الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مبسوط السرخسي - الجزء العاشر2»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
OKBOT (نقاش | مساهمات)
ط تدقيق إملائي. 88 كلمة مستهدفة حاليًا.
 
سطر 22:
[ 108 ]
فإذا أسلم زال التوقف فصار ما اعترض كأن لم يكن بخلاف العبد إذا باعه أو اعتقه فقد تم زوال ملكه هناك واعتبار الجناية كان لملكه يوضح الفرق ان ضمان الجناية في المماليك باعتبار صفة المملوكية ولهذا يجب الضمان لتمكن النقصان في المالية شيئا فشيئا وقد انعدم ذلك بالعتق أصلا وبالبيع في حق من كان مستحقا له فاما وجوب ضمان الجزء باعتبار النفسية ولا ينعدم بالردة ولكن العصمة شرط فانما يراعى وجوده عند ابتداء السبب لينعقد موجبا وعند تقرره بالموت لتقرر الحكم فلا يعتبر فيه بقاء العصمة وهو نظير مالو قال لعبده ان دخلت الدار فانت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار يعتق لهذا المعني فاما إذا لحق بدار الحرب فان كان القاضي قضى بلحاقه فقد صار ميتا حكما وبقاء حكم الجناية باعتبار بقاء النفسية وذلك لا يتحقق بعد موته حكما إذ لاتصور لبقاء الحكم بدون المحل وإذا لم يقض القاضى بلحاقه فالاصح انه على الخلاف فمن أصحابنا من سلم وقال بنفس اللحاق صار حربيا والحربي في حق من هو في دار الاسلام كالميت ولهذا لو كانت امرأة تسترق كسائر الحربيات فيتم به انقطاع حكم السراية بخلاف ما قبل لحاقه بدار الحرب يوضحه ان الردة عارض فإذا زال قبل تقرره صار كان لم يكن كالعصير المشترى إذا تخمر قبل القبض ثم تخلل بقى العقد صحيحا ولا يعتبر زواله بعد تقرره كما في العصير إذا تخمر فقضى القاضى بفسخ العقد ثم تخلل وباللحاق قد تقرر خصوصا إذا قضى به القاضى فلا يعتبر زواله بعد ذلك بخلاف ما قبل اللحاق وان كان القاطع هو الذى ارتد فقتل ومات المقطوعة يده من ذلك مسلما فان كان عمدا فلا شئ له لان الواجب في العمد القود وقد فات محله حين قتل على ردته أو مات وان كان خطأ فعلى عاقلة القاطع دية النفس لانه عند الجناية كان مسلما وجناية المسلم إذا كانت خطأ على عاقلته وتبين بالسراية ان جنايته كانت قتلا فلهذا كان على عاقلته دية النفس وان كانت الجناية منه في حال ردته كانت الدية في الخطأ في ماله لما بينا ان المرتد لا يعقل جنايته أحد ولا تقتل المرتدة ولكنها تحبس وتجبر على الاسلام عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقتل ان لم تسلم وهكذا يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى في الابتداء ثم رجع وروى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى انها تخرج في كل قليل وتعذر تسعة وثلاثين سوطا ثم تعاد إلى الحبس إلى أن تتوب أو تموت واستدل الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من بدل دينه فاقتلوه وهذه الكلمة تعم الرجال والنساء كقوله تعالى
[ 109 ]
فمن شهد منكم الشهر فليصمه وتبين ان الموجب للقتل تبديل الدين لان مثل هذا في لسان صاحب الشرع لبيان العلة وقد تحقق تبديل الدين منها وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قتل مرتدة يقال لها أم مروان وعن أبى بكر رضى الله عنه أنه قتل مرتدة يقال لها أم فرقة ولانها اعتقدت دينا باطلا بعدما اعترفت ببطلانه فتقتل كالرجل وهذا لان القتل جزاء على الردة لان الرجوع عن الاقرار بالحق من أعظم الجرائم ولهذا كان قتل المرتد من خالص حق الله تعالى وما يكون من خالص حق الله فهو جزاء وفى اجزية الجرائم الرجال والنساء سواء كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر وبهذا تبين أن الجناية بالردة أغلظ من الجناية بالكفر الاصلى فان الانكار بعد الاقرار أغلظ من الاصرار في الابتداء على الانكار كما في سائر الحقوق وبأن كانت لا تقتل إذا لم تتغلظ جنايتها فذلك لا يدل على أنها لا تقتل إذا تغلظت جنايتها ثم في الكفر الاصلى إذا تغلظت جنايتها بأن كانت مقاتلة أو ساحرة أو ملكة تحرض على القتال تقتل فكذلك بعد الردة والدليل عليه انها تحبس وتعزر وتجبر على الاسلام بعد الردة ولا يفعل ذلك بها في الكفر الاصلى وكذلك الشيوخ وأصحاب الصوامع والرهبان يقتلون بعد الردة ولا يقتلون في الكفر الاصلى وذوو الاعذار كالاعمى والزمن كذلك وكذلك الرق في الكفر الاصلى يمنع القتل وهوما إذا استرق الاسير وفى الردة لايمنع ثم في الكفر الاصلى لاتسلم لها نفسها حتى تسترق لينتفع المسلمون بها فكذلك بعد الردة وبالاتفاق لاتسترق في دار الاسلام فقلنا انها تقتل (وحجتنا) في ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} عن قتل النساء وفيه حديثان أحدهما ما رواه رباح بن ربيعة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} رأى في بعض الغزوات قوما مجتمعين على شئ فسأل عن ذلك فقالوا ينظرون إلى امرأة مقتولة فقال لواحد أدرك خالدا وقل له لا يقتلن عسيفا ولاذرية والثانى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} رأى امرأة مقتولة فقال من قتل هذه قال رجل أنا يا رسول الله أردفتها خلفي فأهوت إلى سيفي لتقتلني فقتلتها فقال ما شأن قتل النساء وارها ولا تعدو لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يوم فتح مكة امرأة مقتولة فقال ها ما كانت هذه تقاتل ففي هذا بيان أن استحقاق القتل بعلة القتال وأن النساء لا يقتلن لانهن لا يقاتلن وفى هذا لافرق بين الكفر الاصلى وبين الكفر الطارئ وما روى من الحديث غير مجرى
[ 110 ]
على ظاهره فالتبديل يتحقق من الكافر إذا أسلم فعرفنا أنه عام لحقه خصوص فنخصه ونحمله على الرجال بدليل ما ذكرنا والمرتدة التى قتلت كانت مقاتلة فان أم مروان كانت تقاتل وتحرض علي القتال وكانت مطاعة فيهم وأم قرفة كان لها ثلاثون ابنا وكانت تحرضهم على قتال المسلمين ففي قتلها كسر شوكتهم ويحتمل أنه كان ذلك من الصديق رضى الله عنه بطريق المصلحة والسياسة كما أمر بقطع يد النساء اللاتى ضربن الدف لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لاظهار الشماتة والمعنى فيه أنها كافرة فلا تقتل كالاصلية وهذا لان القتل ليس بجزاء على الردة بل هو مستحق باعتبار الاصرار على الكفر ألا ترى أنه لو أسلم يسقط لانعدام الاصرار وما يكون مستحقا جزاء لا يسقط بالتوبة كالحدود فانه بعدما ظهر سببها عند الامام لا تسقط بالتوبة وحد قطاع الطريق لا يسقط بالتوبة بل توبته برد المال قبل أن يقدر عليه فلا يظهر السبب عند الامام بعد ذلك يقرره ان تبديل الدين وأصل الكفر من أعظم الجنايات ولكنها بين العبد وبين ربه فالجزاء عليها مؤخر الي دار الجزاء وما عجل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد كالقصاص لصيانة النفوس وحد الزنا لصيانة الانساب والفرش وحد السرقة لصيانة الاموال وحد القذف لصيانة الاعراض وحد الخمر لصيانة العقول وبالاصرار على الكفر يكون محاربا للمسلمين فيقتل لدفع المحاربة الا أن الله تعالى نص علي العلة في بعض المواضع بقوله تعالى فان قاتلوكم فاقتلوهم وعلى السبب الداعي إلى العلة في بعض المواضع وهو الشرك فإذا ثبت أن القتل باعتبار المحاربة وليس للمرأة بنية صالحة للمحاربة فلا تقتل في الكفر الاصلى ولافى الكفر الطارئ ولكنها تحبس فالحبس مشروع في حقها في الكفر الاصلى فانها تسترق والاسترقاق حبس نفسها عنها ثم الحبس مشروع في حق كل من رجع عما أقربه كما في سائر الحقوق وليس ذلك باعتبار الكفر ولا باعتبار المحاربة وما يدعى من تغلظ الجناية لا يقوي فالرجوع عن الاقرار والاصرار على الانكار بعد قيام الحجة في الجناية سواء مع أن الجناية في الاصرار أغلظ من وجه لانه بعد الردة لايقر علي ما اعتقده والشئ قبل تقرره يكون أضعف منه بعد تقرره ولو سلمنا تغلظ الجناية فانما يعتبر بمن يغلظ جنايتها في الكفر الاصلى المشركة العربية فكما لا تقتل تلك فكذلك لا تقتل هذه وإذا كانت مقاتلة أو ملكة أو ساحرة فقتلها الدفع وبدون القتل ههنا يحصل المقصود إذا حبست وأجبرت كما بينا على الاسلام وأما الرق لايمنع القتل في
[ 111 ]
الكفر الاصلى فانه تقتل عبيدهم كأحرارهم وانما الاسترقاق بمتزلة اعطاء الامان وبعقد الذمة ينتهي القتال في حق من يجوز أخذ الجزية منه لافى حق من لا يجوز أخذ الجزية منه كما في مشركي العرب والمرتدون لا تؤخذ منهم الجزية فلهذا لا ينتهى القتال في حقهم بعقد الذمة والشيخ إذا كان له رأى يقتل في الكفر الاصلى والردة لا تتصور الا ممن له رأى والترهب لا يتحقق بعد الاسلام لان القيام بنصرة دين الحق واجب على كل مسلم قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لا رهبانية في الاسلام وبدون تحقق السبب لا يثبت الحكم واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالي في ذوى الاعذار من مشركي العرب فمنهم من يقول يقتلون في الكفر الاصلى لان حلول الآفة كعقد الذمة فانه ينعدم به القتال فمن لا يسقط القتال عنه بعقد الذمة في الكفر الاصلى فكذلك بحلول الآفة فعلى هذا القول ذوو الاعذار من المرتدين يقتلون وقيل حلول الآفة بمنزلة الانوثة لانه تخرج به بنيته من أن تكون صالحة للقتال فعلى هذا القول لا يقتلون بعد الردة كما لا يقتلون في الكفر الاصلى وإذا ثبت أن المرتدة لا تقتل قلنا تسترق إذا لحقت بدار الحرب لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم فان بني حنيفة لما ارتدوا استرق أبو بكر رضى الله عنه نساءهم وأصاب على رضى الله عنه جارية من ذلك السبى فولدت له محمد بن حنفية رحمهما الله تعالى وذكر عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس رضى الله عنهما في النساء إذا ارتددن بسبين ولا يقتلن وهذا لانها كالحربية والاسترقاق مشروع في الحربيات وما دامت في دار الاسلام في ظاهر الرواية لاتسترق لان حريتها المتأكدة بالاحراز لم تبطل بنفس الردة وهي دافعة للاسترقاق ولان دار الاسلام ليست بدار الاسترقاق وفي النوادر عن أبى حنيفة رحمه الله انها تسترق لانا لما جعلنا المرتد بمنزلة حربى مقهور لا أمان له فكذلك المرتدة بمنزلة حربية مقهورة لاأمان لها فتسترق وان كانت في دارنا فان تصرفت في مالها بعد الردة نفذ تصرفها مادامت في دار الاسلام لانها تصرفت في خالص ملكها بخلاف الرجل على قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وأشار إلى الفرق قال المرأة لا تقتل والرجل يقتل ومعنى هذا ان عصمة المال تبع لعصمة النفس فبالردة لاتزول عصمة نفسها حتى لا تقتل فكذلك عصمة مالها بخلاف الرجل ولهذا استوت بالرجل في التصرف بعد اللحوق لان عصمة نفسها تزول بلحاقها حتى تسترق والاسترقاق اتلاف حكما فكذلك عصمة مالها فان ماتت في الحبس أو لحقت بدار الحرب
[ 112 ]
سطر 49:
[ 117 ]
المرتدون دارهم وصارت دار كفر ثم لحقوا بدار الحرب فأصابوا سبايا منهم وأصابوا مالا من أموال المسلمين وأهل الذمة ثم أسلموا كان ذلك كله لهم لانهم ملكوا ذلك كله بالاحراز بدارهم ومن أسلم على مال فهو له الا أن يكونوا أخذوا من المسلمين أو أهل الذمة حرا أو مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد فعليهم تخلية سبيلهم لان هؤلاء لا يملكون بالاحراز لتأكد حقيقة الحربة أو حقها فيهم بالاسلام فان كان أهل الاسلام أصابو من هؤلاء في حربهم مالا أو ذرية فاقتسموها على الغنيمة لم يردوا عليهم شيئا من ذلك لانهم أصابوا أموال أهل الحرب وذراريهم وملكوها بالاحراز والقسمة فلا ترد عليهم وان أسلموا بعد ذلك كما لو أصابوا ذلك من غيرهم من أهل الحرب وان طلب المرتدون أن يجعلوا ذمة للمسلمين لم يفعلوا ذلك بهم لانه انما تقبل الذمة ممن تجوز استرقافه ولان المرتدين كمشركي العرب فان أولئك جناة على قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وهؤلاء على دينه وكمالاتقبل الذمة من مشركي العرب عملا بقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لا يجتمع في جريرة العرب دينان فكذلك لا يقبل ذلك من المرتدين وان طلبوا الموادعة مدة لينظروا في أمورهم فلا بأس بذلك ان كان ذلك خيرا للسلمين ولم يكن للمسلمين بهم طاقة لانهم لما ارتدوا دخلت عليهم الشبهة ويزول ذلك إذا نظروا في أمرهم وقد بينا أن المرتد إذا طلب التأجيل يؤجل الا أن هناك لا يزاد على ثلاثة أيام لتمكن المسلمين من قتله وههنا لا طاقة بهم للمسلمين فلا بأس بأن يمهلوهم مقدار ما طلبوا من المدة لحفظ قوة أنفسهم ولعجزهم عن مقاومتهم وان كانوا يطيقونهم وكان الحرب خيرا لهم من الموادعة حاربوهم لان القتال معهم فرض إلى أن يسلموا قال الله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون ولايجوز تأخير اقامة الفرض مع التمكن من اقامته فإذا وادعوهم لم يأخذ الامام منهم في الموادعة خراجا لان ذلك حينئذ يشبه عقد الذمة وقد بينا أنه لاتقبل منهم الذمة فكذلك لا يؤخذ منهم على الموادعة خراج بخلاف أهل الحرب فان أخذ منهم مالا جاز لان العصمة زالت عن مالهم ألا ترى أنه لو ظهر المسلمون عليهم كانت أموالهم غنيمة وكذلك ان أخذوا شيئا من مالهم ملكوا ذلك بأى طريق أخذوا منهم (قال) ولا يقبل من مشركي العرب الصلح والذمة ولكن يدعون إلى الاسلام فان أسلموا والا قوتلوا وتسترق نساؤهم وذراريهم ولا يجبرون علي الاسلام وهم في ذلك بمنزلة المرتدين الافي حكم الاجبار على الاسلام فان نساء المرتدين وذراريهم كانوا مسلمين في الاصل فيجبرون على العود وأما النساء والذراري
[ 118 ]
من مشركي العرب ما كانوا مسلمين في الاصل فلا يجبرون على الاسلام ولكنهم يسترقون لان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} سبى النساء والذراري بأوطاس وقسمهم وقد بينا أن أبا بكر رضى الله عنه سبي النساء والذراري من بنى حنيفة فإذا جاز ذلك في المرتدين ففى مشركي العرب أولى وأما الرجال منهم لا يسترقون عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يسترقون لان المعني لاجله جاز الاسترقاق في حق سائر الكفار موجود في حق مشركي العرب وهو منفعة للمسلمين في عملهم وخدمتهم ولان الاسترقاق اتلاف حكمي ومن جاز في حقه الاتلاف الحقيقي من الكفار الاصليين يجوز الاتلاف الحكمي بطريق الاولى لان فيه تحقيق معنى العقوبة بتبديل صفة المالكية بالمملوكية وهو الاليق بحال كل كافر فانهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى عاقبهم على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده وهكذا كان ينبغى في المرتدين الا ان قتل المرتد على ردته حد فقلنا لا يترك اقامة الحد لمنفعة المسلمين ولان حريته كانت متأكدة بالاسلام فلا يحتمل النقض بالاسترقاق وذلك لا يوجد في حق مشركي العرب (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون قيل معناه إلى أن يسلموا والآية فيمن كان يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وهى عبدة الاوثان من العرب فدل أنهم يقتلون ان لم يسلموا وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لارق على عربي وقال يوم أوطاس لو جرى رق على عربي لكان اليوم وانما هو القتل أو الاسلام وظاهر قوله تعالى ماكان لنبى ان يكون له اسري حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا يدل على تحريم الاسترقاق كما يدل على المنع من المفاداة لان المقصود بكل واحد منهما ابتغاء عرض الدنيا ولانه لا يقبل منهم عقد الذمة بالاتفاق والاسترقاق والذمة يتقاربان في المعنى لان في كل واحد من الامرين ابقاء الكافر على كفره لمنفعة المسلمين في ذلك من مال أو عمل وفى الجزية معنى الصغار والعقوبة في حقهم كما في الاسترقاق بل أظهر والاسترقاق ثابت في حق النساء والصغار والجزية لا تجب الاعلى الرجال البالغين فإذا لم يجز ابقاء عبدة الاوثان من العرب على الشرك بالجزية فكذلك بالاسترقاق وقد بينا أنهم في تغلظ جنايتهم كالمرتدين فكما لا يسترق المرتدون فكذلك عبدة الاوثان من العرب بخلاف سائر المشركين وأهل الكتاب من العرب حكمهم حكم غيرهم من أهل الكتاب حتى يجوز استرقاقهم وأخذ الجزية منهم لانهم ليسوا من العرب في الاصل وان توطنوا في أرض العرب بل هم في الاصل من
[ 119 ]
بنى إسرائيل ولئن كانوا في الاصل من العرب فجنايتهم في الغلظ ليست كجناية عبدة الاوثان فان أهل الكتاب يدعون التوحيد ولهذا تؤكل ذبائحهم وتجوز مناكحة نسائهم بخلاف عبدة الاوثان والاصل فيه ماروى ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} أخذ الجزية من يهود تيماء ووادى القري وكذلك من بهزاو تنوخ وطى وعمر رضى الله عنه أراد أن يوظف الجزية على نصاري بنى تغلب ثم صالحهم على الصدقة المضعفة وقال هذه جزية فسموها ما شئتم وكانوا من العرب فأما عبدة الاوثان من العجم فلا خلاف في جواز استرقاقهم وانما الخلاف في جواز أخذ الجزية منهم فعندنا يجوز ذلك وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز بمنزلة عبدة الاوثان من العرب فان الله تعالى خص أهل الكتاب بحكم الجزية بقوله تعالي ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وزعم الشافعي ان المجوس أهل كتاب وروى فيه أثرا عن على رضى الله عنه أنه قال كان لهم كتاب يقرؤن إلى أن واقع ملكهم ابنته فاصبحوا وقد أسرى بكتابهم حديث فيه طول (وحجتنا) في ذلك ان الجزية تؤخذ من المجوس بالاتفاق ولا كتاب لهم فان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب ففى هذا تنصيص على أنه لاكتاب لهم وقال الله تعالى ان تقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ولو كان للمجوس كتاب لكانوا ثلاث طوائف والاثر بخلاف نص القرآن لا يكاد يصح عن على رضى الله عنه فثبت ان لاكتاب للمجوس ومع ذلك تؤخذ منهم الجزية وهم مشركون فانهم يدعون الاثنين وان اختلفت عبارتهم في ذلك من النور والظلمة أو يزدان واهرمن وليس الشرك الا هذا فإذا جاز أخذ الجزية منهم فكذلك من غيرهم من المشركين وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} الجزية من مجوس هجر وبهذا تبين أن ذكر أهل الكتاب في الآية ليس لتقييد الحكم بل لبيان جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ومن أصلنا أن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل علي أن الحكم فيما عداه بخلافه قوم غزوا أرض الحرب فارتد منهم طائفة واعتزلوا عسكرهم وحاربوا ونابذوهم فأصاب المسلمون غنيمة وأصاب أولئك المرتدون غنيمة من أهل الشرك ثم تابوا قبل أن يخرجوا من دار الحرب لم يشارك أحد الفريقين الآخر فيما أصابوا لان بعضهم لم يكن ردءا للبعض فالمسلمون لا ينصرون المرتدين ولا يستنصرون بالمرتدين إذا حزبهم أمر ولان مصاب المرتدين ليس بغنيمة إذ لم يكن قصدهم عند الاصابة اعزاز الدين والمرتدون في حق
[ 120 ]
المسلمين كاهل الحرب فانهم في دار الحرب وأهل الحرب إذا أسلموا والتحقوا بالجيش لم يشاركوهم فيما أصابوا قبل ذلك وكذلك المرتدون الا أن يلقوا قتالا فيقاتلوا قبل أن يخرجوا إلى دار الاسلام فحينئذ يشارك بعضهم بعضا لانهم قاتلوا دفعا عن ذلك المال فكأنهم أصابوه بهذا القتال واشتركوا في احرازه بالدار فيشارك بعضهم بعضا في ذلك ثم هذا فيما أصابه المسلمون غير مشكل بمنزلة من أسلم من أهل الحرب والتحق بالجيش إذا لقوا قتالا فقاتل بعضهم وما أصاب المرتدون وان لم يكن له حكم الغنيمة فانه يأخذ حكم الغنيمة بهذا القتال كالمتلصص إذا أصاب مالاثم لحقه جيش المسلمين فان مصابه يأخذ حكم الغنيمة حتى يخمس ولا شئ على من قتل المرتدين قبل أن يدعوهم إلى الاسلام لانهم بمنزلة كفار قد بلغتهم الدعوة فان جددوها فحسن وان قاتلوهم قبل أن يدعوهم فحسن (قال) وإذا ارتد الغلام المراهق عن الاسلام لم يقتل وهنا فصلان إذا أسلم الغلام العاقل الذى لم يحتلم فاسلامه صحيح عندنا استحسانا وفى القياس لا يصح اسلامه في أحكام الدنيا وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} رفع القلم عن ثلاث عن الصبى حتى يحتلم ومن كان مرفوع القلم فلا ينبني الحكم في الدنيا على قوله ولانه غير مخاطب بالاسلام ما لم يبلغ فلا يحكم بصحة اسلامه كالذى لا يعقل إذا لقن فتكلم به وتقريره من أوجه أحدها أنه لا عبرة لعقله قبل البلوغ حتى يكون تبعا لغيره في الدين والدار بمنزلة الذى لا يعقل وتقرير هذا انه يحكم باسلامه إذا أسلم أحد أبويه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه فإذا لم يعتبر اعتقاده ومعرفته في ابقاء ما كان ثابتا فكيف يعتبر ذلك في اثبات ما لم يكن ثابتا وبين كونه أصلا في حكم وتبعا فيه بعينه مغايرة على سبيل المنافاة والثانى انه لو صح اسلامه بنفسه كان ذلك منه فرضا لاستحالة القول بكونه مستقلا في الاسلام ومن ضرورة كونه فرضا ان يكون مخاطبا به وهو غير مخاطب باتفاق فإذا لم يمكن تصحيحه فرضا لم يصح أصلا بخلاف سائر العبادات فانه يتردد بين الفرض والنفل وبخلاف ما إذا جعل مسلما تبعا لغيره لان صفة الفرضية في الاصل تغني عن اعتباره في التبع كالاقرار باللسان والاعتقاد بالقلب ولان اعتبار عقله قبل البلوغ لضرورة الحاجة إليه وذلك يختص بما لا يمكن تحصيله له من قبل غيره ففيما يمكن تحصيله له من جهة غيره لا حاجة إلى اعتبار عقله فلا يعتبر والدليل عليه انه لو لم يصف الاسلام بعدما عقل لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته ولو صار عقله معتبرا في الدين لوقعت الفرقة إذا لم يحسن ان
