الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مجموع الفتاوى/المجلد الأول»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
سطر 1:
{{رأسية
{{ترويسة
| عنوان = مجموع فتاوى ابن تيمية
| مؤلف = ابن تيمية
| باب = الجزءالمجلد الأول
| سابق =
| تالي لاحق = [[../الجزءالمجلد الثاني|الجزءالمجلد الثاني]] ←
| ملاحظات =
}}
 
* [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/مقدمة الكتاب|مقدمة الكتاب]]
* [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/توحيد الألوهية|توحيد الألوهية]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته|قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: في حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم|فصل: في حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/قاعدة جليلة في توحيد الله|قاعدة جليلة في توحيد الله]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره|فصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين|فصل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة|فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه كان أقرب إليه وأعز عليه|فصل: العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه كان أقرب إليه وأعز عليه]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله|فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: في قوله اهدنا الصراط المستقيم|فصل: في قوله اهدنا الصراط المستقيم]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله|فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع|فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم|فصل: جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الشرك بالله أعظم الذنوب|الشرك بالله أعظم الذنوب]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل|فصل: قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: ذكر مناظرة إبراهيم للمشركين|فصل: ذكر مناظرة إبراهيم للمشركين]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سئل الشيخ عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم|سئل الشيخ عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سئل الشيخ عمن يقول لا يستغاث برسول الله|سئل الشيخ عمن يقول لا يستغاث برسول الله]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: سمى الله آلهة المشركين شفعاء|فصل: سمى الله آلهة المشركين شفعاء]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: في الشفاعة المنفية في القرآن|فصل: في الشفاعة المنفية في القرآن]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله|سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/وسئل عمن يقول إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم|وسئل عمن يقول إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/وسئل هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا|وسئل هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/رسالة في التوسل والوسيلة|رسالة في التوسل والوسيلة]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور|فصل: لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور|الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/تبيين للأوهام التي تحصل للعامة عند القبور|تبيين للأوهام التي تحصل للعامة عند القبور]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان|وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان|من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/وصية النبي لابن عباس إذا سألت فاسأل الله|وصية النبي لابن عباس إذا سألت فاسأل الله]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل|ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/دين الإسلام مبني على أصلين|دين الإسلام مبني على أصلين]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: لفظ ‏‏الوسيلة‏ و‏‏التوسل‏‏ فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه|فصل: لفظ ‏‏الوسيلة‏ و‏‏التوسل‏‏ فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور|الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/قول القائل‏ ‏‏أسألك بكذا|قول القائل‏ ‏‏أسألك بكذا]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/جواز التوسل بالأعمال الصالحة|جواز التوسل بالأعمال الصالحة]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/السؤال بحق فلان مبني على أصلين‏|السؤال بحق فلان مبني على أصلين‏]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سؤال الله بأسمائه وصفاته أعظم ما يسأل الله تعالى به|سؤال الله بأسمائه وصفاته أعظم ما يسأل الله تعالى به]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم|حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/قصد السفر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم|قصد السفر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين|السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل|الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/لفظ ‏‏التوسل‏ و‏‏الاستشفاع‏ ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه|لفظ ‏‏التوسل‏ و‏‏الاستشفاع‏ ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/أحاديث موضوعة في التوسل|أحاديث موضوعة في التوسل]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/آثار عن السلف أكثرها ضعيفة‏|آثار عن السلف أكثرها ضعيفة‏]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سؤال الأمة له الوسيلة|سؤال الأمة له الوسيلة]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/من قال من العلماء‏ ‏‏إن قول الصحابي حجة|من قال من العلماء‏ ‏‏إن قول الصحابي حجة]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق|فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/ثبت بالنصوص الصحيحة أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات|ثبت بالنصوص الصحيحة أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/نهي النبى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا|نهي النبى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين|التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين|سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الرد على من قال أن النبي لا يشفع لأهل الكبائر من أمته|الرد على من قال أن النبي لا يشفع لأهل الكبائر من أمته]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/النهي عن اتخاذ القبور مساجد|النهي عن اتخاذ القبور مساجد]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد|الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/كلام السلف على قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه|كلام السلف على قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الشفاعة نوعان|الشفاعة نوعان]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى|اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين|فصل: لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين]]
*** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/في قول القائل‏ أسألك بحق السائلين عليك وما في معناه|في قول القائل‏ أسألك بحق السائلين عليك وما في معناه]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سئل رحمه الله عمن يبوس الأرض دائما هل يأثم|سئل رحمه الله عمن يبوس الأرض دائما هل يأثم]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/وسئل عن النهوض والقيام عند قدوم شخص معين معتبر أحرام هو|وسئل عن النهوض والقيام عند قدوم شخص معين معتبر أحرام هو]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: الانحناء عند التحية‏|فصل: الانحناء عند التحية‏]]
** [[مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله|فصل: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله]]
 
{{مجموع الفتاوى/1}}
 
==مقدمة الكتاب==
 
قال شيخ الإسلام أحْمَدُ بن تَيْمية قَدسَ الله روحه‏:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏. العالم بما كان وما هو كائن وما سيكون، الذي إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له‏: كن فيكون، الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو الله لا إله إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، الذي دل على وحدانيته في إلهيته أجناس الآيات، وأبان علمه لخليقته ما فيها من إحكام المخلوقات، وأظهر قدرته على بريته ما أبدعه من أصناف المحدثات، وأرشد إلى فعله بسنته تنوّع الأحوال المختلفات، وأهدى برحمته لعباده نعمه التي لا يحصيها إلا رب السموات، وأعلم بحكمته البالغة دلائل حمده وثنائه الذي يستحقه من جميع الحالات، لا يحصي العباد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه لما له من الأسماء والصفات، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يمثاله فيها شيء من الموجودات، وهو القدوس السلام المتنزه أن يماثله شيء في نعوت الكمال، أو يلحقه شيء من الآفات، فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، الذي خلق السموات والأرض ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا‏.
 
أرسل الرسل مُبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا، مبشرين لمن أطاعهم بغاية المراد من كل ما تحبه النفوس وتراه نعيما، ومنذرين لمن عصاهم باللعن والإبعاد وأن يعذبوا عذابًا أليما، وأمرهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، مخلصين له الدين ولو كره المشركون‏. كما قال تعالى‏: ‏‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ‏[‏المؤمنون‏: 51-52‏]‏‏. وجعل لكل منهم شرعةً ومنهاجًا، ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجًا‏.
 
وختمهم بمحمد {{صل}} أفضل الأولين والآخرين، وصفوة رب العالمين، الشاهد البشير النذير الهادي السراج المنير، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى صراط العزيز الحميد، الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذابٍ شديد‏. بعثه بأفضل المناهج والشِّرع، وأحبط به أصناف الكفر والبدع، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء، وجعله مهيمنًا على ما بين يديه من كتب السماء‏.
 
وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله‏. هو شهيد عليهم وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة، بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة، إذ لم يبق بعده نبي يبين ما بدل من الرسالة، وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمه، ورضى لهم الإسلام دينا، وأظهره على الدين كله إظهارا بالنصرة والتمكين، وإظهارًا بالحجة والتبيين، وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في تبليغ ما أنزل من الكتاب، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى حين الحساب‏.
 
وحفظ لهم الذّكر الذي أنزله من الكتاب المكنون كما قال تعالى‏: ‏{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏9‏]‏‏. فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع من أصحاب التوراة والإنجيل‏.
 
وخصهم بالرواية والإسناد الذي يميز به بين الصدق والكذب الجهابذة النقاد، وجعل هذا الميراث يحمله من كل خلف عدوله أهل العلم والدين؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيي بهم دين الله الذي بعث به رسوله، وبين الله بهم للناس سبيله، فأفضل الخلق أتبعهم لهذا النبي الكريم المنعوت في قوله تعالى‏: ‏{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}‏ ‏[‏التوبة‏: 128‏]‏‏.
 
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين، وإله المرسلين، وملك يوم الدين‏.
 
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس أجمعين، أرسله والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خيبة وأسوأ حال‏. فلم يزل {{صل}} يجتهد في تبليغ الدين وهدى العالمين وجهاد الكفار والمنافقين، حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل البهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، واشتهرت تلاوة القرآن، وأعلن بدعوة الأذان، واستنار بنور الله أهل البوادي والبلدان، وقامت حجة الله على الإنس والجان، لما قام المستجيب من معد بن عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، صلاة يرضى بها الملك الديان، وسلم تسليمًا مقرونًا بالرضوان‏.
 
أما بعد‏: ‏
 
فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله‏: ‏{تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}‏ ‏[‏النساء‏: 13، 14‏]‏ فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليه تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور‏.
 
فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى‏: ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}‏‏ [‏الذاريات 56‏]‏‏. وإنما تعبَّدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب أو مستحب في دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله‏. ولهذا قال {{صل}}‏: ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ أخرجاه في الصحيحين، وقال {{صل}} في حديث العرباض ابن سارية الذي رواه أهل السنن وصححه [[الترمذي]]‏: ‏(‏إنه من يَعِشْ منكم بعدى فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتى وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومُحْدثَاتِ الأمور، فإن كل بدْعَةٍ ضَلالة‏)‏‏. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنه كان يقول في خطبته‏: ‏(‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدىُ محمد، وشَرُّ الأمور محدثاتُها، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.
 
وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعا من القرآن، كقوله تعالى‏: ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}‏ ‏[‏النساء‏: ‏80‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏: 64، 65‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{قُلْ أَطِيعُواْ الله وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏32‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 31‏]‏، فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سببًا لمحبة الله عبده، وقد قال تعالى‏: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تدري مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }‏ ‏[‏الشورى‏: 52‏]‏، فما أوحاه الله إليه يهدى الله به من يشاء من عباده، كما أنه {{صل}} بذلك هداه الله تعالى كما قال تعالى‏: ‏{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}‏ ‏[‏سبأ‏: 50‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}‏ ‏[‏المائدة ‏: ‏15، 16‏]‏‏.
 
فبمحمد {{صل}} تبين الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنجاة من الوبال، والغى من الرشاد، والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجار، وإيثار سبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من سبيل المغضوب عليهم والضالين.
 
فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب‏.
 
فحق على كل أحد بذل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته؛ إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم‏. والطريق إلى ذلك الرواية والنقل، إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل، بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدَّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدى إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة، فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام، وكان معرفة ما أمر الله به رسوله واجبًا على جميع الأنام‏.
 
والله سبحانه بعث محمدًا بالكتاب والسنة، وبهما أتم على أمته المنة، قال تعالى‏: ‏{وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}‏ ‏[‏البقرة‏: 150، 152‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 164‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏: 231‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}‏ ‏[‏الجمعة‏: ‏2‏]‏‏.
 
وقال تعالى عن الخليل ‏: ‏‏{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}‏ ‏[‏البقرة‏: 129‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَةِ}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 34‏]‏، وقد قال غير واحد من العلماء، منهم يحيى ابن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم‏: ‏{الًحٌكًمّة}‏‏: هى السنة، لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب‏: القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة‏.
 
وقد جاء عن النبي {{صل}} من عدة أوجه من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وغيرهما أنه قال‏: ‏(‏لا أُلْفِيَنَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيتُ عنه فيقول‏: بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه‏)‏‏. ‏وفي رواية‏: ‏(‏ألا وإنه مثل الكتاب‏)‏‏.
 
ولما كان القرآن متميزًا بنفسه لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس كما قال تعالى‏: ‏{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 88‏]‏ وكان منقولا بالتواتر لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه، ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد‏.
 
فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بَيِّن الحق من البهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان‏.
 
وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي، الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي، الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول‏.
 
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتِّلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمر حببه الله إليهم وحلاه ليحفظ بذلك دين الله‏. كما جعل البيت مثابة للناس وأمنًا، يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أمورًا مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمة من الله يحفظ بها الدين ليهدى المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق، الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون‏.
 
فمن كان مخلصًا في أعمال الدين يعملها لله، كان من أولياء الله المتقين، أهل النعيم المقيم، كما قال تعالى‏: ‏{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}‏ ‏[‏يونس‏: 62‏: 64‏]‏‏.
 
وقد فسر النبي {{صل}} البشرى في الدنيا بنوعين‏:
 
* أحدهما‏: ثناء المثنين عليه‏.
 
* الثاني‏: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له‏.
 
فقيل‏: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه‏؟‏ قال‏: ‏(‏تلك عاجل بشرى المؤمن‏)‏‏. وقال البراء بن عازب‏: سئل النبي {{صل}} عن قوله تعالى]: ‏{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }‏ فقال‏: ‏(‏هى الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له‏)‏
 
والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله {{صل}} الربان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم من أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى‏: ‏{يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }‏ ‏[‏المجادلة‏: ‏11‏]‏ قال ابن عباس‏: يرفع الله ‏[‏الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات‏]‏‏.
 
وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد {{صل}}، وجعله سُلَّمًا إلى الدراية‏. فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة، أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم‏.
 
وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد، وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل‏.
 
وأما هذه الأمة المرحومة، وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرهم على يقين، فظهر لهم الصدق من المين، كما يظهر الصبح لذي عينين‏. عصمهم الله أن يجمعوا على خطأ في دين الله معقول أو منقول، وأمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول، كما قال تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}‏ ‏[‏النساء‏: ‏59‏]‏‏.
 
فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكم لم يكن إلا حقا، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديث لم يكن إلا صدقًا، ولكل من الطائفتين من الاستدلال، على مطلوبهم بالجلي والخفي ما يعرف به من هو بهذا الأمر حَفي، والله تعالى يلهمهم الصواب في هذه القضية، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، وكما عرف ذلك بالتجربة الوجودية، فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، لما صدقوا في موالاة الله ورسوله، ومعاداة من عدل عنه، قال تعالى‏: ‏{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}‏ ‏[‏المجادلة‏: 22‏]‏‏.
 
وأهل العلم المأثور عن الرسول أعظم الناس قيامًا بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه، عملا بقوله تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}‏ ‏[‏النساء‏: 135‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏8‏]‏‏. ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، من السعي المشكور، والعمل المبرور، ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات‏: منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه، والمعرفة بمعانيه‏.
 
وقد أمر النبي {{صل}} الأمة أن يبلِّغ عنه من شهد لمن غاب، ودعا للمبلغين بالدعاء المستجاب، فقال في الحديث الصحيح‏: ‏(‏بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏. وقال أيضا في خطبته في حجة الوداع‏: ‏(‏ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع‏)‏
 
وقال أيضا‏: ‏(‏نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلغه إلى من لم يسمعه، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يُغَلّ عليهن قلب مسلم‏: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏)‏‏.
 
وفي هذا دعاء منه لمن بلغ حديثه وإن لم يكن فقيها، ودعاء لمن بلغه وإن كان المستمع أفقه من المبلغ، لما أعطى المبلغون من النضرة، ولهذا قال [[سفيان بن عيينة]]‏: لا تجد أحدًا من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة، لدعوة النبي {{صل}}، يقال‏: نضُرَ، ونَضَرَ، والفتح أفصح‏.
 
ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظمون نقلة الحديث، حتى قال الشافعي رضى الله عنه‏: إذا رأيتُ رجلا من أهل الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب النبي {{صل}}‏. وإنما قال الشافعي هذا، لأنه في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي {{صل}}‏. وقال الشافعي أيضا‏: أهل الحديث حفظوا، فلهم علينا الفضل لأنهم حفظوا لنا‏. اه‏.
 
 
 
==توحيد الألوهية==
 
 
===قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته===
قال الله تعالى‏: ‏{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}‏ ‏[‏الشورى‏: 13‏]‏
 
أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به نوحا، والذي أوحاه إلى محمد، وما وصى به الثلاثة المذكورين، وهؤلاء هم أولو العزم المأخوذ عليهم الميثاق في قوله‏: ‏{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 7‏]‏، وقوله‏: ‏{مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ}‏، فجاء في حق محمد باسم ‏{الَّذٌي}‏ وبلفظ الإيحاء، وفي سائر الرسل بلفظ ‏(‏الوصية‏)‏‏.
 
ثم قال‏: ‏{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}‏‏ . وهذا تفسير الوصية، و‏{أّنً}‏‏: المفسرة التي تأتى بعد فعل من معنى القول لا من لفظه، كما في قوله‏: ‏{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ}‏ ‏[‏النحل‏: 123‏]‏، ‏{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله}‏ ‏[‏النساء‏: 131‏]‏‏. والمعنى‏: قلنا لهم‏: اتقوا الله‏. فكذلك قوله‏: ‏{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}‏ في معنى‏: قال لكم من الدين ما وصى به رسلا، قلنا‏: أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، فالمشروع لنا هو الموصى به، والموحى، وهو‏: ‏{أَقِيمُوا الدِّينَ}‏ فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا، الموصى به الرسل، والموحى إلى محمد، فقد يقال‏: الضمير في ‏{أّقٌيمٍوا}‏ عائد إلينا‏. ويقال‏: هو عائد إلى المرسل‏. ويقال‏: هو عائد إلى الجميع‏. وهذا أحسن‏. ونظيره‏: أمرتك بما أمرت به زيدًا، أن أطع الله، ووصيتكم بما وصيت بني فلان، أن افعلوا‏. فعلى الأول‏: يكون بدلا من ‏{مّا}‏ أي شرع لكم ‏{أّنً أّقٌيمٍوا}‏ وعلى الثاني‏: شرع ‏{مّا}‏ خاطبهم‏. ‏{أّقٌيمٍوا}‏، فهو بدل أيضا، وذكر ما قيل للأولين‏. وعلى الثالث‏: شرع الموصى به ‏{أّقٌيمٍوا}‏‏ .
 
فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا، ومقولة لهم، عُلم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعًا‏. وهذا أصح إن شاء الله‏. والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا، فإن الذي شرع لنا، هو الذي وصى به الرسل‏. وهو الأمر بإقامة الدين، والنهي عن التفرق فيه، ولكن التردد في أن الضمير تناولهم لفظه، وقد عُلم أنه قيل لنا مثله، أو بالعكس، أو تناولنا جميعا‏.
 
وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين، بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحًا، والذي أوحاه إلى محمد، فيحتمل شيئين‏:
 
أحدهما‏: أن يكون ما أوحاه إلى محمد يدخل فيه شريعته التي تختص بنا؛ فإن جميع ما بعث به محمد {{صل}} قد أوحاه إليه، من الأصول والفروع، بخلاف نوح وغيره من الرسل، فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به، من إقامة الدين، وترك التفرق فيه‏. والدين الذي اتفقوا عليه‏: هو الأصول‏. فتضمن الكلام أشياء ‏:
 
أحدها‏: أنه شرع لنا الدين المشترك، وهو الإسلام والإيمان العام، والدين المختص بنا، وهو الإسلام، والإيمان الخاص‏.
 
الثاني‏: أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك، والمختص، ونهانا عن التفرق فيه‏.
 
الثالث‏: أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه‏.
 
الرابع‏: أنه لما فصل بقوله‏: ‏{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}‏ بين قوله‏: ‏{مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}‏ وقوله‏: ‏{وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}‏ أفاد ذلك‏.
 
ثم قال بعد ذلك‏: ‏‏{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}‏ ‏[‏الشورى‏: ‏14‏]‏ فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجىء العلم، الذي بين لهم ما يتقون، فإن الله ما كان ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‏. وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغيا، والبغى مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر‏. ‏‏. ‏‏. الكبر والحسد، وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم، ولا قصد به البغى، كتنازع العلماء السائغ، والبغى إما تضييع للحق، وإما تَعَدّ للحد، فهو إما ترك واجب، وإما فعل محرم؛ فعلم أن موجب التفرق هو ذلك‏.
 
وهذا كما قال عن أهل الكتاب‏: ‏{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏14‏]‏، فأخبر أن نسيانهم حظا مما ذُكروا به وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها، وكثير من فروعه، من أهل الأصول والفروع، ومثلما نجده بين العلماء وبين العبَّاد؛ ممن يغلب عليه الموسوية، أو العيسوية، حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة‏: ليست الأخرى على شيء، كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهما ينفي طريقة الآخر، ويدعى أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من الدين، فتقع بينهما العداوة والبغضاء‏.
 
وذلك‏: أن الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن، وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه، قال تعالى‏: ‏{مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏6‏]‏، وقال‏: ‏{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَالله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏108‏]‏، وقال‏: ‏{إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏222‏]‏، وقال‏: ‏{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏103‏]‏، وقال‏: ‏{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏41‏]‏، وقال‏: ‏{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}‏ ‏[‏التوبة‏: 28‏]‏، وقال‏: ‏{إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏33‏]‏‏.
 
فنجد كثيرًا من المتفقهة، والمتعبدة، إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع؛ اهتماما، وعملا‏. ويترك من طهارة القلب ما أمر به، إيجابًا، أو استحبابًا، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك‏. ونجد كثيرًا من المتصوفة، والمتفقرة، إنما همته طهارة القلب فقط، حتى يزيد فيها على المشروع، اهتماما وعملا‏. ويترك من طهارة البدن ما أمر به، إيجابا، أو استحبابًا‏.
 
فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه، مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكِبْر، والغِلِّ لإخوانهم، وفي ذلك مشابهة بَيِّنةٌ لليهود‏.
 
والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلوا الجهل بما تجب معرفته، من الشر الذي يجب اتقاؤه من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهى عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى‏.
 
وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغى الذي هو مجاوزة الحد؛ إما تفريطًا وتضييعًا للحق، وإما عدوانًا وفعلا للظلم‏. والبغى تارة تكون من بعضهم على بعض، وتارة يكون في حقوق الله، وهما متلازمان ولهذا قال‏: ‏{بّغًيْا بّيًنّهٍمً}‏ ‏[‏البقرة‏: 213‏]‏، فإن كل طائفة بَغَتْ على الأخرى، فلم تعرف حقها الذي بأيديها، ولم تَكُفَّ عن العدوان عليها‏.
 
وقال‏: ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}‏ ‏[‏البينة‏: ‏4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏213‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}‏ ‏[‏الجاثية‏: ‏16‏]‏، وقال تعالى في موسى بن عمران مثل ذلك، وقال‏: ‏{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 105‏]‏، وقال‏: ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 951‏]‏، وقال‏: ‏{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}‏ ‏[‏الروم‏: 30- 32‏]‏، لأن المشركين كل منهم يعبد إلها يَهْواه‏. كما قال في الآية الأولى‏: ‏{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله}‏ ‏[‏الشورى‏: 3 1‏]‏، وقال‏: ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}‏‏ [‏المؤمنون‏: 51-53‏]‏
 
فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنا، وظاهرا‏.
 
وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم‏.
 
ونتيجة الجماعة رحمة الله، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه‏.
 
ونتيجة الفرقة عذاب الله، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول منهم‏.
 
وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعةٌ لله ورحمته بفعل لم يأمر الله به، من اعتقاد، أو قول، أو عمل‏. فلو كان القول، أو العمل، الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة لله، ولا سببا لرحمته، وقد احتج بذلك أبوبكر عبدالعزيز في أول ‏‏التنبيه‏ نبه على هذه النكتة‏.
 
 
===فصل: في حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم===
قال {{صل}} في الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهى الصحابة، عبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت‏: ‏(‏ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلبُ مسلم‏: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏)‏‏. وفي حديث أبي هريرة المحفوظ‏: ‏(‏إنَّ الله يَرْضَى لكم ثلاثا‏: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تَعْتَصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تَنَاصَحوا من ولاَّه الله أمركم‏)‏
 
فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث، إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين‏. وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة‏.
 
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان‏: حق لله، وحق لعباده‏. فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئا، كما جاء لفظه في أحد الحديثين، وهذا معنى إخلاص العمل لله، كما جاء في الحديث الآخر‏. وحقوق العباد قسمان‏: خاص وعام؛ أما الخاص فمثل‏: برّ كل إنسان والديه، وحق زوجته، وجاره، فهذه من فروع الدين، لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه؛ ولأن مصلحتها خاصة فردية‏.
 
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان‏: رعاة ورعية؛ فحقوق الرعاة مناصحتهم، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعا، فهذه الخصال تجمع أصول الدين‏.
 
وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تَمِيم الدَّارِىّ قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة‏)‏‏. قالوا‏: لمن يا رسول الله‏؟‏ قال‏: ‏(‏لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم‏)‏‏. فالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله تدخل في حق الله وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتَعذَّر استيعابها على سبيل التعيين‏.
 
 
===قاعدة جليلة في توحيد الله===
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {{صل}} تسليما‏.
 
وبعد‏: فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى‏: ‏{قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: ‏26‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}‏ ‏[‏النحل‏: 53‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏17‏]‏، وقال تعالى في الآية الأخرى‏: ‏{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهٌِ}‏ ‏[‏يونس‏: ‏107‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}‏ ‏[‏هود‏: 123‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏ ‏[‏هود‏: ‏88‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}‏ ‏[‏التغابن ‏: ‏1‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}‏ ‏[‏محمد‏: ‏19‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ٍقُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}‏ الآية ‏[‏الزمر‏: ‏38‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}‏ ‏[‏القصص‏: ‏88‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏: 58‏: 59‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}‏ الآية ‏[‏البينة‏: ‏5‏]‏‏. ونظائر هذا في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، ولاسيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع‏.
 
ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة‏:
 
وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جَلْب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرَّة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلا بد له من أمرين‏:
 
* أحدهما‏: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به‏.
 
* والثاني‏: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه‏. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء ‏:
 
* أحدها‏: أمر محبوب مطلوب الوجود‏. ‏
 
* الثاني‏: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم‏.
 
* والثالث‏: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب‏.
 
* والرابع‏: الوسيلة إلى دفع المكروه‏.
 
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر‏.
 
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه‏:
 
أحدها‏: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏ فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول‏: من معنى الألوهية‏. والثاني‏: من معنى الربوبية؛ إذ الإله‏: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكرامًا‏. والرب‏: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها‏.
 
وكذلك قوله تعالى‏: ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏ ‏[‏هود‏: ‏88‏]‏، وقوله‏: ‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِِ}‏ ‏[‏هود‏: ‏123‏]‏، وقوله‏: ‏{عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏4‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏58‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏30‏]‏، وقوله‏: ‏{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}‏ ‏[‏المزمل‏: 8، 9‏]‏‏.
 
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين‏.
 
الوجه الثإني‏: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به‏. وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة، بدون ذلك بحال‏. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى‏. ‏
 
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول‏: لا إله إلا الله، رأس الأمر‏.
 
فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى‏: ‏(‏يابن آدم، خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له‏)‏‏.
 
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما في الحديث الصحيح، الذي رواه معاذ عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏"‏أتدري ما حق الله على عباده‏؟‏‏"‏ قال‏: قلت‏: الله ورسوله أعلم‏. قال‏: ‏(‏حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا‏. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ‏؟‏‏)‏ قال‏: قلت‏: الله ورسوله أعلم‏. قال‏: ‏(‏حقهم ألا يعذبهم‏)‏
 
وهو يحب ذلك، ويرضي به، ويرضي عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع‏.
 
فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التلذاذ أكل الطعام المسموم، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}‏‏ [‏الأنبياء‏: ‏22‏]‏، فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقّا؛ إذ الله لا سَمِيَّ له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية‏.
 
وأما من جهة الربوبية فشيء آخر؛ كما نقرره في موضعه‏.
 
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة‏.
 
فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهى لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهى كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه‏.
 
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والْتَذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك‏.
 
وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا ‏‏إبراهيم‏ الخليل {{صل}}‏: ‏{لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏76‏]‏‏. وكان أعظم آية في القرآن الكريم‏: ‏{الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏255‏]‏، وقد بسطت الكلام في معنى ‏‏القيوم‏ في موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقى الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه‏.
 
واعلم أن هذا الوجه مبنى على أصلين‏:
 
أحدهما‏: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم‏: إن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى‏: ‏{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ}‏ الآية ‏[‏التوبة‏: ‏120‏]‏، وقال {{صل}} لعائشة‏: ‏(‏أجرك على قدر نصبك‏)‏ فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه‏.
 
ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح‏: أنه تكليف، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي، كقوله‏: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}‏ ‏[‏البقرة‏: 286‏]‏، ‏{لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ}‏ ‏[‏النساء‏: ‏84‏]‏، ‏{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}‏ ‏[‏الطلاق‏: ‏7‏]‏ أي‏: وإن وقع في الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمى جميع الشريعة تكليفًا، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدًا‏. قال الله تعالى‏: ‏{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}‏ ‏[‏مريم‏: 65‏]‏ فهذا أصل‏.
 
الأصل الثإني‏: النعيم في الدار الآخرة أيضا مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم، أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق‏: من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما في الدعاء المأثور‏: ‏(‏اللهم إني أسألك لذة النَّظرِ إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة‏)‏‏. رواه [[النسائي]]، وغيره‏. وفي [[صحيح مسلم]] وغيره، عن صهيب عن النبي {{صل}} قال‏: ‏(‏إذا دخل أهل الجنة نادى مناد‏: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه‏. فيقولون‏: ما هو‏؟‏ ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنْا من النار‏؟‏ قال فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه سبحانه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه‏)‏، وهو الزيادة‏.
 
فبين النبي {{صل}}‏: أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره‏. فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم‏. وروى أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى في حق الكفار‏: ‏{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ }‏ ‏[‏المطففين‏: 15، 16‏]‏‏. فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى‏.
 
وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها‏.
 
وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة؛ وبالذوق والوجد أخرى إذا أنكر اللذة فإن ذوقها ووجدها ينفي إنكارها‏. وقد يحتجون بالقياس في الأمثال تارة؛ وهى الأقيسة العقلية‏. ‏
 
الوجه الثالث‏: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول‏.
 
فهذا الوجه يقتضي‏: التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه‏. ويقتضي أيضا‏: محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا في الوجه الأول‏. ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه‏.
 
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه‏.
 
الوجه الرابع‏: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته، ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئا حبًا تامًا بحيث يخالله فلا بد أن يسأمه، أو يفارقه‏. وفي الأثر المأثور‏: ‏(‏أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان‏)‏ ‏(‏واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سببا لعذابه؛ ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته‏. يقول‏: أنا كنزك، أنا مالك‏.
 
وكذلك نظائر هذا في الحديث‏: ‏(‏يقول الله يوم القيامة‏: يابن آدم، أليس عدلا مني أن أولى كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا‏؟‏‏)‏‏. وأصل التَّولِّىالحب؛ فكل من أحب شيئا دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، فمن أحب شيئا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء‏. وكل من أحب شيئا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه، إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه‏)‏‏. رواه [[الترمذي]]، وغيره‏.
 
الوجه الخامس‏: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل‏. وقد قال الله تعالى‏: ‏{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}‏ ‏[‏مريم‏: 81‏: 82‏]‏‏.
 
وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق، فلما قال‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏ كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته‏. وكان في عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه، مضرته وهلاكه وفساده‏.
 
الوجه السادس‏: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانا والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله‏. فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك‏.
 
وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ولو بالدعاء أو الثناء فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجَرَاءُ الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِمَ وأدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه‏. وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا.
 
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته؛ فقد دعوت مَنْ ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ‏.
 
والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة‏. فتدير هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه‏. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تَخَفْهُمْ فَلا تَرْجُهُمْ، وخَف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه‏: ‏{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}‏ ‏[‏الليل‏: 17-20‏]‏ وقال فيه‏: ‏{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}‏ ‏[‏الإنسان‏: 9‏]‏‏.
 
الوجه السابع‏: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها‏.
 
الوجه الثامن‏: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لِغَرَضٍ لهم في ذلك‏.
 
الوجه التاسع‏: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تُعَلِّقْ بهم رجاءك‏.
 
قال الله تعالى‏: ‏{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}‏ ‏[‏الملك‏: 20-21‏]‏‏. والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة قال الله تعالى‏: ‏{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }‏ ‏[‏قريش‏: 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا }‏ ‏[‏القصص‏: 57‏]‏، وقال الخليل عليه السلام ‏: ‏{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}‏ الآية ‏[‏البقرة‏: 126‏]‏‏. وقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم‏)‏‏: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم‏؟‏
 
 
====فصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره====
جماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فغيرك من الناس أولى ألا يكون عالما بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدا لها، والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم، كما في حديث الاستخارة‏: ‏(‏اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب‏)‏‏.
 
 
====فصل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين====
وهو مثل المقدمة لهذا الذي أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حى فهو كذلك له علم وعمل بإرادته‏. والإرادة هى المشيئة والاختيار، ولا بد في العمل الإرادى الاختيارى من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب، ووسائل تحصله، فإن حصل بفعل العبد فلا بد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلا بد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلا بد من الأسباب، كالآلات ونحو ذلك، فلا بد لكل حى من إرادة، ولا بد لكل مريد من عون يحصل به مراده‏.
 
فصار العبد مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، هذا أمر حتْمٌ لازم ضرورى في حق كل إنسان يجده في نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين‏:
 
منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه‏. والمستعان‏: منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذي يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض‏. ومن المستعان ما يكون هو الغاية التي يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة، ومنه ما يكون تبعًا لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع‏.
 
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين‏: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهى إليه محبتها، وهو إلهها‏. ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامًا وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقًا‏. مثل‏: عباد الشمس والقمر، وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب‏.
 
وقد يكون خاصًا في المسلمين، مثل‏: من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال {{صل}}‏: ‏(‏تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار‏،‏ تعس عبد الخميصة‏،‏ تعس عبد الخميلة‏. إن أعطى رضي، وإن منع سخط‏. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش‏)‏، وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرؤساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هى التي تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها والمستعان هو مدعو ومسؤول‏.
 
وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل، وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيرًا ممن يحب المال أو يحب من يحصل له به العز والسلطان‏.
 
وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله، إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه، وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة؛ فقد يكون محبوبًا غير مستعان، وقد يكون مستعانًا غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران‏.
 
فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته تبين أن قوله‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏5‏]‏ كلام جامع محيط أولا وآخرًا، لا يخرج عنه شيء، فصارت الأقسام أربعة‏:
 
* إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلما فالشرك في هذه الأمة أخفى من دَبيبِ النمل‏.
 
* وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته من الملوك والأغنياء والمشائخ‏.
 
* وإما أن يستعينه وإن عبد غيره مثل كثير من ذوى الأحوال، وذوى القدرة وذوى السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجؤون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التي بعث الله بها رسوله‏.
 
* والقسم الرابع‏: الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعى قد ذكر فيما بعد أيضا، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان؛ لبيان أنه لا بد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام‏.
 
 
===فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة===
في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك، بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره‏. ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذي يأتى بالرزق لا يأتى به غيره، وهو الذي يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى‏: ‏{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}‏ ‏[‏الملك‏: 20-21‏]‏
 
وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمى به، ووصف به نفسه؛ إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن العالمين ‏{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }‏ ‏[‏النمل‏: 40‏]‏ ‏{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ }‏ ‏[‏إبراهيم‏: 7، 8‏]‏‏.
 
وفي الحديث الصحيح الإلهي‏: ‏(‏يا عبدي لو أن أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا، ولو قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا‏)‏ إلى آخر الحديث. ‏
 
فالرب سبحانه غني بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم نفسه، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره، بل أفعاله من كماله‏: كَمُلَ فَفَعل، وإحسانه وجُودُه من كماله، لا يفعل شيئا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كُل ما يريده فعله، فإنه فعال لما يريد‏. وهو سبحانه بالغ أمره، فكل ما يطلب فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده لا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج في شيء من أموره إلى معين، وما له من المخلوقين ظهير، وليس له ولى من الذل‏.
 
 
====فصل: العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه كان أقرب إليه وأعز عليه====
والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله‏. وأما المخلوق فكما قيل‏: احتج إلى من شئت تكن أسِيرهُ، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل‏:
 
بين التذلل والتدلل نقطة ** في رفعها تتحير الأفهام
 
ذاك التذلل شرك ** فافهم يا فتى بالخلف
 
فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند الخلق، إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيء‏.
 
ولهذا قال حاتم الأصم لما سئل‏: فيم السلامة من الناس‏؟‏ قال‏: أن يكون شيئك لهم مبذولا وتكون من شيئهم آيسًا، لكن إن كنت معوضًا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك‏.
 
فالرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه‏. والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم‏؟‏ فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة‏. والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلا، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريدًا راحمًا، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغي لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هى مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك‏. فهم ثلاثة أصناف‏: ظالم، وعادل، ومحسن‏.
 
* فالظالم‏: الذي يأخذ منك مالا أو نفعًا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك‏.
 
* والعادل‏: المكافئ‏. كالبائع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين، والمتبايعين، والشريكين‏. ‏
 
* والمحسن‏: الذي يحسن لا لعوض يناله منك‏. فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق، وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك‏.
 
وبكل حال‏: ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع‏. وسائر الخلق، إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بني أمر العالم‏. وإما بطريق الإحسان منك إليهم‏. فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم، وأغراضهم‏.
 
فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم، تجد أحدهم سيدًا مطاعًا، وهو في الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذى أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجا إليهم، نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك‏.
 
والرب تعالى يمتنع أن يكون المخلوق مكافئا له أو متفضلا عليه؛ ولهذا كان النبي {{صل}} يقول إذا رفعت مائدته‏: ‏(‏الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا‏)‏ رواه [[البخاري]] من حديث أبي أمامة‏. بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله، وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أي بموجب علمه ذلك‏. فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم، مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيًا، فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق في جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله‏.
 
الإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرًا إلى خالقه، وليس أحد غنيًا بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته، كما قد بسط هذا في مواضع‏.
 
والإنسان يذنب دائما، فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وجد خير إصلا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائما إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى‏: ‏{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}‏ ‏[‏النساء‏: 79‏]‏، والمراد بالسيئات‏: ما يسوء العبد من المصائب، وبالحسنات‏: ما يسره من النعم، كما قال‏: ‏{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏: 168‏]‏، فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلا وجودًا، من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، وإن كان تعالى عليه حق لعباده، فلذلك الحق هو أحقه على نفسه، وليس ذلك من جهة المخلوق، بل من جهة الله، كما قد بسط هذا في مواضع‏.
 
والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال‏: ‏{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}‏ ‏[‏الشورى‏: 30‏]‏ والنعم، وإن كانت بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها، فهو سبحانه المنعم بالعبد وبطاعته وثوابه عليها، فإنه سبحانه هو الذي خلق العبد وجعله مسلما طائعا، كما قال الخليل‏: ‏{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }‏ ‏[‏الشعراء‏: 78‏]‏، وقال‏: ‏{وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}‏ ‏[‏البقرة ‏: ‏128‏]‏، وقال ‏: ‏‏{اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ}‏ ‏[‏إبراهيم‏: 40‏]‏، وقال‏: ‏{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}‏ ‏[‏السجدة‏: 24‏]‏، فسأل ربه أن يجعله مسلما وأن يجعله مقيم الصلاة، وقال‏: ‏{وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏: 7‏]‏، قال في آخرها‏: ‏{فَضْلًا مِّنَ الله وَنِعْمَةً}‏ ‏[‏الحجرات‏: 8‏]‏‏.
 
وفي صحيح أبي داود وابن حبان‏: ‏(‏اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا‏)‏، وفي الفاتحة‏: ‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 6‏]‏ وفي الدعاء الذي رواه الطبرإني عن ابن عباس قال‏: مما دعا به رسول الله {{صل}} عشية عرفة‏: ‏(‏اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سِرّي وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوَجِل المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورَغِمَ لك أنفسه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين‏)‏‏.
 
ولفظ العبد في القرآن يتناول من عَبَدَ الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال‏: ‏{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}‏ ‏[‏الحجر‏: 42‏]‏، وأما قوله‏: ‏{إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}‏ ‏[‏الحجر‏: 42‏]‏، فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء، وقوله‏: ‏{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله}‏ ‏[‏الإنسان‏: 6‏]‏، ‏{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}‏ ‏[‏الفرقان‏: 63‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ}‏ ‏[‏ص‏: 17‏]‏ و ‏{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}‏ ‏[‏ص‏: ‏30، 44‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ}‏ ‏[‏ص‏: ‏41‏]‏، ‏{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ}‏ ‏[‏ص‏: 45‏]‏، ‏{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا}‏ ‏[‏الكهف‏: 65‏]‏، ‏{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}‏ ‏[‏الإسراء‏: 1‏]‏، ‏{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 3‏]‏، ‏{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏23‏]‏، ‏{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}‏ ‏[‏النجم‏: 10‏]‏، ‏{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ}‏ ‏[‏الجن‏: 19‏]‏، ‏{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}‏ ‏[‏الفرقان‏: 1‏]‏‏. ونحو هذا كثير‏. وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها، كقوله‏: ‏{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}‏ ‏[‏الأعراف‏: 194]‏، ‏{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء}‏ ‏[‏الكهف‏: 102‏]‏ قد يقال في هذا‏: إن المراد به الملائكة، والأنبياء، إذا كان قد نهى اتخاذهم أولياء فغيرهم بطريق الأولى، فقد قال‏: ‏{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}‏ ‏[‏مريم‏: 93‏]‏‏.
 
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في الدجال‏: ‏(‏فيوحى الله إلى المسيح أن لي عبادًا لا يَدَان لأحد بقتالهم‏)‏، وهذا كقوله‏: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 5‏]‏، فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعَبَّدُونَ، مُذَللونَ، مقهورون، يجرى عليهم قدره‏.
 
وقد يكون كونهم عبيدًا‏: هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارًا، كقوله‏: ‏{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يوسف‏: 106‏]‏، وقوله‏: ‏{إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}‏ ‏[‏مريم ‏: ‏93‏]‏ أي‏: ذليلا خاضعا‏. ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان في الدنيا، ثم قال‏: ‏{لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}‏ ‏[‏مريم‏: ‏94، 95‏]‏، فذكر بعدها أنه يأتى منفردًا، كقوله‏: ‏{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 94‏]‏، وقال‏: ‏{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}‏ ‏[‏آل عمران‏: 83‏]‏، ‏{وَلله يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}‏ الآية ‏[‏الرعد‏: ‏15‏]‏، وقال‏: ‏{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}‏ ‏[‏البقرة‏: 116‏]‏، فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال طوعا وكرها، فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعا وكرها، فأما ما لا فعل له فيه فلا يقال له‏: ساجد أو قانت، بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون، قانتون مضطرون من وجوه‏:
 
* منها‏: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه‏.
 
* ‏ومنها: ‏دعاؤهم إياه عند الاضطرار‏.
 
* ومنها‏: خضوعهم واستسلامهم لما يجرى عليهم من أقداره ومشيئته‏.
 
* ومنها‏: انقيادهم لكثير مما أمر به في كل شيء، فإن سائر البشر لا يُمَكِّنُونَ العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذي يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له في بعض ما أمر به وإن كان هو التوحيد لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرها، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذِّمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذي بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه في أمور‏.
 
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا، وكذلك لما يقدره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا، فهو مسلم لله طوعا، خاضع له طوعا، والسجود مقصود الخضوع، وسجود كل شيء بحَسَبِه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب‏.
 
وأما فقر المخلوقات إلى الله بمعنى حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شيء من صفاتها، وأفعالها إلا به فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله سبحانه الملك والحمد‏.
 
وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق‏.
 
والصواب‏: أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصفُ لازم له لا يمكن أن يكون غير غني، فهو غني بنفسه لا بوصف جعله غنيًا، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهى معدومة وهى موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر ينتظر نزوله وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه‏: أنه لا يوجد إلا بالخالق‏. هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف‏.
 
ولكن طائفة تدعى أن افتقارها، وخضوعها، وخلقها، وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها، وإن كان ذلك بلسان الحال، ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله‏. وقل للأرض‏: من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج نباتها وثمارها، فإن لم تجبك حوارا وإلا أجابتك اعتبارا، وهذا يقوله الغزالي وغيره، وهو أحد الوجوه التي ذكرها أبو بكر بن الأنبارى في قوله‏: ‏{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}‏ ‏[‏البقرة‏: 116‏]‏ قال‏: كل مخلوق قانت له باشر صنعت فيه وجرى أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله لربه، وهو الذي ذكره الزجاج في قوله‏: ‏{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}‏ ‏[آل عمران‏: 83‏]‏ قال‏: إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جِبِلِّهم، لا يقدر أحد يمتنع من جبلة جبله الله عليها، وهذا المعنى صحيح، لكن الصواب الذي عليه جمهور علماء السلف والخلف‏: أن القنوت، والاستسلام، والتسبيح أمر زائد على ذلك، وهذا كقول بعضهم‏: إن سجود الكاره وذله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر، وكما قال بعضهم في قوله‏: ‏{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ}‏ ‏[‏الإسراء‏: 44‏]‏‏. قال‏: تسبيحه دلالته على صانعه، فتوجب بذلك تسبيحا من غيره، والصواب‏: أن لها تسبيحا وسجودا بحسبها‏.
 
والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق، ودلالتها عليه وشهادتها، له أمر فِطْرِىّ فطر الله عليه عباده، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات، كما قد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولى، والتمثيلى، فإن القياس البرهإني العقلى، سواء صيغ بلفظ الشمول، كالأشكال المنطقية، أو صيغ بلفظ التمثيل، وبين أن الجامع هو علة الحكمة ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين في غير هذا الموضع‏.
 
والتحقيق‏: أن العلم بأن المحدَث لا بد له من محدِث هو علم فطرى، ضرورى في المعينات الجزئية، وأبلغ مما هو في القضية الكلية، فإن الكليات إنما تصير كليات في العقل بعد استقرار جزئياتها في الوجود، وكذلك عامة القضايا الكلية، التي يجعلها كثير من النظار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم، كقولهم‏: الكل أعظم من الجزء، أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك، فإنه أي كلى تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه، وإن لم تخطر له القضية الكلية، كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض، وأن الدرهم أكبر من بعضه، وأن المدينة أكثر من بعضها، وأن الجبل أكبر من بعضه، وكذلك النقيضان وهما‏: الوجود والعدم، فإن العبد إذا تصور وجود أي شيء كان وعدمه، علم أن ذلك الشيء لا يكون موجودا معدوما في حالة واحدة، وأنه لا يخلو من الوجود والعدم، وهو يقضى بالجزئيات المعينة، وإن لم يستحضر القضية الكلية، وهكذا أمثال ذلك‏.
 
ولما كان القياس الكلى فائدته أمر مطلق لا معين، كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب، كما نزل به القرآن، وفطر الله عليه عباده، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة، لكن فائدتها ناقصة، والقرآن إذا استعمل لعله في الآيات الإلهيات استعمل قياس الأولى لا القياس الذي يدل على المشترك، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التي لا كمال فيها، فالبارى تعالى أولى بتنزيهه عن ذلك، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه كالحياة، والعلم، والقدرة، فالخالق أولى بذلك منه، فالمخلوقات كلها آيات للخالق، والفرق بين الآية وبين القياس‏: أن الآية تدل على عين المطلوب الذي هو آية وعلامة عليه، فكل مخلوق فهو دليل، وآية على الخالق نفسه، كما قد بسطناه في مواضع‏.
 
ثم الفِطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها آية له ودلالة عليه، مثل كون الاسم يدل على المسمى، فلا بد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك، وعرف أن هذا اسم له، فكذلك كون هذا دليلا على هذا يقتضي تصور المدلول عليه، وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له، فلا بد في ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصورا لم يعلم أنه دليل عليه، فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالما بالإضافة، ولا كونه دليلا، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له‏.
 
والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية، هى التي جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأى والسمع‏.
 
والمتفلسفة كابن سينا والرازي ومن اتبعهما قالوا‏: إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات، وإن الممكن لا بد له من واجب، قالوا‏: والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين‏. وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، ورَكَّبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه، فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث، وقسمه هو إلى واجب وممكن، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا، بل زعم أنه ممكن‏. وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة، بل حُذَّاقُهُمْ عرفوا أنه خطأ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم، وقد بينا في مواضع أن القِدَم، ووجوب الوجود، متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يعرف على طائفة منهم نزاع في ذلك، إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود، ولا قديمًا أزليًا‏.
 
ثم إن هؤلاء إذا قدر أنهم أثبتوا واجب الوجود، فليس في دليلهم أنه مغاير للسموات والأفلاك، وهذا مما بيَّن تهافتهم فيه الغزالي وغيره، لكن عمدتهم أن الجسم لا يكون واجبًا؛ لأنه مركب، والواجب لا يكون مركبًا، هذا عمدتهم‏.
 
وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة، وما زال النظار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه، كما بين الغزالي فساده بحسبه‏.
 
وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان‏: فيقال للموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم، فتكون الذات واجبة والصفات واجبة، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه، فتكون الذات واجبة دون الصفات، ويقال لمبدع الممكنات، وهى المخلوقات، والمبدع لها هو الخالق، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعى التحقيق والعرفان، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق، كما قد بسط القول عليه في مواضع‏.
 
والمقصود هنا الكلام أولا في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه؛ أي في أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى، كما قال تعالى‏: ‏{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}‏ ‏[‏العلق‏: ‏6، 7‏]‏، وقال‏: ‏{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ}‏ ‏[‏فصلت‏: 51‏]‏، وفي الآية الأخرى‏: ‏{كَانَ يَؤُوسًا}‏ ‏[‏الإسراء 83‏]‏‏.
 
 
===فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله===
والسعادة في معاملة الخلق‏: أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم، كما جاء في الأثر‏: ‏(‏ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله‏)‏ أي‏: لا تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم في الله فيما تأتى وما تذر، بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه‏. وفي الحديث‏: ‏(‏إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، أو تَذُمَّهُمْ على ما لم يؤتك الله‏)‏ فإن اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا، لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك، إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله؛ لما يرجوه منهم‏. وإما ضعيف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك، ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم؛ وذلك من ضعف اليقين‏.
 
وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر، كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمَّه الله ورسوله فهو المذموم‏.
 
ولما قال بعض وفد بني تَمِيم‏: يا محمد، أعطني، فإن حَمْدِى زَيْنُ وإن ذَمِّى شَيْنٌ‏. قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏ذاك الله عز وجل‏)‏
 
وكتبت عائشة إلى معاوية، وروى أنها رفعته إلى النبي {{صل}}‏: ‏(‏من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئا‏)‏ هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف‏: ‏(‏من أرضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما‏)‏ هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين، والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده ‏{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }‏ ‏[‏الطلاق‏: 2، 3‏]‏‏. فالله يكفيه مُؤْنَةَ الناس بلا رَيْب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه، فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه، إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا، كالظالم الذي يعض على يده يقول‏: ‏{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}‏ ‏[الفرقان‏: 27، 28‏]‏، وأما كون حامده ينقلب ذاما، فهذا يقع كثيرا، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم‏.
 
فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئا كان موحدا‏. ومن توحيد الله وعبادته‏: التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك‏. وإعطاء الناس حقوقهم، وترك العدوان عليهم، يخلص به العبد من ظلمهم، ومن الشرك بهم‏. وبطاعة ربه واجتناب معصيته، يخلص العبد من ظلم نفسه، وقد قال تعالى في الحديث القدسى‏: ‏(‏قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏)‏‏. فالنصفان يعود نفعهما إلى العبد، وكما في الحديث الذي رواه الطبراني في الدعاء‏: ‏(‏يا عبادي، إنما هى أربع، واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي لي‏: تعبدني لا تشرك بي شيئا‏. والتي لك‏: عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه‏. والتي بيني وبينك‏: فمنك الدعاء وعلىّ الإجابة‏. والتي بينك وبين خلقي‏: فأت إليهم ما تحب أن يأتوه إليك‏)‏‏. والله يحب النصفين، ويحب أن يعبدوه‏.
 
وما يعطيه الله العبد من الإعانة والهداية هو من فضله وإحسانه، وهو وسيلة إلى ذلك المحبوب، وهو إنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة‏. فهو يطلب ما يحتاج إليه أولا ليتوسل به إلى محبوب الرب، الذي فيه سعادته‏. وكذلك قوله‏: ‏(‏عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه‏)‏، فإنه يحب الثواب الذي هو جزاء العمل، فالعبد إنما يعمل لنفسه، ‏{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}‏ ‏[‏البقرة‏: 286‏]‏، ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هى نافعة له، محصلة لسعادته، محصنة له من عذاب ربه فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، فمن عبد الله لا يشرك به شيئا أحبه وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعم تبعًا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع والمشترى، البائع يريد من المشترى أولا الثمن، ومن لوازم ذلك‏: إرادة تسليم المبيع، والمشترى يريد السلعة، ومن لوازم ذلك‏: إرادة إعطاء الثمن‏.
 
فالرب يحب أن يحب، ومن لوازم ذلك‏: أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به‏. والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك‏: محبته لعبادة الله، فمن عبد الله وأحسن إلى الناس، فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله، في إخلاص الدين له‏. ومن طلب من العباد العوض، ثناء أو دعاء أو غير ذلك، لم يكن محسنًا إليهم لله‏. ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم في الله كان محسنًا إلى الخلق وإلى نفسه، فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشيء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله، وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم، فإن طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها‏؟‏ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثير الظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا قهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس‏.
 
وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلا بد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله عز وجل، وهذا موجود كثيرًا في الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضًا ويرجو بعضهم بعضًا، وكل من هؤلاء يتظلم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصي المختصة، كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له؛ فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر مجريات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى‏.
 
فإن الإنسان خلق محتاجًا إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائمًا، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده، فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن النفوس إلا إليه، و ‏{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا}‏ ‏[‏الأنبياء‏: 22‏]‏، فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له‏.
 
فإذا لم تكن القلوب مخلصة لله الدين، عبدت غيره من الآلهة التي يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم، فأشركت بالله بعبادة غيره، واستعانته، فتعبد غيره وتستعين به، لجهلها بسعادتها التي تنالها بعبادة خالقها والاستعانة به، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبالاستعانة به تستغني عن الاستعانة بالخلق، وإذا لم يكن العبد كذلك، كان مذنبًا محتاجًا، وإنما غناه في طاعة ربه، وهذا حال الإنسان؛ فإنه فقير محتاج، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلا بد له من ربه، فإنه الذي يسدى مغافرَهُ، ولا بد له من الاستغفار من ذنوبه، قال تعالى‏: ‏‏{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}‏ ‏[‏محمد‏: ‏19‏]‏، فبالتوحيد يقوى العبد ويستغني، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، وبالاستغفار يغفر له ويدفع عنه عذابه، ‏{وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}‏ ‏[‏الأنفال‏: 33‏]‏، فلا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد؛ فإنه لا بد له منه، وإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا معذبًا في طلب ما لم يحصل له، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار، حصل له غناه وسعادته، وزال عنه ما يعذبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.
 
والعبد مفتقر دائما إلى التوكل على الله والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلا بد أن يشهد دائمًا فقره إلى الله، وحاجته في أن يكون معبودًا له، وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه، قال تعالى‏: ‏{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 175‏]‏ أي يخوفكم بأوليائه‏. هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور، كابن عباس وغيره وأهل اللغة كالفراء وغيره‏. قال ابن الأنبارى‏: والذي نختاره في الآية‏: يخوفكم أولياءه‏. تقول العرب‏: أعطيت الأموال‏: أي أعطيت القوم الأموال، فيحذفون المفعول الأول‏. ‏
 
قلت‏: وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفًا مطلقًا، ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة، فحذف الأول لأنه ليس مقصودًا‏.
 
وقال بعض المفسرين‏: يخوف أولياءه المنافقين، والأول أظهر؛ لأنها نزلت بسبب تخويفهم من الكفار، فهى إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد قال‏: ‏{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 175‏]‏ الضمير عائد إلى أولياء الشيطان، الذين قال فيهم‏: ‏{فَاخْشَوْهُمْ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 173‏]‏ قبلها، والذي قال الثاني فسرها من جهة المعنى، وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه؛ لأن سلطانه عليهم، فهو يدخل عليهم المخاوف دائما، وإن كانوا ذوى عَدَدٍ وعُدَدٍ، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار، أو أنهم أرادوا المفعول الأول، أي يخوف المنافقين أولياءه، وهو يخوف الكفار، كما يخوف المنافقين، ولو أريد أنه يجعل أولياءه خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه، وهو قوله‏: ‏{فّلا تّخّافٍوهٍم}‏‏ .
 
وأيضا، فإنه يعد أولياءه وَيُمَنِّيهِمْ، ولكن الكفار يلقى الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى‏: ‏{لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ الله}‏ ‏[‏الحشر‏: 13‏]‏، وقال‏: ‏{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ}‏ ‏[‏الأنفال‏: 12‏]‏، ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالون العدو فصاروا بذلك منافقين، وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى‏: وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}‏ ‏[‏التوبة ‏: ‏56‏]‏، وقال‏: ‏{فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏: 19]‏‏. فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين، كما دل عليه السياق، وإذا جعلهم مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم‏.
 
فدلت الآية على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناسا خائفين منهم‏.
 
ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال‏: ‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}‏ ‏[المائدة‏: 44‏]‏، فخوف الله أمر به، وخوف أولياء الشيطان نَهَى عنه، قال تعالى‏: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏150‏]‏، فنهى عن خَشْيَةِ الظالم وأمر بخشيته، وقال‏: ‏{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 39‏]‏، وقال‏: ‏{فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ}‏ ‏[النحل‏: 51‏]‏‏.
 
وبعض الناس يقول‏: يا رب، إني أخافك وأخاف من لا يخافك، فهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدًا، فإن من لا يخاف الله أذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، وإذا قيل‏: قد يؤذيني، قيل‏: إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله، وإنما يسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك شر كل شر، ولم يسلطه عليك، فإنه قال‏: ‏{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ}‏ ‏[‏الطلاق‏: ‏3‏]‏، وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك واستغفرته لم يسلط عليك، كما قال‏: ‏{وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏33‏]‏‏.
 
وفي الآثار‏: ‏(‏يقول الله‏: أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدى، فمن أطاعني جعلت قلوب الملوك عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، ولكن توبوا إليَّ وأطيعون أعطفهم عليكم‏)‏‏.
 
ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال‏: ‏{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: 165‏]‏، وقال‏: ‏{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}‏ الآيات ‏[‏آل عمران‏: 146‏]‏ والأكثرون يقرؤون‏: قاتل والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف‏: هم الجماعات الكثيرة، قال ابن مسعود وابن عباس في رواية عنه والفراء‏: ألوف كثيرة‏. وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة‏: جماعات كثيرة، وقرئ بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه‏: الذين ما وهنوا وما ضعفوا‏. وأما على قراءة أبي عمرو وغيره ففيها وجهان‏:
 
* أحدهما‏: يوافق الأول، أي الربيون يقتلون فما وهنوا، أي ما وهن من بقى منهم، لقتل كثير منهم، أي ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم، بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدَالُهم الله عليهم وصارت كلمة الله هى العليا‏.
 
* والثاني‏: أن النبي {{صل}} قتل معه ربيون كثير فما وهن من بقى منهم لقتل النبي {{صل}}‏. وهذا يناسب صرخ الشيطان أن محمدًا قد قتل، لكن هذا لا يناسب لفظ الآية، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا، ولو أريد أن النبي قتل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم بل تقليلهم هو المناسب لها، فإذا كثروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة‏.
 
وأيضا، لم يكن فيه حجة على الصحابة، فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم، فيقولون ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون‏.
 
وأيضا، فقوله‏: ‏{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 146‏]‏ يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يعرف أن أنبياء كثيرون قتلوا في الجهاد‏.
 
وأيضا‏: فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير، وهذا لم يوجد، فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يقتلوا في الغزو، بل ولا يعرف نبي قتل في جهاد، فكيف يكون هذا كثيرًا ويكون جيشه كثيرًا‏؟‏
 
والله سبحانه أنكر على من ينقلب، سواء كان النبي مقتولا أو ميتا، فلم يذمهم إذا مات أو قتل على الخوف بل على الانقلاب على الأعقاب، ولهذا تلاها الصديق رضى الله عنه بعد موته {{صل}} فكأن لم يسمعوها قبل ذلك‏.
 
ثم ذكر بعدها معنى آخر‏: وهو أن من كان قبلكم كانوا يقاتلون فيقتل منهم خلق كثير وهم لا يهنون، فيكون ذكر الكثرة مناسبا؛ لأن من قتل مع الأنبياء كثير، وقتل الكثير من الجنس يقتضي الوهن، فما وهنوا وإن كانوا كثيرين، ولو وهنوا دل على ضعف إيمانهم، ولم يقل هنا‏: ولم ينقلبوا على أعقابهم، فلو كان المراد أن نبيهم قتل لقال‏: فانقلبوا على أعقابهم؛ لأنه هو الذي أنكره إذا مات النبي أو قتل، فأنكر سبحانه شيئين‏: الارتداد إذا مات أو قتل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو؛ ولهذا قال‏: ‏{فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 146‏]‏‏. ‏‏. ‏‏. إلخ‏. ولم يقل‏: فما وهنوا لقتل النبي، ولو قتل وهم أحياء لذكر ما يناسب ذلك، ولم يقل‏: ‏{فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ}‏، ومعلوم أنّ ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي‏.
 
وأيضا‏: فكون النبي قاتل معه أو قتل معه ربيون كثير، لا يستلزم أن يكون النبي معهم في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قتل على دينه فقد قتل معه، وهذا الذي فهم الصحابة، فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته {{صل}}، حتى فتحوا البلاد شامًا، ومصرًا، وعراقًا، ويمنًا وعربًا، وعجمًا، ورومًا، ومغربًا، ومشرقًا، وحينئذ فظهر كثرة من قتل معه، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون، ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي {{صل}} على دينه، وإن كان قد مات، والصحابة الذين يغزون في السرايا، والنبي ليس معهم، كانوا معه يقاتلون، وهم داخلون في قوله‏: ‏{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ}‏ الآية ‏[‏الفتح‏: 29‏]‏، وفي قوله‏: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏: 75‏]‏‏. ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهدًا للمطاع ناظرًا إليه‏.
 
وقد قيل في‏: ‏{ربيون}‏ هنا‏: إنهم العلماء، فلما جعل هؤلاء هذا كلفظ الرباني، وعن ابن زيد هم الأتباع كأنه جعلهم المربوبين‏. والأول أصح من وجوه‏:
 
* أحدها‏: أن الربانيين عين الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم أئمتهم في دينهم، ولا يكون هؤلاء إلا قليلا‏.
 
* الثاني‏: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم، وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين، وإن كانوا قد أعطوا علما ومعهم الخوف من الله عز وجل‏.
 
* الثالث‏: أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفا في اللغة‏.
 
* الرابع‏: أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفا في اللغة، بل المعروف فيها هو الأول، والذين قالوه قالوا‏: هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهور ‏‏ربي‏ بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء، وقد قرئ بالضم، فعلم أنها لغات‏.
 
* الخامس‏: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن‏.
 
* السادس‏: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله‏: ‏{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: 63‏]‏‏. وفي قوله‏: ‏{وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 79‏]‏ فهناك ذكرهم به مناسبا‏.
 
* السابع‏: قيل‏: إن الرباني منسوب إلى الرب، فزيادة الألف والنون كاللحياني، وقيل‏: إلى تربيته الناس، وقيل‏: إلى ربان السفينة، وهذا أصح، فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة؛ لأنهم منسوبون إلى التربية، وهذه تختص بهم، وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد له فهو منسوب إليه، إما نسبة عموم أو خصوص ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى به رسله وأنبياءه، فإن الرباني من يرب الناس، كما يرب الرباني السفينة، ولهذا كان الربانيون يذمون تارة، ويمدحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يذموا قط‏.
 
* الثامن‏: أنها إن جعلت مدحًا فقد ذموا في مواضع، وإن لم تكن مدحا لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح، وإذا كان منسوبًا إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوبا إلى الرب، فنسبة الربيون إلى الرب أولى بالبطلان‏.
 
* التاسع‏: أنه إذا قدر أنهم منسوبون إلى الرب، فلا تدل النسبة على أنهم علماء‏. نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، وهذا يعم جميع المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئا فهو متأله عارف بالله، والصحابة كلهم كذلك، ولم يسموا ربانيين ولا ربيين، وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس‏: اليوم مات رباني هذه الأمة، وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم، والخلفاء أفضل منهم، ولم يسموا ربانيين، وإن كانوا هم الربانيين‏. وقال إبراهيم‏: كان علقمة من الربانيين؛ ولهذا قال مجاهد‏: هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، فهم أهل الأمر والنهي‏. والأحبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر، أو ينه، وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني، نقل عن عليّ قال‏: ‏(‏هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها‏)‏، وعن ابن عباس قال‏: ‏‏هم الفقهاء المعلمون‏
 
قلت‏: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون‏. وقال قتادة وعطاء‏: هم الفقهاء العلماء الحكماء‏. قال ابن قتيبة‏: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون‏. قال أبو عبيد‏: أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين‏.
 
قلت‏: اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون؛ لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل‏.
 
 
===فصل: في قوله اهدنا الصراط المستقيم===
قال الله تعالى‏: ‏‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}‏‏ [الفاتحة‏: 6، 7‏]
 
وقد صح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏)‏‏.
 
وكتاب الله يدل على ذلك في مواضع، مثل قوله تعالى‏: ‏{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏60‏]‏ وقوله‏: ‏{فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}‏ ‏[‏البقرة‏: 90‏]‏، وقوله‏: ‏{وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 112‏]‏، وقال النصارى‏: ‏{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}‏ ‏[‏المائدة‏: 77‏]‏، وقال‏: ‏{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}‏ ‏[‏النساء‏: 171‏]‏، وقال تعالى‏: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: 30، 31‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 79، 80‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏‏.
 
ولما أمرنا الله سبحانه أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين، كان ذلك مما يبين أن العبد يُخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين، وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي {{صل}} حيث قال‏: ‏(‏لتسلكن سَنَنَ من كان قبلكم حَذْو القُذَّةِ بالقُذَّةِ <ref>‏[‏حذو القذة بالقذة‏: أي كما تُقَدَّر كُلُّ واحدة منهما على قدر صاحبتها وتُقْطَع‏. يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 482‏]‏</ref> حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه‏)‏ قالوا‏: يا رسول الله، اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏: ‏(‏فمن ‏؟‏‏)‏ وهو حديث صحيح‏.
 
وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى، كما يرى في أحوال منحرفة أهل العلم من تحريف الكلم عن مواضعه، وقسوة القلوب، والبخل بالعلم، والكبر وأمر الناس بالبر ونسيان أنفسهم، وغير ذلك‏. وكما يرى في منحرفة أهل العبادة والأحوال من الغلو في الأنبياء والصالحين، والابتداع في العبادات، من الرهبانية والصور والأصوات‏.
 
ولهذا قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏لا تُطْرُوني كما أطْرَتْ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عَبْدٌ فقولوا‏: عبد الله ورسوله‏)‏، ولهذا حقق الله له نعت العبودية في أرفع مقاماته حيث قال‏: ‏{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 1‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}‏ ‏[‏النجم‏: ‏10‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}‏ ‏[‏الجن‏: ‏19‏]‏‏. ‏ولهذا يشرع في التشهد وفي سائر الخطب المشروعة، كخطب الجمع والأعياد، وخطب الحاجات عند النكاح وغيره، أن نقول‏: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.
 
وكان رسول الله {{صل}} يحقق عبوديته؛ لئلا تقع الأمة فيما وقعت فيه النصارى في المسيح، من دعوى الألوهية، حتى قال له رجل‏: ما شاء الله وشئت‏. فقال‏: ‏(‏أجعلتني لله ندًا‏؟‏ بل ما شاء الله وحده‏)‏، وقال أيضا لأصحابه‏: ‏(‏لا تقولوا‏: ما شاء الله وشاء محمد، بل قولوا‏: ما شاء الله ثم شاء محمد‏)‏، وقال‏: ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا عليّ حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني‏)‏، وقال‏: ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثَنَا يُعْبَد، اشتد غَضَبُ الله على قوم اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، وقال‏: ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.
 
والغلو في الأمة وقع في طائفتين‏: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين، فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية، فهو من جنس النصارى، وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم، قال تعالى في خطابه لبني إسرائيل‏: ‏‏{وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}‏ ‏[‏المائدة‏: 12‏]‏، والتعزير‏: النصر والتوقير والتأييد‏. وقال تعالى‏: ‏{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}‏ ‏[‏الفتح‏: 8، 9‏]‏، فهذا في حق الرسول، ثم قال في حق الله تعالى‏: ‏{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}‏ ‏[‏الفتح‏: ‏9‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏: 156، 157‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ الله وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}‏‏ [‏آل عمران‏: 31، 32‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 56‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ}‏ ‏[‏التوبة‏: 24‏]‏‏.
 
وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن‏. وقال‏: ‏{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}‏ ‏[‏الأنفال‏: 24‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏: 65‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌِ}‏ ‏[‏النور‏: 63‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}‏ ‏[‏النور‏: 51، 52‏]‏، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده كما قال‏: ‏{فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ}‏ ‏[النحل‏: 51‏]‏، وقال ‏: ‏‏{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}‏ ‏[البقرة‏: 41‏]‏، وقال‏: ‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}‏ ‏[‏المائدة‏: 44‏]‏، وقال‏: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}‏ ‏[‏الفتح‏: 10‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا}‏ ‏[‏النور‏: 63‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 6‏]‏‏.
 
وقال {{صل}}‏: ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏)‏‏. وقال له عمر‏: والله يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل أحد إلا من نفسي، فقال‏: ‏(‏لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك‏)‏ فقال‏: فأنت أحب إلى من نفسي قال‏: ‏(‏الآن يا عمر‏)‏‏.
 
فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضا بحكمه، والتسليم له، واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق‏.
 
وأخبر أن طاعتَه طاعتُه فقال‏: ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله}‏ ‏[‏النساء‏: 80‏]‏، ومبايعتَه مبايعتُه فقال‏: ‏{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله}‏ ‏[‏الفتح‏: 10‏]‏، وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال‏: ‏{وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}‏ ‏[‏التوبة‏: 62‏]‏، وفي الأذى فقال‏: ‏{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 57‏]‏، وفي الطاعة والمعصية فقال‏: ‏{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ}‏‏ [‏النساء‏: 13‏]‏، ‏{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ}‏ ‏[‏النساء‏: 14‏]‏، وفي الرضا فقال‏: ‏{وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}‏ ‏[‏التوبة‏: 62‏]‏‏. فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله بأبي هو وأمي‏.
 
فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له، كما قال‏: ‏{وَاعْبُدُواْ الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا}‏ ‏[‏النساء‏: 36‏]‏، ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 5‏]‏، ‏{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}‏ ‏[‏البينة‏: 5‏]‏، وقد جمع بينهما في مواضع، كقوله‏: ‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}‏ ‏[‏هود‏: 123‏]‏، وقوله‏: ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}‏ ‏[‏الفرقان‏: 58‏]‏، وقوله‏: ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏ ‏[‏هود‏: 88‏]‏‏.
 
وكذلك التوكل كما قال‏: ‏{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}‏ ‏[‏إبراهيم‏: 12‏]‏، وقال‏: ‏{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}‏ ‏[‏الزمر‏: 38‏]‏، وقال‏: ‏{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏173‏]‏‏.
 
والدعاء لله وحده، سواء كان دعاء العبادة، أو دعاء المسألة والاستعانة، كما قال تعالى‏: ‏{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}‏ ‏[‏الجن‏: 18، 20‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}‏ ‏[‏غافر‏: 14‏]‏، وقال‏: ‏{فَلَا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏: 213‏]‏، وقال‏: ‏{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏52‏]‏‏.
 
وذم الذين يدعون الملائكة والأنبياء وغيرهم، فقال‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏، روى عن ابن مسعود‏: أن قومًا كانوا يدعون الملائكة، والمسيح، وعُزَيرًا، فقال الله‏: هؤلاء الذين تدعونهم يخافون الله، ويرجونه، ويتقربون إليه كما تخافونه أنتم، وترجونه، وتتقربون إليه‏. وقال تعالى‏: ‏{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}‏ ‏[‏الإسراء‏: 67‏]‏، وقال‏: ‏‏{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله}‏‏؟‏ ‏[‏النمل‏: 26‏]‏، وقال ‏{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏68‏]‏‏.
 
وتوحيد الله، وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته، في القرآن كثير جدًا، بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره، كما قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏أمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)، وقال‏: ‏(‏إني لأعلم كلمة لا يقولها عند الموت أحَدٌ إلا وجد رُوحهُ لها روحا‏)‏، وقال‏: ‏(‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة‏)‏، وهو قلب الدين والإيمان، وسائر الأعمال كالجوارح له‏. وقول النبي {{صل}}‏: ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلي الله ورسوله‏. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏، فبين بهذا أن النية عمل القلب وهى أصل العمل‏. وإخلاص الدين لله، وعبادة الله وحده، ومتابعة الرسول فيما جاء به، هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله‏.
 
ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصرى ما يقوله في قصائده في مدح الرسول من الاستغاثة به، مثل قوله‏: بك أستغيث وأستعين وأستنجد، ونحو ذلك‏.
 
وكذلك ما يفعله كثير من الناس، من استنجاد الصالحين والمتشبهين بهم، والاستعانة بهم أحياء وأمواتا، فإني أنكرت ذلك في مجالس عامة وخاصة، وبينت للناس التوحيد، ونفع الله بذلك ما شاء الله من الخاصة والعامة‏.
 
وهو دين الإسلام العام، الذي بعث الله به جميع الرسل، كما قال تعالى‏: ‏‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}‏ ‏[‏النحل‏: 36‏]‏، وقال‏: ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}‏ ‏[‏الأنبياء‏: 25‏]‏ وقال‏: ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏: 54‏]‏، وقال‏: ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}‏ ‏[‏المؤمنون‏: 51، 52‏]‏، وقال‏: ‏{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}‏ ‏[‏الشورى‏: 13‏]‏، وقال‏: ‏{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}‏ ‏[‏الذاريات‏: 56‏]‏‏. وقال النبي {{صل}} لمعاذ بن جبل‏: ‏(‏يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده‏؟‏‏)‏ قلت‏: الله ورسوله أعلم‏. قال‏: ‏(‏حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا‏. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك‏؟‏ ألا يعذبهم‏)‏، وقال لابن عباس‏: ‏(‏إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله‏)‏‏. ‏
 
ويدخل في العبادة الخشية، والإنابة، والإسلام، والتوبة، كما قال تعالى‏: ‏{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏39‏]‏، وقال‏: ‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}‏ ‏[المائدة‏: 44‏]‏، وقال‏: ‏{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله}‏ ‏[‏التوبة‏: 18‏]‏، وقال الخليل‏: وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شيئا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 80، 82‏]‏، وقال‏: ‏{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ}‏ إلى قوله‏: ‏{أَتَخْشَوْنَهُمْ فَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ}‏ ‏[التوبة‏: 13]‏، ‏{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}‏ ‏[البقرة‏: 41‏]‏، وقال‏: ‏{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ}‏‏ [‏النور‏: 52‏]‏، وقال نوح‏: ‏‏{أَنِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}‏‏ [‏نوح‏: 3‏]‏‏.
 
فجعل العبادة والتقوى لله، وجعل له أن يطاع، كما قال تعالى‏: ‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله}‏ ‏[النساء‏: ‏64]‏، وكذلكَ قَالت الرسُل مثْل نُوحٍ، وهودٍ، وصالحٍ، وشعيب، ولوط، وغيرهم‏: ‏{فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ}‏ ‏[‏الشعراء‏: 108، 126، 144، 163، 179‏]‏، فجعلوا التقوى لله، وجعلوا لهم أن يطاعوا‏. وكذلك في مواضع كثيرة جدًا من القرآن‏: ‏‏{اتَّقُوا الله}‏ ‏{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله}‏ ‏[‏النساء‏: 131‏]‏‏. وكذلك‏. ‏‏.
 
وقال‏: ‏‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏ ‏[‏هود‏: ‏88‏]‏، وقال‏: ‏{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏54‏]‏، وقال عن إبراهيم‏: ‏{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}‏ ‏[‏البقرة‏: 131‏]‏، وقالت بلقيس‏: ‏{[‏إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ}‏ ‏[‏النمل‏: 44‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}‏ ‏[‏النساء‏: 125‏]‏، وقال‏: ‏{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ}‏ ‏[‏البقرة‏: 112‏]‏، وقال‏: ‏{وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا}‏ ‏[‏النور‏: 31‏]‏ ‏{وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتَابًا}‏ ‏[‏الفرقان‏: 71‏]‏، وقال‏: ‏{فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ}‏ ‏[‏البقرة‏: 54‏]‏، ‏{تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا}‏ ‏[‏التحريم‏: 8‏]‏‏. والاستغفار‏: ‏{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}‏ ‏[‏نوح‏: ‏10‏]‏، ‏{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}‏ ‏[‏هود‏: 3‏]‏، والاسترزاق والاستنصار، كما في صلاة الاستسقاء، والقنوت على الأعداء، قال‏: ‏‏{فَابْتَغُوا عِندَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ}‏ ‏[‏العنكبوت‏: 17‏]‏، وقال‏: ‏{إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 160‏]‏، والاستغاثة كما قال‏: ‏{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}‏ ‏[‏الأنفال‏: 9‏]‏، والاستجارة كما قال‏: ‏{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لله قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}‏‏ [‏المؤمنون‏: 88، 89‏]‏، والاستعاذة كما قال‏: ‏{وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}‏ ‏[‏المؤمنون‏: 97، 98‏]‏، وقال‏: ‏{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}‏ الآية ‏[‏النحل‏: 98‏]‏، وتفويض الأمر كما قال مؤمن آل فرعون‏: ‏{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}‏ ‏[‏غافر‏: 44‏]‏‏. وفي الحديث المتفق عليه في الدعاء الذي علمه النبي {{صل}} أن يقال عند المنام‏: ‏(‏اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهى إليك، وفوضت أمرى إليك، وألجأت ظهرى إليك‏)‏‏.
 
وقال‏: ‏‏{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}‏‏ [‏الأنعام‏: 51‏]‏، وقال‏: ‏{الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}‏ ‏[‏السجدة ‏: ‏4‏]‏، فالولى الذي يتولى أمرك كله، والشفيع الذي يكون شافعًا فيه أي عونا، فليس للعبد دون الله من ولى يستقل ولا ظهير معين وقال‏: ‏{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ}‏ ‏[‏يونس‏: 107‏]‏، وقال‏: ‏{مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ}‏ ‏[‏فاطر‏: ‏2‏]‏، وقال‏: ‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شيئا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}‏ ‏[‏الزمر‏: 43، 44‏]‏، وقال‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22، 23‏]‏، وقال‏: ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ}‏ ‏[‏البقرة‏: 255‏]‏، وقال‏: ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}‏ ‏[‏النجم‏: 26‏]‏‏.
 
فالعبادة والاستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء، والاستغاثة، والخشية، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والتوبة، والاستغفار‏: كل هذا لله وحده لا شريك له، فالعبادة متعلقة بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله رب العالمين لا إله إلا هو، ولا رب لنا غيره، لا ملك ولا نبي ولا غيره، بل أكبر الكبائر الإشراك بالله وأن تجعل له ندا وهو خالقك، والشرك أن تجعل لغيره شركا أي نصيبا في عبادتك، وتوكلك، واستعانتك، كما قال من قال‏: ‏{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى}‏‏ [‏الزمر‏: 3‏]‏، وكما قال تعالى‏: ‏‏{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء}‏ ‏[‏الأنعام‏: 94‏]‏، وكما قال‏: ‏‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شيئا وَلَا يَعْقِلُونَ}‏‏؟‏ ‏[‏الزمر‏: 43‏]‏، وكما قال‏: ‏{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}‏ ‏[‏السجدة‏: 4‏]‏‏.
 
وأصناف العبادات الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هى عبادة بنفسها من السجود، والركوع، والتسبيح، والدعاء، والقراءة، والقيام، لا يصلح إلا لله وحده‏.
 
ولا يجوز أن يتنفل على طريق العبادة إلا لله وحده، لا لشمس، ولا لقمر ولا لملك، ولا لنبي، ولا صالح، ولا لقبر نبي ولا صالح، هذا في جميع ملل الأنبياء، وقد ذكر ذلك في شريعتنا حتى نهى أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهى النبي {{صل}} معاذًا أن يسجد له‏. وقال‏: ‏(‏لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها‏)‏‏. ونهى عن الانحناء في التحية، ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصلاة وهو قاعد‏. ‏
 
وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة، لا يتصدق إلا لله، كما قال تعالى‏: ‏{وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}‏ ‏[‏الليل‏: ‏19، 20‏]‏ وقال‏: ‏{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله}‏ ‏[‏الإنسان‏: ‏9‏]‏، وقال‏: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ}‏ ‏[‏البقرة‏: 265‏]‏، وقال‏: ‏{وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}‏ ‏[‏الروم‏: 39‏]‏، فلا يجوز فعل ذلك على طريق الدين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر؛ ولا لنبي؛ ولا لصالح؛ كما يفعل بعض السُّوال والمعظمين كرامة لفلان؛ وفلان؛ يقسمون بأشياء‏: إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين، كما يقال‏: بكر وعلى ونور الدين أرسلان والشيخ عدي والشيخ جاليد‏. ‏
 
وكذلك الحج، لا يحج إلا إلى بيت الله، فلا يطاف إلا به، ولا يحلق الرأس إلا به، ولا يوقف إلا بفنائه، لا يفعل ذلك بنبي، ولا صالح، ولا يقبر نبي ولا صالح، ولا بوثن‏.
 
وكذلك الصيام، لا يصام عبادة إلا لله، فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر، ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك‏.
 
وهذا كله تفصيل الشهادتين، اللتين هما أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله، والإله من يستحق أن يألهه العباد، ويدخل فيه حبه وخوفه، فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله، وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول‏.
 
ولما كان أصل الدين الشهادتين، كانت هذه الأمة الشهداء ولها وصف الشهادة والقسيسون لهم العبادة بلا شهادة؛ ولهذا قالوا‏: ‏{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 53‏]‏؛ ولهذا كان المحققون على أن الشهادتين أول واجبات الدين، كما عليه خلص أهل السنة، وذكره منصور السمعاني والشيخ عبد القادر وغيرهما؛ وجعله أصل الشرك؛ وغيروا بذلك ملة التوحيد التي هى أصل الدين؛ كما فعله قدماء المتفلسفة، الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله‏.
 
ومن أسباب ذلك‏: الخروج عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمدًا {{صل}}، إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين، أو النصارى، أو اليهود، وهو القياس الفاسد، المشابه لقياس الذين قالوا‏: ‏{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏275‏]‏ فيريدون أن يجعلوا السماع جنسًا واحدًا، والملة جنسًا واحدًا، ولا يميزون بين مشروعة ومبتدعة، ولا بين المأمور به والمنهى عنه‏. فالسماع الشرعي الديني سماع كتاب الله وتزيين الصوت به وتحبيره‏. كما قال {{صل}}‏: ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏، وقال أبو موسى‏: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا‏. والصور، والأزواج، والسرارىُّ التي أباحها الله تعالى، والعبادة‏: عبادة الله وحده لا شريك له ‏{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ}‏ ‏[‏النور‏: 36، 37‏]‏‏.
 
وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم، وينهى أن يشبه الأمر الديني الشرعي بالطبيعى البدعى، لما بينهما من القدر المشترك كالصوت الحسن، ليس هو وحده مشروعا حتى ينضم إليه القدر المميز، كحروف القرآن، فيصير المجموع من المشترك، والمميز هو الدين النافع‏.
 
 
===فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله===
قال الله تعالى‏: ‏{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}‏ ‏[‏الشرح‏: 7، 8‏]‏ قال النبي {{صل}} لابن عباس‏: ‏(‏إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله‏)‏‏. وفي [[الترمذي]] ‏(‏ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر‏)‏، وفي الصحيح، أنه قال لعدى بن مالك والرهط الذين بايعهم معه‏: ‏(‏لا تسألوا الناس شيئا‏)‏ فكان سوط أحدهم يسقط من يده، فلا يقول لأحد‏: ناولني إياه، وفي الصحيح في حديث السبعين ألفا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب‏: ‏(‏هم الذين لا يَسْتَرقوُن، ولا يَكْتَوُون، ولا يتَطيَّرُون‏)‏، والاسترقاء طلب الرقية، وهو نوع من السؤال‏.
 
وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة كقوله‏: ‏(‏لا تحل المسألة إلا لثلاثة‏. ‏‏. ‏‏)‏، وقوله‏: ‏(‏لأن يأخذ أحدكم حبله‏. ‏‏. ‏‏. ‏‏)‏ الحديث، وقوله‏: ‏(‏لا تزال المسألة بأحدهم‏. ‏‏. ‏‏. ‏‏)‏، وقوله‏: ‏(‏من سأل الناس وله ما يغنيه‏. ‏‏. ‏‏. ‏‏)‏، وأمثال ذلك‏. وقوله‏: ‏(‏من نزلت به فاقَةٌ فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته‏)‏ الحديث‏. ‏
 
فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم، فليس من هذا الباب؛ لأن المخبرلا ينقص الجواب من علمه بل يزداد بالجواب، والسائل محتاج إلى ذلك، قال {{صل}}‏: ‏(‏هلا سألوا إذا لم يعلموا ‏؟‏ فإن شفاء العىِّ السؤال‏)‏‏. ولكن من المسائل ما ينهى عنه، كما قال تعالى‏: ‏{لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء}‏ ‏[‏المائدة‏: 101‏]‏‏. ‏وكنهيه عن أغلوطات المسائل ونحو ذلك‏.
 
وأما سؤله لغيره أن يدعو له‏: فقد قال النبي {{صل}} لعمر‏: ‏(‏لا تنسنا من دعائك‏)‏، وقال‏: ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلَّى عليّ مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّتْ له شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وقد يقال في هذا‏: هو طلب من الأمة الدعاء له؛ لأنهم إذا دعوا له حصل لهم من الأجر أكثر مما لو كان الدعاء لأنفسهم‏. كما قال للذى قال‏: أجعل صلاتى كلها عليك ‏؟‏ فقال‏: ‏(‏إذًا يَكْفِيكَ الله ما أهَمَّكَ من أمر دنياك وآخرتك‏)‏، فطلبه منهم الدعاء له لمصلحتهم، كسائر أمره إياهم بما أمر به، وذلك لما في ذلك من المصلحة لهم، فإنه قد صح عنه أنه قال‏: ‏(‏ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا دعوة قال الملك الموكل به‏: آمين ولك مثله‏)‏‏.
 
 
===فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع===
فإن الإسلام مبني على أصلين‏:
 
* أحدهما‏: أن نعبد الله وحده لا شريك له‏.
 
* والثاني‏: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله {{صل}}، لا نعبده بالأهواء والبدع.
 
قال الله تعالى‏: ‏{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ الله شيئا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالله وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}‏ الآية ‏[‏الجاثية‏: ‏18، 19‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله}‏ ‏[‏الشورى‏: ‏21‏]‏‏.
 
فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله {{صل}}، من واجب ومستحب، لا نعبده بالأمور المبتدعة، كما ثبت في السنن من حديث الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ‏. قال [[الترمذي]]‏: حديث حسن صحيح‏. وفي مسلم أنه كان يقول في خطبته‏: ‏(‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد {{صل}}، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.
 
وليس لأحد أن يعبد إلا الله وحده، فلا يصلى إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا بيت الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يخاف إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله‏. وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو لِيَصْمُتْ‏)‏‏. وفي السنن‏: ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏، وعن ابن مسعود‏: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا؛ لأن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله توحيد‏. وتوحيد معه كذب، خير من شرك معه صدق، ولهذا كان غاية الكذب أن يعدل بالشرك، كما قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏عدلت شهادة الزور الإشراك بالله‏)‏ مرتين أو ثلاثا‏. وقرأ قوله تعالى‏: ‏{وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}‏ ‏[‏الحج‏: 31‏]‏، وإذا كان الحالف بغير الله قد أشرك، فكيف الناذر لغير الله‏؟‏ والنذر أعظم من الحلف؛ ولهذا لو نذر لغير الله فلا يجب الوفاء به، باتفاق المسلمين‏. مثل أن ينذر لغير الله صلاة، أو صوما، أو حجا، أو عمرة، أو صدقة‏.
 
ولو حلف ليفعلن شيئا، لم يجب عليه أن يفعله، قيل‏: يجوز له أن يكفر عن اليمين، ولا يفعل المحلوف عليه، كما قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليُكَفِّر عن يمينه‏)‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}}‏: أنه نهى عن النذر وقال‏: ‏(‏إنه لا يأتى بخير، وإنما يستخرج به من البخيل‏)‏، فإذا كان النذر لا يأتى بخير فكيف بالنذر للمخلوق‏؟‏ ولكن النذر لله يجب الوفاء به إذا كان في طاعة، وإذا كان معصية لم يجز الوفاء باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا‏: هل فيه بدل، أو كفارة يمين، أم لا ‏؟‏ لما رواه [[البخاري]] في صحيحه، عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من نَذَرَ أن يطيع الله فَلْيُطِعْه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يَعْصِه‏)‏‏.
 
فمن ظن أن النذر للمخلوقين يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، فهو من الضالين كالذين يظنون أن عبادة المخلوقين تجلب لهم منفعة، أو تدفع عنهم مضرة‏.
 
وهؤلاء المشركون قد تتمثل لهم الشياطين، وقد تخاطبهم بكلام، وقد تحمل أحدهم في الهواء، وقد تخبره ببعض الأمور الغائبة، وقد تأتيه بنفقة أو طعام، أو كسوة، أو غير ذلك، كما جرى مثل ذلك لعباد الأصنام من العرب وغير العرب، وهذا كثير، موجود في هذا الزمان، وغير هذا الزمان، للضالين المبتدعين المخالفين للكتاب والسنة، إما بعبادة غير الله، وإما بعبادة لم يشرعها الله‏.
 
وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئا خارقا للعادة لم يخرج عن أن يكون حالا شيطانيا، أو محالا بهتانيا فخواصهم تقترن بهم الشياطين، كما يقع لبعض العقلاء منهم، وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء، لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة، إما كفر، وإما فسق، وإما جهل بالشرع‏. فإن الشيطان قصده إغواء بحسب قدرته، فإن قدر على أن يجعلهم كفارًا جعلهم كفارًا وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقا، أو عصاة، وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم، ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله {{صل}} فينتفع منهم بذلك‏!‏
 
ولهذا قال الأئمة‏: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشى على الماء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي، ولهذا يوجد كثير من الناس يطير في الهواء وتكون الشياطين هى التي تحمله، لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين‏.
 
ومن هؤلاء‏: من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس، ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة، ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله، ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا، وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأن الحج الذي أمر الله به ورسوله لا بد فيه من الإحرام، والوقوف بعرفة، ولا بد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة؛ فإنه ركن لا يتم الحج إلا به، بل عليه أن يقف بمزدلفة، ويرمى الجمار ويطوف للوداع، وعليه اجتناب المحظورات، والإحرام من الميقات، إلى غير ذلك من واجبات الحج‏. وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم في الهواء، يحمل أحدهم بثيابه، فيقف بعرفة ويرجع من تلك الليلة‏. حتى يرى في اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة‏.
 
ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة، فيراه من يعرفه واقفًا، فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة ‏!‏ فإذا قال له ذلك الشيخ‏: أنا لم أذهب العام إلى عرفة، ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ومثل هذا وأمثاله يقع كثيرًا، وهى أحوال شيطانية، قال تعالى‏: ‏{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏36‏]‏‏. وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزله على نبيه {{صل}}، قال تعالى‏: ‏{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏9‏]‏ وقال تعالى‏: ‏{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}‏ إلى قوله‏: ‏‏{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}‏ ‏[‏طه‏: 123-126‏]‏ ونسيانها هو ترك الإيمان والعمل بها، وإن حفظ حروفها، قال ابن عباس‏: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألا يَضِلَّ في الدنيا، ولا يَشْقَى في الآخرة وقرأ هذه الآية، فمن اتبع ما بعث الله به رسوله محمدًا {{صل}} من الكتاب والحكمة هداه الله وأسعده، ومن أعرض عن ذلك ضل وشقى، وأضله الشيطان وأشقاه‏.
 
فالأحوال الرحمانية وكرامات أوليائه المتقين يكون سببه الإيمان، فإن هذه حال أوليائه‏: قال تعالى‏: ‏{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} ‏[‏يونس‏: 62-63‏]‏ وتكون نعمة لله على عبده المؤمن في دينه ودنياه، فتكون الحجة في الدين والحاجة في الدنيا للمؤمنين، مثل ما كانت معجزات نبينا محمد {{صل}}‏: كانت الحجة في الدين والحاجة للمسلمين، مثل البركة التي تحصل في الطعام والشراب، كنبع الماء من بين أصابعه، ومثل نزول المطر بالاستسقاء، ومثل قهر الكفار وشفاء المريض بالدعاء، ومثل الأخبار الصادقة، والنافعة بما غاب عن الحاضرين، وأخبار الأنبياء لا تكذب قط‏.
 
وأما أصحاب الأحوال الشيطانية، فهم من جنس الكهان، يكذبون تارة ويصدقون أخرى، ولا بد في أعمالهم من مخالفة للأمر، قال تعالى‏: ‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏221‏: 222‏]‏‏.
 
ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء ملابسا الخبائث من النجاسات والأقذار، التي تحبها الشياطين، ومرتكبا للفواحش، أو ظالما للناس في أنفسهم وأموالهم، وغير ذلك، والله تعالى قد حرم ‏{الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏: 33‏]‏
 
وأولياء الله هم الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور، وهذه جملة لها بسط طويل لا يتسع له هذا المكان، والله أعلم‏.
 
 
===فصل: جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم===
قد كتبتُ فيما تقدم في مواضع قبلُ بعض القواعد، وآخر مسودة الفقه‏: أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم، وهذا أصل جامع عظيم‏.
 
وتفصيل ذلك‏: أن الله خلق الخلق لعبادته، فهذا هو المقصود المطلوب لجميع الحسنات، وهو إخلاص الدين كله لله، وما لم يحصل فيه هذا المقصود، فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة، وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا، وكل ما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم‏.
 
ولهذا؛ جمع بينهما سبحانه في قوله‏: ‏{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}‏ ‏[الأعراف‏: 29‏]‏ فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين، والاعتصام بالكتاب، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم؛ كإبليس، ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب، فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب، ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء، أو بعضه ككفار أهل الكتاب‏.
 
وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين:
 
أحدهما‏: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك، ونهى عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات،
 
* فالأول‏: شرع من الدين ما لم يأذن به الله‏. ‏
 
* والثاني‏: تحريم لما لم يحرمه الله‏.
 
وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار، عن النبي {{صل}}، عن الله تعالى‏: ‏(‏إني خلقت عبدي حُنَفَاء فاجتالتهم الشياطين، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا‏)‏‏.
 
ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة، من الشرك ونحوه، هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة، والمتصوفة‏. وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة، بل أصل دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات؛ ولهذا قال لهم المسيح‏: ‏{وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏50‏]‏، وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة، وأفعال مجملة، فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما قررته في غير هذا الموضع‏: بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له، والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك، فإن إخلاص الدين لله أصل العدل، كما أن الشرك بالله ظلم عظيم‏.
 
 
===الشرك بالله أعظم الذنوب===
اعلم رحمك الله أن الشرك بالله أعظم ذنب عُصى الله به، قال الله تعالى‏: ‏{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن}‏ ‏[النساء‏: 48، 116‏]‏ وفي الصحيحين أنه {{صل}} سئل‏: ‏أى الذنب أعظم ‏؟‏ قال‏: ‏(‏أن تجعل لله ندا وهو خلقك‏)‏‏!‏ والند المثل‏. قال تعالى‏: ‏{فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏البقرة‏: 22]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَجَعَلَ لله أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}‏ ‏[الزمر‏: 8‏]‏ فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة‏.
 
فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود، الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلها‏؟‏ قال الله تعالى‏: ‏{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏15]‏ وقال تعالى‏: ‏{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}‏‏ [‏مريم‏: 93‏]‏، وقال الله تعالى‏: ‏{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}‏ ‏[‏النساء‏: 172‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}‏ ‏[‏الذاريات‏: 51‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}‏ ‏[‏الزمر‏: 11]‏، فالله سبحانه هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى ‏: ‏‏{الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 2‏]‏، فذكر ‏(‏الحمد‏)‏ بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 5‏]‏‏. فهذا تفصيل لقوله‏: ‏{الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ}‏‏ . فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله‏: ‏‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}‏ إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته‏: من المحبة والخوف، والرجاء، والأمر، والنهي‏. ‏‏ {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ إشارة إلى ما اقتضته الربوبية، من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب سبحانه وتعالى هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء‏.
 
فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى‏: ‏{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}‏ ‏[‏الملك ‏: ‏1‏]‏ فلا يرى نفعا، ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله سبحانه وتعالى فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه‏. فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية‏. والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات‏.
 
فالتحقيق بالأمر والنهي، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية‏.
 
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير السارى في الأكوان، كما قال الله عز وجل‏: ‏‏{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}‏ ‏[‏النحل‏: 40‏]‏‏. فإذا تحقق العبد لهذا المشهد، ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم، والجمال داخل في مشهد الربوبية‏.
 
