الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/37»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
إضافة ترجمة فصل جديد
(لا فرق)

نسخة 19:59، 16 أبريل 2020

خطأ لوا في وحدة:Header على السطر 208: attempt to concatenate a nil value.

قصة يوسف الأرمني وزوجته مريم

كنت أنوي المضي إلى مرتفعات أبيران حيث البرد والكلأ لخيلنا وأن نتوقف هناك خلال ‏النهار، ولكني سمعت أن قبائل الرحل التي توقعنا أن نجدها في تلك المنطقة لنستظل بخيامها ‏ونأكل من مؤنها قد انتقلت إلى الجبال البعيدة خوفاً من الحرب والقتال، فقررتُ المكوث في ‏آشتاراك ريثما يمضى حر النهار. نزل رجالي في بيوت القرية، وبعضهم فضل أن يرتاح تحت ‏أقواس الجسر وربطوا جيادهم في مرج ذي عشب نضر غزير، واثنان منهما مكثا في برد ‏الطاحونة التي تديرها مياه النهر التي تجري في قنطرة. أما أنا فمددت سجادتي في غرفة مفتوحة ‏مشيدة على رف صخري في أعلى نقطة من الضفة تطل على الجوار كله فأستطيع مراقبة القرية ‏وأهلها والنهر ورجالي وأي شيء قد يتوجه نحونا من الحدود الروسية.‏

أنعشني نوم ساعتين، وعندما استيقظت أرسلت وراء الشاب الأرمني، وبينما قدم لنا أهل ‏القرية الطيبون فطوراً كنا بأمس الحاجة إليه طلبت منه أن يروي لي مغامراته، ولا سيما ما سبق ‏الوضع الذي وجدته فيه. وظهرت ملامح الشاب الرجولية بكامل جمالها بعد أن ارتاح وأفطر ‏وأضاءت الشمس البقعة التي كنا جالسين فيها. وحيوية ملامح وجهه خلال حديثه وإخلاصه في ‏الكلام أقنعني بصورة عجيبة أنه يقول الصدق. وإليكم ما رواه لي:‏

أصلي أرمني، وأنا مسيحي، واسمي يوسف. أبي مختار قرية غومشلو التي يقطنها الأرمن ‏فقط، وتقع بالقرب من نهر بمباكي الجميل. نعيش بين السهول الخضراء والمراعي البديعة ‏والمناخ عندنا يشتهر ببرودته وهدوئه، ونحن قوم أصحاء أقوياء شجعان، ورغم ابتزاز حكامنا لنا ‏كنا قانعين بحياتنا الفقيرة. وموقعنا بين الجبال البعيدة ينأى بنا عن الاستبداد الذي يعاني منه من ‏يعيشون قريباً من المدن ومقرات الولاة. عاداتنا بسيطة وحياتنا تقليدية. عمي شماس يخدم ‏البطريرك في إتشميادزين وخالي قسيس القرية، وقرر أهلي أنني يجب أن أصبح كاهناً أيضاً. كان ‏أبي يعيش من فلاحة الأرض، ونظف قطعة أرض بور بالقرب من القرية بجهده، وبما أن لديه ‏ابنان غيري أنا، فقد رأى أن مساعدتهما له في أعمال الحقل تكفيه، ومن ثم باركني أن أسلك سبيل ‏اللاهوت فأرسلني إلى إتشميادزين وأنا في العاشرة من عمري لأتعلم هناك، وتعلمت القراءة ‏والكتابة والشعائر الدينية. أحببت التعليم كثيراً وقرأت كل الكتب التي وقعت يدي عليها. توجد في ‏الدير مكتبة غنية للغاية من الكتب الأرمنية، وسنحت لي فرصة قراءة بعضها بين الحين والآخر، ‏ومع أن أغلبها كان دينياً، وجدت مرة كتاباً في تاريخ أرمينيا لفت انتباهي إذ عرفت منه أننا كنا ‏في الماضي أمة لها ملوكها الذين ذاع صيتهم في أصقاع المعمورة. فكرت في حالتنا حالة ‏الانحطاط في الحاضر وفي ماهية حكامنا، فملأت قلبي الرغبة في كسر نير العبودية، وهذه ‏الأفكار صرفتني عن المهنة المقدسة التي نذرني أهلي لها. وفي تلك الفترة اندلعت الحرب بين ‏فارس وروسيا؛ وبما أن قريتنا تقع في طريق مسير الجيوش، شعرت أن أسرتي تحتاج إلى ‏حماية، وأن عودتي إلى أهلي أكثر نفعاً من بقائي في الدير. ولذلك تركت أصدقائي وأخواني في ‏إتشميادزين قبل أيام من موعد وسمي كاهناً وعدت إلى بيت أبي، حيث رحّب بي الجميع. لقد ‏ذاقوا تماماً أهوال الحرب، إذ كانت تهجم علينا بين الفينة والأخرى جماعات من اللصوص سواء ‏من الجيش الفارسي أم الروسي (وكلاهما أسوأ من بعضهما) يعتدون على شعبنا الطيب المسالم ‏في قريتنا والقرى المجاورة. لم تكن هذه المناوشات الحدودية تنفع أياً من الطرفين المتحاربين، ‏ولكن عواقبها كانت وخيمة على سكان المناطق الحدودية. بقينا في خوف دائم من هجمات العدو ‏الغازي ومن الابتزاز والنهب من جانب جيوش حكامنا. حرقوا محاصيلنا وسرقوا قطعاننا وكنا في ‏خطر مستمر من الخطف والاستعباد. وتابعنا نحرث حقولنا للحفاظ على أملاكنا ولنؤمن أنفسنا من ‏الجوع، وكنا نذهب إلى عملنا والسيف على جنبنا والبندقية المحشوة وراء ظهرنا، ومتى ظهر ‏غرباء، مهما كانت هويتهم، نجتمع فوراً ونتصدى لهم دفاعاً عن ثرانا، وهكذا نجحنا لعدة سنوات ‏في حصاد محاصيلنا، وبفضل الله كان عندنا ما نأكله. وهنا علي أن أبدأ بسرد التفاصيل المتعلقة ‏بقصتي أنا.‏

منذ سنتين، وفي موسم الحصاد، خرجت من البيت قبل الفجر مسلحاً ومجهزاً كالعادة لأحصد ‏القمح في أحد حقولنا البعيدة، فرأيت فارساً فارسياً يحمل على ظهر الحصان وراءه أنثى ويعدو ‏بأقصى سرعة في وادٍ يتلوّى تحت التلة التي كنت واقفاً عليها. وكان واضحاً أنه يحمل الأنثى ‏عنوةً، لأنها عندما رأتني مدت يديها نحوي وصرخت مستغيثةً بي. انطلقت على المنحدر ‏الصخري للتلة فوصلت إلى الوادي لأقطع الطريق على الفارس، فأمرته أن يتوقف واستللت ‏سيفي لتأكيد كلامي، ووقفت لأمسك لجام فرسه. والمرأة التي كانت وراء ظهره كانت تقيد حركته ‏فلم يستطع أن يشهر سيفه ولا أن يستفيد من بندقيته، لذا نخس جواده ليصدمني به. ولكنني بقيت ‏ثابتاً في مكاني وجرحت حصانه بسيفي فقفز جانباً فوقعت المرأة عنه. مد الفارس يده إلى بندقيته، ‏ولكنه رأى أن بندقيتي مسددة عليه فرأى أن الأسلم له الاستمرار في طريقه بأقصى سرعة، ولم ‏أره بعد ذلك.‏

