الفرق بين المراجعتين لصفحة: «العقد الفريد/الجزء الثاني»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سطر 1:
 
=باب جامع الآداب=
 
===باب أدب النبي لأمته صلى الله عليه وسلم===
 
لأمته قال النبي {{صل}} فيما أدّب به أمته وحَضها عليه من مَكارم الأخْلاق وجَمِيل المعاشرة وإصلاح ذاتِ البَينْ وصِلَة الأرحام‏:‏ أوْصاني ربيِّ بتِسْع ‏"‏ وأنا ‏"‏ أوصيكم بها‏:‏ أوصاني بالإخلاص في السر والعَلانية والعَدْل في الرِّضا والغَضب والقَصْد في الغِنَى والفَقْر وأن أعْفُو عمن ظَلَمني وأعْطي مَن حَرَمني وأصِل مَن قَطعني وأن يكون صَمتي فِكْراً ونُطْقي ذِكْراً ونَظَري عبَرا‏.‏
 
وقد قال {{صل}}‏:‏ لا تقْعدوا على ظُهور الطُّرق فإن أَبَيْتم فغُضُوا الأبصار وأفشُوا السلام واهدوا الضالَّ وأعينوا الضعِيف‏.‏
 
وقال {{صل}}‏:‏ أَوْكُوا السِّقاء واكْفَئُوإ الإناء وأَغْلِقوا الأبواب وأطفِئوا المِصْباح فإن الشيطان لا يَفْتح غَلَقا ولا يحل وِكاءً ولا يَكْشف الإناء‏.‏
 
وقال {{صل}}‏:‏ ألا أنَبئكم بشرّ الناس قالوا‏:‏ بلى يا رسولَ اللهّ قال‏:‏ من أكل وَحْدَه ومَنَع رِفْده وجَلَد عبدَه‏.‏
 
ثم قال‏:‏ ألا أُنبئكم بشِرّ من ذلك قالوا‏.‏
 
بلى يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ من لا يُقيل عزة ولا يقبل مَعْذرة ثم قال أَلاَ أنبئكم بشرّ من ذلك قالوا بلى يا رسول الله {{صل}} ‏"‏ قال‏:‏ مَن يُبغض الناسَ ويُبْغِضونه‏.‏
 
وقال‏:‏ حَصِّنوا أموالَكم بالزّكاة وداوُوا مَرْضاكم بالصدَقة واستَقْبِلوا البَلاء بالدُّعاء وقال‏:‏ ما قَلّ وكَفي خير مما كثر وألْهى‏.‏
 
وقال المسْلِمون تَتكافأ دِماؤُهم ويَسْعَى بذمَّتهم أدْناهم وهُمْ يَدٌ على مَن سواهم‏.‏
 
وقال‏:‏ اليَدُ العُلْيا خيرٌ من اليد السُّفْلي‏.‏
 
‏"‏ وقال ‏"‏‏:‏ وابْدَأ بمن تَعول‏.‏
 
وقال‏:‏ لا تَجْن يَمينُك على شِمالك ولا يًلدغ المُؤمن من جحر مرتين‏.‏
 
وقال‏:‏ اْفصِلُوا بين حَدِيثكم بالاستغفار واسْتَعينوا على قضاء حَوائجكم بالكِتمان‏.‏
 
وقال‏:‏ أَفضل الأصحاب من إذا ذَكَرْت أعانك وإذا نَسيت ذَكرَّك‏.‏
 
وقال‏:‏ لا يُؤَم ذو سُلْطان في سُلْطانه ولا يُجْلس على تَكْرِمته إلا بإِذنه‏.‏
 
وقال {{صل}}‏:‏ يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أَكل فأفْنى أو لَبِسَ فأبلَى أو وهب فأمْضى‏.‏
 
وقال‏:‏ سَتَحْرصون على الإمارة فنِعمت المُرْضعة وبئست الفاطمة‏.‏
 
وقال‏:‏ لا يَحْكمِ الحاكم بين اثنين وهو غَضْبان‏.‏
 
وقال‏:‏ لو تَكاشفتم ما تَدافَنْتم وما هَلَك امرؤ عَرف قَدْره‏.‏
 
وقال‏:‏ الناس كإبل مائةٍ لا تَكاد تَجد فيها راحلةً واحدة والناس كلّهم سواء كأسنان المُشْط‏.‏
 
وقال‏:‏ رَحِم الله عبداً قال خيراً فَغَنِم أو سَكَت فَسَلِم‏.‏
 
وقال‏:‏ خَيْر المال سِكَة مَأْبورة ومُهْرة مَأْمورة وخير المال عَينٌ ساهرة لِعَين نائمة‏.‏
 
وقال في إناث الخيل‏:‏ بُطونها كَنْز وظُهورها حِرْز‏.‏
 
وقال‏:‏ ما أملق تاجرٌ صدُوق وما أقفر بيتٌ فيه خَلّ‏.‏
 
وقال‏:‏ قَيّدوا العِلم بالكتابة‏.‏
 
وقال‏:‏ عَلق سَوْطك حيثُ يراه أهلُك‏.‏
 
 
===باب في آداب الحكماء والعلماء===
 
فضيلة الأدب أوصى بعضُ الحكماء بنيه فقال‏:‏ الأدب أكرم الجواهر طبيعةً وأنْفسها قيمةً يَرْفع الأحساب الوَضيعة ويُفيد الرَّغائب الجليله ويُعِز بلا عشيرة ويُكثر الأنصار بغَيْر رزيَّة فالبسوه حُلّة وتَزَينُوه حِلْية يُؤْنسكم في الوَحشة ويجمع لكم القُلوب المختلفة‏.‏
 
ومن كلام علّي عليه السلام‏:‏ فيما يُروى عنه أنه قال‏:‏ مَن حَلم ساد ومن ساد استفاد ومن استَحيا حُرم ومن هاب خاب ومَن طلب الرّآسة صَبر على السياسة ومَن أبصر عَيْب نفسه عَمِيَ عن عَيب غيره ومَن سلَّ سيف البَغْي قُتل به ومن احتقر لأخيه بئراً وقَع فيها ومَن نَسى زَلَّته استعظم زلّة غيره ومن هَتَك حِجاب غيره اْنهتكت عورات بَيته ومن كابر في الأمور عَطِب ومن اقتحم اللُّجج غَرِق ومن أعجب برأْيه ضَلَّ ومن استغنى بعَقله زلَ ومن تَجَبَّر على الناس ذَلَّ ومن تَعمَّق في العَمَل مَلَّ ومَن صاحَب الأنذال حُقِّر ومن جالس العلماء وُقَر ومن دَخل مَداخل السًوء اتُّهم ومَن حَسَنُ خُلقه سَهُلَت له طُرُقه ومن حَسَّنَ كلامَه كانت الْهَيْبة أمامَه ومَن خَشي الله فاز ومَن استقاد الجَهْل تَرك طَرِيق العَدْل ومَن عرف أجَله قَصًر أمله ثم أنشأ يقول‏:‏ البَسْ أخاك على عُيوبه واسْتُر وغَطِّ على ذُنوبه واصبر على بَهْتِ السَّفِيهِ وللزَّمان على خُطوبه ودَع الجوابَ تفضلاً وكِل الظلومَ إلى حَسِيبه وقال شَبِيب بن شَيبة‏:‏ اطلُبوا الأدب فإنّه مادًة للعَقْل ودليل على المُروءة وصاحب في الغُربة ومُؤنس في الوَحشة وحِلْية في المَجْلِس ‏"‏ ويجمع لكم القلوب المختلفة ‏"‏‏.‏
 
وقال عبدُ الملك بن مَروان لبَنِيه‏:‏ عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً وإن اسْتَغنيتم عنه كان لكمٍ جمالاً‏.‏
 
وقال بعضُ الحكماء‏:‏ اعلم أن جاهاً بالمال إنما يَصْحبك ما صَحِبَكَ المال وجاهاً بالأدب غيرُ زائل عنك‏.‏
 
وقال ابن المقفَّع‏:‏ إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو لسُلطانٍ فلا يُعْجِبك ذلك فإنّ الكرامة تزُول بزوالهما ولكن ليُعْجبك إذا أكرموك لدِين أو أدب‏.‏
 
وقال الأحْنَف بن قَيس‏:‏ رأسُ الأدب المَنْطِق ولا خَيْر في قوْل إلاِّ بِفِعْل ولا في مال إلا بجُود ولا وقال مَصقلة الزُّبيريّ‏:‏ لا يَستغني الأديب عن ثلاثة واثنن فأما الثلاثة‏:‏ فالبلاغة والفصاحة وحُسن العِبارة وأما الاثنان فالعِلْم بالأثر والحِفْظ للخَبر‏.‏
 
وقالوا‏:‏ الحَسَب مُحتاجِ إلى الأدب والمعرفة محتاجة إلى التَّجربة‏.‏
 
وقال بُزُرْجَمْهِر‏:‏ ما ورَّث الآباءُ الابناءُ شيئاً خيراً من الأدب لأنّ بالأدب يَكْسِبون المال وبالجهل يُتْلفونه وقال الفُضَيل بن عِياضِ‏:‏ رأسُ الأدب مَعْرِفة الرجل قَدْره‏.‏
 
وقالوا‏:‏ حُسْن الخُلق خيْر قَرِين والأدب خير ميراث والتَوفيق خير قَائد‏.‏
 
وقال سُفيان الثَّوريّ‏:‏ مَن عَرَف نفسَه لم يَضِرْه ما قال الناس فيه‏.‏
 
وقال أنو شِرْوان للموبذ وهو العالم ‏"‏ بالفارسيّة ‏"‏‏:‏ ما كان أفضلُ الأشياء قال‏:‏ الطبيعة النقيّة تَكْتفي من الأدب بالرائحة ومن العِلْم بالإشارة وكلما يَموت البَذْر في السِّباخ كذلك تموت الحِكْمة بمَوْت الطبيعة قال له‏:‏ صدقت ونحن لهذا قَلّدناك ما قلّدناك‏.‏
 
وقيل لارْدَشِير‏:‏ الأدبُ أغلبُ أم الطَّبيعة فقال‏:‏ الأدب زِيادة في العَقل ومَنْبهة للرأيٍ ومِكْسبة للصواب والطَّبيعة أملك لأن بها الاعتقاد ونَماء الغِراسة وتَمام الغِذاء‏.‏
 
وقيل لبعض الحُكماء‏:‏ أي أعون للعقل بعد الطٌبيعة المَولودة قال‏:‏ أدب مُكْتسب‏.‏
 
وقالوا‏:‏ الأدب أدَبان‏:‏ أدبُ الغَريزة وهو الأصل وأدب الرِّواية وهو الفرع ولا يتفرَّع شيء إلا عن أصله ولا يَنْمى الأصل إلا باتصال المادة‏.‏
 
وقال الشاعر‏:‏ ‏"‏ ولم أرَ فَرْعًا طال إلا بأصْله ولم أرَ بَدْء العِلْم إلا تعلُّما وقال حَبيب ‏"‏‏:‏ وما السيفُ إلا زُبْرَةٌ لو تركتَه على الحالة الأولى لما كان يَقْطعُ وقال آخر‏:‏ ما وَهب اللهّ لامرىء هِبةً أفضلَ من عَقْله ومن أَدبهْ هُما حياةُ الفَتى فإن فًقِدَا فإنّ فَقْد الحَياة أحسنُ به وقال ابن عبّاس‏:‏ كَفَاك من عِلْم الدِّين أن تَعْرف مالا يَسعك جهلُه وكفاكَ من عِلْم الأدب أن تَرْوي الشاهد والمثاللَ‏.‏
 
قال ابن قُتيبة‏:‏ إِذا أردتَ أن تكون ‏"‏ عالماً فاطلب فَنّا واحداً وإذ أردتَ أن ‏"‏ تكون أديباً فتفنَّن في العلوم‏.‏
 
وقالت الحُكماء‏:‏ إذا كان الرجل طاهرَ الأثواب كثيرَ الآداب حسنَ المذْهب تأدَّب بأدبه رأيتُ صلاحَ الَمرْء يِصلح أهلَه ويُفسدهم ربُّ الفَساد إذا فَسَدْ يُعظَّم في الدنيا لِفَضل صَلاحه وحْفَظ بعد الموت في الأهْل والوَلد وسُئل ديُوجانِس‏:‏ أي الخِصال أحمدُ عاقبة قال‏:‏ الإيمانُ بالله عزّ وجلّ وبرّ الوالدين ومحبّة العُلماء وقبولُ الأدب‏.‏
 
رُوي عن رسول الله {{صل}} أنه قال‏:‏ مَن لا أدب له لا عقل له‏.‏
 
وقالوا‏:‏ الأدب يَزيدُ العاقلَ فضلاً ونَباهة ويُفيده رقّة وظَرفاً‏.‏
 
في رقة الأدب قال أبو بكر بن أبي شَيْبة‏:‏ قيل للعبّاس بن عبد المطّلب‏:‏ أنت أكبرُ أم رسول الله {{صل}} قال‏:‏ هو أكبر منّي وأنا أسنّ منه‏.‏
 
وقيل لأبي وائل‏:‏ أيكما أكبر أنتَ أم الرَّبيع بن خُثَيم قال‏:‏ أنا أكبر منه سنًا وهو أكبر منّي عقلاً‏.‏
 
وقال أبان بنُ عثمان لطُويس المغنّى‏:‏ أنا أكبر أم أنت قال‏:‏ جُعلتُ فداك لقد شَهِدْتُ زفاف أمك المُباركة ‏"‏ على أبيك الطيّب‏.‏
 
انظر إلى حِذْقه ورقّة أدبه كيف لم يَقُل أمك الطيبة إلى أبيك المبارك ‏"‏‏.‏
 
وقيل لعُمر بن ذَرّ‏:‏ كيف برّ ابنك بك قال‏:‏ ما مَشَيت نهاراً قطُّ إلا مشى خَلْفي ولا ليلاً إلا مَشى أمامي ولا رَقى عِلّية وأنا تحته‏.‏
 
ومن حديث عائشة قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله {{صل}} يُبجل أحداً تبجيلَه لعمّه العباس‏.‏
 
وكان عمر وعثمان إذا لَقِيا العباس نَزلا إعظاماً له إذا كانا راكبَين‏.‏
 
الرياشيّ عن الأصمعيّ قال‏:‏ قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح‏:‏ هذا منزلُك وقد تقدم هذا الخبر في الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك وكذلك قول الحجَّاج للشعبيّ‏:‏ كم عَطاؤك ومن قولنا في رقة الأدب‏:‏ أَدبٌ كمثْل الماء لو أفرغتَه يوما لسال كما يَسيلُ الماءُ أحمد بن بّي طاهر قال‏:‏ قلتُ لعليّ بن يحيى ما رأيتُ أكملَ أدبا منك قال‏:‏ كيف لو رأيتَ إسحاق بن إبراهيم فقلتُ ذلك لإسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ كيف لو رأيتَ إبراهيم بن المهديّ فقلتُ ذلك لإبراهيم فقال‏:‏ كيف لو رأيت جعفر بن يحيى وقال عبدُ العزيز بِن عُمر بن عبد العزيز‏:‏ قال لي رَجاءُ بن حَيْوة‏:‏ ما رأيتُ أكرمَ أدباً ولا أكرم عِشْرَةً من أبيك سَمَرتُ عنده ليلة فبينا نحن كذلك إذ عَشى المصباحُ ونام الغلام فقلتُ‏:‏ يا أمير المؤمنين قد عَشى المصباح ونام الغلام فلو أذنتَ لي أصلحتُه فقال‏:‏ إنه ليس من مروءة الرجل أن يَسْتخدم ضيفَه ثم حطّ رداءه عن مَنْكِبيه وقام إلى الدَبَّة فصبَّ من الزيت في المصباح وأشْخص الفَتيلة ثم رَجع ‏"‏ وأخذ رداءه وقال‏:‏ قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر‏.‏
 
العتبي عن أبيه قال‏:‏ صوَت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد فلما كانت الصلاة قال عمر‏:‏ عَزَمتُ على صاحب الصوت إلا قم فتوضّأ ‏"‏ فلم يَقُم أحدٌ‏.‏
 
فقال جريرُ بن عبد اللهّ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين اعزم علينا كلِّنا أن نَقوم فنتوضأ قال‏:‏ صدقتَ ولا عَلِمتُك إلا سيّدا في الجاهليّة فقيها في الإسلام قُوموا فتوضئوا‏.‏
 
الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ حدَّثني عُثمان الشحَّام قال‏:‏ قلتُ للحسن‏:‏ يا أبا سعيد قال‏:‏ لَبَّيك قلت‏:‏ أتقول لي لَبّيك قال‏:‏ إني أقولها لخادمي‏.‏
 