ولهذا قيل‏: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي، والمحبة والخوف والرجاء، كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم، وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك‏.
 
ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها، وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهي والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرَّمِيَّةِ‏.
 
وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله، لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة؛ أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين‏: الأمر الشرعي، ومشهد الأمر الكوني الإرادي‏. وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثيرة من السالكين؛ لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين؛ وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه، ففنوا بمرادهم عن مراد الحق عز وجل منهم؛لأن الحق يغني بمراده ومحبوبه، ولو عبدوا الله على مراده منهم لم ينلهم شيء من ذلك؛لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظا لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته، بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه ؛كما قال {{صل}} لما سئل عن الإحسان‏: ‏‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏، والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده، ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه‏.
 
فإذا تقرر هذا، فالشرك إن كان شركا يكفر به صاحبه، وهو نوعان ‏:
 
شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية‏.
 
فأما الشرك في الإلهية فهو‏: أن يجعل لله ندا، أي‏: مثلا في عبادته، أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى‏: ‏‏{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏38‏]‏ وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله {{صل}} مشركى العرب؛ لأنهم أشركوا في الإلهية، قال الله تعالى‏: ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله}‏ الآية ‏[‏البقرة ‏: ‏165‏]‏، وقالوا‏: ‏‏{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى}‏ الآية ‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏، وقالوا‏: ‏{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}‏ ‏!‏ ‏[‏ص‏: 5‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}‏ إلى قوله‏: ‏{الَّذِي جَعَلَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}‏ ‏[‏ق‏: 24‏: 26‏]‏‏.
 
وقال النبي {{صل}} لحُصَيْن‏: ‏(‏كم تعبد ‏؟‏‏)‏ قال‏: ستة في الأرض وواحد في السماء‏. قال‏: ‏(‏فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ‏؟‏‏)‏ قال‏: الذي في السماء‏. قال‏: ‏(‏ألا تسلم فأعلمك كلمات ‏؟‏‏)‏ فأسلم‏. فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏قل‏: اللهمَّ أَلْهِمْني رشْدي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي‏)‏‏.
 
وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى‏: ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله}‏ ‏[‏لقمان‏: 25‏]‏، وقال‏: ‏{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}‏ إلى قوله‏: ‏{قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}‏ ‏؟‏ ‏[‏المؤمنون‏: 84- 89‏]‏، وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هى التي تُنَزِّل الغَيْثَ، وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم كما ذكرناه‏: اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله تعالى، فقد أشرك، وهذا كقوله‏: ‏{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏96-98‏]‏‏. وكذا من خاف أحدا كما يخاف الله، أو رجاه كما يرجو الله، وما أشبه ذلك‏.
 
وأما النوع الثاني‏: فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطى المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطى أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته‏.
 
ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك، فلينظر إلى المعطى الأول مثلا، فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه، لقوله عليه السلام‏: ‏(‏من أسْدَى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه‏)‏ لأن النعم كلها لله تعالى، كما قال تعالى‏: ‏{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله}‏ ‏[‏النحل‏: ‏53‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{كُلا نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏20‏]‏، فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها، وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطى هو الذي أعطاه، وحرك قلبه لعطاء غيره‏. فهو الأول والآخر‏.
 
ومما يقوي هذا المعنى قوله {{صل}} لابن عباس رضى الله عنهما‏: ‏(‏واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجَفَّت الصُّحُفُ‏)‏‏. قال [[الترمذي]]‏: هذا حديث صحيح‏. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله، ولا يضر غيره، وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية‏.
 
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لَوْمِه وذَمِّه إياهم، وتجرَّد التوحيد في قلبه، فقوى إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفُضَيْل بن عياض رحمه الله ‏: من عرف الناس استراح‏. يريد والله أعلم أنهم لا ينفعون ولا يضرون‏.
 
وأما الشرك الخفي‏: فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، مثل‏: أن يحب مع الله غيره‏.
 
فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين، والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب؛ لأن هذه تدل على حقيقة المحبة، لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته امتنعت مخالفته؛ لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة، ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى‏: ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: 31‏]‏‏. فَلَيْسَ الكَلام في هذا‏. إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى، فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله، وهو دليل على نقص محبة الله تعالى، إذ لو كملت محبته، لم يحب سواه‏.
 
ولا يرد علينا الباب الأول؛ لأن ذلك داخل في محبته‏. وهذا ميزان لم يجر عليك، كلما قويت محبة العبد لمولاه، صغرت عنده المحبوبات وقلت، وكلما ضعفت، كثرت محبوباته وانتشرت
 
وكذا الخوف، والرجاء، وما أشبه ذلك، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه، قال الله تعالى‏: ‏{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏39‏]‏، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء وغيره، فهذا هو الشرك الخفي، الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، إلا من عصمه الله تعالى‏. وقد روى أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل‏.
 
وطرق التخلص من هذه الآفات كلها‏: الإخلاص لله عز وجل، قال الله تعالى‏: ‏‏{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}‏ ‏[‏الكهف‏: ‏110‏]‏، ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد، ولا زهد إلا بتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهي‏.
 
 
===فصل: قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل===
ولا بد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به فتقل آفاتها أو تذهب عنها بالكلية، بحول الله وقوته‏.
 
فنقول‏: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة‏: المحبة، والخوف، والرجاء‏. وأقواها المحبة، وهى مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة، قال الله تعالى‏: ‏{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: 62‏]‏، والخوف المقصود منه‏: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن ينتبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبدا لله لا لغيره‏.
 
فإن قيل‏: ‏فالعبد في بعض الأحيان، قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه، فأى شيء يحرك القلوب ‏؟‏ قلنا‏: يحركها شيئان ‏:
 
أحدهما‏: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به، ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير، فقال تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏: 41-42‏]‏
 
والثاني‏: مطالعة آلائه ونعمائه، قال الله تعالى‏: ‏‏{فَاذْكُرُواْ آلاء الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏: 69‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله}‏ ‏[‏النحل‏: ‏53‏]‏‏. وقال تعالى‏: ‏{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطِنَةً}‏ ‏[‏لقمان‏: 20‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا}‏ ‏[‏إبراهيم‏: 34‏]‏‏.
 
فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه، من تسخير السماء والأرض، وما فيها من الأشجار والحيوان، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة، من الإيمان وغيره، فلا بد أن يثير ذلك عنده باعثا، وكذلك الخوف، تحركه مطالعة آيات الوعيد، والزجر، والعرض، والحساب ونحوه، وكذلك الرجاء، يحركه مطالعة الكرم، والحلم، والعفو‏.
 
وما ورد في الرجاء والكلام في التوحيد واسع‏. وإنما الغرض التنبيه على تضمنه الاستغناء بأدنى إشارة، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ‏.
 
 
===فصل: ذكر مناظرة إبراهيم للمشركين===
وَقَال شيخ الإسلام رحمه الله‏:
 
ذكر الله عن إمامنا إبراهيم خليل الله أنه قال لمناظريه من المشركين الظالمين‏: ‏{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عليكم سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الذي نَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 81، 82‏]‏‏.
 
وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود؛ أن النبي {{صل}} فسر الظلم بالشرك وقال‏: ‏(‏ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏: ‏{إن الشرك لظلم عظيم}‏‏؟‏‏)‏‏. فأنكر أن نخاف ما أشركوهم بالله من جميع المخلوقات العلويات والسفليات، وعدم خوفهم من إشراكهم بالله شريكا لم ينزل الله به سلطانًا، وبين أن القسم الذي لم يشرك هو الآمن المهتدى‏.
 
وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع، فإن الإشراك في هذه الأمة أخفي من دَبِيب النمل، دع جليله، وهو شرك في العبادة والتأله، وشرك في الطاعة والانقياد، وشرك في الإيمان والقبول‏.
 
فالغالية من النصارى والرافضة وضُلال الصوفية والفقراء والعامة، يشركون بدعاء غير الله تارة، وبنوع من عبادته أخرى، وبهما جميعًا تارة، ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة‏.
 
وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك، وأتباع القضاة، والعامة المتبعة لهؤلاء، يشركون شرك الطاعة، وقد قال النبي {{صل}} لعُدِىّ بن حاتم لما قرأ‏: ‏{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}‏ ‏[‏التوبة‏: 31‏]‏ فقال‏: يا رسول الله، ما عبدوهم‏؟‏ فقال‏: ‏(‏ما عبدوهم، ولكن أحَلُّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم‏)‏‏.
 
فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرمه، والحلال ما حلله، والدين ما شرعه، إما دينًا وإما دنيا، وإما دنيا ودينًا‏. ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك، وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا في طاعته بغير سلطان من الله، وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول، وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك‏.
 
وأما الشرك الثالث‏: فكثير من أتباع المتكلمة، والمتفلسفة، بل وبعض المتفقهة والمتصوفة، بل وبعض أتباع الملوك والقضاة، يقبل قول متبوعه فيما يخبر به من الاعتقادات الخبرية، ومن تصحيح بعض المقالات وإفساد بعضها، ومدح بعضها، وبعض القائلين، وذم بعض، بلا سلطان من الله‏. ويخاف ما أشركه في الإيمان والقبول، ولا يخاف إشراكه بالله شخصًا في الإيمان به، وقبول قوله بغير سلطان من الله‏.
 
وبهذا يخرج من شرع الله تصديقه من المرسلين، والعلماء المبلغين، والشهداء الصادقين، وغير ذلك‏. فباب الطاعة والتصديق ينقسم إلى مشروع في حق البشر وغير مشروع‏.
 
وأما العبادة والاستعانة والتأله، فلا حق فيها للبشر بحال، فإنه كما قال القائل‏: ما وضعت يدى في قَصْعَةِ أحد إلا ذللت له ‏!‏ ولا ريب أن من نصرك ورزقك كان له سلطان عليك، فالمؤمن يريد ألا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله، ولمن أطاع الله ورسوله، وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه، فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه، كان حسنًا محمودًا، يصح له دينه بذلك، وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمراءاة بالحال الأولى كان مذمومًا، وقد يقصد بترك الأخذ غني نفسه عنهم ويترك أموالهم لهم‏.
 
فهذه أربع مقاصد صالحة‏: غني نفسه وعزتها حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم، وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم، فلا يذهبها عنهم، ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه، ففي ذلك منفعة له ألا يذل ولا يفتقر إليهم، ومنفعة لهم أن يبقى لهم مالهم ودينهم، وقد يكون في ذلك منفعة بتأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم لهم، حتى يقبلوا منه، ويتألفون بالعطاء لهم، فكذلك في إبقاء أموالهم لهم، وقد يكون في ذلك أيضا حفظ دينهم، فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضا في أنواع من المعاصي، ويتركون أنواعا من الطاعات، فلا يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك منافع ومقاصد أخر صالحة‏.
 
وأما إذا كان الأخذ يفضي إلى طمع فيه حتى يستعان به في معصية أو يمنع من طاعة، فتلك مفاسد أخر، وهى كثيرة ترجع إلى ذله وفقره لهم، فإنهم لا يتمكنون من منعه من طاعة إلا إذا كان ذليلًا أو فقيرًا إليهم، ولا يتمكنون هم من استعماله في المعصية إلا مع ذله أو فقره، فإن العطاء يحتاج إلى جزاء ومقابلة، فإذا لم تحصل مكافأة دنيوية من مال أو نفع لم يبق إلا ما ينتظر من لمنفعة الصادرة منه إليهم‏.
 
وللرد وجوه مكروهة مذمومة، منها‏: الرد مراءاة بالتشبه بمن يرد غني وعزة ورحمة للناس في دينهم ودنياهم، ومنها‏: التكبر عليهم والاستعلاء حتى يستعبدهم، ويستعلى عليهم بذلك، فهذا مذموم أيضا‏. ومنها‏: البخل عليهم فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم، ويقضى حوائجهم، فقد يترك الأخذ بُخْلا عليهم بالمنافع‏. ومنها‏: الكسل عن الإحسان إليهم، فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء‏: الكبر، والرياء، والبخل، والكسل‏.
 
فالحاصل‏: أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه، أو لدفع المضرة عنها، أو لجلب المنفعة للناس، أو دفع المضرة عنهم، فإن في ترك أخذه غني نفسه وعزها، وهو منفعة لها، وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد، وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم، ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلًا قد يضرهم، وقد يتركه لمضرة الناس، أو لترك منفعتهم، فهذا مذموم كما تقدم، وقد يكون في الترك أيضا مضرة نفسه، أو ترك منفعتها، إما بأن يكون محتاجًا إليه فيضره تركه، أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا، فيتركها من غير معارض مقاوم؛ فلهذا فصلنا هذه المسألة، فإنها مسألة عظيمة، وبإزائها مسألة القبول أيضا، وفيها التفصيل، لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول؛ ولهذا يعظم الناس هذا الجنس أكثر، وإذا صح الأخذ كان أفضل، أعني الأخذ والصرف إلى الناس‏.
 
 
 
===سئل الشيخ عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم===
سئل الشيخ رحمه الله عمن قال‏: يجوز الاستغاثة بالنبي {{صل}} في كل ما يستغاث الله تعالى فيه‏: على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله تعالى فيه‏.
 
وأما من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو غيرهما مما هو في معناهما، وقول القائل‏: أتوسل إليك يا إلهي برسولك ‏!‏ أو أستغيث برسولك عندك، أن تغفر لي، استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم‏.
 
قال‏: ولم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص، قديما وحديثا، وأنه يصح إسنادها للمخلوقين، وأنه يستغاث بهم على سبيل التوسل، وأنها مطلقة على كل من سأل تفريج الكربة بواسطة التوسل به، وأن ذلك صحيح في أمر الأنبياء والصالحين‏.
 
قال‏: وفيما رواه الطبرإني عن النبي {{صل}}‏: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قال‏: استغيثوا برسول الله {{صل}} من هذا المنافق، فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله‏)‏‏. أن النبي {{صل}} لو نفي عن نفسه أنه يستغاث به، ونحو ذلك، يشير به إلى التوحيد، وإفراد البارى بالقدرة، لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك، ونجوز أن نطلق أن النبي {{صل}} والصالح يستغاث به، يعني في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، ولا يحتاج أن يقول على سبيل أنه وسيلة وواسطة، وأن القائل لا يستغاث به متنقصا له، وأنه كافر بذلك، لكنه يعذر إذا كان جاهلا، فإذا عرف معنى الاستغاثة ثم أصر على قوله بعد ذلك صار كافرًا
 
والتوسل به استغاثة به كما تقدم، فهل يعرف أنه قال أحد من علماء المسلمين‏: إنه يجوز أن يستغاث بالنبي {{صل}} والصالح، في كل ما يستغاث به الله تعالى‏؟‏ وهل يجوز إطلاق ذلك‏؟‏ كما قال القائل، وهل التوسل بالنبي {{صل}} أو الصالح أو غيرهما إلى الله تعالى في كل شيء استغاثة بذلك المتوسل به‏؟‏ كما نقله هذا القائل عن جميع اللغات، وسواء كان التوسل بالنبي {{صل}} أو الصالح استغاثة به، أو لم يكن، فهل يعرف أن أحدا من العلماء قال‏: إنه يجوز التوسل إلى الله بكل نبي وصالح‏؟‏ فقد أفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في فتاويه المشهورة‏: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي {{صل}} إن صح الحديث فيه، فهل قال أحد خلاف ما أفتى به الشيخ المذكور ‏؟‏
 
وبتقدير أن يكون في المسألة خلاف، فمن قال‏: لا يتوسل بسائر الأنبياء والصالحين، كما أفتى الشيخ عز الدين‏؟‏ هل يكفر كما كفره هذا القائل‏؟‏ ويكون ما أفتى به الشيخ كفرًا، بل نفس التوسل به لو قال قائل‏: لا يتوسل به، ولا يستغاث به، إلا في حياته وحضوره، لا في موته ومغيبه، هل يكون ذلك كفرًا‏؟‏ أو يكون تنقصا ‏؟‏
 
ولو قال‏: ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يستغاث فيه إلا بالله، أي‏: لا يطلب إلا من الله تعالى هل يكون كفرًا، أو يكون حقا‏؟‏ وإذا نفي الرسول {{صل}} عن نفسه أمرًا من الأمور لكونه من خصائص الربوبية، هل يحرم عليه أن ينفيه عنه أم يجب، أم يجوز نفيه‏؟‏ أفتونا رحمكم الله بجواب شاف كاف، موفقين مثابين إن شاء الله تعالى‏.
 
 
'''الجواب'''
 
الحمد لله رب العالمين‏. لم يقل أحد من علماء المسلمين‏: إنه يستغاث بشيء من المخلوقات، في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، لا بنبي، ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز إطلاقه‏.
 
ولم يقل أحد‏: إن التوسل بنبي، هو استغاثة به، بل العامة الذي ن يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم‏: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، أو غير ذلك، مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي {{صل}} طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به‏.
 
والاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى‏: ‏{وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكم النَّصْرُ}‏ ‏[‏الأنفال‏: 72‏]‏، وكما قال‏: ‏{فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ}‏ ‏[‏القصص‏: 15‏]‏، وكما قال تعالى‏: ‏{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏2‏]‏‏.
 
وأمَّا ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من الله؛ ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي {{صل}} ويستسقون به، ويتوسلون به، كما في [[صحيح البخاري]]‏: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال‏: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون‏.
 
وفي [[سنن أبي داود]]‏: أن رجلًا قال للنبي {{صل}}‏: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال‏: ‏(‏شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه‏)‏‏.
 
فأقره على قوله‏: نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله‏: نستشفع بالله عليك‏.
 
وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب‏.
 
وقول القائل‏: إن من توسل إلى الله بنبي، فقال‏: أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول به مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه، والنبي {{صل}} أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك‏.
 
ولو قال قائل لمن يستغيث به‏: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد‏: إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعا، وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى‏: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال‏.
 
والتوسل إلى الله بغير نبينا {{صل}} سواء سُمِّىَ أو لم يُسَمَّ لا نعلم أحدًا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرًا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع، وأما التوسل بالنبي {{صل}}، ففيه حديث في السنن، رواه [[النسائي]] و[[الترمذي]] وغيرهما‏: أن أعرابيًا أتى النبي {{صل}} فقال‏: يا رسول الله، إني أصبت في بصرى فادع الله لي، فقال له النبي {{صل}}‏: ‏(‏توضأ وصلِّ ركعتين، ثم قل‏: اللهم أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد، إني أتَشَفَّع بك في ردّ بَصَرى‏. اللهم شَفِّع نبيك في‏)‏، وقال‏: ‏(‏فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك‏)‏ فرد الله بصره‏. فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به‏.
 
وللناس في معنى هذا قولان‏:
 
أحدهما‏: أن هذا التوسل هو الذي ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قاله‏: كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فقد ذكر عمر رضي الله عنه ‏: ‏أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه، والنبي {{صل}} كان في مثل هذا شافعًا لهم، داعيا لهم؛ ولهذا قال في حديث الأعمى‏: اللهم فشفعه في، فعلم أن النبي {{صل}} شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه‏.
 
والثاني‏: أن التوسل يكون في حياته، وبعد موته، وفي مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد‏: إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية، ليست أدلتها جلية ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها، ونحو ذلك‏. واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم‏: هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح‏؟‏ وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين‏.
 
وأما من قال‏: إن من نفي التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المُكَفِّر بمثل هذه الأمور، يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله، من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي {{صل}}‏: ‏(‏من قال لأخيه‏: كافر فقد باء بها أحدهما‏)‏‏.
 
وأما من قال‏: ما لا يقدر عليه إلا الله لا يستغاث فيه إلا به، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد‏: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد الله القرشي‏: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي {{صل}} لابن عباس‏: ‏(‏إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله‏)‏‏.
 
وإذا نفي الرسول عن نفسه أمرًا كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به، من نفي، وإثبات، وعلىنا أن نصدقه في كل ما أخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيما له، أشبه النصارى، الذي ن كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية، تعظيما له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، والله أعلم‏.
 
 
 
===سئل الشيخ عمن يقول لا يستغاث برسول الله===
وسئل شيخ الإسلام تقى الدين بن تيمية رضي الله عنه‏:
 
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وفقهم الله لطاعته، فيمن يقول‏: لا يستغاث برسول الله {{صل}}، هل يحرم عليه هذا القول، وهل هو كفر أم لا‏؟‏ وإن استدل بآيات من كتاب الله وأحاديث رسوله {{صل}} هل ينفعه دليله أم لا‏؟‏ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يخالف ذلك‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.
 
'''فأجاب'''
 
الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة، واتفاق الأمة‏: أن نبينا {{صل}} الشافع المشفع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به، يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم وأنه يشفع لهم‏.
 
ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد‏.
 
وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين، وهؤلاء مبتدعة ضُلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل‏.
 
وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة، وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه ‏؟‏
 
وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، كما رواه [[البخاري]] في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال‏: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وفي [[سنن أبي داود]] وغيره أن أعرابيا قال للنبي {{صل}}‏: جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك‏. فسبح رسول الله {{صل}} حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال‏: ‏(‏ويحك، إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك‏)‏، وذكر تمام الحديث فأنكر قوله‏: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله‏: نستشفع بك على الله، بل أقره عليه، فعلم جوازه‏. فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل‏.
 
وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال‏: لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، ونحو ذلك فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضا‏. كما قال الله تعالى‏: ‏{وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله}‏ ‏[‏آل عمران‏: 135‏]‏، وقال‏: ‏{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاء}‏ ‏[‏القصص‏: 56‏]‏، وكما قال تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عليكم هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ}‏‏؟‏ ‏[‏فاطر‏: ‏3‏]‏، وكما قال تعالى‏: ‏{وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ الله}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏126‏]‏، وقال‏: ‏{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذي نَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}‏ ‏[‏التوبة‏: 40‏]‏‏.
 
فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعإني نفيًا وإثباتًا إن وجدت في كلام الله ورسوله، وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رجع فيه إليه‏.
 
وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله، فهذا يرد عليه فهمه‏. كما روى الطبرإني في معجمه الكبير‏: أنه كان في زمن النبي {{صل}} منافق يؤذى المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق‏: قوموا بنا لنستغيث برسول الله {{صل}} من هذا المنافق، فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله‏)‏، فهذا إنما أراد به النبي {{صل}} المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به، كما في [[صحيح البخاري]]، عن ابن عمر قال‏: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي {{صل}} يستسقي، فما ينزل حتى يجيش له كل ميزاب ‏:
 
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه**ثمال اليتامى عصمة للأرامل ‏!‏
 
وهو قول أبي طالب؛ ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى‏: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يدى غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجاز‏.
 
قالوا‏: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة، قالوا‏: واجتمعت الأمة على ذلك‏.
 
وقال أبو عبد الله الحليمى‏: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال‏: غياث المستغيثين، ومعناه المدرك‏: عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين‏: ‏(‏اللهم أغثنا، اللهم أغثنا‏)‏‏. يقال‏: أغاثه إغاثة وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى‏: ‏{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ }‏ ‏[‏الأنفال‏: 9‏]‏، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر‏.
 
قالوا ‏: ‏الفرق بين المستغيث والداعي‏: أن المستغيث ينادى بالغوث، والداعي ينادى بالمدعو والمغيث‏. وهذا فيه نظر، فإن من صيغة الاستغاثة يالله للمسلمين، وقد روى عن معروف الكرخى أنه كان يكثر أن يقول‏: واغوثاه، ويقول‏: إني سمعت الله يقول ‏: ‏‏{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}‏، وفي الدعاء المأثور‏: ‏(‏يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك‏)‏‏.
 
والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة، ففي الحديث‏: ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق‏)‏، وفيه ‏(‏أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏‏.
 
لهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله‏: ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامة‏)‏ قالوا‏: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق‏.
 
وكذلك القَسَم، قد ثبت في الصحيحين أن النبي {{صل}} قال‏: ‏(‏من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏، وفي لفظ‏: ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏ رواه [[الترمذي]] وصححه‏. ثم قد ثبت في الصحيح‏: الحلف ب ‏(‏عزة الله‏)‏، و ‏(‏لعمر الله‏)‏، ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهى عنه، والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال‏.
 
وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله {{صل}}‏: فهو أيضا مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها‏.
 
ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي‏: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي المشهور بالديار المصرية‏: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون‏.
 
وفي دعاء موسى عليه السلام ‏: ‏(‏اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق وكان مختصا بالله صح إطلاق نفيه عما سواه؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوَّز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكرعلى من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله‏.
 
وكذلك الاستغاثة أيضا، فيها ما لا يصلح إلا لله، وهى المشار إليها بقوله‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة ‏: ‏5‏]‏ فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله‏. وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال الله تعالى‏: ‏{وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}‏ ‏[‏الأنفال‏: 72‏]‏، والنصر المطلق هو خلق ما به يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله‏.
 
ومن خالف ما ثبت في الكتاب والسنة، فإنه يكون إما كافرا، وإما فاسقا، وإما عاصيا، إلا أن يكون مؤمنا مجتهدا مخطئًا فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة، فإن الله يقول‏: ‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}‏‏ [‏الإسراء‏: ‏15‏]‏‏. وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها‏: فإنه يعاقب بحسب ذلك، إما بالقتل، وإما بدونه‏. والله أعلم‏.
 
 
 
===فصل: سمى الله آلهة المشركين شفعاء===
وقال شيخ الإسلام ‏:
 
سَمَّى الله آلهتهم التي عبدوها من دونه شفعاء، كما سماها شركاء في غير موضع، فقال في يونس‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏الآية 18‏]‏، وقال‏: ‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شيئا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}‏ ‏[‏الزمر ‏: ‏43، 44‏]‏، ‏{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء}‏ ‏[‏الروم‏: 12، 13‏]‏‏.
 
وجمع بين الشرك والشفاعة في قوله‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22، 23‏]‏‏. فهذه الأربعة هى التي يمكن أن يكون لهم بها تعلق، الأول‏: ملك شيء ولو قل، الثاني‏: شركهم في شيء من الملك‏. فلا ملك ولا شركة ولا معاونة يصير بها ندا‏. فإذا انتفت الثلاثة بقيت الشفاعة فعلقها بالمشيئة‏.
 
وقال‏: ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئا}‏ ‏[‏النجم‏: 62‏]‏، وقال‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا}‏ الآيتين ‏[‏الإسراء‏: ‏56‏]‏، وقال في اتخاذهم قربانا‏: ‏{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏، وقال‏: ‏{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}‏ ‏[‏الأحقاف‏: ‏28‏]‏
 
 
 
===فصل: في الشفاعة المنفية في القرآن===
وقال شيخ الإسلام رحمه الله ‏:
 
في الشفاعة المنفية في القرآن، كقوله تعالى‏: ‏{وَاتَّقُواْ يَوْما لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: 48‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏123‏]‏، وقوله‏: ‏{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: 254‏]‏، وقوله‏: ‏{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}‏ ‏[‏الشعراء‏: 100، 101‏]‏، وقوله‏: ‏{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}‏ ‏[‏غافر‏: 18‏]‏، وقوله‏: ‏{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏53‏]‏، وأمثال ذلك‏.
 
واحتج بكثير منه الخوارج والمعتزلة على منع الشفاعة لأهل الكبائر؛ إذ منعوا أن يشفع لمن يستحق العذاب، أو أن يخرج من النار من يدخلها، ولم ينفوا الشفاعة لأهل الثواب في زيادة الثواب‏.
 
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة‏: إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، والقول بأنه يخرج من النار مَنْ في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏.
 
وأيضا، فالأحاديث المستفيضة عن النبي {{صل}} في الشفاعة‏: فيها استشفاع أهل الموقف ليقضى بينهم، وفيهم المؤمن والكافر، وهذا فيه نوع شفاعة للكفار‏. وأيضا، ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنه قال‏: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيء ‏؟‏ فإنه كان يَحُوطك ويغضب لك‏. قال‏: ‏(‏نعم هو في ضَحْضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏، وعن عبد الله بن الحارث قال‏: سمعت العباس يقول‏: قلت‏: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك ‏؟‏ قال‏: ‏(‏نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح‏)‏‏.
 
وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله {{صل}} ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال‏: ‏(‏لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه، يغلى منه دماغه‏)‏‏.
 
فهذا نص صحيح صريح لشفاعته في بعض الكفار أن يخفف عنه العذاب، بل في أن يجعل أهون أهل النار عذابا، كما في الصحيح أيضا عن ابن عباس‏: أن رسول الله {{صل}} قال‏: ‏(‏أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه‏)‏‏.
 
وعن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله {{صل}} قال‏: ‏(‏إن أدنى أهل النار عذابا منتعل بنعلين من نار، يغلى دماغه من حرارة نعليه‏)‏، وعن النعمان بن بشير قال‏: سمعت رسول الله {{صل}} يقول‏: ‏(‏إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان، يغلى منهما دماغه‏)‏، وعنه قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار، يغلى منهما دماغه، كما يغلى المِرْجَل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا‏)‏‏.
 
وهذا السؤال الثاني يضعف جواب من تأول نفي الشفاعة على الشفاعة للكفار، وإن الظالمين هم الكافرون‏. ‏‏. ‏‏. ‏‏.
 
فيقال‏: الشفاعة المنفية هى الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهى أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته، فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع، لم يكن مستقلا بالشفاعة، بل يكون مطيعا له أي تابعا له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة ويكون الأمر كله للآمر المسؤول‏.
 
وقد ثبت بنص القرآن في غير آية‏: أن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه‏. كما قال تعالى‏: ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏255‏]‏، وقال‏: ‏‏{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏ ‏[‏سبأ‏: ‏23‏]‏، وقال‏: ‏‏{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}‏ ‏[‏الأنبياء‏: 28‏]‏، وأمثال ذلك‏. والذي يبين أن هذه هى الشفاعة المنفية‏: أنه قال‏: ‏{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 51‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}‏ ‏[‏السجدة‏: 4‏]‏، فأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولىّ ولا شفيع‏.
 
وأما نفي الشفاعة بدون إذنه، فإن الشفاعة إذا كانت بإذنه لم تكن من دونه، كما أن الولاية التي بإذنه ليست من دونه، كما قال تعالى‏: ‏{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ}‏ ‏[‏المائدة‏: 55، 56‏]‏‏.
 
وأيضا، فقد قال‏: ‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شيئا وَلَا يَعْقِلُونَ
 
قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}‏ ‏[‏الزمر‏: 43، 44‏]‏، فذم الذين اتخذوا من دون الله شفعاء وأخبر أن لله الشفاعة جميعا، فعلم أن الشفاعة منتفية عن غيره؛ إذ لا يشفع أحد إلا بإذنه، وتلك فهى له‏. ‏وقد قال‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: 18‏]‏‏.
 
ومما يوضح ذلك ‏: ‏أنه نفى يومئذ الخلة بقوله‏: ‏‏{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}‏ ‏[‏البقرة‏: 254‏]‏ ومعلوم أنه إنما نفى الخلة المعروفة، ونفعها المعروف كما ينفع الصديق الصديق في الدنيا، كما قال‏: ‏{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شيئا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}‏‏ [‏الانفطار‏: ‏17-19‏]‏، وقال‏: ‏{لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}‏ ‏[‏غافر‏: 15، 16‏]‏، لم يَنْفِ أن يكون في الآخرة خلة نافعة بإذنه، فإنه قد قال‏: ‏‏{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}‏ الآيات ‏[‏الزخرف‏: ‏67، 68‏]‏، وقد قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏يقول الله تعالى‏: حَقَّْتْ مَحَبَّتِى لِلْمُتحَابِينَ في‏)‏، ويقول الله تعالى‏: ‏(‏أَيْنَ المُتَحَابُّونَ بِجَلالِى ‏؟‏ الْيَوْمَ أَظِلُّهُمْ في ظِلِّى يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظلِّى‏)‏‏.
 
فتعين أن الأمر كله عائد إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يُنفع أحد ولا يضر إلا بإذن الله، وأنه لا يجوز أن يُعبد أحد غير الله، ولا يُستعان به من دون الله، وأنه يوم القيامة يظهر لجميع الخلق أن الأمر كله لله، ويتبرأ كل مدع من دعواه الباطلة، فلا يبقى من يدعى لنفسه معه شركا في ربوبيته، أو إلهيته، ولا من يدعى ذلك لغيره‏. بخلاف الدنيا، فإنه وإن لم يكن رب ولا إله إلا هو فقد اتُخذ غيره ربا وإلها، وادعى ذلك مدعون‏.
 
وفي الدنيا يشفع الشافع عند غيره، وينتفع بشفاعته وإن لم يكن أذن له في الشفاعة، ويكون خليله، فيعينه ويفتدى نفسه من الشر، فقد ينتفع بالنفوس والأموال في الدنيا، النفوس ينتفع بها تارة بالاستقلال، وتارة بالإعانة وهى الشفاعة، والأموال بالفداء، فنفى الله هذه الأقسام الثلاثة‏. قال تعالى‏: ‏{لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: 48‏]‏، وقال‏: ‏{لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: 254‏]‏، كما قال‏: ‏{لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شيئا}‏ ‏[‏لقمان‏: 33‏]‏، فهذا هذا والله أعلم‏.
 
وعاد ما نفاه الله من الشفاعة إلى تحقيق أصلي الإيمان، وهى الإيمان بالله وباليوم الآخر، التوحيد والمعاد، كما قرن بينهما في مواضع كثيرة، كقوله‏: ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ}‏ ‏[‏البقرة‏: 8‏]‏، وقوله‏: ‏{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}‏ ‏[‏البقرة‏: 156‏]‏، وقوله‏: ‏{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}‏ ‏[‏لقمان‏: 28‏]‏، وقوله‏: ‏{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله وَكُنتُمْ أَمْوَاتا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}‏ ‏[‏البقرة‏: 28‏]‏‏. وأمثال ذلك ‏.
 
 
===سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله===
سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:
 
عن رجلين تناظرا، فقال أحدهما‏: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك‏.
 
فأجاب ‏:
 
الحمد لله رب العالمين‏. إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق‏. فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه، وما أعده لأوليائه من كرامته، وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل، الذين أرسلهم الله إلى عباده‏.
 
فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زُلفى، ويرفع درجاتهم، ويكرمهم في الدنيا والآخرة‏. وأما المخالفون للرسل، فإنهم ملعونون، وهم عن ربهم ضالون محجوبون، قال تعالى‏: ‏{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏: 35، 36‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}‏ ‏[‏طه‏: 123‏: 126‏]‏، قال ابن عباس‏: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة‏.
 
وقال تعالى عن أهل النار‏: ‏{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ}‏ ‏[‏الملك‏: 8، 9‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}‏ ‏[‏الزمر‏: 71‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 48، 49‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ َيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا}‏ ‏[‏النساء ‏: ‏163‏: 165‏]‏‏. ‏ومثل هذا في القرآن كثير‏.
 
وهذا مما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين، واليهود، والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أمره وخبره‏. قال تعالى‏: ‏{الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٌ}‏ ‏[‏الحج‏: 75‏]‏ ومن أنكر هذه الوسائط فهو كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ المِلَل‏.
 
والسور التي أنزلها الله بمكة مثل‏: الأنعام، والأعراف، وذوات‏: ‏{الر}‏ و ‏{حم}‏ و ‏{طس}‏ ونحو ذلك، هى متضمنة لأصول الدين، كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر‏.
 
وقد قص الله قصص الكفار الذين كذبوا الرسل، وكيف أهلكهم، ونصر رسله، والذين آمنوا، قال تعالى‏: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}‏ ‏[‏الصافات‏: 171‏: 173‏]‏، وقال‏: ‏{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }‏ ‏[‏غافر‏: 51‏]‏‏.
 
فهذه الوسائط تُطاع وتُتَّبَع ويقتدى بها‏. كما قال تعالى‏: ‏‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله}‏ ‏[‏النساء‏: 64‏]‏ وقال تعالى‏: ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله}‏ ‏[‏النساء‏: 80‏]‏، وقال تعالى ‏: ‏‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}‏ ‏[‏آل عمران‏: 31‏]‏، وقال‏: ‏{فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏157‏]‏، وَقَالَ تعالى‏: ‏{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏21‏]‏‏.
 
وإن أراد بالواسطة‏: أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل‏: أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم، وهداهم، يسألونه ذلك، ويرجون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك، الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار‏.
 
لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها، حتى قال‏: ‏{الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}‏ ‏[‏السجدة‏: 4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏51‏]‏، وقال‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏، وقال‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22، 23‏]‏‏.
 
وقالت طائفة من السلف‏: كان أقوام يدعون المسيح، والعزير، والملائكة‏: فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا، وأنهم يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه‏.
 
وقال تعالى‏: ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏ ‏؟‏ ‏[‏آل عمران‏: 79‏: 80‏]‏، فبين سبحانه‏: أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر‏.
 
فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين‏.
 
وقد قال تعالى‏: ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}‏ ‏[‏الأنبياء 26‏: 29‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا}‏ ‏[‏النساء‏: 172‏]‏، وقال تعالى‏: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شيئا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}‏ ‏[‏مريم‏: 88 95‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: 18‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}‏ ‏[‏النجم‏: 26‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏: 255‏]‏، وقال‏: ‏{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فلا راد لفضله}‏ ‏[‏يونس‏: 107‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ}‏ ‏[‏فاطر‏: 2‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}‏ ‏[‏الزمر‏: 38‏]‏، ومثل هذا كثير في القرآن‏. ومن سِوَى الأنبياء من مشايخ العلم والدين فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته، يبلغونهم، ويعلمونهم، ويؤدبونهم، ويقتدون بهم، فقد أصاب في ذلك‏. ‏وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة، لا يجتمعون على ضلالة، وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله {{صل}}، وقد قال النبي {{صل}}‏: ‏‏(‏العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر‏)‏‏.
 
وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدى عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج‏. فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏. وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أندادا‏. وفي القرآن من الرد على هؤلاء، ما لم تتسع له هذه الفتوى‏.
 
فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس، يكونون على أحد وجوه ثلاثة‏:
 
إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه‏.
 
ومن قال‏: إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بتلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ‏{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }‏ ‏[‏الشورى‏: ‏11‏]‏‏. يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين‏.
 
الوجه الثاني‏: أن يكون الملك عاجزًا عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه فلا بد له من أنصار وأعوان، لذله وعجزه‏. والله سبحانه ليس له ظهير، ولا ولى من الذل، قال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي لسَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ َكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 111‏]‏‏.
 
وَكُلُّ مَا في الوجود من الأسباب فهو خالقه، وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك‏. والله تعالى ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏.
 
والوجه الثالث‏: أن يكون الملك ليس مريدًا لنفع رعيته، والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج‏. فإذا خاطب الملك من ينصحه، ويعظمه، أو من يدل علىه، بحيث يكون يرجوه ويخافه، تحركت إرادة الملك وهمته، في قضاء حوائج رعيته، إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه‏.
 
والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض، فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك، فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده، أو يعلمه ما لم يكن يعلم، أو من يرجوه الرب ويخافه‏.
 
ولهذا قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏لا يقولن أحدكم‏: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزِم المسألة، فإنه لا مكره له‏)‏‏. والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه، كما قال‏: ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏: 255‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}‏ ‏[‏الأنبياء‏: 28‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22، 23‏]‏‏.
 
فَبَيَّنَ أنَّ كُلَّ من دعى من دونه ليس له ملك ولا شرك في الملك، ولا هو ظهير، وأن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له‏.
 
وهذا بخلاف الملوك، فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك، وقد يكون شريكًا لهم في الملك، وقد يكون مظاهرًا لهم معاونا لهم على ملكهم، وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك هم وغيرهم، والملك يقبل شفاعتهم، تارة بحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافأتهم ولإنعامهم عليه، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك، فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد، حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه، فإذا لم يقبل شفاعته، يخاف ألا يطيعه، أو أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض، كلها من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة‏.
 
والله تعالى لا يرجو أحدًا، ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني، قال تعالى‏: ‏{أَلا إِنَّ لله مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: 66‏]‏‏.
 
والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة، قال تعالى‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: 18‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}‏ ‏[‏الأحقاف‏: 28‏]‏‏.
 
وأخبر عن المشركين أنهم قالوا‏: ‏{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى}‏ ‏[‏الزمر‏: 3‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 80‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏‏ [‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏‏. فأخبر أن ما يدعى من دونه لا يملك كشف ضر ولا تحويله، وأنهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، ويتقربون إليه فهو سبحانه قد نفى ما من الملائكة والأنبياء، إلا من الشفاعة بإذنه، والشفاعة هى الدعاء‏.
 
ولا ريب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع، والله قد أمر بذلك، لكن الداعي الشافع ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله له في ذلك، فلا يشفع شفاعة نهى عنها، كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة، قال تعالى‏: ‏{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُربي مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ }‏ ‏[‏التوبة‏: 113، 114‏]‏، وقال تعالى في حق المنافقين‏: ‏{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ}‏ ‏[‏المنافقون‏: 6‏]‏‏.
 
وقد ثبت في الصحيح‏: أن الله نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين والمنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم، كما في قوله‏: ‏{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏ ‏[‏النساء‏: 48، 116‏]‏، وقوله‏: ‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}‏ ‏[‏التوبة‏: 84‏]‏، وقد قال تعالى‏: ‏{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}‏ ‏[‏الأعراف‏: 55‏]‏ في الدعاء ومن الاعتداء في الدعاء‏: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله، مثل‏: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو المغفرة للمشركين، ونحو ذلك‏. أو يسأله ما فيه معصية الله، كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان‏.
 
فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة، شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان‏.
 
ولو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك‏. كما قال نوح‏: ‏{إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}‏ ‏[‏هود‏: 45‏]‏، قال تعالى‏: ‏{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ }‏ ‏[‏هود‏: 46، 47‏]‏‏.
 
وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشفع‏: فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره، ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة، فهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى‏.
 
وإذا كان كذلك‏: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومَحْو الأسباب أن تكون أسبابا نَقْصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدْحٌ في الشرع، بل العبد يجب أن يكون تَوكُّله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء‏.
 
والدعاء مشروع، أن يدعو الأعلى للأدنى، والأدنى للأعلى فطلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي {{صل}} في الاستسقاء، ويطلبون منه الدعاء، بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعباس عمه، والناس يطلبون الشفاعة يوم القيامة من الأنبياء، ومحمد {{صل}} وهو سيد الشفعاء، وله شفاعات يختص بها ومع هذا فقد ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىّ، فإنه من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد‏!‏ فمن سأل الله لي الوسيلة حَلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏‏. وقد قال {{صل}} لعمر لما أراد أن يعتمر وودعه ‏: ‏(‏يا أخي لا تنسني من دعائك‏)‏‏.
 
فالنبي {{صل}} قد طلب من أمته أن يدعوا له، ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم، بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها، مع أنه {{صل}} له مثل أجورهم في كل ما يعملونه، فإنه قد صح عنه أنه قال‏: ‏(‏من دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوِزْر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا‏)‏، وهو داعي الأمة إلى كل هدى، فله مثل أجورهم في كل ما اتبعوه فيه‏.
 
وكذلك إذا صلوا عليه، فإن الله يصلى على أحدهم عشرًا، وله مثل أجورهم مع ما يستجيبه من دعائهم له، فذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه، وصار ما حصل له به من النفع نعمة من الله عليه، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏: ‏(‏ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكًا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به‏: آمين ولك مثل ذلك‏)‏، وفي حديث آخر‏: ‏(‏أسرع الدعاء دعوة غائب لغائب‏)‏‏.
 
فالدعاء للغير ينتفع به الداعي، والمدعو له وإن كان الداعي دون المدعو له، فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له‏. فمن قال لغيره‏: ادع لي وقصد انتفاعهما جميعًا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى، فهو نبه المسؤول وأشار عليه بما ينفعهما، والمسؤول فعل ما ينفعهما، بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى، فيثاب المأمور على فعله، والآمر أيضا يثاب مثل ثوابه؛ لكونه دعا إليه، لا سيما ومن الأدعية ما يؤمر بها العبد، كما قال تعالى‏: ‏{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}‏ ‏[‏محمد‏: 19‏]‏، فأمره بالاستغفار، ثم قال‏: ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏: 64‏]‏‏.
 
فذكر سبحانه استغفارهم، واستغفار الرسول لهم إذ ذاك مما أمر به الرسول، حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولم يأمر الله مخلوقًا أن يسأل مخلوقًا شيئا لم يأمر الله المخلوق به، بل ما أمر الله العبد أمر إيجاب أو استحباب ففعله هو عبادة لله، وطاعة وقربة إلى الله، وصلاح لفاعله وحسنة فيه، وإذا فعل ذلك كان أعظم لإحسان الله إليه، وإنعامه عليه، بل أجل نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للإيمان‏.
 
والإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة والحسنات، وكلما ازداد العبد عملا للخير، ازداد إيمانه‏. هذا هو الإنعام الحقيقى المذكور في قوله‏: ‏{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 7‏]‏، وفي قوله‏: ‏{وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم}‏ ‏[‏النساء‏: 69‏]‏، بل نعم الدنيا بدون الدين هل هى من نعمه أم لا ‏؟‏ فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم‏.
 
والتحقيق‏: أنها نعمة من وجه وإن لم تكن نعمة تامة من وجه، وأما الإنعام بالدين الذي ينبغي طلبه فهو ما أمر الله به من واجب ومستحب، فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين، وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة، إذ عندهم أن الله هو الذي أنعم بفعل الخير‏. والقدرية عندهم إنما أنعم بالقدرة عليه، الصالحة للضدين فقط‏.
 
والمقصود هنا‏: أن الله لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا إلا ما كان مصلحة لذلك المخلوق، إما واجب أو مستحب، فإنه سبحانه لا يطلب من العبد إلا ذلك، فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك ‏؟‏ بل قد حرم على العبد أن يسأل العبد ماله إلا عند الضرورة‏.
 
وإن كان قصده مصلحة المأمور أو مصلحته ومصلحة المأمور، فهذا يثاب على ذلك، وإن كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور، فهذا من نفسه أتى، ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط، بل قد نهى عنه، إذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته، والله يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه، ويأمرنا أن نحسن إلى عباده، وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا، فلم يقصد الرغبة إلى الله ودعائه، وهو الصلاة، ولا قصد الإحسان إلى المخلوق الذي هو الزكاة، وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال، لكن فرق ما بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن له فيه، ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب‏: إنهم ‏[‏لا يسترقون‏‏. وإن كان الاسترقاء جائزا‏. وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع‏.
 
والمقصود هنا‏: أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية، فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عُبّاد الأوثان كانوا يقولون‏: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال‏: ‏{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏التوبة‏: 31‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}‏ ‏[‏البقرة ‏: ‏186‏]‏، أي فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي أن أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع‏.
 
وقال تعالى‏: ‏{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}‏ ‏[‏الشرح‏: 7، 8‏]‏‏. وقال تعالى‏: ‏‏{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}‏ ‏[‏الإسراء ‏: ‏67‏]‏، وقال تعالى‏: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ}‏ ‏[‏النمل‏: 62‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}‏ ‏[‏الرحمن‏: 29‏]‏
 
وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم مواد الإشراك به حتى لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه، وقال تعالى ‏: ‏‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا}‏ ‏[‏المائدة‏: 44‏]‏، ‏{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ}‏ أي يخوفكم أولياءه ‏{فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏175‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}‏ ‏[‏النساء‏: ‏77‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله}‏‏ [‏التوبة‏: 18‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}‏ ‏[‏النور‏: 52‏]‏‏.
 
فبين أن الطاعة لله ورسوله، وأما الخشية فلله وحده‏.
 
وقال تعالى‏: ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}‏ ‏[‏التوبة‏: 59‏]‏، ونظيره قوله تعالى‏: ‏{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 173‏]‏‏.
 
وقد كان النبي {{صل}} يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا‏: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب؛ لكمال المحبة والتعظيم، والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف، حتى قال لهم‏: ‏(‏لا تقولوا‏: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا‏: ما شاء الله ثم شاء محمد‏)‏، وقال له رجل‏: ما شاء الله وشئت‏. فقال‏: ‏(‏أجعلتني لله ندا ‏؟‏ بل ما شاء الله وحده‏)‏، وقال‏: ‏(‏من كان حالفا فَلْيَحْلِفْ بالله أو لِيصْمُتْ‏)‏، وقال ‏: ‏‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏، وقال لابن عباس‏: ‏‏(‏إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جَفَّ القلم بما أنت لاقٍ، فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك‏)‏‏!‏ وقال أيضا‏: ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا‏: عبد الله ورسوله‏)‏، وقال‏: ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثَنًا يُعْبَد‏)‏، وقال‏: ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم‏)‏، وقال في مرضه‏: ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذر ما صنعوا، قالت عائشة‏: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا‏. وهذا باب واسع‏.
 
ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه، فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب، كما جعل المطر سببا لإنبات النبات، قال الله تعالى‏: ‏{وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ}‏ ‏[‏البقرة‏: 164‏]‏، وكما جعل الشمس والقمر سببا لما يخلقه بهما، وكما جعل الشفاعة والدعاء سببا لما يقضيه بذلك، مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت، فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها، ويثيب عليها المصلين عليه، لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور ‏:
 
أحدهما‏: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب، بل لا بد معه من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع‏. فإذا لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع، لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله‏.
 
الثاني‏: ألا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئا سببا بلا علم أو يخالف الشرع، كان مبطلا، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء‏. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}}‏: أنه نهى عن النذر وقال‏: ‏(‏إنه لا يأتى بخير وإنما يستخرج به من البخيل‏)‏‏.
 
الثالث‏: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سببا إلا أن تكون مشروعة، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله، فيدعو غيره وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه وكذلك لا يُعْبَد الله بالبِدَع المخالفة للشريعة وإن ظن ذلك فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان، فلا يحل له ذلك؛ إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به؛ إذ الرسول {{صل}} بعث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به فمصلحته راجحة، وما نهى عنه فمفسدته راجحة، وهذه الجمل لها بسط لا تحتمله هذه الورقة، والله أعلم‏.
 
 
===وسئل عمن يقول إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم===
وسئل رحمه الله ‏:
 
قال السائل‏: إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد {{صل}} فإنه الوسيلة والواسطة‏.
 
فأجاب ‏:
 
الحمد لله، إن أراد بذلك أن الإيمان بمحمد، وطاعته، والصلاة والسلام عليه وسيلة للعبد في قبول دعائه وثواب دعائه فهو صادق، وإن أراد أن الله لا يجيب دعاء أحد حتى يرفعه إلى مخلوق، أو يقسم عليه به، أو أن نفس الأنبياء بدون الإيمان بهم وطاعتهم وبدون شفاعتهم وسيلة في إجابة الدعاء، فقد كذب في ذلك‏. والله أعلم‏.
 
 
 
===وسئل هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا ‏؟‏===
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى‏:
 
هل يجوز التوسل بالنبي {{صل}} أم لا ‏؟‏
 
فأجاب ‏:
 
الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به، ومحبته وطاعته، والصلاة والسلام عليه، وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك، مما هو من أفعاله، وأفعال العباد المأمور بها في حقه، فهو مشروع باتفاق المسلمين، وكان الصحابة رضى الله عنهم يتوسلون به في حياته، وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه، كما كانوا يتوسلون به‏.
 
وأما قول القائل‏: اللهم إني أتوسل إليك به‏. فللعلماء فيه قولان، كما لهم في الحلف به قولان‏. وجمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة على أنه لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة‏. ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة دون غيره؛ ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذى <ref>‏[‏أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذى، صاحب الإمام أحمد، حدث عن [[أحمد بن حنبل]] ولازمه وعن هارون بن معروف ومحمد بن منهال وروى عنه أبو بكر الخلال وعبد الله الخرقى، ولد في حدود المائتين، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائتين‏. ‏[‏سير أعلام النبلاء 13 173-175‏]‏</ref> صاحبه‏: إنه يتوسل بالنبي {{صل}} في دعائه، ولكن غير أحمد قال‏: إن هذا إقسام على الله به، ولا يقسم على الله بمخلوق، وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به، فلذلك جوز التوسل به‏.
 
ولكن الرواية الأخرى عنه هى قول جمهور العلماء أنه لا يقسم به، فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء، فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال‏: إنه يقسم به على الله كما لم يقولوا‏: إنه يقسم بهم مطلقا؛ ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام‏: أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، لكن ذكر له أنه روى عن النبي {{صل}} حديث في الإقسام به فقال‏: إن صح الحديث كان خاصا به، والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به، وقد قال النبي {{صل}} ‏: ‏(‏من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت‏)‏، وقال‏: ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك، والدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع‏. والله أعلم‏.
 
 
===رسالة في التوسل والوسيلة===
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، أرسله بين يدى الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.
 
ففرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه‏. فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله‏.
 
وقد أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه في باطنه وظاهره‏. والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله، وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏ ‏[‏المائدة‏: 35‏]‏‏. فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه‏.
 
وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد، باطنا وظاهرا، في حياة رسول الله {{صل}} وبعد موته، في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار‏. ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.
 
وهو {{صل}} شفيع الخلائق صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدرا وأعلاهم جاها عند الله، وقد قال تعالى عن موسى‏: ‏{وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 69‏]‏، وقال عن المسيح‏: ‏‏{وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏45‏]‏‏. ومحمد {{صل}} أعظم جاها من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاؤه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.
 
ولفظ التوسل في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى‏. والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغني عنهم شفاعة الشافعين في الآخرة‏.
 
ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له‏: ‏{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ}‏ ‏[‏المنافقون‏: 6‏]‏، ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، قال تعالى‏: ‏{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}‏ ‏[‏التوبة‏: 37‏]‏‏.
 
فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية، كما في [[صحيح مسلم]] عن العباس بن عبد المطلب أنه قال‏: قلت‏: يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ‏؟‏ قال ‏: ‏‏(‏نعم هو في ضحْضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرْك الأسفل من النار‏)‏، وفي لفظ‏: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك‏؟‏ قال‏: ‏(‏نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح‏)‏، وفيه عن أبي سعيد أن رسول الله {{صل}} ذكر عنده عمه أبو طالب فقال‏: ‏(‏لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعْبيه يغلى منهما دماغه‏)‏، وقال‏: ‏(‏إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه‏)‏‏.
 
وكذلك ينفع دعاؤه لهم بألا يُعجل عليهم العذاب في الدنيا كما كان {{صل}} يحكى نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول‏: ‏(‏اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون‏)‏‏. وروى أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا؛ قال تعالى‏: ‏{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}‏ ‏[‏فاطر‏: 45‏]‏‏.
 
وأيضا، فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله، وكما دعا لدوس فقال‏: ‏(‏اللهم اهد دوسا وائت بهم‏)‏، فهداهم الله، وكما روى [[أبو داود]] أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقى لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحسانا منه إليهم يتألف به قلوبهم كما كان يتألفهم بغير ذلك‏.
 
وقد اتفق المسلمون على أنه {{صل}} أعظم الخلق جاها عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم يوجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقا وعاما، فكل من مات مؤمنا بالله ورسوله مطيعا لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعا، ومن مات كافرا بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعا‏.
 
وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاها فلا شفيع أعظم من محمد {{صل}} ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال تعالى عنه‏: ‏{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}‏ ‏[‏إبراهيم‏: 41‏]‏، وقد كان {{صل}} أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداء بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى‏: ‏{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُربي مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}‏ ‏[‏التوبة‏: 113‏]‏‏.
 
ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال‏: ‏{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏‏: 114، 115‏]‏، وثبت في [[صحيح البخاري]] عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏يلْقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم‏: ألم أقل لك‏: لا تعصني ‏؟‏ فيقول له أبوه‏: فاليوم لا أعصيك‏. فيقول إبراهيم‏: يا رب، أنت وعدتني ألا تُخْزني يوم يُبْعثون، وأي خزْى أخْزى من أبي الأبعد ‏؟‏ فيقول الله عز وجل‏: إني حرمتُ الجنة على الكافرين، ثم يقال‏: انظر ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ مُتلطخ ‏[‏الذيخ‏: ذكر الضباع، وأراد بالتلطخ‏: التلطخ برجيعه أو بالطين‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 2 174‏]‏، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار‏)‏، فهذا لما مات مشركا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين‏: ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}‏ ‏[‏الممتحنة‏: 4، 5‏]‏‏. فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا في قول إبراهيم لأبيه‏: ‏{لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}‏ فإن الله لا يغفر أن يشرك به‏.
 
وكذلك سيد الشفعاء محمد {{صل}}، ففي [[صحيح مسلم]] عن أبي هريرة؛ أن النبي {{صل}} قال‏: ‏(‏استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي‏)‏‏. وفي رواية‏: أن النبي {{صل}} زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال‏: ‏(‏استأذنتُ ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزروا القبور، فإنها تُذكر الموت‏)‏‏. وثبت عن أنس في الصحيح أن رجلا قال ‏: ‏يا رسول الله، أين أبي ‏؟‏ قال‏: ‏(‏في النار‏)‏، فلما قفى دعاه فقال ‏: ‏‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏‏. وثبت أيضا في الصحيح عن أبي هريرة‏: لما أنزلت هذه الآية‏: ‏‏{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏: 214‏]‏ دعا رسول الله {{صل}} قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال‏: ‏(‏يا بني كعب ابن لؤى، انقذوا أنفسكم من النار‏. يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏. يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار‏. يا فاطمة، أنقذى نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها. <ref>‏[‏أى أصلكم في الدنيا، ولا أُغني عنكم من الله شيئا، والبلال جمع بلل، وقيل‏: هو كل ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره، انظر‏: النهاية في غريب الحديث 1 351‏]‏‏)‏</ref> وفي رواية عنه‏: ‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا‏. يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئا‏. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا‏. يا فاطمة بنت رسول الله، سليني من مالى ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا‏)‏‏. وعن عائشة لما نزلت‏: ‏{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏214‏]‏ قام رسول الله {{صل}} فقال‏: ‏(‏يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا‏. سلوني من مالى ما شئتم‏)‏‏.
 
وعن أبي هريرة قال‏: قام فينا رسول الله {{صل}} خطيبا ذات يوم فذكر الغُلُول فعظمه وعظم أمره ثم قال‏: ‏(‏لا أُلْفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير لهُ رُغاء<ref> ‏[‏الرغاء‏: صوت الإبل‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 2 240‏]</ref>‏ يقول‏: يا رسول الله، أغثني‏. فأقول‏: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمْحمة <ref>‏[‏الحمحمة‏: صوت الفرس دون الصهيل‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 1 436‏]</ref>‏ فيقول‏: يا رسول الله، أغثني‏. ‏فأقول‏: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء <ref>‏[‏الثغاء‏: صياح الغنم‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 1 214‏]‏</ref> فيقول‏: يا رسول الله، أغثني‏. فأقول‏: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك‏. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق <ref>‏[‏أراد بالرقاع‏: ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع، وخفوقها‏: حركتها‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 2251‏]‏‏</ref> فيقول‏: يا رسول الله، أغثني‏. فأقول‏: ‏لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏. ‏لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت <ref>‏[‏صامت‏: يعني الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 3 52‏]‏‏.</ref> فيقول‏: يا رسول الله، أغثني‏. فأقول‏: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك ‏(‏أخرجاه في الصحيحين، وزاد مسلم‏: ‏(‏لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح‏. فيقول‏: يا رسول الله، أغثني، فأقول‏: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك‏)‏‏. وفي [[البخاري]] عنه أن النبي {{صل}} قال‏: ‏(‏ولا يأتى أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعار <ref>‏[‏اليُعار‏: صياح الشاة‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 5 297‏]‏‏</ref> فيقول‏: يا محمد، فأقول‏: لا أملك لك شيئا، قد بلغت‏. ولا يأتى أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رُغاء فيقول‏: يا محمد، فأقول‏: لا أملك لك شيئا، قد بلغت‏)‏‏. وقوله هنا {{صل}} ‏: ‏(‏لا أملك لك من الله شيئا‏)‏ كقول إبراهيم لأبيه‏: ‏{لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ}‏ ‏[‏الممتحنة‏: 4‏]‏‏.
 
وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهى نافعة في الدنيا والدين باتفاق المسلمين، وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة في زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين‏. وقد قيل‏: إن بعض أهل البدعة ينكرها‏.
 
وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء‏: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب‏. وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم، فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي {{صل}} أن الله يخرج من النار قوما بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد {{صل}}، ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قوما بلا شفاعة‏.
 
واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى‏: ‏{وَاتَّقُواْ يَوْما لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: 48‏]‏، وبقوله‏: ‏{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: 123‏]‏، وبقوله‏: ‏{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏: 254‏]‏، وبقوله‏: ‏{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يطاع}‏ ‏[‏غافر‏: 18‏]‏، وبقوله‏: ‏{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}‏ ‏[‏المدثر‏: 48‏]‏‏.
 
وجواب أهل السنة أن هذا يراد به شيئان‏:
 
أحدهما‏: أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى في نعتهم‏: ‏{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}‏ ‏[‏المدثر‏: ‏42‏: 48‏]‏، فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارا‏.
 
والثاني‏: أنه يراد بذلك نفى الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع، من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة شافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة‏.
 
فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون‏: هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصّهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة‏.
 
فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى‏: ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏: 255‏]‏، وقال‏: ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}‏ ‏[‏النجم‏: 26‏]‏، وقال عن الملائكة‏: ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏26‏: 28‏]‏، وقال‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: 18‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 51‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}‏ ‏[‏السجدة‏: 4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏: 86‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏94‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شيئا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ َسْتَبْشِرُونَ}‏ ‏[‏الزمر‏: 43‏: 45‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا َمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}‏ ‏[‏طه‏: 108، 109‏]‏، وقال صاحب يس‏: ‏{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شيئا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}‏ ‏[‏يس‏: 22 25‏]‏‏.
 
فهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين حتى صوروا تماثيلهم وقالوا‏: استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا‏: نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوَّروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة أبطلها الله ورسوله وذم المشركين عليها وكفرهم بها‏. قال الله تعالى عن قوم نوح‏: ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضلالا}‏ ‏[‏نوح‏: 23، 24‏]‏ قال ابن عباس وغيره‏: هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، وهذا مشهور في كتب التفسير والحديث وغيرها كالبخاري وغيره، وهذه أبطلها النبي {{صل}} وحسم مادتها وسد ذَرِيعتها، حتى لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى فيها، وإن كان المصلى فيها لا يستشفع بهم، ونهى عن الصلاة إلى القبور وأرسل علي بن أبي طالب فأمره ألا يدع قبرا مُشْرفًا إلا سَوَّاه، ولا تمثالا إلا طَمَسَه ومَحَاه، ولعن المصورين‏. وعن أبي الهياج الأسدى، قال لي علي بن أبي طالب‏: لأبعثك على ما بعثني رسول الله {{صل}}‏: ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته‏. وفي لفظ‏: ولا صورة إلا طمستها‏. أخرجه مسلم‏.
 
 
====فصل: لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور====
ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور‏. يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين ‏:
 
أحدهما‏: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.
 
والثاني‏: دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين‏. ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا‏. ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة‏.
 
وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضا كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عُرِّف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد‏.
 
أما دعاؤه وشفاعته في الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة‏.
 
وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر‏. ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون، دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محبًا له معظمًا له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يُقِرُّوا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها‏.
 
وفي [[صحيح البخاري]] عن أبي هريرة أنه قال‏: قلت‏: يا رسول الله، أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ‏؟‏ فقال‏: ‏(‏أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال‏: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه‏)‏‏. وعنه في [[صحيح مسلم]] قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏لكل نبي دعوة مستجابة، فَتَعَجَّل كل نبي دعوته، وإني اختَبَأْتُ دعوتى شفاعة يوم القيامة، فهى نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا‏)‏، وفي السنن عن عوف ابن مالك قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يُدْخِل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهى لمن مات لا يشرك بالله شيئا‏)‏، وفي لفظ قال‏: ‏(‏ومن لقى الله لا يشرك به شيئا فهو في شفاعتى‏)‏‏.
 
وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى‏: ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏: 45‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}‏ ‏[‏الأنبياء‏: 25‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}‏ ‏[‏النحل‏: 36‏]‏، وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه‏: ‏{اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}‏ ‏[‏المؤمنون‏: ‏32‏]‏‏.
 
وفي المسند عن ابن عمر عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏بعثت بالسَّيف بين يَدَى الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رُمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏‏.
 
والمشركون من قريش وغيرهم الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبي {{صل}} دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض كما قال‏: ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏لقمان‏: ‏25‏]‏، وقال‏: ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}‏ ‏[‏العنكبوت‏: 61‏]‏، وقال‏: ‏{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لله قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ }‏ ‏[‏المؤمنون‏: 84‏: 91‏]‏‏.
 
وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة، ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: 18‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}‏ ‏[‏الزمر‏: 1 3‏]‏، وكانوا يقولون في تلبيتهم‏: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك‏.
 
وقال تعالى‏: ‏{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُو}‏ ‏[‏الروم‏: 28‏: 32‏]‏‏.
 
بين سبحانه بالمثل الذي ضربه لهم أنه لا ينبغي أن يجعل مملوكه شريكه فقال‏: ‏{هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء}‏ ‏[‏الروم‏: 28‏]‏ يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضا، فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم ‏؟‏
 
وهذا كما كانوا يقولون‏: له بنات، فقال تعالى‏: ‏{وَيَجْعَلُونَ لله مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ}‏ ‏[‏النحل‏: 62‏]‏، وقد قال تعالى‏: ‏{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ َيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلله الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}‏ ‏[‏النحل‏: 58‏: 60‏]‏‏.
 
والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان ‏:
 
قوم نوح، وقوم إبراهيم‏. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم‏.
 
وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر‏. وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى‏: ‏{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}‏ ‏[‏سبأ‏: 40- 41‏]‏‏.
 
والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم‏: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا على، أنا الشيخ فلان‏. وقد يقول بعضهم عن بعض‏: هذا هو النبي فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئكَ كلهم جِنًا يشهد بعضهم لبعض‏. والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصى وفيهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخا فيتزيّا <ref>‏[‏فيتزيّا‏: يظهر في هيئته‏. انظر‏: القاموس المحيط، مادة ‏(‏زىى‏)‏‏]‏‏</ref> في صورته ويقول‏: أنا فلان‏. ويكون ذلك في برية ومكان قفر ‏<ref> [‏مكان قفر‏: الخلاء من الأرض، لا نبات فيه ولا ماء‏. انظر‏: لسان العرب، مادة ‏[‏قفر‏]‏‏]‏</ref> فيطعم ذلك الشخص طعامًا ويسقيه شرابًا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحى فعل ذلك، وقد يقول‏: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان‏.
 
وقد قال الله تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏، قال طائفة من السلف‏: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله، كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين‏.
 
والمشركون من هؤلاء قد يقولون‏: إنا نستشفع بهم أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم قالوا‏: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم، ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله‏. فيقول أحدهم‏: يا سيدي فلان، أو يا سيدي جرجس، أو بطرس، أو يا ستى الحنونة مريم، أو يا سيدي الخليل، أو موسى بن عمران أو غير ذلك، اشفع لي إلى ربك‏.
 
وقد يخاطبون الميت عند قبره‏: سل لي ربك‏. أو يخاطبون الحى وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرًا حيا، وينشدون قصائد يقول أحدهم فيها‏: يا سيدي فلان ‏!‏ أنا في حسبك، أنا في جوارك، اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا، وكذا، فسل الله أن يكشف هذه الكربة‏. أو يقول أحدهم‏: سل الله أن يغفر لي‏.
 
ومنهم من يتأول قوله تعالى‏: ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏: 64‏]‏، ويقولون‏: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحدًا منهم لم يطلب من النبي {{صل}} بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئا، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخرى الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضى الله عنه سيأتى ذكرها وبسط الكلام علىها إن شاء الله تعالى‏.
 
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى‏. قال الله تعالى‏: ‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله}‏ ‏[‏الشورى‏: 21‏]‏‏.
 
فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم، وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال، ونصب تماثيلهم بمعنى طلب الشفاعة منهم هو من الدين الذي لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولا، ولا أنزل به كتابا، وليس هو واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان‏.
 
وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت، والاستشفاع به، والاستغاثة، أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين، ومن تَعَبَّدَ بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع، بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب‏.
 
وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأى أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك‏.
 
وجواب هؤلاء من طريقين‏: أحدهما‏: الاحتجاج بالنص والإجماع‏.
 
والثاني‏: القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على ما يُظن فيه من المصلحة‏.
 
أما الأول فيقال‏: قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب‏.
 
وعلِمَ أنه لم يكن النبي {{صل}} بل ولا أحد من الأنبياء قبله، شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد‏: يا ملائكة الله، اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا‏.
 
وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين‏: يا نبي الله، يا رسول الله، ادع الله لي، سل الله لي، استغفر الله لي، سل الله أن يغفر لي أو يهديني أو ينصرني أو يعافيني، ولا يقول‏: أشكو إليك ذنوبى أو نقص رزقى أو تسلط العدو على، أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني، ولا يقول‏: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به‏.
 
ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرًا أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين؛ أن النبي {{صل}} لم يشرع هذا لأمته‏.
 
وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة، لا في مناسك الحج ولا غيرها، أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي {{صل}} عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين‏.
 
وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجَدْب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتى إلى قبر الرسول {{صل}} ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول‏: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول‏: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين‏.
 
وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهى بدعة سيئة، وهى ضلالة باتفاق المسلمين، ومن قال في بعض البدع‏: إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب، فلا يقول أحد من المسلمين‏: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله‏.
 
ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمرَ إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود‏: خَطَّ لنا رسول الله {{صل}} خطًا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏: ‏(‏هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏)‏ ثم قرأ‏: ‏{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏: 153‏]‏‏.
 
فهذا أصل جامع يجب على كل من آمن بالله ورسوله أن يتبعه، ولا يخالف السنة المعلومة، وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، باتباع من خالف السنة والإجماع القديم، لا سيما وليس معه في بدعته إمام من أئمة المسلمين، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع والنزاع، فلا ينخرم الإجماع بمخالفته، ولا يتوقف الإجماع على موافقته‏.
 
ولو قدر أنه نازع في ذلك عالم مجتهد لكان مخصومًا بما عليه السنة المتواترة وباتفاق الأئمة قبله، فكيف إذا كان المنازع ليس من المجتهدين ولا معه دليل شرعي، وإنما اتبع من تكلم في الدين بلا علم، و ‏{يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}‏ ‏[‏الحج‏: 8‏]‏‏. بل إن النبي {{صل}} مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجبًا ولا مستحبًا، فإنه قد حرَّمَ ذلك وحرَّمَ ما يفضي إليه كما حرَّمَ اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد‏. ففي [[صحيح مسلم]] عن جندب بن عبد الله أن النبي {{صل}} قال قبل أن يموت بخمس ‏: ‏(‏إن من كانوا قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏. وفي الصحيحين عن عائشة أن النبي {{صل}} قال قبل موته ‏: ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذِّر ما فعلوا، قالت عائشة‏: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.
 
واتخاذ المكان مسجدًا، هو أن يتخذ للصلوات الخمس، وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجدًا إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين‏.
 
فحرم {{صل}} أن تُتَّخَذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به والدعاء عنده، فنهى رسول الله {{صل}} عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله‏.
 
والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك‏. وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات‏.
 
ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات، وهو أظهر قولي العلماء؛ لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهي عنه‏.
 
فإذا كان نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها كان معلومًا أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم في نفسه، أعظم تحريمًا من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي إلى دعاء الكواكب‏.
 
كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم والسجود لهم كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد‏.
 
 
====الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور====
ولهذا؛ كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين‏: زيارة شرعية، وزيارة بدعية‏.
 
فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت، كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له‏. فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى في المنافقين‏: ‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}‏ ‏[‏التوبة‏: 84‏]‏، فنهى نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون‏. فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهى الكفر، دل ذلك على انتفاء هذا النهي عند انتفاء هذه العلة‏. ودل تخصيصهم بالنهي على أن غيرهم يُصلى عليه ويُقام على قبره؛ إذ لو كان هذا غير مشروع في حق أحد لم يخصوا بالنهي ولم يعلل ذلك بكفرهم؛ ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة، فكان النبي {{صل}} يصلى على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول‏: ‏(‏سلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل‏)‏‏. رواه [[أبو داود]] وغيره‏.
 
وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحُدٍ، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم‏: ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون‏)‏، ‏(‏ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين‏)‏، ‏(‏نسأل الله لنا ولكم العافية‏)‏، ‏(‏اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم‏)‏‏. وفي [[صحيح مسلم]] عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله {{صل}} خرج إلى المقبرة فقال‏: ‏(‏السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون‏)‏‏. والأحاديث في ذلك صحيحة معروفة‏. فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم‏.
 
وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز في قبور الكفار كما ثبت في صحيح مسلم وأبي داود و[[النسائي]] و[[ابن ماجه]] عن أبي هريرة أنه قال‏: أتى رسول الله {{صل}} قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال‏: ‏(‏استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة‏)‏ فهذه الزيارة التي تنفع في تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافرًا، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا في حق المؤمنين‏.
 
وأما الزيارة البدعية فهى التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء، فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي {{صل}} ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي {{صل}} ولا عند غيره، وهى من جنس الشرك وأسباب الشرك‏.
 
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم، مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته، كما قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، وقال‏: ‏(‏قَاتَل الله اليَهُودَ والنَّصَارى اتخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِدَ‏)‏ يُحَذِّر ما صنعوا‏. وقال‏: ‏(‏إن من كانَ قَبْلكم كَانُوا يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ ألا فَلا تَتخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ فَإني أنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ‏)‏‏.
 
فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات وقضاء الحاجات ‏؟‏ وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس، قال ابن عباس‏: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم‏.
 
وقد استفاض عن ابن عباس وغيره في [[صحيح البخاري]] وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء في قوله تعالى‏: ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}‏ ‏[‏نوح‏: 23‏]‏ أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفُوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس‏: ثم صارت هذه الأوثان في قبائل العرب‏.
 
وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئا آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم، فإنهم لا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات، ويسمع أصوات عباده، ويجيب دعاءهم‏.
 
فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرفه أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه، كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم‏.
 
بل هم يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية، فيقولون‏: إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات، لا سيما إن زار قبره، فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم‏. وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره‏.
 
 
====تبيين للأوهام التي تحصل للعامة عند القبور====
ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين وخطابهم وتصرفهم ما هو من أسباب ضلال بني آدم، وجعل القبور أوثانا هو أول الشرك؛ ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب؛ ما يظن أنه من الميت وقد يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان، فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ويدعى أحدهم أنه النبي فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذبا في ذلك‏.
 
وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهى كثيرة جدا، والجاهل يظن أن ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور أو النبي أو الصالح وغيرهما، والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان ويتبين ذلك بأمور‏:
 
أحدها‏: أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فإذا قرأها تغيب ذلك الشخص أو ساخ في الأرض أو احتجب، ولو كان رجلا صالحا أو ملكا أو جنيا مؤمنا لم تضره آية الكرسي وإنما تضر الشياطين، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة لما قال له الجني‏: اقرأ آية الكرسي إذا أويت إلى فراشك فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح‏. فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏صَدَقَك وهو كَذُوب‏)‏‏.
 
ومنها‏: أن يستعيذ بالله من الشياطين‏.
 
ومنها‏: أن يستعيذ بالعوذ الشرعية، فإن الشياطين كانت تعرض للأنبياء في حياتهم وتريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم، كما جاءت الجن إلى النبي {{صل}} بشعلة من النار، تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالعوذة المعروفة التي تضمنها الحديث المروي عن أبي التَّيَّاح أنه قال‏: سأل رجل عبد الرحمن بن حُبَيْش، وكان شيخا كبيرا قد أدرك النبي {{صل}}‏: كيف صنع رسول الله {{صل}} حين كادته الشياطين ‏؟‏ قال‏: تحدَّرت عليه من الشِّعاب والأوْدية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله {{صل}}، قال‏: فرعب رسول الله {{صل}} فأتاه جبريل عليه السلام فقال‏: ‏(‏يا محمد، قل، قال‏: ما أقول ‏؟‏ قال‏: قل‏: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يخرج من الأرض ومن شر ما ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن‏)‏ قال‏: فطفئت نارهم وهزمهم الله عز وجل‏.
 
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏إن عفريتًا من الجن جاء يفتك بي البارحة ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله عز وجل منه فَذَعَتُّه <ref>‏[‏أى خنقته‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 2160‏]‏</ref> فأردت أن آخذه فأربطه إلى سارية من المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه، ثم ذكرت قول سليمان عليه السلام‏: ‏{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}‏، فرده الله تعالى خاسئا‏)‏‏.
 
وعن عائشة‏: أن النبي {{صل}} كان يصلي، فأتاه الشيطان فأخذه {{صل}} فصرعه فخنقه، قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدى، ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقًا حتى يراه الناس‏)‏ أخرجه [[النسائي]]، وإسناده على شرط [[البخاري]] كما ذكر ذلك أبو عبد الله المقدسى في مختاره الذي هو خير من صحيح الحاكم‏. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله {{صل}} كان يصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال‏: ‏(‏لو رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدى فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعَابِه بين إصبعى هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سوارى المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل‏)‏ رواه الإمام أحمد في مسنده و[[أبو داود]] في سننه‏.
 
وفي [[صحيح مسلم]] عن أبي الدرداء أنه قال‏: قام رسول الله {{صل}} يصلى فسمعناه يقول‏: ‏(‏أعوذ بالله منك‏)‏ ثم قال‏: ‏(‏ألعنك بلعنة الله‏)‏ ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من صلاته قلنا‏: ‏(‏يا رسول الله، سمعناك تقول شيئا في الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك‏. قال‏: ‏(‏إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهى، فقلت‏: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت‏: ألعنك بلعنة الله التامة، فاستأخر، ثم أردت أن آخذه ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان المدينة‏)‏‏.
 
فإذا كانت الشياطين تأتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتؤذيهم وتفسد عبادتهم، فيدفعهم الله تعالى بما يؤيد به الأنبياء من الدعاء والذكر والعبادة ومن الجهاد باليد، فكيف من هو دون الأنبياء ‏؟‏
 
فالنبي {{صل}} قَمَعَ شياطين الإنس والجن بما أيده الله تعالى من أنواع العلوم والأعمال، ومن أعظمها الصلاة والجهاد‏. وأكثر أحاديث النبي {{صل}} في الصلاة والجهاد، فمن كان متبعا للأنبياء نصره الله سبحانه بما نصر به الأنبياء‏.
 
وأما من ابتدع دينا لم يشرعوه، فترك ما أمروا به من عبادة الله وحده لا شريك له واتباع نبيه فيما شرعه لأمته، وابتدع الغلو في الأنبياء والصالحين والشرك بهم، فإن هذا تتلعَّب به الشياطين، قال تعالى‏: ‏{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏النحل‏: 99، 100‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}‏ ‏[‏الحجر‏: 42‏]‏‏.
 
ومنها‏: أن يدعو الرائى بذلك ربه تبارك وتعالى ليبين له الحال‏.
 
ومنها‏: أن يقول لذلك الشخص‏: أأنت فلان ‏؟‏ ويقسم عليه بالأقسام المعظمة، ويقرأ عليه قوارع القرآن إلى غير ذلك من الأسباب التي تضر الشياطين‏.
 
وهذا كما أن كثيرا من العباد يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشا عظيما وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصا تصعد وتنزل فيظنها الملائكة ويظن أن تلك الصورة هى الله تعالى وتقدس ويكون ذلك شيطانا‏.
 
وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر في حكايته المشهورة حيث قال‏: كنت مرة في العبادة فرأيت عرشا عظيما وعليه نور، فقال لي‏: يا عبد القادر، أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك‏. قال‏: فقلت له‏: أنت الله الذي لا إله إلا هو ‏؟‏ اخسأ يا عدو الله‏. قال‏: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال‏: يا عبد القادر، نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك‏. لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلا‏. فقيل له‏: كيف علمت أنه الشيطان ‏؟‏ قال‏: بقوله لي‏: ‏(‏حللت لك ما حرمت على غيرك‏)‏، وقد علمت أن شريعة محمد {{صل}} لا تنسخ ولا تبدل، ولأنه قال‏: أنا ربك، ولم يقدر أن يقول‏: أنا الله الذي لا إله إلا أنا‏.
 
ومن هؤلاء من اعتقد المرئى هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى في اليقظة ومستندهم ما شاهدوه، وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذلك هو الشيطان‏.
 
وهذا قد وقع كثيرا لطوائف من جهال العباد، يظن أحدهم أنه يرى الله تعالى بعينه في الدنيا؛ لأن كثيرا منهم رأى ما ظن أنه الله وإنما هو شيطان‏. وكثير منهم رأى من ظن أنه نبي أو رجل صالح أو الخضر وكان شيطانا‏. وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتى‏)‏‏. فهذا في رؤية المنام؛ لأن الرؤية في المنام تكون حقا وتكون من الشيطان فمنعه الله أن يتمثل به في المنام، وأما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا‏.
 
فمن ظن أن المرئي هو الميت فإنما أتى من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.
 
وبعض من رأى هذا أو صدق من قال‏: إنه رآه اعتقد أن الشخص الواحد يكون بمكانين في حالة واحدة فخالف صريح المعقول‏.
 
ومنهم من يقول‏: هذه رقيقة ذلك المرئى أو هذه روحانيته أو هذا معناه تشكل، ولا يعرفون أنه جني تصور بصورته‏.
 
ومنهم من يظن أنه ملك، والملك يتميز عن الجني بأمور كثيرة، والجن فيهم الكفار والفُساق والجُهَّال، وفيهم المؤمنون المتبعون لمحمد {{صل}} تسليما، فكثير ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة‏. وكذلك الذين يدعون الكواكب وغيرها من الأوثان تتنزل على أحدهم روح يقول‏: هى روحانية الكواكب، ويظن بعضهم أنه من الملائكة وإنما هو من الجن والشياطين يغوون المشركين‏.
 
والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان‏. فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها‏. وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل وتمريض ونحو ذلك‏.
 
وتارة يجلبون له من يريده من الإنس‏.
 
وتارة يسرقون له ما يسرقونه من أموال الناس من نقد وطعام وثياب وغير ذلك، فيعتقد أنه من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقا‏.
 
وتارة يحملونه في الهواء فيذهبون به إلى مكان بعيد‏. فمنهم من يذهبون به إلى مكة عَشِيَّة عرفة ويعودون به فيعتقد هذا كرامة، مع أنه لم يحج حج المسلمين‏: لا أحرم ولا لبَّى، ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ومعلوم أن هذا من أعظم الضلال‏.
 
ومنهم من يذهب إلى مكة ليطوف بالبيت من غير عمرة شرعية، فلا يحرم إذا حاذى الميقات‏. ومعلوم أن من أراد نسكا بمكة لم يكن له أن يجاوز الميقات إلا محرما، ولو قصدها لتجارة أو لزيارة قريب له أو طلب علم كان مأمورا أيضا بالإحرام من الميقات، وهل ذلك واجب أو مستحب ‏؟‏ فيه قولان مشهوران للعلماء‏. وهذا باب واسع‏.
 
ومنه السحر والكهانة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏. وعند المشركين عباد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى ومبتدعة هذه الأمة في ذلك من الحكايات ما يطول وصفه، فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبيا كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلاله؛ كما أن الذين يدعونهم في مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون في صورتهم، أو يظنون أنه في صورتهم ويقول‏: أنا فلان ويكلمهم ويقضى بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المستغاث به هو الذي كلمهم وقضى مطلوبهم، وإنما هو من الجن والشياطين‏.
 
ومنهم من يقول‏: هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله‏.
 
وفي مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك ومن وقعت له ما يطول وصفه‏.
 
 
====وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان====
وأهل الجاهلية فيها نوعان‏: نوع يكذب بذلك كله، ونوع يعتقد ذلك كرامات لأولياء الله‏.
 
فالأول يقول‏: إنما هذا خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة، فمن رأى ذلك وعاينه موجودا أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجودا في الخارج وأخبره به من لا يرتاب في صدقه، كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك، والعارفين به بالأخبار الصادقة‏.
 
ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك، خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدى فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله؛ لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه في قوله تعالى‏: ‏{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏يونس‏: ‏62، 63‏]‏‏.
 
فيرون من هو من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين‏.
 
فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلى، بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل، ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين‏.
 
ومنهم من يبقى حائرا مترددا شاكا مرتابا يقدم إلى الكفر رِجْلا وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان‏.
 
وسبب ذلك‏: أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك‏. قال تعالى‏: ‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}‏ ‏[‏الشعراء‏: 221، 222‏]‏‏.
 
وهؤلاء لا بد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذي بعث به نبيه {{صل}}‏. وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم، وهى دلالة وعلامة على ذلك‏.
 
والجاهل الضال يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه، وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك في مسألة ‏‏[[الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان]]‏، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلا على الولاية تكون للكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان فضلا عن الولاية، ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلا عليه‏.
 
وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم، لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق‏.
 
وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو لحاجة للمسلمين‏.
 
والمقتصدون قد يستعملونها في المباحات‏.
 
وأما من استعان بها في المعاصي فهو ظالم لنفسه، مُتَعَدٍّ حد ربه، وإن كان سببها الإيمان والتقوى‏. فمن جاهد العدو فغنم غنيمة فأنفقها في طاعة الشيطان، فهذا المال، وإن ناله بسبب عمل صالح، فإذا أنفقه في طاعة الشيطان كان وبالا عليه، فكيف إذا كان سبب الخوارق الكفر والفسوق والعصيان وهى تدعو إلى كفر آخر وفسوق وعصيان ‏؟‏
 
ولهذا كان أئمة هؤلاء معترفين بأن أكثرهم يموتون على غير الإسلام‏. ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.
 
 
====من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان====
والمقصود هنا أن من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان كإخبار عن غائب أو أمر يتضمن قضاء حاجة ونحو ذلك، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق وخرج منه شيخ بهي عانقه أو كلمه، ظن أن ذلك هو النبي المقبور، أو الشيخ المقبور، والقبر لم ينشق، وإنما الشيطان مثّل له ذلك، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق وأنه خرج منه صورة إنسان ويكون هو الشيطان تمثل له في صورة إنسان وأراه أنه خرج من الحائط‏.
 
ومن هؤلاء من يقول لذلك الشخص الذي رآه قد خرج من القبر‏: نحن لا نبقى في قبورنا، بل من حين يقبر أحدنا يخرج من قبره ويمشى بين الناس‏. ومنهم من يرى ذلك الميت في الجنازة يمشى ويأخذ بيده، إلى أنواع أخرى معروفة عند من يعرفها‏.
 
وأهل الضلال إما أن يكذبوا بها وإما أن يظنوها من كرامات أولياء الله، ويظنون أن ذلك الشخص هو نفس النبي أو الرجل الصالح أو ملك على صورته، وربما قالوا‏: هذه روحانيته أو رقيقته أو سره أو مثاله أو روحه تجسدت، حتى قد يكون من يرى ذلك الشخص في مكانين فيظن أن الجسم الواحد يكون في الساعة الواحدة في مكانين، ولا يعلم أن ذلك حين تصور بصورته ليس هو ذلك الإنسي‏.
 
وهذا ونحوه مما يبين أن الذين يدعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وغير قبورهم، هم من المشركين الذين يدعون غير الله، كالذين يدعون الكواكب والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، قال تعالى‏: ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 79، 80‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏‏ [‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ}‏ ‏[‏سبأ‏: 22، 23‏]‏‏. ومثل هذا كثير في القرآن‏: ينهى أن يدعى غير الله لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحدا من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك، بخلاف دعائهم بعد موتهم، فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك‏.
 
فمن رأى نبيا أو ملكا من الملائكة وقال له‏: ‏‏ادع لي‏]‏ لم يفض ذلك إلى الشرك به، بخلاف من دعاه في مغيبه، فإن ذلك يفضي إلى الشرك به كما قد وقع، فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدعى وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين‏.
 
ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى ‏: ‏{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }‏ ‏[‏غافر‏: 7 9‏]‏، وقال تعالى ‏: ‏‏{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ الله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}‏ ‏[‏الشورى‏: 5، 6‏]‏‏.
 
فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد، وكذلك ما روى أن النبي {{صل}} أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته هو من هذا الجنس، هم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد‏.
 
وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون، لوجهين ‏:
 
أحدهما‏: أن ما أمرهم الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم فلا فائدة في الطلب منهم‏.
 
الثاني‏: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال يفضي إلى الشرك بهم ففيه هذه المفسدة‏. فلو قدِّر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه، بخلاف الطلب منهم في حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم، بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم، فإنهم في دار العمل والتكليف، وشفاعتهم في الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة‏.
 
وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجبا على السائل ولا مستحبا، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه‏. وسؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلا على الله أفضل، قال تعالى‏: ‏{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }‏ ‏[‏الشرح‏: 7، 8‏]‏ أي ارغب إلى الله لا إلى غيره، وقال تعالى‏: ‏{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ }‏ ‏[‏التوبة‏: 59‏]‏ فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى‏: ‏{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }‏ ‏[‏الحشر‏: 7‏]‏، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله‏.
 
وأما في الحسب فأمرهم أن يقولوا‏: ‏{حَسْبُنَا الله}‏ لا يقولوا‏: حسبنا الله ورسوله‏. ويقولوا‏: ‏{ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ }‏ ‏[‏التوبة‏: ‏59‏]‏ لم يأمرهم أن يقولوا‏: إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى‏: ‏{ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }‏ ‏[‏النور‏: 52‏]‏، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده‏.
 
 
====وصية النبي لابن عباس إذا سألت فاسأل الله====
وقد قال النبي {{صل}} لابن عباس‏: ‏(‏يا غلام، إني معلمك كلمات‏: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جَفَّ القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا‏)‏، وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصرا‏.
 
وقوله‏: ‏(‏إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله‏)‏ هو من أصح ما روى عنه‏. وفي المسند لأحمد‏: أن أبا بكر الصديق كان يسقط السَّوط من يده فلا يقول لأحد‏: ناولني إياه، ويقول‏: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئا‏. وفي [[صحيح مسلم]] عن عوف بن مالك أن النبي {{صل}} بايع طائفة من أصحابه وأسرّ إليهم كلمة خفية‏: ‏(‏ألا تسألوا الناس شيئا‏)‏‏. قال عوف‏: فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد‏: ناولني إياه‏.
 
وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب‏)‏، وقال‏: ‏(‏هم الذين لا يَسْتَرقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ولا يَتَطَيَّرونَ وعلى ربهم يتوكلون‏)‏ فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم‏. والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك‏.
 
وقد روى فيه‏: ‏(‏ولا يرقون‏)‏ وهو غلط، فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة، وكان النبي {{صل}} يرقى نفسه وغيره ولم يكن يسترقى، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به، فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك في قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم‏.
 
وما يروى أن الخليل لما ألقى في المنجنيق قال له جبريل‏: سل، قال‏: ‏(‏حسبي من سؤالي علمه بحالي)‏ ليس له إسناد معروف وهو باطل، بل الذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال‏: ‏(‏حسبي الله ونعم الوكيل‏)‏‏. ‏قال ابن عباس‏: قالها إبراهيم حين ألقى في النار، وقالها محمد حين‏: ‏{ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ }‏ ‏[‏آل عمران‏: 173‏]‏، وقد روى أن جبريل قال‏: هل لك من حاجة ‏؟‏ قال‏: ‏(‏أما إليك فلا‏)‏ وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره‏.
 
وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع، فكيف يقول‏: حسبي من سؤالى علمه بحالي، والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه؛ لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين، وإجابة السائلين‏. وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هى عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضى بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته‏.
 
ولكن العبد قد يكون مأمورا في بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روى في الحديث‏: ‏(‏من شَغَلهُ ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين‏)‏، وفي [[الترمذي]] عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من شَغَلهُ قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين‏)‏ قال الترمذي‏: حديث حسن غريب‏.
 
وأفضل العبادات البدنية الصلاة، وفيها القراءة والذكر والدعاء، وكل واحد في موطنه مأمور به، ففي القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن، وفي الركوع والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر بالتسبيح والذكر، وفي آخرها يؤمر بالدعاء، كما كان النبي {{صل}} يدعو في آخر الصلاة ويأمر بذلك‏. والدعاء في السجود حسن مأمور به، ويجوز الدعاء في القيام أيضا وفي الركوع، وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل، فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور به‏.
 
وقد سأل الخليل وغيره، قال تعالى عنه ‏: ‏‏{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ }‏ ‏[‏إبراهيم‏: 37- 41‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }‏‏ [‏البقرة‏: 127- 129‏]‏
 
وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به، وقد ثبت في الصحيح عن أبي الدرداء عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏‏"‏ما من رجل يدعولأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به‏: آمين، ولك بمثله‏)‏ أي بمثل ما دعوت لأخيك به‏.
 
وأما سؤال المخلوقِ المخلوقَ أن يقضى حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به، بخلاف سؤال العلم، فإن الله أمر بسؤال العلم كما في قوله تعالى‏: ‏{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }‏ ‏[‏النحل‏: ‏43، والأنبياء‏: 7‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ }‏ ‏[‏يونس‏: 94‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }‏ ‏[‏الزخرف‏: 45‏]‏، وهذا لأن العلم يجب بذله، فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة‏. وهو يزكو على التعليم، لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل، ولهذا يُشبه بالمصباح‏.
 
وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة، لصاحبها أن يسألها ممن هى عنده، وكذلك مال الفىء وغيره من الأموال المشتركة التي يتولى قسمتها ولىُّ الأمر، للرجل أن يطلب حقه منه كما يطلب حقه من الوقف والميراث والوصية؛ لأن المستولى يجب عليه أداء الحق إلى مستحقه‏.
 
ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه، وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه، كما استطعم موسى والخضر أهل القرية‏. وكذلك الغريم له أن يطلب دينه ممن هو عليه‏. وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه؛ فالبائع يسأل الثمن، والمشترى يسأل المبيع‏. ومن هذا الباب قوله تعالى‏: ‏{ وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ }‏ ‏[‏النساء‏: 1‏]‏‏.
 
 
====ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل====
ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به، والمسؤول مأمور بإجابة السائل، قال تعالى‏: ‏{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ }‏ ‏[‏الضحى‏: 10‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ }‏ ‏[‏المعارج‏: ‏24، 25‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}‏‏ [‏الحج‏: 63‏]‏، ومنه الحديث‏: ‏(‏إن أحدكم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارا‏)‏، وقوله‏: ‏(‏اقطعوا عني لسان هذا‏)‏‏.
 
وقد يكون السؤال منهيا عنه نهى تحريم أو تنزيه، وإن كان المسؤول مأمورا بإجابة سؤاله، فالنبي {{صل}} كان من كماله أن يعطى السائل، وهذا في حقه من فضائله ومناقبه، وهو واجب أو مستحب، وإن كان نفس سؤال السائل منهيا عنه‏. ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئا من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا يطلبون منه أن يدعو للمسلمين، كما أشار عليه عمر في بعض مغازيه لما استأذنوه في نحر بعض ظهرهم، فقال عمر‏: يا رسول الله، كيف بنا إذا لقينا العدو غدًا رجالا جياعًا ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها، ثم تدعو الله بالبركة، فإن الله يبارك لنا في دعوتك‏. وفي رواية‏: فإن الله سيغيثنا بدعائك‏. وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما سأله الأعمى أن يدعو الله له ليرد عليه بصره، وكما سألته أم سليم أن يدعو الله لخادمه أنس، وكما سأله أبو هريرة أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين، ونحو ذلك‏.
 
وأما الصديق فقد قال الله فيه وفي مثله‏: ‏{ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى }‏‏ [‏الليل‏: 17‏: 21‏]‏، وقد ثبت في الصحاح عنه أنه قال {{صل}}‏: ‏(‏إن أمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا‏)‏ فلم يكن في الصحابة أعظم مِنَّة من الصديق في نفسه وماله‏.
 
وكان أبو بكر يعمل هذا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من مخلوق، فقال تعالى‏: ‏{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى }‏‏ [‏الليل‏: 17‏: 21‏]‏، فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى، فإنه كان مستغنيا بكسبه وماله عن كل أحد، والنبي {{صل}} كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم، وتلك النعمة لا تجزى، فإن أجر الرسول فيها على الله، كما قال تعالى‏: ‏{ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ }‏‏ [‏الشعراء‏: 109، 127، 145، 164، 180‏]‏‏.
 
وأما على وزيد وغيرهما، فإن النبي {{صل}} كان له عندهم نعمة تجزى، فإن زيدًا كان مولاه فأعتقه، قال تعالى‏: ‏{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}‏‏ [‏الأحزاب‏: 37‏]‏، وعلىّ كان في عيال النبي {{صل}} لجدب أصاب أهل مكة، فأراد النبي {{صل}} والعباس التخفيف عن أبي طالب من عياله، فأخذ النبي {{صل}} عليا إلى عياله، وأخذ العباس جعفرا إلى عياله، وهذا مبسوط في موضع آخر‏.
 