ركضت لأساعد المرأة التي رأيت من ملابسها أنها أرمنية، فوجدتها فاقدة الوعي وفي جسمها ‏رضوض، ونقابها الخارجي انفك عن وجهها، فمزقت نقابها الداخلي الذي يغطي أسفل الوجه كما ‏هي العادة عند الأرمن، لكي تتنفس، فرأيت أجمل وجه يمكن تخيله. كان عمر هذه المخلوقة الفاتنة ‏التي دعمت رأسها بيدي نحو خمس عشرة سنة، ولن أنسى هياج مشاعر الحب والبهجة ‏والارتعاش التي أحسست بها وأنا أنظر إليها أول مرة. انحنيت فوقها بكامل قوة الهوى الأول ‏وملأت قلبي أحاسيس جديدة علي فنسيت كل شيء عدا هذه الفتاة، ولو لم تفتح عينيها لبقيت في ‏ذلك المكان إلى الأبد. تحركت الفتاة وظهرت فيها مظاهر الحياة، وسقطت كلماتها الأولى في قلبي ‏مباشرة؛ وحين انتبهت إلى أنها في العراء وبين يدي رجل غريب بدأت تصيح وتبكي بطريقة ‏أفزعتني. وشيئاً فشيئاً استعادت رشدها وأيقنت أنني من قومها ودينها، بل أنني منقذها، فصار في ‏نظرتها مشاعر أخرى، وكنت آمل أنها قد لا تنزعج من العواطف التي أثارتها في نفسي. وبدأت ‏توبخني على أنني نزعت نقابها، ولا يمكن أن يُغفر لي ذلك، فلا يجوز أبداً إلا للزوج – في بعض ‏الأحيان – أن يمس بهذا الرمز: رمز العفة والشرف المقدس في عيني أي امرأة أرمنية، وهكذا ‏وقفت أمامها مجرماً تجرأ على رؤية وجهها كاملاً. وعبثاً حاولت أن أبرر نفسي بأنها كانت ‏ستختنق لو لم أبعد ضغط النقاب عن أنفها وفمها، لأنها فقدت الوعي ولو لم تستنشق هواءً لماتت: ‏فرغم كل هذه الحجج استمرت في بكائها قائلة أنها صارت امرأة ساقطة. ولكن أخيراً اقتنعت ‏بحجة مني، وهي أن عارها (إن شاءت أن تسميه كذا) لم يشهده أحد غيري، فحلفت بالقديس ‏غريغوريوس وبالصليب المقدس أنه سيبقى أعمق الأسرار في قلبي ما دمت حياً، وبعد هذا هدأ ‏بكاؤها. طلبت إليها عندذاك أن تحكي لي ما حدث لها، ومن هو ذاك الرجل الذي حررتُها من يده.‏

فقالت: «أما الرجل فلا أعرف عنه سوى أنه فارسي، ولم أره سابقاً، ولا أعرف ما غرضه ‏من اختطافي سوى بيعي في سوق الرقيق. وقعت منذ أيام مناوشة بين قطعة من الفرسان الفرس ‏والجورجيين كانت الغلبة فيها للفرس، فتقهقر الجورجيون ووقع بعضهم في الأسر، فساق الفرس ‏أسراهم إلى يريفان. وقد احتل الفرس قريتنا قبل أيام من هجمتهم تلك، وأظن أن خاطفي قرر ‏اختطافي حينذاك ليزعم أنني من السبايا الجورجيات من غنائم المعركة. نهضت في الصباح ‏الباكر وذهبت إلى بئر القرية لأحضر جرة ماء إلى البيت، فاندفع من وراء جدار متهدم وهددني ‏بسكين وأمرني أن أتبعه بلا صوت وأن أمتطي الحصان وراءه، وأطلق له العنان في حين كانت ‏بنات القرية ذاهبات إلى البئر، وكان أملي الوحيد في النجاة أن صراخهن سينبه رجال القرية. ‏اختفينا من الأنظار في غضون دقائق وسرنا في الوديان والتلال عبر أماكن يندر فيها المسافرون. ‏وأخيراً، عندما رأيتك على سفح التلة تجرأت وصرخت رغم تهديدات الفارسي، وتعرف باقي ‏القصة.»‏

وما كادت تنتهي من رواية قصتها حتى رأينا عدداً من الرجال، أحدهم يركب حصاناً ‏والآخرون على أقدامهم، يتقدمون مستعجلين نحونا. وميزت محبوبتي وجوههم وصاحت بسرور:‏

‏«آه، ذاك أبي! وأخوتي! هذا أوانيس، وأكوب، وأراتون! وعمي أيضاً!»‏

وعندما وصلوا إلينا، اندفعت الفتاة نحوهم وعانقتهم بفرح. وكنت أراقبهم وفي قلبي خوف أن ‏يكون بينهم شاب له مكانة في قلبها، ولكن الحضور كانوا كلهم من أسرتها. أخبروها أن خبر ‏اختطافها انتشر في القرية فوراً بفضل صديقاتها، ولحسن الحظ لم يكن الرجال قد ذهبوا إلى ‏الحقول بعد، وكان الحصان لا يزال في البيت، فامتطاه والدها فوراً. تقفوا آثار الخاطف ما دام ‏يمشي على الطريق، ولاحظوا مكان انعطافه عنه إلى البرية، ولمحوهم أكثر من مرة بعد ذلك ‏وأخيراً شاهدهما أوانيس من قمة تلة ينزلان إلى الوادي بالقرب من المكان الذي وجدوها فيه ‏الآن.‏

فشكرت الفتاة الله والقديس غريغوريوس على نجاتها، ثم أشارت إلي بشيء من التردد وقالت ‏لأهلها أنني من خلصها من الفارسي. التفت الجميع إلي، وسألني الشيخ أبوها: «ابن من أنت؟»‏

فأجبته: «أنا ابن كوجا بطرس مختار قرية غومشلو.»‏

فقال: «آه، إنه جاري وصديقي، ولكني لا أعرفك. لعلك أنت ابنه الذي كان يدرس في ‏الكنائس الثلاث‎1‎‏ ليصبح كاهناً وعاد مؤخراً لمساعدة أهله ؟»‏

أجبته بنعم، فقال: «أهلاً وسهلاً بك، وبارك الله بعمرك! لقد أنقذت ابنتي، وندين لك بالشكر ‏والامتنان إلى الأبد. تعال معنا لتحل ضيفاً علينا، إذ لو كان هناك مناسبة تستحق أن نذبح خروفاً ‏ونأكله ونفرح فها هي ذي. نحن وجميع عائلاتنا نحملك على رؤوسنا ونقبِّل قدميك ونمسح على ‏حاجبيك لأنك أنقذت مريم وخلصتها من مصير جارية عند المسلمين.»‏

ثم سمعت كلاماً لطيفاً من عمها وأخوتها، وجميعهم دعوني إلى قريتهم وأصروا على دعوتهم ‏حتى لم أستطع الرفض، لا سيما أنني كنت أرغب برؤية مريم، فتوجهنا سوية نحو القرية.‏

كان الطريق يتلوى على سفح أحد الجبال حين رأيت قرية مريم، كما أسميها، تقع بين ‏الأشجار محمية من الرياح من كل جوانبها عدا الشرق، حيث تكون الرياح الشرقية من بحر ‏قزوين هادئة وباردة. ووراءها كان نهر بامبوكي يمضى في طريقه الملتوي في وادٍ جميل وافر ‏الخضرة، وأبعد منه يشاهد بالكاد قره كليسه، أي الدير الأسود، موقع الروس في هذا الجزء من ‏الحدود، على صخرة سوداء وعرة تشرف على المناطق الخضراء المحيطة بها.‏