وقال الشاعر‏:‏ يا حبذا حين تُمسى الريحُ باردةً وادي أًشيٍَ وفِتْيانٌ به هُضمُ مُخدَمون كِرامٌ في مجالسهم وفي الرّحال إذا جَربتَهم خَدم وما أصاحب من قوم فأذْكُرهم إلا يَزيدُهم حُبّا إليَ هُم وقالت الحُكماء‏:‏ رأسُ الأدب كلِّه حُسنُ الفَهم والتفهّم والإِصغاء للمتكلّم‏.‏
 
وذكر الشّعبي قوماً فقال‏:‏ ما رأيتُ مثلَهم أسدَّ تَنَاوباَ في مَجلس ولا أحسن فهما من مُحدِّث‏.‏
 
وقال الشعبي فيما يَصِف به عبدَ الملك بن مروان‏:‏ والله ما علمتُه إلا آخذاً بثلاث تاركاً لثلاث آخذاً بحُسن الحدِيث إذا حدث وبُحسن الاستماع إذا حُدِّث وبأيسر المؤونة إذا خُولف تاركاً لمجاوبة اللئيم ومماراة السَّفيه ومُنازعة اللجُوج‏.‏
 
وقال بعض الحُكماء لابنه‏:‏ يا بُني تعلِّم حُسن الاستماع كما تتعلّم حُسن الحديث وليعلم الناسُ أنك أحرصُ على أن تَسمع منك على أن تقول فاحذرْ أن تُسرع في القَوْل فيما تُحِبّ عنه الرجوع بالفِعْل حتى يعلم الناسُ أنك على فِعْل ما لم تَقُل منك إلى قَوْل ما لم تَفْعل‏.‏
 
وقالوا‏:‏ من حُسن الأدب أن لا تُغالب أحداً على كلامه وإذا سُئِل غيرُك فلا تُجب عنه وإذا حَدًث بحديث فلا تُنازعه إياه ولا تَقْتحم عليه فيه ولا تُره أنك تعَلمه وإذا كلّمت صاحبك فأخذتْه حُجّتك فحسِّن مخرج ذلك عليه ولا تُظهر الظَّفر به وتَعلَم حُسنَ الاستماع كما تعلم حُسنَ الكلام‏.‏
 
وقال الحسنُ البَصريّ‏:‏ حَدِّثوا الناسَ ما أقبلوا عليكم بوجُوههم‏.‏
 
وقال أبو عبًاد ‏"‏ الكاتب ‏"‏‏:‏ إذا أنكر المُتكلِّم عين السامع فَلْيسأله عن مَقاطع حديثه والسبَب الذي أُجري ذلك له فإن وَجده يقف على الحقّ أتم له الحديث وإلاّ قطعه عنه وحَرمه مُؤانسته وعَرّفه ما في سُوء الاستماع من الفُسُولة والحِرْمان للفائدة‏.‏
 
الأدب في المجالسة ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة‏:‏ أن النبي {{صل}} قال‏:‏ لا يَقم الرجلُ ‏"‏ للرجل ‏"‏ عن مجلسه ولكن ليُوسع له‏.‏
 
وكان عبد الله بن عمر إِذا قام له الرجلُ عن مجلسه لم يجلس فيه وقال‏:‏ لا يقم أحد لأحد عن مجلسه ولكن افْسَحوا يَفسح الله لكم‏.‏
 
أبو أمامة قال‏:‏ خرج إلينا النبي {{صل}} فقمنا إليه فقال‏:‏ لا تقوموا كما يقوم العجم لعُظمائها‏.‏
 
فما قام إليه أحد منّا بعد ذلك‏.‏
 
ومن حديث ابن عمر‏:‏ أن النبي {{صل}} قال‏:‏ إن خرجتُ عليكم وأنتم جُلوس فلا يقومنَّ أحدٌ منكم في وجهي وإن قمت فكما أنتم وإن جلست فكما أنتم فإنّ ذلك خلق من أخلاق المشركين‏.‏
 
وقال {{صل}}‏:‏ الرّجل أحقُّ بصَدْر دابتَّه وصدْر مجلسه وصَدْر فراشه ومن قام من مجلسه وَرَجع إليه فهو أحقّ به‏.‏
 
وقال {{صل}}‏:‏ إذا جلس إليك أحدٌ فلا تَقم حتى تستأذنه وجَلس رجلٌ إلى الحسن بن عليّ عليهما الرِّضوانُ فقال له‏:‏ إنك جلستَ إلينا ونحن نريد القيام أفتأذَنُ وقال سعيدُ بنُ العاص‏:‏ ما مددتُ رجْلي قَطًّ بين يَدي جليسي ولا قمتُ ‏"‏ عن مجلسي ‏"‏ حتى يقوم‏.‏
 
وقال إبراهيمُ النِّخَعيّ‏:‏ إذا دخل أحدُكمِ بيتاً فَلْيَجْلس حيثُ أجلسه أهلُه‏.‏
 
وطَرح أبو قِلابة لِرَجُل جَلَس إليه وسادةً فرَدَّها فقال‏:‏ أَمَا سَمِعْتَ الحديثَ لا تَردَّ على أخيك كرامَته وقال عليّ بن أبي طالب رضوانُ الله عليه‏:‏ لا يأبى الكرامةَ إلا حِمار‏.‏
 
وقال سَعِيد بن العاص‏:‏ لجليسي عَلَيَّ ثلاثٌ‏:‏ إذا دنَا رَحَّبْتُ به وإذا جَلَس وَسَّعتُ له وإذا حَدًث أقبلْت عليه‏.‏
 
وقال‏:‏ إني لأكره أن يمرّ الذُّباب بجليسي مخافةَ أن يُؤذِيه‏.‏
 
الهيثم بن عديّ ‏"‏ عن عامر الشَّعبي ‏"‏ قال‏:‏ دَخل الأحنفُ بنُ قيس على مُعاوية فأشار إليه إلى وِسادةِ فلم يَجلس عليها فقال له‏:‏ ما مَنعك يا أَحْنف أن تَجلِس على الوسادة فقال‏:‏ يا أمير المُؤمنين إنَّ فيما أَوصى به قَيسُ بن عاصم ولدَه أن قال‏:‏ لا تَسْع للسُّلطان حتى يَمَلَّك ولا تَقْطعه حتى يَنْساك ولا تَجْلِس له على فراش ولا وِسادة واجعل‏!‏ بَينك وبينه مَجْلسَ رجل أو وقال الحسن‏:‏ ‏"‏ مُجالسةُ الرجل من غير أن يُسأل عن اسمه واسم أبيه مُجالسة النوكى‏.‏
 
ولذلك قال شَبيب بن شَيْبة لأبي جعفر ولَقِيه في الطّواف وهو لا يَعرفه فأَعجبه حسن هَيْئته وسَمته‏:‏ أصلحك الله إنِّي أحب المعرفةَ وأجلَّك عن المسألة فقال‏:‏ أنا فُلان بنُ فلان‏.‏
 
قال زياد‏:‏ ما أتيت مجلساً قطّ إلا تركتُ منه ما لو جلستُ فيه لكان لي وتَرْك ما لي أحبُ من أخذ ما ليس لي‏.‏
 
وقال‏:‏ إيّاكَ وصدور المجالس وإن صَدَّرك صاحبُها فإنها مجالس قُلَعة‏.‏
 
وقال ‏"‏ الشعبي ‏"‏‏:‏ لأن أدعي مِن بُعْد إلى قُرْب أحبُّ إليَّ من أقصى من قُرْب إلى بعد‏.‏
 
وذكروا أنه كان يوماً أبو السَّمراء عند عبد الله بن طاهر وعنده إسحاقُ ابن إبراهيم فاستدعى عبد الله إِسحاقَ فَناجاه بشيء وطالت النَجوى بينهما‏.‏
 
قال‏:‏ فاعترَتْني حَيْرَةٌ فيما بين القُعود على ما هما عليه والقيام حتى انقطع ما بينهما وتنَحّى إسحاق إلى مَوْقفه ونظر عبد الله إلي ‏"‏ يا أبا السمراء ‏"‏ إذا النَجيان سرًا عنك أمرهَما فانزحْ بِسَمْعك تَجْهلْ ما يَقُولانِ ولا تُحَملهما ثِقْلاً لخوفهما على تَناجِيهما بالمجلس الدَّاني فما رأيتُ أكرَم منه ولا أرفق أدباً ترك مُطالبتي في هَفْوتي بحق الأمراء وأدَبني أدبَ النُظراء‏.‏
 
وقال النبي {{صل}}‏:‏ إنما أحدُكم مرآة أخيه فإذا رأى عليه أَذىَ فليمطه عنه وإذا أخذ أحدُكم على أخيه شيئاً فليقل‏:‏ لا بك السُّوء وصَرَف اللهّ عنك السُّوء‏.‏
 
وقالوا‏:‏ إذا اجتمعت حُرْمتان أسقطت الكبرى الصُّغرى‏:‏ وقال المُهلَب بن أبي صفرة‏:‏ العيْش كلّه في الجَليس المُمْتع‏.‏
 
 
===الأدب في المماشاة===
 
وَجه هِشامُ بن عبد الملك ابنه على الصَّائفة ووجَّه معه ابن أخيه وأوصى كلَّ واحد منهما بصاحبه فلما قَدِما عليه قال لابن أخيه‏:‏ كيف رأيتَ ابن عمّك فقال‏:‏ إن شئت أجملت وإن شئت فسّرْتُ قال‏:‏ بل أجمل قال‏:‏ عرضتْ بيننا جادة فتركها كلُّ واحد منَّا لصاحبه فما رَكِبناها حتى رَجعنا إليك‏.‏
 
وقال يحيى بن أكثم‏:‏ ما شيتُ المأمون يوماً من الأيام في بُستان مُؤْنسة بنت المَهديّ فكنت من الجانب الذي يَسترٌه من الشَمس فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع وأردتُ أن أدور إلى الجانب الذي يَسْترٌه من الشمس فقال‏:‏ لا تفعل ولكن كُن بحالك حتى أسترك كما سَتَرْتني فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لو قدرتُ أن أقيك حَرَّ النار لفعلتُ فكيف الشمسُ فقال‏:‏ ليس هذا من كرم الصُحبة ومَشى ساتراً لي من الشّمس كما سترته‏.‏
 
وقيل لعُمَر بن ذرّ‏:‏ كيف برُ ابنك بك قال‏:‏ ما مشيتُ نهاراً قط إلا مَشى خَلفي ولا ليلاً إلا مشى أمامي ولا رَقِي سَطحاً وأنا تحته‏.‏
 
وقيل لزياد‏:‏ إنك تَستخلص حارثة بن بَدْر وهو يُواقع الشراب فقال‏:‏ وكيف لا أَسْتَخْلصه وما سألته عن شيء قط إلا وجدتُ عنده منه عِلْماً ولا استودعتُه سِرّاً قطْ فضيّعته ولا راكبني قطّ فمست رُكْبتي رُكْبته‏.‏
 
محمد بن يزيد بن عُمر بن عبد العزيز قال‏:‏ خرجتُ مع موسى الهادي أمير المُؤمنين من جُرْجان فقال لي‏:‏ إمّا أن تَحملين وإمّا أن أحْملك فعلمتُ ما أراد فأنْشدتُه أبياتَ ابن صِرْمة‏:‏ أوصيكم بالله أولَ وَهْلةٍ وأَحْسابِكِم والبرُّ بالله أَوَّلُ وإنْ قومُكم سادوا فلا تَحْسُدوهم وإن كُنتم أهلَ السِّيادة فاعْدِلوا وإن أنتمُ أعْوَزْتُمُ فتَعفَفَّوا وإن كان فَضْلُ المال فيكم فأَفْضِلوا وإنْ نزلتْ إحدى الدَواهي بقَوْمكم فأنْفُسَكم دون العَشيرة فاجعلوا وإنّ طَلبوا عُرْفاً فلا تَحْرموهمُ وما حَمَّلوكم في المُلمّات فاحملوا قال‏:‏ فأمر لي بعشرين ألف دِرْهم‏.‏
 
وقيل‏:‏ إن سعيد بن سَلْم راكب موسى الهادي والحَربةُ بيد عبد الله بن مالك وكانت الريح تَسْفي التراب وعبد الله يَلْحظ موضع مَسير موسى فيتكلَّف أن يسير على مُحاذاته وإذا حاذاه ناله ذلك التراب فلما طال ذلك عليه أقبلَ على سَعيد بن سَلْم فقال‏:‏ أما ترى ما نَلقى من هذا الخائن قال‏:‏ والله يا أميرَ المؤمنين ما قَصَّر في الاجتهاد ولكن حُرِم التوفيق‏.‏
 
 
===باب السلام والإذن===
 
قال النبي {{صل}}‏:‏ أَطِيبوا الكلام وأفشوا السلام وأطعِموا الأيتام وَصَلُّوا بالليل والناسُ نِيام‏.‏
 
وقال {{صل}}‏:‏ إن أبخل الناس الذي يَبخل بالسلام‏.‏
 
وأتى رجلٌ النبي {{صل}} فقال‏:‏ عليك السلامُ يا رسول الله فقال‏:‏ لا تقُل‏:‏ عليك السلام فإِنها تحيِّة الموتى وقل‏:‏ السلام عليك‏.‏
 
وقال صاحبُ حَرس عمر بن عبد العزيز‏:‏ خرج علينا عمرُ في يوم عِيد وعليه قميصُ كَتَّان وعِمامة على قلنسوة لاطئة فقُمْنا إليه وسَلّمنا عليه فقال‏:‏ مَه أنا واحدٌ وأنتم جماعة السلامُ عليّ والردُّ عليكم‏.‏
 
ثم سلّم ورَددنا عليه ومشى فمشينا معه إلى المسجد‏.‏
 
قال النبي {{صل}}‏:‏ يُسَلِّم الماشي على القاعد والرَّاكب على الراجل والصًغير على الكبير‏.‏
 
ودخل رجل على النبي {{صل}} فقال له‏:‏ أبي يُقْرِئك السلام فقال‏:‏ عليك وعلى أبيك السلام‏.‏
 
إبراهيم عن الأسود قال قال ‏"‏ لي ‏"‏ عبد الله بن مسعود‏:‏ إذا لقيتَ عُمرَ فاقرأ علية السلام قال‏:‏ فلقيتُه فأَقْرأْته السلام فقال‏:‏ عليك وعليه السلام‏.‏
 
دخل مَيْمون بن مِهْران على سُليمان بن هِشام وهو والي الجزيرة فقال‏:‏ السلام عليكم فقال له سُليمان‏:‏ ما مَنعك أن تُسَّلِّم بالأمرة فقال‏:‏ إنما يُسلَّم على الوالي بالإمرة إذا كان عنده الناس‏.‏
 
أبو بكر بن أبي شَيْبة قال‏:‏ كان الحَسن وإبراهيم ومَيمون بن مِهران يَكْرهون أن يقول الرجلُ‏:‏ حيَّاك الله حتى يقول السَّلام‏.‏
 
وسُئل عبد الله بن عُمر عن الرجل يَدْخل المَسجدَ أو البيتَ ليس فيه أحد قال يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏
 
ومر رجل بالنبي {{صل}} وهو يبَول فسلّم عليه فلم يرد عليه السلام‏.‏
 
وقال رجلٌ لعائشة ‏"‏ رضي الله عنها ‏"‏‏:‏ كيف أصبحت ‏"‏ يا أم المؤمنين ‏"‏ قالت‏:‏ بنِعْمة من الله‏.‏
 
وقال رجل لشُرَيح‏:‏ كيف أصبحتَ ‏"‏ قال‏:‏ بنعمة ‏"‏ ومدَ إصبعه السَّبابة إلى السماء‏.‏
 
وقيلِ لمحمد بن وكيع‏:‏ كيف أصبحت ‏"‏ قال‏:‏ أصبحتُ طويلاً أملى قصيراً أجلى سيئاً وقيل لسًفْيان الثَّوْري‏:‏ كيف أصبحتَ قال‏:‏ أصبحتُ في دار حارتْ فيها الأدِلاء‏.‏
 
واستأذن رجلٌ من بني عامر على النبي {{صل}} وهو في بيت فقال‏:‏ أَلِجُ فقال النبي {{صل}} لخادمه‏:‏ اخرُج إلى هذا فعَلِّمه الاستئذان وقُل له يقول‏:‏ السَّلام عليكم أدْخُل جابر بن عبد الله قال‏:‏ استأذنتُ على النبي {{صل}} فقال‏:‏ مَن أنت فقلت‏:‏ أنا قال‏:‏ أنا أنا‏.‏
 