[ 121 ]
يصف كما بعد البلوغ ولان أحكام الاسلام في الدنيا تنبنى على قوله وقوله اما ان يكون اقرارا أو شهادة ولا يتعلق به حكم الشرع كسائر الاقارير والشهادات وأما فيما بينه وبين ربه إذا كان معتقدا لما يقول فنحن نسلم ان له في أحكام الآخرة مالمسلمين (وحجتنا) في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حتي يعرب عنه لسانه اما شاكرا واما كفورا وقد أعرب هنا لسانه شاكرا شكورا فلا نجعله كافرا كفورا وان عليا رضى الله عنه أسلم وهو صبى وحسن اسلامه حتى افتخر به في شعره قال سبقتكم إلى اسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلمي واختلفت الروايات في سنه حين أسلم وحين مات فقال محمد ابن جعفر رضى الله عنهما أسلم وهو ابن خمس سنين ومات وهو ابن ثمانية وخمسين سنة لان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} دعاه إلى الاسلام في أول مبعثه ومدة البعث ثلاث وعشرون سنة والخلافة بعده ثلاثون انتهي بموت على رضي الله عنه فإذا ضممت خمسا إلى ثلاث وخمسين فيكون ثمانية وخمسين وقال العتيبى أسلم وهو ابن سبع سنين ومات وهو ابن ستين سنة بهذا الطريق أيضا وقال الجاحظ أسلم وهو ابن عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين وهكذا ذكره محمد في السير الكبير والمعنى فيه أنه أتى بحقيقة الاسلام وهو من أهله فيحكم باسلامه كالبالغ وبيان الوصف ان الاسلام اعتقاد بالقلب واقرار باللسان وهو من أهل الاعتقاد ومن رجع إلى نفسه علم أنه كان معتقد للتوحيد قبل بلوغه ولانه من أهل اعتقاد سائر الاشياء والمعروفة به ومن أهل معرفة أبويه والرجوع اليهما إذا حزبه أمر فعرفنا ضرورة أنه من أهل معرفة خالقه وقد سمعنا اقراره بعبارة مفهومة ونحن نرى صبيا يناظر في الدين ويقيم الحجج الظاهرة حتي إذا ناظر الموحدين أفهم وإذا ناظر الملحدين أفحم فلا يظن بعاقل ان يقول أنه ليس من أهل المعرفة والدليل على الاهلية أنه يجعل مسلما تبعا لغيره وبدون الاهلية لا يتصور ذلك ولانه مع الصبا أهل للرسالة قال الله تعالى وآتيناه الحكم صبيا فعلم ضرورة أنه أهل للاسلام ثم بعد وجود الشئ حقيقة اما ان يسقط اعتباره بحجر شرعى فلا يظن ذلك ههنا والناس عن آخرهم دعوا إلى الاسلام والحجر عن الاسلام كفر أولا يحكم بصحته لضرر يلحقه ولاتصور لذلك في اللاسلام فانه سبب للفوز والسعادة الابدية فيكون محض منفعة في الدنيا والآخرة وان حرم ميراث مورثه الكافر أو بانت منه وزجته ؟ الكافرة فانما
[ 122 ]
سطر 67:
[ 123 ]
ردته بانت منه امرأته ولكنه لا يقبل استحسانا لان القتل عقوبة وهو ليس من أهل أن يلتزم العقوبة في الدنيا بمباشرة سببها كسائر العقوبات ولكن لو قتله انسان لم يغرم شيئا لان من ضرورة صحة ردته اهدار دمه وليس من ضرورته استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت لا تقتل ولو قتلها قاتل لم يلزمه شئ وهذه فصول أحدها في الذى أسلم تبعا لابويه إذا بلغ مرتدا في القياس يقتل لارتداده بعد اسلامه وفى الاستحسان لا يقتل ولكن يجبر علي الاسلام لانه ماكان مسلما مقصودا بنفسه وانما يثبت له حكم الاسلام تبعا لغيره فيصير ذلك شبهة في اسقاط القتل عنه وان بلغ مرتدا والثانى إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتدا فهو على هذا القياس والاستحسان لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء في صحة اسلامه في الصغر والثالث إذا ارتد في صغره والرابع المكره على الاسلام إذا ارتد فانه لا يقتل استحسانا لانا حكمنا باسلامه باعتبار الظاهر وهو أن الاسلام مما يجب اعتقاده ولكن قيام السيف على رأسه دليل على أنه غير معتقد فيصير ذلك شبهة في اسقاط القتل عنه وفى جميع ذلك يجبر على الاسلام ولو قتله قاتل قبل أن يسلم لا يلزمه شئ وإذا ارتد السكران في القياس تبين منه امرأته لان السكران كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله حتى لو طلق امرأته بانت منه ولو باع أو أقر بشئ كان صحيحا منه ولكنه استحسن وقال لاتبين منه امرأته لان الردة تنبنى على الاعتقاد ونحن نعلم أن السكران غير معتقد لما يقول ولانه لاينجو سكران من التكلم بكلمة الكفر في حال سكره عادة والاصل فيه ماروى أن واحدا من كبار الصحابة رضى الله عنهم سكر حين كان الشرب حلالا وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} هل أنتم الاعبيدى وعبيد آبائى ولم يجعل ذلك منه كفرا وقرأ سكران سورة قل يا أيها الكافرون في صلاة المغرب فترك اللاآت فيه فنزل فيه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتى تعلموا ما تقولون فهو دليل على أنه لا يحكم بردته في حال سكره كما لا يحكم به في حال جنونه فلا تبين منه امرأته والمكره على الردة في القياس تبين منه أمرأته وبه أخذ الحسن لانا لا نعلم من سره ما نعلم من علانيته وانما ينبني الحكم على ما نسمع منه ولهذا يحكم باسلامه ان أسلم مكرها ولا أثر لعذر الاكراه في المنع من وقوع الفرقة كما لو أكره على الطلاق وفى الاستحسان لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته لان قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه غير معتقد لما يقول وانما قصد به دفع الشر عن نفسه والردة ننبني على
[ 124 ]
الاعتقاد وبخلاف الاسلام فهناك بمقابلة هذا الظاهر ظاهر آخر وهو أن الاسلام مما يجب اعتقاده بخلاف الطلاق لان ذلك انشاء سببه التكلم والاكراه لا ينافي الانشاء وهذا اخبار عن اعتقاده والاكراه دليل على أنه كاذب فيه فوز انه الاكراه على الاقرار بالطلاق وإذا طلب ورثة المرتد كسبه الذى اكتسبه في ردته وقالوا أسلم قبل أن يموت فعليهم البينة في ذلك وهذا عند أبى حنيفة رحمه الله تعالي لانه يفرق بين الكسبين والمعنى فيه أن سبب حرمانهم ظاهر وهو ردته عند اكتسابه فهم يدعون عارضا مزيلا لذلك وهو اسلامه قبل موته فعليهم أن يثبتوا ذلك بالبينة وان نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب عمل في تركته ورثته ما يعمل في تركة المرتد لانه صار حربيا حقيقة وحكما فيكون كالميت في حق من هو من أهل دارنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والماب (باب الخوارج) (قال) رضي الله عنه اعلم أن الفتنة إذا وقعت بين المسلمين فالواجب على كل مسلم أن يعتزل الفتنة ويقعد في بيته هكذا رواه الحسن عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من فر من الفتنة أعتق الله رقبته من النارر وقال لواحد من أصحابه في الفتنة كن حلسا من أحلاس بيتك فان دخل عليك فكن عبد الله المقتول أوقال عند الله معناه كن ساكنا في بيتك لا قاصدا فان كان المسلمون مجتمعين على واحد وكانوا آمنين به والسبيل آمنة فخرج عليه طائفة من المسلمين فحينئذ يجب على من يقوى على القتال أن يقاتل مع امام المسلمين الخارجين لقوله تعالى فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي والامر حقيقة للوجوب ولان الخارجين قصدوا أذى المسلمين واماطة الاذي من أبواب الدين وخروجهم معصية ففي القيام بقتالهم نهى عن المنكر وهو فرض ولانهم يهيجون الفتنة قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها فمن كان ملعونا على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه يقاتل معه والذى روى أن ابن عمر رضى الله عنهما وغيره لزم بيته تأويله انه لم يكن له طاقة على القتال وهو فرض على من يطيقه والامام فيه علي رضى الله عنه فقد قام بالقتال وأخبر أنه مأمور بذلك بقوله رضى الله عنه أمرت بقتال المارقين ؟ الناكثين والقاسطين ولهذا بدأ الباب بحديث كثير الحضرمي حيث قال دخلت مسجد
[ 125 ]
سطر 76:
[ 126 ]
لانهم مسلمون وفيه دليل على أنهم يقاتلون دفعا لقتالهم فانه قال ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا معناه حق تعزموا على القتال بالتجمع والتحيز عن أهل العدل (قال) وبلغنا عن على رضى الله عنه أنه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا ولا تدففوا على جريح ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال وبهذا كله نأخذ فنقول إذا قاتل أهل العدل أهل البغى فهزموهم فلا ينبغى لاهل العدل أن يتبعوا مدبرا لانا قاتلناهم لقطع بغيهم وقد اندفع حين ولوا مدبرين ولكن هذا إذا لم يبق فئة يرجعون إليها فان بقى فئة فانه يتبع مدبرهم لانهم ما تركوا قصدهم لهذا حين ولوامنهم منهرمين بل تحيزوا إلى فئتهم ليعودوا فيتبعون لذلك ولهذا يتبع المدبر من المشركين لبقاء الفئة لاهل الحرب وكذلك لا يقتلون الاسير إذا لم يبق لهم فئة وقد كان على رضى الله عنه يحلف من يؤسر منهم ان لا يخرج عليه قط ثم يخلى سبيله وان كانت له فئة بأس بأن يقتل أسيرهم لانه ما اندفع شره ولكنه مقهور ولو تخلص انحاز إلى فئته فإذا رأى الامام المصلحة في قتله لا بأس بأن يقتله وكذلك لا يجهزوا على جريحهم إذا لم يبق لهم فئة فان كانت باقية فلا بأس بأن يجهز على جريحهم لانه إذا برئ عاد إلى تلك الفتنة والشر بقوة تلك الفئة ولان في قتل الاسير والتجهيز على الجريح كسره شوكة أصحابه فإذا بقيت لهم فئة فهذا المقصود يحصل بذلك بخلاف ما إذا لم يبق لهم فئة وقوله لا يكشف سترقيل معناه لا يسبي الذرارى ولا يؤخذ مال على سبيل التملك بطريق الاغتنام وبه نقول لا تسبي نساؤهم وذراريهم لانهم مسلمون ولا يتملك أموالهم لبقاء العصمة فيها بكونها محرزة بدار الاسلام فان التملك بالقهر يخص بمحل ليس فيه عصمة الاحراز بدار الاسلام (قال) وما أصاب أهل العدل من كراع أهل البغى وسلاحهم فلا بأس باستعمال ذلك عليهم عند الحاجة لانهم لو احتاجوا إلى سلاح أهل العدل كان لهم أن يأخذوه للحاجة والضرورة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من صفوان دروعا في حرب هوازن وكان ذلك بغير رضاه حيث قال أغصبا يا محمد فإذا كان يجوز ذلك في سلاح من لا يقاتل ففي سلاح من يقاتل من أهل البغى أولى فإذا وضعت الحرب أو زارها رد جميع ذلك عليهم لزوال الحاجة وكذلك ما أصيب من أموالهم يرد إليهم لانه لم يتملك ذلك المال عليهم لبقاء العصمة والاحراز فيه ولان الملك بطريق القهر لا يثبت ما لم يتم وتمامه بالاحراز بدار تخالف دار المستولي عليه وذلك لا يوجد بين أهل البغي وأهل العدل لان دار الفئتين واحدة (قال)
[ 127 ]
سطر 82:
[ 128 ]
في حقهم بالمحاجة والالزام بالدليل فلا يعتبر تأويلهم الباطل في إسقاط الضمان قبل أن يصيروا أهل منعة فاما بعدما صارت لهم منعة فقد انقطع ولاية الالزام بالدليل حسا فيعتبر تأويلهم وان كان باطلا في اسقاط الضمان عنهم كتأويل أهل الحرب بعدما أسلموا والاصل فيه حديث الزهري قال وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} كانوا متوافرين فاتفقوا ؟ على ان كل دم أريق بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال أتلف بتأويل القرآن فهو موضوع وما كان قائما بعينه في أيديهم فهو مردود على صاحبه لانهم لم يملكوا ذلك بالاخذ كما أنا لانملك عليهم مالهم والتسوية بين الفئتين المقاتلتين بتأويل الدين في الاحكام أصل وقد روى عن محمد قال افتيهم إذا تابوا بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والاموال ولا الزمهم ذلك في الحكم وهذا صحيح فانهم كانوا معتقدين الاسلام وقد ظهر لهم خطأهم في التأويل الا أن ولاية الالزام كان منقطعا للمنعة فلا يجبر على اداء الضمان في الحكم ولكن يفتي به فيما بينه وبين ربه ولا يفتى أهل العدل بمثله لانهم محقون في قتالهم وقتلهم ممنثلون ؟ للامر وان كان أهل البغى قد استعانوا بقوم من أهل الذمة على حربهم فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضا للعهد ألا ترى أن هذا الفعل من أهل البغي ليس ينقض للايمان فكذلك لا يكون من أهل الذمة نقضا للعهد وهذا لان أهل البغى مسلمون فان الله تعالى سمى الطائفتين باسم الايمان بقوله تعالى وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقال على رضى الله عنه اخواننا بغوا علينا فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من ان يكونوا ملتزمين حكم الاسلام في المعاملات وان يكونوا من اهل دار الاسلام فلهذا لا ينتقض عهدهم بذلك ولكنهم بمنزلة أهل البغى فيما أصابوا في الحرب لانهم قاتلوا تحت راية البغاة فحكمهم فيما فعلوا كحكم البغاة وينبغى لاهل العدل إذا لقوا أهل البغي أن يدعوهم إلى العدل هكذا روى عن على رضى الله عنه أنه بعث ابن عباس رضى الله عنهما إلى أهل حرورا حتى ناظرهم ودعاهم إلى التوبة ولان المقصود ربما يحصل من غير قتال ؟ بالوعظ والانذار فالاحسن ان يقدم ذلك على القتال لان الكى آخر لدواء وان لم يفعلوا فلا شئ عليهم لانهم قد علموا ما يقاتلون عليه فحالهم في ذلك كحال المرتدين وأهل الحرب الذين بلغتهم الدعوة ولهذا يجوز قتالهم بكل ما يجوز القتال به من أهل الحرب كالرمي بالنبل والمنجنيق وارسال الماء والنار عليهم والبيات بالليل
[ 129 ]
لان قتالهم فرض كقتال أهل الحرب والمرتدين وإذا وقعت الموادعة بينهم فأعطى كل واحد من الفريقين رهنا على انه ايهما غدر فقتل الرهن فدماء الآخرين لهم حلال فغدر أهل البغى وقتلوا الرهن الذين في أيديهم لم ينبغ لاهل العدل ان يقتلوا الرهن الذين في أيديهم ولكنهم يحبسونهم حتى يهلك أهل البغي أو يتوبوا لانهم صاروا آمنين فينا إما بالموادعة أو بأن أعطيناهم الامان حين أخذناهم رهنا وانما كان الغدر من غيرهم فلا يؤاخذون بذنب الغير قال الله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى ولكنه لا يخلى سبيلهم لانهم يخاف فتنتهم وان يعودوا إلى فئتهم فيحاربون أهل العدل فلهذا حبسوا إلى ان يتفرق جمعهم وكذلك ان كان هذا الصلح بين المسلمين والمشركين فغدر المشركون حبس رهنهم في أيدى المسلمين حتى يسلموا وان أبوا فهم ذمة المسلمين يوضع عليهم الجزية لانهم حصلوا في أيدينا آمنين فلا يحل قتلهم بغدر كان من غيرهم ولكنهم احتبسوا في دارنا على التأبيد لانهم كانوا راضين بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد فات ذلك حين قتلوا رهننا فقلنا انهم بحتبسون في دارنا على التأبيد والكافر لا يترك في دارنا مقيما الا بجزية فتوضع عليهم الجزية ان لم يسلموا ويحكي أن الدوانيقي كان ابتلى بهذا الصلح مع أهل الموصل ثم انهم غدروا فقتلوا رهنه فجمع العلماء ليستشيرهم في رهنهم فقالوا يقتلون كما شرطوا على أنفسهم وفيهم أبو حنيفة رحمه الله تعالى ساكت فقال له ما تقول قال ليس لك ذلك فانك شرطت لهم مالا يحل وشرطوا لك مالا يحل وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا تزر وازرة وزر أخرى فاغلظ عليه القول وأمر باخراجه من عنده وقال ما دعوتك لشئ الا أتيتني بما أكره ثم جمعهم من الغد وقال قد تبين لى أن الصواب ما قلت فماذا نصنع بهم قال سل العلماء فسألهم فقالوا لاعلم لنا بذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى توضع عليهم الجزية فقال لم وهم لا يرضون بذلك قال لانهم رضوا بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد تحقق فوات ذلك فكانوا راضين بالمقام في درانا على التأبيد والكافر إذا رضى بذلك توضع عليه الجزية فاستحسن قوله واعتذر إليه ورده إلى بيته بمحمل وإذا أمن الرجل من أهل العدل رجلا من أهل البغي جاز أمانه لان وجوب قتل الباغي لا يكون أقوى من وجوب قتل المشرك ثم هناك يصح أمان واحد من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يسعى بذمتهم ادناهم فكذلك ههنا ولانه ربما يحتاج الي أن يناظره فعسى أن يتوب من غير قتال ولا يتأتى ذلك ما لم يأمن كل
[ 130 ]
سطر 91:
[ 131 ]
شهدوا عنده بذلك لم يقض بشهادتهم على مابينا وكذلك ان كان لا يعرفهم لان الظاهر في منعة أهل البغى أن من يسكن فيهم فهو منهم فما لم يعلم خلافه وجب عليه الاخذ بالظاهر (قال) وما أصاب أهل البغي من القتل والاموال قبل أن يخرجوا ويحاربوا ثم صالحوا بعد الخروج على ابطال ذلك لم يجز وأخذوا بجميع ذلك من القصاص والاموال لان ذلك حق لزمهم للعباد وليس للامام ولاية اسقاط حقوق العباد فكان شرطهم اسقاط ذلك عنهم شرطا باطلا فلا يوفي به ويصنع بقتلى أهل العدل مايصنع بالشهيد فلا يغسلون ويصلى عليهم هكذا فعل على رضى الله عنه بمن قتل من أصحابه وأوصى عمار بن ياسر وحجر بن عدى وزيد بن صوحان رضي الله عنهم حين استشهدوا وقد رويناه في كتاب الصلاة ولا يصلى على قتلى أهل البغي ولا يغسلون أيضا ولكنهم يدفنون لاماطة الاذى هكذا روى عن على رضي الله عنه أنه لم يصل على قتلى النهروان ولان الصلاة عليهم الدعاء لهم والاستغفار قال الله تعالى وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم وقد منعنا من ذلك في حق أهل البغى ولان القيام بغسلهم والصلاة عليهم نوع موالاة معهم والعادل ممنوع من الموالاة مع أهل البغي في حياة الباغي فكذلك بعد وفاته وكان الحسن بن زياد رحمهما الله تعالى يقول هذا إذا بقيت لهم فئة فان لم يبق لهم فلا بأس للعادل بأن يغسل قريبه من أهل البغي ويصلى عليه وجعل ذلك بمنزلة قتل الاسير والتجهيز على الجريح لان في القيام بذلك مراعاة حق القرابة ولا بأس بذلك إذا لم يبق لهم فئة (قال) وأكره ان تؤخذ رؤسهم فيطاف بها في الآفاق لانه مثلة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} عن المثلة ولو بالكلب العقور ولانه لم يبلغنا ان عليا رضى الله عنه صنع ذلك في شئ من حروبه وهو المتبع في الباب ولما حمل رأس يباب البطريق إلى أبى بكر رضي الله عنه كرهه فقيل ان الفرس والروم يفعلون ذلك فقال لسنا من الفرس ولا الروم يكفينا الكتاب والخبر وقد جوز ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا ان كان فيه كسر شوكتهم أو طمأنينة قلب أهل العدل استدلالا بحديث ابن مسعود رضى الله عنهم حين حمل رأس أبى جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فلم ينكر عليه وإذا قتل العادل في الحرب أباه الباغي ورثه لانه قتل بحق فلا يحرمه الميراث كالقتل رجما أو في قصاص وهذا لان حرمان الميراث عقوبة شرعت جزاء على قتل محظور فالقتل المأمور به لا يصلح ان يكون سببا له وكذلك الباغي إذا قتل مورثه العادل
[ 132 ]
يرثه في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يرثه في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لانه قتل بغير حق فيحرمه الميراث كما لو قتله ظلما من غير تأويل وهذا لان اعتقاده تأويله لا يكون حجة على مورثه العادل ولا على سائر ورثته وانما يعتبر ذلك في حقه خاصة يوضحه ان تأويل أهل البغى عند انضمام المنعة يعتبر على الوجه الذي يعتبر في حق أهل الحرب وتأثير ذلك في اسقاط ضمان النفس والمال لافي حكم التوريث إذ لا توارث بين المسلم والكافر فكذلك تأويل أهل البغى وهما يقولان المقاتلة بين الفئتين بتأويل الدين فيستويان في الاحكام وان اختلفا في الآثام كما في سقوط الضمان وكما في حق أهل الحرب مع المسلمين وكما ان قتل الباغي مورثه بغير حق فقتل الحربي كذلك بغير حق ثم لا يتعلق به حرمان الميراث حتى إذا جرح الكافر مورثه ثم أسلم ثم مات من تلك الجراحة ورثه وكما أن اعتقاده لا يكون حجة على العادل في حكم التوريث فكذلك في حكم سقوط حقه في الضمان لا يكون حجة ولكن قيل لما انقطعت ولاية الالزام بانضمام المنعة الي التأويل جعل الفاسد من التأويل كالصحيح في ذلك الحكم فكذلك في حكم التوريث ويكره للعادل أن يلي قتل أخيه وأبيه من أهل البغى اما في حق الاب لا يشكل فانه يكره له قتل أبيه المشرك كما قال تعالى وصاحبهما في الدنيا معروفا فالمراد في الابوين المشركين كذلك تأول الآية وهو قوله تعالى وان جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ولما استأذن حنظلة بن أبى عامر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قتل أبيه المشرك كره له ذلك وقال يكفيك ذلك غيرك وكذلك لما استأذن عبد الله بن عبد الله بن أبى سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في قتل أبيه المشرك نهاه عن ذلك ولا بأس بقتل اخيه إذا كان مشركا ويكره إذا كان باغيا لان في حق الباغي اجتمع حرمتان حرمة القرابة وحرمة الاسلام فيمنعه ذلك من القصد إلى قتله وفى حق الكافر انما وجد حرمة واحدة وهو حرمة القرابة فذلك لا يمنعه من القتل كالحرمة في حق الدين في حق الاجانب من أهل البغى فان قصده أبوه المشرك أو الباغي ليقتله كان للابن أن يمتنع منه يقتله لانه يقصد بفعله الدفع عن نفسه لاقتل أبيه وكل واحد مأمور بأن يدفع قصد الغير عن نفسه وان كان الرجل من أهل العدل في صف أهل البغى فقتله رجل لم يكن عليه فيه الدية كما لو كان في صف أهل الحرب لانا أمرنا بقتال الفريقين فكل من كان واقفا في صفهم فقتاله حلال
