الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مبسوط السرخسي - الجزء السادس عشر»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
OKBOT (نقاش | مساهمات)
ط تدقيق إملائي. 88 كلمة مستهدفة حاليًا.
 
سطر 12:
[ 4 ]
التحول من بلد إلى بلد فالقول قوله مع يمينه وقيل بحكم القاضي حاله في ذلك فان رآه قد استعد للسفر قبل قوله. قال الله تعالى ولو أرادوا الخروج لا عدوا له عدة وقيل يقول له مع من يخرج فالانسان لا يسافر الا مع رفقة ثم يسأل رفقاءه عن ذلك وان فسخ العقد وخرج الرجل ثم رجع وقال قد بدالى في ذلك وخاصمه صاحب البيت فان القاضي يحلف المستأجر بالله انه كان في خروجه قاصدا للسفر لان رب البيت يدعى بطلان الفسخ لعدم العذر وذلك ينبنى وما في ضميره في ضمير المستأجر لا يعلمه غيره فكان القول قوله مع يمينه وكذلك ان أراد التحول من تلك التجارة إلى تجارة أخرى فهذا عذر لان في ايفاء العقد ضررا لم يلتزمه بالعقد وقد تروج نوع التجارة في وقت وتبور في وقت آخر وان لم يكن هذا ولكن وجد بيتا هو أرخص منه لم يكن عذرا. وكذلك لو اشترى منزلا وأراد التحول إليه لانه لايلحقه ضرر الا ما التزمه بالعقد وهو التزام الاجر عند استيفاء المنفعة وانما يقصد بالفسخ هنا الربح لادفع الضرر وان استأجر دابة بعينها لى بغداد فبدا للمستأجر أن لا يخرج فهذا عذر لان عليه ضررا في ايفاء العقد وهو تحمل مشقة السفر وقال ابن عباس رضي الله عنهما لولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} السفر قطعة من العذاب لقلت العذاب قطعة من السفر ولو قال رب الدابة أنه يتعلل فالسبيل للقاضي أن يقول له اصبر فان خرج فقاد الدابة معه لان المعقود عليه خطوات الدابة فإذا قادها معه فقد تمكن من استيفاء المعقود عليه فيلزمه الاجر وان لم يركب وكذلك لو أراد الخروج في طلب غريم له أو عبد آبق فرجع وكذلك لو مرض أو لزمه غرم أو خاف أمرا أو عثرت الدابة أو أصابها شئ لا يستطاع الركوب معه فبعض هذا عيب في المعقود عليه وبعضه عذر للمستأجرين في التخلف عن الخروج ولا فائدة للمؤاجر في ايفاء العقد إذا لم يخرج المستأجر وان عرض لصاحب الدابة مرض لايستطيع الشخوص مع دابته لم يكن له أن ينقض الاجارة لان بامتناعه من الخروج لا يتعذر تسليم المعقود عليه فيؤمر بتسليم الدابة وأنه يرسل معه رسولا يتبع الدابة وكذلك لو حبسه غريمه وروى بشر عن أبى يوسف رحمهما الله قال إذا امتنع رب الدابة من الخروج فيكون هذا عذر وان مرض فهو عذر له لانه يقول غيري لا يشقق على دابتي ولا يقوم بتعاهدها كقيامي فإذا تعذر عليه الخروج لمرض يلحقه في ايفاء العقد ضرر لم يلتزمه بالعقد وروى هشام عن أبى يوسف رحمهما الله قال إذا اكترت المرأة ابلا إلى مكة للذهاب والرجوع فلما كان في يوم النحر ولدت قبل أن تطوف
[ 5 ]
سطر 60:
[ 20 ]
فانه بحكم الثمن في ذلك فيجعل القول قول من يشهد له الظاهر وإذا تكارى من الكوفة إلى مكة ابلا مسماة بغير أعيانها فقال الحمال أخرجك في عشر ذي القعدة فقال المستكري أخرجنى في خمس مضين أو على عكس ذلك فانه يخرجه في خمس مضين في الوجهين جميعا لانه لا يخاف الفوت إذا خرج بعد خمس مضين فان أراد الحمال أن يخرجه قبل ذلك فهو يريد أن يلزمه ضرر السفر من غير حاجة إليه فيسقط عن نفسه مؤنة العلف فلا يمكن من ذلك وإذا طلب المستكرى في عشر ذي القعدة وهو يريد أن يلزم الحمال ضرر السفر من غير حاجة ليكون هو مترفها في نفسه فلهذا لا يمكن من ذلك ولان بمطلق العقد انما يثبت المتعارف والمتعارف الخروج من الكوفة بخمس مضين فإذا أراد الحمال أن يتأخر إلى نصف ذي القعدة وأبى ذلك المستكرى فليس للحمال ذلك لانه يخاف الفوت في هذا التأخير ويلحق المستكرى مشقة عظيمة باستدامة السفر وان قال المستأجر أخرجنى للنصف من ذي القعدة وقال الحمال أخرجك بخمس مضين فانه يرتكب مؤنة العلف فانى أؤخره لعشر مضين من ذي القعدة ولا تؤخره لاكثر من ذلك لان الغالب ادراك الحج إذا خرج بعشر مضين والغالب هو الفوات إذا أخر الخروج أكثر من ذلك والمستحق بمطلق العقد صفة السلامة لا نهاية الجودة وان كان بينهما شرطا حملهما على ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} الشرط أملك: أي يوفى به ولا بأس بأن يسلف في كراء مكة قبل الحج سنة أو باشهر لان وقت الحج معلوم لا يجهل وهذا بناء على مذهبنا ان الاجارة المضافة إلى وقت في المستقبل تصح (وعلى قول) الشافعي رحمه الله لا تصح الدار والحانوت والدواب وغير ذلك فيه سواء وهذا بناء على أصله ان جواز العقد باعتبار ان المنافع جعلت كالاعيان القائمة فانما يتحقق ذلك إذا اتصل المعقود عليه بالعقد في الاجارة المضافة ولا يوجد ذلك ثم الاضافة إلى وقت في المستقبل كالتعليق بالشرط حتى ان ما يحتمل التعليق بالشرط يجوز اضافته إلى وقت في المستقبل كالطلاق والعتاق ومالا فلا كالاجارة والبيع ثم الاجارة لا تحتمل التعليق بالشرط فلا تحتمل الاضافة إلى وقت في المستقبل والدليل عليه أنه لا يتعلق به اللزوم ولا يملك الاجر بنفس العقد وان شرط التعجيل فلو انعقد العقد صحيحا لانعقد بصفة اللزوم ويملك الاجر به إذا شرط التعجيل فان ذلك موجب العقد وحجتنا في ذلك أن جواز عقد الاجارة لحاجة الناس وقد تمس الحاجة إلى الاستئجار مضافا إلى وقت في المستقبل لان في وقت حاجته ربما لا يجد ذلك أولا يجده باجر المثل فيحتاج إلى أن يسلف فيه قبل ذلك
[ 21 ]
سطر 99:
[ 33 ]
بعقد الاجارة فانه يجوز بيعه بعد الوجود وانما يستحق بقدر الاجارة مما لا يجوز بيعه بعد الوجود ولان محل الاجارة المنفعة وهى عرض لا يقوم بنفسه ولا يتصور بقاؤها والثمرة تقوم بنفسها كالشجرة فكما لا يجوز أن يتملك الشجرة بعقد الاجارة فكذلك الثمرة ولان المؤاجر يلتزم مالا يقدر على ابقائه فربما تصيب الثمرة آفة وليس وسع البشر اتخاذها وكذلك ألبان الغنم وصوفها وسمنها وولدها كل ذلك عين يجوز بيعه فلا يتملك بعقد الاجارة وان استأجر أرضا فيها زرع ورطبة أو شجرة أو قصب أو كرم أو ما يمنع من الزراعة فالاجارة فاسدة لان استئجار الارض لمنفعة الزراعة وهذه المنفعة لا يمكن استيفاؤها مع هذه الموانع فقد التزم بالعقد تسليم مالا يقدر على تسليمه وان كان مقصود المستأجر ما فيها فهو عين لا يجوز استحقاقه بالاجارة ولايجوز اجارة الاجام والانهار للمسك ولا لغيره لان المقصود استحقاق العين ولان السمك صيد مباح فكل من أخذه فهو أحق به وانما يستحق على المؤاجر بالاجارة ماكان مستحقا له ولان المؤاجر يلتزم مالا يقدر على ايفائه به فان أجرها للزراعة فهى ليست بصالحة لذلك وان أجرها للسمك فربما يجده المستأجر وليس في وسع الاجر أن يمكنه من تحصيل ذلك ولو استأجر بئرا شهرين ليسقى منها أرضه وغنمه لم يجز وكذلك النهر والعين لان المقصود هو الماء وهو عين لا يجوز أن يتملك بعقد الاجارة ولان الماء أصل الاباحة ما لم يحرزه الانسان بانائه وهو مشترك بين الناس كافة قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} الناس شركاء في الثلاث في الماء والكلاء والنار فالمستأجر فيه والاجر سواء فلهذا لا يستوجب عليه أجر بسببه وان استأجر نهر ليجرى فيه شربا له إلى أرضه روى عن أبى يوسف رحمه الله ان ذلك لا يجوز قال أرأيت لو استأجر مسيل ماء على سطح ليسيل ما أسطحه فيه أكان يجوز ذلك فهذا كله فاسد وهكذ ذكره محمد في ظاهر الرواية وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه ان استأجر موضعا معينا معلوما لذلك فهو جائز لان الجهالة تزول بتعيين الموضع وهى منفعة مقصودة فالاستئجار لاجله يصح وجه ظاهر الرواية انه مجهول في نفسه فان الضرر يتفاوت بقلة الماء وكثرته واعلام مقدار الماء غير ممكن فربما لا يأخذ الماء جميع الموضع الذي عينه وربما يزداد عليه فللجهالة قلنا لا يجوز الاستئجار ولو استأجر عبدا بأجر معلوم كل شهر بطعامه لم يجز لان طعامه مجهول وهو على رب العبد فإذا شرطه على المستأجر كان فاسدا والمجهول متى ضمن إلى المعلوم يصير الكل مجهولا به وكذلك استئجار الدابة بأجر مسمى وعلفها وكذلك كل اجارة
[ 34 ]
سطر 105:
[ 35 ]
بالقيمة في الحال ثم قال ولا آمره بقلع الاشجار لما يدخل به من الفساد عليهما وبظاهر هذا يتمسك من يختار الطريقة لاولى انه يكون مشتريا نصف الغرس لانه أشار إلى أن الاشجار تكون مشتركة ولكنه لا يقلع لما يدخل به من الفساد عليهما قال الحاكم رحمه الله تأويل هذا اللفظ فساد القلع على رب الارض وضياع عمل الاجير بالقلع وبطلان حقه في الاجر ولو كان قد أكل الغلة على هذا حسب على الغارس ما أكل من أجره لان الشجرة ملك رب الارض وانما يملك الثمر يملك الشجر فما أكله العامل من ذلك يكون محسوبا عليه من أجره (قال) رضى الله عنه والاصح عندي أن يقال في تقليل هذه المسألة ان صاحب الارض استأجره ليجعل أرضه بستانا بآلات نفسه على أن يكون أجره بعض ما يحصل بعمله وهو نصف البستان فهو كما لو استأجر صباغا ليصبغ ثوبه بصبغ نفسه على أن يكون نصف المصبوغ للصباغ وذلك فاسد لانه في معنى قصر الطحان ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وهذا لان الغرس آلة تصير الارض بها بستانا كالصبغ للثوب فإذا فسد العقد بقيت الالة متصلة بملك صاحب الارض وهى متقومة فيلزمه قيمتها كما يجب على صاحب الثوب قيمة ما زاد الصبغ في ثوبه الا أن الغراس أعيان تقوم بنفسها فلا يدخل أجر العمل في قيمتها فيلزمه مع قيمة الاشجار أجر مثل عمله لانه أبقى من عمله عوضا ولم يسلم له ذلك فيستوجب أجر المثل ولو دفع الغزل إلى حائك لينسجه بالنصف فهو فاسد لانه في معنى قفيز الطحان وقد بينا اختلاف المشايخ رحمهم الله فيه وكذلك حمل الطعام في سفينة أو على دابة بنصفه غير جائز وهذا لانه لو جاز صار شريكا باول جزء من العمل يقع على العامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الاجر فإذا لم يصح العقد لم يملك شيئا من المعمول فيبقى عمله مسلما إلى صاحبه بعقد فاسد فله أجر مثله لا يجاوز به نصف ذلك لتمام رضاه بذلك القدر ولو كان طعاما بين رجلين استأجر أحدهما صاحبه ليحمله أو يطحنه لم يجز ذلك عندنا وهو جائز عند الشافعي رحمه الله لان هذا العمل في نصيب شريكه غير مستحق عليه فاستئجاره على ذلك كاستئجاره أجنبيا آخر وشركته في المحل لا تمنع صحة الاستئجار كما لو استأجر أحد الشريكين من صاحبه بيتا ليحفظ فيه الطعام المشترك أو دابة لينقل عليها الطعام المشترك صح الاستئجار فهذا مثله (وحجتنا) الحديث المشهور في النهى عن قفيز الطحان وقد بينا أن معنى النهى انه لو جاز صار شريكا فذلك دليل على ان تقدم الشركة في المحل يمنع صحة الاجارة وهذا لان العقد يلاقى العمل وهو عامل لنفسه
[ 36 ]
سطر 111:
[ 37 ]
الماء لينظر فيه إذا سوى عمامته فهذا كله باطل لا أجر عليه بحكم هذه العقود فكذلك فيما سبق ولايجوز أن يستأجر رجلا ليعلم ولده القرآن أو الفقه أو الفرائض عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز ذلك فالمذهب عندنا أن كل طاعة يختص بها المسلم فالاستئجار عليها باطل وعلى قول الشافعي كل مالايتعين على الاجير اقامته فالاستئجار عليه صحيح وقد بينا الكلام فيه في كتاب المناسك في الاستئجار على الحج والدليل على أنه لا يجوز الاستئجار على تعليم القرآن حديث عبد الرحمن بن شبل الانصاري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لمدرس العلم اياك والخبز الرقاق والشرط على كتاب الله تعالي ولما أقرأ أبى بن كعب رضى الله عنه رجلا سورة من القرآن أعطاه على ذلك قوسا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أتحب أن يقوسك الله بقوس من نار فقال لا قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} رد عليه قوسه ولان من يعلم غيره القرآن فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فيما يعمل فانه بعث معلما وهو ماكان يطمع في أجر على التعليم فكذلك من يخلفه وعمله ذلك قربة ومنفعة عمل يحصل له فذلك يمنعه من التسليم إلى غيره وبدون التسليم لا يجب الاجر وبعض أئمة بلخ رحمهم الله اختاروا قول أهل المدينة رحمهم الله وقال إن المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله بنوا هذا الجواب على ما شاهدوا من عصرهم من رغبة الناس في التعليم بطريق الحسبة ومروءة المتعلمين في مجازات الاحسان بالاحسان من غير شرط فاما في زماننا فقد انعدم المعنيين جميعا فنقول يجوز الاتسئجار لئلا يتعطل هذا الباب ولا يبعد أن يختلف الحكم باختلاف الاوقات (ألا ترى) أن النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وأبى بكر رضي الله عنه حين منعهن من ذلك عمر رضي الله عنه وكان ما رواه من ذلك صوابا ولو استأجروا من يؤمهم في رمضان أو غيره لم يجز لان المصلى عامل لنفسه فلا يستوجب الاجر على غيره وكذلك ان استأجروا من يؤذن لهم فالمؤذن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في الدعاء إلى الله تعالى ومنفعة عمله تحصل له لان بكثرة الجماعة يزداد ثوابه على أداء الصلاة والاصل فيه ما ذكر من حديث عثمان بن أبى العاص رضي الله عنه قال كان من آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ان قال صل بالقوم صلاة أضعفهم وان اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الاذان أجرا وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال انى أحبك فقال عمر رضي الله عنه انى أبغضك في الله قال ولم يا أمير المؤمنين قال بلغني أنك تأخذ على الاذان أجرا ولا تجوز الاجارة