وقال النبي {{صل}}‏:‏ الاستئذان ثلاثة فإن أُذن لك وإلاّ فارجع‏.‏
 
وقال عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه‏:‏ الأولى إذْن والثانية مؤامرة والثالثة عزيمة إمّا أن يأذنوا وإمّا أن يردّوا‏.‏
 
 
===باب في تأديب الصغير===
 
قالت الحُكماء‏:‏ مَن أَدَّب ولدَه صغيراً سُرّ به كبيراً‏.‏
 
وقالوا‏:‏ اطْبَعِ الطِّن ما كان رَطْباً واغْمِز العُود ما كان لَدْناً‏.‏
 
وقالوا‏:‏ مَن أدَّب ولدَه غَمّ حاسدَه‏.‏
 
وقال ابن عبّاس‏:‏ مَن لم يَجْلِس في الصِّغر حيثُ يَكْره لم يَجْلِس في الكبر حيث يحب قال الشاعر‏:‏ إذا المَرءُ أَعْيَتْه المُروءةُ ناشِئاً فَمَطْلَبها كَهْلاً عليه شديدُ وقالوا‏:‏ ما أشدَّ فِطامَ الكبير وأعسرَ رياضةَ الهَرم‏.‏
 
قال الشاعر‏:‏ وتَرُوض عِرْسَك بعد ما هَرمت ومِن العَناء رياضةُ الهَرِم وكتب شُرَيح إلى معلِّم ولده‏:‏ تَركَ الصلاةَ لأكْلُبٍ يَسعى بها يَبْغِي الهِرَاشَ مع الغُواة الرُّجَّس ‏"‏ فَليَأتيِنَّك غُدوًة بصحيفة كُتِبت له كصحيفة المُتَلمِّس ‏"‏ فإذا هَمَمْتَ بضربه فبدِرَّةٍ وإذا بلغتَ بها ثلاثاً فاحْبِس واعْلم بأنّك ما أتيتَ فنفْسُه مع ما تُجَرِّعني اعزُّ الأنْفس وقال صالح بن عبد القدّوس‏:‏ وإنَّ مَن أدَّبته في الصبا كالعُود يُسقَى الماءَ في غَرْسِه حتى تَراه مُورِقاً ناضِراً بَعد الذي أبصرتَ من يُبْسِه والشيخُ لا يَتْرك أخلاقَه حتى يُوارَى في ثَرى رَمْسه إذا ارْعوى عادَ له جَهْلهُ كذي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه ما يَبْلغ الأعداءُ من جاهل ما يَبْلغ الجاهلُ من نَفْسهِ وقال عمرو بن عُتبة لمعلِّم ولده‏:‏ ليكُن أوّلَ إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك فإنّ عُيونهم مَعْقودة بعَيْنك فالحَسن عندهم ما صَنعتَ والقبيح عندهم ما تَركت‏.‏
 
علمَهم كتابَ اللهّ ولا تُكْرههم عليه فيَملّوه ولا تَتركهم منه فيهجروه رَوِّهم من الحديث أشرفَه ومن الشعر أعفّه ولا تَنْقُلهم من عِلم إلى علم حتى يُحْكِموه فإنّ ازدحام الكلام في القَلْب مَشغلة للفهم وعَلِّمهم سُنَن الحكماء وجَنِّبهم محادثة النِّساء ولا تَتّكَل على عُذْر منّي لك فقد اتكلتُ على كِفاية منك‏.‏
 
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فقال‏:‏ يا أبا بحر ما تقول في الولد قال‏:‏ ‏"‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ ثمار قُلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرضٌ ذَليلة وسماء ظَلِيلة فإن طلبوا فأعْطِهم وإن غَضبوا فأَرْضهم يمنحوك ودهم ويُحبوك جَهْدهم ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك ويُحبُّوا وفاتك‏.‏
 
فقال‏:‏ لله أنت يا أحنف لقد دخلتَ عليّ وإني لمملوء غضباً على يزيدَ فسَلَلَته من قلبي‏.‏
 
فلمّا خرج الأحنفُ من عنده بعث مُعاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب فبعث يزيدُ إلى الأحنف بمائة ألف دِرْهم ومائة ثوب شاطره إياها‏.‏
 
وكان عبد الله بن عُمر يذهب بولده سالم كلَّ مَذْهب حتى لامه الناسُ فيه فقال‏:‏ يَلُومونني في سالمِ وأَلُومهم وجِلْدةُ بين العَينْ والأنف سالمً وقال‏:‏ إن ابني سالماَ ليُحِبّ حُبَّاً لو لم يَخَفْه لم يَعْصه‏.‏
 
وكان يحيى بن اليمان يَذْهب بولده داود كل مَذْهب حتى قال يوماً‏:‏ أئمة الحَدِيث أربعة كان عبد الله ثم كان عَلْقمة ثم كان إبراهيم ثم أنت يا داود‏.‏
 
وقال تزوّجْتُ أمَ داود فما كان عندنا شيءٌ أُلّفه فيه حتى اشتريتُ له كُسوة بدانِق‏.‏
 
وقال زيدُ بن علي لْابنه‏:‏ يا بُنيَّ إن الله لم يَرْضك لي فأوصاك بي ورَضيني لك فحذَرنيك واعلم أنَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعه المَودَّةُ إلى التَفريط وخَيْرَ الأبناء للآباء مَن لم يَدْعه التقصير إلى وفي الحديث المَرْفوع‏:‏ ريح الوَلد من ريح الجنَّة‏.‏
 
وفيه أيضاً‏:‏ الأولاد منِ رَيحان الله‏.‏
 
وقال النبي {{صل}} لمَّا بُشر بفاطمة‏:‏ رَيحانة أَشَمّها ورِزْقها على اللهّ‏.‏
 
ودخل عمرو بن العاص على مُعاوية وبين يديه بنته عائشة فقال‏:‏ مَن هذه يا ‏"‏ أمير المؤمنين ‏"‏ فقال‏:‏ هذه تًفَّاحة القَلْب فقال له‏:‏ انبذُوها عنك ‏"‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ فوالله إنَهن لَيَلدْنَ الأعداء ويُقرِّبن البُعداء ويُورِّثن الضّغائن‏.‏
 
قال‏:‏ لا تَقُل ذاك يا عمرو فواللهّ ما مَرّضِ المَرْضى ولا نَدَب الموْتى ولا أعان على الأحزان مِثْلهن ورُبَّ ابن أُخت قد نَفعَ خاله‏.‏
 
وقال المُعلّي الطائي‏:‏ لولا بُنيّات كزغْب القطَا حُطِطْن من بعْض إلى بَعْض لكان لي مُضطَرَب واسعٌ في الأرض ذاتِ الطّول والعَرْض وإنما أولادُنا بيننا أكبادُنا تمشي على الأرض إن هَبَّت الريحُ على بَعْضهم لم تَشْبع العينُ من الغَمْض وقال عبد الله بن أبي بَكْرة‏:‏ مَوْت الوَلد صَدْع في الكَبِد‏:‏ لا يَنجبر آخرَ الأبد‏.‏
 
ونظر عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى رجل يحمل طِفْلاً على عُنقه فقال‏:‏ ما هذا منك وكانت فاطمة بنت رسول الله {{صل}} تُرَقص الحسين بن علي رضي اللهّ عنهما وتقول‏:‏ إنّ بُني شِبْه النبي ليس شَبيهاً بعَلي وكان الزُّبير يُرَقص ‏"‏ ولده ‏"‏ عُرْوَة ويقول‏:‏ أَبْيَضُ من آل أبي عَتِيق مُبارَك مِن وَلد الصِّدِّيقِ ألذَّه كما أَلذّ رِيقي وقال أعرابي وهو يُرَقّص ولده‏:‏ أُحبُّه حُبَّ الشحيح مالَهْ قد كان ذاقَ الفقر تمَ نالَهْ إذا يُريد بذلَه بدالة وقال آخر وهو يُرْقص ولده‏:‏ أعرِف منه قلَّة النُّعاس وخِفّةً في رَأسة من راسي وكان رجلٌ من طيء يَقطع الطّريق فمات وتَرك بُنياً رضيعاً فجعلت أُمه تُرقصه وتْقول‏:‏ ياليتَه قد قطع الطّريقا ولم يًرِد في أمره رَفيقاً وقد أخاف الفَجّ والمضيقا فقَلّ أن كان به شفيقاً وقال هارون الرشيد لابنه المعتصم‏:‏ ما فعل وصيفك ‏"‏ فلان ‏"‏ قال‏:‏ مات فاستراح من الكُتَّاب قال أو بلغ منك الكتّاب هذا المبلغ‏!‏ واللهّ لا حضرته أبداً ووجّهه إلى البادية فتعلّم الفصاحة وكان أُمِّيّاً وهو المعروف بابن مارِدة‏.‏
 
وفي بعضِ الحديث أنّ إبراهيم خليل الرَّحمن صلوات الله عليه كان من أغير النَّاس فلمّا حضرَتْه الوفاة دخل عليه ملك الموت في صُورة رجل أنكره فقال له مَن أدخلك داري قال الذي أسكنك فيها منذُ كذا وكذا سنة قال‏:‏ ومَن أنت قال‏:‏ أنا ملك الموت جئت لقَبض رُوحك قال‏:‏ أتاركي أنت حتى أودِّع ابني إسحاق قال‏:‏ نعم فأرسل إلى إسحاق فلمّا أتاه أخبره فتعلّق إسحاق بأبيه إبراهيم وجعل يتقطّع عليه بُكاءً فخرج عنهما ملك الموت وقال‏:‏ يا ربَّ ذبيحُك إسحاق متعلِّق بخليلك فقال له الله‏:‏ قل له إني قد أمهلتك ففعل‏.‏
 
وانحلّ إسحاق عن أبيه ودخل إبراهيم بيتاً ينام فيه فقبض ملك الموت روحَه وهو نائم‏.‏
 
 
===باب الاعتضاد بالولد===
 
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن عَبْدِه زكريَّا ودُعائه إليه في الولد‏:‏ ‏"‏ وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْني فَرداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثين ‏"‏‏.‏
 
وقال‏:‏ ‏"‏ وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانت امرأتي عاقراَ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَليَّاَ‏.‏
 
يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آل يعقُوبَ واجعلهُ رَبِّ رَضِيَّاً ‏"‏‏.‏
 
والمَوَالِي ها هنا بنو العم‏.‏
 
وقال الشاعر‏:‏ مَن كان ذا عَضُد يُدْرِكْ ظُلامته إنِّ الذّليل الذي لَيْستْ له عَضدُ تَنْبو يَدَاه إذا ما قَلَّ ناضرُه وَيَأنَفُ الضّيْم إنْ أثْرَى له عدد العُتبى قال‏:‏ لمّا أسنَّ أبو بَراء عامرُ بن مالك وضَعَّفه بنو أخيه وخَرَّفوه ولم يكن له ولد يَحْميه أنشأ يقول‏:‏ دَفعتُكم عنَي وما دَفْع راحةٍ بشيء إذا لم تَسْتَعِن بالأنامل يُضَعّفني حِلْمي وكثرةُ جَهلكم عليّ وأني لا أصُول بجاهل وقال آخر‏:‏ تَعْدُو الذِّنائب عَلَى من لا كلابَ له وتَتَّقي سَوْرةَ المُستنفِر الحامِي
 
 
===باب في التجارب والتأدب بالزمان===
 
قالت الحُكماء‏:‏ كَفي بالتّجارب تأديباً وبتقلّب الأيام عِظَة‏.‏
 
وقال حبيب‏:‏ أحاولتَ إرشادي فعَقْليَ مُرْشِدي أم استَمْت تَأديبي فدَهري مُؤدبي وقال إبراهيم بن شَكلة‏:‏ من لم يؤدَبه والده أدَّبه الليلُ والنَّهارُ كم قد أذلأَ كَريمَ قَوْم ليس له منهما انتصار مَن ذا يَدُ الدهرِ لم تَنَله أو اطمأَنّت به الدَيار كُلّ عن الحادِثات مُغْضٍ وعِنده للزّمان ثار وقال آخر‏:‏ وما أبقت لك الأيامُ عُذْراً وبالأيَّام يَتَّعظ‏!‏ اللًبِيب وقالوا‏:‏ كفي بالدهر مُخبرا بما مَضى عمّا بَقيِ‏.‏
 
وقالوا‏:‏ كَفي مخبراً لذَوي الألباب ما جَرَبوا‏.‏
 
وقالوا لعيسى بن مَرْيم عليهما السلام‏:‏ مَن أدَّبك قال‏:‏ ما أدَّبني أحد رأيتُ الجَهل قبيحاً فاجتنبتُه‏.‏
 
قالت الحُكَمَاء‏:‏ اصحب الأيام بالمُوادعة ولا تُسابق الدهرَ فتَكْبُو‏.‏
 
وقال الشاعر‏:‏ مَن سابَق الدهر كبا كَبْوةً لم يَسْتَقِلها من خطُا الدَّهرِ فاخطُ مع الدَّهر إذ ما خَطا واجرِ مع الدهر كما يَجْرِي وقال بشّار العُقَيلي‏:‏ أعاذِل إنّ العُسْر سَوف يُفيق وإنّ يَساراً من غدٍ لخلِيقُ وما كنْتُ إلا كالزَّمان إذا صحا صحوتُ وإنْ ماقَ الزَّمان أَموق وقال آخر‏:‏ تحامِق مَع الحَمْقىِ إذا ما لَقيتَهمِ ولاقِهمُ بالجهل فِعل ذوي الجَهْل وَخَلِّط إذا لاقيْت يوماً مخَلَطاَ يُخَلِّط في قول صحيح وفي هَزْل فإنّي رأيتُ المَرْءَ يَشْفي بعَقله كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعقل وقال آخر‏:‏ إن المَقَادِيرَ إذا ساعَدَتْ ألحقت العاجِزَ بالحازِم وقال الآخر‏:‏ ومن أمثالهم في ذلك ‏"‏ قولُهم ‏"‏‏:‏ تطامن لها تَخْطُك‏.‏
 
ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ وتطَامنْ للزَّمان يَجْزُكَ عَفْواً وإن قالوا ذَليلٌ قُلْ ذليلُ وقال حَبيب‏:‏ وكانت لَوْعَةً ثم اطمأنتْ كذاك لكلِّ سائلة قَرَارُ وقال آخر‏:‏ ماذا يُريك الدَهْرُ من هَوانِهِ ازْفِن لِقرْد السَّوْء في زَمانِهِ ولآخر‏:‏ الدهر لا يبقى على حالةٍ لا بُدَّ أن يُقبِلَ أو يدبرْ فإنْ تَلقاك بِمْرُوهه فاصبِر فإنَّ الدَّهرَ لا يَصْبر ولآخر‏:‏ اصبرْ لِدَهْرٍ نال من ك فهكذا مضتْ الدُّهورُ فَرَحاً وحُزْناً مرّةً لا الحُزن دام ولا السُّرورُ ولآخر‏:‏ تَرُوح لنا الدُّنيا بغير الذي غَدَت وتَحْدُث مِن بعد الأمور أمورُ وتجْرِي الليالي باجتماع وفُرْقة وتَطْلُع فيها أنجمٌ وتَغور وتَطْمع أن يَبقى السّرُور لأهله وهذا مُحال أن يَدُوم سُرُور ولآخر‏:‏ سأنتظرُ الأيّامَ فيك لعلّها تَعود إلى الوَصل الذي هو أَجْمَلً باب التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلاً قالت الحكماء‏:‏ إياك وما يُعتذر منه‏.‏
 
وقالوا‏:‏ مَن عَّرَض نَفْسه للتُّهم فلا يأمَن مِن إساءة الظنّ‏.‏
 
وقالوا‏:‏ حَسْبك من شرِّ سماعه‏.‏
 
وقالوا‏:‏ كفي بالقَوْل عاراً وإن كان باطلاَ‏.‏
 
وقال الشاعر‏:‏ ومَن دعا الناسَ إلى ذَمِّه ذمُوه بالحقّ وبالباطل وقال آخر‏:‏ قد قِيل ذلك إن حقَّاً وإن كَذِباً فما اعتذارُك من قَوْلٍ إذا قِيلاَ وقال أَرِسْططاليس للإسكندر‏:‏ إنّ الناس إذا قَدروا أن يقولُوا قدروا أن يفعلوا فاحترس من أن يقولوا تَسْلم من أن يفعلوا‏.‏
 
وقال آمرؤُ القيس‏:‏ وجُرْع اللّسان كجُرح اْلْيَد وقال الأخطل‏:‏ والقول يَنْفذ ما لا تَنفذ الإبرُ وقال يَعقوب الحَمْدونيّ‏:‏ وقد يُرْجَى لجُرح السًيف بُرءٌ ولا بُرْءٌ لما جرح اللّسانُ ولآخر‏:‏ قالوا ولَوْ صحَّ ما قالُوا لفُزْت به مَن لي بتَصْدِيق ما قالوا وتَكْذِيبي
 
