بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية أولئك المخاطبين إذ أصروا على شركهم ، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم وإفكهم ، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة ، التي هي الحنيفية السمحة السهلة ، وليست بالشيء الذي ينكره العقل ، أو يستثقله الطبع ، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد ، يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد .
راجع تلك السور العزيزة ، ولا سيما قصار المفصل منها كـ (الحاقة ما الحاقة) ، و (القارعة ما القارعة) ، و (إذا وقعت الواقعة) ، و (إذا الشمس كورت) ، و (إذا السماء انفطرت) ، و (إذا السماء انشقت) ، و (إذا زلزلت الأرض زلزالها) ، (والذاريات ذروا) ، (والمرسلات عرفا) ، (والنازعات غرقا) .
تلك السور التي كانت بنذرها ، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها ، وتفزعهم من سماع القرآن ، حتى يفروا من الداعي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - من مكان إلى مكان (كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) (74 : 50 - 51) - (ألا إنهم يثنون صدورهم
ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) (11 : 5) ثم إلى السور المكية الطوال ، فلا نجدها تخرج في الأوامر والنواهي عن حد الإجمال ، كقوله - عز وجل - : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (17 : 23 - إلى - 37 منها) وقوله بعد إباحة الزينة وإنكار تحريم الطيبات من الرزق (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (7 : 33)
 
سطر 32:
وجمعوا بين القولين بأن الأول هو أول ما نزل على الإطلاق ، وهو صدر سورة اقرأ . والثاني أول سورة نزلت بتمامها ، أو الثاني أول ما نزل بعد فترة الوحي آمرا بتبليغ الرسالة . وقيل في الجمع غير ذلك كما في " الإتقان " .
ثالثها : سورة الفاتحة ، قال
في الكشاف : ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت (اقرأ) وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب (قال السيوطي) وقال ابن حجر : والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول . وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول . وحجته ما أخرجه البيهقي في " الدلائل " والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - قال لخديجة : " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا . فقالت : معاذ الله ، ما كان الله ليفعل بك ، فوالله إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث " - وفي الحديث أنه أخبر ورقة بن نوفل بذلك ، وأن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء ، وأنه - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - لما خلا ناداه - أي الملك - " يا محمد قل : (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) - حتى بلغ - (ولا الضالين) قال السيوطي في الحديث : هذا مرسل ، رجاله ثقات ، ونقل عن البيهقي احتمال أن هذا بعد نزول صدر (اقرأ باسم ربك) .
هذا - وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أنها أول ما نزل على الإطلاق ، ولم يستثن قوله تعالى : " (اقرأ باسم ربك " ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله .
ومن آية ذلك : أن السنة الإلهية في هذا الكون - سواء أكان كون إيجاد أو كون تشريع - أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجا ، وما مثل الهدايات الإلهية
 
إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة ، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها ثم تنمو بالتدريج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها ثم تجود عليك بثمرها . والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن ، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها . ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف ، كقولهم : إن أسرار القرآن في الفاتحة .
وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ، فإن هذا لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وأصحابه عليهم
الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه ، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان .
(قال) : وبيان ما أريد هو أن ما نزل القرآن لأجله أمور :
سطر 56:
من الأنبياء : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) حيث بين أن القصص إنما هي للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) تصريح بأن غير المنعم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ، وفريق جاحده وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفا بالغضب الإلهي والخزي في هذه الحياة الدنيا . وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق عنادا ، والذين ضلوا فيه ضلالا . وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله .
فتبين من مجموع ما تقدم : أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا ، فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع . وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى (أم الكتاب) كما نقول إن النواة أم النخلة ، فإن النواة مشتملة على شجرة النخلة كلها حقيقة ، لا كما قال بعضهم : إن المعنى في ذلك أن الأم تكون أولا ويأتي بعدها الأولاد .
وأقول الآن : هذا ما قاله الأستاذ الإمام مبسوطا موضحا ، ويمكن أن يقال : إن نزول أول سورة العلق قبل الفاتحة لا ينافي هذه الحكم التي بينها ؛ لأنه تمهيد للوحي المجمل والمفصل ، خاص بحال النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وإعلام له بأنه يكون - وهو أمي - قارئا بعناية الله تعالى ومخرجا للأميين من أميتهم إلى العلم بالقلم ، أي الكتابة ، وفي ذلك استجابة لدعوة إبراهيم (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (2 : 129) فسر الأستاذ الإمام الكتاب ، بالكتابة ، ثم كانت الفاتحة أول سورة نزلت كاملة ، وأمر النبي بجعلها أول القرآن ، وانعقد على ذلك الإجماع .
 
(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
لا أذكر ما قاله الأستاذ الإمام في البسملة ، من حيث لفظها وإعرابها ، وهل هي آية أو جزء آية من الفاتحة أو ليست منها ؟ فإن الخلاف في ذلك مشهور ، وقد اختصر الأستاذ القول فيه اختصارا وقال : إنها على كل حال من القرآن فنتكلم عليها كسائر الآيات .
وأقول الآن : أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن وأنها جزء آية من سورة النمل . واختلفوا في مكانها من سائر السور ، فذهب إلى أنها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير ، وأهل الكوفة ومنهم عاصم والكسائي من القراء ، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة ، والشافعي في الجديد وأتباعه ، والثوري وأحمد في أحد قوليه ، والإمامية ، ومن المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة : علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، ومن علماء التابعين سعيد بن جبير ، وعطاء ، والزهري ، وابن المبارك ، وأقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة براءة (التوبة) مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه ، ولذلك لم يكتبوا (آمين) في آخر الفاتحة ، وأحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - : " أنزلت علي آنفا سورة فقرأ :
بسم الله الرحمن الرحيم " وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - كان لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انقضاء السورة - حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم " .
وأخرجه الحاكم في المستدرك ، وقال صحيح على شرط الشيخين . وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - : إذا قرأتم الحمد لله (أي سورة " الحمد لله ") فاقرأوا (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنها أم القرآن والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى
 