وعندما اقتربنا من القرية وجدنا أن جميع سكانها، ولا سيما النساء والأطفال، كانوا يتابعون ‏نزولنا على المنحدر ليعرفوا إن كانت مريم قد عادت أم لا، وعندما رأوها عم قلوب الجميع فرحٌ ‏لا حدود له. حكى أهلها قصة اختطافها وإنقاذها، فتناقلها الناس بين بعضهم فانتشرت في أرجاء ‏القرية، ومع كل رواية أضيفت إليها تفاصيل حتى قيل أن مريم اختطفها مارد رأسه من حديد وله ‏مخالب وقدمان من فولاذ يركب دابةً تتفتت الصخور والأجراف تحت حوافرها، وكل ضربة حافر ‏على الأرض صوتها كصوت المدافع، وأردفوا أن ملاكاً على هيئة شاب فلاح هبط فجأة من على ‏رأس جبل في سحابة من نور واستل سيفاً من نار فارتعب الحصان ورمى مريم أرضاً، فضرب ‏الملاكُ الماردَ فحوّله ومطيته إلى رماد، بدليل أنها لم تعد تراه بعد أن استعادت وعيها. وأشار ‏الناس إلي بأنني الملاك على هيئة فلاح، وكادوا يعبدونني لولا أن الولد الذي يرعى أبقار القرية، ‏والذي كثيراً ما كنت أصادفه في البرية، عرفني فقال: «إنه ليس ملاكاً بل يوسف بن كوجا بطرس ‏من غومشلو.»، وهكذا عدت بشراً فانياً. ومع ذلك، أكرمني أهل القرية جميعهم وفاضت ألسنة ‏أقرباء مريم بالثناء والمديح على ما فعلته من أجلهم. وفي هذا الوقت كان الحب يتغلغل في قلبي. ‏بالتأكيد، لم أعد أرى وجه مريم، فقد مضت تلك اللحظة السعيدة من حياتي، ولكنها تركت بصمة ‏لا تمحى على عمري كله، فقلت لنفسي: «لن يفصلني شيء عن هذه الفتاة الجميلة. مصيرنا من ‏الآن فصاعداً واحد. جمعتنا السماء بأعجوبة ولن يفصلنا عن بعضنا إلا القدر، حتى لو اضطررت ‏أن أتصرف مثل الفارسي فأخطفها عنوة.» التقينا مع مريم من حين إلى آخر، وكان الكلام بيننا ‏قليلاً، ولكن نظراتنا كانت تعبر عما يعجز الكلام عن الإفصاح به، وتيقنت من أنها تبادلني ‏الشعور. كم تمنيت أن أواجه وأقاتل عشرين فارسياً آخر لأبرهن مدى حبي! ولكني تذكرت أني ‏لست سوى أرمني فقير ينتمي إلى شعب مسكين مهان منحط، وأعظم بطولة قد تكون من نصيبي ‏هي حماية قطعان أبي من الذئاب وصد السارقين عن حقولنا.‏

مكثت طوال ذلك اليوم في غوكلو (اسم قرية مريم)، وذبحوا الخروف المنذور وطبخوا قدراً ‏ضخماً من الرز. وعدت إلى قريتي في اليوم التالي، حيث كان والداي قلقين بسبب غيابي، ‏واستمعوا إلى ما حدث لي بكل جد واهتمام.‏

استولى الحب علي فلم أستطع أن أفكر بأي شيء آخر، فرأيت أن أخبر والديّ بمشاعري، ‏فقلت لهما: «لقد بلغت الرشد لأتصرف وأقرر مصيري وفق ما أراه، وبفضل الله وفضلكما ‏ساعداي قويان وأستطيع أن أكسب خبزي. أريد أن أتزوج، وقدّمَتِ الأقدار لي سبيلاً إلى ذلك.»‏

ثم ناشدتهما أن يطلبا مريم من أبيها زوجةً لي، وقبلت يد والدي وعانقت والدتي.‏

فأجاباني: «الزواج في مثل هذا الوقت العصيب قرار صعب، وأسرتنا أفقر من أن تتحمل ‏تكاليف الزفاف. فمن الضروري شراء الملابس والخواتم والشموع والحلويات وستار قرمزي ‏وسرير وشراشف ودفع أجور المغنين والعازفين وتجهيز وليمة؛ ومن أين لنا النقود لتغطية كل ‏هذه التكاليف؟»‏

فقلت: «صحيح أن النقود ضرورية ولا يمكن الزواج بدونها، سواء من أجل شرف أسرتنا أم ‏لأبين حبي لزوجتي؛ ولكني أستطيع أن أستدين، فعندي أصدقاء في يريفان وفي الكنائس الثلاث، ‏ويمكنني أن أستدين منهم مبالغ تكفي لترتيبات الزفاف؛ ومن أجل تسديد ديوني سأعمل بجد ‏ونشاط وأقتصد في حياتي ما استطعت، فأسدد ما علي شيئاً فشيئاً. كما يمكنني أن أعمل خادماً عند ‏تاجر يحاسبني بنسبة من أرباحه، وعندها قد أكسب من رحلة واحدة إلى القسطنطينية أو ‏أستراخان ما يكفيني لتسديد ديوني مع فوائدها.»‏

وبالنتيجة أكثرت الكلام فاقتنع والداي بالتقدم إلى والدي مريم، وتقرر أن يزور والدي وعمي ‏القسيس وأحد أعيان قريتنا غوكلو ليطلبوا مريم زوجة لي. وكنت أجد حجة لأذهب إلى تلك القرية ‏كل يوم تقريباً، وكان عندي أكثر من فرصة لإعلام مريم وأهلها بما أنويه كيلا تأتيهم زيارة أهلي ‏مباغتة.‏

استقبل أهل مريم أبي ورفقاءه بكل حفاوة، وتحدثوا في الموضوع واستغلوا هذه الفرصة ‏ليشربوا عدداً أكبر من المعتاد من كؤوس العرق، واتفقوا على عقد القران في أسرع وقت، حالماً ‏يتم الاتفاق على تفاصيل الحفل وما يجب تأمينه للزواج وبعد مراسم الخطبة.‏

وبعد ثلاثة أيام ذهبت أمي، ومعها امرأتان من عجائز القرية وعمي القسيس وأنا، إلى غوكلو ‏من أجل الخطبة والاتفاق على شروط الزفاف. وكان استقبال النساء أكثر رسميةً من استقبال ‏الرجال، والتقت نساء تلك القرية بنساء قريتنا وبدأن بالتفاوض.‏

وعرضت أمي باسمي أن عليّ تأمين طقمي ملابس كاملين لخطيبتي، أحدهما من الحرير ‏القرمزي والآخر من القطن الأزرق، وسروالين، أحدهما حرير والآخر قطن مقلّم، وجبتين، أي ‏ثوبين، من القطن المطبوع، ونقابين، أحدهما من القطن الأبيض والآخر ملون بمربعات؛ وزوجين ‏من الأحذية، أحدهما من جلد أخضر بكعب عال والآخر من جلد بني بكعب عظمي منخفض مع ‏نعل حديد، كما كان علي أن أضيف على ذلك منديلاً من الموسلين المطبوع ومجموعة من ‏النطاقات وأغطية الرأس، كما عرضت خمسين قرشاً فضياً للنفقات الصغرى وسلسلة للرقبة معلق ‏عليها تومان فارسي من ذهب.‏

وتم الاتفاق على هذه البنود بعد نقاشات طويلة، إلا أن إحدى العجائز التي عملت خادمة في ‏بيت فارسي أثارت جدالاً جديداً حين طالبت بإضافة شيء يسمى «شير بها» أي ثمن الحليب، كما ‏هو معتاد في فارس. فأجابت نساؤنا أن ذلك ليس من عادات الأرمن، فأكدت نساء غوكلو أنها ‏عادة، فتعالى الصراخ وكادت النسوة تتخاصم، وكنت قد طلبت من أمي عدم الإصرار بل التساهل ‏في المساومة، فعرضَتْ عشرة قروش أخرى فنال عرضها رضا الجميع.‏