 
===باب الأدب في تشميت العاطس===
 
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ قال النبي {{صل}}‏:‏ لا تًشَمِّت العاطس حتى يَحمد الله فإن لم يَحمده فلا تُشَمَتوه‏.‏
 
وقال عليٌّ رضي اللهّ عنه‏:‏ يُشَمَّت العاطس إلى ثلاث فإن زاد فهو داء يَخْرج من رأسه‏.‏
 
عَطَس ابن عمر فقالوا له‏:‏ يرْحمك اللهّ فقال‏:‏ يَهديكم الله ويُصلح بالكم‏.‏
 
وعَطَس عليُّ بن أبي طالب فحمِد الله فقيل له‏:‏ يَرْحمك الله فقال‏:‏ يَغفر الله لنا و لكم‏.‏
 
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ إذا عَطَس أحدُكم فشَمِّتوه ثلاثاً فإن زاد فقولوا‏:‏ إنك مَضنوك‏.‏
 
وقال بعضُهم‏:‏ التَّشْميت مرة واحدة‏.‏
 
 
===باب الإذن في القبلة===
 
عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى عن عبد الله بن عُمر قال‏:‏ كنَّا نُقَبِّل يدَ النبي {{صل}}‏.‏
 
وكيع عن سُفيان قال‏:‏ قَبَّل أبو عُبيدة يدَ عمر بن الخطّاب‏.‏
 
ومن حديث الشعبيّ قال‏:‏ لَقِيَ النبي {{صل}} جعفرَ بن أبي طالب فالتزمه وقبل بين عينيه‏.‏
 
وقال إياسُ بن دَغْفل‏:‏ رأيتُ أبا نَضْرة يُقَبِّل خدَّ الحسن‏.‏
 
الشَّيباني عن أبي الحسن عن مُصعب قال‏:‏ رأيتُ رجلاً دخل عَلَى عليّ بن الحسين رضي الله العُتبي قال‏:‏ دخل رجلٌ على هِشام بن عبد الملك فقبّل يدَه فقال‏:‏ أُفٍّ‏!‏ إنّ العرَب ما قبّلت الأيدي إلا هُلوعاً ولا قبّلتها العجم إلاّ خُضوعاً‏.‏
 
واستأذن رجلٌ المأمون في تَقْبيل يده فقال‏:‏ إنّ القُبلة من المؤمن ذِلّة ومن الذِّمي خديعة ولا حاجةَ بك أن تَذِلّ ولا حاجةَ بنا أن نُخْدَع‏.‏
 
واستأذن أبو دُلامة المهديَّ في تَقْبيل يده فمنَعَه فقال‏:‏ ما مَنَعْتَني شيئاً أيسر على عِيالي فَقْداً مِنْهُ‏.‏
 
الأصمعيُّ قال‏:‏ دخل أبو بكر الهَجريّ على المنصور فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين نَغَض فمي وأنتم أهل بيت بركة فلو أَذِنت لي فقبلت رأْسَك لعلَّ اللهّ كان يُمسك عليَّ ما بقي من أسناني قال‏:‏ اختَر بينها وبين الجائزة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ أهوَن من ذهاب درهم من الجائزة أن لا يبقى في فمي حاكَّة‏.‏
 
فضحك المنصور وأمر له بجائزة‏.‏
 
وقالوا‏:‏ قُبلة الإمام في اليَد وقُبلة الأب في الرأس وقُبلة الأخ في الخدِّ وقبلة الأخت في الصدر وقبلة الزَّوجة في الفَم‏.‏
 