آياتها " وذهب مالك وغيره من علماء المدينة ، والأوزاعي وغيره من علماء الشام ، وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة إلى أنها آية مفردة أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها ، وعليه الحنفية ، وقال حمزة من قراء الكوفة وروي عن أحمد : أنها آية من الفاتحة دون غيرها ، وثمة أقوال أخرى شاذة .
سطر 74:
ومنشأ الاشتباه عند بعضهم أن الله تعالى أمرنا بذكره و تسبيحه في آيات ، وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى ، فقال تعالى : (واذكر اسم ربك و تبتل إليه تبتيلا) (73 : 89) (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) (76 : 25) (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) (22 : 40) (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) (6 : 118) (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) (6 : 119) (فاذكروا اسم الله عليها صواف) (22 : 36) أي البدن عند نحرها ، وقال تعالى : (ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) (33 : 41 - 42) . (فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم) (2 : 198) . (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا 2) (: 200) . (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) (3 : 191) . (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) (4 : 103) . وقال تعالى في التسبيح : (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته
ويسبحونه وله يسجدون) (7 : 206) أي يسبحون ربك فعدى التسبيح بنفسه إلى ضمير الرب كما عداه بنفسه إلى اسم الرب في قوله تعالى : (سبح اسم ربك الأعلى) (87 : 1) وبالباء في قوله : (فسبح باسم ربك العظيم) (56 : 74 ، 96) . وقال (سبح لله ما في السماوات والأرض) (57 : 1) ومثله كثير . وقال تعالى : (فتبارك الله) (23 : 14) . (تبارك الذي نزل الفرقان) (25 : 1) كما قال : (تبارك اسم ربك) (55 : 78) .
رأى بعضهم أن يجمع بين هذه الآيات بجعل الاسم عين المسمى ، وأن ذكر الله وذكر اسمه وتسبيحه وتسبيح اسمه واحد ؛ لأن اسمه عين ذاته ، وأن هذا خير من القول بأن لفظ " اسم " مقحم زائد . والصواب أن الذكر في اللغة ضد النسيان ، وهو ذكر القلب ، ولذلك قرنه بالتفكر في سورة آل عمران (3 : 191) وهما عبادتان قلبيتان ، وقال : (واذكر ربك إذا نسيت) (18 : 24) ويطلق الذكر أيضا على النطق باللسان ؛ لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان وسبب له ، وإنما يذكر اللسان اسم الله تعالى كما يذكر من كل الأشياء أسماءها ، دون ذوات مسمياتها ، فإذا قال : " نار " لا يقع جسم النار على لسانه فيحرقه ، وإذا قال الظمآن : " ماء " لا يحصل مسمى هذا اللفظ في فيه فينقع غلته ، فذكر الله تعالى في القلب هو تذكر عظمته وجلاله وجماله ونعمه ، وورد التصريح بالأمر بذكر نعمة الله وآلاء الله . وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها ، وكذلك تسبيحه تعالى ، فالقلب يسبحه باعتقاد كماله وتذكر تنزيهه عما لا يليق به ، واللسان يسبحه بإضافة التسبيح إلى أسمائه من غير ذكر للفظ الاسم . روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في " مستدركه " وابن حبان في " صحيحه " عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم " قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - : " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت (سبح اسم ربك الأعلى " قال : " اجعلوها في سجودكم " والمراد أن يقولوا : " سبحان ربي العظيم " لا "
 
سبحان اسم ربي العظيم " فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - فكان يقول في ركوعه : " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى " . ولهذا ورد في الكلام عن الذبائح ذكر اسم الله عليها " (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " وتقدم آنفا
ذكر عدة آيات في هذا - فعلم من هذا التحقيق : أن الاسم غير المسمى ، وأن ذكر الاسم مشروع ، وذكر المسمى مشروع . والفرق بينهما ظاهر كالصبح ، وكذلك التسبيح والتبارك ، فكما يعظم الله يعظم اسمه الكريم ، فيذكر مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس . وقد صرحوا بأن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر ؛ لأنه لا يمكن أن يأتي من مؤمن . ا هـ . ما زدته الآن .
وقال الأستاذ الإمام ما معناه عندما تقول : إنني أذكر اسم الله تعالى كالعزيز والحكيم ، لا تعني أنك تذكر لفظ " اسم " فلو كان قولهم : إن المراد من الابتداء بالكلمة " بسم الله " التبرك باسم الله هو الصواب لكان ينبغي أن يكون قولك : " بالله الرحمن الرحيم " مثل " (بسم الله الرحمن الرحيم " وقوله تعالى : " (بسم الله مجراها ومرساها " وقد قال بعضهم : إن الإضافة هاهنا للبيان ، أي أفتتح كلامي بسم الله ، ولكن يقتضي أن يكون لفظ " الرحمن الرحيم " واردا على اللفظ وهو غير صحيح . وإرادة أن الأسماء الثلاثة هي المبينة للفظ الاسم تمحل ظاهر ، فما المقصود إذا من هذا التعبير ؟
سطر 84:
 
ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه ، ليس لأحد غير الله فيه شيء ا هـ .
أقول : هذا صفوة ما قرره في متعلق " (بسم الله " ومعناها ، وهاهنا نظر آخر فيه ، وهو أن القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وكل سورة منه مبتدأة ببسملة ، فمتعلق البسملة من ملك الوحي تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى : " (اقرأ باسم ربك " فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - من روح الوحي : اقرأ يا محمد هذه السورة (بسم الله الرحمن الرحيم على عباده ، أي اقرأها على أنها منه تعالى لا منك ، فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة . وعلى هذا كان يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - من متعلق البسملة أنني أقرأ السورة عليكم أيها الناس باسم الله لا باسمي ، وعلى أنها منه لا مني ، فإنما أنا مبلغ عنه - عز وجل - (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) (39 : 12) . (وأن أتلو القرآن) (2 : 92) إلخ .
اختصر الأستاذ الإمام في الكلام على لفظ اسم ولفظ الجلالة ؛ لأن الكلام فيهما مشهور . وقد تكلمنا على اللفظ الأول ، وهاك جملة صالحة في اللفظ الآخر العظيم :
لفظ الجلالة (الله) علم على ذات واجب الوجود ، قال ابن مالك : وضع معرفا ، وقيل : أصله " إله " فحذفت همزته وأدخلت عليه الألف واللام ، وقيل : أصله الإله ، والإله في اللغة : يطلق على كل معبود ، ولذلك جمعوه على آلهة ، وما كل معبود سموه إلها يطلقون عليه اسم (الله) فإن هذا الاسم الكريم كان خاصا في لغتهم بخالق السماوات والأرض وكل شيء . فالتعريف فيه خصصه بالواحد الفرد الكامل ، كما جعلوا لفظ " النجم " بالتعريف خاصا بالثريا . فكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلقك أو من خلق السماوات والأرض ؟ يقول : " الله " وإذا سئل عن بعض
سطر 115:
في الحمد الثناء على صفات الكمال ولذلك وصف بعضهم الجميل الاختياري بقوله : سواء كان من الفضائل - أي الصفات الكمالية لصاحبها -
 