[ 38 ]
على شئ من الغنا والنوح والمزامير والطبل وشئ من اللهو لانه معصية والاستئجار على المعاصي باطل فان بعقد الاجارة يستحق تسليم المعقود عليه شرعا ولايجوز أن يستحق على المرء فعل به يكون عاصيا شرعا وكذلك الاستئجار على الحداء وكذلك الاستئجار لقراءة الشعر لان هذا ليس من اجارة الناس والمعتبر في الاجارة عرف الناس ولان ما هو المقصود انما يحصل بمضي في المستأجر وهو السماع والتأمل والتفهم فلا يكون ذلك موجبا للاجر عليه وان أعطى المستأجر شيئا من اللهو يلهو به فضاع أو انكسر فلا ضمان عليه لانه قبضه واستعمله باذن صاحبه فان العقد وان بطل فالاذن في الاستعمال باق وإذا استأجر الذمي من المسلم بيعة يصلى فيها لم يجز لانه معصية وكذلك إذا استأجرها ذمى من ذمى وكذلك الكنيسة وبيت النار فانهم يعتقدون في هذه البقاع ما يعتقده في المساجد واستئجار المسلم من المسلم مسجدا يصلى فيه مكتوبة أو نافلة لا يجوز فكذلك لا يمكن تصحيح هذا العقد فيما بينهم بناء على اعتقادهم وفي اعتقادنا هذا منهم معصية وشرك فالاستئجار عليه باطل ثم استئجار المسجد من المسلم للصلاة فيه كاستئجار مسلم يصلى له وقد بينا ان ذلك باطل لان استئجار على الطاعة فهذا مثله وعلى هذا لو استأجر أهل الذمة ذميا ليصلى بهم أو ليضرب لهم الناقوس فهو باطل لانه معصية وإذا استأجر الذمي من المسلم بيتا ليبيع فيه الخمر لم يجز لانه معصية فلا ينعقد العقد عليه ولا أجر له عندهما وعند أبى حنيفة رحمه الله يجوز والشافعي رحمه الله يجوز هذا العقد لان العقد يرد على منفعة البيت ولا يتعين عليه بيع الخمر فيه فله أن يبيع فيه شيئا آخر يجوز العقد لهذا ولكنا نقول تصريحهما بالمقصود لا يجوز اعتبار معنى آخر فيه وما صرحا به معصية وكذلك لو أن ذميا استأجر مسلما يحمل له خمرا فهو على هذا عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز ان العقد لان الممر يحمل للشرب وهو معصية والاستئجار على المعصية لا تجوز والاصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لعن الله في الخمر عشرا وذكر في الجملة حاملها والمحمولة إليه وأبو حنيفة رحمه الله يقول يجوز الاستئجار وهو قول الشافعي رحمه الله لانه لا يتعين عليه حمل الخمر فلو كلفه بأن يحمل عليه مثل ذلك فلا يستوجب الاجر ولان حمل الخمر قد يكون للاراقة وللصب في الخل ليتخلل فهو نظير مالو استأجره ليحمل ميتة وذلك صحيح فهذا مثله الا أنهما يفرقان فيقولان الميتة تحمل عادة للطرح وإماطة الاذى فاما الخمر يحمل عادة للشرب والمعصية وذكر هشام عن محمد رحمهما الله قال ابتلينا بمسألة وهو أن مسلما استؤجر على أن ينقل جيفة ميتة
[ 39 ]
من المشركين من بلد إلى بلد فكذلك قال أبو يوسف رحمه الله لاأجر له لانه انما يحمل حمل الجيفة إلى المقبرة لاماطة الاذى فاما حملهما من بلد إلى بلد فهو معصية لا يجوز الاسئتجار عليه (وقلت) انا ان كان الاجير عالما بما أمر بحمله فلا أجر له أيضا وان لم يعلم بذلك فله الاجر لمعنى الغرور واستئجار الذمي الدابة من المسلم أو السفينة لينقل عليها خمرا على الخلاف الذي بينا وان استأجر ذمى ذميا لشئ من ذلك فهو جائز وكذلك لو استأجره يرعى له خنازير لان الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم بمنزلة الشاة والبعير في حقنا وان استأجره ليبيع له ميتة أو دما لم يجز لان هذا ليس بمال في حق أحد فحكمهم فيها كحكم المسلمين ولا بأس بان يؤاجر المسلم دارا من الذمي ليسكنها فان شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو دخل فيها الخنازير لم يلحق المسلم اثم في شئ من ذلك لانه لم يؤاجرها لذلك والمعصية في فعل المستأجر وفعله دون قصد رب الدار فلا إثم على رب الدار في ذلك كمن باع غلاما ممن يقصد الفاحشة به أو باع جارية ممن لا يشتريها أو يأتيها في غير المأتى لم يلحق البائع اثم في شئ من هذه الافعال التى يأتي بها المشتري وكذلك لو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة أو باع فيها الخمر بعد أن يكون ذلك في السواد ويمنعون من احداث ذلك في الامصار وقد بينا ذلك الكلام في هذا الفصل فيما سبق واستدل بحديث ثوبة بن نمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال لااخصاء ولا كنيسة في الاسلام ولحديث مكحول أن أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه صالحهم بالشام على أن يحصل عن كنائسهم القديمة وعلى أن لا يحدثوا كنيسة في مصر من امصار المسلمين وان استأجر المسلم من المسلم بيتا ليصلى فيه المكتوبة أو التروايح لم يجز ولا أجر له لما بينا أن العقد اقامة الطاعة ثم يحق على كل مسلم دينا تمكين المسلم من موضع يصلى فيه عند الحاجة فلا يجوز أن يأخذ على ذلك أجرا فلو استأجر رجلا ليقتل له رجلا أو يشجه أو يضربه ظالما لم يجز ولا أجر له لما بينا أن العقد اقامة الطاعة ثم يحق على كل لانه استئجار على المعصية ولو جاز العقد لصار اقامة العمل مستحقا عليه وفعل ما هو ظلم لا يكون مستحقا على أحد شرعا ولو أعطاه سلاحا لذلك فضاع أو انكسر لم يضمن لانه قبضه باذن صاحبه ولو أن قاضيا استأجر رجلا ليضرب حدا قد لزمه أو ليقبض من رجل أو ليقطع يد رجل أو ليقوم عليه في مجلس القضاء شهرا بأجر معلوم فالاجارة جائزة وله الاجر لان المعقود عليه منافعه في المدة حتى يستوجب الاجر بتسلم النفس وهو معلوم ثم يحكم أنه ملك منافعه ليستعمله في اقامة الحدود غير
[ 40 ]
سطر 123:
[ 41 ]
ما هو فرض عليه قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} مثل الذين يغزون من أمتى ويأخذون على ذلك أجرا كمثل أم موسى عليه السلام كانت ترضع ولدها وتأخذ الاجر من فرعون ولو شارط كحالا أن يكحل عينه شهرا بدرهم جاز ذلك وكذلك الدواء في كل داء لانه عمل معلوم عند أهل الصنعة والاستئجار عليه متعارف بين الناس وإذا استأجر فحلا لينزيه لم يجز للاثر الذي جاء به النهى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} عن التيس ولان المقصود الماء ولاقيمة له وصاحب الفحل يلتزم ايفاء مالا يقدر على تسليمه ولا تجوز الاجارة على تعليم الغناء والنوح لان ذلك معصية وان سلم غلاما إلى معلم ليعلمه عملا وشرط عليه أن يحذقه فهذا فاسد لان التحذيق مجهول إذ ليس لذلك غاية معلومة وهذه جهالة تفضى إلى المنازعة بينهما وكذلك لو شرط في ذلك أشهرا مسماة لانه يلتزم ايفاء مالا يقدر عليه فالتحذيق ليس في وسع المعلم بل ذلك باعتبار شئ في خلقة المتعلم ثم فيما سمى من المدة لا يدري انه هل يقدر على أن يحذقه كما شرط أم لا والتزام تسليم مالا يقدر عليه بعقد المعاوضة لا يجوز ولو أجر أرضه بدراهم وشرط خراجها على المستأجر فهذا فاسد لان الخراج مجهول لايعرف من أصحابنا رحمهم الله من يقول مراده في الاراضي الصلحية فالمال في ذلك يقسم على الجماجم والاراضي فتزداد حصة الاراضي إذا قلت الجماجم وتنقص بكثرة الجماجم فاما في جراح الوظيفة لاجهالة في المقدار وقيل ان مراده من هذا ان ولاة الظلمة ألحقوا بالخراج روادف يزداد ذلك تارة وينتقص أخرى فيكون مجهولا وقيل معناه ان الخراج بحسب الطاقة وريع الارض كما أشار إليه عمر رضي الله عنه في قوله لعلكما حملتما الارض ما لا تطيق وكذلك أو اعطاه بغير اجر الا ان يشترط عليه أن يؤدى خراجها فان الخراج على صاحب الارض فإذا شرطه على المزارع يكون ذلك أجرة وجهالة الاجارة تفسد الاجار وهذا لان الواجب في كل جريب درهم وقفيز مما يخرجه وذلك مجهول الجنس في الصفة ولو أجرها وشرط العشر على المستأجر فالعقد فاسد عند أبى حنيفة رحمه الله لان العشر عنده على المؤاجر فإذا شرطه على المستأجر كأن أجره وهو مجهول الجنس والقدر وعندهما العشر على المستأجر فلا يصير اشتراط ذلك عليه وخراج المقاسمة نظير العشر فيما ذكرنا وإذا كان الاجر كذا درهما ودينارا أو فلسا فهو جائز وله نقد البلد ووزنهم فان كان وزنهم مختلفا فهو فاسد حتى يبين الوزن بمنزلة الثمن في البيع وقد بيناه وان جعل الاجر دراهم مسماة عددا بغير وزن وبغير عينها فهو فاسد ومراده في الدراهم
[ 42 ]
سطر 135:
[ 45 ]
يظهر أن مراده من ذكر المدة الاستعجال لاتسمية المقدار المعقود عليه من المنفعة وحرف في للظرف والمظروف وقد يشغل جزءا من الظرف لاجميعه وعلى هذا الخلاف لو استأجر دابة من الكوفة إلى بغداد ثلاثة أيام بأجر مسمى فذكر المدة والمسافة والعمل وكذلك لو استأجره ينقل له طعاما معلوما من موضع من اليوم إلى الليل فهو على الخلاف الذي بينا وان استأجر عبدا شهرا بأجر مسمى على انه ان مرض فعليه أن يعمل بقدر الايام التى مرض فيها من الشهر الداخل فهذا فاسد لجهالة مدة الاجارة فلا يدري في أي مقدار من الشهر يمرض ليدخل في العقد بقدر ذلك من الشهر الداخل ثم هذا الشهر يخالف مقتضي العقد لان مقتضى العقد انتهاؤه بمضي المدة تمكن من استيفاء المعقود عليه أو لم يتمكن وهذا الشرط يخالف ذلك وان استأجر بيتا شهرا بعشرة دراهم على انه ان سكنه يوما ثم خرج عليه عشرة دراهم فهذا فاسد لان هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد لان مقتضى العقد انه متى خرج بعذر لا يلزمه الاجر ثم مقدار أجر منفعة البيت في اليوم الاول مجهول أنه ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم وكذلك ان استأجر دابة بعشرة دراهم إلى بغداد على أنه ان بلغ قرية كذا ثم بدا له أن يرجع فله الاجر كاملا فهذا فاسد لجهالة مقدار الاجر إلى الموضع الذي سمى ولان الشرط يخالف مقتضى العقد وان استأجر دابة ليحمل عليها حمل كذا بأجر معلوم إلى موضع كذا على انه ان حمل عليها كذا من الحمل فحمل غير ذلك إلى ذلك المكان ولم يحمل الاول فاجرها كذا فهو فاسد في قول أبى حنيفة رحمه الله الاول وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وهو جائز في قوله الاخر على ما شرطا وكذلك لو استأجر أرضا ليزرعها حنطة بخمسين درهما وان زرعها سمسما فاجرها مائة درهم فهو على هذا الخلاف. وكذلك ان استأجر بيتا على انه ان أسكنه بزازا فاجره خمسة وان أسكنه قصارا فاجره عشرة وجه قوله الاول أن المعقود عليه مجهول والبدل بمقابلته مجهول فالضرر يختلف بسكن القصار والبزاز وهما عقدان في عقد ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} عن بيعين في بيع أرأيت لو سلم إليه البيت فلم يسكنه أصلا حتى مضت المدة فماذا يوجب عليه خمسة أو عشرة ووجه قوله الآخران كل نوع من المنفعة معلوم بالتسمية والبدل بمقابلته معلوم فيصح العقد وهذا لان الاجر لا يجب بنفس العقد وانما يجب باستيفاء المنفعة وعند ذلك لاجهالة في المعقود عليه ولافي البدل فاما إذا لم يسكنها فقال بعض مشايخنا رحمهم الله ينبغى على قياس قوله الاخر أن يلزمه نصف
[ 46 ]
سطر 156:
[ 52 ]
لالتزامه ذلك القدر من الضرر وان استأجره ليبنى له حائطا بالرهص وشرط عليه الطول والعرض والارتفاع فهو جائز لان العمل بما سمى يصير معلوما عند أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت والله أعلم بالصواب (باب اجارة الرقيق في الخدمة وغيرها) (قال رحمه الله واذ استأجر عبدا للخدمة كل شهر باجر مسمى فهو جائز) لانه عقد متعارف وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يباشروا ذلك فهو عمل مباح معلوم في نفسه فيجوز الاستئجار عليه وله أن يستخدمه من السحر الا أن تنام الناس بعد العشاء الاخيرة لان بمطلق التسمية يستحق ما هو المتعارف وابتداء الاستخدام من وقت السحر متعارف فمن يبتكر يحتاج إلى أن يسرج الخادم ويهيأ أمر طهوره ويرفع فراش نومه ويبسط ثوب تعبده وكذلك إلى ما بعد العشاء الاخيرة قد يجلسون ساعة خصوصا في زمن طول الليالى ثم يحتاج إلى خادم يبسط فراش نومه ويطوى ثيابه ويطفئ السراج فلهذا كان له أن يستخدمه إلى هذا الوقت وانما يخدمه كما يفعل الناس فما يكون اعمال الخدمة معلوم عند الناس يطلبون ذلك من المماليك والخدم ولا يكلفونهم فوق ذلك فكذلك في وسط الليل الاستخدام غير متعارف ولايكون له أن يكلفه ذلك ويكره له أن يستأجر امرأة حرة أو أمة يستخدمها ويخلو بها لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فان ثالثهما الشيطان ولانه لا يأمن من الفتنة على نفسه أو عليها إذا خلا بها ولكن هذا النهى لمعنى في غير العقد فلا يمنع صحة الاجارة ووجوب الاجر إذا عمل كالنهي عن البيع وقت النداء وإذا استأجر العبد كل شهر بكذا ففي قوله أبى حنيفة رحمه الله الاول يطالبه بالاجر شهرا فشهرا وفي قوله الاخر يوما بيوم وقد بينا نظيره وان دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهر مسماة في تعليم النسخ على أن يعطيه المولى كل شهر شيئا مسمى فهو جائز لانها استأجره ليتعلم عنده وتعليم الاعمال معلوم عند أهل الصنعة فيصح الاستئجار عليه عند بيان المدة وان كان الاستاذ هو الذي شرط للمولى أن يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز لانه يستخدم الغلام ويستعمله في حوائجه واستأجره مدة معلومة بما سمى من البدل وتعليم العمل وكل واحد منهما يصلح عوضا عند الانفراد فكذلك عند الجمع بينهما وكذلك تعليم سائر الاعمال وتعليم الخط والهجاء والحساب