===باب الأدب في العيادة مَرِض===
أبو عمرو بن العَلاء فدَخَل عليه رجلٌ من أصحابه فقال له‏:‏ أَريد أن أُساهرَك الليلةَ قال له‏:‏ أنت مُعافي وأنا مًبْتَلي فالعافية لا تَدَعك أن تَسهر والبلاءُ لا يَدَعني أن أنامِ وأسأل الله أن يَهب لأهل العافية الشُّكر ولأهل البلاء الصَّبر‏.‏
ودَخل كُثير عَزَّة على عبد العزيز بن مَرْوان وهو مريض فقال‏:‏ لو أنّ سُرورك لا يتمّ إلا بأن تَسْلم وأَسْقَم لدعوتُ ربَي أن يَصرف ما بك إليّ ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية ولي في كَنفك النِّعمة‏.‏
فضحِك وأَمر له بجائزة فخرج وهو يقول‏:‏ ونعودُ سيِّدَنا وسيِّد َغَيْرنا ليتَ التشكِّي كان بالعوادِ لو كان يُقْبَل فِدْيةٌ لفَدَيْتُه بالمُصْطفي مِن طارِفي وتلاَدِي وكتب رجلٌ من أهل الأدب إلى عَليل‏:‏ نُبِّئت أنّكَ مُعْتَلّ فقلتُ لهم نَفسي الفِداء لهُ من كلّ مَحْذورِ يا ليتَ عِلّته بي ثَمَّ كان له أجرُ العَليل وأنِّي غيرُ مأجورِ وكتب آخر إلى عليل‏:‏ وَقَيْنَاك لو نُعْطَى الهوى فيك والمُنَى لكان بنا الشَّكْوى وكان لك الأجْرُ وكان شاعرٌ يختلف إلى يَحيى بن خالد بن بَرمك ويمتدحه فغاب عنه أيّاماً لعلّة عرضت له أيهذا الأمير أكرمك الل ه وأبقاك لي بَقاءً طَوِيلاَ أَجَميلاً تراه أصلحك الله لكَيما أراه أيضاً جَميلاً أنَّنَي قد أقمتُ عَنْك قَلِيلاً لا تُرَى مُنْفذاً إليَّ رَسُولا ألذنب فما عَلِمْتُ سوى الشّك ر لما قد أَوْليتنيه جَزِيلا أم مَلالاً فما عَلِمْتًك للحا فظ مِثْلي على الزَمان مَلولا قد أَتى الله بالصَّلاح فما أَن كرت مما عَهِدْتُ إلاّ قَليلا وأَكلتُ الدًّرَّاج وهو غِذاء أفَلت عِلّتي عليه أُفولا وكَأَنِّي قَدِمْتُ قُبْلك آتي ك غداً إن أَجِدْ إليك سَبيلا فكتب إليه الوزير يعتذر‏:‏ دَفَعَ الله عنكَ نائبةَ الده رِ وحاشاك أن تكون عَلِيلاَ أُشْهِدُ الله ما علمتُ وما ذَا كَ من العذر جائزاً مَقْبولا ولَعَلِّي لو قد عَلِمْتُ لعاوَدْ تُكَ شَهراً وكان ذاك قَلِيلا أَعْزِرْ على بأن أراك عَليلا أو أن يكون بك السَّقامُ نزيلاَ فَوَددْتُ أنَي مالكٌ لسَلامَتِي فأُعيرَها لك بُكرةً وأَصيلا فتكونَ تَبقى سالماً بسلامتي وأكونَ مما قد عَرَاكَ بَدِيلا هذا أخٌ لك يَشْتكي ما تشتكي وكذا الخليل إذا أَحَبَّ خَليلا ومَرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صُبيح الكاتب إذا دَخَل عليه يَعوده وقف عند رأسه ودَعا له ثم يَخْرُج فيسأل الحاجبَ عن مَنامه وشرابه وطعامه فلمّا أفاق قال يحيى بنُ خالد‏:‏ ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيلُ ابن صُبيح‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ عِيادة المَرْء يومٌ بين يَوْمين وجَلسةٌ لك مِثْل اللَّحظ بالعين لا تُبْرِمَنَّ مَريضاً في مُساءلة يكفيك من ذاكَ تَسْآل بحرفين وقال بكر بنُ عبد الله لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوسَ عنده‏:‏ المريض يُعاد والصحيح يُزار‏.‏
وقال سفُيان الثّوْريّ‏:‏ حُمْق العُوّاد أشدُّ على المَرضى من أمراضهم يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس‏.‏
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يَعوده في مرضه فسأله عن علّته فلمّا أخبره قال‏:‏ من هذه العلة مات فلان ومات فلان‏.‏
فقال له عمر‏:‏ إذا عُدت المَرْضى فلا تَنْعَ إليهم الموْتى وإذا خرجتَ عَنَّا فلا تَعُد إلينا‏.‏
وقال ابن عبّاس‏:‏ إذا دخلتم على الرَّجل وهو في الموت فبشرُوه ليلقى ربَّه وهو حَسن الظن ولقّنُوه الشهادة ولا تُضْجروه‏.‏
ومَرِض الأعمش فأبرمه الناس بالسُّؤال عن حاله فكَتب قصَّته في كِتاب وجعله عند رأسه فإذا سأله أحدٌ قال‏:‏ عندك القِصَّة في الكتاب فاقرأها‏.‏
ولبعضهم‏:‏ مَرِض الحبيبُ فعُدْتُه فمَرِضتُ من حَذَري عليه وأَتىَ إليَّ يَعُودني فبرِئْتُ من نظري إليه ومَرِض محمدُ بن عبد الله بن طاهر فكتبَ إلى أخيه عبيد اللهّ بن عبد الله‏:‏ إنِّي وجدتُ عَلَى جَفَا ئك من فِعالكَ شاهِدَا إني اعتللت في فَقَدْ تُ سِوى رَسولك عائدا ولو اعتللتَ فلم أَجِدْ سبباً إليك مُساعداً فأجابه‏:‏ كُحِلت مُقْلتي بشَوك القَتاد لم أذق مُذْ حُمِمْتَ طَعْم الرُّقادِ يا أخي الباذل المودّة والنا زلَ من مقلتي مكانَ السواد منَعَتْني عليك رِقَّةُ قلبي من دُخولي إليك في العُوّاد لوْ بِأُذْني سمعتُ منك أنيناً لتَفَرَّى مع الأنين فؤادي ولمحمد بن يزيد‏:‏ يا عَلِيلاً أفْدِيك من ألم العِل ة هل لي إلى اللقاء سبيلُ إن يَحُل‏!‏ دونك الحجابُ فما يح جَب عني بك الضَّنَى والعَويل وأنشد محمدُ بنُ يزيد قال أنشدني أبو دُهْمان لنفسه وقد دَخل على بعض الأمراء يعوده‏:‏ بأَنْفُسنا لا بالطَوارِف والتُلْدِ نَقِيك الذي تُخْفِي من السُّقم أو تُبدِي بنا مَعْشرَ العُوّاد ما بك من أذى فإن أَشفقوا مما أقول فَبِي وَحْدِي وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طَوْق في شَكاة له‏:‏ كم لَوْعةٍ للنِّدَى وكم قَلق للمجد والمَكْرمات في قَلَقِكْ ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شَكاة له يعوده فقال‏:‏ اللهّ يَدفعْ عن نَفْس الإمام لنا وكلّنا للمنايا دُونه غَرَض فليتَ أَنّ الذي يَعروه من مرض العائدين جميعاً لا به المَرَض فبالإمام لنا من غيرنا عِوَض وليس في غيره منه لنا عِوَض فما أُبالي إذا ما نَفْسه سَلِمَتْ لو باد كلُّ عباد الله وانقرضوا وقال آخر في بعض الأمراء‏:‏ واعتلّ فاعتلت الدنيا لعِلّته واعتلّ فاعتلَّ فيه البأسُ والكرمُ لما استقَلَّ أنار المَجد وانقشعت عنه الضَّبابة والأحْزان والسَّقم وبلغ قيساً مجنونَ بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة فقال‏:‏ يقولون ليلى بالعِراق مريضةٌ فما لك تَجْفوها وأنت صديقُ شَفي الله مرْضى بالعِراق فإنني على كلِّ شاكٍ بالعِراق شفِيق ولمحمد بن عبد الله بن طاهر‏:‏ أَلْبسك اللَهُ منه عافيةً تُغْنيك عن دَعْوتي وعن جَلَدكْ وقال غيره‏:‏ يا أملي كيف أنتَ من ألمِكْ وكيف ما تَشْتكيه من سَقَمكْ هذان يومان لي أعدُّهما مُذ لم تَلًح لي بُرُوق مُبْتسمك حسدتُ حُمّاك حين قِيل لنا بأنها قَبَّلَتك فوق فَمك ولسُحَيم عَبد بني الحَسحاس‏:‏ تَجَمّعن شتى من ثلاث وأرْبع ووَاحدةٍ حتى كَمُلنَ ثمانيَا وأقْبلن من أقصى الْخِيام يَعُدْنني ألا إِنما بعضُ العوائد دَائيا وللعباس بن الأحف‏:‏ قالت مَرِضْت فعُدْتها فتبرَّمت وهي الصحيحة والمريضُ العائدُ والله لو قَسَت القلوبُ كقَلبها ما رَقّ للوَلد الضعيف الوَالدُ وقال الواثق‏:‏ لا بك السُقْم ولكنْ كان بي وبنَفْسي وبأُمِّي وأبيِ قيل لي إنك صُدِّعتَ فما خالطت سمعيَ حتى دير بي وقَوْلُكِ للعُوّاد كيف تَرَوْنه فقالوا قَتيلاً قلتِ أهونُ هالكِ لئن سَاءَني أن نِلتِني بمَساءَةٍ لقد سَرَني أني خَطرت ببالكِ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ رُوح النَّدى بين أثواب العُلا وَصب يَعْتنُّ في جَسد للمجْد مَوْصوب ما أنتَ وحدَك مكْسُوًّا شُحوبَ ضَنى بل كلنا بك من مُضنى ومشحوب يا مَن عليه حِجَابٌ من جَلالته وإِن بدا لك يوماً غير محجوب أَلْقَى عليك يداً للضرُّ كاشفةً كَشَّافُ ضرُّ نبيّ الله أيُوبِ ومثله من قولنا‏:‏ لا غَرْو إن نال منك السُّقْمُ والضررُ قد تُكْسف الشمسُ لا بل يُخْسَف القمرُ يا غُرّة القمر الذّاوي غَضارتُها فِداً لنُورك منِّي السمعُ والبَصر إن يُمس جسمك موعوكا بصاليةٍ فهكذا يُوعَكُ الضًرغامة الهَصر أنتَ الحُسام فإِن تُقْلَل مضاربُه فقبلَه ما يُفَلّ الصّارِم الذّكَر رُوح من المَجْد في جُثمان مَكْرُمة كأنما الصُّبح من خَدَّيه يَنْفجر لا غرو إن نال منك السقْمُ ما سأَلاَ قد يُكْسَفُ البدر أحياناً إذا كَمُلا ما تَشْتَكي عِلّةً في الدهر واحدةً إلا اشتكي الجُود من وَجْدٍ بها عِلَلا الأدب في الاعتناق أبو بكر بن محمد قال‏:‏ حدّثنا سعيد بن ‏"‏ إسحاق عن عليّ بن يونس المَدينيّ ‏"‏ قال‏:‏ كنتُ جالساً عند مالك ‏"‏ بن أَنس ‏"‏ فإذا سُفيان بن عُيينة يَستأذن بالباب فقال مالك‏:‏ رجلٌ صالح صاحب سُنَة أدخِلوه فدخل فقال‏:‏ السلامُ عليكم ورحمةُ اللهّ وبركاته فردَ السلام فقال‏:‏ سلامٌ خاصّ وعامّ عليك يا أبا عبد الله ورحمةُ الله فقال مالك‏:‏ وعليك السلامُ يا أبا محمد ورحمةُ اللهّ فصافَحه مالك وقال‏:‏ يا أبا محمد لولا أنها بِدْعة لعانَقْناك فقال سُفيان‏:‏ قد عانق مَن هو خيرٌ منَّا رسول الله {{صل}} فقال مالك‏:‏ جعفراً قال‏:‏ نعم فقال مالك‏:‏ ذاك حديثٌ خاصّ يا أبا محمد ليس بعامّ فقال سفيان‏:‏ ما عمَّ جعفراً يَعُمّنا وما خصَّه يخُصّنا إذا كنَّا صالحين أفتأْذن لي أن أُحدَّث في مجلسك قال‏:‏ نعم يا أبا محمد فقال‏:‏ حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس أنه لما قَدِم جعفرٌ من أرض الحبشة اعتنقه النبي {{صل}} وقبل بين عينيه وقال‏:‏ جعفر أشبه الناس بي خَلْقَاَ
===باب الأدب في إصلاح المعيشة===
قالوا‏:‏ مَن أشبع أرضَه عملاً أشبعت ‏"‏ بيته ‏"‏ خُبزاً‏.‏
وقالوا‏:‏ يقول الثّوب لصاحبه‏:‏ أكرمني داخَلاَ أُكْرِمْك خارجاً‏.‏
وقالت عائشة‏:‏ المَغزَل بيد المرأة أحسنُ من الرُّمح بيد المُجَاهد في سبيل الله‏.‏
وقال عمرُ بن الخطاب‏:‏ لا تَنْهَكوا وجهَ الأرض فإِن شَحمها في وَجْهها‏.‏
وقال‏:‏ فَرِّقوا بين المَنايا واجعلوا من الرأْس رَأْسين‏.‏
وقال‏:‏ أملكوا العَجِين فإِنه أحد الرَّيعين‏.‏
وقال أبو بكر لغُلام له كان يتَّجر بالثياب‏:‏ إذا كان الثوبُ سابغاً فانشرهُ وأنت قائم وإذا كان قَصيراً فانشُره وأنت جالس وإنما البيْع مِكَاس‏.‏
وقال عبد الملك بن مَرْوَان‏:‏ مَن كان في يده شيءٌ فلْيُصْلحه فإنه في زمان إن احتاج فيه فأوّل ما يَبْذُل دينهُ‏.‏
===باب الأدب في المؤاكلة===
قال النبي {{صل}}‏:‏ إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب بيمينه فإنّ الشيطان محمد بن سلاّم الجُمحي قال‏:‏ قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة الهُذليّ‏:‏ أتحضُر طعامَ هذا الشيخ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فصِفه لي قال‏:‏ نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى يستيقظ فيأْذن فنُساقطه الحديث فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع وإن حدَّثَنا أحسنَ الحديث ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ منهن ‏"‏ إلا ‏"‏ إذا وُضعت مائدته ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه قائماً فيقول له‏:‏ ما عِنْدك فيقول‏:‏ عِندي كذا وكذا فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام وتُقْبِل الألوان من هاهنا ومن هاهنا فتوضع على المائدة ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل رَقْطَاء من الْحِمَّص ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق فيأكل مُعذِراً حتى إذا ظنّ أن القوم قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه ثم استأنف الأكل معهم‏.‏
قال ابن أبي بُردة‏:‏ لله ذرُّ عبد الأعلى ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراس‏.‏
حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ‏.‏
فقال له هشام‏:‏ عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ فقال‏:‏ وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي والله لا أكلت عندك أبداً‏.‏
ثم خرج وهو يقول‏:‏ وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ محمد بن يزيد قال‏:‏ أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ ابناه فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في الغَضَّارة وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط من فم الرجل فأكله‏.‏
فالتفتَ إليه الرجلُ فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك لكن والله لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرة‏.‏
وحدّث إبراهيمُ بن السِّنديّ قال‏:‏ كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً ‏"‏ يُسلم من بعيد ويَنْصرف ‏"‏‏.‏
فأتاه يوماً فأدناه ثم دعاه إلى الغَداء فقال‏:‏ قد تغذيتُ‏.‏
فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة فلما انصرف وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاه‏.‏
فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى حالتَه وما ناله إلى عُمومته فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر وقالوا‏:‏ إنَ الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا فقال لهم أبو جعفر‏:‏ إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حُجَّة فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم قالوا‏:‏ بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمع‏.‏
فدعاه فسأله فقال‏:‏ إنّ هذا الفتى كان يأتي فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن قال‏:‏ قد تغدّيتُ وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدًّ خَلّة الجوع ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعل‏.‏
فسكت القومُ وانصرفوا‏.‏
وقال بكرُ بن عبيد الله‏:‏ أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه وأحقُّ الناس بلَطْمتين من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا فيقول‏:‏ لا ها هنا وأحقًّ الناس بثلاث لطمات من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل‏:‏ ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنا‏.‏
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً ثم فسّره فقال‏:‏ أما اُلمكحل فالذي يتعرّق العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قُبّة‏.‏
والمُكَوكب‏:‏ الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه كأنه الكواكب في الطَّست‏.‏
والحرَامد‏:‏ الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقول‏:‏ ما تأكلون فيقولون من بُغْضه‏:‏ سُمًّا فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكم‏.‏
والشُّكامد‏:‏ الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع فأرة‏.‏
والنُّقامد‏:‏ الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيره‏.‏
ومن الأدب‏:‏ أن يبدأ صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ ثم يقول لجلسائه‏:‏ من شاء منكم فليغسل فإذا غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخر‏.‏
وقال العلماء‏:‏ لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه‏.‏