أو الفواضل ، وهي ما يتعدى أثره من الفضل إلى غير صاحب الفضل . والظاهر أن الحمد على الفضائل وصفات الكمال إنما يكون باعتبار ما يترتب عليها من الأفعال الاختيارية ، ما عدا هذا من الثناء تسميه العرب مدحا . يقال : مدح الرياض ، ومدح المال ، ومدح الجمال ، ولا يطلق الحمد على مثل هذه الأشياء ، وقيل : هما مترادفان . والمقام المحمود للنبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وهو ما يحمد فيه لما يناله الناس كلهم من خير دعائه وشفاعته على المشهور . وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله تعالى . وقد يقال : إن ما ذكر هو الحمد الذي يكون من بعض الناس لبعض ، وأما الله - عز وجل - فإنه يحمد لذاته باعتبار أنها مصدر جميع الوجود الممكن وما فيه من الخيرات والنعم ، أو مطلقا خصوصية له ، إذ ليست ذات أحد من الخلق كذاته ، ويحمد لصفاته باعتبار تعلقها وآثارها كما سترى بيانه في تفسير الرب والرحمن والرحيم .
(رب العالمين يشعر هذا الوصف ببيان وجه الثناء المطلق ، ومعنى الرب : السيد المربي الذي يسوس مسوده ويربيه ويدبره ، ولفظ " العالمين " جمع عالم بفتح اللام جمع جمع المذكر العاقل تغليبا ، وأريد به جميع الكائنات الممكنة ، أي : إنه رب كل ما يدخل في مفهوم لفظ العالم . وما جمعت العرب لفظ العالم هذا الجمع إلا لنكتة تلاحظها فيه ، وهي أن هذا اللفظ لا يطلق عندهم على كل كائن وموجود كالحجر والتراب ، وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه ، إن لم تكن منه فيقال : عالم الإنسان ، وعالم الحيوان ، وعالم النبات . ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يعطيه لفظ " رب " ؛ لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد ، وهذا ظاهر في الحيوان . ولقد كان السيد (أي جمال الدين الأفغاني) رحمه الله تعالى يقول : الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي ، والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض ، فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب ، وإن كان لا ينام ولا يغفل .
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام . وأزيد الآن أن بعض العلماء قال :
سطر 122:
تربية خلقية بما يكون به نموهم ، وكمال أبدانهم وقواهم النفسية والعقلية - وتربية شرعية تعليمية وهي ما يوحيه إلى أفراد منهم ليكمل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به . فليس لغير رب الناس أن يشرع للناس عبادة ، ولا أن يحرم عليهم ويحل لهم من عند نفسه بغير إذن منه تعالى .
(الرحمن الرحيم تقدم معناهما وبقي الكلام في إعادتهما ، والنكتة فيها ظاهرة وهي أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة ، وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه . وثم نكتة أخرى وهي أن البعض يفهم من معنى الرب : الجبروت والقهر ، فأراد الله تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه ليجتمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال ، فذكر الرحمن وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما ، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدا . فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده ، فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان ليعلموا أن هذه الصفة هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات ، وليتعلقوا به ويقبلوا على اكتساب مرضاته ، منشرحة صدورهم ، مطمئنة قلوبهم ، ولا ينافي عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات في الدنيا ، وما أعده من العذاب في الآخرة للذين يتعدون الحدود ، وينتهكون الحرمات ، فإنه وإن سمي قهرا بالنسبة لصورته ومظهره فهو في حقيقته وغايته من الرحمة ؛ لأن فيه تربية للناس وزجرا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية ، وفي الانحراف عنها شقاؤهم وبلاؤهم ، وفي الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم ، والوالد الرءوف يربي ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان عليه إذا قام به ، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال ، ولله المثل الأعلى لا إله إلا هو وإليه يرجعون .
أقول الآن : إنني لا أرى وجها للبحث في عد ذكر " الرحمن الرحيم " في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا ، أما على القول بأن البسملة ليست آية منها فظاهر ، وأما على القول بأنها آية منها فيحتاج إلى بيان ، وهو أن جعلها آية منها ومن كل سورة يراد به ما تقدم شرحه آنفا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - كان يلقنها ويبلغها للناس على أنها (أي السورة) منزلة من عند الله تعالى أنزلها برحمته لهداية خلقه ، وأنه - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - لا كسب له فيها ولا صنع ، وإنما هو مبلغ لها بأمر الله تعالى . فهي مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف ، وكشف الستار عن نفاق المنافقين ، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنهم لا رحمة بهم . وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين ، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين على أعمالهم ، وأنه بهذه الأسماء والصفات كان
 
مستحقا للحمد من عباده ، كما أنه مستحق له في ذاته ، ولهذا نسب الحمد إلى اسم الذات ، الموصوف بهذه الصفات .
والحاصل : أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة ، هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة ، وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) (41 : 1 - 2) لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل ، وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السورة ، وقد لاحظ هذا المعنى من قال : إن البسملة آية مستقلة فاصلة بين السور . وأما من قال : إنها آية من كل سورة فمراده أنها تقرأ عند الشروع في قراءتها ، وأن من حلف ليقرأن سورة كذا لا يبرأ إلا إذا قرأ البسملة معها ، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءتها أيضا .
هذا - وأما حظ العبد من وصف الله بالربوبية فهو أن يحمده تعالى ويشكره باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله ، فليحسن تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ ، وباستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والاجتماعية ، وكذا تربية من
يوكل إليه تربيتهم وألا يبغي كما بغى فرعون فيدعي أنه رب الناس ، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى ، وبقولهم : هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم ، فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته . قال تعالى : (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (42 : 21) وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا بمثل هذا .
وأما حظ العبد من وصف الله بالرحمة فهو أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم ، وأن يتذكر دائما أنه يستحق بذلك رحمة الله تعالى ، قال - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح ، وقال : " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر ، ورويناه مسلسلا بالأولية من طريق الشيخ أبي المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي الشامي . وقال - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - : " من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة " رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبي أمامة ، وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته . ومما يدل على الترغيب في رحمة الحيوان والرفق به بغير لفظ الرحمة حديث : " في كل ذات كبد حرى أجر " رواه أحمد وابن ماجه عن سراقة بن مالك ، وأحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو . وهو حديث صحيح .
 