كانت كل هذه النقاشات تدور بين النساء حصراً، وعندما حصل الاتفاق دعتنا النساء إلى ‏الدخول، فدخلت مع عمي، من أجل الخطبة، ونبهوني ألا أضحك ولا أبتسم طوال المراسم لأن ‏ذلك علامة سوء كفيلة بإفساد الحياة الزوجية.‏

رأيت أمي جالسة على الأرض بين العجائز مقابل والدة خطيبتي مع عجائزها، ودخلت مريم ‏في اللحظة نفسها، فقدمت أمي لها خاتماً (نحاسياً للأسف) مني فلبسته في إصبعها، ثم قدموا النبيذ ‏للقسيس، فأخذ منه جرعة كبيرة ثم أعلن أننا مخطوبان وصرنا زوجاً وزوجة وتلقينا تهانئ ‏الموجودين. كنت فرحاً، رغم أن التحادث مع خطيبتي كان ممنوعاً، فتبادلنا القبلات مع جميع ‏الحضور وتلقينا مباركات أكثر من أي زوجين في العالم على ما أعتقد.‏

عادت أمي وصاحباتها إلى قريتنا، وذهبت معهن لترتيب الزفاف ليكون على أكمل وجه. ‏وعندما جلسنا لنحسب النقود المطلوبة وسبل الحصول عليها دخل أبي إلى الغرفة التي كنا ‏مجتمعين فيها وفي يده كيس، فقال لي: «هذه هي النقود، فمختار غومشلو قادر على تأمين زفاف ‏ابنه مثله مثل خيرة رجال هذا البلد. خذ هذه العشرة تومانات يا بني لتشتري بها ملابس زوجتك.»‏

فركعت أمامه وقبّلت يده وطلبت منه أن يباركني.‏

وقال عمي القسيس وقد أعجب بسخاء أبي: «يا ابن أخي، الكنيسة فقيرة وخدمها أفقر، ولكن ‏خذ مني عشرين عباسياً‎2‎‏ فضياً لتشتري بها شموعاً لزفافك.» ‏وأضاف كل واحد من الموجودين ما استطاع من النقود، فوجدت نفسي قادراً على شراء المطلوب ‏بلا الحاجة إلى الاستدانة من أصدقائي. شكرت الجميع بأطيب الكلمات، ولم أعرف كيف ‏أتصرف، إذ لم يكن عندي في حياتي مثل هذا المبلغ. وكنت متلهفاً للذهاب إلى يريفان لشراء ‏الملابس، إذ كانت أقرب مدينة فيها سوق. وبما أنني كنت غشيماً في فنون الشراء ولا أفقه شيئاً ‏في ملابس النساء قررنا أن ترافقني والدتي على ظهر الحمار وأمشي معها راجلاً. وكان عندها ‏صديقة أرمنية في يريفان تستطيع إيواءنا ليلة أو ليلتين، أما في الطريق فأوينا في خيام قبائل ‏الرحل الذين توجبهم أخلاقهم باستضافة المسافرين.‏

غادرنا القرية، أمي على ظهر الحمار وأنا أمشي إلى جانبها وسيفي على جنبي وبندقيتي ‏وراء ظهري يودعنا نصف سكان القرية يدعون لنا بالسلامة والتوفيق. ‏

وعندما وصلنا إلى مرتفعات أبيران اكتشفنا معسكراً عظيماً من خيم بيضاء، وكانت أضخمها ‏خيمة القائد. وأخبرنا فارس صادفناه في طريقنا أن سردار يريفان عسكر هنا مع قطعة كبيرة من ‏الفرسان لمراقبة تحركات الروس والجورجيين لتوقعه أن ينقلوا قواتهم للهجوم على بلاد فارس.‏

أقلقنا هذا الخبر، ورأت أمي أن نرجع فوراً ونؤجل الزفاف؛ إلا أن عشقي منعني من ‏الاستماع إلى كلامها فتوسلت إليها أن نمضي في طريقنا بسرعة لنعود في أقرب وقت أيضاً. ‏وقطعنا في اليوم الأول مسافة طويلة حتى رأينا دخان يريفان من بعيد. أمضينا الليلة تحت صخرة ‏كبيرة تطل على جبل أرارات، ورسمنا الصليب عندما رأيناه، ثم أوكلنا أنفسنا للقديس ‏غريغوريوس قبل أن نخلد إلى النوم. كانت قبائل الرحل قد انتقلت بعيداً فلم يعد لنا أمل الإيواء ‏إلى خيمهم، ولكننا ارتحنا جيداً خلال الليل فمضينا إلى يريفان في الصباح الباكر ووصلنا إليها ‏بسلامة.‏

استقبلت صديقة أمي ضيوفها بحفاوة، وذهبتا في اليوم التالي إلى السوق لشراء ملابس ‏الزفاف، بينما تسكعت في أرجاء السوق والمدينة أستمع إلى الأقوال والشائعات، وأغلبها كان ‏حول نوايا السردار في محاربة العدو. كان واضحاً أن شيئاً سيحدث قريباً، وتوقع الناس هجوماً ‏كبيراً لأن العاملين في دار الصناعة ومصانع البارود ازداد الطلب على عملهم في إنتاج أدوات ‏القتل والإبادة لم يشهد لها مثيل في بلاد فارس،‎3‎‏ وقيل أن هذه الصناعة أنشأها منشقون روس. ولكن شؤوني غلبت علي ‏فما أعرت اهتماماً لهذه الأخبار، وقد خطر على بالي أننا يمكن أن نحاول طلب الحماية من ‏السردار بوساطة رئيسنا في الكنائس الثلاث في حال صارت قريتنا ومحيطها مسرح أعمال ‏قتالية، ولكن عندما حسبت الوقت الضروري للسفر إلى إتشميادزين تركت الفكرة وتوكلت على ‏سيفي وبندقيتي معتبراً إياهما حماية كافية من جميع الغزاة.‏

عدت مع أمي إلى القرية من الطريق الذي جئنا به، إلا أن مسيرنا كان أبطأ لأن الحمار كان ‏محملاً بما اشتريناه، كما حملت أنا جزءاً من الأغراض فضلاً عن أسلحتي. كان مخيم السردار لا ‏يزال في المكان نفسه وتجاوزناه بلا عراقيل تذكر حتى وصلنا إلى المرتفعات المطلة على ‏غومشلو.‏

رأت أمي خيمة فتوقفت مصعوقة وصاحت: «ما هذا يا يوسف؟ أترى الخيمة؟»‏

فأجبتها، ورأسي لا يتسع لأية أفكار إلا ما ارتبط بزفافي: «أجل، أراها. لعلهم يحضرون ‏استقبالاً لنا.»‏

فصرخت أمي: «ولحية زوجي، أي استقبال؟ ماذا حدث لعقلك؟ إنهم إما الروس أو الفرس، ‏وأنا متأكدة من ذلك مثلما أنا متأكدة من أنني مسيحية! ولا خير في كلتا الحالتين.»‏

اندفعنا إلى بيتنا في قلق، وعندما وصلنا تبين أن أمي كانت على صواب، فقد احتلت القرية ‏قطعة صغيرة من المشاة الروس تتألف من خمسين رجلاً يرأسهم «پنجاه باشي»، أي رئيس ‏الخمسين، يسمونه «الكابتن»، وهي طليعة الجيش الروسي الموجود على مسافة مسير يوم عن ‏قريتنا. وتم إيواء العساكر في بيوت القرية، وسكن الكابتن في بيتنا لأنه بيت المختار وأفضل ‏بيوتها.‏