والمقصود هنا أن الصديق كان أمنَّ الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله {{صل}}؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين‏. ولم يكن النبي {{صل}} محتاجا في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة‏: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما، فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏بالثمن‏)‏ فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم‏.
 
ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم‏: ‏{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا }‏‏ [‏الإنسان‏: 9‏]‏، والدعاء جزاء كما في الحديث‏: ‏(‏من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه‏)‏‏. وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول‏: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله‏.
 
وقال بعض السلف‏: إذا قال لك السائل‏: بارك الله فيك، فقل‏: وفيك بارك الله، فمن عمل خيرًا مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبيا أو رجلا صالحا أو ملكا من الملوك أو غنيا من الأغنياء، فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصا لله يبتغى به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاءً ولا دعاءً ولا غيره، لا من نبي ولا رجل صالح ولا من الملائكة، فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين‏.
 
وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، فلا يقبل من أحد دينا غيره، قال تعالى‏: ‏{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }‏‏ [‏آل عمران‏: 85‏]‏، وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام، قال نوح‏: ‏{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }‏‏ [‏يونس‏: 72‏]‏، وقال عن إبراهيم‏: ‏{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }‏‏ [‏البقرة‏: 130‏: 132‏]‏، وقال موسى‏: ‏‏{ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ }‏‏ [‏يونس‏: 84‏]‏، وقالت السَّحَرَةُ‏: ‏{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }‏‏ [‏الأعراف‏: 126‏]‏، وقال يوسف‏: ‏{ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }‏‏ [‏يوسف‏: 101‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ }‏‏ [‏المائدة‏: 44‏]‏، وقال عن الحواريين‏: ‏{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }‏‏ [‏المائدة‏: 111‏]‏‏.
 
 
====دين الإسلام مبني على أصلين====
ودين الإسلام مبني على أصلين‏: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل، أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان‏. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل‏.
 
وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي {{صل}} يصلى إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجا عن دين الإسلام‏. فكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد {{صل}} بما شرعه الله، من واجب ومستحب، فليس بمسلم‏.
 
ولا بد في جميع الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين، كما قال تعالى‏: ‏{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }‏‏ [‏البينة‏: 4، 5‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ الله ُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ }‏‏ [‏الزمر‏: 1 3‏]‏‏.
 
فكل ما يفعله المسلم من القرب الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع والمال، هو مأمور بأن يفعله خالصا لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء‏: لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء، لا دعاء ولا غيره‏.
 
وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب بل ولا يستحب إلا في بعض المواضع، ويكون المسؤول مأمورا بالإعطاء قبل السؤال، وإذا كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك {{صل}} فإنه أجل قدرا وأغنى بالله عن غيره، فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد ‏:
 
مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهى من نوع الشرك‏.
 
ومفسدة إيذاء المسؤول وهى من نوع ظلم الخلق‏.
 
وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس‏. ‏
 
فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة، وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله‏.
 
وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما ينتفعون به، كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو ينتفع بدعائهم له فهو أيضا ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة، فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏: ‏(‏من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء‏)‏، ومحمد {{صل}} هو الداعي إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء‏.
 
ولهذا لم تجرِ عادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال؛ لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيء‏. وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره، وإنما ينتفع الوالد بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب، كما قال في الحديث الصحيح‏: ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له‏)‏‏. فالنبي {{صل}} فيما يطلبه من أمته من الدعاء طلبه طلب أمر وترغيب، ليس بطلب سؤال‏. فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام عليه، فهذا أمر الله به في القرآن بقوله‏: ‏{ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }‏‏ [‏الأحزاب‏: 56‏]‏، ‏. والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة‏. ومن ذلك أمره بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، كما ثبت في [[صحيح مسلم]] عن عبد الله بن عمرو عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىَّ، فإنه من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وفي [[صحيح البخاري]] عن جابر، عن النبي {{صل}}؛ أنه قال‏: ‏(‏من قال حين سمع النداء‏: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد‏. حلت له شفاعتى يوم القيامة‏)‏، فقد رغب المسلمين في أن يسألوا الله له الوسيلة، وبيَّن أن من سألها له حلت له شفاعته يوم القيامة، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، فإن الجزاء من جنس العمل‏.
 
ومن هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد و[[أبو داود]] و[[الترمذي]] وصححه و[[ابن ماجه]] أن عمر بن الخطاب استأذن النبي {{صل}} في العمرة فأذن له ثم قال‏: ‏(‏لا تنسنا يا أخي من دعائك‏)‏، فطلب النبي {{صل}} من عمر أن يدعو له كطلبه أن يصلى عليه، ويسلم عليه، وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات، فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه‏. وهو {{صل}} أيضا ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به، وينتفع أيضا بالخير الذي يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له‏.
 
ومن هذا الباب قول القائل‏: إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتى ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت‏)‏ قال‏: الربع ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قال‏: النصف ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قال‏: الثلثين ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قال‏: أجعل لك صلاتى كلها ‏؟‏ قال‏: ‏(‏إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك‏)‏ رواه أحمد في مسنده والترمذي وغيرهما‏.
 
وقد بسط الكلام عليه في ‏‏جواب المسائل البغدادية‏. فإن هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا جعل مكان دعائه الصلاة على النبي {{صل}} كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته، فإنه كلما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة‏: ‏(‏آمين، ولك بمثله‏)‏ فدعاؤه للنبي {{صل}} أولى بذلك‏.
 
ومن قال لغيره من الناس‏: ادع لي أو لنا وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضا بأمره، ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير، فهو مقتد بالنبي {{صل}}، مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح‏.
 
وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله ورسوله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله‏. وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع‏.
 
وأما سؤال الميت فليس بمشروع، لا واجب ولا مستحب، بل ولا مباح، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة وليس فيه مصلحة راجحة، والشريعة إنما تأمر بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وهذا ليس فيه مصلحة راجحة، بل إما أن يكون مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، وكلاهما غير مشروع‏.
 
فقد تبين أن ما فعله النبي {{صل}} من طلب الدعاء من غيره، هو من باب الإحسان إلى الناس، الذي هو واجب أو مستحب‏.
 
وكذلك ما أمر به من الصلاة على الجنائز، ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم، هو من باب الإحسان إلى الموتى الذي هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة، فالصلاة حق الحق في الدنيا والآخرة، والزكاة حق الخلق، فالرسول أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئا‏.
 
ومن عبادته الإحسان إلى الناس، حيث أمرهم الله سبحانه به، كالصلاة على الجنائز وكزيارة قبور المؤمنين، فاستحوذ الشيطان على أتباعه، فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم أو أنهم لا يقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد الصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين، مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم‏. فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة‏.
 
فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد‏.
 
فإن الله تعالى أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده كما قال تعالى‏: ‏{وَاعْبُدُواْ الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}‏‏ [‏النساء‏: 36‏]‏ وهذا أمر بمعالى الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالى الأخلاق ويكره سفسافها‏.
 
وقد روى عنه {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏)‏ رواه الحاكم في صحيحه، وقد ثبت عنه في الصحيح {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏، وقال‏: ‏(‏اليد العليا هى المعطية، واليد السفلى السائلة‏)‏، وهذا ثابت عنه في الصحيح‏.
 
فأين الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم ‏؟‏ وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له والتوكل عليه والحب له، من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه، وأن يُحَبّ كما يحب الله ‏؟‏ وأين صلاح العبد في عبودية الله والذل له والافتقار إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه ‏؟‏‏.
 
فالرسول {{صل}} أمر بتلك الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التي تصلح أمور أصحابها في الدنيا والآخرة، ونهى عن الأنواع الثلاثة التي تفسد أمور أصحابها‏.
 
ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به الرسول، قال تعالى‏: ‏{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}‏‏ [‏يس‏: 60‏: 62‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}‏‏ [‏الحجر‏: 42‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}‏‏ [‏النحل‏: 98‏: 100‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}‏‏ [‏الزخرف‏: 36- 37‏]‏‏.
 
وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزل الله على رسوله الذي قال فيه‏: ‏{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}‏‏ [‏الحجر‏: 9‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}‏‏ [‏طه‏: 123‏: 126‏]‏، وقد قال تعالى‏: ‏{المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ}‏‏ [‏الأعراف‏: 1 3‏]‏، وقد قال تعالى‏: ‏{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}‏‏ [‏إبراهيم‏: 1، 2‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تدري مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى الله تَصِيرُ الأمُورُ}‏‏ [‏الشورى‏: 52‏: 53‏]‏‏.
 
فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمدًا {{صل}} بفعل ما أمر، وترك ما حظر، وتصديقه فيما أخبر، ولا طريق إلى الله إلا ذلك، وهذا سبيل أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين‏.
 
وكل ما خالف ذلك فهو من طريق أهل الغى والضلال، وقد نزه الله تعالى نبيه عن هذا وهذا، فقال تعالى‏: ‏{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}‏‏ [‏النجم‏: 1 4‏]‏، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في صلاتنا‏: ‏{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}‏‏ [‏الفاتحة‏: 6، 7‏]‏‏.
 
وقد روى [[الترمذي]] وغيره عن عدي بن حاتم، عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏)‏ قال الترمذي‏: حديث صحيح‏. وقال [[سفيان بن عيينة]]‏: كانوا يقولون‏: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى‏.
 
وكان غير واحد من السلف يقول‏: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون‏.
 
فمن عرف الحق ولم يعمل به أشبه اليهود الذين قال الله فيهم‏: ‏{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}‏‏ [‏البقرة‏: 44‏]‏‏. ومن عبد الله بغير علم، بل بالغلو والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم‏: ‏{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}‏‏ [‏المائدة‏: 77‏]‏‏.
 
فالأول من الغاوين، والثاني من الضالين‏.
 
فإن الغى اتباع الهوى، والضلال عدم الهدى‏. قال تعالى‏: ‏{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}‏‏ [‏الأعراف‏: 175، 176‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}‏‏ [‏الأعراف‏: 146‏]‏‏.
 
ومن جمع الضلال والغى ففيه شبه من هؤلاء وهؤلاء‏. نسأل الله أن يهدينا وسائر إخواننا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‏.
 
 
====فصل: لفظ ‏‏الوسيلة‏ و‏‏التوسل‏‏ فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه====
إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ ‏‏الوسيلة‏ و‏‏التوسل‏‏ فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذى حق حقه‏. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه‏. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك‏. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه‏.
 
فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب‏.
 
فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏ ‏[‏المائدة‏: 35‏]‏، وفي قوله تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏، فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، هى ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات‏. فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا‏.
 
فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول‏. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك‏.
 
والثاني لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله {{صل}}‏: ‏(‏سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وقوله‏: ‏(‏من قال حين يسمع النداء‏: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة‏)‏‏.
 
فهذه الوسيلة للنبي {{صل}} خاصة‏. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول، وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي {{صل}} استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال‏: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا‏.
 
وأما التوسل بالنبي {{صل}} والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته‏. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح‏. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة‏.
 
فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء ‏:
 
فأحدهما‏: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.
 
والثاني‏: دعاؤه وشفاعته كما تقدم‏.
 
فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومن هذا قول عمر بن الخطاب‏: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، أي‏: بدعائه وشفاعته، وقوله تعالى‏: ‏{وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏ ‏[‏المائدة‏: 35‏]‏، أي القربة إليه بطاعته‏. وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى‏: ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله}‏ ‏[‏النساء‏: 80‏]‏‏. فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين‏. وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما‏.
 
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان ‏:
 
أحدها‏: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به‏.
 
والثاني‏: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته‏.
 
والثالث‏: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.
 
وهذا هو الذي قال [[أبو حنيفة]] وأصحابه‏: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا‏: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد‏: أسألك بحق أنبيائك‏. قال أبو الحسين القدورى، في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخى في باب الكراهة‏: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة‏. قال بشر بن الوليد‏: حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة‏: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به‏. وأكره أن يقول‏: ‏(‏بمعاقد العز من عرشك‏)‏ أو ‏(‏بحق خلقك‏)‏‏. وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف‏: بمعقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام‏.
 
قال القدورى‏: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا‏.
 
وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان ‏:
 
أحدهما‏: هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى‏. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته ك ‏{َاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}‏ ‏[‏الليل‏: 1، 2‏]‏، ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}‏ ‏[‏الشمس‏: 1‏]‏، ‏{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}‏ ‏[‏النازعات‏: 1‏]‏، ‏{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}‏ ‏[‏الصافات‏: 1‏]‏، فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن مَن ذَكَر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها، كما في السنن عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏، وقد صححه [[الترمذي]] وغيره، وفي لفظ‏: ‏(‏فقد كفر‏)‏ وقد صححه الحاكم‏. وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏: ‏(‏من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏، وقال‏: ‏(‏لا تحلفوا بآبائكم، فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم‏)‏، وفي الصحيحين عنه أنه قال‏: ‏(‏من حلف باللات والعزى فليقل‏: لا إله إلا الله‏)‏‏. وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة، أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش، والكرسي، والكعبة، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي {{صل}}، والملائكة، والصالحين، والملوك، وسيوف المجاهدين، وترب الأنبياء والصالحين، وأيمان البندق، وسراويل الفتوة، وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك‏.
 
 
====الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور====
والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك‏. وقيل‏: هى مكروهة كراهة تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن عمر‏: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغير الله صادقا‏. وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب‏. إنما نعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي {{صل}} روايتان ‏:
 
إحداهما‏: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور‏: مالك وأبي حنيفة والشافعي‏.
 
والثانية‏: ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء‏. وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي {{صل}} خاصة، وعَدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء‏. وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيا قول ضعيف في الغاية، مخالف للأصول والنصوص، فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام هو من هذا الجنس‏.
 
وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم وبينهما فرق فإن النبي {{صل}} أمر بإبرار القسم، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏: ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏ قال ذلك لما قال أنس بن النضر‏: أتكسر ثنية الرُّبيع ‏؟‏ قال‏: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها‏. فقال‏: ‏(‏يا أنس، كتاب الله القصاص‏)‏، فرضى القوم وعفوا، فقال {{صل}}‏: ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏، وقال‏: ‏(‏رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره‏)‏ رواه مسلم وغيره، وقال‏: ‏(‏ألا أخبركم بأهل الجنة ‏؟‏ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره‏. ألا أخبركم بأهل النار ‏؟‏ كل عتل جواظ ‏<ref> [‏العتل‏: الشديد الجافي والفظ الغليظ من الناس‏. والجواظ‏: الكثير اللحم المختال في مشيته، انظر‏: النهاية في غريب الحديث 3180، 1316‏]‏‏</ref> مستكبر‏)‏ وهذا في الصحيحين‏. وكذلك حديث أنس بن النضر والآخر من أفراد مسلم‏.
 
وقد روى في قوله‏: ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏ أنه قال‏: ‏(‏منهم البراء بن مالك‏)‏ وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون‏: يا براء أقسم على ربك‏. فيقسم على الله فتنهزم الكفار‏. فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا‏: يا براء، أقسم على ربك‏. قال‏: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد‏. فأبر الله قسمه فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ‏. وهذا هو أخو أنس بن مالك، قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك في دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس ورمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب‏.
 
والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا، فإن حنثه ولم يبر قسمه فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئا ولم يفعله، فالكفارة على الحالف الحانث‏.
 
وأما قوله‏: ‏[‏سألتك بالله أن تفعل كذا‏]‏ فهذا سؤال وليس بقسم، وفي الحديث‏: ‏(‏من سألكم بالله فأعطوه‏)‏ ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله‏. والخلق كلهم يسألون الله، مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار، فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا، وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون‏. فالسؤال كقول السائل لله‏: أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام‏. وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‏. وأسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏.
 
فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساما عليه؛ فإن أفعاله هى مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو ؛ ولهذا لما قالت عائشة للنبي {{صل}}‏: إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول ‏؟‏ قال‏: ‏(‏قولي‏: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني‏)‏‏.
 
وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادي، وفي الأثر المنقول عن [[أحمد بن حنبل]] أنه أمر رجلا أن يقول‏: يا دليل الحيارى، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين‏.
 
وجميع ما يفعل الله بعبده من الخير من مقتضى اسمه الرب؛ ولهذا يقال في الدعاء‏: يا رب، يا رب، كما قال آدم‏: ‏{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}‏ ‏[‏الأعراف‏: 23‏]‏، وقال نوح‏: ‏{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}‏ ‏[‏هود‏: 47‏]‏، وقال إبراهيم‏: ‏{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}‏ ‏[‏إبراهيم‏: 37‏]‏ وكذلك سائر الأنبياء‏. وقد كره مالك وابن أبي عمران من أصحاب أبي حنيفة وغيرهما أن يقول الداعي ‏: يا سيدي، يا سيدي‏. وقالوا‏: قل كما قالت الأنبياء‏: ربِّ، رَبِّ‏. واسمه ‏(‏الحى القيوم‏)‏ يجمع أصل معاني الأسماء والصفات، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع؛ ولهذا كان النبي {{صل}} يقوله إذا اجتهد في الدعاء‏.
 
فإذ سئل المسؤول بشيء والباء للسبب سئل بسبب يقتضي وجود المسؤول‏.
 
فإذا قال‏: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، كان كونه محمودا منانا، بديع السموات والأرض يقتضي أن يمن على عبده السائل، وكونه محمودا هو يوجب أن يفعل ما يحمد عليه، وحمد العبد له سبب إجابة دعائه؛ ولهذا أمر المصلى أن يقول‏: ‏(‏سمع الله لمن حمده‏)‏ أي استجاب الله دعاء من حمده، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول كقوله {{صل}}‏: ‏(‏أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع‏)‏ أي لا يستجاب‏.
 
ومنه قول الخليل في آخر دعائه‏: ‏{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء}‏ ‏[‏إبراهيم‏: 39‏]‏ ومنه قوله تعالى‏: ‏{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}‏ ‏[‏التوبة‏: 47‏]‏، وقوله‏: ‏{وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ }‏ ‏[‏المائدة‏: 41‏]‏ أي‏: يقبلون الكذب، ويقبلون من قوم آخرين لم يأتوك؛ ولهذا أمر المصلى أن يدعو بعد حمد الله بعد التشهد المتضمن الثناء على الله سبحانه‏.
 
وقال النبي {{صل}} لمن رآه يصلى ويدعو، ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه فقال‏: ‏(‏عَجِل هذا‏)‏، ثم دعاه فقال‏: ‏(‏إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه وليصل على النبي {{صل}}، وليدع بعد بما شاء‏)‏، أخرجه [[أبو داود]] و[[الترمذي]] وصححه‏.
 
وقال عبد الله بن مسعود‏: كنت أصلي والنبي {{صل}} وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم بالصلاة على نبيه، ثم دعوت لنفسي فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏سل تعطه‏)‏‏. رواه الترمذي وحسنه‏.
 
فلفظ السمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم‏. قال تعالى‏: ‏{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ}‏ ثم قال‏: ‏{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ}‏ على هذه الحال التي هم عليها لم يقبلوا الحق ثم ‏{لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}‏ ‏[‏الأنفال‏: 23‏]‏، فذمهم بأنهم لا يفهمون القرآن ولو فهموه لم يعملوا به‏. وإذا قال السائل لغيره‏: أسأل بالله، فإنما سأله بإيمانه بالله، وذلك سبب لإعطاء من سأله به، فإنه سبحانه يحب الإحسان إلى الخلق، لا سيما إن كان المطلوب كف الظلم، فإنه يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، وأمره أعظم الأسباب في حض الفاعل، فلا سبب أولى من أن يكون مقتضيا لمسببه من أمر الله تعالى‏.
 
وقد جاء في حديث رواه أحمد في مسنده و[[ابن ماجه]]، عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، عن النبي {{صل}} أنه عَلَّم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه‏: ‏(‏وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك‏)‏‏.
 
فإن كان هذا صحيحا فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم، كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سببا لإجابة الدعاء كما في قوله تعالى‏: ‏{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}‏ ‏[‏الشورى‏: 26‏]‏‏.
 
وكما يسأل بوعده؛ لأن وعده يقتضي إنجاز ما وعده، ومنه قول المؤمنين‏: ‏{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}‏ ‏[‏آل عمران‏: 193‏]‏، وقوله‏: ‏{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}‏ ‏[‏المؤمنون‏: 109، 110‏]‏‏.
 
ويشبه هذا مناشدة النبي {{صل}} يوم بدر حيث يقول‏: ‏(‏اللهم أنجز لي ما وعدتني‏)‏‏. وكذلك ما في التوراة‏: أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل، فجعل موسى يسأل ربه ويذكر ما وعد به إبراهيم، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم‏.
 
ومن السؤال بالأعمال الصالحة‏: سؤال الثلاثة الذين أووا إلى غار، فسأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله؛ لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاه، محبة تقتضي إجابة صاحبه‏. هذا سأل ببره لوالديه، وهذا سأل بعفته التامة، وهذا سأل بأمانته وإحسانه‏.
 
وكذلك كان ابن مسعود يقول وقت السحر‏: اللهم أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لي، ومنه حديث ابن عمر‏: أنه كان يقول على الصفا‏: ‏‏(‏اللهم إنك قلت وقولك الحق ‏: ‏{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}‏ ‏[‏غافر‏: 60‏]‏، وإنك لا تخلف الميعاد‏)‏، ثم ذكر الدعاء المعروف عن ابن عمر أنه كان يقوله على الصفا ‏.
 
 
====قول القائل‏ ‏‏أسألك بكذا====
فقد تبين أن قول القائل‏: ‏‏أسألك بكذا‏ نوعان‏: فإن الباء قد تكون للقسم، وقد تكون للسبب، فقد تكون قسما به على الله، وقد تكون سؤالا بسببه‏.
 
فأما الأول‏: فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق ‏؟‏
 
وأما الثاني وهو السؤال بالمعظم ‏: كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع، وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز ذلك‏. ‏ومن الناس من يجوز ذلك، فنقول‏: قول السائل لله تعالى‏: ‏[‏أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان‏]‏ يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح‏.
 
فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضي أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا، مع أنه سبحانه قال‏: ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏‏ [‏البقرة‏: 255‏]‏‏.
 
ويقتضي أيضا أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه، كان سعيدا، ومن أطاع أمرهم الذي بلغوه عن الله كان سعيدا، ولكن ليس نفس مجرد قدرهم وجاههم مما يقتضي إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك، بل جاههم ينفعه أيضا إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين، وينفعه أيضا إذا دعوا له وشفعوا فيه‏.
 
فأما إذا لم يكن منهم دعاء ولا شفاعة، ولا منه سبب يقتضي الإجابة، لم يكن متشفعا بجاههم، ولم يكن سؤاله بجاههم نافعا له عند الله، بل يكون قد سأل بأمر أجنبي عنه ليس سببا لنفعه، ولو قال الرجل لمطاع كبير‏: أسألك بطاعة فلان لك، وبحبك له على طاعتك، وبجاهه عندك الذي أوجبته طاعته لك، لكان قد سأله بأمر أجنبي لا تعلق له به، فكذلك إحسان الله إلى هؤلاء المقربين ومحبته لهم وتعظيمه لأقدارهم مع عبادتهم له وطاعتهم إياه ليس في ذلك ما يوجب إجابة دعاء من يسأل بهم، وإنما يوجب إجابة دعائه بسبب منه لطاعته لهم، أو سبب منهم لشفاعتهم له، فإذا انتفى هذا وهذا فلا سبب‏.
 
 
====جواز التوسل بالأعمال الصالحة====
نعم، لو سأل الله بإيمانه بمحمد {{صل}} ومحبته له وطاعته له واتباعه، لكان قد سأله بسبب عظيم يقتضي إجابة الدعاء، بل هذا أعظم الأسباب والوسائل، والنبي {{صل}} بين أن شفاعته في الآخرة تنفع أهل التوحيد لا أهل الشرك، وهى مستحقة لمن دعا له بالوسيلة كما في الصحيح أنه قال‏: ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏، وفي الصحيح أن أبا هريرة قال له‏: أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ‏؟‏ قال‏: ‏(‏من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه‏)‏‏.
 
فبين {{صل}} أن أحق الناس بشفاعته يوم القيامة من كان أعظم توحيدا وإخلاصا؛ لأن التوحيد جماع الدين، والله لا يغفرأن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا شفع محمدا {{صل}} حدَّ له ربه حدا فيدخلهم الجنة، وذلك بحسب ما يقوم بقلوبهم من التوحيد والإيمان‏. وذكر {{صل}} أنه من سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة، فبين أن شفاعته تنال باتباعه بما جاء به من التوحيد والإيمان‏. وبالدعاء الذي سن لنا أن ندعو له به‏.
 
 
====السؤال بحق فلان مبني على أصلين‏====
وأما السؤال بحق فلان فهو مبني على أصلين‏:
 
أحدهما‏: ما له من الحق عند الله‏. ‏والثاني‏: هل نسأل الله بذلك كما نسأل بالجاه والحرمة‏؟‏
 
أما الأول فمن الناس من يقول‏: للمخلوق على الخالق حق يعلم بالعقل، وقاس المخلوق على الخالق، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم‏. ‏ومن الناس من يقول‏: لا حق للمخلوق على الخالق بحال، لكن يعلم ما يفعله بحكم وعده وخبره، كما يقول ذلك من يقوله من أتباع جهم والأشعري وغيرهما، ممن ينتسب إلى السنة‏.
 
ومنهم من يقول‏: بل كتب الله على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، كما قال في الحديث الصحيح الإلهي‏: ‏(‏يا عبدي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا‏)‏‏. ‏وقال تعالى‏: ‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}‏‏ [‏الأنعام‏: 54‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ [‏الروم‏: 47‏]‏ وفي الصحيحين عن معاذ، عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده ‏؟‏‏)‏ قلت‏: الله ورسوله أعلم‏. ‏قال‏: ‏(‏حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا‏. ‏يا معاذ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ‏؟‏‏)‏ قلت الله ورسوله أعلم، قال‏: ‏(‏حقهم عليه ألا يعذبهم‏)‏‏. فعلى هذا القول لأنبيائه وعباده الصالحين عليه سبحانه حق أوجبه على نفسه مع إخباره، وعلى الثاني يستحقون ما أخبر بوقوعه، وإن لم يكن ثَمَّ سبب يقتضيه‏.
 
فمن قال‏: ليس للمخلوق على الخالق حق يسأل به كما روى أن الله تعالى قال لداود‏: ‏(‏وأي حق لآبائك عليّ ‏؟‏‏)‏ فهو صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حق بالقياس والاعتبار على خلقه كما يجب للمخلوق على المخلوق، وهذا كما يظنه جهال العباد من أن لهم على الله سبحانه حقا بعبادتهم‏.
 
وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم، فيجلبون لهم منفعة، ويدفعون عنهم مضرة ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه‏: ألم يفعل كذا ‏؟‏ يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه‏.
 
وتخيل مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه، ولهذا بيّن سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غني عن الخلق، كما في قوله تعالى‏: ‏{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}‏‏ [‏الإسراء‏: 7‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}‏‏ [‏فصلت‏: 46‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }‏‏ [‏الزمر‏: 7‏]‏ وقوله تعالى‏: ‏{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}‏‏ [‏النمل‏: 40‏]‏، وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام ‏: ‏{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}‏‏ [‏إبراهيم‏: 7، 8‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئا}‏‏ [‏آل عمران‏: 176‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}‏‏ [‏آل عمران‏: 97‏]‏‏.
 
وقد بين سبحانه أنه المانُّ بالعمل فقال تعالى‏: ‏{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}‏‏ [‏الحجرات‏: 17‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَنِعْمَةً وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}‏‏ [‏الحجرات‏: 7، 8‏]‏‏.
 
وفي الحديث الصحيح الإلهي‏: ‏(‏يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‏. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم‏. ‏يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا‏. ‏يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا‏. ‏يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلكم مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر‏)‏‏.
 
وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة‏.
 
منها‏: أن الرب تعالى غني بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه‏. ‏والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية‏.
 
ومنها‏: أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التّائبين فهو الذي يخلق ذلك وييسره فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته‏. ‏وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان بخلاف القدرية‏. ‏والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره‏.
 
ومنها‏: أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، كما قال قتادة‏: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلا عليهم، بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم‏. ‏بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلا عليه‏. ‏وهذا أيضا ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته، ويقولون‏: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم، ولم ينههم إلا عن شر يضرهم، بخلاف المجبرة الذين يقولون‏: إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم‏.
 
ومنها‏: أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، فلا حول ولا قوة إلا به؛ ولهذا قال أهل الجنة‏: ‏{الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}‏‏ [‏الأعراف‏: 43‏]‏ وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك‏.
 
ومنها‏: أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم لم تقم العبادة بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمته أيضا ‏؟‏
 
ومنها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج إلى مغفرة الله لها ‏{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ}‏‏ [‏فاطر‏: 45‏]‏، وقوله {{صل}}‏: ‏(‏لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله‏)‏، لا يناقض قوله تعالى‏: ‏{جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}‏‏ [‏الأحقاف‏: 14، الواقعة‏: 24‏]‏‏.
 
فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة، كما يقال‏: بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببا للجزاء؛ ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه، فهو ضال، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏لن يدخل أحد الجنة بعمله‏)‏، قالوا‏: ولا أنت يا رسول الله ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل‏)‏ وروى ‏(‏بمغفرته‏)‏، ومن هذا أيضا‏: الحديث الذي في السنن عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم‏)‏ الحديث‏.
 
ومن قال‏: بل للمخلوق على الله حق، فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته، وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب، وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه‏.
 
 
 
====سؤال الله بأسمائه وصفاته أعظم ما يسأل الله تعالى به====
وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر، فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به‏. فقول المنازع‏: لا يسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حق للمخلوق على الخالق‏: ممنوع فإنه قد ثبت في الصحيحين حديث معاذ الذي تقدم إيراده، وقال تعالى‏: ‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}‏‏ [‏الأنعام‏: ‏54‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ [‏الروم‏: 47‏]‏‏.
 
فيقال للمنازع‏: في هذا في مقامين‏:
 
أحدهما‏: في حق العباد على الله، والثاني‏: في سؤاله بذلك الحق‏.
 
أما الأول‏: فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى‏: ‏{وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلا}‏‏ [‏النساء‏: 122‏]‏، ‏{وَعْدَ الله لَا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}‏‏ [‏الروم‏: 6‏]‏، ‏{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}‏‏ [‏إبراهيم‏: 47‏]‏، فهذا مما يجب وقوعه بحكم الوعد باتفاق المسلمين‏. ‏وتنازعوا‏: هل عليه واجب بدون ذلك ‏؟‏ على ثلاثة أقوال، كما تقدم‏.
 
قيل‏: لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك‏.
 
وقيل‏: بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده‏.
 
وقيل‏: هو أوجب على نفسه وحرم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر، كما تقدم‏.
 
والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا في الظلم الذي لا يقع، فقيل‏: هو الممتنع وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلما؛ لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذي يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه‏.
 
وقيل‏: بل ما كان ظلما من العباد فهو ظلم منه‏.
 
وقيل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئا، قال تعالى‏: ‏{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}‏‏ [‏طه‏: 112‏]‏‏. ‏قال المفسرون‏: هو أن يحمل عليه سيئات غيره ويعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته، وقال تعالى‏: ‏{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}‏‏ [‏النساء‏: 40‏]‏، ‏{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}‏‏ [‏هود‏: 101‏]‏‏.
 
وأما المقام الثاني‏: فإنه يقال‏: ما بين الله ورسوله أنه حق للعباد على الله فهو حق، لكن الكلام في السؤال بذلك، فيقال‏: إن كان الحق الذي سأل به سببا لإجابة السؤال حسن السؤال به، كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه‏.
 
وأما إذا قال السائل‏: بحق فلان وفلان، فأولئك إذا كان لهم عند الله حق ألا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه فليس في استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله ما يكون سببا لمطلوب هذا السائل، فإن ذلك استحق ما استحقه بما يسره الله له من الإيمان والطاعة‏. ‏وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك‏. ‏فليس في إكرام الله لذلك سبب يقتضي إجابة هذا‏.
 
وإن قال‏: السبب هو شفاعته ودعاؤه فهذا حق، إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب‏.
 
وإن قال‏: السبب هو محبتى له وإيماني به وموالاتى له، فهذا سبب شرعي، وهو سؤال الله وتوسل إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله، وطاعته لله ورسوله، لكن يجب الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله‏: فمن أحب مخلوقا كما يحب الخالق فقد جعله ندا لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه، وأما من كان الله تعالى أحب إليه مما سواه، وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له، فحبه لله تعالى هو أنفع الأشياء، والفرق بين هذين من أعظم الأمور‏.
 
فإن قيل‏: إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته، وهذا أعظم الوسائل، وتارة يتوسل بذلك في الدعاء كما ذكرتم نظائره فيحمل قول القائل‏: أسألك بنبيك محمد، على أنه أراد‏: إني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته، ونحو ذلك، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع‏. قيل‏: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي {{صل}} بعد مماته من السلف كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره كان هذا حسنا، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع‏. ‏ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر‏.
 
وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ‏.
 
فإن قيل‏: فقد يقول الرجل بغيره‏: بحق الرحم، قيل‏: الرحم توجب على صاحبها حقا لذى الرحم، كما قال الله تعالى‏: ‏{وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}‏‏ [‏النساء‏: 1‏]‏ وقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏الرحم شَجْنَةٌ <ref>‏[‏شَجْنَة‏: أي قرابة مُشْتبِكة كاشتباك العروق‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 2447‏]‏</ref> من الرحمن، من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وقال‏: ‏(‏لما خلق الله الرحم تعلقت بِحَقْوِ الرحمن وقالت‏: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال‏: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ‏؟‏ قالت‏: بلى قد رضيت‏)‏، وقال {{صل}}‏: ‏(‏يقول الله تعالى‏: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته‏)‏‏.
 
وقد روى عن علي أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه، أعطاه لحق جعفر على عليَّ‏. وحق ذى الرحم باق بعد موته، كما في الحديث‏: أن رجلا قال‏: يا رسول الله، هل بقى من بر أبوى شيء أبرهما به بعد موتهما ‏؟‏ قال‏: ‏(‏نعم، الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما‏)‏، وفي الحديث الآخر حديث ابن عمر ‏: ‏(‏من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي‏)‏‏. فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره‏.
 
والذي قاله [[أبو حنيفة]] وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق‏: لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك يتضمن شيئين كما تقدم ‏:
 
أحدهما‏: الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهى عنه عند جماهير العلماء كما تقدم، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء‏.
 
والثاني‏: السؤال به، فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكن ما روى عن النبي {{صل}} في ذلك كله ضعيف بل موضوع‏. ‏وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول‏: ‏[‏أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة‏]‏، وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي {{صل}} وشفاعته، وهو طلب من النبي {{صل}} الدعاء، وقد أمره النبي {{صل}} أن يقول‏: ‏(‏اللهم شفعه في‏)‏‏. ‏ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي {{صل}}، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي {{صل}}‏. ‏ولو توسل غيره من العميان، الذين لم يدع لهم النبي {{صل}} بالسؤال به، لم تكن حالهم كحاله‏.
 
ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار، وقوله‏: ‏(‏اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا‏)‏‏: يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته؛ إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرين والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس‏.
 
وشاع النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين، دون الإقسام بهم؛ لأن بين السؤال والإقسام فرقا، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد‏.
 
وأما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافرا، وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث‏: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏)‏ قالوا‏: يا رسول الله، إذا نكثر‏. ‏قال‏: ‏(‏الله أكثر‏)‏‏. ‏وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم وهو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلا أن يجعل هذا من مسائل السب، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوَّز التوسل به، بمعنى الإقسام به أو السؤال به، فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه، فضلا عن أن يقول مالك‏: إن هذا سب للرسول أو تنقص له، بل المعروف عن مالك أنه كره للداعي أن يقول‏: يا سيدي، سيدي، وقال‏: قل كما قالت الأنبياء‏: يا رب، يا رب، يا كريم‏. ‏وكره أيضا أن يقول‏: يا حنان يا منان‏. ‏فإنه ليس بمأثور عنه‏.
 
فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء، إذ لم يكن مشروعا عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبيا كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبي ولا غيره، بل قال عمر‏: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا‏. فيسقون‏.
 
وكذلك ثبت في [[صحيح مسلم]] عن ابن عمر وأنس وغيرهما أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي {{صل}} واستسقائه، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان في حياته {{صل}} سأل الله تعالى بمخلوق لا بد ولا بغيره، لا في الاستسقاء ولا غيره، وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى، فلو كان السؤال به معروفا عند الصحابة لقالوا لعمر‏: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس، فلم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته وهو التوسل بأفضل الخلق إلى أن نتوسل ببعض أقاربه، وفي ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل، وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يضرب به المثل في الجدب‏.
 
والذي فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بيزيد بن الأسود الجُرَشِى كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم أنه يتوسل في الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا‏: وإن كانوا من أقارب رسول الله {{صل}} فهو أفضل، اقتداء بعمر، ولم يقل أحد من أهل العلم‏: إنه يسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي‏.
 
وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.
 
والقاضي عياض لم يذكرها في كتابه في باب زيارة قبره، بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها في سياق أن حرمة النبي {{صل}} بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم، كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره وذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه‏. وذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني فقال‏: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه‏. قال‏: وحج حجتين، فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي {{صل}} بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي {{صل}} كتبت عنه‏.
 
وقال مصعب بن عبد الله‏: كان مالك إذا ذكر النبي {{صل}} يتغير لونه وينحني، حتى يصعب ذلك على جلسائه‏. فقيل له يوما في ذلك، فقال‏: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المُنْكَدِر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه‏. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي {{صل}} اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله {{صل}} إلا على طهارة‏. ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال‏: إما مصليا، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن‏. ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي {{صل}} فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله {{صل}}‏. ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبي {{صل}} بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع‏. ولقد رأيت الزهرى وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي {{صل}} فكأنه ما عرفك ولا عرفته‏. ولقد كنت آتى صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي {{صل}} بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه‏.
 
 
====حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم====
فهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة، ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا‏: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات، قال‏: حدثنا أبو الحسن علي بن فِهْر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبى إسرائيل، حدثنا ابن حميد قال‏: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله {{صل}} فقال له مالك‏: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوما فقال‏: ‏{ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ }‏ الآية ‏[‏الحجرات‏: 2‏]‏، ومدح قوما فقال‏: ‏{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله }‏ الآية ‏[‏الحجرات‏: 3‏]‏، وذم قوما فقال‏: ‏{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ }‏ الآية ‏[‏الحجرات‏: 4‏]‏، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا‏. فاستكان لها أبو جعفر، فقال‏: يا أبا عبد الله، أستقْبِلُ القبلة وأدعو ‏؟‏ أم أستقبل رسول الله {{صل}} ‏؟‏ فقال‏: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ‏؟‏ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى‏: ‏{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا }‏‏ [‏النساء‏: ‏64‏]‏‏. قلت وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يَدرك مالكا، لاسيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذبه أبو زُرْعَة، وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدى‏: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه‏. وقال يعقوب بن شيبة‏: كثير المناكير‏. وقال [[النسائي]]‏: ليس بثقة‏. وقال ابن حبان‏: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات‏. وآخر من روى [[الموطأ]] عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين‏. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمى توفي سنة تسع وخمسين ومائتين‏. وفي الإسناد أيضا من لا تعرف حاله‏.
 
وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته‏؟‏ هذا إذا ثبت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم، ومروان بن محمد الطاطرى ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث ‏؟‏
 
مع أن قوله‏: ‏(‏وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة‏"‏ إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، وهذا حق، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين تأتى الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد {{صل}}، فإنه كما قال‏: ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائى يوم القيامة ولا فخر‏)‏ ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه ‏:
 
أحدها‏: قوله‏: ‏‏(‏أستقبلُ القبلة وأدعُو، أم أستقبلُ رسول الله وأدعُو ‏؟‏‏)‏ فقال‏: ‏‏"‏ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم‏)‏‏. فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين، أن الداعي إذا سلم على النبي {{صل}} ثم أراد أن يدعوا لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي {{صل}} والدعاء له‏. هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم‏.
 
وعند أصحاب أبي حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضا‏.
 
ثم منهم من قال‏: يجعل الحجرة على يساره وقد رواه ابن وهب عن مالك ويسلم عليه‏.
 
ومنهم من قال‏: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فَكَرِهَ مالك أن يطيل القيام عند القبر لذلك‏. قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك قال‏: ‏(‏لا أرى أن يقف عند قبر النبي {{صل}} يدعو، ولكن يسلم ويمضي‏)‏ قال‏: وقال نافع‏: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول‏: السلام على النبي {{صل}}، السلام على أبي بكر، السلام على أبي‏. ثم ينصرف‏. ورؤى واضعا يده على مقعد النبي {{صل}} من المنبر ثم وضعها على وجهه‏. قال‏: وعن ابن أبي قُسَيْط والَقَعْنبي كان أصحاب النبي {{صل}} إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التي تلقاء القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون‏. قال‏: وفي [[الموطأ]] من رواية يحيى بن يحيى الليثى أنه كان يعني ابن عمر يقف على قبر النبي {{صل}} فيصلي على النبي {{صل}} وعلى أبي بكر وعمر، وعند ابن القاسم والقعنبي‏: ويدعو لأبي بكر وعمر‏. قال مالك في رواية ابن وهب‏: يقول‏: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته‏. وقال في المبسوط‏: ويسلم على أبي بكر وعمر‏.
 
قال أبو الوليد الباجي‏: وعندي أن يدعو للنبي {{صل}} بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر بلفظ السلام لما في حديث ابن عمر من الخلاف‏. وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور في رواية ابن وهب، قال مالك في رواية ابن وهب‏: إذا سلم على النبي {{صل}} ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر‏. فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره‏.
 
وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب في الواضحة وغيره قال‏: وقال مالك في المبسوطة‏: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء‏. وقال فيه أيضا‏: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبي {{صل}} فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر‏. قيل له‏: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة‏. فقال مالك‏: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده‏.
 
قال ابن القاسم‏: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها، أو دخلوا أتو القبر فسلموا، قال‏: ولذلك رأى‏. ‏‏. ‏‏.
 
قال أبو الوليد الباجي‏: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم‏.
 
قال‏: وقال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ قال‏: وقال النبي {{صل}} ‏(‏لا تجعلوا قبري عيدًا‏)‏‏. قال‏: ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا، وفي ‏‏العتبية‏ يعني عن مالك‏: يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي {{صل}}، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي {{صل}} حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف‏. قال‏: والتنفل فيه للغرباء أحب إلى من التنفل في البيوت‏.
 
فهذا قول مالك وأصحابه وما نقلوه عن الصحابة يبين أنهم لم يقصدوا القبر إلا للسلام على النبي {{صل}} والدعاء له‏. وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبي {{صل}}‏.
 
فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة، كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي {{صل}}، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي {{صل}}، فكيف بدعائه لنفسه‏.
 
وأما دعاء الرسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لوكان قصد الدعاء عند القبر مشروعا لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته ‏؟‏
 
فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله‏: ‏‏استقبله واستشفع به‏ كذب على مالك، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء؛ إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه، فضلا عن أن يستقبله ويستشفع به يقول له‏: يا رسول الله، اشفع لي أو ادع لي، أو يشتكى إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكى إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلمون عليه، إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبَلَّغُ سلام البعيد‏.
 
وقد احتج أحمد وغيره بالحديث الذي رواه أحمد و[[أبو داود]] بإسناد جيد من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصري‏: حدثنا أبو صخر، عن يزيد بن قُسَيط، عن أبي هريرة رضى الله عنه عن رسول الله {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحى حتى أرد عليه السلام‏)‏‏. وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة في السلام عليه عند قبره صلوات الله وسلامه عليه، فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة لا يعتمد على شيء منها في الدين‏. ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئا منها، وإنما يرويها من يروى الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهما‏.
 
وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه مثل قوله‏: ‏(‏من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي‏)‏، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته وكان مؤمنا به كان من أصحابه، لا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد ثبت عنه {{صل}} أنه قال ‏: ‏‏(‏لاتسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.
 
والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين ‏؟‏ بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه ‏.
 
 
====قصد السفر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم====
وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب‏. فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهى عنه ‏؟‏ وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه، أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين، لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك‏. ولو نذر السفر إلى مسجده أو المسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي ‏:
 
أظهرهما عنه‏: يجب ذلك وهو مذهب مالك وأحمد‏.
 
والثاني‏: لا يجب وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن من أصله أنه لا يجب من النذر إلا ما كان واجبا بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجبا بالشرع فلا يجب بالنذر عنده‏.
 
وأما الأكثرون فيقولون‏: هو طاعة لله، وقد ثبت في [[صحيح البخاري]] عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من نَذَر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏‏.
 
 
====السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين====
وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة، فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه ‏؟‏ وهذا مالك كره أن يقول الرجل‏: زرت قبر رسول الله {{صل}}، واستعظمه‏. وقد قيل‏: إن ذلك ككراهية زيارة القبور، وقيل‏: لأن الزائر أفضل من المزور، وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك‏.
 
والصحيح أن ذلك لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هى من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره ‏: زيارة شرعية، وزيارة بدعية‏.
 
فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية‏.
 
والثاني‏: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهى عنها‏.
 
فإذا كان لفظ ‏‏الزيارة‏ مجملا يحتمل حقا وباطلا، عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ ‏"‏السلام‏"‏ عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روى في زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة‏.
 
والثابت عنه {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة‏)‏ هذا هو الثابت في الصحيح، ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال‏: قبري‏. وهو {{صل}} حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعد صلوات الله وسلامه عليه ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة، لما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصا في محل النزاع‏. ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه، بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه‏.
 
ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أمره أن يشترى الحجر ويزيدها في المسجد، وكانت الحجر من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد ودخلت حجرة عائشة في المسجد من حينئذ، وبنوا الحائط البراني مُسَنَّما محرفا، فإنه ثبت في [[صحيح مسلم]] من حديث أبي مرثد الغنوي أنه قال {{صل}} لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏ لأن ذلك يشبه السجود لها، وإن كان المصلى إنما يقصد الصلاة لله تعالى‏. وكما نهى عن اتخاذها مساجد ونهى عن قصد الصلاة عندها، وإن كان المصلى إنما يقصد الصلاة لله سبحانه والدعاء له‏. فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها، فقد قصد نفس المحرم الذي سد الله ورسوله ذريعته، وهذا بخلاف السلام المشروع، حسبما تقدم‏.
 
وقد روى [[سفيان الثوري]] عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام‏)‏ رواه [[النسائي]] وأبو حاتم في صحيحه، وروى نحوه عن أبي هريرة‏. فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة‏.
 
وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏أكثروا على من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض على يومئذ، فمن كان أكثرهم على صلاة كان أقربهم مني منزلة‏)‏‏.
 
وفي مسند الإمام أحمد‏: حدثنا شُرَيح، حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏ ورواه [[أبو داود]]‏. قال القاضي عياض‏: وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏من صلى علي عند قبري سمعته‏. ومن صلى علي نائيًا أبلغته‏)‏‏.
 
وهذا قد رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وهذا هو السدي الصغير وليس بثقة، وليس هذا من حديث الأعمش‏.
 
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن موسى بن محمد بن حبان، عن أبي بكر الحنفي‏: حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسن بن علي قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا، ولا تتخذوا بيتي عيدا‏. صلوا على وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني‏)‏‏.
 
وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي {{صل}} قال له‏: يا هذا، إن رسول الله {{صل}} قال‏: ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏ فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء‏.
 
وروى هذا المعنى عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب، ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى الحافظ في مختاره الذي هو أصح من صحيح الحاكم‏. وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي قال‏: إذا دخلت فسلم على النبي {{صل}}، فإن رسول الله {{صل}} قال‏: ‏(‏لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم‏)‏‏.
 
ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها‏: ‏(‏ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة‏)‏ إنما يدل على أنه يوم القيامة تتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا لو كانت الحكاية صحيحة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره‏.
 
ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي {{صل}} ولا سنه لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة أدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها ‏؟‏ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع ‏؟‏ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا، لعلم أنه لا يقول مثل هذا‏.
 