[ 133 ]
والقتال الحلال لا يوجب شيئا ولانه أهدر دمه حين وقف في صف أهل البغي وإذا دخل الباغى عسكر أهل العدل بأمان فقتله رجل من أهل العدل فعليه الدية كما لو قتل المسلم مستأمنا في دارنا وهذا لبقاء شبهة الاباحة في دمه حين كان دخوله بامان ألا ترى أنه يجب تبليغه مأمنه ليعود حربا فالقصاص يندرئ بالشبهات ووجوب الدية للعصمة والتقوم في دمه للحال (قال) وإذا حمل العادل على الباغي في المحاربة فقال قد تبت وألقى السلاح كف عنه لانه انما يقاتله ليتوب وقد حصل المقصود فهو كالحربي إذا أسلم ولانه يقاتله دفعا لبغيه وقتاله وقد اندفع ذلك حين ألقى السلاح وكذلك لو قال كف عني حتى أنظر في أمري فلعلي أتابعك وألقى السلاح لانه استأمن لينظر في أمره فعليه أن يجيبه إلى ذلك رجاء أن يحصل المقصود بدون القتال وفي حق أهل الحرب لا يلزمه اعطاء الامان لان الداعي إلى المحاربة هناك شركه ولا ينعدم ذلك بالقاء السلاح وههنا أهل البغي مسلمون وانما يقاتلون لدفع قتالهم فإذا ألقي السلاح واستمهله كان عليه أن يمهله ولو قال أنا على دينك ومعه السلاح لم يكف عنه بذلك لانه صادق فيما قال وقد بينا أن البغاة مسلمون وقد كان العادل مأمورا بقتالهم مع علمه بذلك فلا يتغير ذلك باخباره اياه بذلك وهذا لانه مادام حاملا للسلاح فهو قاصد للقتال ان تمكن منه فيقتله دفعا لقتاله وإذا غلب قوم من أهل البغي على مدينة فقاتلهم قوم آخرون من أهل البغى فهزموهم فأرادوا أن يسبوا ذرارى أهل المدينة لم يسع أهل المدينة الا أن يقاتلوا دون الذرارى لان ذرارى المسلمين لا يسبون فان البغاة ظالمون في سبيهم وعلي كل من يقوى على دفع الظلم عن المظلوم أن يقوم به كما قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لا حتى تأخذوا علي يدى الظالم فتأطروه على الحق أطرا وإذا وادع أهل البغى قوما من أهل الحرب لم يسع لاهل العدل أن يغزوهم لانهم من المسلمين وأمان المسلم إذا كان في فئة ممتنعة نافذ على جميع المسلمين فان غدر بهم أهل البغي فسبوهم لم يشتر منهم أهل العدل شيئا من تلك السبايا لاتهم ؟ كانوا في موادعة وأمان من المسلمين فالذين غدروا بهم لا يملكونهم ولكنهم يؤمرون باعادتهم إلى ما كانوا عليه حتى إذا تاب أهل البغى أمروا بردهم وكذلك ان كان أهل العدل هم الذين وادعوهم وان ظهر أهل البغى علي أهل العدل حتى ألجؤهم إلى دار الشرك فلا يحل لهم أن يقاتلوا مع المشركين أهل البغى لان حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغى من
[ 134 ]
سطر 106:
[ 136 ]
فكذلك حال الذين قاتلوا بعد ما مات الامام قبل أن يستخلفوا غيره وإذا استعان قوم من أهل البغي بقوم من أهل الحرب على قتال أهل العدل وقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل قال يسبى أهل الحرب وليست استعانة أهل البغى بهم بأمان لهم لان المستأمن يدخل دار الاسلام تاركا للحرب وهؤلاء ما دخلوا دار الاسلام الا ليقاتلوا المسلمين من أهل العدل فعرفنا أنهم غير مستأمنين ولان المستأمنين لو تجمعوا وقصدوا قتال المسلمين وناجزوهم كان ذلك منهم نقضا للامان فلان يكون هذا المعنى مانعا ثبوت الامان في الابتداء أولى وكذلك أهل البغي إذا دعوا قوما من أهل الحرب فأعان أولئك القوم من أهل الحرب على أهل العدل فقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل فانهم يسبونهم لما بينا أن موادعة أهل البغي وان كانت عاملة في حق أهل العدل فهم بالقصد إلى مال أهل العدل صاروا ناقضين لتلك الموادعة والتحقوا بمن لاموادعة لهم من أهل الحرب في حكم السبى من لحق بعسكر أهل البغى وحارب معهم لم يكن فيه حكم المرتد حتى لا يقسم ماله بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه وبين امرأته فان عليا رضي الله تعالى عنه لم يفعل ذلك في حق أحد ممن التحق من أهل عسكره بمن خالف ولما قال للذى أتاه بعد ذلك يخاصم في زوجته أنت الممالئ علينا عدونا قال أو يمنعنى ذلك عدلك فقال لاو قضى له بزوجته ولان الموت الحكمى انما يثبت بتباين الدارين حقيقة وحكما وذلك لا يوجد ههنا فمنعة أهل البغي وأهل العدل كلها في دار الاسلام فلهذا لا يقسم ماله بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه وبين زوجته والله أعلم (باب آخر في الغنيمة) (قال) قال أبو حنيفة رحمه الله المقطوع في الحرب وصاحب الديون في الغنيمة سواء لان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} لما سئل عن الغنيمة قال لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم فقال السائل فهل أحدا حق بشئ من غيره قال لاحتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن أحق به من صاحبك ولان السبب هو القهر على وجه يكون فيه اعزاز الدين والمتطوع في ذلك كصاحب الديون ومن دخل دار الحرب للتجارة وهو في عسكر المسلمين فلا حق له في الغنيمة الا ان يلقى المسلمون العدو فيقاتل معهم فيشاركهم حينئذ لان التاجر ماكان
[ 137 ]
قصده عند الانفصال إلى دار الحرب القتال لاعزاز الدين وانما كان قصده التجارة فلا يكون هو من الغزاة وان كان فيهم الا ان يقاتل فحينئذ يتبين بفعله ان مقصوده القتال ومعنى التجارة تبع فلا يحرمه ذلك سهمه وقيل نزل قوله عزوجل ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم يعنى التجارة في طريق الحج فكذلك في طريق الغزو وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير الذى لا يطيق القتال والذين بهم زمانة لا يطيقون القتال فنهى عن ذلك وكرهه والاصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حين رأي امرأة مقتولة هاما كانت هذه تقاتل فهذا تنصيص على انها لا تقتل والشيخ الكبير ومن به زمانة بهذه الصفة قالوا وهذا إذا كان لا يقاتل برأيه وأما إذا كان يقاتل برأيه ففي قتله كسر شوكتهم فلا بأس بذلك فان دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكان ابن مائة وستين سنة وقد عمى وكان ذا رأي في الحرب (قال) وسألته عن أصحاب الصوامع والرهبان فرأي قتلهم ؟ حسنا وفى السير الكبير مروي عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى انهم لا يقتلون وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله وقيل لا خلاف في الحقيقة فانهم ان كانوا يخالطون الناس يقتلون عندهم جميعا لان المقاتلة يصدرون عن رأيهم وهم الدين يحثونهم على قتال المسلمين وان كانوا طينوا على أنفسهم الباب ولا يخالطون الناس أصلا فانهم لا يقتلون لانهم لا يقاتلون بالفعل ولا بالحث عليه وقيل بل في المسألة خلاف فهما استدلا بوصية أبى بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبى سفيان حيث قال وستلقى أقواما من أصحاب الصوامع والرهبان زعموا انهم فرغوا أنفسهم للعبادة فدعهم وما فرغوا أنفسهم له والمعني فيه انهم لا يقاتلون والقتل لدفع القتال فكانوا هم في ذلك كالنساء والصبيان وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هؤلاء من ائمة الكفر قال تعالى فقاتلوا ائمة الكفر فمعني هذا الكلام انهم فرغوا أنفسهم للاصرار على الكفر والاشتغال بما يمنع عنه في الاسلام والظاهر ان الناس يقتدون بهم فهم يحثون الناس على القتال فعلا وان كانوا لا يحثونهم على ذلك قولا ولانهم بما صنعوا لا تخرج بنيتهم من أن تكون صالحة للمحاربة وان كانوا لا يشتغلون بالمحاربة كالمشغولين بالتجارة والحراثة منهم بخلاف النساء والصبيان (قال) وسألته عن الرجل يأسر الرجل من أهل العدو هل يقتله أو يأتي به الامام قال أي ذلك فعل فحسن لان بالاسر ما تسقط الاباحة من دمه حتى يباح للامام ان يقتله فكذلك يباح لمن أسره كما قبل أخذه
[ 138 ]
ولما قتل أمية بن خلف بعدما أسر يوم بدر لم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} على من قتله وان أتى به الامام فهو أقرب إلى تعظيم حرمة الامام والاول أقرب إلى اظهار الشدة على المشركين وكسر شوكتهم فينبغي ان يختار من ذلك ما يعلمه أنفع وأفضل للمسلمين (قال) وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أكره ذلك وأنهي عنه وأصل الخلاف في عقود الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد بيناه وأشار إلى المعنى ههنا فقال أموال أهل الحرب تحل للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى معناه أو في غير عسكر المسلمين لا امان لهم في المال الذى جاؤا به فان للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولايكون هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على طريق الغنيمة وسألته عن المسلمين يستعينون بأهل الشرك على أهل الحرب قال لا بأس بذلك ان كان حكم الاسلام هو الظاهر الغالب لان قتالهم بهذه الصفة لاعزاز الدين والاستعانة عليهم بأهل الشرك كالاستعانة بالكلاب ولكن يرضخ لاولئك ولا يسهم لان السهم للغزاة والمشرك ليس بغاز فان الغزو عبادة والمشرك ليس من أهلها وأما الرضخ لتحريضهم على الاعانة إذا احتاج المسلمون إليهم بمنزلة الرضخ للعبيد والنساء (قال) وسألته عن الاسير يقتل أو يفادى قال لا يفادي ولكنه يقتل أو يجعل فيئا أي ذلك كان خيرا للمسلمين فعله الامام والكلام ههنا في فصول (أحدها) مفاداة الاسير بمال يؤخذ من أهل الحرب فان ذلك لا يجوز عنده وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال العظيم وذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير ان ذلك يجوز إذا كان بالمسلمين حاجة إلى المال لقوله تعالى فإما منا بعد واما فداء والمراد به الاسارى بدليل أول الآية فشدوا الوثاق ولما شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} أصحابه رضى الله تعالى عنهم في الاسارى يوم بدر أشار أبو بكر رضى الله عنه بالمفاداة فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} إلى ذلك لما رأي من حاجة أصحابه الي المال في ذلك الوقت والمعنى فيه أن استرقاق الاسير جائز وفيه منفعة للمسلمين من حيث المال فإذا فادوه بمال عظيم فمنفعة المسلمين من حيث المال في ذلك أظهر فيجوز ذلك ولايجوز قتله وفيه ابطال حق الغانمين عنه بغير عوض فلان يجوز بعوض وهو المال
[ 139 ]
الذى يفادى به كان أولى (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فبهذا تبين أن قتل المشرك عند التمكن منه فرض محكم وفى المفاداة ترك اقامة هذا الفرض وسورة براءة من آخر ما نزل فكانت هذه الآية قاضية على قوله تعالى فاما منا بعد واما فداء على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من مفاداة الاسارى يوم بدر كيف وقد قال تعالى لولا كتاب من الله اسبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لو نزل العذاب مانجى منه الا عمر فانه كان أشار بقتلهم واستقصي في ذلك وقال تعالى وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم فما أخبر الله تعالى عن الامم السالفة على وجه الانكار عليهم ففائدتنا أن لانفعل مثل ما فعلوا وحديث أبى بكر رضى الله عنه في الاسير حيث قال لاتفادوه وان أعطيتم به مدين من ذهب ولانه صار من أهل دارنا فلا يجوز اعادته إلى دار الحرب ليكون حربا علينا بمال يؤخذ منه كأهل الذمة وبه فارق الاسترقاق لان في ذلك تقرير كونه من أهل دارنا لا لمقصود المال كأخذ الجزية من أهل الذمة ولان تخلية سبيل المشرك ليعود حربا للمسلمين معصية وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز وقتل المشرك فرض ولو أعطونا مالا لترك الصلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة إلى المال فكذلك لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة يوضحه أن في هذا تقوية المشركين بمعنى يختص بالقتال وذلك لا يجوز لمنفعة المال كما لا يجوز بيع الكراع والسلاح منهم بل أولى لان قوة القتال بالمقاتل أظهر منه بآلة القتال وعن ممحد رحمه الله تعالى قال لا يجوز المفاداة للشيخ الكبير الذى لا يرجي له نسل ولا رأى له في الحرب بالمال لان مثله لا يقتل وليس في المفاداة ترك القتل المستحق ولا تقوية المشركين باعادة المقاتل إليهم فهو كبيع الطعام وغيره من الاموال منهم فأما مفاداة الاسير بالاسير لا يجوز في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي رواية عنه أنه جوز ذلك وهو قولهما لان في هذا تخليص المسلم من عذاب المشركين والفتنة في الدين وذلك جائز كما تجوز المفاداة في أسارى المسلمين بمال من كراع أو سلاح أو غير ذلك وجه قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ان قتل المشركين فرض محكم فلا يجوز تركه بالمفاداة وهذا لانه إذ ابتلى الاسير المسلم بعذاب أو فتنة من جهتهم فذلك لا يكون مضافا إلى فعل المسلم وإذا خلينا سبيل المشرك ليعود حربا لنا فذلك بفعل مضاف الينا فمراعاة هذا الجانب أولى وهذا لانا أمرنا ببذل النفوس والاموال لنتوصل إلى
[ 140 ]
سطر 133:
[ 145 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب الاستحسان) (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد الاستاذ شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى كان شيخنا الامام يقول الاستحسان ترك القياس والاخذ بما هو أوفق للناس وقيل الاستحسان طلب السهولة في الاحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام وقيل الاخذ بالسعة وابتغاء الدعة وقيل الاخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} خير دينكم اليسر وقال لعلى ومعاذ رضى الله تعالى عنهما حين وجههما إلى اليمن يسرا ولا تعسرا قربا ولا تنفرا وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} الا أن هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق ؟ ولا تبغضوا عبادة الله فان المنبت ؟ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى القياس والاستحسان في الحقيقة قياسان احدهما جلى ضعيف أثره فسمى قياسا والآخر خفي قوى اثره فسمى استحسانا أي قياسا مستحسنا فالترجيح بالاثر لا بالخفاء والظهور كالدنيا مع العقبى فان الدنيا ظاهرة والعقبي باطنة وترجحت بالصفاء والخلود وقد يقوى أثر القياس في بعض الفصول فيؤخذ به وهو نظير الاستدلال مع الطرد فانه صحيح والاستدلال بالمؤثر أقوي منه والاصل فيه قوله تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه والقرآن كله حسن ثم أمر باتباع الاحسن وبيان هذا ان المرأة من قرنها إلى قدمها عورة هو القياس الظاهر واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال المرأة عورة مستورة ثم أبيح النظر الي بعض المواضع منها للحاجة والضرورة فكان ذلك استحسانا لكونه أرفق بالناس كما قلنا والكرخي رحمه الله تعالى في كتابه ذكر مسائل هذا الكتاب وسماه كتاب الحظر والاباحة لما فيه من بيان ما يحل ويحرم من المس والنظر ولو سماه كتاب الزهد والورع كان مستقيما لان بين فيه غض البصر وما يحل ويحرم من المس والنظر وهذا
[ 146 ]
هو الزهد والورع ثم بدأ الكتاب بمسائل النظر وهو ينقسم أربعة أقسام نظر الرجل إلى الرجل ونظر المرأة إلى المرأة والمرأة إلى الرجل والرجل إلى المرأة اما بيان القسم الاول فانه يجوز للرجل أن ينظر إلى الرجل الا إلى عورته وعورته مابين سرته حتى يجاوز ركبتيه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن وجده رضى الله عنهم ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته وفي رواية ما دون سرته حتى يجاوز ركبته وبهذا تبين ان السرة ليست من العورة بخلاف ما يقوله أبو عصمة سعد بن معاذ أنه أحد حدى العورة فيكون من العورة كالركبة بل هو أولى لانه في معنى الاشتهاء فوق الركبة (وحجتنا) في ذلك ماروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان إذا تزر أبدى عن سرته وقال أبو هريرة للحسن رضى الله عنهما أرنى الموضع الذى كان يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} منك فابدي عن سرته فقبلها أبو هريرة رضى الله عنه والتعامل الظاهر فيما بين الناس انهم إذا اتزروا في الحمامات أبدوا عن السرة من غير نكير منكر دليل على انه ليس بعورة فأما ما دون السرة عورة في الرواية للحديث الذى روينا وكان أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى يقول إلى موضع نبات الشعر ليس من العورة أيضا لتعامل العمال في الابداء عن ذلك الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا بعيد لان التعامل بخلاف النص لا يعتبر وانما يعتبر فيما لانص فيه فأما الفخذ عورة عندنا وأصحاب الظواهر يقولون العورة من الرجل موضع السرة وأما الفخذ ليس بعورة لقوله تعالى بدت لهما سوآتهما والمراد منه العورة وفى الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان في حائط رجل من الأنصار وقد دلى ركبته في ركية وهو مكشوف الفخذ إذ دخل أبو بكر رضى الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عمر رضى الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عثمان رضى الله عنه فتزحزح وغطى فخذه فقيل له في ذلك فقال الا أستحيى ممن تستحيى منه الملائكة فلو كان الفخذ من العورة لما كشفه بين يدى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما (وحجتنا) في ذلك ما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} مر برجل يقال له جرهد وهو يصلى مكشوف الفخذ فقال له عليه الصلاة والسلام وار فخذك اما علمت أن الفخذ عورة وحديث عمرو بن شعيب رضى الله عنه نص فيه فأما الحديث الذى رواه فقد ذكر في بعض الروايات أنه كان مكشوف الركبة ثم تأويله أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حين دخلا جلسا في موضع لم يقع بصرهما
[ 147 ]
على الموضع الذى كان مكشوفا منه فلما دخل عثمان رضى الله عنه لم يبق الا موضع لو جلس فيه وقع بصره على ركبته فلهذا غطاه فأما الآية فالمراد بالسوأة العورة الغليظة وبه نقول ان العورة الغليظة هي السوأة ولكن حكم العورة ثبت فيما حول السوأتين باعتبار القرب من موضع العورة فيكون حكم العورة فيه أخف فأما الركبة فهي من العورة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليست من العورة لحديث أنس رضى الله عنه ما أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ركبته بين يدى جليس قط وانما قصد بهذا ذكر الشمائل فلو كانت الركبة من العورة لم يكن هذا من جملة الشمائل لان ستر العورة فرض ولانه حد العورة فلا يكون من العورة كالسرة وهذا لان الحد لايدخل في المحدود (وحجتنا) في ذلك حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال الركبة من العورة وما ذكر في حديث عمرو بن شعيب حتى تجاوز الركبة دليل على أن الركبة من العورة ولان الركبة ملتقي عظم الساق والفخذو عظم الفخذ عورة وعظم الساق ليس بعورة فقد اجتمع في الركبة المعنى الموجب لكونها عورة وكونها غير عورة فترجح الموجب لكونها عورة احتياطا قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} ما اجتمع الحلال والحرام في شئ الاغلب الحرام الحلال فأما حديث أنس رضى الله عنه فالمروى مامد رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} رجليه بين يدى جليس قط وهذا من الشمائل وابداء الركبة على ما ذكر في بعض الروايات كناية عن هذا المعنى أيضا ثم حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ لتعارض المعنيين فيه ولهذا قلنا من رأى غيره مكشوف الركبة عليه برفق ولا ينازع عليه ان لج وان رآه مكشوف الفخذ أنكر عليه بعنف ولا يضربه ان لج وان رآه مكشوف العورة أمره بسترها وأدبه على ذلك ان لج وما يباح إليه النظر من الرجل فكذلك المس لان ما ليس بعورة يجوز مسه كما يجوز النظر إليه فأما نظر المرأة إلى المرأة فهو كنظر الرجل إلى الرجل باعتبار المجانسة ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها كما يغسل الرجل الرجل وقد قال بعض الناس نظر المرأة الي المرأة كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها النظر إلى ظهرها وبطنها لحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} نهى النساء من دخول الحمامات بمئزر وبغير مئزر وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول امنعوا النساء من دخول الحمامات الا مريضة أو نفساء ولتدخل مستترة ولكنا نقول المراد منع النساء من الخروج وبالقرار في البيوت وبه نقول والعرف الظاهر