تصور رعبنا عندما عرفنا الوضع، وتصور تعاستي بسبب ضرورة إرجاء زفافي إلى أجل ‏غير مسمى، وربما يلحق بنا الدمار والخراب فنبقى عراة معدمين مشردين. راعتني هذه الصورة ‏فاستعجلت إلى أصدقائي في غوكلو للترويح عن نفسي عسى أن يؤاسوني. تقع قريتهم بعيداً عن ‏طريق مسير الجيوش، ولم تظهر أية قطعات عسكرية بالقرب منها ولا فيها، ولكن عندما سمعوا ‏أخبار قريتنا شاطرونا مخاوفنا. رأيت مريم العزيزة، ولا تسمح لنا عادات بلدنا بالتحدث صراحة، ‏ولكن الحب بارع في ابتداع الوسائل، فتبادلنا كلمات الوفاء الأبدي وحلفنا على الصليب المقدس ‏لديننا أننا سنبقى معاً مهما حدث.‏

تكررت لقاءاتنا وكدت أفقد صوابي من قوة رغبتي وخيبة أملي من تعذر زواجنا. كان ‏واضحاً أن الكارثة محدقة، فالجيوش يمكن أن تتحرك في أي يوم، ومتى بدأ القتال فماذا يبقى من ‏أفراح عرسنا؟ إن الإقدام على مثل هذه الخطوة الهامة في مثل هذه الظروف ليس إلا استهزاءً ‏بالأقدار وتحضيراً لمستقبل كله تعاسة ونحس. ولكن حبي كان يدفعني إلى الزواج، وحاولت أن ‏أتحمل ما لا طاقة لي به.‏

ولكن، مضى أسبوعان على عودتنا ولم يحصل شيء. كانت علاقاتنا مع ضيوفنا الروس ‏طيبة، إذ كانوا هادئين ومنضبطين بخلاف الفرس في مثل هذه الحالات، فأصبحنا أصدقاء. ‏فالروس مسيحيون مثلنا، يرسمون الصليب ويصلون في كنيستنا ويأكلون الخنزير ويشربون ‏النبيذ، وكل هذا كان من شأنه توطيد أواصر الصداقة بيننا. وكان قائدهم الكابتن رجلاً محترماً ‏للغاية ومتواضعاً أحبه الجميع، يحافظ على كامل الانضباط بين جنوده ويضرب بسلوكه مثلاً ‏يحتذى به. كان شغوفاً بمعرفة عاداتنا وتقاليدنا وطلب منا أن نحدثه عن كل ما يهمنا. وهكذا علم ‏عن زواجي، واستمع إلى قصتي باهتمام حار جعلني أشعر أنه من أعز أصدقائي.‏

وقال: «وماذا يمنعكم من تنظيم حفل الزفاف الآن؟ نحن نحميكم، وإذا احتجت إلى أي شيء ‏مما أستطيع أن أعطيك أو أعيرك إياه فلن أقصّر في ذلك أبداً. فالفرس على ما يبدو لا يتحركون، ‏وجيشنا ينتظر وصول تعزيزات من تفليس قبل أن يتقدم. إذن، عندك الوقت الضروري لتحضر ‏كل شيء وأن نحتفل بزفافك، وقد يكون أكثر فخامة مما لو لم نكن قد نزلنا عندكم.»‏

وعلاوة على ذلك وعد أن يهدي العروس أربطة ذهبية جورجية وأن يعيرني حصانه ‏القرداغي الأصيل لأركبه بهذه المناسبة. وبحديثه أقنع أقاربي وأقارب خطيبتي بعدم تأجيل ‏الزفاف، فحددنا موعده. لو سعى أي رجل آخر إلى تعجيل الأمور، ولو أبدى كل هذا الاهتمام بها، ‏لأثار شكوكي حول نقاوة نواياه وربما أثار غيرتي؛ ولكن الكابتن كان بشع المظهر، وبالأحرى، ‏مختلفاً عما يعتبره شعبنا جميلاً، لدرجة أنني لم أشعر أنه يمكن أن ينافسني في حبي إلى مريم، ‏فلو عشقته لاستطاعت أن تعشق قرداً. فوجهه كان شاحباً ذا جلد خشن، يعلو رأسه شعر أشبه ‏بالريش بلون القش، وعيناه مثل ثقبين عميقين مخفيين وراء وجنتين صغيرتين وأنفه كقطعة لحم ‏صغيرة تحتها ثقبان وكأنها مفتوحان بمخرز، وذقنه أجرد تماماً لا يظهر فيه ولا شعرة. وعلى ‏شفته العليا شاربان بارزان وطويلان حتى يظهر أنهما أكبر من صاحبهما، وهذه الإشارة إلى ‏رجولته يعلوها من الصباغ والزيت ما يكفي لدهن جزمته التي لا تفارق قدميه.‏

فقلت لنفسي: «لا، فالأحرى بمريم أن تعشق ذاك المارد الفارسي، ولو قارنته بخطيبها (وهنا ‏نظرت إلى نفسي بشيء من التباهي) فلن تترك مكاناً لغيرتي ومخاوفي.»‏

وهكذا تقرر زواجي. وفي المساء السابق ليوم الزفاف أرسلت الألبسة وغيرها من الأغراض ‏على صوانٍ محمولة على رؤوس الرجال إلى خطيبتي، ويرافقهم المغنون والعازفون الذين تجدهم ‏في كل قرية. وتألفت فرقتي من رجل يعزف على الزرنة وآخر يضرب الدف ومغنيين اثنين؛ كما ‏أعطانا الروس طبلهم حمله أحد رعاتنا وملأ صوته المنطقة كلها. وتبعتُ هديتي بعد بضع ساعات ‏لأستلم الهدية من خطيبتي كما هو متعارف عليه، وتألفت من طبنجتين ملبستين بالنحاس ‏مصنوعتين في القوقاز كانتا ملكاً لعم أبيها الذي خدم في جيش والي جورجيا قبل أن يستولي ‏الروس على ذلك البلد.‏

وفي اليوم التالي، يوم سعادتي المنتظر، نهضنا جميعنا في الصباح الباكر. كان الطقس هادئاً ‏وحاراً ينذر بعاصفة، والغيوم معلقة في السماء برؤوسها البيضاء فوق الأفق. ولكن الطبيعة كانت ‏جميلة نضرة بعد مطر هطل في الليل. أعطاني صديقي الكابتن جواده، وزينته بأجمل عدة أمنتها ‏لهذه المناسبة، وارتديت طقماً جديداً من الملابس من رأسي إلى قدمي ولبست فوقها أحزمة من ‏فضة وخناجر وعلب الخراطيش وغيرها استعرتها من جورجي يخدم عند الروس، وكان مظهري ‏وسيماً كما قال لي من رآني، وأظن أنهم كانوا صادقين في ذلك. وانطلقنا إلى غوكلو أنا وأقاربي ‏الرجال والكابتن الروسي وكل رجاله الذين استطاع إعفاءهم من الخدمة في ذلك اليوم، ومضينا ‏في موكب تسبقنا الموسيقا والأغاني والصيحات. ترجلنا عند بيت خطيبتي حيث تناولنا المرطبات ‏وتلقينا التهانئ من أهل القرية جميعهم. وعندما جهز كل شيء لعودتنا إلى غومشلو – حيث كان ‏عمي بانتظارنا لإجراء التكليل – ركبنا الخيل مرة أخرى، وكانت خطيبتي مغطاة بستار قرمزي ‏من رأسها إلى قدميها وعلى رأسها صفيحة مستديرة لتثبيت الستار، وركبتْ على جواد أبيها ‏يسوقه أخواها من جانبيه. ومن عادات بلدنا أن يمسك العريس بيده نطاقاً أو وشاحاً تمسك العروس ‏طرفه الآخر وهما في طريقهما إلى الكنيسة. ورافق الموكب جميع أصدقائنا وأقربائنا وكل شباب ‏القريتين، بعضهم على أقدامهم وبعضهم الآخر على الحمير والبعض على الخيل، وهم يصيحون ‏ويعبرون عن بهجتهم بكل أشكال الألعاب والتسالي طوال الطريق. وعندما وصلنا إلى تلة صغيرة ‏تشرف على قريتي استلم كل المشاركين في المراسم شمعة صغيرة أشعلها فوراً. ثم تقدم الموكب ‏ببطء ورصانة يرأسه عمي وهو ينشد مع عمي الآخر من الكنائس الثلاثة المزامير وسط الضجة ‏التي تصدر عن المشاهدين. وقد أمر الكابتن رجاله بارتداء بزة المناسبات، وساروا جميعهم إلى ‏الكنيسة معنا، فكان موكباً مهيباً حقاً.‏