وقال زِياد‏:‏ لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنين‏:‏ ودخل عبد الله بن عبّاس على مُعاوية وعنده زَياد فرحَّب به مُعاوية ووسَّع له إلى جَنْبه وأقبل عليه يُسائله ويُحادثه وزِياد ساكِت فقال له ابن عبّاس‏:‏ كيف حالُك أبا المُغيرة كأنك أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة فقال‏:‏ لا ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين‏.‏
قال ابن عبّاس‏:‏ ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم‏.‏
فقال له مُعاوية‏:‏ كُفَّ عنه يابن عبّاس فإنك لا تَشاء أن تَغْلِبَ إلا غُلبت‏.‏
الشّيبانيّ قال‏:‏ بَصق ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته فوقعت في طَرف البِساط فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه بكُمّه‏.‏
فقال عبدُ الملك بن مَرْوان‏:‏ أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهم‏:‏ الإمام والعاِلم والوالد والضيف‏.‏
وقال يحيى بن خالد‏:‏ مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى فإذا أردتَ أن تقول‏:‏ كيف أصبح الأمير فقُل‏:‏ صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله عن حاله فقُل‏:‏ أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمة‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا زادك المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا ولا تُدِيمن النظر إليه ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍ‏.‏
ولا تتغير له إذا سَخِط ولا تَغتر به إذا رَضيَ ولا تُلْحِف في مسألته‏.‏
وقالوا‏:‏ الملوك لا تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيف‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إِنَّ المُلوكَ لا يُخَاطَبُونَا ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا وفي المَقَال لا يُنَازَعُونَا وفي العطاس لا يُشَمًتونَا وفي الخطاب لا يُكَيَّفُونَا يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا فافْهَم وَصاتي لا تكُن مَجْنُونا وقالوا‏:‏ من تمام خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه ولا يَدَعه يَمشي إليهما ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه ولا يَنْتظر فيه أمرَه ويَتفقد الدَواة قبلَ أن يَأمره ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه وإن رأى بين يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْره‏.‏
وقال أصحابُ معاوية لمُعاوية‏:‏ إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك فأنتْ تَكْره أن تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس فلو جعلتَ لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك فقال‏:‏ علامةُ ذلك أن أقولَ‏:‏ إذا شِئتم‏.‏
وقيل مثلُ ذلك لعبد الملك بن مروان فقال‏.‏
إذا وضعتُ الخَيْزُرانة‏.‏
وما سمعتُ بألطف مَعنى ولا أكملَ أَدَباً ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن شَيْبة وقوله لأبي جَعْفَر‏:‏ أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة وأُجِلّك عن السُّؤال‏.‏
فقال له‏:‏ فلان بن فُلان‏.‏
===باب الكناية والتعريض===
ومن أَحْسن الكِناية اللَطيفة عن المعنى الذي يَقْبحُ ظاهرهُ‏:‏ قيل لعُمَر بن عبد العزيز وقد نَبتَ له حبنٌ تحت أُنْثَيَيْه‏:‏ أين نبَتَ بك هذا الحِبْن قال بين الرانفة والصَّفْن‏.‏
وقال آخر ونَبتَ به حِبْن في إبطه‏:‏ أين نبت بك هذا الحِبْن قال‏:‏ تحت مَنْكِبيّ‏.‏
وقد كَنَى اللهّ تعالى في كِتابة عن الجماع بالمُلامَسة وعن الحَدَث بالغائط فقال‏:‏ ‏"‏ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمِ مِن الغَائِطِ ‏"‏ والغائطَ‏:‏ الفَحْص ‏"‏ وهو المُطْمئن من الأرض ‏"‏ وجَمْعه‏:‏ غِيطان‏.‏
‏"‏ وقالُوا مَا لِهَذا الرّسُول يأكًلُ الطَّعامَ ‏"‏‏.‏
وإنما كنّى ‏"‏ به ‏"‏ عن الحَدث‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْر سًوءٍ ‏"‏‏.‏
فكنّى ‏"‏ بالسوء ‏"‏ عن البرص‏.‏
ودخل الرّبيع بن زياد على النُّعمان بن المُنذر وبه وَضح فقال‏:‏ ما هذا البَياض بك فقال‏:‏ سيف اللهّ جلاه‏.‏
ودخل حارثةُ بن بدر على زياد وفي وَجهه أثر فقال له زياد‏:‏ ما هذا الأثر الذي في وَجْهِك قال‏:‏ رَكِبت فَرَسي الأشقر فجمح بي فقال‏:‏ أما إنك لو رَكِبْت الأشهب لما فعل ذلك‏.‏
فكنّى حارثة بالأشقر عن النبيذ وكنّى زياد بالأشهب عن اللبن‏.‏
إذَا ما مات مَيْتٌ من تميم وسرك أن يَعيش فجِيءْ بزادِ بخُبز أو بتَمْرِ أو بِسَمْنِ أو الشيءِ المُلَفَفِ في البِجَاد تراه يَطُوف في الافاقْ حِرْصاَ ليأكل رأس لُقمان بن عاد ما هذا الشيء الملفّف في البِجاد قال الأحنف‏:‏ السّخينة يا أميرَ المؤمنين‏.‏
قال معاوية‏:‏ واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم - والسّخينة طعام كانت تعمله قريش من دقيق وهو الخَريزة فكانت تُسَب به وفيه يقول حسَّان بن ثابت‏:‏ زَعمْت سَخينة أن ستَغْلِب رَبّها وليُغْلِبنّ مُغالِب الغلابِ وقال آخر‏:‏ تَعشوا من خَزيرتهم فناموا ولمّا عَزل عثمانُ بن عفان عمرو بن العاص عن مِصر وولاها ابن أَبي سَرْح دخل عمرو على عُثمان وعليه جُبّة محشوّة فقال له عُثمان‏:‏ ما حَشْو جُبّتك يا عمرو قال‏:‏ أنا قال‏:‏ قد علمتُ أنك فيها‏.‏
ثم قال له يا عمرو‏:‏ أشعرتَ أن اللِّقاح درّت بعدك ألبانُها فقال‏:‏ لأنكم أعجفتم أولادَها‏.‏
فكنّى عثمان عن خَراج مصر باللّقاح وكنّى عمرو عن جَوْر الوالي بعده وأنه حَرم الرزق أهلَ العطاء ووفَّره على السلطان‏.‏
وكان في المَدِينة رجلٌ يُسَّمى جَعْدة يُرجِّل شعره ويتعرَّض للنساء المِعْزَبات فكتب رجلٌ من أَلاَ أَبلغ أبا حَفْص رسولاً فدًى لك من أَخي ثِقَةٍ إزَارِي قَلائِصُنا هدَاكَ اللهّ إنّا شُغِلنا عنكُم زمنَ الحصارِ يُعَقِّلُهن جَعْد شيظمي وبِئْسَ مُعَقّلُ الذًوْد الظُّؤار فكنَى بالقلائص عن النّساء‏.‏
وعَرض برجل يقال له جَعْدَة‏.‏
فسأل عنه عمرُ فَدُل عليه فجزّ شَعره ونَفَاه عن المدينة‏.‏
وسمعِ عمرُ بن الخطاب امرأة في الطّواف تقول‏:‏ فَمِنْهُنَّ من تُسْقَى بعَذْب مُبرد نًقاخ فتِلْكم عند ذلك قرَتِ ومنهنّ مَن تُسْقَى بأخضرَآجن أُجاجٌ ولولا خشيةُ الله فَرَّت ففهم شكواها فبَعث إلى زَوْجها فوجده متغيِّر الفم‏.‏
فخيَّره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقِها‏.‏
فاختار الدَّراهم فأعطاه وطَلّقها‏.‏
ودخل على زياد رجلٌ من أشراف البصرة فقال له زياد‏:‏ أين مَسكنك من البَصرة قال‏:‏ في وَسطها قال له‏:‏ كم لك من الولد قال‏:‏ تِسْعة فلما خرج من عنده قيل له‏:‏ إنه ليس كذلك في كل ما سألته وليس له من الوَلد إلاّ واحدٌ وهو ساكن في طَرف البَصرْة‏.‏
فلمّا عاد إليه سأله زياد عن ذلك فقال له‏:‏ ما كذبتُك لي تسعة من الولد قَدَمْت منهم ثمانية فهم لي وبقي معي واحد فلا أدري إليَ يكون أم عليَّ ومنزلي بين المدينة والجَبانة فأنا بين الأحياء والأموات فمنزِلَي في وَسط البَصرة قال‏:‏ صدقت‏.‏
الكناية يورى بها عن الكذب والكفر لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلِّى سبيلَه ومَن أبَى يَقْتله فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف ابن عبد الله بن الشّخّير وسعيد بن جُبَير فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية ولم يُصرِّحا بالكفر فَقبِل كلامهما وعفا عنهما وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل‏.‏
وكان مما عرَّض به الشعبي فقال أَصلح الله الأمير نَبا المنزل وأَحْزَن بنا الجَناب واستَحلَسْنا الخوفَ واكتَحلنا السهرَ وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء ولا فَجَرة أقوياء‏.‏
قال صدقَ والله ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا خَلّيا عنه ثم قُدِّم ‏"‏ إليه ‏"‏ مُطرِّف بن عبد الله فقال له الحجّاج‏:‏ أَتُقِرّ على نفسِك بالكفر قال‏:‏ إنّ مَن شق العصا وسَفَك الدماء ونكث البَيْعة وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر قال‏:‏ خليا عنه‏.‏
ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير فقال له‏:‏ أتقِر على ولما وَلي الواثقُ وأَقعد للناس أحمدَ بن أبي دُوَاد للمحنة في القُرآن ودعا إليه الفُقهاء أُتي فيهم بالحارث بن مِسْكين فقيل له‏:‏ أتَشهد أنّ القرآن مخلوق قال‏:‏ أشهدُ أنّ التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن هذه الأربعة مخلوقة ومَدّ أصابعه الأربع فعرض بها وكنَى عن خلق القرآن وخلِّص مُهْجَته من القَتل‏:‏ وعَجز أحمدُ بن نَصر فقيهُ بغداد عن الكِناية فأباها فقُتِل وَصلِب‏.‏
ودَخل بعضُ النسّاك على بعض الخُلفاء فدعاه إلى طَعامه فقال له‏:‏ الصائم لا يأكل يا أميرَ المؤمنين وما أذكِّي نفسي بل الله يُزَكِّي مَن يشاء وإنما كره طعامه‏.‏
الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر قال بينما ابن عِرْباض يَمشي مُقْدِماً لِطيَّتِه إذ استقبلته الخوارج يَجزُّون الناسَ بسيوفهم فقال لهم‏:‏ هل خَرج إليكم في اليهود شيء قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فامضُوا راشِدين فمضَوْا وتركوه‏.‏
ولقي شيطانُ الطاق رجلاً من الخوارج وبيده سيفٌ فقال له الخارجي‏:‏ واللهّ لأقتلنَّك أو تبرأَ من عليّ فقال له‏:‏ أنا من عليّ ومن عثمان بريء ‏"‏ يريد أنه من عليّ وبريء من عثمان ‏"‏ 0 أبو بكر بن أبي شَيْبة قال‏:‏ قال الوليد ‏"‏ بن عُقْبة ‏"‏ على المِنْبر بالكوفة‏:‏ أًقسمُ على مَن سمّاني أَشعرَ بَرْكاً إلا قام ‏"‏ فخرج عنّي ‏"‏ فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال له‏:‏ ومَن هذا الذي يقوم ‏"‏ وقال معاويةُ لصعْصعة بن صوحان‏:‏ اصْعَد المنبر فالْعَن عليَّا ‏"‏ فامتنع من ذلك وقال‏:‏ أو تُعْفيني قال‏:‏ لا‏.‏
فَصَعد المنبر فَحَمِد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ معاشر الناس إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليَّاً فالعَنُوه لعنه الله ‏"‏‏.‏
===الكناية عن الكذب في طريق المدح===
المدائنيّ قال‏:‏ أتي العُرْيان بن الهَيْثم بغلام سكران فقال له‏:‏ مَن أنت فقال‏:‏ أنا ابن الذي لا يَنْزلُ الدَّهرِ قدرُه وإن نزلت يوماً فسوف تَعودُ ترى الناسَ أفواجاَ إلى ضوْء ناره فمنهم قِيامٌ حولها وقُعود فظنّه ولداً لبعض الأشراف فأمر بتخليته‏.‏
فلمّا كُشف عنه قيل له‏:‏ إنّه ابن باقلاني‏.‏
ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرمة ‏"‏ القاضي ‏"‏ فقال له‏:‏ أتعرف هذا الرجل - وكان رُمي عنده بريبة - فقال ‏"‏ نعم ‏"‏ إن له بيتاَ وقَدماً وشرَفاً فخلّى سبيلَه‏.‏
فلمّا انصرف ابن شبرمة قال له ‏"‏ أصحابُه ‏"‏‏:‏ أكنت تعرف هذا الرجل قال‏:‏ لا ولكني عرفُ أنّ له بيتاً يأوي إليه وقدماَ يمشي عليها وشرفُه أُذناه ومَنْكباه‏.‏
وخطب رجل لرجل إلى قوم فسألوه‏:‏ ما حِرْفته فقال‏:‏ هو نخَّاس الدوَاب فزوّجوه فلمّا كُشف عنه وجدوه يبيع السَّنانير فلمّا عنِّفوه في ذلك قال‏:‏ أوَ ما السنانير دواب ما كذبتكم في شيء‏.‏
ودخل مُعلَى الطائي على ابن السَّرِيّ يعوده في مرضه فأنشده شعراً يقول فيه‏:‏ فأُقسم إن منَّ الإله بصحَة ونَال السَّرِيُ بنُ السرِيِّ شفَاءَ لأرتَحِلِّن العِيسَ شهراً بحِجة وأُعتق شُكرإً سالماً وصَفَاء فلمّا خرج من عنده قال له أصحابُه‏:‏ والله ما نعلم عبدَك سالماً ولا عبدك صَفاء فمَن أردت أن تُعتق قال هما هرّتان عندي والحجّ فريضة واجبة فما عَلَيِّ في قولي شيءإن شاء الله تعالى‏.‏
===باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة===
سُئل ابن سيرين عن رجل فقال‏:‏ تُوفّي البارحة‏.‏
فلما رأى جَزَع السائل قال‏:‏ ‏"‏ الله يَتوفَى الأنفسَ حين مَوْتها والتي لم تمُتْ في مَنامها ‏"‏ وإنما أردتُ بالوَفاة النوم‏.‏
ومَرِض زيادٌ فدخَل عليه شُريح القاضي يَعوده‏.‏
فلمِّا خَرج بعث إليه مَسْرُوقُ بنِ الأجْدَع يسأله‏:‏ كيف تركتَ الأمير قال‏:‏ تركتُه يأمر وينهى فقال مَسروق‏:‏ إن شُرَيحاَ صاحبُ تَعرِيض ‏"‏ عَوِيص ‏"‏ وكان سِنان بن مُكمِّل النُميريّ يُساير عُمر بن هبيرة الفَزاريّ يوماً على بَغلة فقال له ابن هُبيرة‏:‏ غُضَّ من عِنان بَغلتك فقال‏:‏ إنها مكتوبة أصلح الله الأمير‏.‏
أراد ابن هُبيرة قول جرير‏:‏ فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمير فلا كَعْباً بلغتَ ولا كلابَا وأراد سِنَان قولَ الشاعر‏:‏ لا تَأمننَ فَزاريَّاً خَلوتَ به على قَلُوصك واكتُبْها بأسْيارِ ومرّ رجلٌ من بني تَميم برجل من بني نُمير على يده بازي فقال التَّميميُ للنّميريّ‏:‏ هذا البازي لك فقال له النُّميري‏:‏ نعم وهو أهدَى من القَطا‏.‏
أراد التميميُّ قولَ جرير‏:‏ أنا البازي المُطِلّ على نُمَيْر أُتِحْتُ لها من الجوِّ انصبابَا وأراد النميري قول الطِّرِمْاح‏:‏ تَميم بطُرْق اللُّؤم أهدَى من القَطَا ولو سَلكت سُبْل المكارم ضَلَّتِ ودخل رجلٌ من مُحارب على عبد الله بن يَزيد الهلاليّ وهو والي أَرْمِينية وقَريبٌ منه غَدير فيه ضفادع فقال عبد الله بن يزيد‏:‏ ما تركتنا شيوخ مُحارب نَنام الليلة فقال له المُحاربيّ‏:‏ أصلح الله الأمير أَو تدْري لمَ ذلك قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأنها أضفَت بُرْقُعاً لها قال‏:‏ قَبّحك اللهّ تَنِقّ بلا شيء شُيوخُ مُحَاربِ وما خِلتُها كانت تَريش ولا تَبْرى ضَفادع في ظَلماءِ ليلٍ تَجاوبتْ فدلَّ عليها صوتُها حَيَّةَ البَحَر وأراد المُحاربيُّ قولَ الشاعر‏:‏ لكلّ هِلاليّ من الًّلؤم بُرْقُع ولابن يزيد بُرقعٌ وقميص ُ وقال مُعاوية لعبد الرحمن بن الحَكم‏:‏ استعْرِض لي هذين الفَرسين فقال‏:‏ أحدُهما أجَشُّ والآخر هَزِيم يعني قولَ النَّجاشيّ‏:‏ ونَجَّى ابن هِنْد سابحٌ ذو عُلالةِ أجشُّ هَزيم والرِّماح دواني فقال مُعاوية‏:‏ أما إنَ صاحبَهما على ما فيه ‏"‏ لا ‏"‏ يُشئب بكَنائنه‏.‏
وكان عبدُ الرحمن يُرْمى بكنَّتِه‏.‏
وشاور زيادٌ رجلا من ثِقاته في آمرأة يتزوَّجها فقال‏:‏ لا خير لك فيها إني رأيتُ رجلاً يُقبِّلها فتركها وخالَفه الرجل إليها وتزوَّجها‏.‏
فلما بلغ زياداً خبرهُ أرسل إليه وقال له‏:‏ أما قلتَ لي إنك رأيتَ رجلاً يُقبِّلها قال‏:‏ نعم رأيتُ أباها يُقبِّلها‏.‏
وقال أعرابيُ لعمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ يا أميرَ المؤمنين احمِلْني وسُحَيما على جمل فقال‏:‏ نَشدتك الله يا أعرابيّ أسُحيم هذازِق قال‏:‏ نعم ثم قال‏:‏ مَن لم يَنْفعه ظنه لم يَنْفعه وودَّع رجلٌ رجلاً كان يُبْغِضُه فقال‏:‏ امض في سّرٍ مِن حِفْظ الله وحِجاب من كلاءته‏.‏
فَفطِن له الرجل فقال‏:‏ رَفع الله مكانك وشَدِّ ظهرك وجَعلك مَنظوراً إليك‏.‏