[ 53 ]
سطر 165:
[ 55 ]
إلى أجنبي آخر وان كان العبد هو الذي أجر نفسه فهو بريئ من الاجر لانه هو العاقد واليه قبض البدل بحكم العقد وله أن يكلفه كل شئ من خدمة البيت ويأمره أن يغسل ثوبه وان يخيط ويخبز ويعجن إذا كان يحسن ذلك ويعلق على دابته وينزل بمتاعه من ظهر بيت أو يرقى به إليه ويحلب شاته ويستقى له من ماء البئر فهذا كله يعد من الخدمة وما يكون من الخدمة معلوم عند الناس باعتبار العادة وفي اشتراط تسمية كل ذلك عند العقد حرج والحرج مدفوع وليس له أن يقعده خياطا ولافي صناعة من الصناعات وان كان حاذقا في ذلك لانه استأجره للخدمة وهذا العمل من التجارة ليس من الخدمة في شئ وليس على المستأجر إطعامه الا أن يتطوع بذلك أو يكون فيه عرفا ظاهرا فله أن يأمره بخدمة أضيافه لان ذلك من خدمته فالانسان يستأجر الخادم لينوب عنه فيما هو من حوائجه وخدمة أضيافه من جملة حوائجه وله أن يؤاجره من غيره للخدمة لان هذا مما لا يتفاوت الناس فيه عادة كسكنى الدار ونحوه ولان العبد عاقل لا ينقاد إذا كلف فوق طاقته وبعد الطاقة لافرق بين أن يستخدمه المستأجر الاول والثاني. وان تزوج المستأجر امرأة فقال لها اخدميني وعيالي فله ذلك لان خدمة العيال من حوائجه وانما يستأجر الخادم في العادة لذلك وكذلك المرأة ان كانت هي المستأجرة فتزوجت فقالت اخدمني وزوجي فلها ذلك لانه من حوائجها وهو أظهر فخدمة الزوج عليها فانما استأجرته لينوب عنها فيما يحق عليها وان استأجرت امرأة رجلا ليخدمها فهو جائز وأكره أن يخلو بها حرا كان أو عبدا لما فيه من خوف الفتنة وإذا استأجر الرجل أمرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لم يجز لان خدمة البيت مستحقة عليها دينا ومطلوب منها بالنكاح عرفا على ماروى أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} لما زوج فاطمة من علي رضى الله عنهما جعل أمور داخل البيت عليها وأمور خارج البيت عليه ولان الشرع ألزمه نفقتها لتقوم بخدمة بيته فلا تستحق مع ذلك أجرا آخر وان سمى وان استأجرها لترضع ولدا له من غيرها أو لترعى دوابه أو تعمل عملا سوى خدمة البيت فهو جائز لان هذا العمل غير مستحق عليها ولا مطلوب بالنكاح منها وان استأجرت المرأة زوجها ليخدمها فهو جائز لان خدمتها غير مستحقة على الزوج وقال في كتاب الاثار له أن يمتنع من الخدمة لانه يلحقه مذلة بأن يخدم زوجته وذلك عذر في فسخ الاجارة كالحرة إذا أجرت نفسها للظؤرة ولم تكن معروفة بذلك ولو خدمها كان له الاجر عليها وكذلك لو استأجرته يرعى غنمها أو يقوم على عمل لها فانه في ذلك كاجنبي آخر وان استأجر الرجل ابنه
[ 56 ]
سطر 180:
[ 60 ]
جل جلاله انى جاعل في الارض خليفة وأثبت ذلك لداود عليه السلام فقال عزوجل يا داود انا جعلناك خليفة في الارض وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الانبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون وقال الله تعالى وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وهذا لان في القضاء بالحق اظهار العدل وبالعدل قامت السموات والارض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل وانصاف المظلوم من الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ولاجله بعث الانبياء والرسل صلوات الله عليهم وبه اشتغل الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم وقد دل على جميع ما قلنا الحديث الذي بدأ به محمد رحمه الله الكتاب ورواه عن أبى بكر الهذلى عن أبى المليح عن أسامة الهذلى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى أبى موسى الاشعري رضى الله عنه أما بعد فان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة وما كتب عمر إلى أبى موسى رضى الله عنهما عند الناس يسمونه كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم وقوله أما بعد أي بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وهذه الكلمة علامة بها يعرف تحول الكاتب إلى بيان مقصوده من الكتاب وعد من فصل الخطاب قيل في تأويل قوله تعالى وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب الحكمة النبوة وفصل الخطاب أما بعد وقال قتادة الحكمة الفقة وفصل الخطاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر وقوله فان القضاء فريضة محكمة أي مقطوع بها ليس فيها احتمال نسخ ولا تخصيص ولا تأويل فتفسير الحكم هذا بيانه في قوله تعالى آيات محكمات هن أم الكتاب ومنه يقال بناء محكم والفرض هو التقدير والقطع قال الله تعالى سورة أنزلناه وفرضناها وقوله سنة متبعة أي طريقة مسلوكة في الدين يجب اتباعها على كل حال فالسنة في اللغة الطريقة وما يكون متبعا منها فأخذها هدى وتركها ضلالة (قال) فأفهم إذا أدلى اليك الخصمان والادلاء رفع الخصومة إلى الحاكم والفهم اصابة الحق فمعناه عليك ببذل المجهول في اصابة الحق إذا أدلي اليك وقيل معناه اسمع كلام كل واحد من الخصمين وافهم مراده وبهذا يؤمر كل قاضي لانه لا يتمكن من تمييز الحق من المطبل الا بذلك وربما يجرى على لسان أحد الخصمين ما يكون فيه اقرار بالحق لخصمه فإذا فهم القاضى ذلك أنفذه وإذا لم يفهم ضاع واليه أشار في قوله فانه لا ينفع تكلم بحق ولانفاذ له وقيل المراد استمع إلى كلام الشهود وأفهم مرادهم فانهم يتكلمون بالحق بين يديك وانما يظهر منفعة ذلك لتنفيذ القاضى
[ 61 ]
إياه ثم أس بين الناس معناه سوبين الخصمين فالتأسي في اللغة التسوية قال قائلهم - فلولا كثرة الباكين حولي * على اخوانهم لقتلت نفسي - وما يبكون مثل أخى ولكن * أعز النفس عنهم بالتأسي وفيه دليل أن على القاضي أن يسوى بين الخصوم إذا تقدموا إليه اتفقت مللهم أو اختلفت فاسم الناس يتناول الكل وانما يسوى بينهم فيما أشار إليه في الحديث فقال في وجهك ومجلسك وعدلك يعنى في النظر إلى الخصمين والاقبال عليهما في جلوسهما بين يديه حتى لا يقدم أحدهما على الآخر وفي عدله بينهما وبالعدل أمر وحكى أن أبا يوسف رحمه الله قال في مناجاته عند موته اللهم ان كنت تعلم انى ما تركت العدل بين الخصمين الا في حادثة واحدة فاغفرها لي قيل وما تلك الحادثة قال ادعى نصراني على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكني أن آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ولكني رفعت النصراني إلى جانب البساط بقدر ما أمكنني ثم سمعت الخصومة قبل ان أسوى بينهما في المجلس فهذا كان جورى ليعلم أن هذا من أهم ما ينبغى للقاضي أن ينصرف إليه في العناية لما أشار إليه في الحديث فقال لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك والحيف هو الظلم قال الله تعالى أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله فإذا قدم الشريف طمع في ظلمه وانكسر بهذا التقديم قلب خصمه الضعيف فيخاف الجوز وربما يتمكن للشريف عند هذا التقديم من التلبس ويعجز الضعيف عن اثبات حقه بالحجة والقاضي هو المسبب لذلك باقباله على أحدهما وتركه التسوية بينهما في المجلس ويصير به متهما بالميل أيضا وهو مأمور بالتحوز عن ذلك بأقصى ما يمكنه (قال) البينة على المدعى واليمين على من أنكر وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وعد من جوامع الكلم على ما قال صلوات الله وسلامه أوتيت جوامع الكلم واختصر لى اختصارا وقد أملينا فوائد هذين الحديثين في شرح كتاب الدعوى (قال) والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما وهذا أيضا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وفيه دليل جواز الصلح واشارة إلى أن القاضى مأمورا بدعاء الخصمين إلى الصلح قد وصف الله تعالى الصلح بأنه خير فقال عزوجل والصلح خير وذلك دليل النهاية في الخيرية ويستدل الشافعي رحمه الله بظاهر الاستثناء في ابطال الصلح مع الانكار (قال) هو صلح حرم حلالا وأحل حراما لان المدعى إذا كان مبطلا فأخذ المال كان حرام عليه والصلح يحل له ذلك
[ 62 ]
سطر 189:
[ 63 ]
وقس الامور عند ذلك فهو دليل جمهور الفقهاء رحمهم الله على ان القياس حجة فان الحوادث كلها لا توجد في الكتاب والسنة بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر ثم (قال) وأعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما نرى وهذا هو طريق القياس أن ترد حكم الحادثة إلى أقرب الاشياء معنى ولكن انما يعتبر السنة في المعنى الذي هو صالح لاثبات ذلك الحكم به ثم (قال) أجعل للمدعى أمدا ينتهى إليه فان أحضر بينة آخذ بحقه والا وجهت القضاء عليه فان ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر وفيه دليل على أن القاضي عليه أن يهمل كل واحد من الخصمين بقدر ما يتمكن من اقامة الحجة فيه حتى إذا قال المدعى بينتي حاضرة أمهله ليأتي بهم فربما لم يأت بهم في المجلس الاول بناء على أن الخصم لا ينكر حقه لوضوحه فيحتاج إلى مدة ليأتي بهم وبعد ما أقام البينة إذا ادعى الخصم الدفع أمهله القاضي ليأتي بدفعه فانه مأمور بالتسوية بينهما في عدله وليكن امهاله على وجه لا يضر بخصمه فان الاستعجال اضرار بمدعي الدفع وفي تطويل مدة امهاله اضرار بمن أثبت حقه وخير الامور أوسطها وقوله فان أحضر بينته آخذ بحقه والاوجهت القضاء عليه ان كان مراده دعوى الدفع فهو أوضح لانه إذا عجز عن اثبات ما ادعي من الدفع وجه القاضي إليه القضاء ببينه المدعى وما لم يظهر عجزه عن ذلك لا يوجه القضاء عليه لان الحجه انما تقوم عليه إذا ظهر عجزه عن الدفع بالطعن والمعارضة وان كان مراده جانب المدعي فمعنى قوله وجهت القضاء عليه ألزمته الكف عن أذى الناس والخصومة من غير حجة وقوله فان ذلك أجلى للعمى لازالة الاشتباه وأبلغ في العذر للقاضى عند من توجه القضاء عليه لانه إذا وجه القضاء عليه بعد ما أمهله حتى يظهر عجزه عن الدفع انصرف من مجلسه شاكرا له ساكتا وإذا لم يمهله انصرف شاكيا منه يقول مال إلى خصمى ولم يستمع حجتى ولم يمكني من اثبات الدفع عنده ثم قال والمسلمون عدول بعضهم على بعض وقد نقل هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وهو دليل لابي حنيفة رحمه الله على جواز القضاء بشهادة المستور قبل السؤال عنه إذا لم يطعن الخصم وصفة العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار اعتقاده فان دينه يمنعه من الاقدام على ما نعتقد الحرمة فيه فيدل على انه صادق في شهادته فالكذب في الشهادة محرم في اعتقاد كل مسلم قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} في خطبته عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله تعالى ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور ثم قال الا مجلودا حدا قيل المراد من ظهر عليه ارتكاب كبيرة باقامة حد تلك الكبيرة عليه فالحدود مشروعة في ارتكاب الكبائر وبظهور ذلك عليه
[ 64 ]