[ 148 ]
في جميع البلدان ببناء الحمامات للنساء وتمكينهن من دخول الحمامات دليل على صحة ما قلنا وحاجة النساء إلى دخول الحمامات فوق حاجة الرجال لان المقصود تحصيل الزينة والمرأة إلى هذا أحوج من الرجل ويتمكن الرجل من الاغتسال في الانهار والحياض والمرأة لا تتمكن من ذلك فأما نظر المرأة إلى الرجل فهو كنظر الرجل إلى الرجل لما بينا أن السرة وما فوقها وما تحت الركبة ليس بعورة من الرجل وما لا يكون عورة فالنظر إليه مباح للرجال والنساء كالثياب وغيرها وأشار في كتاب الخنثى إلى أن نظر المرأة إلى الرجل كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها أن تنظر إلى ظهره وبطنه لانه قال الخنثى ألا ينكشف بين الرجال ولابين النساء ووجه ذلك أن حكم النظر عند اختلاف الجنس غلظ ألا ترى أنه لا يباح للمرأة أن تغسل الرجل بعد موته ولو كانت هي في النظر كالرجل لجاز لها ان تغسله بعد موته وانما يباح النظر إلى هذه المواضع إذا علم أنه لايشتهي ان نظر ولا يشك في ذلك فأما إذا كان يعلم أنه يشتهى أو كان على ذلك أكبر رأيه فلا يحل له النظر لان النظر عن شهوة نوع زنا قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشى والفرج يصدق ذلك كله أو يكذب والزنا حرام بجميع أنواعه وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} النظر عن شهوة سهم من سهام الشيطان فاما نظر الرجل إلى المرأة فهو ينقسم إلى أربعة أقسام نظره إلى زوجته ومملوكته ونظره إلى ذوات محارمه ونظره إلى اماء الغير ونظره إلى الحرة الاجنبية فاما نظره إلى زوجته ومملوكته فهو حلال من قرنها إلى قدمها عن شهوة أو عن غير شهوة لحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال غض بصرك الاعن زوجتك وأمتك وقالت عائشة رضي الله عنها كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من إناء واحد وكنت أقول بق لى وهو يقول بقي لى ولو لم يكن النظر مباحا ما تجرد كل واحد منهما بين يدي صاحبه ولان ما فوق النظر وهو المس والغشيان حلال بينهما قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون الاعلى أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم الآية الا أن مع هذا الاولي أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ولا رأي منى مع طول صحبتي اياه وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} إذا اتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجرد ان تجرد العير ولان النظر إلى العورة يورث النسيان وفى شمائل الصديق
[ 149 ]
رضى الله عنه ما نظر إلى عورته قط ولامسها بيمينه فإذا كان هذا في عورة نفسه فما ظنك في عورة الغير وكان ابن عمر رضى الله تعالى عنهما يقول الاولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معني اللذة فاما نظره إلى ذوات محارمه فنقول يباح له أن ينظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة لقوله تعالى ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن الآية ولم يردبه عين الزينة فانها تباع في الاسواق ويراها الاجانب ولكن المراد منه موضع الزينة وهى الرأس والشعر والعنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه فالرأس موضع التاج والا كليل والشعر موضع القصاص والعنق موضع القلادة والصدر كذلك فالقلادة والوشاح قد ينتهي إلى الصدر والاذن موضع القرط والعضد موضع الدملوج والساعد موضع السوار والكف موضع الخاتم والخضاب والساق موضع الخلخال والقدم موضع الخضاب وجاء في الحديث ان الحسن والحسين رضى الله عنهما دخلا على أم كلثوم وهي تمتشط فلم تستتر ولان المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها عادة ولا تكون مستترة فلو أمرها بالتستر من ذوى محارمها أدى إلى الحرج وكما يباح النظر إلى هذه المواضع يباح المس لما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان يقبل فاطمة رضي الله عنها ويقول أجد منها ريح الجنة وكان إذا قدم من سفر بدأ بها فعانقها وقبل رأسها وقبل أبو بكر رأس عائشة رضي الله عنهما وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} من قبل رجل أمه فكانما قبل عتبة الجنة وقال محمد بن المنكدر رحمه الله بت أغمز رجل أمي وبات أخى أبو بكر يصلى وما أحب ان تكون ليلتي بليلته ولكن انما يباح المس والنظر إذا كان يأمن الشهوة على نفسه وعليها فأما إذا كان يخاف الشهوة على نفسه أو عليها فلا يحل له ذلك لما بينا ان النظر عن شهوة والمس عن شهوة نوع زنا وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ وكما لا يحل له ان يعرض نفسه للحرام لا يحل له ان يعرضها للحرام فإذا كان يخاف عليها فليجتنب ذلك ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها ولا ان يمس ذلك منها وقال الشافعي رحمه الله في القديم لا بأس بذلك وجعل حالهما كحال الجنس في النظر وهذا ليس بصحيح فان حكم الظهار ثابت بالنص وصورته ان يقول الرجل لامرأته أنت على كظهر أمي وهو منكر من القول لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة فلو كان النظر إلى ظهر الام حلالا له لكان هذا تشبيه محللة بمحللة وإذا ثبت هذا في الظهر يثبت في البطن لانه أقرب إلى المأتى وإلى ان يكون مشتهى منها والجنبان كذلك
[ 150 ]
وذوات المحارم بالنسب كالامهات والجدات والاخوات وبنات الاخ وبنات الاخت وكل امرأة هي محرمة عليه بالقرابة على التأبيد فهذا الحكم ثابت في حقها وكذلك المحرمة بالرضاع لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ولحديث عائشة رضى الله عنها أنها قالت يارسول الله ان أفلح بن أبى قعيس يدخل على وأنا في ثياب فضل فقال ليلج عليك أفلح فانه عمك من الرضاعة وان عبد الله بن الزبير كان يدخل على زينب بنت أم سلمة وهي تمتشط فيأخذ بقرون رأسها ويقول اقبلي علي وكانت أخته من الرضاعة ولان الرضاع لما جعل كالنسب في حكم الحرمة فكذلك في حل المس والنظر وكذلك المحرمة بالمصاهرة لان الله تعالى سوى بينهما بقوله فجعله نسبا وصهرا الا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى يختلفون فيما إذا كان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا فقال بعضهم لا يثبت به حل المس والنظر لان ثبوت الحرمة بطريق العقوبة على الزانى لا بطريق النعمة ولانه قد جرب مرة فظهرت خيانته فلا يؤمن ثانيا والاصح أنه لا بأس بذلك لانها محرمة عليه التأبيد فلا بأس بالنظر إلى محاسنها كما لو كان ثبوت حرمة المصاهرة بالنكاح ولايجوز أن يقال ثبوت الحرمة بطريق العقوبة هناك لانا انما نثبت الحرمة هناك بالقياس على النكاح فإذا جعلناها بطريق العقوبة لم تكن تلك الحرمة واثبات الحرمة ابتداء بالرأى لا يجوز ثم يحل له أن يخلو بهؤلاء وأن يسافر بهن لقوله صلي الله عليه وسلم ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فان ثالثهما الشيطان معناه ليست بمحرم له فدل أنه يباح له أن يخلو بذوات محارمه ولكن بشرط أن يأمن على نفسه وعليها لما روي عن عمار بن ياسر رضى الله عنه أنه خرج من بيته مذعورا فسئل عن ذلك فقال خلوت بابنتي فخشيت على نفسي فخرجت وكذلك المسافرة لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها الا ومعها زوجها أوذو رحم محرم منها فدل أنه لا بأس بأن تسافر مع المحرم وان احتاج إلى أن يعالجها في الا ركاب والانزال فلا بأس يمسها وراء ثيابها ويأخذ بظهرها وبطنها لما روي أن محمد ابن أبي بكر رضي الله عنهما أدخل يده في هو دج عائشة رضى الله عنها ليأخذها من الهودج فوقعت يده على صدرها فقالت من الذى وضع يده على لم يضعه أحد الا رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال أنا أخوك وروى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال ان أمي كانت سيئة الخلق فغضب وقال أكانت سيئة الخلق حين
[ 151 ]
سطر 154:
[ 152 ]
رحمهم الله تعالى ليس له أن يعالجها في الا ركاب والانزال لان معني العورة وان انعدم بالستر فمعنى الشهوة باق فيها فانها ممن يحل له والاصح أنه لا بأس بذلك إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لان المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرما ليسافر معها وهي تحتاج إلى من يركبها وينزلها فلا بأس بذلك وكذلك لا بأس بأن يخلو بها كالمحارم ألا ترى ان جارية المرأة قد تغمز رجل زوجها وتخلو به ولا يمتنع أحد من ذلك والمدبرة وأم الولد والمكاتبة في هذا كالامة القنة لقيام الرق فيهن والمستسعاة في بعض القيمة كذلك عند أبى حنيفة رحمه الله تعالي لانها بمنزلة المكاتب وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا بلغت الامة لم ينبغ ان تعرض في ازار واحد قال محمد وكذلك إذا بلغت ان تجامع وتشتهي لان الظهر والبطن منها عورة لمعني الاشتهاء فإذا صارت مشتهاة كانت كالبالغة لا تعرض في ازار واحد فاما النظر إلى الاجنبيات فنقول يباح النظر إلى موضع الزينة الظاهرة منهن دون الباطنة لقوله تعالى ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها وقال على وابن عباس رضى الله عنهم ما ظهر منها الكحل والخاتم وقالت عائشة رضى الله عنها احدى عينيها وقال ابن مسعود رضى الله عنه خفها وملاءتها واستدل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} النساء حبائل الشيطان بهن يصيد الرجال وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء وجرى في مجلسه صلى الله عليه وسلم{{ص}} يوم ماخير ما للرجال من النساء وما خير ما للنساء من الرجال فلما رجع على رضي الله عنه إلى بيته أخبر فاطمة رضى الله عنها بذلك فقالت خير ما للرجال من النساء أن لا يراهن وخير ما للنساء من الرجال أن لايرينهن فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} بذلك قال هي بضعة منى فدل أنه لا يباح النظر إلى شئ من بدنها ولان حرمة النظر لخوف الفتنة وعامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الاعضاء وبنحو هذا تستدل عائشة رضي الله تعالى عنها ولكنها تقول هي لاتجد بدا من أن تمشى في الطريق فلابد من أن تفتح عينها لتبصر الطريق فيجوز لها أن تكشف احدى عينيها لهذه الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ولكنا نأخذ بقول على وابن عباس رضى الله تعالى عنهما فقد جاءت الاخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها وكفها من ذلك ماروي أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فنظر إلى وجهها فلم ير فيها رغبة ولما قال عمر رضى الله عنه في خطبته ألا لاتغالوا في أصدقة
[ 153 ]
النساء فقالت امرأة سفعاء الخدين أنت تقوله برأيك أم سمعته من رسول الله صلي الله عليه وسلم فانا نجد في كتاب الله تعالى بخلاف ما تقول قال الله تعالى وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فبقى عمر رضى الله عنه باهتا وقال كل الناس أفقه من عمر حتي النساء في البيوت فذكر الراوي أنها كانت سفعاء الخدين وفى هذا بيان أنها كانت مسفرة عن وجهها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} كف امرأة غير مخضوب فقال أكف رجل هذا ولما ناولت فاطمة رضى الله عنها أحد ولديها بلالا أو انسا رضى الله عنهم قال أنس رأيت كفها كأنه فلقة قمر فدل انه لا بأس بالنظر إلى الوجه والكف فالوجه موضع الكحل والكف موضع الخاتم والخضاب وهو معنى قوله تعالى الا ما ظهر منها وخوف الفتنة قد يكون بالنظر إلى ثيابها أيضا قال القائل وما غرني الاخضاب بكفها * وكحل بعينيها وأثوابها الصفر ثم لاشك انه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفها وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة انه يباح النظر إلى قدمها أيضا وهكذا ذكر الطحاوي لانها كما تبتلى بابداء وجهها في المعاملة مع الرجال وبابداء كفها في الاخذ والاعطاء تبتلى بابداء قدميها إذا مشت حافية أو متنعلة وربما لاتجد الخف في كل وقت وذكر في جامع البرامكة عن أبى يوسف انه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا لانها في الخبز وغسل الثياب تبتلى بابداء ذراعيها أيضا قيل وكذلك يباح النظر إلى ثناياها أيضا لان ذلك يبدو منها في التحدث مع الرجال وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة فان كان يعلم انه ان نظر اشتهي لم يحل له النظر إلى شئ منها لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من نظر إلى محاسن أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة وقال لعلي رضى الله عنه لاتتبع النظرة بعد النظرة فان الاولى لك والاخرى عليك يعنى بالاخرى ان يقصدها عن شهوة وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال انى نظرت إلى امرأة فاشتهيتها فاتبعتها بصرى فأصاب رأسي جدار فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} إذا أراد الله بعبد خيرا عجل عقوبته في الدنيا وكذلك ان كان أكبر رأيه أنه ان نظر اشتهي لان أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين وذلك فيما هو مبني على الاحتياط وكذلك لا يباح لها أن تنظر إليه إذا كانت تشتهى أو كان على ذلك أكبر رأيها لما روى أن ابن أم مكتوم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وعنده عائشة
[ 154 ]
وحفصة رضي الله عنهما فقال لهما احتجبا فقالتا انه أعمى يارسول الله فقال أو اعميان انتما ولا يحل له أن يمس وجهها ولاكفها وان كان يأمن الشهوة لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع في كفه جمرة يوم القيامة حتى يفصل بين الخلائق ولان حكم المس أغلظ حتى ان المس عن شهوة يثبت حرمة المصاهرة والنظر إلى غير الفرج لا يثبت والصوم يفسد بالمس عن شهوة إذا اتصل به الانزال ولا يفسد بالنظر فالرخصة في النظر لا يكون دليل الرخصة في المس والبلوى التى تتحقق في النظر تتحقق في المس أيضا وعلى هذا نقول للمرأة الحرة أن تنظر إلى ما سوى العورة من الرجل ولا يحل لها أن تمس ذلك منه لان حكم المس أغلظ وهذا إذا كانت شابة تشتهى فإذا كانت عجوزا لا تشتهي فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان يصافح العجائز في البيعة ولا يصافع الشواب ولكن كان يضع يده في قصعة ماء ثم تضع المرأة يدها فيها فذلك بيعتها الا أن عائشة رضى الله عنها أنكرت هذا الحديث وقالت من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} مس امرأة أجنبية فقد أعظم الفرية عليه وروى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التى كان مسترضعا فيها فكان يصافح العجائز ولما مرض الزبير رضى الله عنه بمكة استأجر عجوزا لتمرضه فكانت تغمز رجليه وتفلى رأسه ولان الحرمة لخوف الفتنة فإذا كانت ممن لا تشتهي فخوف الفتنة معدوم وكذلك ان كان هو شيخا يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها وان كان لا يأمن عليها أن تشتهى لم يحل له أن يصافحها فيعرضها للفتنة كما لا يحل له ذلك إذا خاف على نفسه فأما النظر إليها عن شهوة لا يحل بحال الا عند الضرورة وهو ما إذا دعى إلى الشهادة عليها أو كان حاكما ينظر ليوجه الحكم عليها باقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها لانه لا يجد بدا من النظر في هذا الموضع والضرورات تبيح المحظورات ولكن عند النظر ينبغى أن يقصد أداء الشهادة أو الحكم عليها ولا يقصد قضاء الشهوة لانه لو قدر على التحرز فعلا كان عليه أن يتحرز فكذلك عليه أن يتحرز بالنية إذا عجز عن التحرز فعلا كما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وان كان يعلم أنه يصيب المسلم واختلفوا فيما إذا دعى إلى تحمل الشهادة وهو يعلم أنه ان نظر إليها اشتهى فمنهم من جوز له ذلك أيضا بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لاقضاء الشهوة ألا ترى أن شهود الزنا لهم أن ينظروا إلى موضع العورة على قصد
[ 155 ]
تحمل الشهادة والاصح أنه لا يحل له ذلك لانه لاضرورة عند التحمل فقد يوجد من يتحمل الشهادة ولا تشتهى بخلاف حالة الاداء فقد التزم هذه الامانة بالتحمل وهو متعين لادائها وكذلك ان كان أراد أن يتزوجها فلا بأس بأن ينظر إليها وان كان يعلم أنه يشتهيها لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال للمغيرة بن شعبة لما أراد أن يتزوج امرأة أبصرها فانه أحري أن يؤدم بينكما وكان محمد بن أم سلمة يطالع بنية تحت اجار لها فقيل له أتفعل ذلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يقول إذا ألقى الله خطبة امرأة في قلب رجل أحل له النظر إليها ولان مقصوده اقامة السنة لاقضاء الشهودة وانما يعتبر ما هو المقصود لا ما يكون تبعا وان كان عليها ثياب فلا بأس بتأمل جسدها لان نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها فهو كما لو كانت في بيت فلا بأس بالنظر إلى حدرانه والاصل فيه ماروى أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} رأي امرأة عليها شارة حسنة فدخل بيته ثم خرج وعليه أثر الاغتسال فقال إذا هاجت بأحدكم الشهوة فليضعها فيما أحل الله له وهذا إذا لم تكن ثيابها بحيث تلصق في جسدها وتصفها حتى يستبين جسدها فان كان كذلك فينبغي له ان يغض بصره عنها لما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه انه قال لا تلبسوا نساءكم الكتان ولا القباطي فانها تصف ولا تشف وكذلك ان كانت ثيابها رقيقة لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} انه قال لعن الله الكاسيات العاريات يعني الكاسيات الثياب الرقاق اللاتى كانهن عاريات وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} صنفان من أمتى في النار رجال بأيديهم السياط كأنها أذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات متمايلات كأسنمة البخت ولان مثل هذا الثوب لا يسترها فهو كشبكة عليها فلا يحل له النظر إليها وهذا فيما إذا كانت في حد الشهوة فان كانت صغيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها لانه ليس لبدنها حكم العورة ولافى النظر والمس معنى خوف الفتنة والاصل فيه ماروى ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان ؟ ؟ ؟ ؟ رب الحسن والحسين رضى الله تعالى عنهما وهما صغيران وروى انه كان يأخذ ذلك من أحدهما فيجره والصبي يضحك ولان العادة الظاهرة ترك التكلف لستر عورتها قبل ان تبلغ حد الشهوة وأما النظر إلى العورة حرام لما روى عن سلمان رضى الله عنه قال لان أخر من السماء فانقطع نصفين أحب لي من أن أنظر إلى عورة أحد أو ينظر أحد إلى عورتى ولما ذكر رسول الله صلي الله عليه وسلم الوعيد
[ 156 ]