ثم قال في الحكاية‏: ‏[‏استقبله واستشفع به فيشفعك الله‏]‏ والاستشفاع به معناه في اللغة‏: أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به‏. ومنه الحديث الذي في السنن أن أعرابيا قال‏: يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله‏. فسبح رسول الله {{صل}} حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال‏: ‏(‏ويحك أتدري ما تقول ‏؟‏ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه‏)‏، وذكر تمام الحديث‏.
 
فأنكر قوله‏: ‏[‏نستشفع بالله عليك‏]‏ ومعلوم أنه لا ينكر أن يسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أنكر أن يكون الله شافعا إلى المخلوق؛ ولهذا لم ينكر قوله‏: ‏(‏نستشفع بك على الله‏)‏ فإنه هو الشافع المشفع‏.
 
وهم لو كانت الحكاية صحيحة إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته {{صل}}؛ ولهذا قال في تمام الحكاية‏: ‏{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ }‏ الآية ‏[‏النساء‏: 64‏]‏، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته، فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم‏.
 
وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته فإنما يقال في ذلك‏: ‏[‏استشفع به فيشفعه الله فيك‏]‏ لا يقال‏: فيشفعك الله فيه‏. وهذا معروف الكلام ولغة النبي {{صل}} وأصحابه وسائر العلماء يقال‏: شفع فلان في فلان فشفع فيه‏. ‏فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي شفع، فمحمد {{صل}} هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي يستشفع به‏. ولهذا يقول في دعائه‏: يا رب شفعني، فيشفعه الله، فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبى شفاعته، فكيف يقول‏: واستشفع به فيشفعك الله ‏؟‏ وأيضا فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره، ليس مشروعا عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين؛ ذكروا حكاية عن العتبى أنه رأى أعرابيا أتى قبره وقرأ هذه الآية، وأنه رأى في المنام أن الله غفر له‏. وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب المتبوعين، الذين يفتى الناس بأقوالهم، ومن ذكرها لم يذكر عليها دليلا شرعيا‏.
 
ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته واستغفاره عند قبره مشروعا، لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق إليه من غيرهم، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك، وما أحسن ما قال مالك‏: ‏(‏لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏)‏ قال‏: ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك‏.
 
فمثل هذا الإمام كيف يشرع دينا لم ينقل عن أحد السلف، ويأمر الأمة أن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار بعد موت الأنبياء والصالحين منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة ‏؟‏
 
ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم‏: اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به‏. ‏ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره‏: ‏[‏قد تشفع به‏]‏ من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائبا لم يسمع كلامه ولا شفع له، وهذا ليس هو لغة النبي {{صل}} وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة‏. والشافع هو الذي يشفع السائل فيطلب له ما يطلب من المسؤول المدعو المشفوع إليه‏.
 
وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعا لا في اللغة ولا في كلام من يدرى ما يقول‏: نعم هذا سؤال به ودعاؤه ليس هو استشفاعا به‏. ‏ولكن هؤلاء لما غيروا اللغة كما غيروا الشريعة وسموا هذا استشفاعا أي سؤالا بالشافع صاروا يقولون‏: ‏[‏استشفع به فيشفعك‏]‏ أي يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة وليس لفظها من ألفاظ مالك‏.
 
نعم، قد يكون أصلها صحيحا، ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول اتباعا للسنة، كما كان عمر ينهى عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به من تعزيره وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به‏.
 
ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي {{صل}} وعادتهم في الكلام، وإلا حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك‏.
 
وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم، وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون‏: إنا موافقون للأنبياء ‏!‏ وهذا موجود في كلام كثير من الملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة، مثل من وضع ‏‏المحدث‏ و‏‏المخلوق‏ و‏‏المصنوع‏ على ماهو معلول وإن كان عنده قديما أزليا، ويسمى ذلك ‏‏الحدوث الذاتي‏ ثم يقول‏: نحن نقول‏: إن العالم محدث، وهو مراده‏. ‏ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار ليس لغة أحد من الأمم، وإنما المحدث عندهم ما كانوا بعد أن لم يكن‏.
 
وكذلك يضعون لفظ ‏‏الملائكة‏ على ما يثبتونه من العقول والنفوس وقوى النفس‏. ‏ولفظ ‏‏الجن‏ و‏‏الشياطين‏ على بعض قوى النفس، ثم يقولون‏: نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء وأقر به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين‏. ‏ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، مثل أن يعلم مرادهم بالعقل الأول، وأنه مقارن عندهم لرب العالمين أزلا وأبدا، وأنه مبدع لكل ما سواه، أو بتوسطه حصل كل ما سواه‏. ‏والعقل الفعال عندهم عنه يصدر كل ما تحت فلك القمر، ويعلم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب كل ما سوى الله، ولا رب كل ما تحت فلك القمر، ولا من هو قديم أزلى أبدى لم يزل ولا يزال‏.
 
 
====الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل====
ويعلم أن الحديث الذي يروى ‏(‏أول ما خلق الله العقل‏)‏ حديث باطل عن النبي {{صل}} مع أنه لو كان حقا لكان حجة عليهم، فإن لفظه ‏(‏أول ما خلق الله العقل‏)‏ بنصب الأول على الظرفية ‏(‏فقال له‏: أقبل، فأقبل‏. ‏ثم قال له‏: أدبر، فأدبر‏. ‏فقال‏: وعزتى ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، فبك آخذ، وبك أعطى، وبك الثواب وبك العقاب‏)‏ وروى ‏(‏لما خلق الله العقل‏)‏ فالحديث لو كان ثابتًا كان معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبل غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا كل المصنوعات‏.
 
و‏‏العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا، يراد به القوة التي بها يعقل، وعلوم وأعمال تحصل بذلك، لا يراد بها قط في لغة‏: جوهر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى بلفظ العقل‏. ‏مع أنا قد بينا في مواضع أخر فساد ما ذكروه من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهى أمرهم فيه إلى إثبات النفس التي تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات ما تجرده النفس من المعقولات القائمة بها؛ فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق في هذا الباب‏.
 
والمقصود هنا‏: أن كثيرا من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم، ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد في كلام صاحب ‏‏الكتب المضنون بها‏ وغيره، مثل ما ذكره في ‏‏اللوح المحفوظ‏]‏ حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ ‏‏القلم‏]‏ حيث جعله العقل الأول، ولفظ ‏‏الملكوت‏]‏ و‏‏الجبروت‏]‏ و‏‏الملك‏]‏ حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ ‏‏الشفاعة‏]‏ حيث جعل ذلك فيضا يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدرى، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا، كما قد بسط في موضع آخر‏.
 
والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول {{صل}} كلفظ القديم، فإنه في لغة الرسول التي جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقا بغيره، كقوله تعالى‏: ‏{ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ }‏‏ [‏يس‏: 39‏]‏، وقال تعالى عن إخوة يوسف‏: ‏{ تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ }‏‏ [‏يوسف‏: 95‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ }‏‏ [‏الشعراء‏: 75، 76‏]‏ وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقا بعدم نفسه، ويجعلونه إذا أريد به هذا من باب المجاز، ولفظ ‏‏المحدث‏]‏ في لغة القرآن يقابل للفظ ‏‏القديم‏]‏ في القرآن‏.
 
وكذلك لفظ ‏‏الكلمة‏]‏ في القرآن والحديث وسائر لغة العرب، إنما يراد به الجملة التامة، كقوله {{صل}}‏: ‏(‏كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان‏: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم‏)‏، وقوله‏: ‏(‏إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‏: ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏، ومنه قوله تعالى‏: ‏{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا }‏‏ [‏الكهف‏: 5‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: 64‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا}‏‏ [‏التوبة‏: 40‏]‏، وأمثال ذلك، ولا يوجد لفظ الكلام في لغة العرب إلا بهذا المعنى‏.
 
والنحاة اصطلحوا على أن يسموا ‏‏الاسم‏ وحده، و‏‏الفعل‏‏ و‏‏الحرف‏ كلمة، ثم يقول بعضهم‏: وقد يراد بالكلمة الكلام، فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب، وكذلك لفظ ‏‏ذوى الأرحام‏]‏ في الكتاب والسنة يراد به الأقارب من جهة الأبوين فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب، ثم صار ذلك في اصطلاح الفقهاء اسما لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن هذا هو المراد بهذا اللفظ في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة، ونظائر هذا كثيرة‏.
 
 
====لفظ ‏‏التوسل‏ و‏‏الاستشفاع‏ ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه====
ولفظ ‏‏التوسل‏ و‏‏الاستشفاع‏ ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم‏.
 
والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقوق‏.
 
والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله‏. ‏فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية‏.
 
ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلى على النبي ونسلم عليه في كل مكان، فهذا مما اتفق عليه المسلمون، وكذلك رغبنا وحضنا في الحديث الصحيح على أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقاما محمودا الذي وعده‏.
 
فهذه الوسيلة التي شرع لنا أن نسألها الله تعالى كما شرع لنا أن نصلى عليه ونسلم عليه هى حق له، كما أن الصلاة عليه والسلام حق له {{صل}}‏.
 
والوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها إليه هى التقرب إلى الله بطاعته، وهذا يدخل فيه كل ما أمرنا الله به ورسوله‏.
 
وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبي {{صل}} بالإيمان به وطاعته، وهذا التوسل به فرض على كل أحد‏.
 
وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما يسأله الناس يوم القيامة أن يشفع لهم، وكما كان الصحابة يتوسلون بشفاعته في الاستسقاء وغيره، مثل توسل الأعمى بدعائه حتى رد الله عليه بصره بدعائه وشفاعته فهذا نوع ثالث هو من باب قبول الله دعاءه وشفاعته لكرامته عليه، فمن شفع له الرسول {{صل}} ودعا له فهو بخلاف من لم يدع له ولم يشفع له‏.
 
 
====أحاديث موضوعة في التوسل====
ولكن بعض الناس ظن أن توسل الصحابة به كان بمعنى أنهم يقسمون به ويسألون به، فظن هذا مشروعا مطلقا لكل أحد في حياته ومماته، وظنوا أن هذا مشروع في حق الأنبياء والملائكة، بل وفي الصالحين وفيمن يظن فيهم الصلاح، وإن لم يكن صالحا في نفس الأمر‏.
 
وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديث في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها في الأحاديث لا في الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره وإنما يوجد في الكتب التي عرف أن فيها كثيرا من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون، بخلاف من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب، فإن هؤلاء توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء‏.
 
ولهذا تنازع الحافظ أبو العلاء الهمداني والشيخ أبو الفرج [[ابن الجوزي]]‏: هل في المسند حديث موضوع ‏؟‏ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة، ولا منافاة بين القولين‏.
 
فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج، هو الذي قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه؛ ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع، وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا‏: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء‏.
 
وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلا في السلف‏.
 
أما الصحابة فلم يعرف فيهم ولله الحمد من تعمد الكذب على النبي {{صل}}، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفِرَق‏.
 
ولا كان فيهم من قال‏: إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بُيِّن هذا في غير هذا الموضوع، والخضر الذي يأتى كثيرا من الناس إنما هو جِني تصور بصورة إنسي أو إنسي كذاب، ولا يجوز أن يكون ملكا مع قوله‏: أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب وإنما يكذب الجني والإنسي‏. ‏وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنيا مما يطول ذكره في هذا الموضع‏. ‏وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس‏.
 
وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها، كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع‏.
 
وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب في التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة، بخلاف الشيعة، فإن الكذب معروف فيهم، وقد عرف الكذب بعد هؤلاء في طوائف‏.
 
وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحيانا وفيمن بعدهم‏.
 
ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط، وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يعلم أنه حق‏.
 
فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط، والإمام أحمد نفسه قد بين ذلك وبين أنه رواها لتعرف، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب؛ ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروى عنهم أهل السنن كأبي داود و[[الترمذي]]، مثل مشيخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وإن كان [[أبو داود]] يروى في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجود من شرط أبي داود في سننه‏.
 
والمقصود أن هذه الأحاديث التي تروى في ذلك من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة، بل الموضوعة التي يرويها من يجمع في الفضائل والمناقب الغَثَّ والسَّمين، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنف في فضائل الأوقات، وفضائل العبادات، وفضائل الأنبياء والصحابة، وفضائل البقاع، ونحو ذلك، فإن هذه الأبواب فيها أحاديث صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث ضعيفة وأحاديث كذب موضوعة، ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة، لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب‏.
 
وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي، وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقا، ولم يقل أحد من الأئمة‏: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجبا أو مستحبا بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع‏.
 
وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا علم تحريمه، وروى حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب مالم يعلم أنه كذب، لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله‏.
 
وهذا كالإسرائيليات؛ يجوز أن يروى منها مالم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب، فيما علم أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا‏. ‏فإما أن يثبت شرعا لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم، ولا كان [[أحمد بن حنبل]] ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة‏.
 
ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقط غلط عليه، ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين‏: صحيح، وضعيف‏. ‏والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعيف خفيف لا يمنع من ذلك‏.
 
وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام صحيح، وحسن، وضعيف هو أبو عيسى الترمذي في جامعه‏. ‏والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ‏. ‏فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفا ويحتج به؛ ولهذا مثل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجرى ونحوهما‏. ‏وهذا مبسوط في موضعه‏.
 
والأحاديث التي تروى في هذا الباب وهو السؤال بنفس المخلوقين هى من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها، مثل الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، أن أبا بكر الصديق أتى النبي {{صل}} فقال‏: إني أتعلم القرآن ويتفلت مني‏. فقال له رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏قل‏: اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وبإبراهيم خليلك، وبموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك، وبتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود، وفرقان محمد، وبكل وحى أوحيته وقضاء قضيته‏)‏ وذكر تمام الحديث‏.
 
وهذا الحديث ذكره رَزِين بن معاوية العبدرى في جامعه ونقله ابن الأثير في جامع الأصول ولم يعزه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنه قد رواه من صنف في عمل ‏ اليوم والليلة ‏ كابن السُّني وأبي نعيم، وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء‏.
 
وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال، وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة كذب موضوعة، رواه أبو موسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة وقال‏: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل، قال أبو موسى‏: ورواه محرز بن هشام عن عبد الملك عن أبيه عن جده عن الصديق رضى الله عنه وعبد الملك ليس بذاك القوى وكان بالرِّىِّ، وأبوه وجده ثقتان‏.
 
قلت‏: عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب‏. ‏قال يحيى بن معين‏: هو كذاب‏. ‏وقال السعدى‏: دجال كذاب، وقال أبو حاتم ابن حبان‏: يضع الحديث‏. ‏وقال [[النسائي]]‏: متروك‏. ‏وقال [[البخاري]]‏: منكر الحديث‏. وقال أحمد بن حنبل‏: ضعيف‏. وقال ابن عدي‏: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد‏. ‏وقال [[الدارقطني]]‏: هو وأبوه ضعيفان‏. ‏وقال الحاكم في ‏‏كتاب المدخل‏: عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحاديث موضوعة‏. ‏وأخرجه أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب ‏‏الموضوعات‏‏ وقول الحافظ أبي موسى‏: ‏‏هو منقطع‏ يريد‏: أنه لو كان رجاله ثقات فإن إسناده منقطع‏.
 
وقد روى عبد الملك هذه الأحاديث الأخر المناسبة لهذا في استفتاح أهل الكتاب به كما سيأتى ذكره وخالف فيه عامة ما نقله المفسرون وأهل السير وما دل عليه القرآن، وهذا يدل على ما قاله العلماء فيه‏: من أنه متروك إما لتعمده الكذب وإما لسوء حفظه، وتبين أنه لا حجة لا في هذا ولا في ذاك‏.
 
ومثل ذلك الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب مرفوعا وموقوفا عليه‏: ‏(‏أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال‏: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال‏: وكيف عرفت محمدا ‏؟‏ قال‏: لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا‏: لا إلا إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك‏. قال‏: صدقت يا آدم ‏؟‏ ولولا محمد ما خلقتك‏)‏ وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن مسلم الفهرى عن إسماعيل بن سلمة عنه‏. قال الحاكم‏: وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن في هذا الكتاب، وقال الحاكم‏: هو صحيح‏.
 
ورواه الشيخ أبو بكر الأجري في كتابه الشريعة موقوفا على عمر من حديث عبد الله ابن إسماعيل بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم موقوفا، ورواه الأجري أيضا من طريق آخر من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، موقوفا عليه، وقال‏: حدثنا هارون بن يوسف التاجر، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثني أبو عثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أنه قال‏: ‏(‏من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال‏: اللهم إني أسألك بحق محمد عليك‏. قال الله تعالى‏: وما يدريك ما محمد ‏؟‏ قال‏: يا رب‏: رفعت رأسى فرأيت مكتوبا على عرشك‏: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك‏)‏‏.
 
قلت‏: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في ‏‏كتابه المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم‏: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه‏.
 
قلت‏: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرا، ضعفه [[أحمد بن حنبل]] وأبو زرعة أبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم، وقال أبو حاتم بن حبان‏: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك‏.
 
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا‏: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث، كما صحح حديث زريب بن برثملي‏: الذي فيه ذكر وصي المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة، كما بين ذلك [[البيهقي]] و[[ابن الجوزي]] وغيرهما، وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها وهى عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة، ومنها ما يكون موقوفا يرفعه‏.
 
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه‏. وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه، بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدرا، وكذلك تصحيح [[الترمذي]] و[[الدارقطني]] وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث‏.
 
فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم، ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم، ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح [[البخاري]]، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب‏. والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحدا أعلم بالعلل منه؛ ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثا اختلف في إسناده أو في بعض ألفاظه، أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقرونا بالاختلاف فيه‏.
 
ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري، مما صححه يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي {{صل}} صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات، كما روى أنه صلى بركوعين‏. والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم‏. ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف، ولا كان له إبراهيمان‏. ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب، وكذلك روى مسلم ‏(‏خلق الله التربة يوم السبت‏)‏، ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى بن معين والبخاري وغيرهما، فبينوا أن هذا غلط، ليس هذا من كلام النبي {{صل}}‏.
 
والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم، وكان خلقه يوم الجمعة‏. وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في الأيام السبعة، وقد روى إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد، وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي {{صل}} أن يتزوج بأم حبيبة، وأن يتخذ معاوية كاتبًا‏. وغلطه في ذلك طائفة من الحفاظ‏.
 
ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علما قطعيا أن النبي {{صل}} قالها‏. وبسط الكلام في هذا له موضع آخر‏.
 
وهذا الحديث المذكور في آدم يذكره طائفة من المصنفين بغير إسناد وما هو من جنسه مع زيادات أخر، كما ذكر القاضي عياض قال‏: وحكى أبو محمد المكى وأبو الليث السمرقندي وغيرهما‏: ‏(‏أن آدم عند معصيته قال‏: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي قال‏: ويروى‏: تقبل توبتي فقال الله له‏: من أين عرفت محمدا ‏؟‏ قال‏: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا‏: لا إله إلا الله محمد رسول الله قال‏: ويروى‏: محمد عبدي ورسولى فعلمت أنه أكرم خلقك عليك؛ فتاب عليه وغفر له‏)‏‏.
 
ومثل هذا لا يجوز أن تبنى عليه الشريعة، ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين؛ فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا تعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي {{صل}}، وهذه لو نقلها مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار ‏‏المبتدأ، وقصص المتقدمين‏ عن أهل الكتاب لم يجز أن يحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين، فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين ‏؟‏ بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يحتج بحديثه، واضطرب عليه فيها اضطرابا يعرف به أنه لم يحفظ ذلك‏.
 
ولا ينقل ذلك ولا ما يشبهه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يعتمد على نقلهم، وإنما هى من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر وأمثاله في ‏‏كتب المبتدأ‏، وهذه لو كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعا لهم، وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنيا على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا ‏؟‏ والنزاع في ذلك مشهور‏. لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا {{صل}}، أو بما تواتر عنهم لا بما يروى على هذا الوجه، فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحد من المسلمين‏.
 
ومن هذا الباب حديث ذكره موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير بإسناده عن ابن عباس مرفوعا أنه قال‏: ‏(‏من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف أو في صحف قوارير بعسل وزعفران وماء مطر، وليشربه على الريق، وليصم ثلاثة أيام وليكن إفطاره عليه، ويدعو به في أدبار صلواته‏: اللهم إني أسألك بأنك مسئول لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك‏)‏ وذكر تمام الدعاء‏.
 
وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين، قال أبو أحمد بن عدي فيه‏: منكر الحديث‏. وقالوا أبو حاتم بن حبان‏: دجال يضع الحديث، وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابا في التفسير جمعه من كلام الكلبى ومقاتل، ويروى نحو هذا دون الصوم عن ابن مسعود من طريق موسى بن إبراهيم المروزي، حدثنا وَكِيع، عن عبيدة، عن شقيق، عن ابن مسعود‏. وموسى بن إبراهيم هذا قال فيه يحيى بن معين‏: كذاب، وقال [[الدارقطني]]‏: متروك، وقال ابن حبان‏: كان مغفلا يلقن فيتلقن فاستحق الترك‏. ويروى هذا عن عمر بن عبد العزيز عن مجاهد بن جبر عن ابن مسعود بطريق أضعف من الأول‏.
 
ورواه أبو الشيخ الأصبهاني من حديث أحمد بن إسحاق الجوهرى‏: حدثنا أبو الأشعث، حدثنا زهير بن العلاء العتبى، حدثنا يوسف بن يزيد، عن الزهرى، ورفع الحديث قال‏: ‏(‏من سره أن يحفظ فليصم سبعة أيام وليكن إفطاره في آخر الأيام السبعة على هؤلاء الكلمات‏)‏‏. قلت‏: وهذه أسانيد مظلمة لا يثبت بها شيء‏.
 
وقد رواه أبو موسى المديني في أماليه وأبو عبد الله المقدسى على عادة أمثالهم في رواية ما يروى في الباب، سواء كان صحيحا أو ضعيفا كما اعتاده أكثر المتأخرين من المحدثين، أنهم يروون ما روى به الفضائل، ويجعلون العهدة في ذلك على الناقل كما هى عادة المصنفين في فضائل الأوقات والأمكنة والأشخاص والعبادات‏.
 
كما يرويه أبو الشيخ الأصبهاني في فضائل الأعمال وغيره، حيث يجمع أحاديث كثيرة لكثرة روايته، وفيها أحاديث كثيرة قوية صحيحة وحسنة، وأحاديث كثيرة ضعيفة موضوعة وواهية‏.
 
وكذلك ما يرويه خَيْثَمَة بن سليمان في فضائل الصحابة، وما يرويه أبو نعيم الأصبهاني في ‏‏فضائل الخلفاء‏‏ في كتاب مفرد وفي أول ‏‏حلية الأولياء‏، وما يرويه أبو الليث السمرقندي وعبد العزيز الكناني، وأبو علي بن البناء وأمثالهم من الشيوخ، وما يرويه أبو بكر الخطيب، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو موسى المديني، وأبو القاسم بن عساكر، والحافظ عبد الغني، وأمثالهم ممن لهم معرفة بالحديث‏. فإنهم كثيرا ما يروون في تصانيفهم ما روى مطلقا على عادتهم الجارية؛ ليعرف ما روى في ذلك الباب لا ليحتج بكل ما روي، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ويقول‏: غريب، ومنكر، وضعيف، وقد لا يتكلم‏.
 
وهذا بخلاف أئمة الحديث الذين يحتجون به، ويبنون عليه دينهم، مثل [[مالك بن انس]]، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، و[[سفيان بن عيينة]]، و[[عبد الله بن المبارك]]، ووكيع بن الجراح، والشافعي، و[[أحمد بن حنبل]]، و[[سحاق بن راهويه]]، وعلي بن المديني، و[[البخاري]]، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وابن المنذر، وداود بن علي، و[[محمد بن جرير الطبري]]، وغير هؤلاء، فإن هؤلاء الذين يبنون الأحكام على الأحاديث يحتاجون أن يجتهدوا في معرفة صحيحها وضعيفها وتمييز رجالها‏.
 
وكذلك الذين تكلموا في الحديث والرجال، ليميزوا بين هذا وهذا لأجل معرفة الحديث، كما يفعل أبو أحمد بن عدي، وأبو حاتم البستي، وأبو الحسن [[الدارقطني]]، وأبو بكر الإسماعيلي، وكما قد يفعل ذلك أبو بكر [[البيهقي]]، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو القاسم الزنجاني، و[[أبو عمر بن عبد البر]]، و[[أبو محمد بن حزم]]، وأمثال هؤلاء فإن بسط هذه الأمور له موضع آخر‏. ولم نذكر من لا يروى بإسناد مثل كتاب ‏‏وسيلة المتعبدين‏ لعمر الملا الموصلي وكتاب ‏‏الفردوس‏ لشهريار الديلمي، وأمثال ذلك فإن هؤلاء دون هؤلاء الطبقات، وفيما يذكرونه من الأكاذيب أمر كبير‏.
 
والمقصود هنا‏: أنه ليس في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي {{صل}} يعتمد عليه في مسألة شرعية باتفاق أهل المعرفة بحديثه، بل المروي في ذلك إنما يعرف أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات إما تعمدا من واضعه وإما غلطا منه ‏.
 
 
===آثار عن السلف أكثرها ضعيفة‏===
وفي الباب آثار عن السلف أكثرها ضعيفة‏.
 
فمنها حديث الأربعة الذين اجتمعوا عند الكعبة وسألوا، وهم‏: عبد الله ومصعب ابنا الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الملك بن مروان، وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب ‏‏مجابي الدعاء‏ ورواه من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي، عن [[سفيان الثوري]] عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي أنه قال‏: لقد رأيت عجبًا، كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله ابن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم‏: ليقم كل رجل منكم فليأخذ بالركن اليماني، وليسأل الله حاجته فإنه يعطى من سعة‏. ثم قالوا‏: قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني ثم قال‏: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز، ويسلم على بالخلافة، ثم جاء فجلس‏.
 
ثم قام مصعب فأخذ بالركن اليماني ثم قال‏: اللهم إنك رب كل شيء، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني بسكينة بنت الحسين‏.
 
ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن اليماني ثم قال‏: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك به عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحقك على خلقك‏. وبحق الطائفين حول عرشك‏. ‏‏. ‏‏. إلى آخره‏.
 
قلت‏: وإسماعيل بن أبان الذي روى هذا عن سفيان الثوري كذاب، قال [[أحمد بن حنبل]]‏: كتبت عنه، ثم حدث بأحاديث موضوعة فتركناه‏. وقال يحيى بن معين‏: وضع حديثا على السابع من ولد العباس يلبس الخضرة يعني المأمون، وقال [[البخاري]] ومسلم وأبو زرعة و[[الدارقطني]]‏: متروك‏. وقال الجوزجاني‏: ظهر منه على الكذب‏. وقال أبو حاتم‏: كذاب‏. وقال ابن حبان‏: يضع على الثقات‏. وطارق بن عبد العزيز الذي ذكر أن الثوري روى عنه لا يعرف من هو‏. قال‏: فإن طارق بن عبد العزيز المعروف الذي روى عنه ابن عجلان ليس من هذه الطبقة‏.
 
وقد خولف فيها فرواها أبو نعيم عن الطبراني‏: حدثنا أحمد بن زيد بن الجريش، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا الأصمعى قال‏: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال‏: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله أبناء الزبير وعبد الله بن عمر فقالوا‏: تمنوا‏. فقال عبد الله بن الزبير‏: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة‏: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب‏: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر‏: أما أنا فأتمنى المغفرة‏. قال‏: فنال كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له‏)‏‏. قلت‏: وهذا إسناد خير من ذاك الإسناد باتفاق أهل العلم، وليس فيه سؤال بالمخلوقات‏.
 
وفي الباب حكايات عن بعض الناس أنه رأى مناما قيل له فيه‏: ادع بكذا وكذا، ومثل هذا لا يجوز أن يكون دليلا باتفاق العلماء، وقد ذكر بعض هذه الحكايات من جمع الأدعية، وروى في ذلك أثر عن بعض السلف مثل ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ‏‏مجابي الدعاء‏]‏، قال‏: حدثنا أبو هاشم، سمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول‏: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد بن أبجر فجس بطنه فقال‏: بك داء لا يبرأ‏. قال‏: ما هو ‏؟‏ قال‏: الدُّبَيْلة <ref>‏[‏الدبيلة‏: داء في الجوف‏. انظر‏: القاموس المحيط، مادة ‏[‏دبل‏]‏‏]‏‏.</ref>
 
قال‏: فتحول الرجل فقال‏: الله، الله، الله ربي لا أشرك به شيئا، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة {{صل}} تسليما، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي‏. قال‏: فجس بطنه فقال‏: قد برئت، ما بك علة‏.
 
قلت‏: فهذا الدعاء ونحوه قد روى أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي {{صل}} في الدعاء، ونهى عنه آخرون‏. فإن كان مقصود المتوسلين التوسل بالإيمان به وبمحبته وبموالاته وبطاعته فلا نزاع بين الطائفتين، وإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول‏.
 
وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة، فإن كثيرا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم، وبعض الناس يقصدون الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضهم‏. فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحًا، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها، نهى الله ورسوله عنها، كما أن كثيرا من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع‏.
 
فهذا أصل يجب اعتباره، ولا يجوز أن يكون الشيء واجبا أو مستحبا إلا بدليل شرعي يقتضي إيجابه أو استحبابه‏. والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة‏. والدعاء لله تعالى عبادة إن كان المطلوب به أمرا مباحا‏.
 
وفي الجملة، فقد نقل عن بعض السلف والعلماء السؤال به، بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين والاستغاثة بهم والشكوى إليهم، فهذا مما لم يفعله أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا رخص فيه أحد من أئمة المسلمين‏.
 
وحديث الأعمى الذي رواه [[الترمذي]] و[[النسائي]] هو من القسم الثاني من التوسل بدعائه، فإن الأعمى قد طلب من النبي {{صل}} أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره، فقال له‏: ‏(‏إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك‏)‏ فقال‏: بل ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلى ركعتين ويقول‏: ‏(‏اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهم فشفعه في‏)‏ فهذا توسل بدعاء النبي {{صل}} وشفاعته، ودعا له النبي {{صل}}، ولهذا قال‏: ‏(‏وشفعه في‏)‏ فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه‏.
 
وهذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي {{صل}} ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه {{صل}} ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره‏.
 
وهذا الحديث حديث الأعمى قد رواه المصنفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره‏: رواه [[البيهقي]] من حديث عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، قال‏: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضريرا أتى النبي {{صل}} فقال‏: ادع الله أن يعافيني، فقال له‏: ‏(‏إن شئت أخَّرْت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت‏)‏ قال‏: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى ركعتين ويدعو بهذا الدعاء‏: ‏(‏اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتى هذه فيقضيها لي، اللهم فشفعه في وشفعني فيه‏)‏ قال‏: فقام وقد أبصر، ومن هذا الطريق رواه الترمذي من حديث عثمان بن عمر‏.
 
ومنها‏: ما رواه [[النسائي]] و[[ابن ماجه]] أيضا، وقال الترمذي‏: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي، هكذا وقع في الترمذي، وسائر العلماء قالوا‏: هو أبو جعفر الخطمي وهو الصواب، وأيضا فالترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء، بل رووه إلى قوله‏: ‏(‏اللهم شفعه في‏)‏‏.
 
قال الترمذي‏: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير البصر أتى النبي {{صل}} فقال‏: ادع الله أن يعافيني قال‏: ‏(‏إن شئت صبرت فهو خير لك‏)‏ قال‏: فادعه، قال‏: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء‏: ‏(‏اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتى هذه لتقضى، اللهم شفعه في‏)‏، قال البيهقي‏: رويناه في ‏‏كتاب الدعوات‏ بإسناد صحيح عن روح بن عبادة عن شعبة، قال‏: ففعل الرجل فبرأ، قال‏: وكذلك رواه حماد ابن سلمة عن أبي جعفر الخطمي‏.
 
قلت‏: ورواه الإمام أحمد في مسنده عن روح بن عبادة كما ذكره البيهقي، قال أحمد‏: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني، سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف‏: أن رجلا ضريرا أتى النبي {{صل}} فقال‏: يا نبي الله، ادع الله أن يعافيني، قال‏: ‏(‏إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك‏)‏ قال‏: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يصلى ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء‏: ‏(‏اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى الله في حاجتى هذه، فتقضى لي وتشفعني فيه وتشفعه في‏)‏ قال‏: ففعل الرجل فبرئ‏.
 
رواه البيهقي أيضا من حديث شبيب بن سعيد الحَبَطِي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني وهو الخطمي عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن عثمان بن حنيف قال‏: سمعت رسول الله {{صل}} وجاءه رجل ضرير يشتكى إليه ذهاب بصره فقال‏: يا رسول الله، ليس لي قائد وقد شق على؛ فقال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قل‏: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيجلى عن بصرى، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي‏)‏ قال عثمان بن حنيف‏: والله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضر قط‏.
 
فرواية شبيب عن روح عن أبي جعفر الخطمي خالفت رواية شعبة وحماد بن سلمة في الإسناد والمتن، فإن في تلك أنه رواه أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة، وفي هذه أنه رواه عن أبي أمامة سهل، وفي تلك الرواية أنه قال‏: فشفعه في وشفعني فيه، وفي هذه‏: وشفعني في نفسي‏. لكن هذا الإسناد له شاهد آخر من رواية هشام الدُّسْتِوائي عن أبي جعفر‏.
 
ورواه [[البيهقي]] من هذا الطريق وفيه قصة قد يحتج بها من توسل به بعد موته إن كانت صحيحة رواه من حديث إسماعيل بن شبيب بن سعيد الحبطى عن شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان، في حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر، في حاجته، فلقى الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف‏: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل‏: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيقضى لي حاجتى، ثم اذكر حاجتك، ثم رح حتى أروح معك‏. قال‏: فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى بَعْدُ عثمان ابن عفان، فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطِّنْفِسَة وقال‏: انظر ما كانت لك من حاجة‏. فذكر حاجته فقضاها له‏.
 
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف فقال له‏: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتى ولا يلتفت إلىّ حتى كلمته في‏. فقال عثمان بن حنيف‏: ما كلمته ولكن سمعت رسول الله {{صل}} يقول، وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي {{صل}}‏: ‏(‏أو تصبر ‏؟‏‏)‏ فقال له‏: يا رسول الله {{صل}}، ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال‏: ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل‏: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيجلى لي عن بصرى، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي‏)‏ قال عثمان بن حنيف‏: فوالله ما تفرقنا وما طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط‏.
 
قال البيهقي‏: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب بن سعيد‏. قال‏: ورواه أيضا هشام الدستوائى عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل عن عمه وهو عثمان بن حنيف ولم يذكر إسناد هذه الطرق‏.
 
قلت‏: وقد رواه [[النسائي]] في كتاب ‏‏عمل اليوم والليلة‏ من هذه الطريق من حديث معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف‏. ورواه أيضا من حديث شعبة وحماد بن سلمة كلاهما عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة، ولم يروه أحد من هؤلاء لا [[الترمذي]] ولا النسائي ولا [[ابن ماجه]] من تلك الطريق الغريبة التي فيها الزيادة‏: طريق شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم‏.
 
لكن رواه الحاكم في مستدركه من الطريقين، فرواه من حديث عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المدني، سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضريرا أتى النبي {{صل}} فقال‏: ادع الله أن يعافيني فقال‏: ‏(‏إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت‏)‏‏. قال‏: فادعه‏. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلى ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء‏: ‏(‏اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتى هذه، اللهم فشفعه في وشفعني فيه‏)‏ قال الحاكم‏: على شرطهما‏.
 
ثم رواه من طريق شبيب بن سعيد الحبطى وعون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أنه سمع النبي {{صل}} وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره وقال‏: يا رسول الله، ليس لي قائد وقد شق على، فقال‏: ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قال‏: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيجلى لي عن بصرى، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي‏)‏ قال عثمان‏: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأن لم يكن به ضر قط‏. قال الحاكم‏: على شرط البخاري‏.
 
وشبيب هذا صدوق روى له [[البخاري]]، ولكنه قد روى له عن روح بن الفرج أحاديث مناكير رواها ابن وهب، وقد ظن أنه غلط عليه‏. ولكن قد يقال مثل هذا إذا انفرد عن الثقات الذين هم أحفظ منه مثل شعبة وحماد بن سلمة وهشام الدستوائى بزيادة كان ذلك عليه في الحديث، لا سيما وفي هذه الرواية أنه قال‏: ‏(‏فشفعه في وشفعني في نفسي‏)‏ وأولئك قالوا‏: ‏(‏فشفعه في وشفعني فيه‏)‏ ومعني قوله‏: ‏(‏وشفعني فيه‏)‏ أي في دعائه وسؤاله لي فيطابق قوله‏: ‏(‏وشفعه في‏)‏‏.
 
قال أبو أحمد بن عدي في كتابه المسمى ‏‏بالكامل في أسماء الرجال‏]‏ ولم يصنف في فنه مثله ‏: شبيب بن سعيد الحبطى أبو سعيد البصري التميمى حدث عنه ابن وهب بالمناكير، وحدث عن يونس عن الزهرى بنسخة الزهرى أحاديث مستقيمة، وذكر عن على ابن المديني أنه قال‏: هو بصرى ثقة، كان من أصحاب يونس، كان يختلف في تجارة إلى مصر وجاء بكتاب صحيح، قال‏: وقد كتبها عنه ابنه أحمد بن شبيب‏. وروى عن عدي حديثين عن ابن وهب عن شبيب هذا عن روح بن الفرج‏:
 
أحدهما‏: عن ابن عقيل، عن سابق بن ناجية، عن ابن سلام قال‏: مر بنا رجل فقالوا‏: إن هذا قد خدم النبي {{صل}}‏.
 
والثاني‏: عنه، عن روح بن الفرج، عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة حديث دخول المسجد، قال ابن عدي‏: كذا قيل في الحديث عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة بنت رسول الله {{صل}}، قال ابن عدي‏: ولشبيب ابن سعيد نسخة الزهرى عنده عن يونس عن الزهرى وهى أحاديث مستقيمة‏. وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير‏.
 
وحدثنى روح بن الفرج اللذين أمليتهما يرويهما ابن وهب عن شبيب، وكان شبيب ابن سعيد إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة الزهرى، ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير التي يرويها عنه، ولعل شبيبا بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو ألا يتعمد شبيب هذا الكذب‏.
 
قلت‏: هذا الحديثان اللذان أنكرهما ابن عدي عليه، رواهما عن روح بن القاسم، وكذلك هذا الحديث حديث الأعمى رواه عن روح بن القاسم‏. وهذا الحديث مما رواه عنه ابن وهب أيضا كما رواه عنه ابناه، لكنه لم يتقن لفظه كما أتقنه ابناه‏.
 
وهذا يصحح ما ذكره ابن عدي، فعلم أنه محفوظ عنه، وابن عدي أحال الغلط عليه لا على ابن وهب، وهذا صحيح إن كان قد غلط، وإذا كان قد غلط على روح بن القاسم في ذينك الحديثين أمكن أن يكون غلط عليه في هذا الحديث، وروح بن القاسم ثقة مشهور روى له الجماعة، فلهذا لم يحيلوا الغلط عليه‏.
 
والرجل قد يكون حافظا لما يرويه عن شيخ غير حافظ لما يرويه عن آخر، مثل إسماعيل بن عياش فيما يرويه عن الحجازيين، فإنه يغلط فيه، بخلاف ما يرويه عن الشاميين‏. ومثل سفيان بن حسين فيما يرويه عن الزهرى‏. ومثل هذا كثير، فيحتمل أن يكون هذا يغلط فيما يرويه عن روح بن القاسم إن كان الأمر كما قاله ابن عدي وهذا محل نظر‏.
 
وقد روى الطبراني هذا الحديث في المعجم من حديث ابن وهب عن شبيب بن سعيد، ورواه من حديث أصبغ بن الفرج‏: حدثنا عبد الله بن وهب، عن شبيب بن سعيد المكى، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فلقى عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف‏: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل‏: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد {{صل}} نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضى لي حاجتى‏. وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قاله له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطِّنْفِسة، وقال‏: حاجتك، فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له‏: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال‏: ما كانت لك من حاجة فائتنا‏.
 
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف، فقال له‏: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتى ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته في‏. فقال له عثمان بن حنيف‏: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله {{صل}} وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي {{صل}}‏: ‏(‏أفتصبر ‏؟‏‏)‏ فقال‏: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات‏)‏ فقال عثمان بن حنيف‏: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل، كأنه لم يكن به ضر قط‏.
 
قال الطبراني‏: روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر عن شعبة، قال أبو عبد الله المقدسى‏: والحديث صحيح‏.
 
قلت‏: والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح، يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر، وطريق ابن وهب هذه تؤيد ما ذكره ابن عدي، فإنه لم يحرر لفظ الرواية كما حررها ابناه، بل ذكر فيها أن الأعمى دعا بمثل ما ذكره عثمان بن حنيف، وليس كذلك بل في حديث الأعمى أنه قال‏: ‏(‏اللهم فشفعه في وشفعني فيه أو قال في نفسي‏)‏‏.
 
وهذه لم يذكرها ابن وهب في روايته، فيشبه أن يكون حدث ابن وهب من حفظه كما قال ابن عدي فلم يتقن الرواية‏. وقد روى أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه حديث حماد بن سلمة فقال‏: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، أنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا أعمى أتى النبي {{صل}} فقال‏: إني أصبت في بصرى فادع الله لي‏. قال‏: ‏(‏اذهب فتوضأ وصل ركعتين ثم قل‏: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة‏. يا محمد، أستشفع بك على ربي في رد بصرى، اللهم فشفعني في نفسي وشفع نبيي في رد بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك‏)‏ فرد الله عليه بصره‏.
 
قال ابن أبي خَيْثَمَة‏: وأبو جعفر هذا الذي حدث عنه حماد بن سلمة اسمه عمير ابن يزيد وهو أبو جعفر الذي يروى عنه شعبة، ثم ذكر الحديث من طريق عثمان بن عمر عن شعبة‏. ‏قلت‏: ‏وهذه الطريق فيها ‏"‏فشفعني في نفسي‏"‏ مثل طريق روح بن القاسم، وفيها زيادة أخرى وهى قوله‏: ‏‏"‏وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك أو قال فعل مثل ذلك‏"‏‏.
 
وهذه قد يقال‏: إنها توافق قول عثمان بن حنيف، لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى، وقوله‏: ‏(‏وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك‏)‏ قد يكون مدرجًا من كلام عثمان لا من كلام النبي {{صل}} فإنه لم يقل‏: ‏(‏وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك‏)‏، بل قال‏: ‏"‏وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك‏)‏‏.
 
وبالجملة، فهذه الزيادة لو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة، وإنما غايتها أن يكون عثمان ابن حنيف ظن أن الدعاء يدعى ببعضه دون بعض، فإنه لم يأمره بالدعاء المشروع، بل ببعضه، وظن أن هذا مشروع بعد موته {{صل}}، ولفظ الحديث يناقض ذلك، فإن في الحديث أن الأعمى سأل النبي {{صل}} أن يدعو له، وأنه علم الأعمى أن يدعو وأمره في الدعاء أن يقول‏: ‏(‏اللهم فشفعه في‏)‏، وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبي {{صل}} داعيا شافعا له، بخلاف من لم يكن كذلك، فهذا يناسب شفاعته ودعاءه للناس في محياه في الدنيا ويوم القيامة إذا شفع لهم‏.
 
وفيه أيضا أنه قال‏: ‏(‏وشفعني فيه‏)‏، وليس المراد أنه يشفع للنبي {{صل}} في حاجة للنبي {{صل}} وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه، وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة ففي [[صحيح البخاري]] عن جابر بن عبد الله أن رسول الله {{صل}} قال‏: ‏(‏من قال إذا سمع النداء‏: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلتْ له شفاعتى يوم القيامة‏)‏‏.
 
وفي [[صحيح مسلم]] عن عبد الله بن عمرو قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإن من صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة‏)‏‏.
 
 
====سؤال الأمة له الوسيلة====
وسؤال الأمة له الوسيلة هو دعاء له وهو معنى الشفاعة؛ ولهذا كان الجزاء من جنس العمل، فمن صلى عليه صلى عليه الله، ومن سأل الله له الوسيلة المتضمنة لشفاعته شفع له {{صل}}، كذلك الأعمى سأل منه الشفاعة فأمره أن يدعو الله بقبول هذه الشفاعة وهو كالشفاعة في الشفاعة؛ فلهذا قال‏: ‏(‏اللهم فشفعه في وشفعني فيه‏)‏‏.
 
وذلك أن قبول دعاء النبي {{صل}} في مثل هذا هو من كرامة الرسول على ربه؛ ولهذا عد هذا من آياته ودلائل نبوته، فهو كشفاعته يوم القيامة في الخلق؛ ولهذا أمر طالب الدعاء أن يقول‏: ‏(‏فشفعه في وشفعني فيه‏)‏ بخلاف قوله‏: ‏(‏وشفعني في نفسي‏)‏ فإن هذا اللفظ لم يروه أحد إلا من هذا الطريق الغريب‏.
 
وقوله‏: ‏(‏وشفعني فيه‏)‏ رواه عن شعبة رجلان جليلان‏: عثمان بن عمر، وروح بن عبادة‏. وشعبة أجل من روى هذا الحديث، ومن طريق عثمان بن عمر عن شعبة رواه الثلاثة‏: [[الترمذي]] و[[النسائي]] و[[ابن ماجه]]‏.
 
رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عثمان بن عمر عن شعبة ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سيار عن عثمان بن عمر، وقد رواه أحمد في المسند عن روح بن عبادة عن شعبة، فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث‏. مع أن قوله‏: ‏(‏وشفعني في نفسي‏)‏ إن كان محفوظًا مثل ما ذكرناه، وهو أنه طلب أن يكون شفيعًا لنفسه مع دعاء النبي {{صل}} ولو لم يدع له النبي {{صل}} كان سائلا مجردًا كسائر السائلين‏.
 
ولا يسمى مثل هذا شفاعة، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرا فيكون أحدهما شفيعا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره‏.
 
فهذه الزيادة فيها عدة علل‏: انفراد هذا بها عمن هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له عن روح هذا أحاديث منكرة‏.
 
ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة، فلا حاجة فيها؛ إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه‏.
 
ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال‏: اللهم فشفعه في وشفعني فيه مع أن النبي {{صل}} لم يدع له كان هذا كلاما باطلا، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي {{صل}} شيئا، ولا أن يقول‏: فشفعه في، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي {{صل}} شفاعة ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته‏: ‏(‏فشفعه في‏)‏ لكان كلاما لا معنى له؛ ولهذا لم يأمر به عثمان‏.
 
والدعاء المأثور عن النبي {{صل}} لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثورا عن النبي {{صل}}‏.
 
ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه وكان ما يثبت عن النبي {{صل}} يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول‏.
 
ولهذا نظائر كثيرة‏: مثل ما كان ابن عمر يدخل الماء في عينيه في الوضوء، ويأخذ لأذنيه ماءً جديدا، وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين في الوضوء، ويقول‏: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وروى عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول‏: هو موضع الغل‏. فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعا لهما فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا‏: سائر الصحابة لم يكونوا يتوضؤون هكذا‏.
 
والوضوء الثابت عنه {{صل}} الذي في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين، ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين، ولا مسح العنق، ولا قال النبي {{صل}}‏: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل‏. بل هذا من كلام أبي هريرة جاء مدرجًا في بعض الأحاديث، وإنما قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏إنكم تأتون يوم القيامة غرا مُحَجَّلِين من آثار الوضوء‏)‏، وكان {{صل}} يتوضأ حتى يشرع في العضد والساق، قال أبو هريرة‏: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة، وهذا لا معنى له، فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل، وإنما في اليد والرجل الحِجْلة، والغرة لا يمكن إطالتها، فإن الوجه يغسل كله لا يغسل الرأس ولا غرة في الرأس، والحجلة لا يستحب إطالتها، وإطالتها مثلة‏.
 
وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي {{صل}}، وينزل مواضع منزله ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها، ونحو ذلك مما استحبه طائفه من العلماء ورأوه مستحبا، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه، ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود ومعاذ ابن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر‏. ولو رأوه مستحبًا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به‏.
 
وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلى خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة، والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما‏.
 
وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلى فيه لكونه نزله لا قصدًا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه، أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب، كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمى عن المعرور بن سويد، قال‏: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون‏: صلى فيه النبي {{صل}}، فقال عمر‏: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبِيَعًا، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض‏.
 
فلما كان النبي {{صل}} لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غيره موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي {{صل}} في الصورة ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب‏.
 
وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل؛ ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة‏: هل فعلها استحبابا أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها، وكذلك نزوله بالمُحَصَّب عند الخروج من منى لما اشتبه‏: هل فعله لأنه كان أسمح لخروجه أو لكونه سنة ‏؟‏ تنازعوا في ذلك‏. ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي {{صل}}، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي {{صل}} شرعه لأمته، لم يمكن أن يقال‏: هذا سنة مستحبة، بل غايته أن يقال‏: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي {{صل}} لأمته، أو يقال في التعريف‏: إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة‏.
 
وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله، تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة‏: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين‏.
 
فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله {{صل}}، إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه، ولا يكون في الدين واجبا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبا إلا ما استحبه، ولا مكروها إلا ما كرهه، ولا مباحا إلا ما أباحه‏.
 
وهكذا في الإباحات، كما استباح أبو طلحة أكل البرد وهو صائم، واستباح حذيفة السحور بعد ظهور الضوء المنتشر حتى قيل‏: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع‏. وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك، فوجب الرد إلى الكتاب والسنة‏.
 
وكذلك الكراهة والتحريم‏. مثل كراهة عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت، وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع، أو التمتع مطلقًا، أو رأى تقدير مسافة القصر بحد حده، وأنه لا يقصر بدون ذلك، أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر‏.
 
ومن ذلك قول سلمان‏: إن الريق نجس، وقول ابن عمر‏: إن الكتابية لا يجوز نكاحها، وتوريث معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر، ومنع عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم، وقول على وزيد وابن عمر في المفوِّضة‏: إنه لا مهر لها إذا مات الزوج، وقول على وابن عباس في المتوفى عنها الحامل‏: إنها تعتد أبعدَ الأجلين، وقول ابن عمر وغيره‏: إن المحرم إذا مات بطل إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال‏.
 
وقول ابن عمر وغيره‏: لا يجوز الاشتراط في الحج، وقول ابن عباس وغيره في المتوفى عنها‏: ليس عليها لزوم المنزل، وقول عمر وابن مسعود‏: إن المبتوتة لها السكنى والنفقة‏. وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة، فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول، ونظائر هذا كثيرة فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله {{صل}}‏.
 
 
====من قال من العلماء‏ ‏‏إن قول الصحابي حجة====
ومن قال من العلماء‏: ‏‏إن قول الصحابي حجة‏ فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقرارا على القول، فقد يقال‏: ‏‏هذا إجماع إقراري‏،‏ إذا عرف أنهم أقروه ولم ينكره أحد منهم، وهم لا يقرون على باطل‏.
 
وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال‏: ‏‏حجة‏. وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة بالاتفاق، وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله {{صل}}، لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم‏.
 
وإذا كان كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي {{صل}} بعد موته من غير أن يكون النبي {{صل}} داعيا له ولا شافعا فيه، فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعًا بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا به‏.
 
بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنًا حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالعباس قال‏: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون‏. وهذا دعاء أقره علىه جميع الصحابة ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية‏.
 
ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس‏.
 
فلو كان توسلهم بالنبي {{صل}} بعد مماته كتوسلهم به في حياته لقالوا‏: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبي {{صل}} الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله ‏؟‏ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته‏.
 
وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي {{صل}} ودعائه لا بذاته، وقال له في الدعاء‏: ‏(‏قل‏: اللهم فشفعه في‏)‏
 
وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع، بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته، كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله {{صل}}، وكان المخالف لعمر محجوجًا بسنة رسول الله {{صل}}، وكان الحديث الذي رواه عن النبي {{صل}} حجة عليه لا له، والله أعلم‏.
 
وأما القسم الثالث مما يسمى ‏‏توسلا‏ فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي {{صل}} شيئا يحتج به أهل العلم كما تقدم بسط الكلام على ذلك وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي {{صل}} شيئا ثابتًا لا في الإقسام أو السؤال به، ولا في الإقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين‏.
 
وإن كان في العلماء من سوغه، فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه، فتكون مسألة نزاع كما تقدم بيانه، فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وبيدى كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع، وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين، بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم، فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء، والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي {{صل}} ولا عن الصحابة، وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله، لا بالأنبياء ولا بغيرهم، كما سبق بسط الكلام في تقرير ذلك‏.
 
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا النذر شرك لا يوفى به‏. وكذلك الحلف بالمخلوقات لا تنعقد به اليمين، ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي {{صل}} لم تنعقد يمينه كما تقدم ذكره، ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، بل نهى عن الحلف بهذه اليمين‏.
 
فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله‏؟‏
 
وأما السؤال به من غير إقسام به فهذا أيضا مما منع منه غير واحد من العلماء، والسنن الصحيحة عن النبي {{صل}} وخلفائه الراشدين تدل على ذلك، فإن هذا إنما يفعله على أنه قربة وطاعة، وأنه مما يستجاب به الدعاء‏.
 
وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجبا وإما أن يكون مستحبا، وكل ما كان واجبا أو مستحبًا في العبادات والأدعية فلا بد أن يشرعه النبي {{صل}} لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجبا ولا مستحبا ولا يكون قربة وطاعة، ولا سببا لإجابة الدعاء، وقد تقدم بسط الكلام على هذا كله‏.
 
فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة وما استقرئ من أحوال النبي {{صل}} وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعًا عندهم‏.
 
وأيضا، فقد تبين أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، وأنه كالسؤال بالكعبة والطور والكرسي والمساجد وغير ذلك من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس هو مشروعًا، كما أن الإقسام بها ليس مشروعًا بل هو منهى عنه‏.
 
 
====فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق====
فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق، ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء كما تقدم تفصيله‏.
 
لكن قد روى في جواز ذلك آثار وأقوال عن بعض أهل العلم، ولكن ليس في المنقول عن النبي {{صل}} شيء ثابت بل كلها موضوعة‏.
 
وأما النقل عمن ليس قوله حجة فبعضه ثابت وبعضه ليس بثابت، والحديث الذي رواه أحمد و[[ابن ماجه]] وفيه‏. ‏(‏بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا‏)‏ رواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي {{صل}} قال‏: ‏(‏من قال إذا خرج إلى الصلاة‏. اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا، فإني لم أخرجه أشرا ولا بطرا، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تدخلني الجنة، وأن تغفر لي ذنوبى، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضى صلاته‏)‏‏.
 
وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روى من طريق آخر وهو ضعيف أيضا، ولفظه لا حجة فيه، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك‏.
 
وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم‏: فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة؛ لأن هذه الأعمال أمر الله بها، ووعد الجزاء لأصحابها، فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله‏. ‏{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}‏ ‏[‏آل عمران‏. 193‏]‏، وقال تعالى‏. ‏{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ }‏ ‏[‏المؤمنون‏. 109‏]‏، وقال تعالى‏. ‏{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}‏ ‏[‏آل عمران‏. 15، 16‏]‏‏.
 
وكان ابن مسعود يقول في السحر‏. اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي‏.
 
وأصل هذا الباب أن يقال‏: الإقسام على الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأمورًا به إيجابا أو استحبابًا، أو منهيا عنه نهى تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأمورا به ولا منهيا عنه‏.
 
وإذا قيل‏. إن ذلك مأمور به أو مباح، فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق أو يقال‏. بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها‏. فمن قال‏. إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها، لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن، فهذا لا يقوله مسلم‏.
 
فإن قال‏: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل ب ‏{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}‏ ‏[‏الليل‏: 1 4‏]‏، ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}‏ ‏[‏الشمس1 7‏]‏ ويسأل الله تعالى ويقسم عليه ‏{بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}‏‏ [‏التكوير‏. ‏15‏: 18‏]‏، ويسأل ب ‏{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}‏ ‏[‏الذاريات‏. 1 4‏]‏، ويسأل ب ‏{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}‏ ‏[‏الطور‏: 1 6‏]‏ ويسأل ويقسم عليه ب ‏{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}‏ ‏[‏الصافات‏: ‏1‏]‏، وسائر ما أقسم الله به في كتابه‏.
 
فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته‏. فهى دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته وعظمته وعزته، فهو سبحانه يقسم بها؛ لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه‏.
 
ونحن المخلوقين ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع، بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهى عنه‏.
 
ومن سأل الله بها، لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس والقمر، والليل والنهار، والتين والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله، كالشمس والقمر والكواكب والملائكة والمسيح والعزير وغير ذلك مما عبد من دون الله ومما لم يعبد من دونه‏.
 
ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام‏.
 
ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالأقسام والعزائم التي تكتب في الحروز والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون، بل ويقال‏. إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن مشروعة في دين الإسلام، وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام، بل ومن دين الأنبياء أجمعين‏.
 
وإن قال قائل‏. بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم‏.
 
قيل له‏. بعض المخلوقات، وإن كان أفضل من بعض، فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها ندا لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل عليه ولا يخشى ولا يتقى ولا يصام له ولا يسجد له ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت‏)‏، وقال‏: ‏(‏لا تحلفوا إلا بالله‏)‏، وفي السنن عنه أنه قال‏. ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏‏.
 
 
 
====ثبت بالنصوص الصحيحة أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات====
فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي {{صل}} أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبي ونبي‏. وهذا كما قد سوى الله تعالى بين جميع المخلوقات في ذم الشرك بها وإن كانت معظمة قال تعالى‏. ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏‏ [‏آل عمران79، 80‏]‏، وقال تعالى‏. ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏‏ [‏الإسراء‏. ‏56، 57‏]‏‏.
 
قالت طائفة من السلف‏. كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فقال تعالى‏. هؤلاء الذين تدعونهم عبدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابى كما تخافون عذابى، ويتقربون إلىّ كما تتقربون إلى‏.
 
وقد قال تعالى‏: ‏{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}‏‏ [‏النور‏: 52‏]‏، فبين أن الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وبين أن الخشية والتقوى لله وحده، فلم يأمر أن يخشى مخلوق ولا يتقى مخلوق‏.
 
وقال تعالى‏: ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ}‏‏ [‏التوبة‏. 59‏]‏، وقال تعالى‏. ‏{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}‏‏ [‏الشرح 7، 8‏]‏‏.
 
فبين سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله ويقولوا‏: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون، فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله؛ لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، ووعده ووعيده‏.
 
فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى‏. ‏{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}‏‏ [‏الحشر‏. 7‏]‏ فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله، والأموال المشتركة له، كمال الفيء والغنيمة والصدقات، عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك‏.
 
ثم قال تعالى‏. ‏{وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله}‏ ولم يقل‏. ‏‏ورسوله‏]‏ فإن الحسب هو الكافي، والله وحده كاف عباده المؤمنين، كما قال تعالى‏. ‏{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ [‏الأنفال‏. 64‏]‏ أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين‏. هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف، كما بين في موضع آخر‏.
 
والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه، فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه، ثم قال تعالى‏: ‏{سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}‏ فذكر الإيتاء لله ورسوله، لكن وسطه بذكر الفضل، فإن الفضل لله وحده بقوله‏: ‏{سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}‏ ثم قال تعالى‏. ‏{إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ}‏ فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات‏.
 
فقد تبين أن الله سوى بين المخلوقات في هذه الأحكام، لم يجعل لأحد من المخلوقين سواء كان نبيا أو ملكا أن يقسم به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه ولا يخشى ولا يتقى‏. وقال تعالى‏. ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏‏ [‏سبأ‏. 22، 23‏]‏‏. فقد تهدد سبحانه من دعا شيئا من دون الله، وبين أنهم لا ملك لهم مع الله ولا شركا في ملكه، وأنه ليس له عون ولا ظهير من المخلوقين، فقطع تعلق القلوب بالمخلوقات‏. رغبة ورهبة وعبادة واستعانة، ولم يبق إلا الشفاعة وهى حق، لكن قال الله تعالى‏. ‏{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏‏ . وهكذا دلت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة يوم القيامة، إذا أتى الناس آدم، وأولى العزم نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، فيردهم كل واحد إلى الذي بعده، إلى أن يأتوا المسيح فيقول لهم‏. اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏. قال {{صل}}‏. ‏(‏فيأتوني فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت ساجدًا وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن، فيقال لي‏. أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع قال فيحدّ لي حدًا فأدخلهم الجنة‏)‏، وذكر تمام الخبر‏.
 
فبين المسيح أن محمدًا هو الشافع المشفع؛ لأنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبين محمد عبد الله ورسوله أفضل الخلق وأوجه الشفعاء وأكرمهم على الله تعالى أنه يأتى فيسجد ويحمد، لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فيقال له‏. ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، وذكر أن ربه يحد له حدًا فيدخلهم الجنة‏.
 
وهذا كله يبين أن الأمر كله لله، هو الذي يكرم الشفيع بالإذن له في الشفاعة، والشفيع لا يشفع إلا فيمن يأذن الله له، ثم يحد للشفيع حدًا فيدخلهم الجنة‏. فالأمر بمشيئته وقدرته واختياره‏. وأوجه الشفعاء وأفضلهم هو عنده الذي فضله على غيره واختاره واصطفاه بكمال عبوديته وطاعته وإنابته، وموافقته لربه فيما يحبه ويرضاه‏.
 
وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هى من الأحكام التي اشتركت المخلوقات فيها، فليس لمخلوق أن يقسم به‏. ولا يتقى ولا يتوكل عليه وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلا عن غيرهم من المشايخ والصالحين‏.
 
فسؤال الله تعالى بالمخلوقات‏. إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات فيسوغ السؤال بذلك كله، وإن لم يكن سائغا لم يجز أن يسأل بشيء من ذلك، والتفريق في ذلك بين معظم ومعظم، كتفريق من فرق فزعم أنه يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض، وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر‏. ولو فرق مفرق بين ما يؤمن به، وبين ما لا يؤمن به، قيل له‏. فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به الرسول مثل منكر ونكير، والحور العين، والولدان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها ‏؟‏ أم يجوز السؤال بها كذلك ‏؟‏
 
فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سببا لإجابة الدعاء فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز‏. فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من العلماء، والله أعلم‏.
 
وأما قوله تعالى‏. ‏{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}‏‏ [‏البقرة‏. ‏89‏]‏ فكانت اليهود تقول للمشركين‏. سوف يبعث هذا النبي ونقاتلكم معه فنقتلكم، لم يكونوا يقسمون على الله بذاته‏. ولا يسألون به، أو يقولون‏. اللهم ابعث هذا النبي الأمي لنتبعه ونقتل هؤلاء معه‏. هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن، فإنه قال تعالى‏: ‏{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُون}‏‏ . والاستفتاح‏: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلونهم معه، فبهذا ينصرون، ليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به؛ إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك، بل لما بعث الله محمدا {{صل}} نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه‏.
 
وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به، فهو نقل شاذ مخالف للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له‏.
 
وقد ذكرنا طرفا من ذلك في ‏‏دلائل النبوة‏]‏، وفي كتاب ‏‏الاستغاثة الكبير‏]‏، وكتب السير، ودلائل النبوة، والتفسير مشحونة بذلك‏. قال أبو العالية وغيره‏: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد {{صل}} على مشركى العرب يقولون‏. اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم‏. فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله {{صل}} فأنزل الله تعالى هذه الآيات‏. ‏{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ}‏‏ [‏البقرة‏. 89‏]‏‏.
 
وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن رجال من قومه قالوا‏. مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا‏. قد تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم كثيرا ما كنا نسمع ذلك منهم فلما بعث الله محمدا رسولا من عند الله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في البقرة‏. ‏{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ}‏‏ [‏البقرة‏. 89‏]‏
 
ولم يذكر [[ابن أبي حاتم]] وغيره ممن جمع كلام مفسرى السلف إلا هذا، وهذا لم يذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الإخبار به، أو سؤال الله أن يبعثه‏. فروى ابن أبي حاتم، عن أبي رزين، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله تعالى‏: ‏{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}‏ قال‏. يستظهرون، ويقولون‏. نحن نعين محمدا عليهم وليسوا كذلك، يكذبون‏.
 
وروى عن معمر عن قتادة في قوله تعالى‏. ‏{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}‏ قال‏. كانوا يقولون‏. إنه سيأتى نبي ‏{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}‏‏ .
 
وروى بإسناده عن ابن إسحاق‏. حدثنا محمد بن أبي محمد قال‏. أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله {{صل}} قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة‏. يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد {{صل}} ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير‏. ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى في ذلك‏: ‏{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ}‏‏ .
 
وروى بإسناده عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال‏. كانت اليهود تستنصر بمحمد {{صل}} على مشركى العرب، يقولون‏. اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم‏. فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله {{صل}}، فقال الله‏: ‏{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ}‏‏ .
 
وأما الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏. كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود فعاذت بهذا الدعاء‏. اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان‏. فلما بعث النبي {{صل}} كفروا به، فأنزل الله تعالى‏. ‏{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ}‏ وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه وقال‏. أدت الضرورة إلى إخراجه‏. وهذا مما أنكره عليه العلماء، فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك، بل كذاب‏. وقد تقدم ما ذكره يحيى بن معين وغيره من الأئمة في حقه‏.
 
قلت‏. وهذا الحديث من جملتها، وكذلك الحديث الآخر يرويه عن أبي بكر، كما تقدم‏.
 
ومما يبين ذلك أن قوله تعالى‏: ‏{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}‏ إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولا كبني قينقاع وقريظة والنضير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج، وهم الذين عاهدهم النبي {{صل}} لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم، فحارب أولا بني قينقاع ثم النضير وفيهم نزلت سورة الحشر ثم قريظة عام الخندق، فكيف يقال‏. نزلت في يهود خيبر وغطفان ‏؟‏ فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب، ومما يبين ذلك أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعى الصادقين على نقله‏.
 
ومما ينبغي أن يعلم‏. أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضي السؤال به، والإقسام به على الله تعالى لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه في الأحكام؛ لأنه أولا لم يثبت، وليس في الآية ما يدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعا لنا، فإن الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا‏: ‏{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}‏‏ [‏الكهف‏. 21‏]‏ ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور، ولفظ الآية إنما فيه أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏.
 
وهذا كقوله تعالى‏: ‏{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ}‏‏ [‏الأنفال‏: 19‏]‏‏. والاستفتاح‏: طلب الفتح وهو النصر، ومنه الحديث المأثور أن النبي {{صل}} كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بهم أي بدعائهم كما قال‏. ‏(‏وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم ‏؟‏‏)‏‏.
 
وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، بأن يجعل بعث ذلك النبي إليهم لينتصروا به عليهم، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به، ولهذا قال تعالى‏. ‏{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ}‏، فلو لم ترد الآثار التي تدل على أن هذا معنى الآية لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بذلك ‏؟‏
 
وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بينا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة في هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب فيحالف كل فريق فريقًا، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج‏.
 
وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى‏. ‏{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}‏‏ [‏آل عمران‏. 112‏]‏‏.
 
فاليهود من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليه السلام فكذبوه‏. قال تعالى‏. ‏{الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}‏‏ [‏آل عمران‏. 55‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}‏‏ [‏الصف‏: 14‏]‏، وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏. قال تعالى‏: ‏{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}‏‏ [‏البقرة‏: 61‏]‏‏.
 
فإذا لم يكن الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره، في حياته {{صل}} وبعد موته، يقسمون بذاته، بل إنما كانوا يتوسلون بطاعته أو بشفاعته، فكيف يقال في دعاء المخلوقين الغائبين والموتى وسؤالهم من الأنبياء والملائكة وغيرهم، وقد قال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏‏ [‏الإسراء ‏: ‏56، 57‏]‏‏.
 
قالت طائفة من السلف‏: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وغيرهما، فنهى الله عن ذلك، وأخبر تعالى أن هؤلاء يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه، ويتقربون إليه، وأنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله عنهم‏. وقد قال تعالى‏: ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏‏ [‏آل عمران‏: 79، 80‏]‏‏.
 
 
====نهي النبى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا====
ولهذا نهى النبي {{صل}} أن يتخذ قبره مسجدًا، وأن يُتخذ عيدًا، وقال في مرض موته‏: ‏(‏لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذر ما صنعوا، أخرجاه في الصحيحين‏. وقال‏: ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ رواه مالك في موطئه، وقال‏: ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا‏: عبد الله ورسوله‏)‏ متفق عليه‏.
 
وقال‏: ‏(‏لا تقولوا‏: ما شاء الله وشاء محمد‏. بل ما شاء الله ثم شاء محمد‏)‏‏. وقال له بعض الأعراب‏: ما شاء الله وشئت، فقال‏: ‏(‏أجعلتني لله ندًا ‏؟‏ بل ما شاء الله وحده‏)‏‏. وقد قال الله تعالى له‏: ‏{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}‏‏ [‏الأعراف ‏: ‏188‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا}‏‏ [‏يونس ‏: ‏49‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاء}‏‏ [‏القصص‏: 56‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}‏‏ [‏آل عمران‏: 128‏]‏‏. وهذا تحقيق التوحيد مع أنه {{صل}} أكرم الخلق على الله، وأعلاهم منزلة عند الله‏.
 
وقد روى الطبراني في معجمه الكبير أن منافقًا كان يؤذى المؤمنين، فقال أبو بكر‏: قوموا نستغيث برسول الله {{صل}} من هذا المنافق‏. فقال له النبي {{صل}}‏: ‏(‏لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله‏)‏‏.
 
وفي [[صحيح مسلم]] في آخره أنه قال قبل أن يموت بخمس‏: ‏(‏إن من كان قبلكم يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏. وفي صحيح مسلم أيضا وغيره أنه قال‏: ‏(‏لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏‏.
 
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وله طرق متعددة عن غيرهما أنه قال‏: ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏: مسجدى هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى‏)‏‏. وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتى قبر النبي {{صل}} فقال مالك‏: إن كان أراد القبر فلا يأته، وإن أراد المسجد فليأته‏. ثم ذكر الحديث‏: ‏(‏لا تشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏)‏‏. ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه‏.
 
ولو حلف حالف بحق المخلوقين لم تنعقد يمينه، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء والملائكة وغيرهم، ولله تبارك وتعالى حق لا يشركه فيه أحد لا الأنبياء ولا غيرهم، وللأنبياء حق، وللمؤمنين حق، ولبعضهم على بعض حق‏.
 
فحقه تبارك وتعالى أن يعبدوه لا يشركوا به، كما تقدم في حديث معاذ، ومن عبادته تعالى أن يخلصوا له الدين، ويتوكلوا عليه، ويرغبوا إليه، ولا يجعلوا لله ندًا‏: لا في محبته ولا خشيته ولا دعائه ولا الاستعانة به، كما في الصحيحين أنه قال {{صل}}‏: ‏(‏من مات وهو يدعو ندا من دون الله دخل النار‏)‏ وسئل‏: أي الذنب أعظم ‏؟‏ قال‏: ‏(‏أن تجعل لله ندًا وهو خلقك‏)‏‏. وقيل له‏: ما شاء الله وشئت‏. فقال‏: ‏(‏أجعلتني لله ندًا ‏!‏ بل ما شاء الله وحده‏)‏‏. وقد قال تعالى‏: ‏{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ [‏النساء‏: 48، 116‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}‏‏ [‏البقرة‏: 22‏]‏، ‏{وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ}‏‏ [‏النحل‏: 51‏]‏، ‏{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}‏‏ [‏العنكبوت‏: 56‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}‏‏ [‏الشرح‏: 7، 8‏]‏، وقال تعالى في فاتحة الكتاب التي هى أم القرآن‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏‏ [‏الفاتحة‏: 5‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله}‏‏ [‏البقرة‏: 165‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}‏‏ [‏المائدة‏: 44‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله}‏‏ [‏الأحزاب‏: 39‏]‏‏.
 
ولهذا لما كان المشركون يخوفون إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى‏: ‏{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شيئا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}‏‏ [‏الأنعام‏: 80‏: 82‏]‏‏.
 
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏: لما نزلت هذه الآية‏: ‏{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}‏ شق ذلك على أصحاب النبي {{صل}} وقالوا‏: أينا لم يظلم نفسه ‏؟‏ فقال لهم النبي {{صل}}‏: ‏(‏إنما ذاك الشرك، كما قال العبد الصالح‏: ‏{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}‏‏ [‏لقمان‏: 13‏]‏‏.
 
وقال تعالى‏: ‏‏{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}‏‏ [‏النور‏: ‏52‏]‏ فجعل الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله‏. وجعل الخشية والتقوى لله وحده، فلا يخشى إلا الله، ولا يتقى إلا الله، وقال تعالى‏: ‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا}‏‏ [‏المائدة‏: 44‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}‏‏ [‏آل عمران ‏: ‏175‏]‏‏.
 
وقال تعالى‏: ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ}‏‏ [‏التوبة‏: 59‏]‏‏. فجعل سبحانه الإيتاء لله والرسول في أول الكلام وآخره، كقوله تعالى‏: ‏{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ}‏‏ [‏الحشر‏: 7‏]‏ مع جعله الفضل لله وحده، والرغبة إلى الله وحده‏.
 
وهو تعالى وحده حسبهم لا شريك له في ذلك‏. وروى [[البخاري]] عن ابن عباس في قوله‏: ‏{حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}‏، قال‏: قالها إبراهيم حين ألقى في النار، وقالها محمد حين ‏{لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}‏‏ [‏آل عمران‏: 173‏]‏‏. وقال تعالى‏: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ [‏الأنفال‏: 64‏]‏‏.
 
ومعنى ذلك عند جماهير السلف والخلف‏: أن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، كما بسط ذلك بالأدلة، وذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسائط بيننا وبين الله في أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله‏.
 
فعلينا أن نحب الله ورسوله ونطيع الله ورسوله ونرضى الله ورسوله، قال تعالى‏: ‏{وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}‏‏ [‏التوبة‏: 62‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}‏‏ [‏النساء‏: 59‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله}‏‏ [‏النساء‏: 80‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}‏‏ [‏التوبة‏: 24‏]‏‏.
 
وفي الصحيحين عن أنس قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان‏: من كان الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار‏(‏‏. وقد قال تعالى‏: ‏{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}‏‏ [‏الفتح‏: 8، 9‏]‏‏.
 
فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره نصره ومنعه، والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله، والعبادة هى لله وحده‏: فلا يصلى إلا لله ولا يصام إلا لله، ولا يحج إلا إلى بيت الله، ولا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة؛ لكون هذه المساجد بناها أنبياء الله بإذن الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله‏.
 
وأما ما خلقه الله سبحانه من الحيوان، والنبات، والمطر، والسحاب، وسائر المخلوقات فلم يجعل غيره من العباد واسطة في ذلك الخلق، كما جعل الرسل واسطة في التبليغ، بل يخلق ما يشاء بما يشاء من الأسباب، وليس في المخلوقات شيء يستقل بإبداع شيء، بل لا بد للسبب من أسباب أخر تعاونه، ولا بد من دفع المعارض عنه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بخلاف الرسالة فإن الرسول وحده كان واسطة في تبليغ رسالته إلى عباده‏.
 
وأما جعل الهدى في قلوب العباد فهو إلى الله تعالى لا إلى الرسول كما قال الله تعالى‏: ‏{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاء}‏‏ [‏القصص‏: 56‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ}‏‏ [‏النحل‏: 37‏]‏‏. وكذلك دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع إذا جعل الله تعالى المحل قابلا له، وإلا فلو استغفر النبي للكفار والمنافقين لم يغفر لهم، قال الله تعالى‏: ‏{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ}‏‏ [‏المنافقون‏: 6‏]‏‏.
 
وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل في أمره ونهيه ووعده ووعيده وخبره، فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سب واحدًا منهم كان كافرا مرتدًا مباح الدم‏.
 
وإذا تكلمنا فيما يستحقه الله تبارك وتعالى من التوحيد بَيّنَّا أن الأنبياء وغيرهم من المخلوقين لا يستحقون ما يستحقه الله تبارك وتعالى من خصائص‏: فلا يشرك بهم ولا يتوكل عليهم، ولا يستغاث بهم كما يستغاث بالله، ولا يقسم على الله بهم، ولا يتوسل بذواتهم، وإنما يتوسل بالإيمان بهم، وبمحبتهم، وطاعتهم، وموالاتهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا، وتصديقهم فيما أخبروا، وتحليل ما حللوه، وتحريم ما حرموه‏.
 
والتوسل بذلك على وجهين ‏:
 
أحدهما‏: أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال، كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم، ويفرج كربتهم، وقد تقدم بيان ذلك‏.
 
والثاني‏: التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول {{صل}} هى الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ومثل هذا كقول المؤمنين‏: ‏{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}‏‏ [‏آل عمران‏: 193‏]‏، فإنهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء، ومثل ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين في قوله تعالى‏: ‏{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}‏‏ [‏المؤمنون‏: 109‏]‏ وأمثال ذلك كثير‏.
 
 
 
====التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين====
وكذلك التوسل بدعاء النبي {{صل}} وشفاعته، فإنه يكون على وجهين‏:
 
أحدهما‏: أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيدعو ويشفع، كما كان يطلب منه في حياته، وكما يطلب منه يوم القيامة، حين يأتون آدم ونوحا، ثم الخليل، ثم موسى الكليم، ثم عيسى، ثم يأتون محمدا صلوات الله وسلامه عليه وعليهم فيطلبون منه الشفاعة‏.
 
والوجه الثاني‏: أن يكون التوسل مع ذلك بأن يسأل الله تعالى بشفاعته ودعائه، كما في حديث الأعمى المتقدم بيانه وذكره، فإنه طلب منه الدعاء والشفاعة فدعا له الرسول وشفع فيه، وأمره أن يدعو الله فيقول‏: ‏(‏اللهم إني أسألك وأتوجه إليك به، اللهم فشفعه في‏)‏ فأمره أن يسأل الله تعالى قبول شفاعته، بخلاف من يتوسل بدعاء الرسول وشفاعة الرسول والرسول لم يدع له ولم يشفع فيه فهذا توسل بما لم يوجد، وإنما يتوسل بدعائه وشفاعته من دعا له وشفع فيه‏.
 
ومن هذا الباب قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقت الاستسقاء، كما تقدم، فإن عمر والمسلمين توسلوا بدعاء العباس وسألوا الله تعالى مع دعاء العباس، فإنهم استشفعوا جميعًا، ولم يكن العباس وحده هو الذي دعا لهم، فصار التوسل بطاعته، والتوسل بشفاعته كل منهما يكون مع دعاء المتوسل وسؤاله، ولا يكون بدون ذلك‏.
 
فهذه أربعة أنواع كلها مشروعة، لا ينازع في واحد منها أحد من أهل العلم والإيمان‏.
 
ودين الإسلام مبني على أصلين، وهما‏: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏. وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله، ومن سَوَّى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فقد عدل بالله، وهو من الذين بربهم يعدلون، وقد جعل مع الله إلها آخر، وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السموات والأرض‏.
 
فإن مشركى العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض، كما قال تعالى‏: ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله}‏‏ [‏لقمان ‏: ‏25، الزمر ‏: ‏38‏]‏، وكانوا مع ذلك مشركين يجعلون مع الله آلهة أخرى، قال تعالى‏: ‏{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ}‏‏ [‏الأنعام‏: 19‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله}‏‏ [‏البقرة‏: 165‏]‏‏. فصاروا مشركين لأنهم أحبوهم كحبه، لا أنهم قالوا‏: إن آلهتهم خلقوا كخلقه، كما قال تعالى‏: ‏{أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}‏‏ [‏الرعد‏: 16‏]‏‏.
 
وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي، أي ما جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فإنهم مقرون أن آلهتهم لم يخلقوا كخلقه، وإنما كانوا يجعلونهم شفعاء، ووسائط‏. ‏قال تعالى‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏‏ [‏يونس‏: 18‏]‏، وقال صاحب يس‏: ‏{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شيئا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}‏‏ [‏يس‏: 22 25‏]‏‏.
 
الأصل الثاني‏: أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك‏.
 
والدعاء من جملة العبادات، فمن دعا المخلوقين من الموتى والغائبين واستغاث بهم مع أن هذا أمر لم يأمر به الله ولا رسوله أمر إيجاب ولا استحباب كان مبتدعًا في الدين، مشركا برب العالمين، متبعًا غير سبيل المؤمنين‏. ومن سأل الله تعالى بالمخلوقين، أو أقسم عليه بالمخلوقين كان مبتدعًا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإن ذم من خالفه وسعى في عقوبته كان ظالمًا جاهلا معتديًا‏.
 
وإن حكم بذلك فقد حكم بغير ما أنزل الله، وكان حكمه منقوضا بإجماع المسلمين، وكان إلى أن يستتاب من هذا الحكم ويعاقب عليه أحوج منه إلى أن ينفذ له هذا الحكم ويعان عليه، وهذا كله مجمع عليه بين المسلمين، ليس فيه خلاف لا بين الأئمة الأربعة ولا غيرهم‏.
 
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في مجلدات، من جملتها مصنف ذكرنا فيه قواعد تتعلق بحكم الحكام، وما يجوز لهم الحكم فيه وما لا يجوز‏. وهو مؤلف مفرد يتعلق بأحكام هذا الباب لا يحسن إيراد شيء من فصوله هاهنا؛ لإفراد الكلام في هذا الموضع على قواعد التوحيد ومتعلقاته، وسيأتى إيراد ما اختصر منه، وحررت فصوله في ضمن أوراق مفردة يقف عليها المتأمل لمزيد الفائدة ومسيس الحاجة إلى معرفة هذا الأمر المهم، وبالله التوفيق‏.
 
 
===سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين===
وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استفتيت عن التوسل بالنبي {{صل}}، فكتبت في ذلك جوابا مبسوطا، وقد أحببت إيراده هنا لما في ذلك من مزيد الفائدة، فإن هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد وحسم مادة الشرك والغلو كلما تنوع بيانها ووضحت عباراتها كان ذلك نورًا على نور‏. والله المستعان ‏.
 
وصورة السؤال ‏:
 
المسؤول من السادة العلماء أئمة الدين أن يبينوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين‏.
 
وصورة الجواب ‏:
 
الحمد لله رب العالمين، أجمع المسلمون على أن النبي {{صل}} يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة‏. ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين واستفاضت به السنن من أنه {{صل}} يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضا لعموم الخلق‏.
 
فله {{صل}} شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه {{صل}} أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه، ومن ذلك ‏المقام المحمود‏ الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمساند مما يكثر عدده‏. وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن الشفاعة إنما هى للمؤمنين خاصة في رفع بعض الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقا‏.
 
وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته، كما ثبت في [[صحيح البخاري]] عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال‏: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا‏. فيسقون‏.
 
وفي البخاري أيضا عن ابن عمر أنه قال‏: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي {{صل}} يستسقى، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب ‏:
 
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه**ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏.
 
والتوسل بالنبي {{صل}} الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسرًا في سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته، ونحن نقدمه بين أيدينا شافعًا وسائلا لنا، بأبي هو وأمي {{صل}}‏. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما أجدب الناس بالشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشى فقال‏: اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا‏. يا يزيد، ارفع يديك‏. فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا‏. ولهذا قال العلماء‏: يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح، وإذا كانوا من أهل بيت رسول الله {{صل}} فهو أحسن‏.
 
وهذا الاستشفاع والتوسل حقيقته التوسل بدعائه؛ فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به والناس يدعون معه، كما أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي {{صل}} دخل عليه أعرابى فقال‏: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا‏. فرفع النبي {{صل}} يديه وقال‏: ‏(‏اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا‏)‏ وما في السماء قَزْعَة؛ فنشأت سحابة من جهة البحر فمطروا أسبوعًا لا يرون فيه الشمس؛ حتى دخل عليهم الأعرابى أو غيره فقال‏: يا رسول الله، انقطعت السبل، وتهدم البنيان، فادع الله يكشفها عنا‏. فرفع يديه وقال‏: ‏(‏اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام ‏<ref> [‏الآكام‏: الروابى وهى الأماكن المرتفعة، والظراب‏: ‏الجبال الصغار‏. انظر‏: ‏النهاية في غريب الحديث 3651‏. ولسان العرب، مادة ‏"‏ أكم ‏"‏‏]‏</ref> والظِّراب ومنابت الشجر وبطون الأودية‏)‏ فانجابت عن المدينة كما ينجاب الثوب‏. والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما‏.
 
وفي حديث آخر في [[سنن أبي داود]] وغيره أن رجلا قال له‏: إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك‏. فسبح رسول الله {{صل}} حتى رؤى ذلك في وجوه أصحابه وقال‏: ‏(‏ويحك، أتدري ما الله ‏؟‏ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك‏)‏‏.
 
وهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالشخص في كلام النبي {{صل}} وأصحابه وهو استشفاع بدعائه وشفاعته، ليس هو السؤال بذاته؛ فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق، ولكن لما كان معناه هو الأول، أنكر النبي {{صل}} قوله‏: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله‏: نستشفع بك على الله؛ لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضى حاجة الطالب والله تعالى لا يسأل أحدًا من عباده أن يقضى حوائج خلقه، وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله تعالى في مثل قوله‏:
 
شفيعي إليك الله لا رب غيره**وليس إلى رد الشفيع سبيل
 
فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم‏. وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله سبحانه إلى النبي {{صل}} وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسؤول المدعو الذي يسأله كل من في السموات والأرض، ولكن هو تبارك وتعالى يأمر عباده فيطيعونه، وكل من وجبت طاعته من المخلوقين فإنما وجبت لأن ذلك طاعة لله تعالى، فالرسل يبلغون عن الله أمره؛ فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن بايعهم فقد بايع الله‏. قال تعالى‏: ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله}‏‏ [‏النساء‏: 64‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله}‏‏ [‏النساء‏: 80‏]‏‏. وأولو الأمر من أهل العلم وأهل الإمارة إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، قال {{صل}} في الحديث الصحيح‏: ‏(‏على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه‏)‏، ‏(‏‏. ‏‏. ‏‏. ما لم يؤمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة‏)‏ وقال {{صل}}‏: ‏(‏لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏)‏‏.
 
وأما الشافع فسائل لا تجب طاعته في الشفاعة وإن كان عظيما، وفي الحديث الصحيح‏: أن النبي سأل بَرِيرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي {{صل}} فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها فجعل يبكى، فسألها النبي {{صل}} أن تمسكه فقالت‏: أتأمرني ‏؟‏ فقال‏: ‏(‏لا، إنما أنا شافع‏)‏‏. وإنما قالت‏: ‏(‏أتأمرني ‏؟‏‏)‏ وقال‏: ‏(‏إنما أنا شافع‏)‏ لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة بخلاف شفاعته، فإنه لا يجب قبول شفاعته، ولهذا لم يلمها النبي {{صل}} على ترك قبول شفاعته، فشفاعة غيره من الخلق أولى ألا يجب قبولها‏.
 
والخالق جل جلاله أمره أعلى وأجل من أن يكون شافعًا إلى مخلوق، بل هو سبحانه أعلى شأنًا من أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه، قال تعالى‏: ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}‏‏ [‏الأنبياء‏: 26‏: 29‏]‏‏.
 
ودل الحديث المتقدم على أن الرسول {{صل}} يستشفع به إلى الله عز وجل، أي يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الدنيا والآخرة؛ فأما في الآخرة فيطلب منه الخلق الشفاعة في أن يقضى الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار ألا يدخلها، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها‏.
 
 
 
====الرد على من قال أن النبي لا يشفع لأهل الكبائر من أمته====
ولا نزاع بين جماهير الأمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب‏. ولكن كثيرًا من أهل البدع والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعته لأهل الكبائر، فقالوا‏: لا يشفع لأهل الكبائر، بناء على أن أهل الكبائر عندهم لا يغفر الله لهم ولا يخرجهم من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا غيرها، ومذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أنه {{صل}} يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد؛ بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال ذرة من إيمان‏.
 
لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون في حياته، بمعنى أنهم يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم، فكان توسلهم بدعائه، والاستشفاع به طلب شفاعته، والشفاعة دعاء‏.
 
فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم فليس هذا مشهورًا عند الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله {{صل}} والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيًا كالعباس وكيزيد ابن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي {{صل}} لا عند قبره ولا غير قبره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، بل كانوا يصلون عليه في دعائهم، وقد قال عمر‏: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا‏. فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون‏: نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو بجاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس‏.
 
وروى بعض الجهال عن النبي {{صل}} أنه قال‏: إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى، فإن جاهى عند الله عظيم، وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله، فقال تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا}‏‏ [‏الأحزاب‏: 69‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}‏‏ [‏آل عمران‏: 45‏]‏‏.
 
فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا‏؟‏
 
وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم، وأولو العزم‏: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها، وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذ وفدوا، ذو الجاه العظيم {{صل}} وعلى آله‏.
 
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه‏: ‏‏{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}‏‏ [‏مريم‏: 93، 94‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}‏‏ [‏النساء‏: 172، 173‏]‏‏.
 
والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له، كما قال سبحانه‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏‏ [‏سبأ‏: 22، 23‏]‏‏.
 
 
====النهي عن اتخاذ القبور مساجد====
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي {{صل}} أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من يفعل ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره عيدًا، وذلك لأن أول ما حدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح‏.
 
قال ابن عباس‏: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام‏. وثبت ذلك في الصحيحين عن النبي {{صل}} أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وقد قال الله تعالى عن قومه أنهم قالوا‏: ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}‏‏ [‏نوح‏: 23، 24‏]‏ قال غير واحد من السلف‏: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم؛ وقد ذكر [[البخاري]] في صحيحه هذا عن ابن عباس، وذكر أن هذه الآلهة صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام‏. فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي {{صل}} حَسَمَ مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد وإن كان المصلى يصلى لله عز وجل، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن كان المصلى إنما يصلى لله تعالى، وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل لم يكونوا يفعلون ذلك‏.
 
وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته، وموالاته، أو التوسل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا‏.
 
فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئا من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية وهم أعلم منا وأعلم بما يحب الله ورسوله، وأعلم بما أمر الله به رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بالعباس وغيره ممن ليس مثل النبي {{صل}} دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكنا‏.
 
وقد قال {{صل}}‏: ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثَنًا يُعْبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ رواه مالك في موطئه ورواه غيره، وفي [[سنن أبي داود]] عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏ وفي الصحيحين أنه قال في مرض موته‏: ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذر ما فعلوا، قالت عائشة‏: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏. وفي [[صحيح مسلم]] عن جندب أن النبي {{صل}} قال قبل أن يموت بخمس‏: ‏(‏إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏. وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا‏: عبد الله ورسوله‏)‏‏.
 
 
====الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد====
وقد روى [[الترمذي]] حديثا صحيحًا عن النبي {{صل}} أنه علم رجلا أن يدعو فيقول‏: ‏‏(‏اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتى ليقضيها لي، اللهم شفعه في‏)‏‏. وروى [[النسائي]] نحو هذا الدعاء‏.
 
وفي الترمذي و[[ابن ماجه]] عن عثمان بن حنيف‏: أن رجلا ضريرًا أتى النبي {{صل}} فقال‏: ادع الله أن يعافيني فقال‏: ‏(‏إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك‏)‏‏. فقال‏: فادعه‏. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء‏: ‏(‏اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتى هذه لتقضى، اللهم فشفعه في‏)‏ قال الترمذي‏: هذا حديث حسن صحيح‏.
 
ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه‏: أن رجلا أعمى قال‏: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لي عن بصرى‏. قال‏: ‏(‏فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين ثم قل‏: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصرى، اللهم فشفعه في‏)‏ قال‏: فرجع وقد كشف الله عن بصره‏.
 
وقال الإمام أحمد في مسنده‏: حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال‏: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرًا أتى النبي {{صل}} فقال‏: يا نبي الله، ادع الله أن يعافيني، فقال‏: ‏(‏إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك‏)‏ قال‏: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ، وأن يصلى ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء‏: ‏(‏اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى، اللهم فشفعني فيه وشفعه في‏)‏‏. قال‏: ففعل الرجل فبرأ‏.
 
فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء‏.
 
فمن الناس من يقول‏: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقًا حيا وميتا‏. وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه، ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله، أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضى حوائجهم، ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم، ولا إلى أن يطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه، ويظنون أن الله تعالى يقضى حاجة هذا الذي توسل به بزعمهم ولم يدع له الرسول، كما يقضى حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول {{صل}}؛ إذ كلاهما متوسل به عندهم، ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي {{صل}} فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم‏. وقول هؤلاء باطل شرعًا وقدرًا، فلا هم موافقون لشرع الله، ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله‏.
 
ومن الناس من يقولون‏: هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها، والفرق ثابت شرعًا وقدرًا بين من دعا له النبي {{صل}} وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر‏.
 
وهذا الأعمى شفع له النبي {{صل}}، فلهذا قال في دعائه‏: ‏(‏اللهم فشفعه في‏)‏‏. فعلم أنه شفيع فيه، ولفظه‏: ‏(‏إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك‏)‏، فقال‏: ادع لي؛ فهو طلب من النبي {{صل}} أن يدعو له، فأمره النبي {{صل}} أن يصلى، ويدعو هو أيضا لنفسه ويقول في دعائه‏: ‏(‏اللهم فشفعه في‏)‏، فدل ذلك على أن معنى قوله‏: ‏(‏أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد‏)‏ أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر‏: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا‏.
 
فالحديثان معناهما واحد، فهو {{صل}} علم رجلا أن يتوسل به في حياته، كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه‏.
 
فلو كان التوسل به حيًا وميتًا سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول، كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله‏.
 
وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع، وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه‏.
 
ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًا هو الطلب لدعائه وشفاعته وهو من جنس مسألته أن يدعو لهم، وهذا مشروع، فما زال المسلمون يسألون رسول الله {{صل}} في حياته أن يدعو لهم‏.
 
وأما بعد موته، فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء، لا عند قبره ولا عند غير قبره، كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين، يسأل أحدهم الميت حاجته، أو يقسم على الله به ونحو ذلك، وإن كان قد روى في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين، بل طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن، حتى قال رسول الله {{صل}} لعمر لما استأذنه في العمرة‏: ‏(‏لا تنسنا يا أخي من دعائك‏)‏ إن صح الحديث وحتى أمر النبي {{صل}} أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر للطالب، وإن كان الطالب أفضل من أويس بكثير‏.
 
وقد قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح‏: ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول‏: ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة‏)‏ مع أن طلبه من أمته الدعاء ليس هو طلب حاجة من المخلوق، بل هو تعليم لأمته ما ينتفعون به في دينهم، وبسبب ذلك التعليم والعمل بما علمهم يعظم الله أجره‏.
 
فإنا إذا صلينا عليه مرة صلى الله علينا عشرًا، وإذا سألنا الله له الوسيلة، حلت علينا شفاعته يوم القيامة، وكل ثواب يحصل لنا على أعمالنا فله مثل أجرنا من غير أن ينقص من أجرنا شيء، فإنه {{صل}} قال‏: ‏(‏من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا‏)‏ وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، وكل خير تعمله أمته له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء‏.
 
ولهذا لم يكن الصحابة والسلف يهدون إليه ثواب أعمالهم ولا يحجون عنه ولا يتصدقون ولا يقرؤون القرآن ويهدون له؛ لأن كل ما يعمله المسلمون من صلاة وصيام وحج وصدقة وقراءة له {{صل}} مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء؛ بخلاف الوالدين، فليس كل ما عمله المسلم من الخير يكون لوالديه مثل أجره، ولهذا يهدى الثواب لوالديه وغيرهما‏.
 
ومعلوم أن الرسول {{صل}} مطيع لربه عز وجل في قوله تعالى‏: ‏{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}‏‏ [‏الشرح‏: 7، 8‏]‏‏. فهو {{صل}} لا يرغب إلى غير الله، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏: ‏(‏يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون‏)‏‏.
 
فهؤلاء من أمته وقد مدحهم بأنهم لا يسترقون، والاسترقاء‏: أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية من نوع الدعاء، وكان {{صل}} يرقى نفسه وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه، ورواية من روى في هذا‏: ‏(‏لا يُرقون‏)‏ ضعيفة غلط؛ فهذا مما يبين حقيقة أمره لأمته بالدعاء أنه ليس من باب سؤال المخلوق للمخلوق الذي غيره أفضل منه، فإن من لا يسأل الناس بل لا يسأل إلا الله أفضل ممن يسأل الناس، ومحمد {{صل}} سيد ولد آدم‏.
 
ودعاء الغائب للغائب، أعظم إجابة من دعاء الحاضر؛ لأنه أكمل إخلاصًا وأبعد عن الشرك، فكيف يشبه دعاء من يدعو لغيره بلا سؤال منه، إلى دعاء من يدعو الله بسؤاله وهو حاضر ‏؟‏ وفي الحديث‏: ‏(‏أعظم إجابة دعاء غائب لغائب‏)‏، وفي [[صحيح مسلم]] عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به‏: آمين ولك بمثله‏)‏‏.
 