تنعدم العدالة الثابتة ما لم تظهر توبته وانزجاره عنه وقيل المراد المحدود في القذف وقد ذكره في بعض الروايات الا مجلودا حدا في قذف فهو دليل لنا على أن المحدود في القذف لاتقبل شهادته وان تاب وان العدالة المعتبرة لاداء الشهادة تنعدم باقامة حد القذف عليه كما أشار الله تعالى إليه في قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ثم قال أو محرما عليه شهادة زور فانه إذا عرف منه شهادة الزور فقد ظهر منه الجناية في هذه الامانة ومن ظهرت جنايته في شئ لا يؤتمن على ذلك ولانه ظهر منه ارتكاب الكبيرة على ماروى ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال أكبر الكبائر الاشراك بالله تعالى وعقوق الوالدين ألا وقول الزور فما زال يقول ذلك حتى قلنا ليته سكت ثم (قال) لو ظننا في ولاء أو قرابة أي منهما بسبب قرابة أو ولاء وهو الموالات فهو دليل على أن شهادة الوالد لولده لا تكون مقبولة وهو دليل لنا على أن شهادة أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل فالزوجية من أقوى أسباب الموالاة وهو مما يجعل كل واحد منهما مائلا إلى صاحبه وقد أشار إلى نفس الولاء والقرابة انهما لا يقدحان في العدالة ولكن إذا تمكنت التهمة حينئذ يمتنع العمل بالشهادة حتى قيل في معناه إذا ظهر منه الميل إلى مولاه وقرابته في كل حق وباطل حتى يؤثره على غيره وهو تفسير القالع بأهل البيت كما ذكره في الحديث المرفوع ثم (قال) فان الله تعالى تولى منكم السرائر يعنى أن المحق والمبطل ليس للقاضي طريق إلى معرفته حقيقة فان ذلك غيب ولا يعلم الغيب الا الله تعالى ولكن الطريق للقاضي العمل بما يظهر عنده من الحجة واليه أشار في قوله ودرأ عنكم بالبينات يعنى درأ عنكم اللوم في الدنيا والاثم والعقوبة في الاخرة وهو معنى الحديث المروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال القضاء جمرة فادفع الجمر عنك بعودين يعنى شهادة الشاهدين ثم قال اياك والضجر والقلق وهما نوعان من اظهار الغصب فالقلق الحدة والضجر رفع الصوت في الكلام فوق ما يحتاج إليه والقاضى منهى عن ذلك لانه يكسر قلب الخصم به ويمنعه من اقامة حجته ويشتبه على القاضي بسببه طريق الاصابة وربما لا يفهم كلام أحد الخصمين عند ذلك (قال) والبادى بالناس يعنى اظهار البادين بكثرة الخصوم بين يديه واظهار الملال منهم والمراد البادي بما يسمع من بعض الخصوم مما لا حاجة به إليه فقد يطول أحد الخصمين كلامه ولكن لا ينبغى للقاضي أن يظهر البادي بذلك ما لم يجاوز الحد فإذا تكلم بما يرجع إلى الاستخفاف بالقاضي أو يذهب به حشمة مجلس القضاء فحينئذ يمنعه عن ذلك ويؤديه عليه ثم (قال) والتنكر للخصوم وهو أن يقطب وجهه إذا تقدم إليه
[ 65 ]
خصمان فان فعل ذلك مع أحدهما فهو جوز منه وان فعله معهما ربما عجز المحق عن اظهار حقه فذهب وترك حقه (ألا ترى) إلى قوله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ثم قال في مواطن الحق التى يوجب الله تعالى بها الاجر ويحس بها على الذخر يعنى في مجلس الحكم فالحلم وترك الضجر والقلق واظهار البشر مع الناس محمود في كل موضع وفي مجلس القضاء البشر وطلاقة الوجه أولى بعد أن يكون فعله ذلك لوجه الله تعالى كما قال فانه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس والى نحوه أشار صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قوله من أخلص سريرته أخلص الله علانيته ثم قال ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه يسبه يعنى إذا راآ بعمله والمرآة مذمومة حرام على كل أحد وهو في حق القاضى آكد لانه غير محتاج إلى ذلك وانما يفعل المرء ذلك عند حاجته ولانه يقلد القضاء ليكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فيما يحكم به بين الناس فينبغي أن يكون أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وهو كان أبعد الناس عن المرآة والنفاق وقوله يسبه الله أي يفضحه الله تعالى على رؤوس الاشهاد قال النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} من راآ راآ الله به ومن سمع سمع الله به ثم قال فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته معناه أي ان المرائى بعمله يقصد اكتساب محمد أو منال شئ مما في أيدى الناس وما يفوته به إذا ترك الاخلاص من ثواب الله تعالى فالعاقل إذا قابل ما هو موعود له من الله تعالى عند التقوى والاخلاص بما يطمع فيه من جهة الناس ترجح ما عند الله تعالى لا محالة وذلك عاجل الرزق كما قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب والمغفرة والرحمة كما قال الله تعالى ان رحمة الله قريب من المحسنين أي المتقين المخلصين فالحديث من أوله إلى آخره دليل على ان للقاضى أن يستشعر التقوى فيما يفعل فهو ملاك الامر قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} ملاك دينكم الورع وقال التقى ملجم وعن عامر قال كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى معاوية رضى الله عنه أما بعد فانني كتبت كتابا في القضاء ما لم آلك ونفسي فيه خيرا وفيه دليل ان الامام ينبغى له أن يكتب إلى عماله في كل وقت يوصهم وقد كان معاوية رضى الله عنه عامله بالشام فكتب إليه في القضاء بهذا الكتاب وبين أنه لم يقصر بل بالغ في اكتساب الخير لنفسه وله ثم ان عمر رضى الله عنه قال الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ فيه بافضل خطك إذا تقدم اليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضى الذي لا يعلم الغيب فمن تمسلك
[ 66 ]
به سلم له دينه ونال أفضل الحظ من المحمدة في الدنيا والثواب في الاخرة فمعنى اليمين القاطعة للخصومة والمنازعة ثم قال وأدن الضعيف حتى يشتد قبله وينبسط لسانه ولم يرد بهذا الامر تقديم الضعيف على القوي وانما أراد الامر بالمساواة لان القوي يدنو بنفسه لقوته والضعيف لا يتجاسر على ذلك والقوى يتكلم بحجته وربما يعجز الضعيف عن ذلك فعلى القاضى أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوي قلبه وينبسط لسانه فيتكلم بحجته ثم قال وتعاهد الغريب فانك ان لم تعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء فان الغريب قلبه مع أهله فينبغي للقاضى أن يقدمه في سماع الخصومة ليرجع إلى أهله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يأمر بتعاهد الغرباء وقيل مراده ان الغريب منكسر القلب فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن اظهار حجهته فيترك حقه ويرجع إلى أهله والقاضى هو المسبب لتضييع حقه حين لم يرفع به رأسه ثم قال وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن ذلك فصل القضاء وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصوم إلى الصلح خصوصا في موضع اشتباه الامر وبه كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فيقول ردوا الخصوم كى يصطلحوا فان فصل القضاء يورث بينهم الضغائن وعن شريح رحمه الله أن عمر رضى الله عنه كتب إليه أن لا يشار ولا يضار ولا يبيع ولا يبتاع في مجلس القضاء ولا ترتشى ولا تقضى بين اثنين وأنت غضبان أما قوله لا يشار منهم من يروى بالشين قالوا المراد المشورة أنه لا ينبغى للقاضى في مجلس القضاء أن يشتغل بالمشورة وليكن ذلك في مجلس آخر فانه إذا اشتغل بالمشورة في مجلس القضاء ربما يشتبه طريق الفصل عليه وربما يظن جاهل أنه لايعرف حتى يسأل غيره فيزدرى به وقد وقع مثل هذا لعمر رضى الله عنه في حادثة بيناها في المناسك والاظهر بالشين لا يشار معناه لا يشار أحد الخصمين لان ذلك يقصر قلب الخصم الاخر ويلحق به تهمة الميل من حيث ان خصمه يظن أنه فيما يشار بصابعه على رشوة ولذلك لا يشار غير الخصمين في مجلس القضاء لان مجلس القضاء يجمع الناس ومشارة الاثنين في مثل هذا المجلس تؤدى إلى فتنة الآخرين قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فان ذلك يحرفه وقوله لا يضار من الضرر أي لا يقصد الاضرار بالخصوم في تأخير الخروج ولا ينغص الخصوم في استعجاله ليعجز عن اقامته حجته وفي رفع الصوت عليه أو في أخذه يسقط من كلامه ان زل فلمجالس القضاء من المهابة والحشمة ما يعجز كل
[ 67 ]
أحد عن مراعاة جميع الحدود في الكلام فإذا لم يعرض القاضى عن بعض ما يسمع كان ذلك منه مضارة والقاضى منهى عن ذلك وفيه دليل على أنه لا يشتغل بالبيع والشراء في مجلس القضاء لان بذلك ينقص حشمة مجلس القضاء ولانه مجلس اظهار الحق وبيان أحكام الدين فلا ينبغى أن يخلط به شيئا من عمل الدنيا وقوله لا يرتشى المراد الرشوة في الحكم وهو حرام قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} الراشى والمرتشي في النار ولما قيل لابن مسعود رضي الله عنه الرشوة في الحكم سحت قال ذلك الكفر انما السحت ان ترشو من تحتاج إليه امام حاجتك وفي قوله ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان دليل على أن القاضي ينبغى أن لا يشتغل بالقضاء في حال غضبه ولكنه يصبر حتى يسكن ما به فانه مأمور بان يقضى عند اعتدال حاله ولهذا ينهى عن القضاء إذا كان جائعا أو كظيظا من الطعام أو كان يدافع الاخبثين لانه ينعدم به اعتدال الحال فكذلك بالغضب ينعدم اعتدال الحال وربما يجري على لسانه في غضبه مالا ينبغي أن يسمع الناس ذلك منه وربما يتغير لونه على وجه لا ينبغى أن يراه الناس على تلك الصفة أو إذا ظهر به الغضب عجز صاحب الحق عن اظهار حقه بالحجة خوفا منه ولهذا قلنا يقوم أو ينحى الناس عن قربه حتى يسكن ما به وهذا إذا كان يعتريه ذلك في بعض الاوقات فان كان ذلك من عادته وذلك نوع من الحدة التى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} انها تعترى خيار أمتى فلا يكف عند ذلك عن القضاء لانه يلتبس به عقله ويشتبه عليه وجه القضاء بخلاف ما يعتريه من الغضب في بعض الاوقات وعن عمر رضى الله عنه أنه دعا قاضيا كان بالشام حديث السن فقال له بم تقضى قال أقضي بما في كتاب الله تعالى قال فإذا لم تجد في كتاب الله تعالى قال أقضى بما قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} الحديث وفيه دليل على أنه يجوز أن يقلد القضاء من هو حديث السن إذا كان عالما فقد كان عمر رضى الله عنه أكثر الناس نظرا في ذلك ثم قلده مع حداثة سنه وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} عتاب بن أسيد رضى الله عنه إلى مكة قاضيا وأميرا وكان حديث السن ويحكى أن المأمون قلد يحيى بن أكثر قضاء البصرة وكان ابن ثمان عشرة سنة فطعن بعض الناس في ذلك لحداثة سنه فكتب إليه المأمون كم سن القاضى فكتب في جوابه أنا على سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وكان عمر رضى الله عنه بلغه مثل هذا الطعن في مثل هذا القاضى لحداثة سنه فامتحنه بالعلم فقال بم تقضى قال أقضى بما في كتاب الله تعالى وأصاب في ذلك لان كتاب الله تعالى امام
[ 68 ]
المتقين انزل للعمل به قال فإذا لم تجد في كتاب الله قال أقضى بما قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وأصاب في ذلك أيضا قلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أسوة حسنة وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به قال فإذا لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال أقضى بما قضي به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد أصاب في ذلك أيضا فقد أمرنا بالاقتداء بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} اقتدوا باللذين من بعدى ابى بكر وعمر رضى الله عنهما وقال النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ قال فإذا لم تجد ذلك في قضائهم قال اجتهد رأيى وأصاب في ذلك فالقاضي مأمور بأن يجتهد رأيه فيما لانص فيه وهو دليلنا على جواز العمل بالقياس فيما لانص فيه فاجتهاد الرأى هو القياس يرد حكم الحادثة إلى أشباهها مما هو منصوص وإذا جاز اجتهاد الرأى في باب القبلة عند الاشتباه وانقطاع الادلة وفي المعاملات من الحروب وغير ذلك فكذلك في القضاء فلما أصاب في جميع ما أجاب قال له عمر رضى الله عنه أنت قاضيها أي أنى لا أعز لك عن القضاء مادمت على هذه الطريقة وفيه دليل أن الامام إذا علم من حال من قلده انه صالح لذلك ينبغى أن يقرره على العمل ولا يعزله بطعن بعض المتعنتين ما لم يتبين له شئ مما لا يحمد من السيرة منه وعن أبى مسعود رضى الله عنه قال لقد أتي علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هنالك ثم قضى الله تعالى ان بلغنا من الامر ما يرون قيل هذا إشارة منه إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقد كان الوحى ينزل وكان عليه الصلاة والسلام يبين لهم فكانوا لا يحتاجون فيه إلى ابن مسعود رضى الله عنه وغيره وقيل بل مراده الاشارة إلى زمن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم متوافرين في ذلك الوقت وما كان يحتاج إلى ابن مسعود رضى الله عنه وقيل هذا منه إشارة إلى حال صغره وجهله وانما قصد بهذا التحدث بنعمة الله تعالى حيث رفعه من تلك الدرجة إلى ما بلغه إليه لانه قال هذا حين كان بالكوفة وله أربعة آلاف تلميذ يتعلمون بين يديه حتى روى أنه لما قدم على رضى الله عنه بالكوفة وخرج إليه ابن مسعود رضى الله عنه مع أصحابه حتى سدوا الافق فلما رآهم على رضى الله عنه قال ملات هذه القرية علما وفقها قال فمن ابتلى منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله تعالى وفي هذا إشارة إلى ان التحرز عن تقلد القضاء أولى فقد عده ابن مسعود رضى الله عنه من البلوى نقوله فمن ابتلى منكم وهو اختيار أبى حنيفة رحمه الله فانه تحرز
[ 69 ]