والشَّيباني قال‏:‏ كان ابن أبي عَتيق صاحبَ هَزْل ولهو واسمُه عبد الله بن محمد بن أبي بَكر ‏"‏ الصدِّيق رضي الله عنهم ‏"‏ وكانت له آمرأة من أشراف قَريش وكان لها فتياتٌ يُغنين في الأعراس والمآتم فأمرت جاريةً منهن أن تغنِّي بشعر لها قالتْه في زَوْجها فتغنّت الجاريةُ وهو يسمع‏:‏ ذَهب الإله بما تَعيش به وقمرتَ لُبك أيما قَمْرِ أنفقت مالك غير مُحْتشم في كلِّ زانية وفي الخمر فقال للجارية‏:‏ لمن هذا الشًعر قالت‏:‏ لموْلاتي‏.‏
فأخذ قرْطاساً فكتبه وخرج به فإذا هو بعبد الله بن عُمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن قف قليلا أُكلمك فوقف عبد الله بن عمر فقال‏:‏ ما تَرى فيمن هجاني بهذا الشعر وأنشد البيتن قال‏:‏ أرى أن تَعفو وتَصفح قال‏:‏ أما وإللهّ لئن لقيتُه لأنيكنَه فأخذ ابن عُمر ينَكُله ويَزْجره وقال‏:‏ قبّحك اللهّ‏.‏
ثم لَقيه بعد ذلك بأيام فلما أبصره ابن عُمر أعرض عنه بوَجْهه فاستقبله ابن أبي عَتيق فقال له‏:‏ سألتُك بالقبر ومَن فيه إلا سمعتَ مني حرفين فولاه قفاه وأنصت له قال‏:‏ علمتَ أبا عبد الرحمن أني لقيتُ قائل ذلك الشعر ونِكْته فصعِق عبد الله ولُبِط به فلما رأى ما نَزَل به دنا من أُذنه وقال‏:‏ أصلحك الله إنها امرأتي ‏"‏ فلانة ‏"‏‏.‏
فقام ابن عمر وقَبل ما بي عَيْنيه ‏"‏ وتبسَّم ضاحكاً ‏"‏‏.‏
===باب في الصمت===
كان لُقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى اله عليه وسلم ‏"‏ مُقْتَبسا ‏"‏ وكان عبداً أسود فوجده وهو يَعمل دِرْعاً من حديد فعجب منه ولم يَرَ درْعاً قبل ذلك فلم يسأله لُقمان عما يَعمل ولم يُخبره داود حتى تمَّت الدِّرع بعد سنة فقاسها داودُ على نفسه وقال‏:‏ زِرْد طافا ليوم قِرَافا‏.‏
تفسيره‏:‏ درع حَصينة ليوم قِتال‏.‏
فقال لُقمان‏:‏ الصمت حُكم وقَليل فاعله‏.‏
وقال أبو عبيد الله كاتبُ المهدىِّ‏:‏ كُن على التماس الحظ بالسكوتِ أحرصَ منك على التماسه بالكلام إِنّ البلاء موَكَلٌ بالمنطق‏.‏
وقال أبو الدَّرداء‏:‏ أنْصف أُذنيك مِن فيك فإنما جُعل لك أُذنان اثنان وفَم واحد لِتسمع أكثر مما تقوله ابن عَوْف عن الحسن قال‏:‏ جلسوا عند مُعاوية فتكلّموا وسكت الأحنف فقال مُعاوية‏:‏ مالك لا تتكلّم أبا بَحْر قال‏:‏ أخافُك إن صدقتُ وأخاف الله إن كذبت‏.‏
وقال المُهلَّب بن أًبي صُفْرة‏:‏ لأن أرى لعقل الرجل فضلاً على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلا على عقله‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن ضاق صدرُه اتسع لسانُه ومَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه ومَن ساء خُلقه قلَّ صديقُه‏.‏
وقال هَرم ابن حيّان‏:‏ صاحبُ الكلام بين إحدى مَنْزلتين إن قصَّرَ فيه خصم وإن أَغْرق فيه أَثِم‏.‏
وقال شَبيب بن شَيبة‏:‏ مَن سمع الكلمة يَكرهها فسكتَ عنها انقطع ضرُّها عنه‏.‏
وقال أكثمُ بن صَيْفيّ‏:‏ مَقْتل الرجل بين فَكًيه‏.‏
وقال جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنهم‏:‏ يَموت الفتَى من عَثْرة بلِسانِه وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل فعثرته مِن فِيه تَرْمِي برأْسه وعثرتُه بالرِّجْل تَبرا على مَهْل وقال الشاعر‏:‏ الْحِلم زَيْنٌ والسكُوتُ سلامةٌ فإذا نَطقتَ فلا تَكُنْ مكثَارَا ما إن نَدِمْتُ على سُكُوتي مَرّةً لكن نَدِمْتُ على الكلام مِرَارا وقال لحسن بن هانيء‏:‏ خَلّ ِجنبيك لِرَامِي واْمض عنه بسَلاَم ربَّ لفظ ساق آجا ل فِئَام وفئام إنما الساِلمُ من أَلْ جَم فاهُ بِلِجَام وقال بعض الحكماء‏:‏ حَظّي من الصّمت لي ونَفْعُه مَقْصور عَلَيَّ وحظّي من الكلام لغيري وَوَباله راجع عَليَّ‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا أعجبك الكلامُ فاصمُت‏.‏
وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز‏:‏ متى أتكلم قال‏:‏ إذا اشتهيتَ أن تَصْمُت قال‏:‏ فمتى أصمُتَ قال‏:‏ إذا اشتهيتَ أن تتكلّم‏.‏
وقال النبي {{صل}}‏:‏ ما أعْطيَ العبدُ شرّا مِن طَلاقة اللّسان‏.‏
وسَمِع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيُخْطىء فقال‏:‏ بكلامك رُزِق الصمتُ المحبة‏.‏
===باب في المنطق===
قال الذين فَضلوا المنطقَ‏:‏ إنما بُعثَت الأنبياء بالكلام ولم يُبْعثوا بالسُّكوت‏.‏
وبالكلام وُصِف فَضْل الصَّمت ولم يُوصف القولُ بالصمت وبالكلام يُؤْمر بالمعروف وينْهى عن المُنْكر ويُعظَّم اللهّ ويُسبَّحِ بحمده ‏"‏ والبيان من الكلام هو الذي مَنَّ الله به على عِباده فقال‏:‏ ‏"‏ خَلَقَ الإنْسَان عَلَّمَهُ البَيَان ‏"‏‏.‏
والعِلْم كلُّه لا يُؤدِّيه إلى أَوْعية القُلوب إلا اللسان فنَفْع المنطق عام لقائله وسامعه ‏"‏ ومن بلّغه ‏"‏ ونَفْع الصمتِ خاص بفاعله‏.‏
وأَعْدلُ شيء قِيل في الصمت والمَنْطق قولهم‏:‏ الكلامُ في الخير كلِّه أفضلُ من الصمت والصمت في الشرِّ كلّه أفضلُ من الكلام‏.‏
وقال عبد الله المُبارك صاحبُ الرقائق يَرْثي مالكَ بن أَنس المَدَنيّ‏:‏ صَمُوتٌ إذا ما الصمتُ زَيَّنَ أَهلَه وفَتِّاق أبكار الكلام المُخَتَّم وَعَى ما وَعَى القرآنُ من كلِّ حِكْمَة وسِيطَت له الآدابُ باللحم والدَّم وقال عمرُ بن الخطّاب‏:‏ ترْك الحركة غَفْلة‏.‏
وقال بكرُ بن عبد الله المُزنيّ‏:‏ طُول الصمت حبُسْة‏.‏
وقالوا‏:‏ الصمتُ نَوْم والكلام يَقَظة‏.‏
وقالوا‏:‏ ما شيء ثًني إلا قَصرُ إلا الكلام فإنه كلما ثُني طال‏.‏
‏"‏ وقال الشاعر‏:‏ الصمت ُشيمته فإنْ أبْدَى مَقاَلاً كان فَصْلاَ أَبدَى السكوتَ فإن تك - لم لم يَدَعْ في القول فَضْلا ‏"‏ محمدُ بن سِيرين قال‏:‏ ما رأيتُ عَلَى آمرأة أجملَ من شَحم ولا رأيتُ عَلَى رَجُل أجمل من فصاحة‏.‏
وقال اللهّ تبارك وٍ تعالى فيما حكاه عنِ نبيّه موسى {{صل}} وآستيحاشه بعدم الفصاحة‏:‏ ‏"‏ وَأخي هرُون هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناَ فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَا يُصَدِّقُني ‏"‏‏.‏
آفات المنطق تكلّمَ ابن السماك يوماً وجارية له تسمع كلامه فلما دخل قال لها‏:‏ كيف سمعت كلامي قالت‏:‏ ما أحسنه لولا أنك تردده قال‏:‏ أردّده ليفهمه من لم يفهمه قالت‏:‏ إلى أن يفهمه من لم يفهمه يملّه من فَهِمَه‏.‏
‏"‏ الأصمعي قال ‏"‏‏:‏ قال مُعاوية يوماً لجلسائه‏:‏ أيّ الناس أفصح فقال رجلٌ من السِّماط‏:‏ يا أميرَ المؤمنين قوم قد ارتفعوا عن رُتَّة العراق وتياسَرُوا عن كَشْكشة بكر وتيامَنُوا عن‏:‏ شَنْشَنة تَغْلب ليس فيهم غَمْغمة قُضاعة ولا طمطمانيّة حِمْير‏.‏
قال‏:‏ مَن هم قال‏:‏ قومُك يا أميرَ المؤمنين قُريش قال‏:‏ صدقتَ فمن أنت قال‏:‏ مِن جَرْم قال الأصمعيّ‏:‏ جَرْم فُصْحَى الناس‏.‏
قال أبو العباس محمد بن يزيد النَحويّ‏.‏
===التَمتمة في المنطق===
التردُّد في التاء والعُقْلة‏:‏ هي التواء اللسان عند إرادة الكلام والحُبْسة‏:‏ تعذُر الكلام عند إرادته واللفف‏:‏ إدخالُ حَرْف في حَرْف والرُّتة‏:‏ كالرتَج تمنُع أول الكلام فإِذا جاء منه شيء اتصل به‏"‏‏.‏
والغَمْغمة‏:‏ أن تسمع الصوت ولا يَبِين لك تقطيعُ الحروف‏.‏
وأما الرَتة‏:‏ فإنها تكون غريزية وقال الراجز‏:‏ يأيُها المُخلّط الأرَتّ ويقال إنها تكثر في الأشراف‏.‏
وأما الغَمْغمة‏:‏ فإنها قد تكون من الكلام وغيره‏.‏
لأنها صَوتُ من لا يُفهم تقطيع حرُوفه‏.‏
قال عنترة‏:‏ ‏"‏ وصاحبِ ناديته فغَمْغما يُريدُ لَبيك وما تكلَّما قد صار من خوف الكلام أَعْجما ‏"‏ والطمْطمة‏:‏ أن يكون الكلام مُشْبِهاً لكلام العجم والُّلكنة‏:‏ أن تَعْترض في الكلام اللغةُ الأعجمية - وسنفسِّر هذا حرفاً حرفاً وما قيل فيه إن شاء الله - واللَّثغة‏:‏ أن يُعدَل بحَرْف إلى حَرْف والغُنّة‏:‏ أن يُشرب الحرفُ صوتَ الخَيْشوم والخُنَة‏:‏ أشد منها والزخيم‏:‏ حَذْف الكلام والفأفأة‏:‏ التردد في الفاء‏:‏ يقال‏:‏ رجل فأفاء تقديره فاعال ونظيره من الكلام ساباط وخاتام يامَيُّ ذات الجَوْرب المنشَقّ أخذتِ خاتامِي بغَير حَقِّ وقال آخر‏:‏ ليس بفأفاء ولا تَمتّام ولا مُحبٍّ سَقَطَ الكلام وأما كشْكشة تميم‏:‏ فإن بني عمرو بن تميم إذا ذَكرتْ كاف المؤنّث فوقفتْ عليها أبدلت منها شينا لقُرب الشين من الكاف في المخرج وقال راجزُهم‏:‏ هل لكِ أن تَنْتفعي وأنفعش فتُدْخلين الَلذْ معي في الَّلذْ مَعَش وأما كسكسة بكر‏.‏
فقوم منهم يُبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميون في الشين‏.‏
وأما طمطمانية حِمْير‏:‏ ففيها يقول عَنترة‏:‏ تَأوي له قُلُص النَّعام كما أوَتْ حِزَقٌ يمانِيَةٌ لأعجمَ طِمْطِم وكان صُهيب أبو يحيى رحمه الله يَرْتضخ لُكْنة روميّة‏.‏
وقال رسول الله {{صل}}‏:‏ صُهيب سابق الروم‏.‏
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخُ لكنة فارسية مِن قِبل زوج أُمه شيرويه الأسواريّ‏.‏
وكان زياد الأعجم وهو رجل من بني عبد القيس‏.‏
يَرْتضخ لكنة أعجمية وأنشد المُهلّبَ في مَدْحه إياه‏:‏ بريد السلطان - وذلك أن بين التاء والطاء نسباً لأن التاء من مخرج الطاء‏.‏
وأما الغُنة فتُستحسن من الجارية الحديثة السن‏.‏
قال ابن الرّقاع ‏"‏ في الظبية ‏"‏‏:‏ تُزْجِي أَغَنّ كأن إبرةَ رَوْقه قلمٌ أصابَ من الدَّواة مِدَادها وقال ابن المُقَفّع‏:‏ إذا كثر تَقْلِيب الِّلسان رقّت حواشيه ولانت عَذَبته‏.‏
وقال العتّابي‏:‏ إذا حُبس اللسانُ عن الاستعمال اشتدَّت عليه مخارج الحروف‏.‏
وقال الراجز‏:‏ كأن فيه لفَفَا إذا نطق من طُول تَحْبِيس وهمّ وأرَقْ
===باب في الإعراب واللحن===
أبو عُبَيدة قال‏:‏ مَرً الشِّعبيُّ بقَوْم من المَوالي يَتذاكرون النحوَ فقال لهم‏:‏ لئن أَصْلحتموه إنكم لأوَّل من أفسده‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ ليته سَمِع لحنَ صَفْوان وخالد بن صَفْوان وخاقان والفتح بن خاقان والوليدِ بن عبد الملك‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان‏:‏ اللحنُ في الكلام أقبح من التَّفتيق في الثوب والجُدَريّ في الوجه‏.‏
وقيل له‏:‏ لقد عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ شَيَّبنى ارتقاءُ المنابر وتوقع اللحن‏.‏
وقال الحجَّاج لابن يَعْمَر‏:‏ أتَسمعني ألحن قال‏:‏ لا إلاّ أنه ربما سَبَقكَ لسانُك ببعضه في آن وآن قال‏:‏ فإذا كان ذلك فعَرِّفني‏.‏
وقال المأمون لأبي عليّ المعروف بأبي يَعْلى المِنْقريّ‏:‏ بلغني أنك أُمِّيّ وأنك لا تقيم الشِّعر وأنك تَلحن في كلامك فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني بالشيء منه وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبي {{صل}} أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر قال المأمون‏:‏ سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك فزدْتني عَيباً رابعاً وهو الجهل ياجاهل إنّ ذلك في النبي {{صل}} فضيلة وفيك وفي أمثالك نَقيصة وإنما مُنع ذلك النبي {{صل}} لنَفْي الظِّنَّة عنه لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب وقد قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ ‏"‏‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروانً‏:‏ الإعراب جمالٌ للوَضِيع واللحن هُجْنة على الشَّرِيف‏.‏
وقال‏:‏ تَعلَّموا النحوَ كما تتعلّمون السًّنن والفرائض‏.‏
وقال رجلٌ للحسن‏:‏ إنَّ لنا إماماً يلحن قال‏:‏ أمِيطوه ‏"‏ عنكم فإن الإعراب حِلْية الكلام ‏"‏‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ النَّحوُ يَبْسُط من لسان الأَلْكن والمرءُ تُكْرمه إذا لم يَلْحَنِ فإذا طلبتَ من العُلوم أَجلَّها فأَجلُّها منها مُقِيم الألسن وقال آخر‏:‏ النَّحو صَعْب وطويل سُلًمه إذا ارتقى فيه الذي لا يَعْلمُهْ زَلَّتْ به إلى الحَضِيض قَدَمُه يُريدُ أن يُعْربه فَيُعْجِمه وقال رجل للحسن‏:‏ يا أبو سَعِيد فقال‏:‏ أحْسَبُ أنّ الدَّوانِق شَغَلتْك عن أن تقول‏:‏ يا أبا سعيد‏.‏
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز جالساً عند الوليد بن عبد الملك وكان الوليد لَحَّاناً فقال‏:‏ ياغلام ادعُ لي صالح فقال الغلام‏:‏ ياصالحا قال له الوليد‏:‏ انُقص ألفاً فقال عمر‏:‏ وأنت يا أميرَ المؤمنين فزِدْ ألفاً‏.‏
ودخل على الوليد بن عبد الملك رجلٌ من أشراف قُريش فقال له الوليد‏:‏ من خَتَنَك قال له‏:‏ فلانٌ اليهودي فقال‏:‏ ما تقول ويحك‏!‏ قال‏:‏ لعلّك إنما تَسْأل عن خَتَني يا أمير المؤمنين هو فلان بن فلان‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروان‏:‏ أضرّ بنا في الوليد حُبُّنا له فلم نُلْزمه البادية‏.‏
وقد يَستثقل الإعرابُ في بعض المواضع كما يستخفّ اللحنُ في بعضها‏.‏
وقال مالك بن أسماء بن خارجة الفَزاريّ‏:‏ منطقٌ بارعٌ وتَلحنُ أحيا ناً وخير الحديث ما كان لحنا وذلك أنه من حَكى نادرةً مُضحكة وأراد أن يُوفِّي حروفها حظَّها من الإعرِاب طَمس حُسنها وأَخرجها عن مِقدارها ألا ترى أن مُزَبِّدا المَدِينيّ أكل طَعاماَ فكظَّه فقيل له‏:‏ أَلا تَقِي قال‏:‏ وما أَقي خبز نقي ولحم طَرِي مَرَتي طالق لو وَجدت هذا فيئاً لأكلته‏.‏
قال‏:‏ وكذلك يُستقبح الإعراب في غير موضعه كما استُقبح من عيسى بن عمر إذ قال وابن هُبيرة وحُكي عن بعض المغربين في الَّلحن أن جارية له غنّته‏:‏ إذا ما سَمعتُ اللومَ فيها رفضته فَيَدْخل من أُذْنٍ ويَخرج مِن أُخرَى فقال لها‏:‏ مِن أُخرِى يا فاعلة أما علّمتِكٍ أن ‏"‏ من ‏"‏ تَخفض‏.‏
وقال رجل لشُرَيح‏:‏ ما تقول في رجل توفي وترك أباه وأخيه فقال له‏:‏ أباه وأخاه فقال‏:‏ كم لأباه وأخاه قال لأبيه وأخيه قال‏:‏ أنت علّمتني فما أصْنَع وقال بعضُ الشعراء وأَدرك عليه رجل من المُتفصّحين يقال له حَفْص لحناً في شِعْره وكان حَفْص به اختلاف في عَينيه وتَشويه في وجهه فقال فيه‏:‏ لقد كان في عَينيك يا حَفْصً شاغلٌ وأنفٌ كمِثْل الطَّود عما تَتَبَّع تَتَبّع لحناً من كلامٍ مُرَقَّش وخَلقْك مبْنيّ من اللَّحْن أَجمع فعينك إقواء وأنفك مكفأ ووجهك إبطاء فما فيك مرقع
===باب في اللحن والتصحيف===
وكان أبو حَنيفة لَحَّاناً على أنه كان في الفُتيا ولُطف النَظر واحدَ زمانه‏.‏
وسأله رجل يوماً فقال له‏:‏ ما تقول في رجل تناول صَخْرة فضرب بها رأسَ رجل فقَتله أتُقيده به قال‏:‏ لا ولو وكان بِشْر المَرِيسيّ يقول لجلسائه‏:‏ قَضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجُوه وأهنؤها فسمع قاسم التَّمّار قوماً يَضْحكون فقال‏:‏ هذا كما قال الشاعر‏:‏ إنّ سليمى والله يَكْلؤها ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤها وبِشر المَرِيسيّ رأْس في الرأْي وقاسم التَّمّار مُتقدم في أصحاب الكلام واحتجاجُه لبِشر أعجبُ من لَحْن بِشر‏.‏