ومن مباحث اللغة أن لفظ الرحمن خاص بالله تعالى كلفظ الجلالة . قالوا : لم يسمع عن أحد من العرب أنه أطلقه على غير الله تعالى ، وكذلك لفظ " رحمن " غير معرف ، قالوا : لم يرد إطلاقه على غير الله تعالى إلا في شعر لبعض الذين فتنوا بمسيلمة الكذاب قال فيه : "
سطر 176:
وأقول أيضا إن نكتة تقديم " إياك " على الفعلين " نعبد ، ونستعين " هي إفادة الاختصاص والحصر على المشهور الذي جرى عليه الأستاذ الإمام كغيره فالمعنى إذا : نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعينك ولا نستعين بسواك . وقد استخرج له بعض الغواصين على المعاني
 
نكتا أخرى (منها) أن " إياك " ضمير راجع إلى الله تعالى ، وقيل إن " إيا " اسم ظاهر مضاف إلى الضمير الذي هو الكاف ، فتقديمه على الوجهين يؤذن بالاهتمام به الذي هو العلة الأصلية العامة للتقديم في هذه اللغة (ومنها) أنه من الأدب أيضا ، (ومنها) أن إفادة الحصر بهذا الاسم أو " الضمير " المقدم على الفعل أبلغ من إفادة الحصر بالضمير المتصل الذي يقرن به ما يدل على ذلك من الكلم ، كقولك : إنما نعبدك وإنما نستعينك ، أو نستعين بك وحدك وإعادة ، إياك مع الفعل الثاني يفيد أن كلا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات فلا يستلزم كل منهما الآخر . ذلك بأن الاستعانة بالله تعالى يجب أن تكون عامة في كل شيء ، ومن الناس من لا يستعين بالله على شيء من أعماله الاختيارية ، زعما منهم أنهم يستقلون بذلك بدون إعانة خاصة منه تعالى كالقدرية . وأفضل الاستعانة ما كان على الطاعة والخير ، وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - بيد معاذ يوما وقال : " والله إني لأحبك ، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك عبادتك " وقد روينا هذا المعنى في الأحاديث المسلسلة . قال لي شيخنا أبو المحاسن محمد القاوقجي في طرابلس الشام : " إني أحبك فقل : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ، قال لي شيخنا محمد عابد السندي في الحرم النبوي الشريف : " إني أحبك " إلخ وذكر سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - .
(اهدنا الصراط المستقيم
ذكر الأستاذ الإمام أولا ما قالوه في معنى الهداية لغة من أنها : الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب ، ثم بين أنواعها ومراتبها فقال ما مثاله : منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته .
سطر 202:
وهي الدين كالطريق الواضح يسلك بالعمل . ومع هذا تجد الشهوات تتلاعب بالأحكام وترجعها إلى أهوائها كما يصرف السفهاء عقولهم وحواسهم فيما يرديهم . وهذا التلاعب بالدين إنما يصدر من علمائه . وضرب الأستاذ الإمام لذلك مثلا أحد الشيوخ المتفقهين ، سرق كتابا من وقف أحد الأروقة في الأزهر مستحلا له بحجة أن قصد الواقف الانتفاع به ، وهو يحصل بوجود الكتاب عنده ، وأنه قد يفوت النفع ببقائه في الرواق حيث وضعه الواقف ، إذ لا يوجد فيه من يفهمه مثله بزعمه ! ! واستحلال المحرمات بمثل هذا التأويل ليس بقليل ، ولذلك كان الإنسان محتاجا أشد الاحتياج إلى العناية الإلهية الخاصة لأجل الاستقامة والسير في تلك الهدايات الأربع سيرا مستقيما يوصل إلى السعادة . لهذا نبهنا الله جل شأنه أن نلجأ إليه ، ونسأله الهداية ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا ، وأن تكون استعانتنا في ذلك به لا بسواه ، بعد أن نبذل ما نستطيع من الفكر والجهاد في معرفة ما أنزل إلينا من الشريعة والأحكام وأخذ أنفسنا بما نعلم من ذلك . وهذا أفضل ما نطلب فيه المعونة منه جل شأنه لاشتماله على خيري الدنيا والآخرة . فهو بهذه الآية يعلمنا كيف نستعين بعد أن علمنا اختصاصه بالاستعانة في قوله : " وإياك نستعين " .
(صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (قال الأستاذ) : الصراط المستقيم : هو الطريق الموصل إلى الحق ، ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الأنعام : (فبهداهم اقتده) وقد قلنا : إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الأخبار ، التي هي مثل الذكرى والاعتبار ، وينبوع العظة والاستبصار ، وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية .
(قال) : فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين ، والمغضوب عليهم : باليهود ، والضالين بالنصارى ، ونحن نقول إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الإمام علي رضي الله عنه ، وهو أعلم بهذا من غيره ؛ لأنه تربى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - ، وأول من
آمن به ، وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور (كما مر في المقدمة)
 
سطر 302:
 
وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، والبسملة منها
في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة أحاديث قولية صحيحة صريحة ، وجرى عليها العمل من أول الإسلام إلى اليوم ، وإن تنازع بعض أهل الخلاف والجدل في تسمية هذا الواجب فرضا وعده شرطا ، وأصح ما ورد وأصرحه فيه ما رواه الجماعة كلهم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - قال : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وفي لفظ رواه الدارقطني بإسناد صحيح (لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وهو تفسير للفظ الجماعة ، فإن نفي الصلاة فيه نفي صحتها
ووجهه : أن الحقيقة المؤلفة من عدة أركان ذاتية تنتفي بانتفاء ركن منها ، كقولك : لا وضوء لمن لم يغسل يديه إلى المرفقين ، وقد أجمع المسلمون على العمل بهذا ، فلم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - ولا خلفاؤه وأصحابه ولا التابعون ولا غيرهم من الخلفاء وأئمة العلم صلاة بدون قراءة الفاتحة فيها ، وإنما بحث الحنفية في تسمية قراءتها فرضا وعدها ركنا بناء على اصطلاحات لهم ردها الجمهور بأدلة صحيحة لا محل لتلخيصها هنا وأجابوا عن شبهاتهم النقلية بأجوبة سديدة ، وأقواها قوله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - للمسيء صلاته : " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " قالوا في الجواب عنه : إنه ثبت رواية أخرى أنه قال له : " ثم اقرأ بأم القرآن " فهذا مفسر لما تيسر من القرآن ، وأن الفاتحة هي التي كانت متيسرة لجميع المسلمين ، لأنهم كانوا يلقنونها كل من يدخل في الإسلام ، وقال بعضهم : المراد بما يتيسر منه هنا ما زاد عن الفاتحة ، وفي البخاري عن أبي قتادة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة " والأحاديث المصرحة بأنه كان يقرأ في الركعة الأولى أم القرآن وسورة كذا ، وفي الثانية بعد أم القرآن كذا في صلاة كذا ، كثيرة .
وأما كون البسملة آية في الفاتحة ، فأقوى الحجج المثبتة له : كتابتها في المصحف الإمام الرسمي الذي وزع نسخه الخليفة الثالث على الأمصار برأي الصحابة وأجمعت عليه الأمة ، وكذا جميع المصاحف المتواترة إلى اليوم ، والخط حجة عليه ، كما قال العلامة العضد ، وعليه جميع شعوب العلم والمدنية في هذا العصر ، لا حجة عندهم أقوى من حجة الكتابة الرسمية ، ثم إجماع القراء على قراءتها في أول الفاتحة . وإن زعم بعضهم أنها آية مستقلة ، فإن هذا رأي ، والعبرة بالعمل ، وهو إذا كان عاما مطردا من أقوى الحجج . على أن تواترها عن واحد منهم تقوم به الحجة على باقيهم وعلى سائر الناس ، فإنه إثبات بالتواتر لا يعارضه نفي ما . وقد كنا ذكرنا هذه المسألة وآراء أهل الخلاف فيها ونزيدها إيضاحا فنقول :
وقد وردت أحاديث آحادية في إثبات ذلك ونفيه ترتب عليها اختلاف الفقهاء الذين جعلوا المسألة مسألة مذاهب ، ينصر كل حزب منهم أهل المذهب الذي ينسبون إليه
سطر 309:
(كل حزب بما لديهم فرحون) ولولا ذلك لاتفقوا ؛ لأن لإثبات
البسملة في أول الفاتحة في جميع المصاحف المجمع عليها المتواترة حجة قطعية لا تعارض بأحاديث الآحاد وإن صح سندها .
وأصرح الأحاديث التي استدلوا بها على كون البسملة ليست آية من الفاتحة ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " يقولها ثلاثا - أي كلمة " فهي خداج " أي ناقصة غير تامة كالناقة تلد لغير التمام - فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ؟ فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - يقول : " قال الله - عز وجل - : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : (الحمد لله رب العالمين) قال الله : حمدني عبدي ، فإذا قال : (الرحمن الرحيم) قال الله : أثنى علي عبدي . فإذا قال : (مالك يوم الدين) قال : مجدني عبدي . وقال مرة : فوض إلي عبدي . وإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال : (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
قال النافون : إن الحديث يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة ؛ لأنها لو كانت منها لذكرت في الحديث ، وهو استدلال سلبي لا يعارض القطعي المتواتر وهو إثباتها في المصحف وإجماع القراء على قراءتها عند البدء بالختمات ، وثبوت التواتر بذلك ، على أن عدم ذكرها في الحديث قد يكون لسبب اقتضى ذلك . ومما يخطر على البال بداهة : أنه كما اكتفى من قسمة الصلاة بالفاتحة دون سائر التلاوة والأذكار والأفعال اكتفى من الفاتحة بما لا يشاركها فيه غيرها من السور ، إذ البسملة آية من كل سورة غير (براءة) على التحقيق الذي يدل عليه خط المصحف ، وثم سبب آخر لعدم ذكر البسملة في القسمة ، وهو أنه ليس فيها إلا الثناء على الله تعالى بوصفه بالرحمة ، وهو معنى مكرر في الفاتحة وذكر في القسمة .
والعمدة في عدم المعارضة أن دلالة الحديث ظنية سلبية ، وإثبات البسملة إيجابي وقطعي كما تقدم ، وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة : مخالفة راويه لغيره من
سطر 315:
واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة المرفوع عند أحمد وأصحاب السنن قال : " إن
 
سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي : " تبارك الذي بيده الملك " قالوا : وإنما هي ثلاثون بدون البسملة . وأجيب بمثل ما قلنا آنفا من أن عدد آيات السور باعتبار ما هو خاص بالسورة وهو ما دون البسملة . ويؤيده ما روي عن أبي هريرة من أن سورة الكوثر ثلاث آيات . وقد روى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أنس قال : " بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه مبتسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال : نزلت علي آنفا سورة ، فقرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر) . وهذا الحديث ناطق بأن البسملة من سورة الكوثر مع عدم عدها من آياتها لما ذكرنا ، فكونها آية من الفاتحة أولى وهو أصح في حديث أبي هريرة في سورة الملك ؛ لأن البخاري أعله بأن عباسا الحشمي راويه لا يعرف سماعه من أبي هريرة .
واستدلوا بالأحاديث الواردة في عدم قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وخلفائه لها في الصلاة وأصرحها قول عبد الله بن مغفل : " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - ومع أبي بكر ، ومع عمر ومع عثمان . فلم أسمع أحدا منهم يقولها " يعني البسملة رواه أحمد والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه عن ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول ، فقد كان له سبعة أولاد وهذه علة تمنع صحة الحديث . قالوا : وقد تفرد به الحريري وقيل : إنه قد اختلط بآخره . وقد يفسر بما ترى فيما قالوه في الحديث الذي بعده .
وفي معناه حديث أنس في إحدى الروايات قال : " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم) . رواه أحمد ومسلم . قال في المنتقى : وفي لفظ " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " . رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح . ولأحمد ومسلم : " صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} -
وأبي بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها " . ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : " صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال شعبة قلت لقتادة : أنت سمعت من أنس ؟ قال : نعم نحن سألناه عنه . وللنسائي عن منصور بن زازان عن أنس قال : " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " اهـ .
 