عن تقلد القضاء بعد ما حبس وضرب لاجله مرارا حتى قال بعض أصحابه رحمهم الله لو تقلدت نفعت الناس فنظر إليه شبه المغضب وقال لو أمرت أن أقطع البحر سباحة اكنت أقدر على ذلك وكانى بك قاضيا ومن اختار تقلد القضاء قال هذا اللفظ من البلاء الذي هو نعمة قال الله تعالى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا وانما أراد من أنعم الله تعالى عليه بهذه الدرجة فليقض بما في كتاب الله تعالى وبذلك كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فيقول انى تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعال وعترتي أهل بيته الاقربون والابعدون فان تمسكتم بهما لم تضلوا قال فان لم يجد ذلك في كتاب الله تعالى فليقض بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وبذلك كان يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حين قال لابي رواحة رضى الله عنه في حادثة أما كان لك في أسوة فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} انى لاأرجو أن أكون أخشاكم لله قال فان لم يجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فليقض بما قضى الصالحون يعنى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كما جاء في الحديث إذا ذكر الصالحون فحيعلا بعمر قال فان لم يجد فليجتهد رأيه ولا يقولن انى أرى وأنى أخاف وفيه دليل على أن للقاضى أن يجتهد فيما لانص فيه وانه لا ينبغى أن لا يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ فان ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه فكما لا ينبغى له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص لا ينبغى له أن يدع الاجتهاد فيما لانص فيه ثم بين طريق الحق في ذلك بقوله فان الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى مالا يريبك وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} رواه الحسن رحمه الله وفيه بيان أن المجتهد إذا لم يترك الاحتياط في موضع الريبة فهو مؤدى لما كلف أصاب المطلوب باجتهاده أو أخطاء وهو ما نقل عن أبى حنيفة رحمه الله كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد أي مصيب في طريق الاجتهاد ابتداء وقد يخطي انتهاء فيما هو المطلوب بالاجتهاد ولكنه معذور في ذلك لما أتى بما في وسعه وذكر عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حين بعثنى إلى اليمين بم تقضي يا معاذ قلت بما في كتاب الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام فان لم تجد ذلك في كتاب الله تعالى قلت أقضى بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} فان لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قلت أجتهد رأيى فقال صلوات الله عليه وسلامه
[ 70 ]
الحمد لله الذي وفق رسول رسوله وفيه دليل على أن الامام إذا أراد أن يقلد الانسان القضاء ينبغى له أن يجربه فان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لما فعل ذلك بمعاذ رضي الله عنه مع انه كان معصوما فغيره بذلك أولى فكان هذا منه على وجه التعليم لامته ثم حمد الله تعالى حين ظهر من التجربة كما تفرس فيه وهكذا ينبغى للامام إذا بلغه عن عامل له ما يرضى به ان يعد ذلك نعمة من نعم الله تعالى عليه فليقابلها بالشكر وفيه دليل جواز اجتهاد الرأى والعمل بالقياس فيما لانص فيه من العلماء رحمهم الله من يقول جواز العمل بالقياس والاجتهاد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وما كان يجوز ذلك في حياته لان الوحى كان ينزل وهو كان يبين لهم ما كانوا يحتاجون إلى الاستنباط في ذلك الوقت والحكم يثبت بالنص مقطوعا به فلا يصار إليه في غير موضع الضرورة والصحيح عندنا ان كان ذلك جائز لهم في حياته صلى الله عليه وسلم{{ص}} كما بعده وحديث معاذ رضى الله عنه يدل عليه فان لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قوله بين يديه اجتهد رأئى ولما قال لعمرو بن العاص رضى الله عنه أقض بين هذين قال أقضي وأنت حاضر أو جالس قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} نعم قال على ماذا أقضى قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} على أنك إن اجتهدت فاصبت فلك أجران وان اخطأت فلك أجر واحد فقد جوز له صلى الله عليه وسلم{{ص}} الاجتهاد بحضرته وقد كان يشاورهم (ألا ترى) أنه شاورهم في أسارى بدر وأشار أبو بكر رضى الله عنه بالفداء وأخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وشاور السعدين رضى الله عنهما يوم الاحزاب في صلح بنى فزارة على بعض ثمار المدينة وأخذ بما أشارا به ولما أشار إليه أسيد بن خطير في النزول عند الماء يوم بدر أخذ برأيه في ذلك وكان صوابا وينبنى على هذا الفصل الاختلاف بين العلماء رحمهم الله في أنه صلى الله عليه وسلم{{ص}} هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه فيه فمنهم من يقول كان ينتظر الوحى وما كان يفصل بالاجتهاد والصحيح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان يجتهد وما كان يقر على الخطأ بيانه أنه لما شاور أبا بكر وعمر رضى الله عنهما في حادثة قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} قولا فانى فيما لم يوح إلى مثلكما وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه فقالت نعم قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} فدين الله أحق وهذا قول بالاجتهاد وقال عليه السلام لعمر رضى الله عنه في القبلة أرأيت لو تمضمت بماء ثم بحجته أكان يضرك وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} في بيان الصدقة على بنى هاشم أرأيت لو تمضمضت بماء أكنت شاربه فهذا ونحوه دليل أنه كان يقضي باجتهاده وما كان يقر على الخطأ فقضاؤه يكون
[ 71 ]
شريعة والخطأ لا يجوز أن يكون أصل الشريعة فعرفنا أنه ماكان يقر على الخطأ وبيان ذلك في قوله تعالى عفى الله عنك لم أذنت لهم الاية وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال إذا كان في القاض خمس خصال فقد كمل وان كان فيه أربع ولم يكن فيه واحدة ففيه وصمة وان كان فيه ثلاث ولم يكن فيه اثنين ففيه وصمتان وهذا عبارة عن النقصان والوصم كسر يسير وفوقه القصم ونظيره القنص بالانامل وفوقه القبض باليد وفوقه الاخذ وهو التناول قال فقال قائل ماهى يا أمير المؤمنين قال علم بما كان قبله وهو إشارة إلى مابينا في حق المجتهد قال ونزهة عن الطمع وهو مأخوذ من النزاهة فمن يتحرز عن شئ يقال هو يتنزه عن كذا والاظهر وتزهد عن الطمع من الزهادة فكل الفتنة للقاضى في طمعه فيما في أيدى الناس ولما امتحن عليا رضى الله عنه قاضيا قال له بم صلاح هذا الامر قال بالورع قال فيما فساده قال بالطمع قال حق لك أن تقضى فينبغي للقاضى أن يكون منزها عن الطمع ليأمن الفتنة ويخلص عمله لله تعالى قال وحكم عن الخصم يعنى ان يحكم في بعض ما يسمع من الخصوم مع قدرته على منعه وهو معنى قوله عمر رضى الله عنه لا يصلح لهذا الامر الا اللبن من غير ضعف القوى من غير عنف قال واستخفاف باللائمة معناه لا ينبغى للقاضى فيما يفصل من القضاء أن يخاف اللائمة من الناس فانه إذا خاب ذلك يتعذر عليه القضاء بالحق والى ذلك أشار الله تعالى في قوله ولا يخافون لوم تلائم وهذا لانه لابد أن ينصرف أحد الخصمين من مجلسه شاكيا يلوم القاضى مع أصدقائه على ماكان منه واليه أشار شريح رحمه الله حيث قيل له كيف أصبحت قال أصبحت وشطر الناس على غضبان فإذا تفكر القاضى واشتغل بالتحرز عن اللائمة يتعذر عليه فصل القضاء قال ومشاورة أولى الرأى وفيه دليل على ان القاضي وان كان عالما فينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أكثر الناس مشاورة لاصحابه رضى الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} المشورة تلقح العقول وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} ما هلك قوم عن مشورة قط وكان عمر رضى الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا إلى عليا وادعوا إلى زيد بن أبى كعب رضى الله عنهم فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغى للقاضى أن لا يدع المشاورة وان كان فقيها ولكن في غير مجلس القضاء على مابينا ان الاشتغال بالمشورة في مجلس القضاء ربما يحول بينه وبين
[ 72 ]
فصل القضاء ويكون سببا لازدراء بعض الجهال به وعن مسروق قال لان أقضى يوما بالحق أحب إلى من ان أرابط سنة فان مسروقا ممن يقدم تقلد القضاء على الامتناع عنه وقد كان السلف رحمهم الله في ذلك مختلفين وابتلي مسروق بالقضاء ومن دخل في شئ فانما يروي محاسن ذلك الشئ وقد بينا طريق أبى حنيفة رحمه الله في ايثار التحرز عن تقلد القضاء وانما قال مسروق ان القضاء يوما بالحق أحب إلى من أن أرابط سنة لما في اظهار الحق من المنفعة للناس ودفع الظلم عن المظلوم واتصال الحق إلى المستحق ومنع الظالم عن الظلم واليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قوله عدل ساعة خير من عبادة سنة وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لان يقام حد في أرض خير من أن تمطر السماء فيها أربعين صباحا وعن علي رضى الله عنه قال القضاة ثلاثة فاثنان في النار وواحد في الجنة فأما اللذان في النار فرجل علم علما فقضى بخلافه ورجل جاهل يقضي بغير علم وأما الاخر أتاه الله علما فقضي به فذلك في الجنة ولا شبهة في حق من قضى بخلاف ما علم فانه أقدم على النار عن بصيرة وكتم ما علم من الحق فكان فعله كفعل رؤساء اليهود وفيه نزل قوله تعالى عزوجل ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات وقال الله تعالى وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وأما الجاهل فما كان ينبغى له أن يتقلد القضاء ويلتزم اداء هذه الامانة لانه لا يقدر على ادائها الا بالعلم ففى التزام مالا يقدر على القيام به ظلم نفسه وبعد التقلد لاضرورة له إلى القضاء بغير علم لتمكنه من أن يتعلم أو يسأل العلماء ويقضى بفتواتهم فلهذا جعله في النار حين قضى بغير علم والذي قضى بعلمه أظهر الحق بحكمه وأنصف المظلوم من خصمه فهو في الجنة ومثل هذا لايعرف الا بالرأى فانما يحمل على أن عليا رضى الله عنه كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ولكنهم فيما يسمعون ربما يرفعون وربما يرسلون وعن أبى مسعود رضى الله عنه قال يجاء بالقاضي يوم القيامة وملك أخذ بقفاه ثم يلتفت فإذا أقبل أدفعه دفعة في مهواة أربعين خريفا وأهل الحديث يروون هذا الحديث يجاء بالقاضي العدل يوم القيام ليعلم أن حال من يعدل إذا كان بهذه الصفة فما ظنك في حال من يجوز في قوله وملك آخذ بقفاه إشارة إلى ما يلقى من الذل يوم القيالة وان كان عادلا في قضائه في الدنيا فانما يفهم من الاخذ بالقفاء في عرف الناس الاستخفاف والذل وقيل في تأويله أنه وان كان عادلا فقد نال بعض الوجاهة في الدنيا بسبب تقلد القضاء فلهذا له في الاخرة لما نال من الجاه في الدنيار بطريق هو طريق العمل للاخرة ومعناه قوله أدفعه في مهواة أربعين خريفا أي
[ 73 ]
دفعه على وجه في النار كما قال الله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم وكان المراد من هذا أن من نافق وأظهر ما يعلم الله منه خلافه فقد كان قصده من ذلك حفظ ماء وجهه يلقى في النار على وجهه ولا يستقر الا في قعر جهنم هو المراد من قوله في مهواة أربعين خريفا وهذا بيان في قوله تعالى ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار قال وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أنه قال من ابتلي أن يقضي بين اثنين فكانما يذبح نفسه بغير سكين والحصاف رحمه الله يروى هذا من ابتلى بالقضاء فكانما ذبح بغير سكين وفيه بيان التحريز عن طلب القضاء والتحرز عن التقلد فكل عاقل ممتنع من أن يذبح نفسه بغير سكين فينبغي أن يكون تحرزه عن طلب القضاء بتلك الصفة فذكر المثل من النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان للتقريب من الفهم (قال) رحمه وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول لا ينبغى أحد أن يزدرى بهذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي فقد حكى أن قاضيا روى له هذا الحديث فازدرى به وقال كيف يكون هذا ثم دعا في مجلسه بمن يسوى شعره فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه إذ عطس فأصابه الموسى فالقى رأسه بين يديه قال ومن ابتلى أن يقضى بين اثنين فلينصفهما في الكلام والنظر ولا ينبغى له أن يرفع صوته على احدهما مالا يرفع على الآخر وقد بينا فائدة هذا اللفظ وما يؤمر به للقاضي من التسوية وعن عامر أن أبى بن أبى كعب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما اختصما في شئ فحكما زيد ابن ثابت رضى الله عنه فأتياه في منزله قال زيد رضى الله عنه هلا أرسلت إلى يا أمير المؤمنين قال عمر رضى الله عنه في بيته يؤتى الحكم وفي هذا بيان أنه كان يقع بينهم منازعة وخصومة ولا يظن كل واحد منهم سوى الجميل وانما كان يقع ذلك عند اشتباه حكم الحادثة عليهم ويتقدمون إلى القاضي لطلب البيان لا للقصد إلى التلبيس والانكار ولهذا كان القاضى يدعي مفتيا وفيه دليل جواز التحكيم فقد حكما زيد ابن ثابت رضى الله عنهما وانما حكماه لفقهه فقد كان مقداما معروفا فيهم بذلك حتى روى أن ابن عباس رضى الله عنهما كان يختلف إليه وأخذ بركابه لما أراد أن يركب وقال هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا فقبل زيد رضى الله عنه يده وقال هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا وفيه دليل على أن الامام لا يكون قاضيا في حق نفسه فعمر رضى الله عنه في خصومة حكم زيد ابن ثابت رضى الله عنه وفيه دليل على أن من احتاج إلى العلم ينبغى له أن يأتي العالم في منزله وان كان وجيها في الناس ولا يدعوه إلى نفسه فان وجاهته بسبب الدين فيبقى ذلك له إذا عظم الدين والذهاب