وأخيراً ترجلنا عند باب الكنيسة، ونحن نمسك كل واحد بطرف الوشاح، ومشينا أنا وخطيبتي ‏إلى المذبح الذي كان مزيناً على غير العادة بالزهور والشرائط والمرايا. ثم أوقفونا وجبيني ‏يلامس جبين مريم ووضع الكتاب المقدس فوق رأسينا مفتوحاً، ووضعوا يدها في يدي. ثم سألونا ‏إن كان كل واحد منا يقبل الآخر زوجاً له، وبعد أن أومأنا برأسينا بالإيجاب قرئت التراتيل ‏المناسبة، ثم انتهى التكليل وأعلن للعالم أننا أصبحنا زوجاً وزوجة بصيحات الحشد وأصوات ‏الطبول والأبواق والدفوف.‏

وفي هذه الأثناء اختفى ضوء النهار وتغطت السماء بغيوم داكنة تنذر بعاصفة، وبعد فترة ‏هطل المطر وسمعت أصوات الرعد، ولهذا انتهت الوليمة في وقت أبكر مما لو بقي الطقس ‏صافياً، وبعد أن تفرق المدعوون اقتربت الساعة التي تجعلني أسعد الرجال.‏

فهل أتوقف هنا لأتذكر كل فظائع تلك الليلة أم أتجاوزها لكي لا أزعجك بهذه الرواية. تصور ‏خطيبتي الجميلة كنجم الصباح البريئة كالملاك المرتبطة بي بأنقى مشاعر الحب، يمكنك أن ‏تدرك ما شعرت به في تلك اللحظة، وقد كنت أتصور أن اتحادنا مستحيل وفكرت بسعادتي ‏المرتقبة وكأنها نور وجودي كله يبرق أمامي ولا أصل إليه.‏

ولكن لكي تفهم المشهد الذي سوف أصفه لك الآن، يجب أن تعرف أن القرى في جورجيا ‏وفي ذلك الجزء من أرمينيا الذي نقطن فيه تبنى جزئياً تحت الأرض، فيجد الغريب نفسه ماشياً ‏على سقف بيت وهو يظن أنه يسير على الأرض، وأغلب البيوت تنار بفتحات في سقوفها. وهكذا ‏كان بيت أسرتي، ذلك البيت الذي احتفلنا فيه بزفافي. وكان في حجرتي الزوجية واحدة من هذه ‏الفتحات، وقد أغلقت بهذه المناسبة، وبابها يطل على الشارع مباشرة.‏

من عادات الأرمن أن يذهب العريس إلى الغرفة أولاً، ثم تلحق العروس به فتخلع حذاءه ‏وجوربه، ثم تطفئ النور وتخلع ستارها. كانت العاصفة قد بدأت، والرعد يدوي فوق رؤوسنا ‏والأبراق تومض وسيول من المطر تنهمر بصوت رهيب وكأن عناصر الطبيعة كلها اضطربت ‏عندما أطفأت مريم الشمعة ونزعت حجابها. وما كادت تضطجع في الفراش حتى سمعنا ضجيجاً ‏شديداً غريباً على سقف البيت: أصوات الرجال تختلط بوقع حوافر الخيل ودوي الرعد، ثم سمعنا ‏شيئاً يقع في غرفتنا فشاهدنا ومضة وشممنا رائحة الكبريت.‏

فصرخت: «إنه البرق وحق القديسين! حمانا الله! اهربي يا روحي، يا حبيبتي، استعجلي!»‏

وما كادت زوجتي رمت ستارها على رأسها وخرجت من باب البيت حتى وقع انفجارٌ في ‏الغرفة مباشرة وجعلتني شدته أشعر وكأنني انتقلت في لحظة إلى نار جهنم. فقدت وعي بين ‏الأحجار وقطع الأثاث المتساقطة، ولا أذكر إلا بريق النار ورائحة الكبريت ثم الصمت الفظيع.‏

 
وقع انفجارٌ في الغرفة مباشرة.

مكثت في المكان فترة وأنا لا أدرك ما يجري حولي، ثم استعدت وعيي شيئاً فشيئاً فوجدت ‏أنني أستطيع أن أحرك يدي ورجلي، وليس فيّ إصابات بليغة، فبدأت أتذكر ما حدث. بدا لي أن ‏زفافي لم يكن إلا حلماً، فلم أسمع حولي إلا ضرب البنادق والانفجارات الكثيرة الشديدة وصرخات ‏وصيحات الرجال، الجرحى منهم والمهاجمين الذين يقتلون رجالاً آخرين، ووقع الخيل وتصادم ‏السيوف. فتساءلت: «ما هذا بحق السماء؟» وما زلت مربكاً ومصعوقاً أشعر أنني في كوكب آخر ‏حين سمعت صرخة امرأة. «إنها مريم! قسماً بالقديسين، إنها هي! أين بحق الله أجدها؟» فخلصت ‏نفسي من الحطام المتراكم فوق جسمي ونهضت وانطلقت أبحث عنها. إن المشهد الذي رأيته أفظع ‏من أن يوصف، فأول ما رأيته كان فارسي يندفع نحوي وفي يده سيف وفي يده الأخرى رأس ‏مقطوع يقطر الدم منه. كان سواد الليل يضاء بومضات برق تكشف لي المأساة الرهيبة ثم تخفيها ‏في الظلام ليتولى الخيال رسم الباقي. وفي ومضة أخرى رأيت الفرس يهاجمون الروس العزّل ‏الذين قاموا من الفراش، وفي ومضة أخرى رأيت أهل القرية يهربون في فزع من بيوتهم التي ‏يتصاعد الدخان منها. ثم دوى انفجار عظيم هز كل شيء حولنا.‏‎4‎‏ وتراكضت الدواب بعد أن أفلتت من حظائرها في كل اتجاه تختلط ‏بأهوال تلك الليلة. لا يسعفني الكلام في وصف مشهد الخراب الذي شهدته، وبوركت يد القدير ‏الذي نجاني من الموت في تلك الليلة الفظيعة.‏