قال الشوكاني في شرح الحديث : ورواية " فكانوا لا يجهرون " أخرجها أيضا ابن حبان والدارقطني ، والطحاوي والطبراني . وفي لفظ لابن خزيمة : " كانوا يسرون " - وقوله : " كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " هذا متفق عليه . وإنما انفرد مسلم بزيادة : " لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم " وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب وفسر بأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه به ، وجماعة رووه عنه بلفظ : " فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم " . ثم نقل عن الحافظ أن بعضهم رواه باللفظين وقد خرج كل رواية .
أقول : وقد جمعوا بين الروايات بأن المراد بالاستفتاح بالحمد لله الاستفتاح بهذه السورة فقد صح التعبير عنها في حديث آخر بجملة : " الحمد لله " . وبأن عدم سماعها سببه عدم الجهر بها ، وقد يكون له سبب آخر وهو البعد عن أول الصف . ومن العادة أن يكون صوت القارئ خافتا في أول القراءة . وسبب ثالث وهو اشتغال المأموم عند السماع بالتحرم ودعاء الافتتاح .
وقد عورض وأعل حديث أنس على اضطراب متنه بما يأتي عنه من مخالفته له في صفة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - وبما رواه الدارقطني وصححه عن أبي سلمة ، قال : سألت أنس بن مالك : " أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يستفتح بالحمد لله رب العالمين ، أو ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال : إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك فقلت : أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - يصلى في النعلين ؟ قال : نعم " . قالوا : وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا
وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع ، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال : - وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم : يجهر ، وقال بعضهم يخفت أ هـ .
أقول : ولم يختلف هؤلاء المصلون في صلاة واحدة ، بل في جميع الصلوات ، وسبب ذلك الغفلة والناس عرضة لها ، ولا سيما الغفلة عن أول صلاة الإمام . إذ يكون المأمومون مشغولين بمثل ما يشغله من الدخول فيها وقراءة دعاء الافتتاح كما تقدم آنفا .
وأما أحاديث إثبات كون البسملة من الفاتحة ، فمنها : ما رواه البخاري عن قتادة قال : سئل أنس " كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - ؟ فقال كانت مدا ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم . ويمد بالرحمن وبالرحيم " . وروى عنه الدارقطني من طريقين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - كان يجهر بالبسملة " .
 
ومنها : حديث أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها سئلت عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - فقالت : " كان يقطع قراءته آية آية : (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ وغيرهما .
ومنها ما رواه النسائي وغيره عن نعيم المجمر . قال : " صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم . ثم قرأ بأم القرآن " . وفيه يقول إذا سلم : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - " . وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، قال : على شرط البخاري ومسلم وأقره الحافظ الذهبي . وقال البيهقي : صحيح الإسناد وله شواهد . وقال أبو بكر الخطيب فيه : ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل ، وروي عن أبي هريرة حديثان آخران بمعناه ، وثق بعضهم جميع رجالهما وتكلم بعضهم في بعضهم .
ومنها : حديث علي - رضي الله عنه - سئل عن السبع المثاني فقال : (الحمد لله رب العالمين) قيل : إنما هي ست فقال : (بسم الله الرحمن الرحيم) . ورواه الدارقطني وإسناده كلهم ثقات لم يطعنوا في أحد منهم ، وله حديثان آخران عنه وعن عمار بن ياسر في إثبات جهر النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - بالبسملة في صلاته قد تكلموا في سندها .
ومنها حديث أنس : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم " رواه الحاكم وقال : ورواته عن آخرهم ثقات ، وأقره الحافظ الذهبي .
وقد أورد الشوكاني في نيل الأوطار هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من الروايات الضعيفة الأسانيد الصحيحة المتون ، وذكر حمل الروايات الصحيحة من أحاديث النفي المعارضة لها على عدم الجهر بالبسملة من باب حمل المطلق على المقيد وهو ترك الجهر ، ثم قال :
" إذا كان محصل أحاديث نفي البسملة هو نفي الجهر بها ، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه . قال الحافظ - ابن حجر - لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافي - أي كما هي القاعدة - لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة ، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم ، كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا ، فلم يستحضر الجهر بالبسملة ، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر أ هـ .
أقول : وقد تقدم نص الرواية عنه بنسيان هذا الحكم آنفا فعد حديثه مضطربا لا يحتج به .
 