[ 74 ]
إلى منزل العالم عند الحاجة إلى علمه من تعظيم الدين ولما استعظم ذلك زيد رضى الله عنه قال هلا أرسلت إلى يا أمير المؤمنين قال في بيته يؤتى الحكم وتأويل استعظام زيد رضى الله عنه أنه خاف فتنة على نفسه بسبب الوجاهة حين أتاه عمر رضى الله عنه في منزله وظن أنه أتاه زائرا وما أتاه محكما له راغبا في علمه فلهذا استعظم ذلك (ألا ترى) ان عمر رضى الله عنه بين له انه أتاه للتحكيم فقال في بيته يؤتى الحكم فأتى زيد لعمر رضى الله عنهما بوسادة وكان هذا منه امتثالا لما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قوله إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وقد بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لعدى بن حاتم ردأه حتى أتاه ولكن عمر رضى الله عنه لم يستحسن ذلك منه في هذا الوقت فقال هذا أول جورك وفيه دليل وجوب التسوية بين الخصمين في كل ما يتمكن القاضي منه وما كان ذلك يخفى على زيد رضى الله عنه ولكن وقع عنده ان الحكم في هذا ليس كالقاضي وان الخليفة في هذا ليس كغيره فبين له عمر رضى الله عنه ان الحكم في حق الخصمين كالقاضي (قال) وكانت اليمين على عمر رضى الله عنه فقال لابي ابن كعبر رضى الله عنه لو أعفيت امير المؤمنين من اليمين فقال عمر رضى الله عنه لا ولكن احلف فترك له ابى رضي الله عنه ذلك واهل الحديث يروون ان عمر رضى الله عنه قال لزيد رضى الله عنه وهذا ايضا يبين ان على الحكم أن يتحرز عن الميل إلى أحد الخصمين صريحا ودلالة وان مجلس الشفاعة غير مجلس الحكومة ثم فيه دليل على انه لا بأس للمرء ان يحلف إذا كان صادقا فقد رغب عمر رضى الله عنه في ذلك مع صلابته في الدين وان تحرز عن ذلك فهو واسع له ايضا كما روى ان عثمان رضى الله عنه امتنع عن ذلك وقال أخشى أن يوافق قدر يمينى فيقال اصبت بذلك ففيه دليل ان اليمين حق المدعي قبل المدعى عليه يستوفى بطلبه ويترك إذا ترك (ألا ترى) أن أبيا رضي الله عنه ترك له ذلك وبيان هذا فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} للمدعى ألك بينة فقال لا فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} ألك يمين وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال لا أحد الا في اثنين رجل اتاه الله مالا فهو ينفقه في طاعة الله ورجل أتاه علما فهو يعلمه ويقضى به ومعناه الحسد يضر الا في الاثنين فيكون في ذلك بيان ان الحسد مذموم يضر الحاسد الا فيما استثناه فهو محمود في ذلك وهذا ليس بحسد في الحقيقة بل هو غبطة والغبطة محمودة فمعنى الحسد هو ان يتمنى الحاسد ان تذهب نعمة المحسود عنه ويتكلف لذلك ومعنى الغبطة ان يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير ان يتكلف ويتمنى ذهاب ذلك عنه وهذا في أمر الدنيا غير مذموم ففى أمر الدين
[ 75 ]
أولى أن يكون محمودا والذي ينفق ماله في طاعة الله تعالى يكتسب الآخرة بدنياه والذي يعلم ويقضى به بالحق يكتسب المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمن يتمنى لنفسه مثل ذلك يكون محمودا على هذا المعنى فاما الحسد المذموم فهو ما قيل الحاسد جاحد لقضاء الواحد فهو أن يتكلف لذهاب ذلك عنه ويعتقد ان تلك نعمة في غير موضعها واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قوله لاينجو أحدكم من الحسد والظن والطيرة قيل وما المخلص من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} إذا حسدت فلا تبغ أي لا تتكلف لازالة النعمة عن المنعم عليه وإذا ظننت فلا تحقق وإذا نظرت فلا ترجع وعن سوار بن سعيد قال شهدت أنا ورجل عند شريح رحمه الله بشهادة ففيه صاحبي عن حجته أي عجز عن اظهار حجة وغفل عن ذلك فقلت له أتفسد شهادتى ان أعربت عنه فقال لافاعربت عنه فقضى له وانما قال هذا لان من يكون خصما في حادثة لاتقبل شهادته في تلك الحادثة فخاف إن أظهر حجته صاحبه أن يجعله خصما ويفسد شهادته فبين له شريح رحمه الله انه لا يصير خصما بهذا القدر إذا لم يوكله صاحبه به بل هو متبرع فيما يظهر من حجة صاحبه وليس فيه أكثر من أن يعين المدعى وما حضر مجلس القاضى الا لتعيين المدعى وتوصله إلى حقه فلا يفسد به شهادته وعن سوار قال اختصم قوم عند شريح رحمه الله فذكرت له ذلك فقال ما رأه فهم وسأذكر ذلك له الليلة فذكر ذلك له فقال ما فهمت فمرهم أن يرجعوا لى فرجعوا إليه فقضي لهم وفيه دليل على انه ينبغى لمن وقف على خطأ القاضي في قضائه أن ينبهه ولا يجاهره بذلك مراعاة لحشمته ولكنه يأمر أقرب الناس منه ليخبره بذلك في حال خلوته وفيه دليل ان القاضى إذا تبين له خطأ في قضائه ينبغى له أن يظهر رجوعه عن ذلك ولا يمنعه الاستيحاء عن الناس من ذلك ولا الخوف فالله تعالى يحفظه من الناس والناس لا يحفظونه من عذاب الله تعالى وعن مكحول قال لان أكون قاضيا أحب إلى من أن أكون خازنا يعنى أن خازن بيت المال عامل للمسلمين والقاضى كذلك الا ان الخازن يحفظ على المسلمين مالهم والقاضى يحفظ عليهم دينهم وتمكن الخازن من المال خوف الفتنة على نفسه بسببه أكثر من تمكن القاضى فلهذا آثر القضاء وقد بينا ان المتقدمين فيه من كان يؤثر تقلب القضاء على الامتناع منه وعن شريح رحمه الله قال ما شددت على لهواة خصم أي ما منعته من اظهار حجته وما قويت أحد الخصمين على الاخر بتلقين شئ قط ولهذا بقى في القضاء مدة طويلة وعن علي رضي الله عنه أنه أضاف رجلا فلما مكث اياما
[ 76 ]
قرب إليه في خصومة فقال له علي رضى الله عنه أخصم أنت فقال نعم فقال علي رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} نهانا أن نضيف الخصم إلا أن يكون خصموه معه وفيه دليل أنه لا بأس للامام أن يخص بعض الناس بالضيافة إذا لم يكن له خصومة وانه لا ينبغى له أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لان ذلك يكسر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل ولا بأس بأن يضيفهما جميعا لان تهمة الميل تنتفى عنه إذا سوى بينهما وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لعمرو بن العاص رضى الله عنه اقض بين هذين قال أأقضى وأنت حاضر أو جالس قال صلوات الله عليه وسلامه نعم قال على ماذا أقضى قال سلام الله عليه على انك ان اجتهدت فاصبت فلك عشر حسنات وان أخطأت فلك حسنة وفيه دليل لاهل السنة رحمهم الله المجتهد يصيب ويخطئ وعليه دل قوله تعالى ففهمناها سليمان والفهم هو اصابة الحق فقد خصه بذلك ففيه دليل على انه معذور وان أخطأ وهذا إذا لم يكن طريق الاصابة بينا هو مثاب على اجتهاده فان أصاب المطلوب بالاجتهاد فله ثواب الاجتهاد وثواب اظهار الحق بجهده وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فلك عشر حسنات وان أخطأ فله حسنة على اجتهاده إذا كان مصيبا في طريق الاجتهاد وان لم يصب المطلوب بالاجتهاد وعن عمر ان بن حصين رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ان الله تعالى مع القاضى ما لم يخف عملا يشدده للحق ما لم يرد غيره وهذا في كل عامل يبتغى بعمله وجه الله تعالى فالله تعالى يعينه على ذلك ويوفقه قال الله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لعبد الرحمن بن سمرة رضى الله عنه لا تسأل الامارة فانك ان تعطيها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أمنت عليها ثم هذا الوعد للقاضى ما لم يظلم عمدا فالحيف هو الظلم فإذا اشتغل به كله الله إلى نفسه وكذلك إذا أراد بعمله غير الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} فيما يأثر عن الله عزوجل أنا أغنى الشركاء عن الشركة فمن عمل لى عملا وأشرك فيه غيرى فهو كل لذلك الشريك وانا منه برئ قال وينبغى للقاضى أن ينصف الخصمين في مجلسهما وفي النظر اليهما وفي المنطق أي يسوى بينهما فالانصاف عبارة عن التسوية مأخوذ من المناصفة ففى كل ما يتمكن من مراعاة التسوية فيه فعليه ان يسوى بينهما في ذلك الا مالا يكون في وسعه الامتناع منه من النهى فعليه أن يظهر حجة أحدهما فهو غير مأخذ بذلك لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان يستوى في القسم بين نسائه ثم يقول اللهم هذا في
[ 77 ]
ما املك فلا تؤاخذني فيما لاأملك يعنى من الميل بالقلب إلى عائشة رضى الله عنها ولا ينبغى أن يرفع صوته على أحدهما مالا يرفعه على الآخر لان التسوية بينهما في ذلك ممكنة وتخصيص أحدهما برفع الصوت عليه تجر تهمة إليه وهو مكسر القلب من يرفع صوته عليه ولا ينطلق بوجهه إلى أحدهما في شئ من المنطق مالا يفعله بالآخر لانه يزداد به قوة وجراءة على الخصم ويطمع أن يميل بالرشوة إليه ولا ينبغى له أن يشد على عضد أحدهما ولا يلقنه حجته فان ذلك نوع من الخصومة وبين كونه قاضيا وخصما منافاة وهو مكسر لقلب الخصم وسبب لجر تهمة الميل إليه وهو انشاء الخصومة وانما جلس لفصل الخصومة لا لانشائها وينبغى له أن لا يشترى شيئا ولا يبتع في مجلس القضاء لنفسه لانه جلس للقضاء فلا يخلط به ما ليس من القضاء ومعاملته لنفسه في شئ ولان الانسان فيما يبيع ويشترى يماكس عادة وذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ويضع من جاهه بين الناس وفي قوله لنفسه إشارة إلى أنه لا بأس بأن يفعل ذلك في مجلس القضاء ليتيم أو ميت مديون فان ذلك من عمل القضاء وانما جلس لاجله ومباشرة ذلك في مجلس القضاء يكون أبعد عن التهمة منه إذا باشره في غير مجلس القضاء ولا بأس بأن يبيع ويشترى لنفسه في غير مجلس القضاء عندنا ومن العلماء رحمهم الله من كره ذلك للقاضى ويروون في ذلك حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال لا يبيع القاضي ولا يبتاع ولان العادة أن الناس يسامحون في المعاملة مع القضاء بين أيديهم خوفا منهم أو طعما فيهم فيكون من هذا الوجه في معنى من يأكل بدينه والمقصود يحصل إذا فوض ذلك إلى غيره ليباشر على وجه لا يعلم أنه يباشر ولكنا نقول نستدل بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} اشترى سراويل بدرهمين الحديث فقد باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} الشراء لنفسه وكان رؤساء القضاء والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يباشرون ذلك بأنفسهم حتى ان أبا بكر رضى الله عنه بعد ما استخلف حمل متاعا من متاع أهله إلى السوق ليبيعه ولانه بعد تقلد القضاء يحتاج لنفسه وعياله إلى ماكان محتاجا إليه قبل التقلد وبأن تقلد هذه الامانة لا يمتنع عليه معنى النظر لنفسه والقيام بمصالح عياله وتهمة المساحة موهونة أو هو نادر فلا يمتنع عليه التصرف لاجله ولان ذلك إذا لم تكن مباشرة هذا التصرف من عادة القاضي في كل وقت فأما إذا كان ذلك من عادته فقلما يسامح في ذلك فوق ما يسامح به غيره وتأويل النهي ان صح في مجلس القضاء ولا يسار أحد الخصمين بشئ لان ذلك يجر إليه تهمة الميل وينكسر بسببه قلب الآخر
[ 78 ]
سطر 237:
[ 79 ]
وسلم قال إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلا يدري لعله يريد أن يدعو فيسب نفسه ثم يقبل على القضاء وهو متفرغ له مستمع غير معجل للخصوم عن حجتهم لان الاستعجال يضر بالخصوم كما ان ترك النظر فيما يقيم من الحجة يضر به فكل واحد منهما من نوع الشر والاضرار وقد روينا ان القاضي لا يشار ولا يضار قال ولا يخوفهم فان الخوف مما يقطع حجة الرجل يعنى ان الخائف يعجز عن اظهار حجته وينبغى أن يكون القاضى مهيبا يحتشم منه ولكن لا ينبغى أن يكون مخيفا للناس يخافونه فان ذلك يمنعهم من اظهار الحق بالحجة والاصل في ذلك ماروى ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} صلى صلاة الفجر بمسجد الحيف فرأى رجلين لم يصليا معه فقال على بهما فأتى بهما وفرائصهما ترتعد فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لا تخافا فانما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد الحديث فان (قيل) أليس انه ذكر في سيرة عمر رضى الله عنه ان الناس كانوا يهابونه حتى قيل لابن عباس رضى الله عنهما لم لم يذكر قولك في القول لعمر فقال كان رجلا مهيبا فهبته أو قال خفت درته (قلنا) هذا لا يكاد يصح فان عمر رضي الله عنه كان ألين من غيره في قبول الحق وكان يشاورهم وربما كان يقدم قول ابن عباس رضى الله عنهما في الاخذ عند الشورى على قول بعض الكبار من الصحابة رضوان الله عليهم ثم كون القاضى مهيبا غير مذموم عندنا وانما المذموم أن يتكلف لتخويف الخصوم إذا تقدموا بين يديه ولم ينقل ذلك عن عمر رضى الله عنه ولا عن غيره وان كان خير القاضى أن يقعد عنده أهل الفقه فتعدوا عنده فربما يحتاج إلى ان يستشيرهم وقد روينا ان عمر رضى الله عنه كان يفعل ذلك وربما يخفى عليه بعض ما يقف عليه غيره من اهل الفقه فينبهه عليه وربما يحتاج إلى ان يشهدهم فيكون اهل الفقه والصلاح عنده من نوع الاحتياط فان دخله حصر في قعودهم عنده أو شغله ذلك عن شئ من أمور المسلمين جلس وحده لان طباع الناس في هذا تختلف فمنهم من يمنعه حشمة الفقهاء مما يريده من فصل القضاء ومنهم من يزداد قوة على ذلك والمقصود هو النظر للمسلمين فإذا كان هو ممن يدخله حصر بحضرة الفقهاء جلس وحده ولكن انما يتمكن من ذلك إذا كانت معروفا بالفقة والعدالة فبالفقه يؤمن غلطه وبالعدالة يؤمن جوره ولا ينبغى للقاضى ان يتعب نفسه في طول الجلوس لان بذلك يزول اعتدال الحال وقد بينا أنه لا ينظر في الحجج الا عند اعتدال الحال قال فانى اتخوف عليه ان يضر ذلك بنظره في الحجج والخصوم يعنى إذا أتعب نفسه ربما لا يفهم بعض كلام الخصوم وربما يضجر بسببه على بعض