في كشف العورة قيل يارسول الله فإذا كان أحدنا خاليا فقال ان الله أحق أن يستحيى منه وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} إلى إبل الصدقة فرأى راعيها تجرد في الشمس فعزله وقال لا يعمل لنا من لاحياء له ولكن مع هذا إذا جاء العذر فلا بأس بالنظر إلى العورة لاجل الضرورة فمن ذلك ان الخاتن ينظر ذلك الموضع والخافضة كذلك تنظر لان الختان سنة وهو من جملة الفطرة في حق الرجال لا يمكن تركه وهو مكرمة في حق النساء أيضا ومن ذلك عند الولادة المرأة تنظر إلى موضع الفرج وغيره من المرأة لانه لابد من قابلة تقبل الولد وبدونها يخاف على الولد وقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} شهادة القابلة على الولادة فذاك دليل على أنه يباح لها النظر وكذلك ينظر الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة اما عند المرض فلان الضرورة قد تحققت والاحتقان من المداواة وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} تداووا عباد الله فان الله لم يخلق داء الا وخلق له دواء الا الهرم وقد روي عن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا كان به هزال فاحش وقيل له أن الحقنة تزيل ما بك من الهزال فلا بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن وهذا صحيح فان الهزال الفاحش نوع مرض يكون آخره الدق والسل وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى قال إذا قيل له ان الحقنة تقويك على المجامعة فلا بأس بذلك أيضا ولكن هذا ضعيف لان الضرورة لاتتحقق بهذا وكشف العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز وإذا أصاب امرأة قرحة في موضع لا يحل للرجل ان ينظر إليه لا ينظر إليه ولكن يعلم امرأة دواءها لتداويها لان نظر الجنس الي الجنس أخف ألاتري ان المرأة تغسل المرأة بعد موتها دون الرجل وكذلك في امرأة العنين ينظر إليها النساء فان قلن هي بكر فرق القاضي بينهما وان قلن هي ثيب فالقول قول الزوج مع يمينه والمقصود في هذا الموضع بيان اباحة النظر عند الضرورة فاما ما وراء ذلك من الفرق بين الاخبار ببكارتها وثيابتها ليس من مسائل هذا الكتاب وحاصله ان شهادتهن متى تايدت بمؤيد كانت حجة والبكارة في النساء أصل فإذا قلن انها بكر تأيدت شهادتهن بما هو الاصل وان قلن هي ثيب تجردت شهادتهن عن مؤبد فلا بد من أن يستحلف الزوج حتى ينضم نكوله إلى شهادتهن وكذلك لو اشترى جارية على أنها بكر فقبضها وقال وجدتها ثيبا فان النساء ينظرن إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما فان قلن هي بكر فلا يمين على البائع لان شهادتهن قد تأيدت باصل البكارة وبمقتضى البيع وهو اللزوم وان قلن هي ثيب
[ 157 ]
يستحلف البائع لتجرد شهادتهن عن مؤبد ؟ فإذا انضم نكول البائع إلى شهادتهن ردت عليه وان لم يجدوا امرأة تداوى تلك القرحة ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك إذا علمت وخافوا أن تهلك أو يصيبها بلاء أو وجع لا تحتمله فلا بأس ان يستروا منها كل شئ الا موضع تلك القرحة ثم يداويها رجل ويغض بصره ما استطاع الا عن ذلك الموضع لان نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ فيعتبر فيه تحقق الضرورة وذلك لخوف الهلاك عليها وعند ذلك لا يباح الا بقدر ما ترتفع الضرورة به وذوات المحارم وغيرهم في هذا سواء لان النظر إلى موضع العورة لا يحل بسبب المحرمية فكان المحرم وغير المحرم فيه سواء (قال) والعبد فيما ينظر من سيدته كالحر الأجنبي معناه أنه لا يحل له أن ينظر الا إلى وجهها وكفيها عندنا وقال مالك نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمة لقوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن ولا يجوز أن يحمل ذلك على الاماء لان ذلك دخل في قوله تعالى أو نسائهن ولان هذا مما لا يشكل لان للامة أن تنظر إلى مولاتها كما للاجنبيات فانما بحمل البيان على موضع الاشكال وعن أم سلمة انه كان لها مكاتب فلما انتهى إلى آخر النجوم قالت له أتقدر على الاداء فقال نعم فاحتجبت وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ؟ ؟ ؟ ؟ إذا كان لاحداكن مكاتب فأدى آخر النجوم فلتحتجب منه والمعنى فيه أن بينهما سبب محرم للنكاح ابتداء وبقاء فكان بمنزلة المحرمية بينهما واباحة النظر عند المحرمية لاجل الحاجة وهو دخول البعض على البعض من غير استئذان ولا حشمة وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولا به ؟ (حجتنا) في ذلك ماروى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رضى الله عنهما قالا لا يغرنكم سورة النور فانها في الاناث دون الذكور ومرادهما قوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن والموضع موضع الاشكال لان حال الامة يقرب من حال الرجل حتى تسافر بغير محرم فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدى أمتها ولم يزل هذا الاشكال بقوله تعالى أو نسائهن لان مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الاماء والمعني فيه أنه ليس بينهما زوجية ولا محرمية وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة ينبني على هذا السبب وحرمة المناكحة التى بينهما بعارض على شرف الزوال فكانت في حقه بمنزلة منكوحة الغير أو معتدته ولان وجوب الستر عليها وحرمة الخلوة بالرجل لمعنى خوف الفتنة وذلك موجود ههنا وانما ينعدم بالمحرمية لان الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة فأما الملك لا يقلل الشهوة بل يحملها
[ 158 ]
على رفع الحشمة ومعنى البلوى لا يتحقق لان اتخاذ العبيد للاستخدام خارج البيت لا داخل البيت على ما قيل من اتخذ عبدا للخدمة داخل بيته فهو كشحان وحديث أم سلمة رضى الله عنها محمول على الاحتجاب لمعنى زوال الحاجة فان قبل ذلك تحتاج إلى المعاملة معه بالاخذ والاعطاء فتبدى وجهها وكفها له وقد زال ذلك بالاداء فلتحتجب منه ثم قال خصيا أو فحلا هكذا نقل عن عائشة رضى الله عنها قالت الخصا مثلة فلا يبيح ماكان محرما قبله ولان الخصى في الاحكام من الشهادات والمواريث كالفحل وقطع تلك الآلة منه كقطع عضو آخر ومعنى الفتنة لا ينعدم فالخصي قد يجامع وقد قيل هو أشد الناس جماعا فانه لاتفتر آلته بالانزال وكذلك المجبوب لانه قد يستحق فينزل وان كان مجبوبا قد جف ماؤه فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء لوقوع الامن من الفتنة والاصح انه لا يحل له ذلك ومن رخص فيه تأويل قوله تعالى أو التابعين غير أولى الاربة من الرجال وبين أهل التفسير كلام في معني هذا فقيل هو المجبوب الذى جف ماؤه وقيل هو المخنث الذى لا يشتهى النساء والكلام في المخنث عندنا انه إذا كان مخنثا في الردى من الافعال فهو كغيره من الرجال بل من الفساق ينحى عن النساء واما من كان في اعضائه لين وفى لسانه تكسر باصل الخلقة ولا يشتهي النساء ولايكون مخنثا في الردى من الافعال فقد رخص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روى ان مخنثا كان يدخل بعض بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حتى سمع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} كلمة فاحشة قال لعمر بن أبي سلمة لئن فتح الله الطائف على رسوله لادلنك على ماوية بنت غيلان فانها تقبل فانها تقبل باربع وتدبر بثمان فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} ماكنت أعلم أنه يعرف مثل هذا إخرجوه وقيل المراد بقوله تعالى أو التابعين الابله الذى لا يدرى مايصنع بالنساء انما همه بطنه وفى هذا كلام عندنا فقيل إذا كان شابا ينحى عن النساء وانما كان ذلك إذا كان شيخا كبيرا قد ماتت شهوته فحينئذ يرخص في ذلك والاصح أن نقول قوله تعالى أو التابعين من المتشابه وقوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا محكم فنأخذ بالمحكم فنقول كل من كان من الرجال فلا يحل لها أن تبدى موضع الزينة الباطنة بين يديه ولا يحل له أن ينظر إليها الا أن يكون صغيرا فحينئذ لا بأس بذلك لقوله تعالى أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء فأما جماع الحائض في الفرج حرام بالنص يكفر مستحله ويفسق مباشره لقوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض وفى قوله تعالى ولا
[ 159 ]
تقربوهن حتى يطهرهن دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} من أتى امرأة في غير مأتاها أو أتاها في حالة الحيض أو أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم{{ص}} ولكن لا يلزمه بالوطئ سوى التوبة والاستغفار ومن العلماء من يقول ان وطئها في أول الحيض فعليه ان يتصدق بدينار وان وطئها في آخر الحيض فعليه ان يتصدق بنصف دينار وروي فيه حديثا شاذا ولكن الكفارة لا يثبت بمثله (وحجتنا) في ذلك ماروى ان رجلا جاء إلى الصديق رضى الله عنه وقال انى رأيت في المنام كأني أبول دما فقال أتصدقنى قال نعم قال انك تأتى امرأتك في حالة الحيض فاعترف بذلك فقال أبو بكر رضى الله عنه استغفر الله ولا تعد ولم يلزمه الكفارة واختلفوا فيما سوى الجماع فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى له ان يستمتع بما فوق المئزر وليس له ما تحته وقال محمد رحمه الله تعالى يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وهو رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى وذكر الطحاوي قول أبى يوسف مع أبي حنيفة رحمهم الله تعالى وذكره الكرخي مع محمد رحمهما الله تعالى وجه الاستدلال بقوله تعالى قل هو أذى ففيه بيان ان الحرمة لمعني استعمال الاذى وذلك في محل مخصوص وروي ذلك في الكتاب عن الصلت بن دينار عن معاوية بن قرة رضى الله عنهم قال سألت عائشة رضى الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض قالت يتجنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وفى حديث آخر عن عائشة رضى الله عنها قالت يحل للرجل من امرأته الحائض كل شئ الا النكاح يعني الجماع والمعنى فيه ان ملك الحل باق في زمان الحيض وحرمة الفعل لمعني استعمال الاذى فكل فعل لا يكون فيه استعمال الاذى فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض وقاسه بالاستمتاع فوق المئزر وحجة أبى حنيفة رحمه الله قوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض فظاهره يقتضى تحريم الاستمتاع بكل عضو منها فما اتفق عليه الآثار صار مخصوصا من هذا الظاهر وبقى ما سواء على الظاهر وروى أن وفدا سألوا عمر رضى الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض وعن قراءة القرآن في البيوت وعن الاغتسال من الجنابة فقال أسحرة أنتم لقد سألتموني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال للرجل من امرأته ما فوق المئزر وليس له ما تحته وقراءة القرآن نور فنور بيتك ما استطعت وذكر الاغتسال من الجنابة وفى حديث أم سلمة رضى الله عنها قالت كنت في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فحضت فانسللت من الفراش فقال مالك
[ 160 ]
أنفست قلت نعم ائتزرى وعودي إلى مضجعك ففعلت فعانقني طول الليل والمعني فيه أن الاستمتاع في موضع الفرج محرم عليه وإذا قرب من ذلك الموضع فلا يأمن على نفسه أن يواقع الحرام فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر وكان هذا نوع احتياط ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ألا ان لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ومحمد أخذ بالقياس وقال ليس المراد بالاتزار حقيقة الاتزار بل المراد موضع الكرسف في ذلك الموضع وبين التابعين اختلاف في معني قوله عليه الصلاة والسلام ما فوق المئزر فكان إبراهيم رحمه الله تعالى يقول المراد به الاستمتاع بالسرة وما فوقها وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول المراد أن يتدفأ بالازار ويقضى حاجته منها فيما دون الفرج فوق الازار ولا ينبغى له أن يعتزل فراشها لان ذلك تشبه باليهود وقد نهينا عن التشبه بهم وروى ان ابن عباس رضى الله عنهما فعل ذلك فبلغ ميمونة رضى الله عنها فانكرت عليه وقالت اترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} كان يضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض وإذا أراد ان يشترى جارية فلا بأس بان ينظر إلى شعرها وصدرها وساقها وان اشتهى لان المالية مطلوبة بالشراء فلا يصير مقداره معلوما الا بالنظر إلى هذه المواضع فللحاجة جاز النظر ولا يحل له أن يمس ان اشتهى أو كان ذلك أكبر رأيه لانه لا حاجة به إلى المس فمقدار المالية يصير معلوما بدونه ولان حكم المس أغلظ من النظر كما قررنا وقد بينا في كتاب الصلاة حكم غسل كل واحد من الزوجين لصاحبه بعد موته وما فيه من الاختلاف وحكم غسل أم الولد لمولاها وإذا ماتت المرأة مع الرجال ولا امرأة معهم لم يغسلوها وان كانوا محارمها وقال الشافعي رحمه الله تعالى لابنها أو ابيها أن يغسلها بناء على مذهبه أن الظهر والبطن في حق المحرم ليس بعورة فهو بمنزلة نظر الجنس عنده وعندنا الظهر والبطن عورة في حق المحارم وبالموت تتأكد الحرمة ولا ترتفع ولان هذه الحرمة لحق الشرع والآدمي محترم شرعا حيا وميتا ولهذا لا يغسلها المحرم ولاغير المحرم ولكنها تيمم بالصعيد هكذا روي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} انه سئل عن امرأة ماتت مع الرجال ليس معهم أمرأة قال تيمم بالصعيد ولانه تعذر غسلها لانعدام من يغسلها فصار كما لو تعذر غسلها لانعدام ما تغسل به وان كان من يتممها محرما لها يممها بغير خرقة وان كان غير محرم لها يممها بخرقة يلفها على كفه لانه لم يكن له أن يمسها في حال
[ 161 ]
سطر 184:
[ 162 ]
مانعة ولو زال هذا المانع في حال حياته ثبت حل الاستمتاع مطلقا فكذلك إذا زال بعد موته ثبت من الحل بقدر ما يقبله المحل وهو حل الغسل والمس وأما الصغير الذى لم يبلغ حد الشهوة إذا مات مع النساء فلا بأس بأن يغسلنه وكذلك الصغيرة مع الرجال لما بينا أنه ليس لعورته حكم العورة في الحياة حتى لا يجب ستره ويباح النظر إليه فكذلك بعد الموت والمعتوهة كالعاقلة لانها تشتهى وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء الا في اناء أخبره رجل أنه قذر وهو عنده مسلم مرضى لا يتوضأ به وهذا لان خبر الواحد حجة في أمر الدين في حق وجوب العمل به عندنا بخلاف ما يقوله بعض الناس أن ما لا يوجب علم اليقين لا يوجب العمل أيضا فان العمل بغير علم لا يجوز قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى واذ أخذ الله ميثاق الله الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ومن ضرورة وجوب البيان على كل واحد وجوب القبول منه وفائدة القبول منه العمل به قال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين واسم الطائفة يتناول الواحد فصاعدا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} دحية الكلبى إلى قيصر ليدعوه إلى الاسلام وعبد الله بن انيس إلى كسرى ومع كل واحد منهما كتاب فلو لم يكن خبر الواحد ملزما لما اكتفي ببعث الواحد وبعث عليا ومعاذا رضى الله تعالى عنهما الي اليمن والاثار في خبر الواحد كثيرة ذكر محمد بعد هذا بعضها وليس من شرط وجوب العمل ان يكون الخبر موجبا للعلم كما انه ليس من شرط جواز العمل بما يخبر في المعاملات ان يكون موجبا للعلم حتى يكتفي فيها بخبر الواحد بالاتفاق والدليل عليه وجوب العمل بالقياس وغالب الرأى وان لم يكن ذلك موجبا علم اليقين إذا عرفنا هذا فنقول هذا المخبر بنجاسة الماء ان يكون عدلا مرضيا أو فاسقا أو مستورا فان كان عدلا فليس له ان يتوضأ بذلك الماء لترجيح جانب الصدق في خبره لظهور عدالته وان كان فاسقا فله ان يتوضأ بذلك الماء لعدم ترجيح الصدق في خبره فان اعتبار دينه يدل على صدقه في خبره واعتبار تعاطيه الكذب وارتكابه ما يعتقد الحرمة فيه دليل على كذبه في خبره فتتحقق المعارضة بينهما ولهذا أمر الله تعالى بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى فتبينوا وعند المعارضة الاصل في الماء الطهارة فيتمسك به ويتوضأ وهذا بخلاف المعاملات فانه يجوز الاخذ فيها بخبر الفاسق لان الضرورة هناك تتحقق فالعدل لا يوجد في كل موضع ولا دليل هناك يعمل به سوى الخبر وهنا لاضرورة ومعنا
[ 163 ]
دليل آخر يعمل به سوى الخبر وهو ان الاصل في الماء الطهارة (فان قيل) اليس ان خبر الفاسق لا يقبل في رواية الاخبار وليس هناك دليل سوى الخبر (قلنا) الضرورة هناك لاتتحقق لان في العدول الذين يروون ذلك الخبر كثرة يوضح الفرق ان الخبر في المعاملات غير ملزم فيسقط فيه اعتبار شرط العدالة وفي الديانات الخبر ملزم فلابد من اعتبار شرط العدالة فيه وكذلك ان كان مستورا فالحق المستور في ظاهر الرواية بالفاسق وفى رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى قال المستور في هذا الخبر كالعدل وهو ظاهر على مذهبه فانه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم ولكن الاصح ما ذكره لانه لابد من اعتبار أحد شرطى الشهادة ليكون الخبر ملزما وقد سقط اعتبار العدد فلم يبق الا اعتبار العدالة فإذا ثبت ان العدالة شرطا قلنا ماكان شرطا لا يكتفي بوجوده ظاهرا كمن قال لعبده ان لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ثم مضي اليوم فقال العبد لم أدخل وقال المولى دخلت فالقول قول المولى لان عدم الدخول شرط فلا يكتفي بثبوته ظاهر النزول العتق وكذلك ان كان المخبر عبدا لان في أمور الدين خبر العبد كخبر الحر كما في رواية الاخبار وهذا لانه يلزم نفسه ثم يتعدي منه إلى غيره فلا يكون هذا من باب الولاية على الغير وبالرق يخرج من أن يكون أهلا للولاية فأما فيما هو الزام يسوى بين العبد والحر لكونه مخاطبا وكذلك ان كان مخبرا امرأة حرة أو أمة كما في رواية الاخبار وهذا لانها تلتزم كالرجل ثم يتعدى إلى غيرها ورواية النساء من الصحابة رضى الله عنهم كانت مقبولة كرواية الرجال قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} تأخذون شطر دينكم من عائشة رضى الله عنها ثم بين في الفاسق والمستور أنه يحكم رأيه فان كان أكبر رأيه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به لان أكبر الرأى فيما بني على الاحتياط كاليقين وان أراقه ثم تيمم كان أحوط وان كان أكبر رأيه أنه كاذب توضأ به ولم يتيمم (فان قيل) كان ينبغي أن يتيمم احتياطا لمعني التعارض في خبر الفاسق كما قلنا في سؤر الحمار أنه يجمع بين التوضئ وبين التيمم لتعارض الادلة في سؤر الحمار (قلنا) حكم التوقف في خبر الفاسق معلوم بالنص وفى الامر بالتيمم هنا عمل بخبره من وجه فكان بخلاف النص ولما ثبت التوقف في خبره بقى أصل الطهارة للماء فلا حاجة إلى ضم التيمم إليه واستدل بحديث عمر رضى الله تعالى عنه حين ورد ماء حياض مع عمرو بن العاص فقال عمرو لرجل من أهل الماء أخبرنا عن السباع أترد ماءكم هذا فقال عمر رضى الله عنه لا تخبرنا عن شئ فلولا
[ 164 ]
أن خبره عد خبرا لما نهاه عن ذلك وعمرو بن العاص بالسؤال قصد الاخذ بالاحتياط وقد كره عمر رضى الله تعالى عنه لوجود دليل الطهارة باعتبار الاصل فعرفنا أنه ما بقي هذا الدليل فلا حاجة إلى احتياط آخر وان كان الذى أخبره بنجاسة الماء رجل من أهل الذمة لم يقبل قوله لا لان الكفر ينافى معنى الصدق في خبره ولكن لانه ظهر منهم السعي في افساد دين الحق قال الله تعالى لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في افساد أمركم فكان متهما في هذا الخبر فلا يقبل منه كما لاتقبل شهادة الولد لوالده لمعنى التهمة يقول فان وقع في قلبه أنه صادق فأحب إلى أن يريق الماء ثم يتيمم وان توضأ به وصلى أجزأه وفى خبر الفاسق قال وإذا وقع في قلبه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به وهذا لان الفاسق أهل للشهادة ولهذا نفذ القضاء بشهادته فيتأيد ذلك بأكبر رأيه وليس الكافر من أهل الشهادة في حق المسلم يوضحه ان الكافر يلزم المسلم ابتداء بخبره ولا يلتزم ولاولاية له على المسلم فاما الفاسق المسلم يلتزم وهو من أهل الولاية على المسلم (قال) وكذلك الصبى والمعتوه إذا عقلا ما يقولان من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول مراده بهذا العطف ان الصبى كالبالغ إذا كان مرضيا ولانه كان في الصحابة رضى الله تعالى عنهم من سمع في صغره ولو روى كان مقبولا منه وكما سقط اعتبار الحرية والذكورة يسقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات والاصح ان مراده العطف على الذمي وان خبر الصبى والمعتوه في هذا كخبر الذمي لانهما لا يلتزمان شيئا ولكن يلزمان الغير ابتداء فانهما غير مخاطبين فليس لهما ولاية الالزام فكان خبرهما في معنى خبر الكافر رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاما ويشربون شرابا فدعوه إليه فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب قد خالطه الخمر وقال الذين دعواه إلى ذلك ليس الامر كما قال وهو حلال فانه ينظر إلى حالهم فان كانوا عدولا لا يلتفت إلى قول ذلك الواحد لان خبر الواحد لا يعارض خبر الجماعة فان خبر الجماعة حجة في الديانات والاحكام وخبر الواحد لبس بحجة في الاحكام ولان الظاهر من حال المسلمين أنهم لا يأكلون ذبيحة المجوسى ولا يشربون ما خالطه الخمر فخبر الواحد في معارضة خبرهم خبر مستنكر فلا يقبل وان كانوا متهمين أخذ بقوله ولم يسعه ان يقرب شيئا من ذلك لان خبره باعتبار حالهم مستقيم صالح ولا معتبر بخبرهم لفسقهم في حكم العمل به ولان خبر العدل بالحرمة يريبه في هذا الموضع باعتبار حالهم وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} دع ما يريبك إلى مالا يريبك