قال الحافظ ابن عبد البر بعد سرده روايات حديثه في الاستذكار : هذا الاضطراب لا تقوم معه حجة . وقد سئل عن ذلك أنس فقال : كبرت سني ونسيت . أ هـ
وقد روى الطبراني في الكبير والأوسط في سبب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - للجهر بالبسملة في الصلاة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " أنه - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان المشركون يهزءون بمكاء وتصدية ، ويقولون : محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن - فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك) فتسمع المشركين فيهزءوا بك (ولا تخافت بها) عن أصحابك فلا تسمعهم . وقد قال في مجمع الزوائد : إن رجاله موثقون . وقال الحكيم الترمذي . فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة . وجمع به القرطبي بين الروايات .
وقال ابن القيم في زاد المعاد : " إن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفتها أكثر مما جهر بها إلخ " . وهذا القول معقول ، وإذا صح أن سببه ما رواه الطبراني واعتمده القرطبي والنيسابوري والحكيم الترمذي يكون ترك الجهر في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة ، والجهر فيما بعده ، وقد علمت ما في حديثي أنس وأبي قتادة المخالفين لهذا .
ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يكفر فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي ، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبه المعارضة التي تقدمت وبينا ضعفها ، وسنزيده بيانا والشبهة تدرأ حد الردة .
وجملة القول أن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوي ، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جدا جدا وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإمام القطعي المتواتر والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات أحادية ، أو بنظريات جدلية ، وأصحاب الجدل يجمعون بين الغث والسمين وبين الضدين والنقيضين ، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره ، وربما يظهر عليه المبطل بخلابته ، إذا كان ألحن بحجته .
سطر 354:
سبحان الله ! إن الجمع بين النفي والإثبات هو التناقض الحقيقي الذي يعز إيراد مثال للمحال العقلي مثله ، فكيف يصدر القول به عن عالم أو عن عاقل ؟
إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم ، هو في نفسه صغير حقير ضئيل قميء خفي كالذرة من الهباء ، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض ، أو كالعدم المحض .
والجواب الحق : أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا حقيقيا برواية متواترة عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - تصرح بأنها ليست من الفاتحة - كما يقول بعض الناس بشبهة عدم رواية القراء لها ، وشبه تعارض الروايات الآحادية التي ذكرنا أقواها والمخرج منها - أو ليست إلا جزء آية من سورة النمل ، كما زعم من لا شبهة لهم على النفي تستحق أن يجاب عنها .
وإنما أثبت بعض القراء بالروايات المتواترة : أن البسملة آية من الفاتحة وبعضهم لم يرو ذلك بأسانيده المتواترة ، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا لذلك الشيء ، لا رواية ولا دراية . وأعم من هذا ، ما قال العلماء ، من أن بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه بونا بعيدا كما هو معلوم بالضرورة . ولو فرضنا أن بعضهم روى التصريح بالنفي لجزمنا بأن روايته باطلة سببها أن بعض رجال سندها اشتبه عليه عدم الإثبات بإثبات النفي ، إذ يستحيل عقلا
 
سطر 369:
فضل الفاتحة وكونها هي السبع المثاني
قال الله تعالى في سورة الحجر مخاطبا خاتم الأنبياء والمرسلين : (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (15 : 87) وقد ثبت في الحديث الصحيح والآثار الصحيحة عن الصحابة والتابعين : أن السبع المثاني هي سورة الفاتحة ، ومعنى كونها مثاني : أنها تثنى وتعاد في كل ركعة من الصلاة لفرضيتها فيها كما تقدم ، وقيل معناه : أنها يثنى فيها على الله تعالى بما أمره ، وقيل غير ذلك :
فأما الحديث المرفوع في تفصيلها وكونها هي المرادة بالسبع المثاني فهو ما رواه البخاري في مواضع من صحيحه ، وأصحاب السنن عن أبي سعيد بن المعلى ، وروى نحوه مالك والترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة . ذكر أبو سعيد بن المعلى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - قال له وهما في المسجد : " لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن نخرج من المسجد - وفي رواية : قبل أن أخرج - (قال) : أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل " لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ " فقال : الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " وفي حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - قال لأبي بن كعب : " أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا الإنجيل ولا في الفرقان مثلها ؟ قال أبي : ثم أخذ بيدي يحدثني وأنا أتباطأ مخافة أن يبلغ الباب قبل أن ينقضي الحديث ولما سأله عن السورة قال : " كيف نقرأ في الصلاة ؟ " فقرأت عليه أم الكتاب فقال : " إنها السبع المثاني
 
والقرآن العظيم الذي أوتيته " . وفيه إزالة إشكال في حديث أبي سعيد بن المعلى ، وهو أن ظاهره يوهم أنه لم يكن يعرف الفاتحة مع أنه كان يصلي في ذلك اليوم وقبله فهو من الأنصار - وقد علم من حديث أبي هريرة : أن المراد بتعليمه هذه السورة تعليمه ما فيها من الفضيلة على غيرها ، وكونها هي المرادة بآية سورة الحجر . وأما عطف القرآن على " سبعا من المثاني " فهو من عطف الكل على الجزء أو العام على الخاص ، وقيل في توجيهه غير ذلك .
سطر 376:
وأما الآثار فقد فصلها السيوطي في الدر المنثور ، وأجملها الحافظ في الفتح مع بيان درجة أسانيدها بقوله : وقد روى الطبري بإسنادين جيدين عن عمر ثم عن علي قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب - زاد عن عمر " تثنى في كل ركعة " " وبإسناد منقطع عن ابن مسعود مثله ، وبإسناد حسن عن ابن عباس : أنه قرأ الفاتحة ، ثم قال : (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) قال : هي فاتحة الكتاب ، وبسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة ومن طريق جماعة من التابعين : السبع المثاني فاتحة الكتاب . ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب : قلت للربيع : إنهم يقولون : إنها السبع الطول (جمع طولى مؤنث أطول) قال : لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء . ا هـ .
يقول محمد رشيد : يعني أن سورة الحجر التي فيها هذه الآية قد نزلت بمكة قبل السور السبع الطول وهن : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة - المدنيات - والأنعام والأعراف ، ويونس - المكيات - كذا قال بعضهم في السابعة : إنها سورة يونس ، قال آخرون : هي الأنفال ، وبراءة - وعدهما سورة واحدة - وقال بعضهم : إن الراوي نسي السابعة عن ابن عباس .
والقول بأنها السبع الطول ، رواه النسائي والطبري والحاكم عن ابن عباس بإسناد قوي كما قال الحافظ . ولا حاجة إلى التفصيل فيه فإنه مردود لمخالفته للحديث الصحيح المرفوع ، ولا قول لأحد من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - ، ومنه يعلم أن قوة الإسناد لا قيمة لها تجاه الدليل القوي على بطلان متن الرواية .
 