[ 80 ]
الخصوم وهذا أيضا في المدرس كذلك واليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قوله أن النفس تمل كما تمل الابدان فابتغوا لها ظرائف الحكمة وان ابن عباس رضى الله عنهما كان إذ أمل من بيان أنواع العلم قال لاصحابه اخصموا أي خوضوا في ديوان العرب فتذكرا شيئا من الملح قال ولكنه يعقد في طرفي النهار أو ما أطاق من ذلك لان عمل القضاء عبادة فالاولى أن يجلس له في طرفي النهار قال الله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار ولان اعتدال حال المرء يكون في طرفي النهار عادة أو ما أطاق من ذلك لان الطاعة بحسب الطاقة ولكن لا ينبغى أن يتبكر للخصومة قبل طلوع الشمس فقد كان شريح رحمه الله إذا ابتكروا قبل حضوره قال أتتظلمون بالليل فعرفنا أن ذلك غير محمود للقاضى (قال) وينبغى للقاضى أن يقدم النساء على حدة والرجال على حدة لان الناس يزدحمون في مجلسه وفي اختلاف النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة والقبح مالا يخفى ولكن هذا في خصومة يكون بين النساء فاما لخصومة التى تكون بين الرجال والنساء لا يجد بدا من أن يقدمهن مع الرجال وأن يجعل لكل فريق يوما على قدر ما يرى من كثرة الخصوم فلا بأس بذلك لانه إذا تركهم يزدحمون على ما به وربما يقتتلون على ذلك وفيه من الفتنة مالا يخفى فيجعل ذلك مناوبة بينهم بالايام ليعرف كل واحد يوم نوبته فيحضر عند ذلك والحصاف رحمه الله ذكر في أدب القاضي أن الاولى أن يجعل ذلك على الرقاع فيجزئ الخصوم اجزاء ويكتب باسم كل فريق رقعة ثم يخرج الرقاق على الايام للسبت والاحد إلى آخره وذلك حسن ولكن محمدا رحمه الله اختار في الكتاب أن يقدم الناس على منازلهم الاول فالاول ولا يتبدئ بأحد جاء قبله غيره والى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قوله سبقك بها عكاشة وهذا لان الذي جاء أولا استحق النظر في حجته ان لو كان القاضى جالسا عند ذلك فتأخر جلوس القاضى لا يغير استحقاقه ولا يبطل بحضور غيره فلهذا تقدمه عملا بقوله تعالى ويؤت كل ذى فضل فضله قال ويضع على ذلك أمينا من قبله يقدمهم إليه لانه لا يتمكن من يعرف ذلك بنفسه لكثرة أشغاله وفيما يعجل القاضى عن مباشرته يستعين بأمين من أمنائه وينبغى أن يبتكر ذلك الامين إلى باب مجلس القاضى ليعلم منازل الناس في الحضور فلعلهم يكذبون في ذلك أو أن يلبسون عليه وانما يجعل على ذلك أمينا لا يطمع ولا يرتشى فان ذلك من عمل القضاة فكما لا يطمع هو فيما يقضى فكذلك
[ 81 ]
ينبغى أن يكون أمينه قال رحمه الله وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول قد جرى الرسم في زماننا أن البواب على باب مجلس القضاء يأخذ من كل خصم قطعة ليمكنه من الدخول والقاضى يعلم ذلك ولا يمنعه منه وفيه فساد عظيم فليس لاحد أن يمنع أحدا من دخول المسجد ولا من أن يتقدم إلى القاضى في حاجته فهو يرتشى ليكف ظلمه عنه ويمكنه مما هو مستحق له والقاضى يعلم ذلك ولا يمنع منه فهو بمنزلة مالو علم أن أمينه يشرب الخمر أو يزنى على بابه فلا يمنعه عن ذلك وان رأى أن يجعل الغرباء مع أهله المصرف فعل وان رأى أن يبدأ بهم فلا يضره ذلك بعد أن تكون الغرباء غير كثير فان كثروا في كل يوم فشغلوه عن أهل المصر قدمهم على منازلهم مع الناس وقد بينا أن الغريب على جناح السفر فربما يضر التأخير به وقبله مع أهله فإذا لم يقدمه القاضى ربما ترك حقه ورجع إلى أهله وقد أمر بتعاهد الغريب تعظيما لحق غربة رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فلهذا كان له أن يقدم الغرباء ولكن بشرط أن لا يضر بأهل المصر ضررا فانهم جيرانه وانما يقلد القضاء لينظر في حوائجه فإذا كان تقديم الغرباء يضر بأهل المصر قدمهم على منازلهم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لاضرر ولاضرار في الاسلام ولا بأس بان يشهد القاضى الجنازة ويعود المريض فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم بعده يفعلون ذلك ولان هذا من حق المسلم على المسلم قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} للمسلم على المسلم ستة حقوق وذكر في الجملة أن يشيع جنازته ويعوده إذا مرض ولا يمتنع عليه القيام بحقوق الناس عليه بسبب تقلده القضاء ولا بأس بأن يجيب الدعوة الجامعة فذلك من السنة قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم قال ولا تجب الدعوة الخاصة الخمسة والعشرة في مكان لان ذلك يجر إليه تهمة الميل بأن يقول أحد الخصمين ان فلانا في دعوة فلان كلم القاضى وهو نائب عن خصمى وصانعه على رشوة ولان اجابة الدعوة الخاصة مما يطمع الناس به في القاضى فعليه أن يحترز عن ذلك وأصح ما قيل في الفرق بين الدعوة الجامعة والخاصة ان كل ما يمتنع صاحب الدعوه من ايجاده إذا علم ان القاضي لا يجيبه فهو الدعوة الخ‍؟ صه وان كان لا يمتنع من ايجاده لذلك فهو الدعوة العامة لانه عند ذلك يعلم أن القاضى لم يكن مقصودا بتلك الدعوة وانما يمتنع من اجابة الدعوة الخاصة إذا لم يكن صاحب الدعوة ممن اعتاد ايجاد الدعوة له قبل أن يتقلد القضاء فان كان ذلك من عادته قبل هذا فلا بأس بأن يجيب دعوته واليه أشار في قوله
[ 82 ]
ولا بأس بأن يجيب دعوة ذى القرابة لان هذا بين القربات ليس من حوالب القضاء عادة ولاصدق في ذلك كالاقارب إذا كان ذلك معروفا بينهم قبل تقلد القضاء ولا ينبغى له أن يضيف أحد الخصمين الا أن يكون خصمه معه لما روينا من نهى النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} عن ذلك (قال) ولا يقبل الهدية وقبلو الهدية في الشرع مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} نعم الشئ الهدية إذا دخلت الباب ضحكت الاسكفة وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} الهدية تذهب وجر الصدر أو وعر الصدر وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} تهادوا تحابوا ولكن هذا في حق لم يتعين لعمل من أعم‍؟ ل المسلمين فأما من تعين لذلك كالقضاة والولاة فعليه التحرز عن قبول الهدية خصوصا ممن كان لا يهدى إليه قبل ذلك لانه من جوالب القضاء وهو نوع من الرشوة والسحت والاصل فيه ماروى أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} استعمل ابن للثينة على الصدقات فجاء بمال فقال هذا لكم وهذا مما أهدى إلى فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} في خطبته ما بال قوم نستعملهم فيقدموا بمال ويقولون هذا لكم وهذا مما أهدى إلى فهلا جلس أحدكم عند حمش أمه فينظر أيهدى إليه أم لا واستعمل عمر رضى الله عنه أبا هريرة رضى الله عنه فقد بمال فقال من اين لك هذا قال تناتجت الخيول وتلاحقت الهداية قال أي عدو الله هلا قعدت في بيتك فنظر أيهدي اليك أم لا فأخذ ذلك منه وجعله في بيت المال فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كان بهذه الصفة ومن جملة الاكل بالقضاء ومما يدخل به عليه التهمة ويطمع فيه الناس فليتحرز من ذلك الا من ذي رحمه محرم منه فقد كان التهادى بينهم قبل ذلك عادة ولانه من جوالب القرابة وهو مندوب إلى صلة الرحم وفي الرد معنى قطيعة الرحم وقطيعة الرحم من الملاعن فأما في حق الاجانب قبول القاضى الهدية من جملة ما يقال إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الامانة من الكوة ولا ينبغى له أن يخلو في منزله مع أحد الخصمين كما لا يسار أحد الخصمين ولا بأس بأن يقضى في منزله وحيث أحب لان عمل القضاء لا يختص بمكان ولانه في كونه طاعة لا يكون فوق الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} جعلت لى الارض مسجدا وطهورا فاحسن ذلك وأحب إلى أن يقضى حيث تقام جماعة الناس يعنى في المسجد الجامع أو غيره من مساجد الجماعات لان ذلك يكون أبعد عن التهمة ولانه يتمكن كل واحد من أن يحضر مجلسه عند حاجته ولا يشتبه عليه موضعه ولايحتاج إلى من يهديه إلى ذلك من الغرباء كان أو من أهل المصر ولا يقضي وهو يمشي ويسير على الدابة فانى أتخوف عليه من
[ 83 ]
ذلك الزلل لانه عند ذلك لا يكون معتدل الحال فيكون قبله مشغولا بما هو فيه من المشى أو السير فلا يتفرغ بالنظر في الحجج ولانه نوع من الاستخفاف وهو مأمور بان يصون قضاء عن أسباب الاستخفاف ظاهرا وباطنا ولا بأس بأن يقضى وهو متكئ لان التكاءه نوع جلسة كالتربع ونحوه وطباع الناس في الجلوس تختلف فمنهم من يكون التكاؤه أروح له واعتدال حاله عند ذلك أظهر والاصل فيه حديث أم سلمة رضى الله عنها في الرجلين الذين اختصما بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} الحديث إلى أن قال وكان متكئا فاستوى جالسا فقد نظر في خصومتهما حين كان متكئا فعرفنا انه لا يأس بذلك وينبغى له أن يقضى بما في كتاب الله فان أتاه شئ لم يجده فيه قضى فيه بما أتاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فان لم يجده فيه نظر فيما أتاه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ورضى عنهم فقضي وقد بينا هذا فيما سبق والحاصل انه إذا صح له قول عن واحد من المعروفين من الصحابة رضى الله عنهم قضى به وقدمه على القياس لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتهم اهتديتم ولان فيما يبلغه عن الصحابي رضى الله عنه احتمال السماع فقد كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ثم يفتون به تارة ويرون أخرى وفيه أيضا احتمال ترجيح الاصابة في نفس الرأى فقد وقفوا لما لم يوقف غيرهم بعدهم فان كانوا اختلفوا فيه تخير مدة أقاويله أحسنها في نفسه وليس له أن يخالفهم جميعا ويبتدع شيئا من رأيه لانهم لو اجتمعوا على قول لم يجز لاحد أن يخالفهم فإذا اختلفوا على أقاويل محصورة فذلك إجماع منهم على أن الحق لا يعد مما قالوا فلا يجوز لاحد أن يخالفهم ويبتدع شيئا من رأيه ولكنه يختار أحسن الاقاويل في نفسه لانهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بينهم بالرواية فقد انقطع احتمال السماع وتعين القول بالرأى فتعارض أقاويلهم كتعارض الاقيسة وعند ذلك على القاضى أن يصير إلى الترجيح ويعمل بما ظهر الرجحان فيه فكذلك عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم يصير إلى الترجيح فان لم يبين له وجه الترجيح فله أن يعمل بأى الاقاويل شاء لان بالتعارض لا تنعدم الحجة في أقاويلهم فينغى أن يعمل بأحسنها في نفسه ويكون ذلك عملا منه بالحجة فان لم يجده في ما جاءه عن أحد منهم اجتهد رأيه في ذلك وقاسه بما جاء منه ثم قضي بالذي يجتمع رأيه عليه من ذلك ويرى أنه الحق لانه مأمور بفصل القضاء والتكليف بحسب الوسع والذي في وسعه اجتهاد الرأى عند انقطاع سائر الادلة عنه فيشغل به إذ كان من أهله كمن اشتبه عليه القبلة عند انقطاع الادلة والاصل فيه قوله تعالى
[ 84 ]