[ 165 ]
سطر 196:
[ 166 ]
اعتقادا والالزام في قول الحرين لا ينبني على الالزام اعتقادا حتى كان ملزما فيما لا يكون المرء معتقدا له فعرفنا أن في خبرهما زيادة الزام فالترجيح بقوة السبب صحيح قال ألا ترى ان أبا بكر رضي الله عنه شهد عنده المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} أعطي الجدة أم الام السدس فقال ائت معك بشاهد آخر فجاء بمحمد بن سلمة فشهد على مثل شهادته فأعطاها أبو بكر رضى الله عنه السدس وهذا من أمر الدين وعمر بن الخطاب رضى الله عنه شهد عنده أبو موسى الاشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال ائت معك بشاهد آخر فشهد أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه على مثل شهادته قال محمد فهذا انما فعلاه للاحتياط والواحد يجزى وكان عيسى بن ابان يقول بل انما طلبنا شاهدا آخر على طريق الشرط لان طمأنينة القلب تحصل بقول المثنى دون الواحد ولم يكن في ذلك الوقت ضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد لكثرة الرواة فاما في زماننا فقد تحقق معني الضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد والاصح ما أشار إليه محمد رحمه الله تعالى انهما طلبا ذلك للاحتياط وكانا يقبلان ذلك وان لم يشهد شاهد آخر الا ترى ان عمر رضى الله عنه قبل شهادة عبد الرحمن بن عوف حين شهد عنده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} قال سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحى نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ولم يطلب شاهدا آخر وأجاز قول عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه في الطاعون حين أراد ان يدخل الشام وبها الطاعون فاستشارهم فاشار عليه بعض المهاجرين بالدخول فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه يا أمير المؤمنين اتفر من قدر الله فقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} يقول إذا وقع هذا الرجز بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فأخذ عمر رضى الله عنه بقوله ورجع وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار هذا الحديث فقال تأويله انه إذا كان بحال لو دخل فابتلى وقع عنده انه ابتلى بدخوله ولو خرج فنجى وقع عنده أنه نجى بخروجه فلا يدخل ولا يخرج صيانة لاعتقاده فأما إذا كان يعلم أن كل شئ بقدر وأنه لا يصيبه الا ماكتب الله تعالى فلا بأس بأن يدخل ويخرج واستدل محمد رحمه الله تعالى أيضا بحديث عمر رضي الله عنه فانه كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى شهد عنده الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابى من دية زوجها أشيم فأخذ بقوله
[ 167 ]
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} دحية الكلبي إلى قيصر بكتابه يدعوه إلى الاسلام فكان حجة عليه فهذا كله دليل ان خبر الواحد في أمر الدين كان ملزما في ذلك الوقت كما هو اليوم وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه كنت إذا لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} حديثا فحدثني به غيره استحلفته على ذلك وحدثني أبو بكر رضى الله تعالى عنه وصدق أبو بكر وهذا مذهب تفرد به على رضي الله عنه فانه كان يحلف الشاهد ويحلف المدعي مع البينة ويحلف الراوي ولم يتبع ذلك فكأنه كان يقول ان خبره يصير مزكى بيمينه كالشهادات في باب اللعان من كل واحد من الزوجين حتى تصير مزكاة باليمين ومن لم يعصم عن الكذب لا يكون خبره حجة ما لم يصر مزكى بيمينه الا أبو بكر رضى الله عنه فان تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} اياه الصديق كاف في جعل خبره مزكى ولسنا نأخذ بهذا القول لان الله تعالى أمرنا باستشهاد شاهدين وبطلب العدالة في الشهود فاشتراط اليمين مع ذلك يكون زيادة على ما في الكتاب وقد وقعت الدعاوى والخصومات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ولم ينقل أنه حلف أحدا من الشهود ولاحلف المدعى مع البينة ولايجوز أن يقال إنهم قد تركوا نقله لان هذا لا يظن بهم خصوصا فيما تعم البلوى فقد نقلوا كل مادق وجل من أقواله وأفعاله (قال) وبلغنا ان نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} منهم أبو طلحة كانوا يشربون شرابا لهم من الفضيخ فأتاهم آت فاخبرهم ان الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إليها فكسرتها حتى اهراق ما فيها ولو لم يكن خبر الواحد حجة ما وسعهم ذلك لما فيه من اضاعة المال وتأويل كسر الجرار ان الخمر كانت تشرب فيها فلا تصلح للانتفاع بها بوجه آخر وكان ذلك لاظهار الانقياد وتحقيق الانزجار عن العادة المألوفة وعلى هذا يحمل ماروي ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} أمر بكسر الدنان وشق الروايا وذكر حديث عكرمة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} قبل شهادة اعرابي وحده على رؤية هلال رمضان حين قدم المدينة فاخبرهم بأنه رآه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} بأن يصوموا بشهادته فهذا يدل على أن شهادة الواحد في الدين مقبولة ولا يقبل في هلال الفطر أقل من شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين والكلام في هذا الفصل قد بيناه في كتاب الصوم وذكر ابن سماعة في نوادره قال قلت لمحمد فإذا قبلت شهادة الواحد في هلال رمضان وأمرت بالصوم ثلاثين يوما ولم يروا
[ 168 ]
سطر 205:
[ 169 ]
من خارج المصر فانه تقبل شهادته فقد ذكر بعد هذا أيضا أو جاء من مكان آخر وأخبر بذلك وهكذا ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه لان يتفق من الرؤية في الصحارى مالا يتفق في الامصار لما فيها من كثرة الغبار وكذلك ان كان في المصر على موضع مرتفع فقد يتفق له من الرؤية مالا يتفق لمن هو دونه في الموقف رجل تزوج امرأة فجاء رجل مسلم ثقة أو امرأة فأخبر انهما ارتضعا من امرأة واحدة فأحب إلى التنزه عنها فيطلقها ويعطيها نصف الصداق ان لم يكن دخل بها والكلام في هذه المسألة في فصلين أحدهما في الحكم والآخر في التنزه اما في الحكم فالحرمة لا تثبت بشهادة امرأة واحدة على الرضاع عندنا ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند الشافعي يثبت بشهادة أربع نسوة كما هو مذهبه فيما لا يطلع عليه الرجال وزعم ان الرضاع لا يحل مطالعته للاجانب من الرجال ولكن نقول الارضاع يكون بالثدي وذلك مما يحل مطالعته لذى الرحم المحرم ثم قد يكون بالايجار وذلك مما يطلع عليه الاجانب ومالك كان يقول يكتفى بشهادة الواحد لاثبات الحرمة بالرضاع وذلك مروي عن عثمان رضى الله عنه واستدل فيه بحديث ابن أبى مليكة بن عقبة أن عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنهما تزوج بنت اهاب فجاءت امرأة سوداء فأخبرت أنها أرضعتهما جميعا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فأخبره فقال له صلى الله عليه وسلم{{ص}} كيف وقد قيل هذا القدر ذكره محمد رحمه الله تعالى وأهل الحديث يروون ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} بينهما فهو حجة مالك رحمه الله تعالى (وحجتنا) في ذلك حديث عكرمة بن خالد قال عمر رضى الله عنه لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين ولان هذه شهادة تقوم لابطال الملك ولا تتم الحجة فيه الا بشاهدين كالعتق والطلاق فأما الحديث ففيه إشارة إلى التنزه بقوله كيف وقد قيل ولو ثبتت الحرمة بخبرها لما أشار إلى التنزه بهذا اللفظ والزيادة التى يرويها أهل الحديث لم تثبت عندنا والدليل على ضعفه ماروى عن عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه قال تزوجت بنت أبى اهاب فجاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت من الغد تشهد على الرضاع ومثل هذه الشهادة تكون عن ضغن فلا تتم الحجة بها فأما بيان وجه التنزه أن المخبر إذا كان ثقة فالذي يقع في قلوب السامعين أنه صادق فيه فصحبتها تريبه ومفارقتها لاتريبه ولو أمسكها ربما يطعن فيه أحد ويتهمه وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف
[ 170 ]
التهم وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} اياك وما يسبق إلى القلوب انكاره وان كان عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا تطيق أن توسعه عذرا ولان يدع وطءا حلالا خير له من أن يقدم على وطئ حرام ولكن ينبغى له أن يطلقها لانها منكوحته في الحكم فإذا لم يطلقها لا تقدر على التزوج ؟ بغيره فتبقى معلقة ثم يعطيها نصف الصداق بعد الطلاق وان لم يكن دخل بها لانها استوجبت في الحكم ذلك عليه فلا ينبغي له أن يمنعها بنظره لنفسه والمستحب لها أن لا تأخذ شيئا ان كان لم يدخل بها لجواز أن يكون المخبر صادقا والنكاح لم يكن منعقدا بينهما وان كان دخل بها فلا بأس بأن تأخذ مقدار مهر مثلها بما استحل من فرجها وينبغى أن لا تأخذ الزيادة على ذلك الي تمام المسمى ولكن تبريه عن ذلك لانه حق مستحق لها في الحكم فلا يسقط الا باسقاطها ولا يبعد أن يندب كل واحد منهما إلى ما قلنا كما ان الله تعالى أثبت نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثم ندب كل واحد من الزوجين إلى العفو وكذلك الرجل يشترى الجارية فيخبره عدل انها حرة الابوين أو أنها أخته من الرضاع فان تنزه عن وطئها فهو أفضل وان لم يفعل وسعه ذلك وفرق بين هذين الفصلين وبين ما تقدم من الطعام والشراب فاثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم يثبت هنا لان حل الطعام و الشراب يثبت بالاذن بدون الملك حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل ذلك فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وحل الوطئ لا يثبت بدون الملك حتى لو قال طأ جاريتي هذه فقد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطئ فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وهو خبر الواحد وتقرير هذا الفرق من وجهين احدهما ان الحل والحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت بدون ملك الحل وتثبت الحرمة مع قيام الملك فكان هذا خبرا بامر دينى وقول الواحد فيه ملزم فاما في الوطئ الحل والحرمة يثبت حكما للملك وزواله لا يثبت مقصودا بنفسه وقول الواحد في ابطال الملك ليس بحجة فكذلك في الحل الذي ينبنى عليه والثانى ان في الوطئ معنى الالزام على الغير لان المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الاتقياد ؟ لمولاها وخبر الواحد لا يكون حجة في ابطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حق الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل ذلك بثبوت الحرمة وانما ذلك أمر ديني وخبر الواحد في مثله حجة مسلم اشتري لحما فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة مجوسي لم ينبغ له أن
[ 171 ]
يأكله لانه أخبر بحرمة العين وهو أمر دينى فتتم الحجة بخبر الواحد فيه وكما لا يأكله لا يطعمه غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لعائشة رضى الله عنها في نظيره أتطعمين ما لا تأكلين ولا يرده على صاحبه لان فسخ البيع معتبر بنفس البيع وكما لا تتم الحجة بخبر الواحد في البيع فكذلك فيما يفسخه ولا يستحل منع البائع ثمنه لانه قد استوجبه بالعقد قبله وقول الواحد ليس بحجة في اسقاط حق مستحق للعباد ولان العين قد بقي مملوكا له متقوما لان نقض الملك فيه بقول الواحد لا يجوز فعليه أداء ثمنه (فان قيل) الحل هنا انما يثبت حكما للمالك فينبغي ان لا تثبت الحرمة الا بما يبطل كما في المسألة الوطئ (قلنا) لاكذلك بل ثبوت حل التناول بالاذن لان الموجب للبيع اذن المشترى في التناول مسلطا له على ذلك وهو كاف لثبوت الحل في هذا العين فما زاد عليه غير معتبر في حكم الحل وبنحوه علل في البيوع في تنفيذ تصرف المشترى بشراء فاسد فقال لان البائع سلطه على ذلك والدليل على هذا تمام البيع بهذا اللفظ حتى لو قال كل هذا الطعام بدرهم لى عليك فأكله كان هذا بيعا وكان قد أكله حلالا بخلاف الوطئ فان الحرة لو قالت طأني بكذا لا يحل له ان يفعل ولا ينعقد النكاح بينهما لو فعله يوضحه ان المعتبر هو الجملة دون الاحوال وإذا كان حل الطعام في الجملة يثبت بغير ملك فكذلك الحرمة تثبت مع قيام الملك ولو لم يبعه هذا الرجل ولكن اذن له في التناول فاخبره مسلم ثقة انه محرم العين لم يحل له تناوله فكذلك إذا باعه يوضحه ان قبل البيع انما لا يحل له تناوله لان حرمة العين تثبت في حقه بخبر الواحد والبيع ليس له تأثير في ازالة حرمة ثابتة للعين فإذا ثبت انه لو اشتراه بعد الاذن أو ملكه بسبب آخر لم يحل له تناوله فكذلك إذا اشتراه قبل الاذن فاخبره عدل بانه محرم العينى ولو اشترى طعاما أو جارية أو ملك ذلك بهبة أو ميراث أو صدقة أو وصية فجاء مسلم ثقة فشهد ان هذا لفلان الفلاني غصبه منه البائع أو الواهب أو الميت فأحب إلى ان يتنزه عن أكله وشربه والوضوء منه ووطئ الجارية لان خبر الواحد يمكن ريبة في قلبه والتنزه عن مواضع الريبة أولى وان لم يتنزه كان في سعة من ذلك لان المخبر هنا لم يخبر بحرمة العين وانما أخبر ان من تملك من جهته لم يكن مالكا وهو مكذب في هذا الخبر شرعا فان الشرع جعل صاحب اليد مالكا باعتبار يده ولهذا لو نازعه فيه غيره كان القول قوله وعلى هذا أيضا لو أذن له ذو اليد في تناول طعامه وشرابه فأخبره ثقة أن هذا الطعام والشراب في يده غصب من فلان وذو
[ 172 ]
سطر 217:
[ 173 ]
في يده فاعتقها وهو مسلم ثقة فهذا والاول سواء لما بينا ان المخبر مكذب شرعا وان تصادقهما على أنها مملوكة لذى اليد حجة شرعا في اثبات الملك له فللمشترى ان يعتمد الحجة الشرعية والتنزه أفضل له (فان قيل) في هذا الموضع أخبر بحرمة المحل حين زعم انها معتقة أو حرة فلو جعلت هذا نظير ما سبق (قلنا) لاكذلك فحرمة المحل هنا لعدم الملك والملك ثابت بدليل شرعى ومع ثبوت الملك لاحرمة في المحل وفي الكتاب قال هذا بمنزلة النكاح الذى يشهد فيه بالرضاع وهو إشارة إلى ما قلنا أن حل الوطئ لا يكون الا بملك والملك المحكوم به شرعا لا يبطل بخبر الواحد فكذلك ما ينبنى عليه من الحل وإذا كانت الجارية لرجل فأخذها رجل آخر وأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها للاول ان يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من ملكه وانتقلت إلى ملك ذى اليد بسبب صحيح أو يعلم انه وكله ببيعها لان دليل الملك الاول ظهر عنده فلا يثبت الملك للثاني في حقه الا بدليل يوجب النقل إليه والشراء من غير المالك لا يحل الا باذن المالك ولو علم القاضى ما علمه هو كان يحق عليه تقريره على ملك الاول حتي يثبت الثاني سبب الملك لنفسه فكذلك إذا علمه هذا الذى يريد شراءه فان سأل ذا اليد فقال انى قد اشتريتها منه أو وهبها لى أو تصديق بها على أو وكلني ببيعها فان كان ثقة فلا بأس بان يصدفه على ذلك ويشتريها منه ويطأها لانه أخبر بخبر مستقيم صالح فيكون خبره محمولا على الصدق ما لم يعارضه مانع يمنع من ذلك والمعارض انكار الاول ولم يوجد ولو كلفناه الرجوع إلى الاول ليسأله كان في ذلك نوع حرج لجواز ان يكون غائبا أو مختفيا وان كان غير ثقة الا ان أكبر رأية فيه أنه صادق فكذلك أيضا لما بينا ان في المعاملات لا يمكن اعتبار العدالة في كل خبر لمعنى الحرج والضرورة لان الخبر غير ملزم إياه شرعا مع أن أكبر الرأى إذا انضم إلى خبر الفاسق تأيد به وقد بينا نظيره في الاخبار الدينية فههنا أولى وان كان أكبر رأية أنه كاذب لم ينبغ له أن يتعرض لشئ من ذلك لان أكبر الرأى فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين ولو تيقن بكذبه لم يحل له أن يعتمد خبره فكذلك إذا كان أكبر رأيه في ذلك والاصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} لو ابصة بن معبد رضى الله تعالى عنه ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فيما حاك في صدرك فهو السالم وان أفتاك الناس به وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} الاثم حراز القلوب أي على المرء ان يترك ما حرز في قلبه تحرزا عن الاثم وكذلك لو لم يعلم ان ذلك الشئ لغير الذى هو في يديه حتي أخبره الذى في يديه أنه لغيره وانه وكله
[ 174 ]
سطر 238:
[ 180 ]
عدتي ووقع في قلبه أنها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها بقولها وكذلك المطلقة ثلاثا إذا قالت لزوجها الاول انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بى ثم طلقني وانقضت عدتي فلا بأس على زوجها الاول أن يتزوجها إذا كانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لانها أخبرت بحلها له بأمر محتمل وفى هذا بيان أنها لو قالت لزوجها الاول حللت لك لا يحل له أن يتزوجها ما لم يستفسرها لاختلاف بين الناس في حلها له بمجرد العقد قبل الدخول فلا يكون له أن يعتمد مطلق خبرها بالحل حتي تفسره ولو أن جارية صغيرة لاتعبر عن نفسها في يد رجل يدعى أنها له فلما فلما كبرت لقيها رجل من بلد آخر فقالت أنا حرة الاصل لم يسعه أن يتزوجها لانه علم أنها كانت مملوكة لذي اليد فان اليد فيمن لا يعبر عن نفسه دليل الملك والقول قول ذى اليد أنها مملوكته فاخبارها بخلاف المعلوم لا يكون حجة له وهو خبر مستنكر وان قالت كنت أمة له فأعتقني وكانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لم أر بأسا بأن يتزوجها لانها أخبرت بحلها له بسبب محتمل لم يعلم هو خلافه فيجوز له أن يعتمد خبرها وكذلك الحرة نفسها لو تزوجت رجلا ثم أتت غيره فأخبرته أن نكاحها الاول كان فاسدا وان زوجها كان على غير الاسلام لم ينبغ لهذا أن يصدقها ولا يتزوجها لانها أخبرته بخبر مستنكر يعلم هو خلاف ذلك وان قالت إنه طلقني بعد النكاح أو ارتد عن الاسلام وسعه ان يعتمد خبرها ويتزوجها لانها أخبرت بحلها له بسبب محتمل فمتى أقرت بعد النكاح أنه كان مرتدا حين تزوجني أو انى كنت أخته من الرضاعة لا يعتمد خبرها لانه خلاف المعلوم وإذا أخبرت بالحرمة بسبب عارض بعد النكاح من رضاع أو غير ذلك وثبتت على ذلك فان كانت ثقة مأمونة أو غير ثقة الا ان أكبر رأيه انها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها وفيه شبهة فان الملك الثابت للغير فيها لا يبطل بخبرها وقيام الملك للغير يمنعه من أن يتزوج بها ولكن قيام الملك للغير في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال فما عرف ثبوته فالاصل بقاؤه وخبر الواحد أقوى من استصحاب الحال فاما صحة النكاح في الابتداء بدليل موجب له وهو العقد الذى عاينه فلا يبطل ذلك بخبر الواحد واستدل بحديث بريرة أنها اتت عائشة رضى الله عنها بهدية إليها فاخبرتها انها صدقة تصدق بها عليها فكرهت عائشة رضى الله عنها ان تأكله حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} هي لها صدقة ولنا هدية فقد صدق بريرة بقولها وقد علم ان العين كان مملوكا لغيرها وصدق
[ 181 ]