استدراك على تفسير المغضوب عليهم والضالين
سطر 387:
ابن مردويه عن أبي ذر أيضا بسند ، قال الحافظ في الفتح ، إنه حسن ، وقال ابن أبي حاتم : إنه لا يعرف في تفسيرهما بما ذكر خلافا يعني المأثور ، ومع هذا نقول : إن ما ذكره المحققون من الوجوه الأخرى لا يعد مخالفة للمأثور الذي هو من قبيل تفسير العام ببعض أفراده ، من قبيل التمثيل لا التخصيص ، ولا الحصر بالأولى .
(التأمين بعد الفاتحة)
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال ابن شهاب : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - يقول : آمين . رواه الجماعة ، إلا أن الترمذي لم يذكر قول ابن شهاب ، وفي رواية : " إذا قال الإمام : (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا : آمين ، فإن الملائكة تقول : آمين ، وإن الإمام يقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه أحمد والنسائي . وعن أبي هريرة قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - إذا تلا (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال : آمين . حتى يسمع من يليه من الصف الأول " رواه أبو داود وابن ماجه وقال : " حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد " وعن وائل بن حجر قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال : آمين . يمد بها صوته ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي . اهـ (منتقى الأخبار) .
وهذه الأحاديث كلها صحيحة وأخرجها غير من ذكر ، وزاد أبو داود في الأخير منها " ورفع بها صوته " قال الحافظ ابن حجر : وسنده صحيح ، وخطأ ابن القطان في إعلانه إياه بجهالة حجر بن عنبس وقال : إنه ثقة معروف ، قيل : إن له صحبة .
وهنالك أحاديث أخرى في المسألة تبلغ مع هذه سبعة عشر حديثا ، وهذه أصحها .
قال الشوكاني في نيل الأوطار عند شرح حديث أبي هريرة الأول : والحديث يدل على مشروعية التأمين . قال الحافظ : وهذا الأمر عند الجمهور للندب ، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه عملا بظاهر الأمر ، وأوجبته الظاهرية على كل من يصلي ، والظاهر من الحديث وجوبه على المأموم فقط ، لكن لا مطلقا بل مقيدا بأن يؤمن الإمام ، وأما الإمام والمنفرد فمندوب فقط .
(قال) : وحكى المهدي في البحر عن العترة جميعا ، أن التأمين بدعة ـ وقد عرفت ثبوته عن علي - رضي الله عنه - من فعله وروايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - في كتب أهل البيت وغيرهم ـ على أنه قد حكى السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير عن الإمام المهدي .
 
محمد بن المطهر وهو أحد أئمتهم المشاهير أنه قال في كتابه (الرياض الندية) : إن رواة التأمين جم غفير ، قال : وهو مذهب زيد بن علي وأحمد بن عيسى . ا هـ .
وقد استدل صاحب البحر على أن التأمين بدعة بحديث معاوية بن الحكم السلمي " إن هذه صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " ولا شك أن أحاديث التأمين خاصة وهذا عام ، وإن كانت أحاديثه الواردة عن جمع من الصحابة لا يقوى بعضها على تخصيص حديث واحد من الصحابة ـ مع أنها مندرجة تحت تلك العمومات القاضية بمشروعية مطلق الدعاء في الصلاة ؛ لأن التأمين دعاء ، فليس في الصلاة تشهد ، وقد أثبته العترة ، فما هو جوابهم في إثباته فهو الجواب في إثبات ذلك . على أن المراد بكلام الناس في الحديث هو تكليمهم ؛ لأنه اسم مصدر كلم لا تكلم ويدل على ذلك السبب المذكور في الحديث .
والمراد بقوله السبب المذكور في الحديث : هو أن معاوية بن الحكم السلمي شمت عاطسا في الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - فرماه القوم بأبصارهم فقال : وا ثكل أماه ، مالكم تنظرون إلي ؟ إلخ . وجملة القول : أن التأمين في الصلاة مشروع بنص الأحاديث الصحيحة الصريحة ، فلا وجه لمنعه بعموم أحاديث أخرى لا تنافيها ، ولو عارضتها لوجب ترجيحها عليها .
واختلف في موضعه بالنسبة إلى المأموم ، هل هو بعد قول الإمام : (ولا الضالين) أم عند قوله : " آمين " ؟ وهو مبني على أن بين الحديثين في ذلك تعارضا ، وهو غفلة
عن كون الإمام إنما يؤمن بعد قوله : (ولا الضالين) كما صرح به في رواية أحمد والنسائي لحديث أبي هريرة فمعنى الحديثين متفق ، وقوله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - : " إذا أمن الإمام فأمنوا " مبني على أن من شأن الإمام أن يؤمن عقب إتمام الفاتحة اتباعا للسنة فلا مفهوم للشرط فيه .
(فائدة في مخرجي الضاد والظاء وحكم تحريف الأول)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ، وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك ، والله أعلم . وأما الحديث : " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له . ا هـ .
سطر 403:
 
إلا أهل العراق وأهل تونس فهم على ما نعلم أفصح أهل الأمصار نطقا بالضاد ، وإننا نجد أعراب الشام وما حولها ينطقون بالضاد فيحسبها السامع ظاء لشدة قربها منها وشبهها بها . وهذا هو المحفوظ عن فصحاء العرب الأولين حتى اشتبه نقلة العربية عنهم في مفردات كثيرة قالوا : إنها سمعت بالحرفين وجمعها بعضهم في مصنف مستقل ، والأشبه أنه قد اشتبه عليهم أداؤها منهم فلم يفرقوا ، والفرق ظاهر ولكنه غير بعيد .
وقد قرئ قوله تعالى في سورة التكوير : (وما هو على الغيب بضنين) بكل من الضاد والظاء ، والضنين : البخيل ، والظنين : المتهم ، وفائدتهما نفي كل من البخل والتهمة . والمعنى : ما هو ببخيل في تبليغه فيكتم ، ولا بمتهم فيكذب ، قال في الكشاف : وهو في مصحف عبد الله بالظاء ، وفي مصحف أبي بالضاد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم{{ص}} - يقرأ بهما . وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب ، ومعرفة مخرجيهما مما لا بد
منه للقارئ ، فإن أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين ، وإن فرقوا ففرقا غير صواب وبينهما بون بعيد ، فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان ويساره ، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أضبط : يعمل بكلتا يديه ، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه ، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين ، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا . وهي أحد الأحرف الذولقية ، أخت الذال والثاء ، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان ، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة . ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب . ا هـ .
وأقول : صدق أبو القاسم الزمخشري في تحقيقه هذا كله إلا قوله : إن البون بين الحرفين بعيد ، فالفرق ثابت ولكنه قريب ، وهو يحصل بإخراج طرف اللسان بالظاء بين الثنايا كأختيه الثاء والذال ، ولا شركة بينه وبينهما إلا في هذا .