اعتبروا يا أولى الابصار والاعتبار رد الشئ إلى نظيره فالعبرة هو البيان قال الله تعالى ان كنتم للرأيا تعبرون والبيان يرد الشئ إلى نظيره فان أشكل عليه شاور رهطا من أهل الفقه فيه وكذلك ان لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يشاور الفقهاء لانه يحتاج إلى معرفة الحكم ليقضي به وقد عجز عن ادراكه بنفسه فليرجع إلى من يعرف ذلك كما إذا احتاج معرفة قيمة شئ فان اختلفوا فيه نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق فأخذ به كما بينا عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم الا ان هنا ان رأى خلاف رأيهم فان استحسن وأشبه الحق قضى بذلك لان اجماعهم لا ينعقد بدون رأيه وهو واحد منهم ولان رأيه أقوى في حقه من رأى غيره فلو قضى برأيه كان قاضيا بما هو الصواب عنده وإذا قضى برأى غيره كان قاضيا بما عنده انه خطأ وقضاؤه بما عنده انه هو الصواب أولى وان لم يكن من أهل اجتهاد الرأى ليختار بعض الاقاويل نظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه فهذا اجتهاد مثله ولا يعجل بالحكم إذا لم يبين له الامر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقة لانه مأمور بالقضاء بالحق ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} التأني من الله والعجلة من الشيطان والاصل في الباب حديث الشعبي رضى الله عنه قال كانت القضية ترفع إلى عمر رضى الله عنه وربما يتأمل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه واليوم يفصل في المجلس ما به قضية وحديث ابن مسعود رضى الله عنه في المفوضة معروف فانه ردهم شهرا ثم قال أقول فيه برأيى فان يك صوابا فمن الله ورسوله وان يك خطا فمنى ومن الشيطان الحديث فعرفنا انه ينبغى للقاضى أن يتأنى ويشاور عند اشتباه الامر وإذا قضى بقضاء ثم بدا له أن يرجع عنه فان كان الذي قضى به خطأ لا يختلف فيه رده وأبطله يعنى إذا كان مخالفا لنص أو لاجماع فالقضاء بخلاف النص والاجماع باطل وهو جهل من القاضى وفي الحديث ردوا الجهالات إلى السنة فان كان خطأ مما يختلف فيه أمضاه على حاله وقضي فيما يستقبل بالذي أدى إليه اجتهاده ويرى انه أفضل لان القضاء الاول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ولزم على وجه لا يجوز ابطاله والاصل فيه ماروى ان عمر رضى الله عنه كان يقضى في حادثة بقضية ثم ترفع إليه تلك الحادثة فيقضي بخلافها فكان إذا قيل له في ذلك قال تلك كما قضينا وهذه كما يقضى وقال الشعبي رحمه الله حفظت من عمر رضى الله عنه في الحد سبعين قضية لا يشبه بعضها بعضا وبهذا يتبين ان الاجتهاد لا ينقص باجتهاد مثله ولكنه فيما يستقبل يقضى بما أدى إليه اجتهاده وأصله في التحرى للقبلة وذكر عن شريح
[ 85 ]
رحمه الله انه كان يقضى بالقضاء ثم يبدو له فيرجع عنه ولا يرجع فيما كان قضى به يعنى في المجتهدات كان إذا تحول رأيه بنى فيما يستقبل على ما أدى إليه اجتهاده ولم ينقص ماكان قضى به وفيه دليل أن التابعي إذا أدرك من الصحابة رضى الله عنهم وسوغوا له الاجتهاد معهم فان رأيه يعارض رأيهم لان شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما ثم كان يبنى القضاء على رأيه ولا يرجع اليهما فيما كان يبدو له وقد سوغوا له ذلك حتى كان عليا رضى الله عنه يقول له قلى يا أيها العبد ألا تنظر وقد رجع ابن عباس رضى الله عنهما إلى قول مسروق رحمه الله في مسألة نحر الولد وعن عامر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يقضي بالقضاء فينزل عليه القرآن بخلافه فيمضى ما قضى به ويستأنف القضاء وفي هذا دليل على انه كان يقضى باجتهاده في ما لم يوح إليه فيه وقد بينا انه كان لا يعجل بذلك ولكن كان ينتظر الوحي فإذا انقطع طمعه عن الوحي فيه قضى باجتهاده وصار ذلك شريعة ثم ينزل القرآن بخلافه بعد ذلك فيكون ناسخا له ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا ونظيره أمر القبلة فانه صلى الله عليه وسلم{{ص}} بعد ما قدم المدينة كان يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم انتسخ ذلك بالامر بالتوجه إلى الكعبة وكان يستأنف القضاء بالناسخ ولا يبطل ما قضى به لان النسخ ينهى مدة الحكم ولا يبين أنه لم يكن حقا قبل نزول الناسخ واستدل بهذا الحديث على ما تقدم من المجتهدات فانه لا ينقض ماكان قضى به الا أنهما يفترقان من حيث أن الرأى لا ينسخ الرأى وعن أم سلمة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} انه قال انكم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشئ من مال أخيه بغير حق فانما أقضى له بقطعة من النار معنى قول اللحن أفطن وأقدر على البيان فاللحن في اللغة هو الفطنة وفيه دليل لمن يقول ان بقضاء القاضى لا يحل ماكان حراما فيكون حجة لمحمد رحمه الله في مسألة قضاء القاضى في العقود والفسوخ وأبو حنيفة رحمه الله يقول المراد الاملاك المرسلة والمراد بيان الوعيد لمن يدعى الباطل ويقيم عليه شهود الزور فالوعيد يلحقه بذلك عندنا وان كان الملك يثبت له بقضاء القاضى بسببه قال وأكره للقاضى أن يفتى للخصوم في القضاء كراهة أن تعلم الخصوم قوله فتحترز منه بالباطل لحديث شريح رحمه الله حين سأل عن مسألة الحبس قال انما أقضى ولست أفتى وقد كره بعض الناس للقاضى أن يفتى في المعاملات أصلا وقالوا يفتي في العبادات وكره بعضهم أن يفتى في مجلس القضاء وقالوا لا بأس به في
[ 86 ]
غير مجلس القضاء لان كل واحد من الامرين مهم فإذا جمع بينهما في مجلس يخاف الخلل فيهما والاصح انه لا بأس بان يفتى في المعاملات والعبادات في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يفتى ويقضى والخلفاء رضى الله عنهم بعده كذلك وللقضاء فتوى في الحقيقة إلا أنه ملزم وانما الذي يكره له أن يفتى للخصم فيما خاصم فيه إليه لما قيل ان الخصم إذا وقف على رأيه ربما اشتغل بالتلبيس للتحرز عن ذلك فلا يفتوى له في ذلك حتى تنقضي الخصومة وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} واحدهما عالم بالخصومه والاخر جاهل بها فلم يلبسه العالم ان قضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقام المقضى له وقعد المقضي عليه فقال يارسول الله عليك السلام والله الذي لا اله غيره ان حقى لحق فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} علي بالرجل فأتى به فاخبره بالذي حلف عليه فقال يارسول الله ان شئت عاودته الخصومة فقال عليه الصلاة والسلام عاوده فعاوده فلم يلبسه أن قضى له فقام المقضى له وقعد المقضى عليه فقال والله الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ان حقى لحق يعلم ذلك نفسه فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} علي بالرجل فأتى به فاخبره فقال ان شئت عاودته فقال عليه السلام لا ولكن اعلم ان من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فانما يقتطع قطعة من نار فقال الرجل ألحق حقه فكان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} متكئا فجلس وقال من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار قال أبو هريرة رضى الله عنه فكانت هذه أشد من الاولى وفيه دليل على انه لا ينبغى للقاضى أن يكف عن القضاء مخافة تلبيس بعض الخصوم عليه فقد كانوا يفعلون ذلك عند من كان ينزل عليه الوحى وهو معصو؟ وفيه دليل أنه لا بأس للمرء أن يحلف مختار فقد حلف الرجل مرتين من غير أن طلب ذلك منه ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ذلك وفيه دليل على ان القاضي إذا ارتاب في شئ من قضائه ينبغى له أن يتثبت في ذلك ويحتاط (ألا ترى) أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} أمره بالمعاودة حين حلف المقضى عليه أن حقه حق وكان ذلك احتياطا منه وفيه دليل ان مال الغير لا يحل للغير بقضاء القاضي فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} الفطين في الوعيد الثاني أشد من الاول كما قاله أبو هريرة رضى الله عنه وهذا لان حرمة مال المسلم كحرمة نفسه قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} سباب المسلم فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه فكما أن من قصد قتل
[ 87 ]
المسلم بغير حق فجزاؤه ما قال الله تعالى فجزاؤه جهنم خالدا فيها فكذلك إذا قصد أخذ ماله بالباطل والتلبيس (قال) وينبغى للقاضى أن لا يلقن الشاهد ولكن يدعه حتى يشهد بما عنده فان كانت شهادته جائزة قبلها وان كانت غير جائزة ردها ولا يقول له اشهد بكذا فان هذا تلقين وهو قول أبى حنيفة رحمه الله ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله لا رأى بأسا أن يقول أتشهدا بكذا وكذا وانما قال هذا حين ابتلي بالقضاء فرآي ما بالشهود من الخبر عند أداء الشهادة بالحق فان المجلس القضاء هيبة وللقاضي حشمة ومن لم يعتاد التكلم في مثل هذا المجلس يتعذر عليه البيان إذا لم يعينه القاضى على ذلك وأداء الشهادة بالحق من باب البر قال الله تعالى وتعاونوا على بالبر والتقوى وأمرنا باكرام الشهود قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} أكرموا الشهود فان الله تعالى يحيى بهم الحقوق وهذا القدر من التلقين يرجع إلى اكرامه بأن يذكر ما يسمع منه فيقول أتشهد بكذا لما لم يسمع منه فهو التلقين المكروه وفي مذهبه نوع رخصة والعزيمة فيما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لان القاضى منهى عن اكتساب ما يجر إليه تهمة الميل وما يكون فيه اعانة أحد الخصمين إما صورة أو معنى وتلقين الشاهد لا يخلو من ذلك ورد لم يجز له أن يلقن المدعى مع أن الدعوى لا تكون ملزمة فلان لا يجوز له أن يلقن الشاهد أولى ولان عادة بعض الناس أن المحتشم إذا لقن أحدهم شيئا ترك ماكان قصد التكلم به وتكلم بما لقنه تعظيما له فلا يأمر القاضى أن يفعل الشاهد مثل ذلك فيدع ماكان عنده من الشهادة ويتكلم بما لقنه القاضى والتلقين تعليم والقاضى انما جلس لسماع الشهادة وفصل القضاء بالشهادة لا لتعليم الشاهد فلهذا أكره له أن يلقنه ولا يضر القاضى أن يقدم الشهود جميعا أو واحدا واحدا لان الثابت بالنص اشتراط العدد والعدالة في الشهود وبذلك يظهر جانب رجحان الصدق فالتفريق بينهم في المجلس يكون زيادة والقاضى لا يتكلف لها الا أن يرتاب في أثرهم فعند ذلك عليه أن يحتاط لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} دع ما يريبك إلى مالا يريبك ومن الاحتياط أن يفرق بينهما الا أنه لا ينبغى له أن يتعنت معهم فان التعنت يخلط على الرجل عقله وان كان صحيحا في شهادته ولان الشاهد أمين فيما يؤدى من الشهادة ولم يظهر خيانته للقاضى فلا يتعنت معهم وقد أمرنا باكرامهم الا أنه إذا اتهمهم وفرق بينهم فلا بأس أن يسأل كل واحد منهم أين كان هذا وكيف ومتى كان فهو من باب الاحتياط ودفع الريبة لامن باب التعنت وان اختلفوا في ذلك اختلافا يفسد الشهادة أبطلها وان كان لا يفسدها أجازها ولا يطرحها بالتهمة والظن فان الظن لا يغنى من الحق شيئا
[ 88 ]
قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} إذا ظنت فلا تحقق فما لم يعلم منهم سواء أو يسمع منهم عند السؤال اختلافا مفسدا لشهادتهم لم يمنع من القضاء بالشهادة بمجرد الظن وإذا لم يطعن الخصم في الشاهد فلا ينبغى أن يسأل عنه في قول أبى حنيفة رحمه الله ولكنه يقضى بظاهر العدالة الا أن يظعن الخصم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يسأل عنهم وان لم يطعن الخصم وقيل هذا اختلاف عصر وزمان فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يفتى في القرن الثالث وقد شهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} بالصدق والخيرية بقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} خير الناس قرنى الحديث وكانت الغلبة للعدول في ذلك الوقت فلهذا كان يكتفى بظاهر العدالة وهما أفتيا بعد ذلك في القرن الذي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} على أهله بالكذب بقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد وكانت الغلبة في ذلك الوقت لغير العدول فقال لابد للقاضى أن يسأل عن الشهود وحجتهما أن اشتراط العدالة في الشاهد للقضاء بشهادته ثابت بالنص قال الله تعالى اثنان ذوى عدل منكم وقيل السؤال عنهما صفة العدالة محتملة فيهما والشرط لا يثبت بما هو محتمل * توضيحه ان على القاضى أن يصون نفسه عن الفضاء بشهادة الفاسق فقد أمر بالتثبت في خبر الفاسق فانما يسأل عن الشهود صيانة لقضائه فلا يتوقف على ذلك على طلب الخصم ولان كان ذلك لحق الخصم فليس لكل خصم يبصر حجته فربما يهاب الخصم الشهود فلا يجاهر بالطعن فيهم والقاضى مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه (ألا ترى) انا في الحدود يسأل عن الشهود وان لم يطعن الخصم لهذا المعنى فكذلك في الاموال وأبو حنيفة رحمه الله استدل بظاهر الحديث المسلمون عدول بعضهم على بعض فهذا من صاحب الشرع تعديل لكل مسلم فتعديل صاحب الشرع أقوى من تعديل المزكى ثم العدالة هي الاستقامة يقال للجادة طريق عدل وللبيان طريق عدل جائز وقد علم القاضى منهم الاستقامة واعتقد وذلك يحمله على الاستقامة في التعطاطى فعليه أن يتسمك به ما لم بظهر خلافه فهذا دليل شرعي فوق خبر مزكى وانما يعتمد هذا الدليل إذا لم يطعن الخصم فأما بعد طعنه يقع التعارض لان الخصم مسلم ودينه يمنعه من أن يجازف بالطعن فيهم فللتعارض وجب على القاضى أن يسأل حتى يظهر المرجح لاحد الجانبين بخبر المزكى فأما في الحدود يسأل وان لم يطعن الخصم احتيالا للدرء وقد أمر بدرء الحدود لان الحدود ان وقع فيها غلط لا يمكن تداركه وبظاهر العدالة لا تنتفي الشبهة ففيما يندرئ بالشبهات لا يكتفي بذلك فأما المال مما يثبت مع