عائشة رضى الله عنها بقولها أيضا حين تناول منها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (باب الرجل يرى الرجل يقتل اباه أو يره) (وقال) وإذا رأى الرجل رجلا يقتل أباه متعمدا فأنكر القاتل أن يكون قتله أو قال لابنه فيما بينه وبينه أن قتلته لانه قتل وليى فلانا عمدا أو لانه ارتد عن الاسلام ولا يعلم الابن مما قال القاتل شيئا ولا وارث للمقتول غيره فالابن في سعة من قتل القاتل لانه تيقن بالسبب الموجب لحل دمه للقاتل فكان له أن يقتص منه معتمدا على قوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا وعلى قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} العمد قود وحاصل المسألة على أربعة أوجه أحدها إذا عاين قتله والثاني إذا أقر عنده أنه قتله فهذا ومعاينة القتل سواء لان الاقرار موجب بنفسه حتى لا يملك المقر الرجوع عن اقراره فهذا ومعاينة السبب سواء والثالث أن يقيم البينة بأنه قتل أباه فيقضى له القاضى بالقود فهو في سعة من قتله لان قضاء القاضى ملزم فيثبت به السبب المطلق لاستيفاء القود له والرابع أن يشهد عنده شاهدا عدل أن هذا الرجل قتل أباه فليس له أن يقتله بشهادة لان الشهادة لا توجب الحق ما لم يتصل بها قضاء القاضى فلا يتقرر عنده السبب المطلق لاستيفاء القود بمجرد الشهادة ما لم ينضم إليه القضاء والذى بينا في الابن كذلك في غيره إذا عاين القتل أو سمع اقرار القاتل به أو عاين قضاء القاضي به كان في سعة من أن يعين الابن على قتله لانه يعينه على استيفاء حقه وذلك من باب البر والتقوى ولو شهد عنده بذلك شاهدان لم يسعه ان يعينه على قتله بشهادتهما حتي يقضي القاضى له بذلك وان أقام القاتل عند الابن شاهدين عدلين ان أباه كان قتل أبا هذا الرجل عمدا فقتله به لم ينبغ للابن ان يجعل بقتله حتى ينظر فيما شهدا به لانهما لو شهدا بذلك عند القاضى حكم ببطلان حقه فكذلك إذا شهدا عنده وكذلك لا ينبغي لغيره ان يعينه على ذلك إذا شهد عنده عدلان لما قلنا أو بانه كان مرتدا حتى يتثبت فيه وهذا لان القتل إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فيتثبت فيه حتى يكون إقدامه عليه عن بصيرة وان شهد بذلك عنده محدودان في قذف أو عبدان أو نسوة عدول لارجل معهن أو فاسقان فهو في سعة من قتله لانهما لو شهدا بذلك عند القاضى لم يمنعه من قتله بل يعينه على ذلك فكذلك إذا شهدوا عنده وان تثبت فيه فهو خير له لانه أقرب إلى الاحتياط فان القتل لا يمكن تداركه إذا وقع فيه الغلط وفرق بين القصاص وحد القذف فقال القاذف
[ 182 ]
إذا أقام أربعة من الفساق يشهدون على صدق مقالته لايقام عليه حد القذف والقاتل إذا أقام فاسقين على العفو أو على ان قتله كان بحق لا يسقط القود عنه والفرق ان هناك السبب الموجب للحد لم يتقرر فان نفس القذف ليس بموجب للحد لانه خبر متمتل بين الصدق والكذب وانما يصير موجبا بعجزه عن اقامة أربعة من الشهداء ولم يظهر ذلك العجز لان للفساق شهادة وان لم تكن مقبولة والموجب للقود هو القتل وقد تقرر ذلك فالعفو بعده مسقط وهذا المسقط لا يظهر الا بقبول شهادته وليس للفاسق شهادة مقبولة وبيان هذا ان الله تعالى قال والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء والمعطوف على الشرط شرط وفي باب القتل أوجب القود بنفس القتل فقال تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى ثم قال فمن تصدق به فهو كفارة له فعرفنا ان العفو مسقط بعد الوجوب لاأن يكون عدم العفو مقررا سبب الوجوب وان شهد بذلك عنده شاهد عدل ممن يجوز شهادته فقال القاتل عندي شاهد آخر مثله ففي القياس له أن يقتله لان المانع لا يظهر بشهادة الواحد وفى الاستحسان لا يعجل بقتله حتى ينظر ايأتيه بآخر ام لانه لو أقام شاهد عدل عند القاضى وادعى ان له شاهدا آخر حاضرا أمهله الي آخر مجلسه فكذلك الولى يمهله حتى يأتي بشاهد آخر وان قتله كان في سعة لان السبب المثبت لحقه مقرر والمانع لم يظهر وعلى هذا مال في يدى رجل شهد عدلان عند رجل أن هذا المال كان لابيك غصبه هذا الرجل منه ولا وارث للاب غيره فله أن يدعى بشهادتهم وليس له أن يأخذ ذلك المال ما لم تقم البينة عند القاضى ويقضي له بذلك لان الشهادة لا تكون ملزمة بدون القضاء وفى الاخذ قصر يد الغير وليس في الدعوى الزام أحد شيئا فيتمكن من الدعوى بشهادتهما ولا يتمكن من الاخذ حتى يقضى له القاضى بذلك لان ذا اليد مزاحم له بيده ولا تزول مزاحمته الا بقضاء القاضى وكذلك لا يسع غير الوارث أن يعين الوارث على أخذه بهذه الشهادة ما لم يتصل به القضاء وان كان الوارث عاين أخذه من أبيه وسعه أخذه منه وكذلك ان أقر الآخذ عنده بالاخذ لان اقراره ملزم فهو كمعاينة السبب أو قضاء القاضى له به ويسعه أن يقاتله عليه وكذلك يسع من عاين ذلك اعانته عليه وان أتى ذلك على نفسه إذا امتنع وهو في موضع لا يقدر فيه على سلطان يأخذ له بحقه لانه يعلم أنه ملكه وكما ان له أن يقاتل دفعا عن ملكه إذا قصد الظالم أخذه منه فكذلك له أن يقاتل في استرداده والاصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} من
[ 183 ]
سطر 250:
[ 184 ]
ان يراجعها فيمسكها وكذلك ان كانت المرأة هي التى تراه تطليقة بائنة فراجعها الزوج وحكم القاضى له بذلك وسعها المقام بذلك معه ولم يسعها ان تفارقه لان قضاء القاضى هنا اعتمد دليلا شرعيا وفى الاول قضى بالنكاح لعدم ظهور الدليل الموجب للحرمة فكان ابقاء لما كان لاقضاء بالحل بينهما حقيقة ثم حاصل الكلام في المجتهدات ان المبتلى بالحادثة إذا كان غائبا لا رأى له فعليه ان يتبع قضاء القاضى سواء قضى القاضي له بالحل أو بالحرمة وان كان عالما مجتهدا فقضى القاضى بخلاف اجتهاده فان كان هو يعتقد الحل وقضي القاضي عليه بالحرمة فعليه ان يأخذ بقضاء القاضي ويدع ؟ رأي نفسه لان القضاء ملزم للكافة ورأيه لا يعدوه وان قضى له بالحل وهو يعتقد الحرمة ففي قول أبى يوسف رحمه الله تعالى عليه ان يتبع رأى نفسه وفى قول محمد رحمه الله تعالى يأخذ بقضاء القاضى لان الاجتهاد لا يعارض القضاء ألا ترى ان للقاضى ولاية نقض اجتهاد المجتهد والقضاء عليه بخلافه وليس له ولاية نقض القضاء في المجتهدات والقضاء بخلاف الاول والضعيف لا يظهر مع القوى وأبو يوسف يقول اجتهاده ملزم في حقه وقضاء القاضى يكون عن اجتهاد فمن حيث ولاية القضاء ما يقضي به القاضى أقوى ومن حيث حقيقة الاجتهاد يترجح ما عنده في حقه على ما عند غيره فتتحقق المعارضة بينهما فيغلب الموجب للحرمة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ما اجتمع الحرام والحلال في شئ الاغلب الحرام الحلال يوضحه أن عنده ان قضاء القاضى ليس بصواب ولو كان ما عنده غير القاضى لم يقض بالحل فكذلك إذا كان ذلك عنده لا يعتقد فيه الحل فان الله تعالى قال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام الآية ففي هذا بيان أن قضاء القاضى لا يحل للمرء ما يعتقد فيه الحرمة وعلى هذا الاموال فان القاضى لو قضي بالميراث للجد دون الاخ والاخ ففيه يعتقد فيه قول زيد رضي الله عنه فعليه أن يتبع رأى القاضى وان قضى القاضى بالمقاسمة على قول زيد رحمه الله تعالي والاخ يعتقد مذهب الصديق رضى الله عنه فعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى ليس له أن يأخذ المال وعلى قول محمد رحمه الله تعالى له أن يأخذ المال وعلى هذا الطلاق المضاف إذا كان الزوج يعتقد وقوع الطلاق فقضى القاضى بخلافه فهو على الخلاف وان كان الزوج غائبا أو كان يعتقد أن الطلاق غير واقع فعليه أن يتبع رأى القاضى أوقضي بخلاف اعتقاده وعلى هذا لو استفتى العامي أقوى الفقهاء عنده فأفتى له بشئ فذلك بمنزلة اجتهاده لانه وسع مثله ثم فيما يقضي القاضى بعد ذلك بخلافه
[ 185 ]
حكمه كحكم المجتهد في جميع مابينا وكذلك لو حكمنا ففيها فحكمه كفتواه لان سببه تراضيهما لاولاية ثابتة له حكما فكان تراضيهما على تحكيمه كسؤالهما اياه والفتوى لا تعارض قضاء القاضي فإذا قضى القاضى عليه بخلاف ذلك كان عليه ان يتبع رأى القاضى الا ترى ان للقاضى ان يقضى بخلاف حكم الحكم في المجتهدات وليس له ان يقضي بخلاف ما قضى به غيره في المجتهدات ولو قضى به لم ينفذ قضاؤه فهذا معنى قولنا حكم الحكم في حقهما كفتواه وعلى هذا لو شهد عدلان عند جارية ان مولاها أعتقها أو أقرأنه أعتقها لم يسعها أن تدعه يجامعها إن قضى القاضى به أولم يقض لان حجة حرمتها عليه تمت عندها فهو والطلاق سواء ولا يسعها أن تتزوج إذا كان المولى يجحد العتق وكذلك إذا شهدا بعتق العبد والمولى يجحد لم يسع العبد ان يتزوج بشهادتهما حتى يقضي له القاضي بالعتق لانهما مملوكان له في الحكم فلو تزوجا بغير اذنه كانا مرتكبين للحرام عند القاضي وعند الناس والتحرز عن ارتكاب الحرام فرض والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (كتاب التحري) (قال) رضى الله عنه اعلم بان التحري لغة هو الطلب والابتغاء كقول القائل لغيره اتحرى مسرتك أي اطلب مرضاتك قال تعالى فاولئك تحروا رشدا وهو والتوخى سواء الا ان لفظ التوخى يستعمل في المعاملات والتحرى في العبادات قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} للرجلين الذين اختصما في المواريث إليه اذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} في العبادات إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وفى الشريعة عبارة عن طلب الشئ بغالب الرأى عند تعذر الوقوف على حقيقته وقد منع بعض الناس العمل بالتحرى لانه نوع ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ولا ينتفي الشك به من كل وجه ومع الشك لا يجوز العمل ولكنا نقول التحرى غير الشك والظن فالشك أن يستوى طرف العلم بالشئ والجهل به والظن أن يترجح احدهما بغير دليل والتحرى أن يترجح احدهما بغالب الرأى وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم وان كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ولاجله سمى تحريا فالحر اسم لجبل على طرف المفاوز والدليل على ما قلنا الكتاب
[ 186 ]
والسنة أما الكتاب فقوله تعالى فامتحنوهن الله أعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات وذلك بالتحرى وغالب الرأى فقد أطلق عليه العلم والسنة قوله صلى الله عليه وسلم{{ص}} المؤمن ينظر بنور الله وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} فراسة المؤمن لا تخطئ وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لو ابصة ضع يدك على صدرك فالاثم ما حاك في قلبك وان أفتاك الناس وشئ من المعقول يدل عليه فان الاجتهاد في الاحكام الشرعية جائز للعمل به وذلك عمل بغالب الرأى ثم جعل مدركا من مدارك أحكام الشرع وان كان لا يثبت به ابتداء فكذلك التحرى مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات وان كانت العبادة لا تثبت به ابتداء والدليل عليه أمر الحروب فانه يجوز العمل فيها بغالب الرأى مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك (فان قيل) ذلك من حقوق العباد وتتحقق الضرورة لهم في ذلك كما في قيم المتلفات ونحوها ونحن انما أنكرنا هذا في العبادات التى هي حق الله تعالى (قلنا) في هذا أيضا معنى حق العبد وهو التوصل الي اسقاط ما لزمه أداؤه وكذلك في أمر القبلة فان التحرى لمعرفة حدود الاقاليم وذلك من حق العبد وفى الزكاة التحرى لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى فيجوز أن يكون غالب الرأى طريقا للوصول إليه إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بمسائل الزكاة وكان الاولى أن يبدأ بمسائل الصلاة لانها مبتدأة في القرآن وكأنه انما فعل ذلك لان معني حق العبد في الصدقة أكثر فانه يحصل بها سد خلة المحتاج أو لانه وجد في باب الصدقة نصا وهو حديث يزيد السلمى على ما بينه فبدأ بما وجد فيه النص ثم عطف عليه ماكان مجتهدا فيه ومسألة الزكاة على أربعة أوجه أحدها أن يعطى زكاة ماله رجلا من غير شك ولا تحر ولا سؤال فهذا يجز به ما لم يتبين انه غنى لان مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعا وعلي ما يصح فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتى يتبين خلافه فان الفقر في القابض أصل فان الانسان يولد ولا شئ له والتمسك بالاصل حتى يظهر خلافه جائز شرعا فالمعطى في الاعطاء يعتمد دليلا شرعيا فيقع المؤدى موقعه ما لم يعلم أنه غنى فإذا علم ذلك فعليه الاعادة لان الجواز كان باعتبار الظاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الامر بخلافه فان شك في أمره بأن كان عليه هيئة الاغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غنى ومع ذلك دفع إليه فانه لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير لان بعد الشك لزمه التحرى فإذا ترك التحرى بعدما لزمه لم يقع المؤدى موقع الجواز الا أن يعلم أنه فقير فحينئذ يجوز لان التحرى كان لمقصود
[ 187 ]
سطر 262:
[ 188 ]
لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة فالانسان قد لايعرف من نفسه حقيقة الفقر والغنى فكيف يعرفه من غيره والتكليف يثبت بحسب الوسع والذى في وسعه الاستدلال على فقره بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء وعند انعدام ذلك كله المصير إلى غالب الرأي وقد أتى بذلك وانما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضرورة ولا يرتفع ذلك بظهور حاله بعد الاداء لانه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق فلو لم يجز عنه ضاع ماله فلبقاء الضرورة قلنا يجعل المؤدى مجزيا عنه ولانه لا يعلم حقيقة غناه وانما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وتعلق الاحكام الشرعية بالغنى لا يدل على أنه يعرف صفة الغني حقيقة لان الاحكام تنبنى على ما يظهر لنا كما ينبنى الحكم على صدق الشهود وان كان لا يعلم حقيقة وبه فارق النص لانه يوقف عليه حقيقة فكان المجتهد مطالبا بالوصول إليه وان كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثوب يعرف حقيقة فيبطل بظهور النجاسة حكم الاجتهاد في الطهارة ولا نقول في الزكاة حق الفقراء بل هي محض حق الله تعالى والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لاداء الصلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ثم هناك يسقط عنه الواجب إذا أتي بما في وسعه ولا معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا ولو تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه فهو على هذا الاختلاف أيضا وذكر ابن شجاع عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه هنا كما هو قول أبى يوسف رحمه الله تعالى أما طريق أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه من لا يكون مصرفا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفا عند الجهل بحاله إذا تبين الامر بخلافه وجه رواية ابن شجاع أن النسب مما يعرف حقيقة ولهذا لو قال لغيره لست لابيك لا يلزم الحد والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد وجه ظاهر الرواية ما احتج به في الكتاب فانه روى عن إسرائيل عن أبى الجويرية عن معن بن يزيد السلمى قال خاصمت أبى إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقضى لي عليه وذلك أن أبى أعطى صدقته الرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها ثم أتيت أبى فعلم بها فقال والله يا بنى ما أياك أردت بها فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} فقال يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت ولا معني لحمله على التطوع لان ترك الاستفسار من رسول الله صلى
[ 189 ]
سطر 268:
[ 190 ]
ذكر في كتاب الزكاة وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بين الذمي والحربي المستأمن فقال قد نهينا عن البر مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في ذلك قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب عند الاشتباه ولو تبين أن المدفوع إليه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لقصور فعله فان الواجب عليه بالنص الايتاء وذلك لا يكون الا باخراجه عن ملكه وجعله لله تعالى خالصا وكسب العبد مملوك له وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصا وهذا بخلاف مالو تبين أن المدفوع إليه عبد لغني أو مكاتب له فانه يجزئه وفي حق المكاتب مع العلم أيضا ولا ينظر إلى حال المولى لان اخراجه من ملكه على وجه التقرب هناك فصار لله تعالى خالصا فأما في عبد نفسه ومكاتبه لم يتم اخراجه عن ملكه وبقاء حقه يمنعه أن يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب والاصل في فريضة التوجه إلى الكعبة للصلاة قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} بمكة يصلى إلى بيت المقدس ويجعل البيت بينه وبين بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة اضطر إلى استدبار الكعبة والتوجه إلى بيت المقدس وكان يحب ان تكون الكعبة قبلته كما كانت قبلة إبراهيم صلوات الله عليه فسأل جبريل عليه السلام ان يسأل الله له في ذلك وكان يديم النظر إلى السماء رجاء ان يأتيه جبريل عليه السلام بذلك فانزل الله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها الآية ثم لا خلاف في حق من هو بمكة ان عليه التوجه إلى عين الكعبة فاما من كان خارجا من مكة فقد كان أبو عبد الله الجرجاني يقول الواجب على التوجه إلى عين الكعبة أيضا لظاهر الآية ولان وجوب ذلك لاظهار تعظيم البقعة فلا يختلف بالقرب منه والبعد وغيره من مشايخنا رحمهم الله يقول الواجب في حق من هو خارج عن مكة التوجه إلى الجهة لان ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ومعرفة الجهة اما بدليل يدل عليه أو بالتحرى عند انقطاع الادلة فمن الدليل المحاريب المنصوبة في كل موضع لان ذلك كان باتفاق من الصحابة رضى الله عنهم ومن بعدهم فان الصحابة رضي الله عنهم فتحوا العراق وجعلوا القبلة مابين المشرق والمغرب ثم فتحوا خراسان وجعلوا قبلة أهلها مابين المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف فكانوا يصلون إليها ولما ماتوا جعلت قبورهم
[ 191 ]
سطر 277:
[ 193 ]
في اجتهاده فيسقط اعتبار اجتهاده كالقاضي فيما يقضي باجتهاده إذا ظهر النص بخلافه والمتوضئ بماء إذا علم بنجاسته بخلاف مااذا تيامن أو تياسر لان هناك لا يتيقن بالخطأ فان وجه المرء مقوس فان عند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانب وجهه إلى القبلة وأما عند الاستدبار لا يكون شئ من وجهه إلى الكعبة فيتيقن بالخطأ به (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى ولله المشرق والمغرب الآية وفي سبب نزولها حديثان أحدهما ماروي عن عبد الله بن عامر رحمه الله تعالى قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} في سفر في ليلة طحياء مظلمة فاشتبهت علينا القبلة فتحرى كل واحد منا وخط بين يديه خطأ فلما أصبحنا إذا الخطوط على غير القبلة فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} سألناه عن ذلك فنزلت الآية فقال صلي الله عليه وسلم أجزأتكم صلاتكم وفى حديث جابر رضى الله عنه قال كنا في سفر في يوم ذى ضباب فاشتبهت علينا القبلة فتحرى وصلى كل واحد منا إلى جهة فلما انكشف الضباب فمنا من أصاب ومنا من أخطأ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} عن ذلك فنزلت الآية ولم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} باعادة الصلاة وقال علي رضي الله عنه قبلة المتحري جهة قصده معناه تجوز صلاته إذا توجه إلى جهة قصده والمعنى فيه انه مؤد لما كلف فيسقط عنه الفرض مطلقا كما لو تيامن أو تياسر وبيان الوصف ما قررناه فيما سبق ان المقصود من طلب الجهة ليست عين الجهة انما المقصود وجه الله تعالى الا انه يؤمر بطلب الجهة لتحقيق معنى الابتلاء وما هو المقصود وهو الابتلاء قد تم بتحريه فيسقط عنه ما لزمه من الفرض ألاتري ان في التيامن والتياسر علي وجه لا يجوز مع العلم يحكم بجواز صلاته عند التحرى للمعنى الذى قلنا فكذلك في الاستدبار وايضاح ما قلنا فيما نقل عن بعض العارفين قال قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السماء البيت المعمور وقبلة ؟ ؟ ؟ ؟ الكرسي وقبلة حملة العرش العرش ومطلوب الكل وجه الله تعالى وهذا بخلاف مااذا ظهرت النجاسة في الثوب أوفى الماء لما قلنا ان ذلك مما يمكن الوقوف على حقيقته ولان التوضي بالماء النجس ليس بقربة فلا يمكن أداء الواجب به بحال فأما الصلاة إلى غير القبلة قربة ألا ترى ان الراكب يتطوع على دابته حيث ما توجهت به اختيارا ويؤدى الفرض كذلك عند العذر أيضا وبنحو هذا فرق في الزكاة أيضا ان التصدق على الاب وعلى الغنى قربة ولهذا لا يثبت له حق الاسترداد كما قررنا فأما إذا أعرض عن الجهة التى أدى إليها اجتهاده وصلى إلى جهة أخرى
[ 194 ]