وذلك أن المخلوق يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فلهذا كان طلب الدعاء جائزًا، كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه والأفعال التي يقدر عليها‏. فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه، لا يطلب ذلك لا من الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقال لغير الله‏: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا، ونحو ذلك؛ ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن النبي {{صل}} منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق‏: قوموا بنا نستغث برسول الله {{صل}} من هذا المنافق، فجاؤوا إليه فقال‏: ‏(‏إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله‏)‏ وهذا في الاستعانة مثل ذلك‏.
 
فأما ما يقدر عليه البشر، فليس من هذا الباب، وقد قال سبحانه‏: ‏{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}‏‏ [‏الأنفال‏: 9‏]‏، وفي دعاء موسى عليه السلام ‏: ‏(‏اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وإليك المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏ وقال أبو يزيد البسطامى‏: ‏استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق‏.
 
 
====كلام السلف على قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه====
وقال أبو عبد الله القرشي‏: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏‏ [‏الإسراء‏: 56، 57‏]‏‏.
 
قال طائفة من السلف‏: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال الله تعالى‏: هؤلاء الذين تدعونهم هم عبدي كما أنتم عبدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابى كما تخافون عذابى، ويتقربون إليَّ كما تتقربون إلىَّ، فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء، مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون، ومع هذا فليس لنا أن نطلب ذلك منهم‏.
 
وكذلك الأنبياء والصالحون، وإن كانوا أحياء في قبورهم‏. وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله تعالى، بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون بعد الموت هو بالأمر الكوني فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل، وبعد الموت انقطع التكليف عنهم‏.
 
وقال تعالى‏: ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏‏ [‏آل عمران‏: ‏79، 80‏]‏‏.
 
فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، وقال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏‏ [‏سبأ‏: 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏‏ [‏البقرة‏: 255‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}‏‏ [‏يونس‏: 3‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}‏‏ [‏السجدة‏: 4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏‏ [‏يونس‏: 18‏]‏، وقال تعالى عن صاحب يس‏: ‏{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شيئا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}‏‏ [‏يس‏: 22 25‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏‏ [‏سبأ‏: 23‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}‏‏ [‏طه‏: 109‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}‏‏ [‏الأنبياء‏: 28‏]‏‏.
 
 
====الشفاعة نوعان====
فالشفاعة نوعان‏:
 
أحدهما‏: الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون، ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة، وضلالهم؛ وهى شرك‏.
 
والثاني‏: أن يشفع الشفيع بإذن الله، وهذه أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين؛ ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتى ويسجد‏. قال‏: ‏(‏فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال‏: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع‏)‏ فإذا أذن له في الشفاعة شفع {{صل}} لمن أراد الله أن يشفع فيه‏.
 
قال أهل هذا القول‏: ولا يلزم من جواز التوسل والاستشفاع به بمعنى أن يكون هو داعيًا للمتوسل به أن يشرع ذلك في مغيبه، وبعد موته؛ مع أنه هو لم يدع للمتوسل به، بل المتوسل به أقسم به أو سأل بذاته، مع كون الصحابة فرقوا بين الأمرين؛ وذلك لأنه في حياته يدعو هو لمن توسل به، ودعاؤه لمن دعا له وشفاعته له أفضل دعاء مخلوق لمخلوق، فكيف يقاس هذا بمن لم يدع له الرسول، ولم يشفع له ‏؟‏ ومن سوى بين من دعا له الرسول، وبين من لم يدع له الرسول، وجعل هذا التوسل كهذا التوسل، فهو من أضل الناس‏.
 
وأيضا، فإنه ليس في طلب الدعاء منه ودعائه هو والتوسل بدعائه ضرر، بل هو خير بلا شر، وليس في ذلك محذور ولا مفسدة، فإن أحدًا من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره، فإنه ينهى من يعبده ويشرك به ولو كان شركًا أصغر، كما نهى النبي {{صل}} من سجد له عن السجود له، وكما قال‏: ‏(‏لا تقولوا‏: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا‏: ما شاء الله ثم شاء محمد‏)‏ وأمثال ذلك‏.
 
وأما بعد موته، فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح، والعزير وغيرهما عند قبورهم؛ ولهذا قال النبي {{صل}}‏: ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا‏: عبد الله ورسوله‏)‏ أخرجاه في الصحيحين، وقال‏: ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد‏)‏، وقال‏: ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏، يحذر ما فعلوا‏.
 
 
وبالجملة، فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما‏: ألا نعبد إلا الله‏. والثاني‏: ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة‏.
 
وهذان الأصلان هما تحقيق ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)‏ كما قال تعالى‏: ‏{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}‏‏ [‏الملك‏: 2‏]‏‏.
 
قال الفُضَيْل بن عياض‏: أخلصه وأصوبه‏. قالوا‏: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه ‏؟‏ قال‏: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا‏. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة‏. وذلك تحقيق قوله تعالى‏: ‏{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}‏‏ [‏الكهف‏: 110‏]‏‏.
 
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول في دعائه‏: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وقال تعالى‏: ‏{أّمً لّهٍمً شٍرّكّاءٍ شّرّعٍوا لّهٍم مٌَنّ بدٌَينٌ مّا لّمً يّأًذّنً بٌهٌ بلَّه}‏‏ [‏الشورى‏: 21‏]‏‏.
 
وفي الصحيحين عن عائشة، عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏)‏، وفي لفظ في الصحيح‏: ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏، وفي الصحيح وغيره أيضا يقول الله تعالى‏: ‏(‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا منه برىء وهو كله للذى أشرك‏)‏‏.
 
ولهذا قال الفقهاء‏: العبادات مبناها على التوقيف كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبَّل الحجر الأسود وقال‏: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله {{صل}} يقبلك ما قبلتك‏. والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته، وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته‏. فقال تعالى‏: ‏{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}‏‏ [‏آل عمران‏: 31‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}‏‏ [‏النور‏: 54‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}‏‏ [‏النساء‏: 13‏]‏، وأمثال ذلك في القرآن كثير‏.
 
ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة ودل علىه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه، ولا يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لم يعلم، فإن الله تعالى قد حرَّمَ ذلك كله‏.
 
وقد جاء في الأحاديث النبوية ذكر ما سأل الله تعالى به، كقوله {{صل}}‏: ‏(‏اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حى، يا قيوم‏)‏ رواه [[أبو داود]] وغيره، وفي لفظ‏: ‏(‏اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد‏)‏ رواه أبو داود و[[النسائي]] و[[ابن ماجه]]‏.
 
 
 
====اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى====
وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بالأنبياء أو بأحد من الشيوخ، أو بالملوك لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه، إما نهى تحريم، وإما نهى تنزيه‏. فإن للعلماء في ذلك قولين‏. والصحيح أنه نهى تحريم‏. ففي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت‏)‏، وفي [[الترمذي]] عنه {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏، ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين‏: إنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلا في نبينا {{صل}}، فإن عن أحمد روايتين في أنه تنعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه كابن عقيل الخلاف في سائر الأنبياء وهذا ضعيف‏.
 
وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح‏.
 
وكذلك الاستعاذة بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف كأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي {{صل}}‏: ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات‏)‏، قالوا‏: فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق‏.
 
وفي الصحيح عنه {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا‏)‏، فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى‏: ‏{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}‏‏ [‏الجن‏: 6‏]‏‏.
 
ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره، التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك؛ خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ما كان من الرقى المشروعة، فإنه جائز‏. فإذًا لا يجوز أن يقسم لا قسمًا مطلقًا، ولا قسمًا على غيره إلا بالله عز وجل، ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل‏.
 
والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسمًا عليه، وإما أن يكون طالبًا بذلك السبب، كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين‏.
 
فإن كان إقسامًا على الله بغيره فهذا لا يجوز‏.
 
وإن كان سؤالا بسبب يقتضي المطلوب كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعة لله ورسوله، مثل السؤال بالإيمان بالرسول ومحبته، وموالاته ونحو ذلك فهذا جائز‏.
 
وإن كان سؤالا بمجرد ذات الأنبياء والصالحين فهذا غير مشروع، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء وقالوا‏: إنه لا يجوز، ورخص فيه بعضهم، والأول أرجح كما تقدم، وهو سؤال بسبب لا يقتضي حصول المطلوب، بخلاف من كان طالبًا بالسبب المقتضى لحصول المطلوب، كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين، وبالأعمال الصالحة، فهذا جائز؛ لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة، كما قال تعالى‏: ‏‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏‏ [‏المائدة‏: ‏35‏]‏ والوسيلة هى الأعمال الصالحة، وقال تعالى‏: ‏{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}‏‏ [‏الإسراء‏: 57‏]‏‏.
 
وأما إذا لم نتوسل إليه سبحانه بدعائهم ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم، لم يكن نفس ذواتهم سببًا يقتضي إجابة دعائنا، فكنا متوسلين بغير وسيلة، ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي {{صل}} نقلا صحيحًا، ولا مشهورًا عن السلف‏.
 
وقد نقل في ‏‏منسك المروذى‏]‏ عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي {{صل}}، وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به، وأكثر العلماء على النهي في الأمرين، ولا ريب أن لهم عند الله الجاه العظيم كما قال تعالى في حق موسى وعيسى، عليهما السلام، وقد تقدم ذكر ذلك لكن ما لهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم؛ فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل‏. وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأى شيء يتوسل ‏؟‏
 
والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه‏: اشفع لنا عنده، وهذا جائز‏. وإما أن يقسم عليه، كما يقول‏: بحياة ولدك فلان، وبتربة أبيك فلان، وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك، والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق‏.
 
وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب، كما قال الله تعالى‏: ‏{وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}‏‏ [‏النساء‏: 1‏]‏، وسيأتى بيان ذلك‏.
 
وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز، ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلا، وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم في الشفاعة فجائز، والأعمى كان قد طلب من النبي {{صل}} أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله‏: ‏(‏أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة‏)‏ أي بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث‏: ‏(‏اللهم فشفعه في‏)‏‏. فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، وقد قال تعالى‏: ‏‏{وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}‏‏ .
 
فعلى قراءة الجمهور بالنصب‏: إنما يسألون بالله وحده، لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله‏.
 
وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف‏: هو قولهم‏: أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال‏: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلا على جوازه، فمعنى قوله‏: أسألك بالرحم، ليس إقسامًا بالرحم والقسم هنا لا يسوغ لكن بسبب الرحم، أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقًا، كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبي {{صل}} وشفاعته‏.
 
ومن هذا الباب‏: ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ أن ابن أخيه عبد الله ابن جعفر كان إذا سأل بحق جعفر أعطاه، وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علىٍّ‏.
 
ومن هذا الباب‏: الحديث الذي رواه [[ابن ماجه]] عن أبي سعيد عن النبي {{صل}} في دعاء الخارج إلى الصلاة‏: ‏(‏اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رِياءً ولا سُمْعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏، وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف، فإن كان من كلام النبي {{صل}} فهو من هذا الباب لوجهين ‏:
 
أحدهما‏: لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أوجبه الله تعالى، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا‏. ومنه قوله تعالى‏: ‏{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}‏‏ [‏الأنعام‏: ‏54‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏‏{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ [‏الروم‏: ‏47‏]‏، وقوله تعالى‏: ‏{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله}‏‏ [‏التوبة‏: 111‏]‏‏.
 
وفي الصحيح في حديث معاذ‏: ‏(‏حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم‏)‏‏.
 
وفي الصحيح عن أبي ذر عن النبي {{صل}} فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال‏: ‏(‏يا عبدي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏)‏‏.
 
وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله؛ كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله {{صل}}‏: ‏(‏أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏، فالاستعاذة بمعافاته التي هى فعله، كالسؤال بإثابته التي هى فعله‏.
 
وروى الطبراني في ‏‏كتاب الدعاء‏]‏ عن النبي {{صل}} أن الله يقول‏: ‏(‏يا عبدي إنما هى أربع‏: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي؛ فالتي لي أن تعبدني لا تشرك بي شيئا، والتي هى لك أجزيك بها أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك منك الدعاء ومني الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك‏)‏‏.
 
وتقسيمه في الحديث إلى قوله‏: واحدة لي، وواحدة لك، هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة، حيث يقول الله تعالى‏: ‏(‏قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل‏)‏، والعبد يعود عليه نفع النصفين، والله تعالى يحب النصفين؛ لكن هو سبحانه يحب أن يعبد، وما يعطيه العبد من الإعانة، والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقًا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة، والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة، إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه، وإن كنا خرجنا عن المراد‏.
 
الوجه الثاني‏: أن الدعاء له سبحانه وتعالى، والعمل له سبب لحصول مقصود العبد، فهو كالتوسل بدعاء النبي {{صل}} والصالحين من أمته، وقد تقدم أن الدعاء بالنبي {{صل}} والصالح إما أن يكون إقسامًا به، أو سببًا به، فإن كان قوله‏: ‏(‏بحق السائلين عليك‏)‏ إقسامًا فلا يقسم على الله إلا به، وإن كان سببًا فهو سبب بما جعله هو سبحانه سببًا، وهو دعاؤه وعبادته‏. فهذا كله يشبه بعضه بعضًا، وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه، ولا عمل صالح منا‏.
 
وإذا قال السائل‏: أسألك بحق الملائكة، أو بحق الأنبياء، وحق الصالحين، ولا يقول لغيره‏: أقسمت عليك بحق هؤلاء‏. فإذا لم يجز له أن يحلف به، ولا يقسم على مخلوق به، فكيف يقسم على الخالق به ‏؟‏ وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به، فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، ولكن لا بد من سبب منه، كالإيمان بالملائكة والأنبياء، أو منهم كدعائهم‏. ولكن كثيرًا من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقول أحدهم‏: وحقك على الله، وحق هذه الشيبة على الله‏.
 
وإذا قال القائل‏: أسألك بحق فلان، أو بجاهه، أي أسألك بإيماني به، ومحبتى له، وهذا من أعظم الوسائل‏. قيل‏: من قصد هذا المعنى، فهو معنى صحيح لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء، فمن قال‏: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك، أو بإيماني برسولك، ومحبتى له ونحو ذلك، فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين‏: ‏{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}‏‏ [‏آل عمران‏: 193‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}‏‏ [‏آل عمران‏: 16‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}‏‏ [‏المؤمنون‏: 109‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}‏‏ [‏آل عمران‏: 53‏]‏‏.
 
وكان ابن مسعود يقول‏: اللهم أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي‏. ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر، فآووا إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة، ففرج عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين‏.
 
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏: حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم، قالا‏: حدثنا صالح المرى عن ثابت عن أنس قال‏: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل، فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال‏: يا هذه احتسبى مصيبتك عند الله‏. قالت‏: وما ذاك، مات ابني ‏؟‏ قلنا‏: نعم‏. قالت‏: أحق ما تقولون ‏؟‏ قلنا‏: نعم‏. فمدت يديها إلى الله فقالت‏: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجا، فلا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم‏. قال‏: فكشفت الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى طعمنا معه ‏!‏
 
وروى في كتاب الحلية لأبي نعيم أن داود قال‏: بحق آبائى عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله تعالى إليه‏: يا داود، وأى حق لآبائك على ‏؟‏ وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات بعتضد بها، ولا يعتمد عليها‏.
 
وقد مضت السنة أن الحى يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه‏.
 
وأما المخلوق الغائب والميت، فلا يطلب منه شيء‏. يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته؛ ودعاؤه وشفاعته {{صل}} من أعظم الوسائل عند الله عز وجل‏.
 
وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته، والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، فلا يقال‏: أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ولا بكعبتك، ولا بعبادك الصالحين، كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء، بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته، ولهذا كانت السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته فيقول‏: ‏(‏أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك‏)‏، الحديث كما جاءت به السنة‏.
 
وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام، وكذلك قوله‏: ‏(‏اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وبكلماتك التامات‏)‏‏.
 
مع أن هذا الدعاء الثالث في جواز الدعاء به قولان للعلماء، قال الشيخ أبو الحسن القدورى في كتابه المسمى بشرح الكرخى‏: قال بشر بن الوليد‏: سمعت أبا يوسف قال‏: قال [[أبو حنيفة]]‏: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول‏: ‏(‏بمعاقد العز من عرشك‏)‏ أو ‏(‏بحق خلقك‏)‏‏. وهو قول أبي يوسف‏. قال أبو يوسف‏: ‏‏معقد العز من عرشه‏]‏ هو الله فلا أكره هذا وأكره أن يقول‏: ‏(‏بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام‏)‏، قال القدورى‏: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز يعني وفاقًا وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره‏.
 
فإن قيل‏: الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا أن نقسم عليه إلا به‏. فهلا قيل‏: يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته، وألا يقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى ‏؟‏ قيل‏: لا؛ لأن إقسامه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته، وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه‏.
 
ومن قال لغيره‏: أسألك بكذا‏. فإما أن يكون مقسمًا فهذا لا يجوز بغير الله تعالى‏: والكفارة في هذا على المقسم لا على المقسم عليه، كما صرح بذلك أئمة الفقهاء‏. وإن لم يكن مقسمًا فهو من باب السؤال، فهذا لا كفارة فيه على واحد منهما‏.
 
فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفًا بمخلوق، وذلك لا يجوز‏. وإما أن يكون سائلا به، وقد تقدم تفصيل ذلك‏. وإذا قال‏: ‏(‏بالله افعل كذا‏)‏ فلا كفارة فيه على واحد منهما، وإذا قال‏: ‏(‏أقسمت عليك بالله لتفعلن‏)‏ أو ‏(‏والله لتفعلن‏)‏ فلم يبر قسمه لزمت الكفارة الحالف‏.
 
والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به، وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول‏: أقسمت عليك يارب لتفعلن كذا، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف، فقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏رب أشعث أغبر ذى طِمريْن ‏<ref> [‏الطِّمْر‏: الثواب البالى‏. انظر‏: النهاية في غريب الحديث 3138‏]‏‏</ref>‏، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره‏)‏‏. وفي الصحيح أنه قال لما قال أنس بن النضر‏: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏يا أنس، كتاب الله القصاص‏)‏ فعفا القوم، فقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏، وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر، فهو إقسام عليه تعالى به وليس إقسامًا عليه بمخلوق‏.
 
وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا‏.
 
وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله {{صل}}‏: ‏(‏إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهى‏)‏ حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء‏.
 
ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه، لم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعا غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق؛ فإن دعاء غير الله كفر؛ ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين لا الأنبياء ولا غيرهم عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين، بخلاف قولهم‏: أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهورًا بينهم، ولا فيه سنة عن النبي {{صل}}، بل السنة تدل على النهي كما نقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما‏.
 
ورأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام قال‏: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله {{صل}} إن صح حديث الأعمى فلم يعرف صحته، ثم رأيت عن أبي حنيفة، وأبي يوسف وغيرهما من العلماء، أنهم قالوا‏: لا يجوز الإقسام على الله بأحد الأنبياء، ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي {{صل}}، لكن قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به‏. وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه، ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى، ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم‏. والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم وهو من أنفع الأمور لهم إلى ما ليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء وقد أمر الله بها‏.
 
والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى‏: ‏{إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}‏‏ [‏الأحزاب‏: 56‏]‏‏.
 
وفي الصحيح عنه أنه قال‏: ‏(‏من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرًا‏)‏، وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله {{صل}} قال‏: سمع رسول الله {{صل}} رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله، ولم يصلى على النبي {{صل}}، فقال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏عجل هذا ‏!‏‏"‏ ثم دعاه فقال له أو لغيره‏: ‏(‏إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه، ثم يصلى على النبي، ثم يدعو بعده بما شاء‏)‏ رواه أحمد و[[أبو داود]] وهذا لفظه و[[الترمذي]] و[[النسائي]]‏. وقال الترمذي‏: حديث صحيح‏.
 
وفي [[صحيح مسلم]] عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي {{صل}} يقول‏: ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىَّ؛ فإنه من صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة‏)‏‏.
 
وفي [[سنن أبي داود]] والنسائي عنه أن رجلا قال‏: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏قل كما يقولون، فإذا انتهيت سل تعطه‏)‏‏. وفي المسند عن جابر بن عبد الله قال‏: ‏(‏من قال حين ينادى المنادى‏: اللهم رب هذه الدعوة القائمة، والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه، رضاء لا سخط بعده، استجاب الله له دعوته‏)‏‏.
 
وعن أنس بن مالك قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة رواه أحمد و[[أبو داود]] والترمذي والنسائي وقال [[الترمذي]]‏: حديث حسن‏.
 
وعن سهل بن سعد قال‏: قال رسول الله {{صل}}‏: ‏(‏ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته‏: عند حصول النداء، والصف في سبيل الله‏)‏ رواه أبو داود‏.
 
وفي المسند والترمذي وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال‏: كان رسول الله {{صل}} إذا ذهب ربع الليل قام فقال‏: ‏(‏يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه‏)‏‏.
 
قال أبي‏: قلت‏: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتى ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت‏)‏ قلت‏: الربع ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قلت‏: النصف ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قلت‏: الثلثين ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت، وإن زدت فهو خير لك‏)‏ قلت‏: أجعل لك صلاتى كلها ‏؟‏ قال‏: ‏(‏إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك‏)‏ وفي لفظ‏: ‏(‏إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك‏)‏‏.
 
وقول السائل‏: أجعل لك من صلاتى ‏؟‏ يعني من دعائى؛ فإن الصلاة في اللغة هى الدعاء، قال تعالى‏: ‏{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}‏‏ [‏التوبة‏: 103‏]‏‏.
 
وقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏)‏، وقالت امرأة‏: صل عليّ يا رسول الله وعلى زوجى، فقال‏: ‏(‏صلى الله عليك وعلى زوجك‏)‏‏.
 
فيكون مقصود السائل‏: أي يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به أستجلب به الخير وأستدفع به الشر، فكم أجعل لك من الدعاء ‏؟‏ قال‏: ‏(‏ما شئت‏)‏ فلما انتهى إلى قوله‏: أجعل لك صلاتى كلها ‏؟‏ قال‏: ‏(‏إذًا تكفى همك ويغفر ذنبك‏)‏‏. وفي الرواية الأخرى‏: ‏(‏إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك‏)‏، وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات؛ فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب، واندفاع المرهوب، كما بسط ذلك في مواضعه‏.
 
وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية، وأعرضوا عن الأدعية البدعية، فينبغي اتباع ذلك‏. والمراتب في هذا الباب ثلاث ‏:
 
إحداها‏: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول‏: يا سيدي فلان، أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوى، ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله‏. والمستغيث بالمخلوقات قد يقضى الشيطان حاجته أو بعضها، وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله، كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك، ومثل هذا واقع كثيرًا في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيرى، وذكروا أنه أتى شخص على صورتى أو صورة غيرى وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة بي أو بغيرى ‏!‏ وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك، فهذا أشرك بالله نعوذ بالله من ذلك‏.
 
وأعظم من ذلك يقول‏: اغفر لي وتب عليّ، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين‏.
 
وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم‏: هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام‏.
 
وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول‏: إن السفر إليه مرات يعدل حجة، وغلاتهم يقولون‏: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة‏. ونحو ذلك، فهذا شرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه‏.
 
الثانية‏: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين‏: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها فهذا أيضا لايستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة؛ وإن كان السلام على أهل القبور جائز ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي {{صل}} يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم‏: ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يغفر الله لنا ولكم، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم‏)‏‏.
 
وروى [[أبو عمر بن عبد البر]] عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام‏.
 
وفي [[سنن أبي داود]] عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله على روحى حتى أرد علىه السلام‏)‏، لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره‏. وفي موطأ مالك أن ابن عمر كان يقول‏: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف‏.
 
وعن عبد الله بن دينار قال‏: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي {{صل}}، فيصلى على النبي {{صل}}، ويدعو لأبي بكر وعمر‏. وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي {{صل}}، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى، لا يدعون مستقبلى الحجرة، وإن كان قد وقع في بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة من لا اعتبار بهم، فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله، ولا من له في الأمة لسان صدق عام‏.
 
ومذهب الأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي {{صل}} وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة‏. واختلفوا في وقت السلام عليه، فقال الثلاثة مالك والشافعي وأحمد‏: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبوحنيفة‏: لا يستقبل الحجرة وقت السلام، كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم‏.
 
ثم في مذهبه قولان ‏:
 
قيل‏: يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره‏. فهذا نزاعهم في وقت السلام، وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة‏.
 
والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال‏: ‏(‏هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم‏)‏ كذب على مالك ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه‏. كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره، مثل ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلى الحجرة يدعون لأنفسهم، فأنكر مالك ذلك، وذكر أنه من البدع، التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال‏: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏.
 
ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك، فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعًا لكانوا هم أعلم بذلك، وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعي يدعو الله وحده‏. وقد نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، كما نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت في [[صحيح مسلم]] وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي {{صل}} قال‏: ‏(‏لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏‏. فلا يجوز أن يصلى إلى شيء من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لهذا الحديث الصحيح‏. ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى، فدعاء الميت نفسه أولى ألا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلى مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى‏.
 
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا‏: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين، ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته، فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك وهذا يفضي إلى الشرك؛ لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفا، بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء، ونحو ذلك كما أن موسى يصلى في قبره، وكما صلى الأنبياء خلف النبي {{صل}} ليلة المعراج ببيت المقدس، وتسبيح أهل الجنة والملائكة فهم يمتعون بذلك، وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسّره الله لهم ويقدره لهم، ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد‏.
 
وحينئذ، فسؤال السائل للميت لا يؤثر في ذلك شيئا، بل ماجعله الله فاعلا له هو يفعله وإن لم يسأله العبد؛ كما يفعل الملائكة ما يؤمرون به، وهم إنما يطيعون أمر ربهم لا يطيعون أمر مخلوق؛ كما قال سبحانه وتعالى‏: ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}‏‏ [‏الأنبياء‏: ‏26، 27‏]‏، فهم لا يعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى‏. ولا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته، فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة‏. وكان يجوز أن يجعل مسجدًا‏. ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجدًا، كما في الصحيحين عنه {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏. يحذر ما فعلوا‏. ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.
 
وفي [[صحيح مسلم]] وغيره عنه {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏. وقد كان {{صل}} في حياته يصلى خلفه، وذلك من أفضل الأعمال، ولا يجوز بعد موته أن يصلى الرجل خلف قبره، وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر، وأن يفتى وأن يقضى، ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته‏. وأمثال ذلك كثير‏.
 
وقد كره مالك وغيره أن يقول الرجل‏: زرت قبر رسول الله {{صل}}؛ لأن هذا اللفظ لم يرد‏. والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة بل كذب‏. وهذا اللفظ صار مشتركًا في عرف المتأخرين يراد به ‏‏الزيارة البدعية‏: التي في معنى الشرك؛ كالذي يزور القبر ليسأله أو يسأل الله به، أو يسأل الله عنده‏.
 
والزيارة الشرعية‏: هى أن يزوره لله تعالى‏: للدعاء له، والسلام عليه كما يصلى على جنازته‏. فهذا الثاني هو المشروع، ولكن كثيرًا من الناس لا يقصد بالزيارة إلا المعنى الأول، فكره مالك أن يقول‏: زرت قبره، لما فيه من إيهام المعنى الفاسد الذي يقصده أهل البدع والشرك‏.
 
الثالثة‏: أن يقال‏: أسألك بفلان، أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك، الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهى عنه‏.
 
وتقدم أيضا أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره
 
وقد تبين ما في لفظ ‏‏التوسل‏]‏ من الاشتراك بين ما كانت الصحابة تفعله وبين ما لم يكونوا يفعلونه، فإن لفظ التوسل والتوجه في عرف الصحابة ولغتهم هو التوسل والتوجه بدعائه وشفاعته‏.
 
ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن، وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج فيما يرويه عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور‏)‏ ‏(‏أو فاستعينوا بأهل القبور‏)‏‏. فهذا الحديث كذب مفترى على النبي {{صل}} بإجماع العارفين بحديثه، ولم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة‏.
 
وقد قال تعالى‏: ‏‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}‏‏ [‏الفرقان‏: 58‏]‏، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبي {{صل}} عما هو أقرب من ذلك عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك ولعن أهله تحذيرًا من التشبه بهم، فإن ذلك أصل عبادة الأوثان، كما قال تعالى‏: ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}‏‏ [‏نوح‏: 23‏]‏‏.
 
فإن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروهم، ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف‏. فمن فهم معنى قوله‏: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏‏ [‏الفاتحة‏: 5‏]‏ عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله، والتوكل لا يكون إلا عليه ‏{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ الله}‏‏ [‏آل عمران‏: 126، الأنفال‏: ‏10‏]‏، فالنصر المطلق وهو خلق ما يغلب به العدو لا يقدر عليه إلا الله، وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله، والله أعلم‏.
 
وهذا الذي نهى عنه النبي {{صل}} من هذا الشرك هو كذلك في شرائع غيره من الأنبياء‏: ففي التوراة أن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله؛ وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال‏: ‏(‏إنا معشر الأنبياء ديننا واحد‏)‏‏.
 
وقد قال تعالى‏: ‏{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}‏‏ [‏الشورى‏: 13‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}‏‏ [‏المؤمنون‏: ‏51‏: 53‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}‏‏ [‏الروم‏: ‏30‏: 32‏]‏ وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره من الأولين والآخرين، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع‏.
 
 
 
====فصل: لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين====
وإذا تبين ما أمر الله به ورسوله، وما نهى الله عنه ورسوله في حق أشرف الخلق وأكرمهم على الله عز وجل، وسيد ولد آدم وخاتم الرسل والنبيين، وأفضل الأولين والآخرين، وأرفع الشفعاء منزلة وأعظمهم جاها عند الله تبارك وتعالى تبين أن من دونه من الأنبياء والصالحين أولى بألا يشرك به، ولا يتخذ قبره وثنًا يعبد، ولا يدعى من دون الله لا في حياته ولا في مماته‏.
 
ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين، ولا الميتين، مثل أن يقول‏: يا سيدي فلانا أغثني، وانصرني، وادفع عني، أو أنا في حسبك، ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم لما كانوا من جنس عباد الأوثان صار الشيطان يضلهم ويغويهم، كما يضل عباد الأوثان ويغويهم، فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لا بد أن يكون في ذلك ما هو كذب بل الكذب أغلب عليه من الصدق‏.
 
وقد تقضى الشياطين بعض حاجاتهم، وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكًا على صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم‏: هذا سر الشيخ وحاله ‏!‏ وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به، كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضى بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام مشركى العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم، وأعرف من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي، وبغيرى في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ودفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتى وصورة غيرى من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ، فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين، وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان‏.
 
وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم ‏‏العلامس‏]‏، يرون أيضا من يأتى على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به فيقضى بعض حوائجهم‏.
 
وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء، والصالحين، والشيوخ، وأهل بيت النبي {{صل}}، غاية أحدهم أن يجرى له بعض هذه الأمور، أو يحكى لهم بعض هذه الأمور، فيظن أن ذلك كرامة، وخرق عادة بسبب هذا العمل‏. ومن هؤلاء من يأتى إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به فينزل عليه من الهواء طعام، أو نفقة أو سلاح، أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة لشيخه، وإنما ذلك كله من الشياطين‏. وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان‏.
 
وقد قال الخليل عليه السلام‏: ‏{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}‏‏ [‏إبراهيم‏: 35، 36‏]‏ كما قال نوح عليه السلام‏. ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيرًا من الناس إلا بسبب اقتضى ضلالهم، ولم يكن أحد من عُبَّاد الأصنام يعتقد أنها خلقت السموات والأرض، بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب ‏:
 
منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين‏.
 
ومنهم من جعلهم تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر‏.
 
ومنهم من جعلها لأجل الجن‏.
 
ومنهم من جعلها لأجل الملائكة‏. فالمعبود لهم في قصدهم‏: إنما هو الملائكة والأنبياء والصالحون أو الشمس، أو القمر‏. وهم في نفس الأمر يعبدون الشياطين‏: فهى التي تقصد من الإنس أن يعبدوها وتظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك، كما قال تعالى‏: ‏{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}‏‏ [‏سبأ‏: 40، 41‏]‏‏.
 
وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعوالأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به، وأما إن كان ممن لا يحرم عبادة الجن عرفوه أنهم الجن‏.
 
وقد يطلب الشيطان المتمثل له في صورة الإنسان أن يسجد له، أو أن يفعل به الفاحشة، أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر أو أن يقرب لهم الميتة، وأكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب، ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس، وأولئك جن تمثلت بصور الإنس، أو رؤيت في غير صور الإنس، وقال تعالى‏: ‏{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}‏‏ [‏الجن‏: 6‏]‏‏. كان الإنس إذا أنزل أحدهم بواد يخاف أهله قال‏: أعوذ بعظيم هذا الوادى من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن، فصار ذلك سببًا لطغيان الجن، وقالت‏: الإنس تستعيذ بنا‏!‏
 
وكذلك الرقى، والعزائم الأعجمية، هى تتضمن أسماء رجال من الجن يدعون؛ ويستغاث بهم ويقسم عليهم بمن يعظمونه فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمر‏. وهذا من جنس السحر والشرك قال تعالى‏: ‏{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}‏‏ [‏البقرة‏: 102‏]‏‏.
 
وكثير من هؤلاء يطير في الهواء وتكون الشياطين قد حملته وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زنديقًا، يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله، وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله، فارقته تلك الشياطين، وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات‏. وأنا أعرف من هؤلاء عددا كثيرًا بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم‏.
 
وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوى الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية، وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية، والشخص الواحد الذي يجتمع فيه هذا وهذا، الذي تكون فيه مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال‏.
 
والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل‏: البخشية والطونية والبدى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيخوهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخطا وغيرهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر، ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشى في الهواء، ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم، ولا يرون أحدًا يضرب له، ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم في مكان فمن نزل منهم عنده ضيفه طعامًا يكفيهم، ويأتيهم بألوان مختلفة‏. وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتى به‏. وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركًا أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة‏.
 
وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا التوحيد واتباع الرسول، بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم، فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيهم مما يرضى الشيطان‏. ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل، يحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت ولا يبيت بمزدلفة، ولا يطوف طواف الإفاضة، ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء، ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به‏.
 
فإن مثل هذا الحج ليس مشروعًا ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين، ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل‏.
 
ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء والصحابة يفعل بهم مثل هذا، فإنهم أجل قدرًا من ذلك، وقد جرت هذه القضية لبعض من حمل هو وطائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة، فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج، فقال‏: هل كتبتموني ‏؟‏ قالوا‏: أنت لم تحج كما حج الناس، أنت لم تتعب ولم تحرم ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب الناس عليه ما حصل للحجاج‏. وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء فقال لهم‏: هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله‏.
 
ودين الإسلام مبنى على أصلين‏: على أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء، وعلى أن يعبد بما شرعه على لسان نبيه {{صل}}، وهذان هما حقيقة قولنا‏: ‏(‏أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‏)‏ فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وإجلالا وإكراما، والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يطاع إلا الله‏.
 
والرسول {{صل}} هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله وتحريمه‏. فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والرسول {{صل}} واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه؛ وسائر ما بلغه من كلامه‏.
 
وأما في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية والإغناء، فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم، ويعلم سرهم ونجواهم، وهو سبحانه قادر على إنزال النعم، وإزالة الضر والسقم، من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده، أو يعينه على قضاء حوائجهم‏.
 
والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها‏. فهو مسبب الأسباب وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد‏. ‏‏{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}‏‏ [‏الرحمن‏: 29‏]‏، فأهل السموات يسألونه، وأهل الأرض يسألونه، وهو سبحانه لا يشغله سمع كلام هذا عن سمع كلام هذا، ولا يغلطه اختلاف أصواتهم ولغاتهم، بل يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، ولا يبرمه إلحاح الملحين، بل يحب الإلحاح في الدعاء‏.
 
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سألوا النبي {{صل}} عن الأحكام أمر رسول الله {{صل}} بإجابتهم كما قال تعالى‏: ‏{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}‏‏ [‏البقرة‏: 189‏]‏، ‏{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}‏‏ [‏البقرة 219‏]‏، ‏{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ }‏‏ [‏البقرة‏: 217‏]‏ إلى غير ذلك من مسائلهم‏.
 
فلما سألوه عنه سبحانه وتعالى قال‏: ‏{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}‏‏ [‏البقرة 186‏]‏، فلم يقل سبحانه‏: ‏(‏فقل‏)‏ بل قال ‏تعالى‏: ‏‏{فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}‏‏ . فهو قريب من عباده، كما قال النبي {{صل}} في الحديث لما كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر والدعاء، فقال‏: ‏(‏أيها الناس، ارْبِعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏‏.
 
وقال النبي {{صل}}‏: ‏(‏إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، ولكن عن يساره أو تحت قدمه‏)‏ وهذا الحديث في الصحيح من غير وجه‏.
 
وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات، لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش‏.
 
وقد جعل تعالى العالم طبقات، ولم يجعل أعلاه مفتقرًا إلى أسفله، فالسماء لا تفتقر إلى الهواء، والهواء لا يفتقر إلى الأرض، فالعلي الأعلى رب السموات والأرض وما بينهما الذي وصف نفسه بقوله تعالى‏: ‏{ وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏‏ [‏الزمر‏: 67‏]‏، أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الذي كل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ماسواه‏.
 
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، قد بين فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولا وعملا، فالتوحيد القولي مثل سورة الإخلاص‏: ‏{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}‏‏ [‏الإخلاص‏]‏، والتوحيد العلمي‏: ‏‏{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}‏‏ [‏الكافرون‏]‏، ولهذا كان النبي {{صل}} يقرأ بهاتين السورتين في ركعتى الفجر وركعتى الطواف وغير ذلك‏.
 
وقد كان أيضا يقرأ في ركعتى الفجر وركعتى الطواف‏: ‏{قُولُواْ آمَنَّا بِالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا}‏ الآية ‏[‏البقرة ‏: ‏136‏]‏‏. وفي الركعة الثانية بقوله تعالى‏: ‏{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شيئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}‏‏ [‏آل عمران‏: 64‏]‏‏.
 
فإن هاتين الآيتين فيهما دين الإسلام، وفيهما الإيمان القولي والعملي، فقوله تعالى‏: ‏{آمَنَّا بِالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ}‏ إلى آخرها ‏[‏البقرة‏: 136‏]‏، يتضمن الإيمان القولي والإسلام‏. وقوله ‏: ‏‏{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}‏ الآية إلى أخرها، يتضمن الإسلام والإيمان العملي، فأعظم نعمة أنعمها الله على عباده الإسلام والإيمان، وهما في هاتين الآيتين، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.
 
فهذا آخر السؤال والجواب الذي أحببت إيراده هنا بألفاظه؛ لما اشتمل عليه من المقاصد المهمة، والقواعد النافعة في هذا الباب، مع الاختصار، فإن التوحيد هو سر القرآن، ولب الإيمان وتنويع العبارة بوجوه الدلالات من أهم الأمور وأنفعها للعباد، في مصالح المعاش والمعاد، والله أعلم‏.
 
 
 
====في قول القائل‏ أسألك بحق السائلين عليك وما في معناه====
قال شيخ الإسلام‏:
 
في قول القائل‏: أسألك بحق السائلين عليك وما في معناه‏.
 
الجواب‏:
 
أما قول القائل‏: أسألك بحق السائلين عليك‏: فإنه قد روي في حديث عن النبي {{صل}} رواه [[ابن ماجه]]، لكن لا يقوم بإسناده حجة؛ وإن صح هذا عن النبي {{صل}} كان معناه‏: أن حق السائلين على الله أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو كتب ذلك على نفسه‏. كما قال‏: ‏{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}‏‏ [‏البقرة‏: 186‏]‏‏. فهذا سؤال الله بما أوجبه على نفسه كقول القائلين‏: ‏{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَاعَلَى رُسُلِكَ}‏‏ [‏آل عمران‏: 194‏]‏‏. وكدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار لما سألوه بأعمالهم الصالحة، التي وعدهم أن يثيبهم عليها‏. اه‏.
 
ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم‏:
 
دخل إلى عنده ثلاثة رهبان من الصعيد فناظرهم، وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار، وما هم على الذي كان عليه إبراهيم والمسيح‏.
 
فقالوا له‏: نحن نعمل مثل ما تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة، ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك، فقال لهم‏: وإن من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا صاحبة له ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكًا، ولا شمسًا ولا قمرًا ولا كوكبًا، ولا نشرك معه نبيًا من الأنبياء ولا صالحًا‏: ‏{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}‏‏ [‏مريم‏: ‏93‏]‏‏.
 
وإن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره، مثل إنزال المطر وإنبات النبات، وتفريج الكربات والهدى من الضلالات، وغفران الذنوب، فإنه لا يقدر أحد من جميع الخلق على ذلك ولا يقدر عليه إلا الله‏.
 
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام نؤمن بهم ونعظمهم ونوقرهم، ونتبعهم ونصدقهم في جميع ما جاؤوا به، ونطيعهم‏. كما قال نوح، وصالح، وهود وشعيب‏: ‏{أَنِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}‏‏ [‏نوح ‏: ‏3‏]‏ فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله‏. فلو كفر أحد بنبي من الأنبياء وآمن بالجميع ما ينفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي وكذلك لو آمن بجميع الكتب وكفر بكتاب كان كافرًا حتى يؤمن بذلك الكتاب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر، فلما سمعوا ذلك منه قالوا‏: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه‏. ثم انصرفوا من عنده‏.
 
 
 
===سئل رحمه الله عمن يبوس الأرض دائما هل يأثم===
سئل رحمه الله عمن يبوس الأرض دائمًا هل يأثم ‏؟‏ وعمن يفعل ذلك لسبب أخذ رزق وهو مكره كذلك ‏؟‏
 
فأجاب‏:
 
أما تقبيل الأرض، ورفع الرأس، ونحو ذلك مما فيه السجود، مما يفعل قدام بعض الشيوخ وبعض الملوك فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضا، كما قالوا للنبي {{صل}}‏: الرجل منا يلقى أخاه أينحني له، قال‏: ‏(‏لا‏)‏‏. ولما رجع معاذ من الشام سجد للنبي {{صل}}‏. فقال‏: ‏(‏ما هذا يا معاذ ‏؟‏‏)‏ قال‏: يا رسول الله، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم‏: فقال‏: ‏(‏كذبوا عليهم، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من أجل حقه عليها‏. يا معاذ، إنه لا ينبغي السجود إلا لله‏)‏‏.
 
وأما فعل ذلك تدينًا وتقربًا فهذا من أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة، وتدينًا فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل‏.
 
وأما إذا أكره الرجل على ذلك، بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه أو حبسه، أو أخذ ماله أو قطع رزقه الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر، فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه، وهو المشهور عن أحمد وغيره، ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه، ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم الله منه الصدق أعانه الله تعالى، وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك‏. وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال، ويروى ذلك عن ابن عباس ونحوه، قالوا‏: إنما التقية باللسان، وهو الرواية الأخرى عن أحمد‏.
 
وأما فعل ذلك لأجل فضول الرياسة والمال فلا، وإذا أكره على مثل لك ونوى بقلبه أن هذا الخضوع لله تعالى كان حسنًا، مثل أن يكره كلمة الكفر وينوي معنى جائزًا‏. والله أعلم‏.
 
 
 
===وسئل عن النهوض والقيام عند قدوم شخص معين معتبر أحرام هو===
وسئل الإمام العالم العامل الرباني، والبحر النوراني؛ أبو العباس‏: أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس، من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر، هل يجوز أم لا ‏؟‏ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل، أو يتأذى باطنًا، وربما أدى ذلك إلى بغض وعداوة ومقت، وأيضا المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم ‏؟‏ فإن فعل ذلك الرجل عادة وطبعًا ليس فيه له قصد، هل يحرم عليه أم لا يجوز ذلك في حق الأشراف والعلماء، وفيمن يرى مطمئنًا بذلك دائما هل يأثم على ذلك أم لا ‏؟‏ وإذا قال‏: سجدت لله هل يصح ذلك أم لا ‏؟‏
 
فأجاب‏:
 
الحمد لله رب العالمين‏. ‏لم تكن عادة السلف على عهد النبي {{صل}} وخلفائه الراشدين، أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك‏: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي {{صل}}، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيًا له، كما روى عن النبي {{صل}} أنه قام لعكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ‏: ‏(‏قوموا إلى سيدكم‏)‏ وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه‏.
 
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله {{صل}}، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد {{صل}}، فلا يعدل أحد عن هدى خير الورى، وهدى خير القرون إلى ما هو دونه‏. وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد‏.
 
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيًا له فحسن‏.
 
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله {{صل}}‏: ‏(‏من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏ فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقال‏: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام، بخلاف القائم للقاعد‏.
 
وقد ثبت في [[صحيح مسلم]]‏: أن النبي {{صل}} لما صلى بهم قاعدًا في مرضه صلوا قيامًا أمرهم بالقعود، وقال‏: ‏(‏ لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضًا‏)‏ وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود‏.
 
وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليه بحسب الإمكان‏. فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما‏.
 
 
===فصل: الانحناء عند التحية‏===
وأما الانحناء عند التحية‏: فينهى عنه، كما في [[الترمذي]] عن النبي {{صل}}‏: أنهم سألوه عن الرجل يلقى أخاه ينحني له ‏؟‏ قال‏: ‏(‏لا‏)‏ ولأن الركوع والسجود لا يجوز فعله إلا لله عز وجل؛ وإن كان هذا على وجه التحية في غير شريعتنا، كما في قصة يوسف‏: ‏{وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ}‏ ‏[‏يوسف‏: 100‏]‏ وفي شريعتنا لا يصلح السجود إلا لله، بل قد تقدم نهيه عن القيام كما يفعله الأعاجم بعضها لبعض، فكيف بالركوع والسجود ‏؟‏ وكذلك ما هو ركوع ناقص يدخل في النهي عنه‏.
 
وقال شيخ الإسلام‏:
 
 
===فصل: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله===
كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله؛ فيسمون بعضهم عبد الكعبة، كما كان اسم عبد الرحمن بن عوف، وبعضهم عبد شمس، كما كان اسم أبي هريرة، واسم عبد شمس بن عبد مناف، وبعضهم عبد اللات، وبعضهم عبد العزى، وبعضهم عبد مناة وغير ذلك مما يضيفون فيه التعبيد إلى غير الله، من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك مما قد يشرك بالله‏.
 
ونظير تسمية النصارى عبد المسيح‏. فغير النبي {{صل}} ذلك وعبدهم لله وحده، فسمى جماعات من أصحابه‏: عبد الله وعبد الرحمن، كما سمى عبد الرحمن بن عوف ونحو هذا، وكما سمى أبا معاوية وكان اسمه عبد العزى فسماه عبد الرحمن، وكان اسم مولاه قيوم فسماه عبد القيوم‏.
 
ونحو هذا من بعض الوجوه ما يقع في الغالية من الرافضة ومشابهيهم الغالين في المشائخ، فيقال هذا غلام الشيخ يونس أو للشيخ يونس أو غلام ابن الرفاعى أو الحريرى ونحو ذلك مما يقوم فيه للبشر نوع تأله، كما قد يقوم في نفوس النصارى من المسيح، وفي نفوس المشركين من آلهتهم رجاء وخشية، وقد يتوبون لهم‏. كما كان المشركون يتوبون لبعض الآلهة، والنصارى للمسيح أو لبعض القديسين‏.
 
وشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده، تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله {{صل}}، وتغيير الأسماء الشركية، إلى الأسماء الإسلامية، والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، وعامة ما سمى به النبي {{صل}} عبد الله وعبد الرحمن، كما قال تعالى‏: ‏{قُلِ ادْعُواْ الله أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}‏ ‏[‏الإسراء‏: 110‏]‏ فإن هذين الاسمين هما أصل بقية أسماء الله تعالى‏.
 
وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى، وكذلك أهل بيتنا غلب على أسمائهم التعبيد لله، كعبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الغني، والسلام، والقاهر، واللطيف والحكيم، والعزيز، والرحيم، والمحسن، والأحد، والواحد، والقادر، والكريم، والملك، والحق‏. وقد ثبت في [[صحيح مسلم]] عن نافع عن عبد الله بن عمر‏: ‏أن النبي {{صل}} قال‏: ‏(‏أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة‏)‏ وكان من شعار أصحاب رسول الله {{صل}} معه في الحروب‏: ‏يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، كما قالوا ذلك يوم بدر، وحنين، والفتح، والطائف، فكان شعار المهاجرين‏: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس‏: يا بني عبيد الله‏.
 
 
{{مجموع الفتاوى}}
[[تصنيف:مجموع الفتاوى|1]]