ما عرفت أين أتوجه بحثاً عن زوجتي. لقد سمعت صرخاتها، وهنا هزني اليأس حين فكرت ‏أن ما سمعته كان صرخة الموت. رميت بنفسي في وسط المعركة وفي يدي قطعة حطب مشتعلة ‏سحبتها من المدفأة في غرفتي وفتحت طريقي بين المتقاتلين أشبه بمجنون في نوبة سعر وليس ‏برجل في ليلة زفافه. وعندما وصلت إلى أطراف القرية خيل إلي أني سمعت صرخات حبيبتي ‏مرة أخرى، فركضت مسترشداً بسمعي باتجاهها. وفي ومضة برق رأيت في رأس تلة قريبة ‏فارسين يهربان مع امرأة ستارها الأبيض واضح جلي تركب وراء ظهر أحدهما. تبعتهما برشاقة ‏الوعل الجبلي، ولكن مع انحسار العاصفة قلت ومضات البرق فوجدت نفسي في النهاية على ‏رأس تلة في ظلام دامس، لا أعرف الطريق الذي أمضى فيه. كنت عرياناً تقريباً، وجسمي كله ‏رضوض. وقدماي المعتادان على السير حافياً، مجروحان بالحجارة بسبب المطاردة، والأسى ‏يغلب عليّ وقلبي يتحطم، فوقعت على الأرض في يأس تبعته بلادة المشاعر كلها وبقيت مستلقياً ‏حتى لمست أشعة الصباح الأولى عيني فاستعدت تدريجياً إدراكي.‏

تساءلت: «ماذا حدث؟ أين أنا؟ كيف جئت إلى هنا؟ هل الشياطين جاءت إلى هنا الليلة ‏الماضية؟ أيعقل أن أرى هذه الشمس وأسمع تغريد الطيور في السماء الزرقاء وألمس هدوء ‏الطبيعة ونضارة الصباح وخوار الأبقار، وهل يمكن ألا تكون المشاهد التي تجول في ذاكرتي ‏أكثر من نتاج خيالي المعتلّ؟ أيعقل أنني رأيت هنا، في هذه البقعة المباركة من الأرض، إنساناً ‏يقتل أخاه الإنسان والبيوت المحترقة والجثث المشوهة والرؤوس المضرجة؟ أيعقل أنني فقدت ‏زوجتي البريئة الغالية المحبوبة؟» وعندها عاد إلي إدراكي لما وقع الليلة، ما كنت أرفض ‏تصديقه، فأنجدتني الدموع التي بردت رأسي وشرحت صدري الذي كاد يختنق. فنهضت واتجهت ‏ببطء نحو القرية. كان كل شيء هادئاً، ويرى دخان يتصاعد هنا وهناك، والأبقار الشاردة ترعى ‏على مشارف القرية، وبعض الفرسان الغرباء يقومون بتحضيرات ما، والفلاحون متجمعون وهم ‏لا يزالون مربكين بأحداث الليلة لا يعرفون ما تخبئه الأقدار لهم. أما أنا، فالمصيبة التي منيت بها ‏جعلتي أتوقع أسوأ الكوارث، فتوقعت أن أجد أقاربي كلهم موتى وبيتي مدمراً فأبقى خالياً وحيداً ‏على وجه الأرض بلا زوجة ولا بيت ولا أهل ولا أصدقاء. ولكن توقعاتي السوداوية كانت أشد ‏من الواقع، فأول من صادفته وأنا أدخل القرية كانت أمي المسكينة التي بذلت كل الجهد لتأمين ‏سعادتي. وحالما رأتني اندفعت نحوي والدموع تسيل من عينيها. وبعد أن هدأت قليلاً أخبرتني أن ‏أبي أصيب ببعض الرضوض ولكن سائر العائلة بخير؛ وأن بيتنا قد تضرر وتعرض للنهب من ‏حلفائنا الفرس، وأن غرفتي تحديداً قد تدمرت تماماً. وحكت لي أن الكابتن الروسي وقع أول ‏ضحية للفرس، إذ اندفع إلى خارج البيت ليعرف ما يحدث متى سمع الانفجار في غرفتي، فهاجمه ‏فارسيان اثنان أمسكه أحدهما وقطع ثانيهما رأسه، وهذا الرأس رأيته حين اندفعت من غرفتي. ثم ‏أخذتني إلى ملجأ وألبستني بما وجدته من ملابس.‏

ترك الفرس القرية بعد أن انتهوا من ارتكاب فظائعهم ليبقى لأهل القرية مهمة دفن أجساد ‏ثلاثين روسياً وقعوا ضحية لهجمتهم الغادرة والذين أخذ الفرس رؤوسهم معهم غنائم.‏

بعد أن رأيت أبي واطمأننت على صحته قررت أن أبدأ فوراً البحث عن زوجتي. كان ‏واضحاً أن خاطفيها كانوا من بين مهاجمي القرية وأنهم أخذوها إلى يريفان موقع أقرب سوق ‏رقيق، إذ لا ريب في غرضهم من خطفها. وجدت سيفي وبندقيتي وطبنجاتي مطمورة تحت حطام ‏غرفتي، فأخذتها فضلاً عن بضع قطع من نقود فضية وغادرت غومشلو وقد أقسمت ألا أعود إليها ‏حتى أجد مريم.‏

مشيت على عجل وأخذت الدروب المختصرة عبر الجبال لأصل إلى يريفان في أسرع وقت. ‏وعندما قطعت طريقاً عاماً وجدت فارسين مسلحين أوقفاني وسألاني عن هويتي ووجهتي.‏

ما ترددت أن أروي لهم قصتي البائسة أملاً بأن يكون لديهما أي علم بما وقع لزوجتي، ‏فأجاباني بطريقة فظة وأثار كلامهم أفظع المخاوف في قلبي وكاد يقنعني بأن زوجتي الطاهرة ‏المسكينة قد وقعت في يد ذاك الطاغية الفاجر.‏

فقلت: «أيعقل أن يهبط السردار إلى دناءة سرقة زوجة أحد رعايا الشاه؟ أعرف أن المسلمين ‏يعاملون النساء وكأنهم مجرد سلع تباع وتشترى، ولكنهن مخلوقات الله أيضاً خلقهن الله عوناً لنا ‏في حياتنا.»‏

فضحك الرجلان لأقوالي وأردفا أنني، لو كنت أبحث عن امرأة وقعت في بيت حريم السردار ‏فالأحرى بي أن أعود من حيث جئت لأن جهودي كلها ستكون هباء.‏

لم أكترث لأقوالهما واستعجلت في طريقي دون أن أعرف وجهتي ولا هدفي، وكان يدفعني ‏شعور بأن الرب القدير لا يمكن أن يرمي مصائب فوق رأس خطاء مسكين مثلي بلا أن يواسيني ‏بجزاء يوازنها.‏

وصلت إلى المخيم في أبيران حيث كان مقر السردار فتوجهت نحوه أملاً بأن أعرف شيئاً ‏يفيدني. هز مشاعري وصول فرقة الفرس الذين هاجموا قريتنا وقدموا أدلة على نجاح حملتهم ‏باستعراض رؤوس الروس التي وضعوها في أكوام أمام خيمة السردار. ومن الفرح والصيحات ‏والتباهي يعتقد المرء أنهم حققوا نصراً عظيماً. وتم تمليح هذه الغنائم الفظيعة وإرسالها إلى شاه ‏إيران الذي لا يصدق خبراً عن انتصار إلا إذا حصل على أدلة ملموسة عليه. ولكن في وسط هذه ‏الأفراح وصل رسول مستعجلاً من الحدود الروسية، وأثار خبره تغيراً في مشهد المخيم، إذ أعلن ‏أن الجيش الروسي بعد أن عرف بالهجوم على مخفرهم في غومشلو انطلق في حملة ضد ‏السردار، ويتقدم بسرعة كبيرة ومن المتوقع أن يصل إلى المخيم قبل مجيء الليل. وما حدث بعد ‏ذلك لا يوصف: حيث أمر السردار فوراً برفع المخيم والتراجع إلى يريفان؛ الخيم تتهاوى والبغال ‏تحمَّل والرجال تصرخ؛ الخيل والإبل والرجال والمدافع، كل شيء يتحرك. وقبل مضي ساعتين ‏اختفى المخيم تماماً وانطلق الجيش متراجعاً نحو يريفان.‏