ثم تبين انه أصاب القبلة فعليه اعادة الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد روى عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى قال أخشي عليه الكفر لاعراضه عن القبلة عنده وروى عنه أيضا أنه قال أما يكفيه أن لا يحكم بكفره وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى تجوز صلاته لان لزوم التحرى كان لمقصود وقد أصاب ذلك المقصود بغيره فكان هذا ومالو أصابه بالتحرى سواء وهذا على أصله مستقيم لانه يسقط اعتبار التحرى إذا تبين الامر بخلافه كما قال في الزكاة وإذا سقط اعتبار التحرى فكأنه صلى إلى هذه الجهة من غير تحر وقد تبين أنه أصاب فتجوز صلاته وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه اعتقد فساد صلاته لان عنده أنه صلى إلى غير القبلة فلا يجوز الحكم بجواز صلاته مع اعتقاده الفساد فيه كما لو اقتدى بالامام وهو يصلى إلى غير جهته لم تجز صلاته إذا علم لاعتقاده أن امامه على الخطأ يوضحه أن الجهة التي أدى إليها اجتهاده صارت بمنزلة القبلة في حقه عملا حتي لو صلى إليها جازت صلاته وان تبين الامر بخلافه فصار هو في الاعراض عنها بمنزلة مالو كان معاينا الكعبة فأعرض عنها وصلى إلى جهة أخري فتكون صلاته فاسدة ولهذا لا يحكم بكفره لان تلك الجهة ما انتصبت قبلة حقيقة في حق العمل وان انتصبت قبلة في حق العمل فان كان تبين الحال له في خلال الصلاة فنقول أما في هذا الفصل فعليه استقبال الصلاة لانه لو تبين له بعد الفراغ لزمه الاعادة فإذا تبين في خلال الصلاة أولى ولم يرو عن أبى يوسف رضى الله عنه خلاف هذا وينبغى ان يكون هذا مذهبه أيضا لانه قد يقول قوى حاله بالتيقن بالاصابة في خلال الصلاة ولا ينبني القوى على الضعيف كالمومى إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة فاما إذا كان مصليا إلى الجهة التى أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه ان يتحول إلى جهة الكعبة ويبنى على صلاته لانه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الاعادة فكذلك إذا تبين له في خلال الصلاة وهذا لان افتتاحه الي جهة تلك الجهة قبلة في حقه عملا فيكون حاله كحال أهل قباحين كانوا يصلون الي بيت المقدس فأتاهم آت وأخبرهم ان القبلة حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم ركوع ثم جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} صلاتهم وعلى هذا قالوا لو صلى بعض الصلاة إلى جهة بالتحرى ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى يستقبل تلك الجهة ويتم صلاته لان الاجتهاد لا ينقض بمثله ولكن في المستقبل يبني على ما أدى إليه اجتهاده حتى روي عن محمد انه قال لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات
[ 195 ]
سطر 286:
[ 196 ]
ثم يسأله فان أخبره أن الماء قريب منه يعيد الصلاة فان لم يعلم من خبر الماء شيئا فليس عليه اعادة الصلاة وقد بينا في كتاب الصلاة هذه الفصول والفرق بينهما وبين مااذا سأله في الابتداء فلم يخبره حتى صلى بالتيمم ثم أخبره فليس عليه اعادة الصلاة فأمر القبلة كذلك ولم يذكر في الكتاب أن هذا الاشتباه لو كان له بمكة ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ثم تبين أنه أخطأ هل يلزمه الاعادة فقد ذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لااعادة عليه وهذا هو الاقيس لانه لما كان محبوسا في بيت وقد انقطعت عنه الادلة ففرضه التحرى ويحكم بجواز صلاته بالتحرى فلا تلزمه الاعادة كما لو كان خارج مكة وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول هنا تلزمه الاعادة لانه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة (قال) وكذلك إذا كان بالمدينة لان القبلة بالمدينة مقطوع بها فانه انما نصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} بالوحي بخلاف سائر البقاع ولان الاشتباه بمكة يندر والحكم لا ينبني على النادر فلا يندر تحريه للحكم بالجواز هنا بخلاف سائر البقاع فان الاشتباه يكثر فيها والاصل في المسائل بعد هذا أن الحكم للغالب لان المغلوب يصير مستهلكا في مقابلة الغالب والمستهلك في حكم المعدوم ألا ترى أن الاسم للغالب فان الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير ثم يطلق على الكل اسم الحنطة وعلى هذا قالوا في قرية عامة أهلها المجوس لا يحل لاحد أن يشترى لحماما لم يعلم أنه ذبيحة مسلم وفى القرية التى عامة أهلها مسلمون يحل ذلك بناء للحكم على الغالب ويباح لكل أحد الرمى في دار الحرب إلى كل من يراه من بعدما لم يعلم أنه مسلم أو ذمى ولا يحل له ذلك في دار الاسلام ما لم يعلم انه حربى ولو ان أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذمة لم يجز استرقاق واحد منهم الا من يعلم بعينه انه حربى لان الغالب في هذه المواضع أهل الذمة ولو دخل قوم من أهل الذمة قرية من قري أهل الحرب جاز للمسلمين استرقاق أهل تلك القرية الا من يعلم انه ذمى ثم المسائل نوعان مختلط منفصل الاجزاء ومختلط متصل الاجزاء فمن المختلط الذى هو منفصل الاجزاء مسألة المساليخ وهى تنقسم إلى ثلاثة أقسام اما ان تكون الغلبة للحلال أو للحرام أو كانا متساويين وفيه حالتان حالة الضرورة بان كان لا يجد غيرها وحالة الاختيار ففى حالة الضرورة ويجوز له التحري في الفصول كلها لان تناول الميتة عند الضرورة جائز له شرعا فلان يجوز له التحرى عند الضرورة واصابة الحلال بتحريه مأمول كأن أولى واما في حالة الاختيار فان كانت الغلبة للحلال بأن كانت المساليخ ثلاثة أحدها ميتة جاز له التحرى أيضا
[ 197 ]
لان الحلال هو الغالب والحكم للغالب فبهذا الطريق جاز له التناول منها الا ما يعلم انه ميتة فالسبيل ان يوقع تحريه على احدها انها ميتة فيتجنبها ويتناول ما سوى ذلك لا بالتحرى بل بغلبة الحلال وكون الحكم له وان كان الحرام غالبا فليس له ان يتحرى عندنا وله ذلك عند الشافعي لانه يتيقن بوجود الحلال فيها ويرجو إصابته بالتحرى فله ان يتحرى كما في الفصول الاول وهذا لان الحرمة في الميتة محض حق الشرع والعمل بغالب الرأى جائز في مثله كما في استقبال القبلة فان جهات الخطأ هناك تغلب على جهات الصواب ولم يمنعه ذلك من العمل بالتحرى فهذا مثله (وحجتنا) في ذلك ان الحكم للغالب وإذا كان الغالب هو الحرام كان الكل حراما في وجوب الاجتناب عنها في حالة الاختيار وهذا لانه لو تناول شيئا منها انما يتناول بغالب الرأى وجواز العمل بغالب الرأى للضرورة ولا ضرورة في حالة الاختيار بخلاف مااذا كان الغالب الحلال فان حل التناول هناك ليس بغالب الرأى كما قررنا وهذا بخلاف أمر القبلة لان الضرورة هناك قد تقررت عند انقطاع الادلة عنه فوز انه ان لو تحققت الضرورة هنا بأن لم يجد غيرها مع ان الصلاة إلى غير جهة الكعبة قربة جائزة في حالة الاختيار وهو التطوع على الدابة وتناول الميتة لا يجوز مع الاختيار بحال ولهذا لا يجوز له العمل بغالب الرأى هنا في حالة الاختيار وكذلك ان كانا متساويين لان عند المساواة يغلب الحرام شرعا قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} ما اجتمع الحرام والحلال في شئ الاغلب الحرام الحلال ولان التحرز عن تناول الحرام فرض وهو مخير في تناول الحلال ان شاء أصاب من هذا وان شاء أصاب من غيره ولا يتحقق المعارضة بين الفرض والمباح فيترجح جانب الفرض وهو الاجتناب عن الحرام ما لم يعلم الحلال بعينه أو بعلامة يستدل بها عليه ومن العلامة أن الميتة إذا ألقيت في الماء تطفو لما بقى من الدم فيها والذكية ترسب وقد يعرف الناس ذلك بكثرة النشيش وبسرعة الفساد إليها ولكن هذا كله ينعدم إذا كان الحرام ذبيحة المجوسى أو ذبيحة مسلم ترك التسمية عمدا ومن المختلط الذى هو متصل الاجزاء مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميتة أو شحم الخنزير وهي تنقسم ثلاثة أقسام فان كان الغالب ودك الميتة لم يجز الانتفاع بشئ منه لا بأكل لا بغيره من وجوه الانتفاع لان الحكم للغالب وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به فكان الكل ودك الميتة واستدل عليه بحديث جابر رضى الله عنه قال جاء نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وقالوا ان لنا سفينة في البحر وقد
[ 198 ]
احتاجت إلى الدهن فوجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة افندهنها بشحمها فقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لا تنتفعوا من الميتة بشئ وكذلك ان كانا متساويين لان عند المساواة يغلب الحرام فكان هذا كالاول فأما إذا كان الغالب هو الزيت فليس له أن يتناول شيئا منه في حالة الاختيار لان ودك الميتة وان كان مغلوبا مستهلكا حكما فهو موجود في هذا المحل حقيقة وقد تعذر تمييز الحلال من الحرام ولا يمكنه أن يتناول جزءا من الحلال الا بتناول جزء من الحرام وهو ممنوع شرعا من تناول الحرام ويجوز له أن ينتفع بها من حيث الاستصباح ودبغ الجلود بها فان الغالب هو الحلال فالانتفاع انما يلاقى الحلال مقصودا وقد روينا في كتاب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} وعن على رضى الله تعالى عنه جواز الانتفاع بالدهن النجس لانه قال وان كان مائعا فانتفعوا به دون الاكل وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى لانه نجس العين كالخمر ولكنا نقول النجاسة للجار لالعين الزيت فهو كالثوب النجس يجوز بيعه وان كان لا تجوز الصلاة فيه وهذا لان إلى العباد احداث المجاورة بين الاشياء لاتقليب الاعيان وان كان التنجس يحصل بفعل العباد عرفنا أن عين الطاهر لا يصير نجسا وقد قررنا هذا الفصل في كتاب الصلاة فان باعه ولم يبين عيبه فالمشترى بالخيار إذا علم به لتمكن الخلل في مقصوده حين ظهر أنه محرم الاكل وان دبغ به الجلد فعليه أن يغسله ليزول بالغسل ما على الجلد من أثر النجاسة وما يشرب فيه فهو عفو ومن المختلط الذى هو منفصل الاجزاء مسألة الموتي إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وهى تنقسم ثلاثة أقسام فان كانت الغلبة لموتي المسلمين فانه يصلى عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين لان الحكم للغالب والغالب موتى المسلمين الا أنه ينبغي لمن يصلى عليهم ان ينوي بصلاته المسلمين خاصة لانه لو قدر على التمييز فعلا كان عليه ان يخص المسلمين بالصلاة عليهم فإذا عجز عن ذلك له ان يخص المسلمين بالنية لان ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ونظيره مالو تترس المشركون باطفال المسلمين فعلى من يرميهم ان يقصد المشركين وان كان يعلم انه يصيب المسلم وان كان الغالب موتى الكفار لا يصلى على أحد منهم الا من يعلم انه مسلم بالعلامة لان الحكم للغالب والغلبة للكفار هنا وان كانا متساويين فكذلك الجواب لان الصلاة على الكافر لا تجوز بحال قال الله تعالى ولاتصل على أحد منهم مات أبدا ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين كأهل البغي وقطاع الطريق
[ 199 ]
فعند المساواة يغلب ما هو الاوجب وهو الامتناع عن الصلاة على الكفار ولايجوز المصير إلى التحرى هنا عندنا لما بينا ان العمل بغالب الرأى في موضع الضرورة ولا تتحقق الضرورة هنا وذكر في ظاهر الرواية انهم يدفنون في مقابر المشركين لان في حكم ترك الصلاة عليه جعل كأنهم كفار كلهم فكذلك في حكم الدفن هذا قول محمد رحمه الله تعالى فأما على قول أبى يوسف رحمه الله ينبغى أن يدفنوا في مقابر المسلمين مراعاة لحرمة المسلم منهم فان الاسلام يعلو ولا يعلى ودفن المسلم في مقابر المشركين لا يجوز بحال وقيل بل يتخذ لهم مقبرة على حدة لامن مقابر المسلمين ولامن مقابر المشركين فيدفنون فيها وأصل هذا الخلاف بين الصحابة رضى الله عنهم في نظير هذه المسألة وهو ان النصرانية إذا كانت تحت مسلم فماتت وهى حبلى فانه لا يصلى عليها لكفرها ثم تدفن في مقابر المشركين عند على وابن مسعود رضى الله عنهما ومنهم من يقول تدفن في مقابر المسلمين لان الولد الذى في بطنها مسلم ومنهم من يقول يتخذ لها مقبرة على حدة فهذا مثله وهذا كله إذا تعذر تمييز المسلم بالعلامة فان أمكن ذلك وجب التمييز ومن العلامة للمسلمين الختان والخضاب ولبس السواد فاما الختان فلانه من الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} عشر من الفطرة وذكر من جملتها الختان الا ان من أهل الكتاب من يختتن فانما يمكن التمييز بهذه العلامة إذا اختلط المسلمون بقوم من المشركين يعلم انهم لا يختتنون واما الخضاب فهو من علامات المسلمين قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} غير والشيب ولا تتشبهوا باليهود وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه يختضب بالحناء والكتم حتى قال الراوي رأيت ابن أبى قحافة رضى الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم{{ص}} ولحيته كأنها ضرام عرفج واختلفت الرواية في ان النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} هل فعل ذلك في عمره والاصح انه لم يفعل ولا خلاف انه بأس للغازي أن يختضب في دار الحرب ليكون أهيب في عين قرنه وأما من اختضب لاجل التزين للنساء والجوارى فقد منع من ذلك بعض العلماء رحمهم الله تعالى والاصح أنه لا بأس به وهو مروي عن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال كما يعجبني أن تتزين لى يعجبها أن أتزين لها وأما السواد من علامات المسلمين جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم{{ص}} دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} إذا لبست امتى السواد فابغوا الاسلام ومنهم من روى فانعوا والاول أوجه فقد صح ان النبي صلي الله عليه وسلم
[ 200 ]
سطر 325:
[ 209 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب اللقيط) (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رضى الله عنه اللقيط لغة اسم لشئ موجود فعيل بمعني مفعول كالقتيل والجريح بمعنى المقتول والمجروح وفي الشريعة اسم لحى مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الريبة مضيعه آثم ومحرزه غانم لما في احرازه من احياء النفس فانه على شرف الهلاك واحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه قال تعالى ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعا ولهذا كان رفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الترحم على الصغار قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} من لم يرحم صغيرا ولم يوقر كبيرا فليس منا وفى رفعه اظهار الشفقة وهو أفضل الاعمال بعد الايمان على ما قيل أفضل الاعمال بعد الايمان بالله التعظيم لامر الله والشفقة على خلق الله وقد دل على ما قلنا الحديث الذى بدأ به الكتاب ورواه عن الحسن البصري أن رجلا التقط لقيطا فأتى به عليا رضى الله تعالى عنه فقال هو حر ولان أكون وليت من أمره مثل الذى وليت منه أحب إلى من كذا وكذا فقد استحب على رضى الله تعالى عنه مع جلالة قدره أن يكون هو الملتقط له فدل على أن رفعه أفضل من تركه (فان قيل) ما معنى هذا الكلام وكان متمكنا من أخذه بولاية الامامة (قلنا) نعم ولكن احياؤه كان في التقاطه حين كان على شرف الهلاك ولا يحصل ذلك بالاخذ منه بعد ما ظهر له حافظ ومتعهد فلهذا استحب ذلك مع أنه لا ينبغي للامام أن يأخذه من الملتقط الا بسبب يوجب ذلك لان يده سبقت إليه فهو أحق به باعتبار يده وفى هذا الحديث دليل على أن اللقيط حر وهو المذهب أنه حر مسلم اما باعتبار الدار لان الدار دار حرية واسلام فمن كان فيها فهو حر مسلم باعتبار الظاهر أو باعتبار الغلبة لان الغالب فيمن يسكن دار الاسلام الاحرار المسلمون والحكم للغالب أو باعتبار الاصل فالناس أولاد آدم وحواء عليهما السلام وكانا حرين
[ 210 ]
سطر 337:
[ 213 ]
ثم الثاني بالاخذ فوت عليه يدا محقة فيؤمر باعادتها بالرد عليه وهذا لان الاول أخذ ما هو مندوب الي أخذه والثانى أخذ ما هو ممنوع من أخذه لحق الاول فلا تكون يده معارضة ليد الاول ولا ناسخة لها وإذا كبر اللقيط فادعاه رجل فذلك إلى اللقيط لانه في يد نفسه وله قول معتبر إذا كان يعبر عن نفسه فيعتبر تصديقه لاثبات النسب منه وهذا لان المدعى يقر له بالنسب من وجه ويدعى عليه وجوب النسبة إليه من وجه فلا يثبت حكم كلامه في حقه الا بتصديقه دعوى كان أو اقرارا وإذا صدقه يثبت النسب منه إذا كان مثله يولد لمثله فأما إذا كان مثله لا يولد لمثله لا يثبت النسب منه لان الحقيقة تكذبهما وجناية اللقيط على بيت المال لان ولاءه لبيت المال فان الولاء مطلوب لمعنى التناصر والتقوى به ومن ليس له مولى معين فتناصره بالمسلمين وانما يتقوى بهم فإذا كان ولاؤه لهم كان موجب جنايته عليهم يؤدى من بيت المال لانه مالهم وميراثه لبيت المال دون الذى التقطه ورباه لان استحقاق الميراث لشخص بعينه بالقرابة أو ما في معناه من زوجية أو ولاء وليس للمتلقط شئ من ذلك (فان قيل) هو بالالتقاط والتربية قد أحياه فينبغي أن يثبت له عليه الولاء كما يثبت للمعتق بالاعتاق الذى هو احياء حكما (قلنا) هذا ليس في معنى ذلك لان الرقيق في صفة مالكية المال هالك والمعتق محدث فيه لهذا الوصف واللقيط كان حيا حقيقة ومن أهل الملك حكما فالملتقط لا يكون محييا له حقيقة ولا حكما فلا يثبت له عليه ولاء ما لم يعاقده عقد الولاء بالبلوغ وإذا ثبت أنه لا ميراث للملتقط منه كان ميراثه لبيت المال لانه مسلم ليس له وارث معين فيرثه جماعة المسلمين يوضع ماله في بيت المال وان والي رجلا بعدما أدرك جاز كما لو والى الملتقط لان ولاءه لبيت المال لم يتأكد بعد فله أن يوالى من شاء بخلاف مااذا جنى جناية وعقله بيت المال فان هناك قد تأكد ولاؤه للمسلمين حين عقلوا جنايته فلا يملك ابطال ذلك بعقد الموالاة مع أحد كالذى أسلم من أهل الحرب له أن يوالى من شاء الا أن يجني جناية ويعقله بيت المال ولايجوز للملتقط على اللقيط ذكرا كان أو أنثي عقد النكاح ولابيع ولاشراء لان نفوذ هذه التصرفات على الغير يعتمد الولاية كما قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} لانكاح الا بولي ولا ولاية للملتقط على اللقيط وانما له حق الحفظ والتربية لكونه منفعة محضة في حقه وبهذا السبب لا تثبت الولاية وان ادعى ان اللقيط عبده لم يصدق بعد ان يعرف أنه لقيط لانه محكوم بحريته باعتبار الظاهر فلا يبطل ذلك بمجرد قوله ولان يده يد حفظ فلا
[ 214 ]
سطر 355:
[ 219 ]
يجب القصاص لانا نعلم أنه لاولى له في دار الاسلام والطريق الآخر ان القصاص عقوبة مشروعة ليشفي الغيظ ودرك الثار وهذا المقصود يحصل للاولياء ولا يحصل للمسلمين والامام نائب عن المسلمين في استيفاء ما هو حق لهم وحقهم فيما ينفعهم وهو لدية لانه مال مصروف إلى مصالحهم فلهذا أوجبنا الدية دون القصاص وعلى هذا الطريق الذى أسلم من أهل دار الحرب واللقيط سواء وحجة أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى العمومات الموجبة للقود كقوله تعالى كتب عليكم القصاص وقال صلى الله عليه وسلم{{ص}} العمد قود ولان من لايعرف له ولى فالامام وليه كما قال صلى الله عليه وسلم{{ص}} السلطان ولى من لاولى له وإذا ثبت ان السلطان هو الولى تمكن من استيفاء القصاص لقوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا والمراد سلطان استيفاء القود ألا ترى أنه عقبه بالنهي عن الاسراف في القتل بقوله تعالى فلا يسرف في القتل وهذا يتضح في الذى أسلم وكذلك في اللقيط لان مالا يوقف عليه في حكم المعدوم ولان وليه لما كان عاجزا عن الاستيفاء ناب الامام منابه في ذلك وليس هنا شبهة عفو لان ذلك الولى غير معلوم حتى يتوهم العفو منه وحديث الهرمزان حجة لهما أيضا فان عبيدالله بن عمر رضى الله تعالى عنهما لما قتله بتهمة دم أبيه واستقر الامر على عثمان رضى الله تعالى عنه طلب منه على رضى الله تعالى عنه أن يقتص منه فقال عثمان رضى الله تعالى عنه هذا رجل قتل أبوه بالامس فأنا أستحيى أن أقتله اليوم وان الهرمزان رجل من أهل الارض وأنا وليه أعفو عنه وأؤدي لدية فقد اتفقا على وجوب القصاص ثم القصاص مشروع لحكمة الحياة كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة الآية و ذلك بطريق الزجر حتى ضر إذا تفكر في نفسه أنه متى قتل غيره قتل به انزجر عن قتله فيكون حياة لهما جميعا ولهذا قيل القتل انفي للقتل وهذا المعنى متحقق في اللقيط والذى أسلم كتحققه في غيرهما فكان للامام أن يستوفى القصاص ان شاء وان شاء صالح على الدية لانه مجتهد وله أن يميل باجتهاده إلى المطالبة بالدية ولانه ناظر للمسلمين فربما يكون استيفاء الدية أنفع للمسلمين وليس له أن يعفو بغير مال لانه نصب لاستيفاء حق المسلمين لا لابطاله ويحد قاذف اللقيط في نفسه ولا يحد قاذفه في أمه لانه محصن فانه عفيف عن الزنا أولا معتبر بالنسب في احصان القذف فيحد قاذفه في نفسه فأما أمه ليست بمحصنة بل هي في صورة الزانيات لان لها ولد لايعرف له والد فلهذا لا يحد قاذفه في أمه وفي حد القذف
[ 220 ]