لم أعرف شيئاً عن مريم، وبالتأكيد لو كانت في يد السردار فهي في قصره في يريفان، ‏فتوجهت إلى هناك أملاً بأن فرصة ما يمكن أن تسنح لي وسط كل هذه الفوضى.‏

وعندما وصلت إلى المدينة اتخذت لي موقعاً على جسر فوق نهر رازدان، فهو نقطة جيدة ‏لمراقبة ذاك الجزء من قصر السردار الذي يؤوي حريمه. وبما أن العسكر كانوا يعبرون الجسر ‏باستمرار لم يلاحظني أحد حيث كنت أبدو واحداً من المعسكر. يقع القصر على حافة هاوية من ‏الصخر الأسود على ضفة نهر رازدان، وهو نهر سريع وغزير يجري في واد تثير صخوره ‏رغوة بيضاء على أمواجه وتسرع جريانه. وقد بني جسر فوقه في هذا المكان يتألف من ثلاثة ‏أقواس، وهو جزء من الطريق إلى جورجيا وتركيا. وكانت القاعة الرئيسية للقصر التي يتخذ ‏السردار مجلسه في زاوية منها تنفتح على النهر بشرفة واسعة وتطل على المناظر الجبلية. وعلى ‏مبعدة من الشرفة، وعلى الجدار نفسه، تقع نوافذ جناح الحريم المتميزة بشبكاتها ووسائل الستر ‏الأخرى. لاحظت أن النوافذ تسمح لساكنات الجناح برؤية الجسر ومن يمر عليه، فتصورت أن ‏مريم، لو أنها محبوسة هناك، قد تراني وتتعرف علي لو نظرت من النافذة بالصدفة، فقلت لنفسي ‏يائساً: «وماذا لو رأتني؟ هذا من شأنه أن يزيد من شقائها ومن يأسي!» إن الهروب من مثل هذا ‏الارتفاع يبدو مستحيلاً لأن القفز منه يعني الموت المحتوم، فلا شيء يحمي من الصخور سوى ‏شجرة صفصاف وحيدة تنمو بين الأجراف تحت إحدى النوافذ. رأيت أن مكثي في نقطة واحدة ‏لمدة طويلة قد يثير الشبهات، فتركت موقعي وقد قررت العودة إليه مساءً بل في أية ساعة يمكنني ‏أن أظهر فيها دون أن أثير الشبهات.‏

 
«رأيت حبيبتي تهوى من النافذة من ‏ارتفاع شاهق».

بقيت أراقب نوافذ جناح الحريم بهذا الشكل لأكثر من أسبوعين وأنا أمشي على الجسر جيئة ‏وذهاباً ثلاث مرات يومياً على الأقل؛ وفي أحد الأيام، وبعد مغيب الشمس، رأيت شبك النافذة فوق ‏شجرة الصفصاف ينفتح وتطل منه امرأة. نظرت إليها فانقطع نفسي من العواطف المختلجة في ‏صدري. بدا لي أنها عرفتني فمددت يدي نحوها فمدت يديها، فقلت: «إنها هي! هي بالتأكيد! إنها ‏زوجتي مريم!» فاندفعت إلى النهر وقطعته بلا تردد وبلا تفكير في العواقب حتى وقفت في أسفل ‏الهاوية تحت النافذة مباشرة. مدت يديها إلي عدة مرات وكأنها تريد أن ترتمي في حضني، فكدت ‏أصرخ رعباً، وأنا أشعر في الوقت نفسه بلهفة أن أضمها إلى قلبي. وقفنا ونحن ننظر إلى بعضنا ‏ونخاف أن نتكلم ونصبو إلى اللقاء. وفجأة أغلقت الشباك وتركتني واقفاً والمخاوف تملأ صدري. ‏بقيت في موقعي مدةً دون أن أراها، ثم انفتح الشباك مرة أخرى وظهرت مريم ونظراتها تكشف ‏أقصى درجات اليأس والتصميم. لم أعرف ما سيحدث، فانتظرت في قلق رهيب حتى رأيتها تميل ‏إلى الأمام أكثر فأكثر، ثم ترجع وتعود باندفاع جديد حتى رأيت حبيبتي تهوى من النافذة من ‏ارتفاع شاهق.‏‎5‎‏ شعرت أن قدمي لا ‏تطاوعانني وعيني يمتلئان بالدموع فلا أرى شيئاً وكدت أغشى من ثوران مشاعري حتى رأيتها ‏على فرع شجرة الصفصاف معلقة عليه تكاد تقع، فوثبت وتسلقت الشجرة في لحظة عين وحملتها ‏فاقدة الوعي، وامتلأ جسمي بالقوة والنشاط، فنزلت عن الشجرة وقطعت النهر عائداً وركضت مع ‏حملي الغالي من الضواحي المسكونة إلى البرية في غمضة عين. كنت كالسكران من انفعالاتي، ‏ومع أنني تصرفت بلا شعور، كل ما فعلته كان ما ينبغي أن أفعله. كانت الغرائز تقودني، ‏وتصرفت مثل حيوان يتصرف بفعل غريزته. أنقذت أغلى ما عندي في هذه الدنيا.‏

وعندما شعرت بالتعب ووجدت أن مريم بدأت تبدي علامات الحياة توقفت ووضعتها بعناية ‏خلف جدران متهدمة. كان جسمها مليئاً بالرضوض الفظيعة، ولكن عظامها كلها كانت سليمة، ‏وجرحتها أغصان شجرة الصفصاف التي وقعت عليها في عدة مواضع، وكانت تنزف بغزارة. ‏ولكنها كانت حية تتنفس، ثم فتحت عينيها ودعتني باسمي، ما ملأ قلبي بالفرح الغامر فعانقتها ‏كالمجنون. وبعد أن ارتاحت قليلاً حملتها من جديد وقررت التوجه بها إلى الجبال فوراً؛ ثم ‏تذكرت أن علي أن أعبر نهر أشتاراك، ولا يمكن عبوره إلى من الجسر، فتوجهت إلى هناك.‏

كنا نرتاح عند الجسر عندما سمعت وقع حوافر خيولكم. ومع أنني كنت مرهقاً برحلتي ‏الشاقة، وجدت في نفسي القوة للتسلق على الضفة لكي نختبئ في الكنيسة المتهدمة حيث ‏وجدتمونا؛ ومن هناك كنت أتابع تحركاتكم ببالغ القلق ظناً مني أنكم تطاردوننا بأمر من السردار. ‏فلو حميتنا تنل عرفان قلبين محبين وبركات العديد من أناسٍ قلوبهم مليئة بالحزن الآن، وستمتلئ ‏بالفرح عندما نعود. فكائناً من تكون، ومهما كانت مهمتك، لابد أن قلبك قلب إنسان. جازاك الله ‏على لطفك ألف مثل؛ ومع أننا لسنا من قومك ولا من دينك، دعاؤنا إلى الله يصل إن كان صادراً ‏من قلوبنا.‏

‏ ‏

هوامش

  1. ‎أوجكيليسا، أي الكنائس الثلاث، أحد الأسماء التاريخية لمدينة إتشميادزين ‏باللغة التركمانية. (ملاحظة المترجم)‏‎
  2. ‎العباسي عملة فضية أدخلها الشاه عباس الصفوي، وكانت تساوي ‏جزءاً من خمسين من التومان. (ملاحظة المترجم)‏‎
  3. ‎أدوات القتل المقصودة هنا هي في الغالب ‏الرمانات اليدوية.‏‎
  4. ‎قيل أن حسن خان سردار، ‏والي يريفان، هاجم القرى الأرمنية كما هو موصوف هنا، إذ كان يرمي الرمانات في البيوت من ‏الفتحات في سقوفها.‏‎
  5. ‎يروى أن مثل هذا الحادث قد وقع فعلاً.‏‎