ودخل شَبِيب بن شَيبة على إسحاق بن عيسى يُعزِّيه عن طِفْل أُصِيب به فقال في بعض كلامه‏:‏ أَصْلح الله الأمير إنّ الطفل لا يزال مُحْبنظيا على باب الجنة يقول‏:‏ لا أدْخل حتى يَدخل أبواي قال إسحاق بن عيسى‏:‏ سبحان الله‏!‏ ماذا جئتَ به إنما هو مُحْبنطى أما سمعتَ قول الراجز‏:‏ إني إذا أنشدتُ لا أَحبنطي ولا أُحِبُّ كثرةَ التمطِّي قال شَبيب‏:‏ ألي يقال مثل هذا وما بين لا بتَيها أعلم مني بها فقال له إسحاق‏:‏ وهذه أيضاً أللبصرةَ لابتان يالُكع فأبان بتَقريعه عَوَاره فأخجله فسكت‏.‏
قوله المُحبنطي‏:‏ المُمتنع امتناع طلب لا امتناع إباء وهو بالطاء غير معجمة ورواه شبيب بالظاء المعجمة‏.‏
وقوله ما بين لا بتَيْها خطأ إذ ليس للبصرة لابتان وإنما اللابة للمدينة نوادر من الكلام يقال‏:‏ ماء نُقاخ للماء العذب وماء فُرات وهو أعذب العذب وماء قُعَاع وهو شديد المُلوحة وماء حُراق وهو الذي يَحرق من مُلوحته وماء شرُوب وهو دون العَذب قليلاً وماء مَسُوس وهو دون الشَرُوب وماء شَريب وهو العذب‏.‏
اجتمع المُفضَّل الضّبي وعبدُ الملك بن قرَيب الأصمعي فأنشد المُفضل‏:‏ تُصْمت بالملك تَوْلباً جَذَعا فقال له الأسمعي‏:‏ تولباً جَدِعاً والجَدِع‏:‏ السيء الغذاء‏.‏
فضَجَّ المفَضّل وأَكثر فقال له الأصمعي‏:‏ لو نَفخت في الشَّبُّور ما نفعك تكلّم بكلام الئمل وأَصِب‏.‏
وقال مروان بن أبي حَفْصة في قوم من رُواة الشعر لا يعَلمون ما هو على كثرة استكثارهم من روايته‏:‏ زَوامل للأشعار لا عِلْم عندهم بجيِّدها إلاِّ كعِلْم الأباعرِ لَعمرك ما يَدْري البَعير إذا غدا بأوْساقه أو راح ما في الغرائر
===باب نوادر من النحو===
وإنَّ كِلاباً هذه عَشْر أَبطُنٍ وأنت بَرِىء من قَبائلها العَشْرِ قال‏:‏ فجعلتُ أعجب من قوله عَشْرَ أَبطُن ‏"‏ حيث أنث لأنه عَنَى القبيلة ‏"‏ فلما رأَى عَجبي قال‏:‏ أليس هكذا قولُ الآخر‏:‏ وكان مِجَنّي دون من كنتُ أَتَّقي ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصرُ وقال أبو زيد قلتُ للخليل‏:‏ لم قالوا في تَصْغير واصل‏:‏ أو يصل ولم يقولوا وُوَيصل قال‏:‏ كرهوا أن يُشبه كلامُهم بنبح الكلاب‏.‏
وقال أبو الأسود الدُّؤَلي‏:‏ من العرب من يقول‏:‏ لولاى لكان كذا وكذا‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وكم مَوطنٍ لولاي طِحْتَ كما هَوي بأَجْرامه من قنّة النِّيق مُنْهوِي وكذلكَ لولا أنتم ولولاكم ابتداءٌ وخبره محذوف‏.‏
وقال أبو زيد‏:‏ وراء وقُدَّام لا يصرفان لأنهما مؤنثان وتَصغير قدَّام قُدَّيْدمة وتصغير وراء وُرَيِّئة وقدَّام خمسة أحرف لأن الدال مشدَّدة‏:‏ فأسقطوا الألف لأنها زائدة ولئلا يُصغر اسم على خمسة أحرف‏.‏
أبو حاتم قال‏:‏ يقال أمٌّ بيِّنة الأمومة‏:‏ وعمٌّ بين العُمومة‏.‏
ويقال‏:‏ مَأموم إِذ شُج أم رأسه‏.‏
ورجل مَمُوم‏:‏ إذأ أصابه المُوم‏.‏
وقال المازنيّ‏.‏
يقال في حَسب الرجل أُرْفة ووَصمة وابنة وكذلك يقال للعصا إذا كان فيها عيب‏.‏
ويقال‏:‏ قذِيَت عينهُ إذا أصاجها الرَّمد‏.‏
وقد يقال في التقديم والتأخير مثلُ قول الشاعر‏:‏ شَرَّ يوميها وأغواه لها رَكِبتْ عَنْز بحِدْج حَملاَ يريد‏:‏ ركبت عَنْز ‏"‏ بحِدْج جملا في شرِّ يوميها‏:‏ نصب لأنه ظرف‏.‏
وقد يُسمى الشيء باسم الشيء إذا جاوره‏.‏
قال الفرزدق‏:‏ أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قَمراها والنجومُ الطَّوالعُ قوله‏:‏ لنا قَمراها‏:‏ يريد الشمس والقمر‏.‏
وكذلك قولُ الناس في العُمرين‏:‏ أبي بكر وعمر‏.‏
الرِّياشي‏:‏ يقال أخذ قِضِّتها وكُعْبتها إذا أخذ عُذرتها‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ المَعيون الذي ليس له منظر ولا مخبر والمَعين - الذي قد أصيب بالعين‏.‏
والمعين‏:‏ الماء الظاهر‏.‏
أبو عُبيدة قال‏:‏ سمعت رُؤبة يقول‏:‏ أباريق يريد على الريق‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لقي أبو عمرو بن العلاء عيسى بن عمر‏.‏
فقال له‏:‏ كيف رَحْلك قال‏:‏ ما تزداد إلا مثَالة قال‏:‏ فما هذه المَعيوراء التي تَرْكض يريد ما هذه الحمير التي تَركب‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ إنما يُقال‏:‏ اقرأ عليه السلام‏.‏
وأنشد‏:‏ اقرأ على عَصْر الشَّباب تحية وإذا لقيتَ دداً فَقطْنى من دَدِ وقال الفرزدق‏:‏ وما سبق القيسيُّ من ضَعف عَقله ولكن طَفَت عَلْماء قُلْفة خالدِ ‏"‏ أراد‏:‏ على الماء فحذف ‏"‏‏.‏
وهذا آخر كتاب سيبويه‏.‏
وقال بعض الورَّاقين‏:‏ رأيتُ يا حمَّاد في الصَّيد أرانباً تؤخذ بالأيْدِي إن ذَوي النَّحو لهم أنفسٌ مَعروفة بالمَكْر والكيد يَضرب عبد الله زيداً وما يُريد عبد الله من زيد وأنشد أبو زيد الأنصاري‏:‏ يا قرطَ قُرْطَ حُيَيّ لا أبالكمُ ياقُرطُ إنّي عليكم خائفٌ حَذرُ قُلتُمٍ له اهجُ تَميماً لا أبا لكم في فَم قائِل هذا التُّرابُ والحَجَر فإن بيتَ تميم ذو سمعتَ به بيتٌ به رَأست في عِزِّها مُضر ذو هنا في مكان الذي لا يتغيّر عن حاله في جميع الإعراب‏.‏
وهذه لغة طيء تجعل ذو في مكان الذي‏.‏
حُبًّ المُدَامة ذو سمعتَ به لم يُبق فيّ لغيرها فَضلاَ وبعضُ العرب يقول‏:‏ لا أباك في مكان لا أبا لك ‏"‏ ولأن أبا لك ‏"‏ مضاف‏.‏
لذلك بقيت الألف ولو كانت غير مُعربة لقلت‏:‏ لا أبَ لك بغير ألف‏:‏ وليس في الإضافة شيء يُشبه هذا لأنه حالَ بين المُضاف والمضاف إليه وقال الشاعر‏:‏ أبالموت الذي لا بدُ أني مًلاقٍ لا أباكِ تُخَوِّفينِي وقال آخر‏:‏ وقد مات شَمَّاح ومات مُزَرِّد وأَيّ كريم لا أباكِ يُخلَّدُ وأنشد الفرَّاء لابن مالك العُقيليّ‏:‏ إذا أنا لم أُومَن عليك ولم يَكُن لقاؤُك إلا من وراءُ وراءُ هذا مثل قولهم‏:‏ بين بين‏.‏
وقال محمود الوراق‏:‏ مزَج للصدودُ وصالهنّ فكان أمراً بَيْنَ بَيْنَ وقال الفرزدق‏:‏ وإذا الرّجال رأوا يزيدَ رأيتهم خُضُعَ الرِّقاب نواكسَ الأبصارِ قال أبو العبّاس محمد بن يزيد النَّحويّ‏:‏ في هذا البيت شيء مُسْتطرف عند أهل النَّحو‏.‏
وذلك أنه جمع فاعل على فواعل وإذا كان هكَذا لم يكن بين المُذكر والمُؤنث فَرْق لأنك تقول‏:‏ ضاربة وضوارب ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين وذلك قولهم‏:‏ فوارس وهوالك ولكنّه اضطر في الشّعر فأخرجه عن الأصل ولولا الضرورة ما جاز له‏.‏
وقال أبو غَسَّان ‏"‏ رَفيع بن سَلَمة ‏"‏ تلميِذ أبي عُبيدة ‏"‏ المعروف بدَمَاذ يخاطب أبا عثمان النحويَّ المازنيّ ‏"‏‏:‏ تَفكَّرْتُ في النَّحو حتى مَلِل تُ وأَتعبتُ نفسي له والبَدنْ وأتعبْت بَكْراً وأصحابَه بكلّ المَسائل في كلّ فَن سِوَى أنَّ باباً عليه العَفا ءُ لِلْفاء ياليتَهُ لم يَكُن فكنتُ بظاهره عالماً وكنتُ بباطِنه ذا فَطَن وللواو بابٌ إلى جَنْبه من المَقْت أحسبُهُ قد لُعن إذا قلتُ هاتُوا لما يُقا ل لستُ بآتيك أو تَأتين ‏"‏ أَجِيبُوا لما قِيلَ هذا كذا على النَّصب قالُوا لإضمارِ أن وما إنْ رأيتُ لها مَوْضعاً فأَعْرفَ ما قِيلَ إلاّ بفن
===باب في الغريب والتقعيب===
دخل أبو عَلْقمة على أَعْينَ الطبيب فقال‏:‏ أصلحك الله أَكلتُ من لحوم هذه الجَوازل وطَسِئْت طَسْأَة فأصابني وَجَعٌ بين الوابلة ودأية العُنق فلم يزل يَنْمو ويَرْبُو حتى خالَطَ الخِلْب والشَّراسيف فهل عندك دواء قال‏:‏ نعم خذ خَرْبَقاً وسلفقاً وشِبْرقاً فزَهْزِقه ‏"‏ وزَقْزقه ‏"‏ و اغسله بماء ذَوْب واشربه فقال له أبو عَلقمة‏:‏ لم أفهمكَ فقال‏:‏ ما أفهمتُك إلاَّ كما أَفهمتني‏.‏
وقال له مرّة أُخرى‏:‏ إني أجد مَعْمعة وقَرْقرة فقال‏:‏ أمّا معمعة فلا أعرفها وأما القرقرة‏:‏ فضُراط لم يَنْضَج‏.‏
وقال أبو الأسوَد الدّؤلي لأبي عَلْقمة‏:‏ ما حال ابنك قال‏:‏ أخذته الحمَّى فطَبَختْه طبخاً ورَضَخته رَضْخاً ‏"‏ وفَتَخته فَتْخاً ‏"‏ فتركته فَرْخاً قال‏:‏ فما فعلت زوجتُه التي كانت تُشارّه وتُهارّه وُتمارّه وتزارّه قال‏:‏ طَلَّقها‏.‏
فتزوَّجت بعده فَحَظِيت وبظَيت فقال له‏:‏ قد عَرفنا ‏"‏ حَظِيت ‏"‏ فما ‏"‏ بظَيت ‏"‏ قال‏:‏ حرف من الغريب لم يَبْلغك فقال‏:‏ يابن أخي كل حَرْف لا يعرفه عمُّك فاستره كما تَستر السِّنور خُرْأها‏.‏
ودعا أبو عَلْقمة بحَجَّام يَحْجِمهُ فقال له‏:‏ أنْقِ غَسْلَ المحاجم واشدُد قصب المَلازم وأرْهف ظُبات المشَارِط وأسْرع الوضْع وَعجِّل النَّزع ولْيكُن شَرْطُكم وَخْزا ومَصَّك نَهْزا ولا تَرُدَّن آتياَ ولا تُكْرِهن آبياً‏.‏
فوضع الحجّام مَحاجمه في جُونته ومضى عنه‏.‏
وسَمِع أعرابيّ أبا المَكْنون النَّحوي ‏"‏ في حَلْقته ‏"‏ وهو يقول في دعاء الاستسقاء‏:‏ اللهم ربنا وإلهنا ومولانا فصلِّ على محمد نبيّنا ‏"‏ اللهم ‏"‏ ومن أراد بنا سُوءا فأحِطْ ذلك السوء به كإِحاطة القلائد بأعناق الولائد ثم أَرْسخه على هامَتِه كرسُوخ السِّجِّيل على هام أصحاب الفيل اللهم اسقنا غَيْثاً مُغيثا ‏"‏ مَرِيئا ‏"‏ مَرِيعا مُجلْجلا مُسْحَنفرا ‏"‏ هَزِجا ‏"‏ سَحَّا سفُوحا طَبَقا غَدقا مُثْعَنْجرا ناقعا لعامَّتنا وغيرَ ضار لخاصَّتنا‏.‏
فقال الأعرابيّ‏:‏ يا خليفة نوح هذا الطًّوفان وربِّ الكعبة دعني حتى آوي إلى جَبَل يَعْصمني من الماء‏.‏
وسَمعه مرة أخرى يقول في يوم برد‏:‏ إن هذا يوم بلّة عَصبْصب بارد هِلَّوْف فارتعد الأعرابي وقال‏:‏ والله هذا مما يَزيدني بردا‏.‏
وخطب أبو بكر المَنْكور فأغرب في خُطبته وتقَعَّر في كلامه وعند أصل المِنبر رجلٌ من أهل الكوفة يقال له حَنش فقال لرجل إلى جَنبه‏:‏ إني لأبغض الخطيب يكون فَصيحاً بليغاً مًتَقعِّراً‏.‏
وسمعه أبو بكر المنكور الخطيبُ‏.‏
فقال له‏:‏ ما أحوجك يا حنش إلى مُدَحْرج مَفْتول لي الجلاز لَدْن المَهزّة عظيم الثّمرة تُؤخذ به من مَغْرِز العنق إلى عَجْب الذًنب ‏"‏ فتُعلَى به ‏"‏ فتَكْثُر له وقال حبيب الطائي‏:‏ فما لك بالغريب يدٌ ولكن تَعاطيكَ الغَرِيبَ من الغَرِيبِ أمَا لو أن جهلك عاد عِلْما إذاً لرسختَ في عِلْم الغُيوب ومن قولنا نَمدح رجلا باستسهال اللفظ وحُسن الكلام‏:‏ قَولٌ كأن فَرِيدَه لسِحْر على ذهن الَّلبيب لا يَشمئز على اللّسا نِ ولا يَشِذّ عن القُلوب لم يَغْلُ في شَنِع الًّلغا تِ ولا توَحّش بالغريب سَيف تَقَلّد مثْلَهُ عَطْفَ القَضيب على القَضيب هذا تُجَذّ بهِ الرِّقَا بُ وَذا تُجَذّ به الخُطُوب
===باب في تكليف الرجل ما ليس من طبعه===
قالوا‏:‏ ليس الفِقْه بالتفقُه ولا الفَصاحة بالتفصُّح لأنه لا يَزيد مُتَزيّد في كلامه إلا لنَقْص يَجده في نَفْسه‏.‏
ومما اتفقت عليه العربُ والعجمُ قولهم‏:‏ الطَّبع أمْلك‏.‏
وقال حَفْص بنُ النُّعمان‏:‏ المَرْء يَصْنع نَفْسه فمتى ما تَبْلًهُ يَنْزع إلى العِرْق‏.‏
يأيها المُتحلَي غيرَ شيمته ومِن شَمَائله التَّبديلُ والمَلَقُ ارْجع إلى خِيمك المَعروف دَيْدَنُة إنَّ التخلّق يأتي دُونه الخُلُق وقال آخر‏:‏ وَمَن يَبتدع ما ليس مِن خِيم نَفْسه يَدَعْه ويَغْلِبه على النَّفس خِيمُها وقال آخر‏:‏ كلُّ امرىءٍ راجِعٌ يوماً لِشِيمَته وإنْ تَخَلًقَ أخلاقاً إلى حِين وقال الخرَيمي‏:‏ يُلاَم أبو الفَضل في جُوده وهَلْ يَمْلِك البَحرُ أَلاّ يَفِيضَا وقال أبو الأسود الدُّؤلي‏:‏ ولائمةٍ لامَتكَ يا فَيْضُ في النَّدَى فقُلْتُ لها هل يَقْدَح اللَّوْمُ في البَحْرِ أَرَادَتْ لتَثْني الفَيْضَ عن عادة النَّدَى ومَن ذا الذي يَثْنى السحابَ عن القَطْرِ وقالَ حَبيب‏:‏ تَعَوَّد بَسْط الكفِّ حتى لَوَ انه ثَناها لِقَبْضٍ لم تُجبْه أَنامِلُه وقال آخر‏:‏ وقالوا‏:‏ إن مَلِكاً من ملوك فارس كان له وزير حازم مُجرِّب فكان يُصْدِر عن رأيه ويَتعرف اليُمْن في مَشُورته ثم إنّه هَلَكَ ذلك الملكُ وقام بعده ولدٌ له مُعجَب بنفسه مًستبدٌّ برأيه ‏"‏ فلم يُنزل ذلك الوزيرَ منزلته ولا آهْتَبل رأيَه ‏"‏ ومَشورته فَقيل له‏:‏ إن أباك كان لا يَقِطع أمراً دونه فقال‏:‏ كان يَغْلَط فيه وسأمتحنه بنَفْسي‏.‏
فأرسل إليه فقال له‏:‏ أيّهما أغْلبُ على الرجل‏:‏ الأدبُ أو الطبيعة فقال له الوزير‏:‏ الطبيعةً أغلبُ لأنها أصلٌ والأدب فَرْعٌ وكلّ فَرْع يَرْجع إلى أصله‏.‏
فدعا ‏"‏ الملكُ ‏"‏ بسُفرته فلما وُضعت أقبلت سَنانيرُ بأَيديها الشَّمعُ فوقفت حول السُّفرة فقال للوزير‏:‏ اعتبر خَطَأَكَ وضَعْفَ مَذْهبك متى كان أبو هذه السنانير شَمَّاعاً‏.‏
فسكت عنه الوزير وقال‏:‏ أَمْهلني في الجواب إلى الليلة المُقبلة فقال‏:‏ ذلك لك‏.‏
فخَرج الوزيرُ فدعا بغُلام له فقال‏:‏ التمسْ لي فأْراً واربطه في خَيط وجئْني به فأتاه به الغلامُ فعقده في سَبَنِيَّة وطرحه في كُمّه ثم راح من الغد إلى الملك فلما حضرت سُفرته أقبلت السنانير بالشَّمع حتى حَفّت بها فحلّ الوزيرُ الفأرَ من سَبنيَّته ثم ألقاه إليها فاستبقت السنانيرُ إليه ورَمت الشمعَ حتى كاد البيتُ يضطرم عليهم ناراً‏.‏
فقال الوزيرُ‏:‏ كيف رأيتَ غَلَبة الطَّبيعة على الأدب ورُجوعَ الفَرْع إلى أصله قال‏:‏ صدقت ورجع إلى ما كان أبوه عليه معه فإنما مَدار كل شيء على طبعه والتكلُّف مَذْموم من كل وجه‏.‏
قال الله ‏"‏ تبارك وتعالى ‏"‏ لنبيّه {{صل}}‏:‏ قل يا محمد‏:‏ ‏"‏ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكلِّفين ‏"‏‏.‏
وقالوا‏:‏ من تَطبّعِ بغير طبعه نَزَعَتْه العادةُ حتى تردَّه إلى طَبْعه كما أنّ الماءَ إذا أَسْخَنته ثم تركته ‏"‏ ساعة ‏"‏ عاد إلى طَبعه من البرودة والشجرةَ المُرّة لو طليتها بالعسل لا تُثمر إلا مُرًّا‏.‏
===باب في ترك المشاراة والمماراة===
دخل السّائبِ بن صَيْفيّ على النبي {{صل}} فقال‏:‏ أَتعرفني يا رسول اللهّ قال‏:‏ وكيف لا أعرف شريكي في الجاهليَّة الذي كان لا يُشارى ولا يُمارى‏.‏
وقال ابن المُقفَّع‏:‏ المُشاراة والمُماراة يُفْسدان الصَّداقة القديمة ويَحُلان العقدة الوثيقة وأيسر ما فيها أنهما ذَرِيعة إلى المُنافسة والمُغالبة‏.‏
وقال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليْلى‏:‏ لا تُمارِ أخاك فإمّا أن تُغْضِبه وإما أن تَكْذِبه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ فإيَّاك إيَّاك المِرَاءَ فإنه إلى السَّبّ دَعّاءٌ وللصَّرْم جالبُ وقال عبد الله بن عَبّاس‏:‏ لا تُمار فقيهاً ولا سَفيهاً فإنّ الفقيهَ يَغلبك والسفيه يُؤذيك‏.‏
وقال {{صل}}‏:‏ سِبَاب المُؤمن فُسوق وقِتاله كُفْر‏.‏
===باب في سوء الأدب===
دخل عُرْوة بن مَسعود الثَقفيّ على النبي {{صل}} فجعل يُحدَثه ويُشير بيده إليه حتى تَمسّ لحيته والمُغيرة بن شُعبة واقفٌ على رأس رسول الله {{صل}} بيده السيفُ فقال له‏:‏ اقبض يدك عن لِحْيَة رسول الله {{صل}} قبل أن لا ترجع إليك‏.‏
فَقبض عُروة يده‏.‏
وعُروة هذا ‏"‏ هو ‏"‏ عظيم القريتين الذي قالت ‏"‏ فيه ‏"‏ قريش‏:‏ لَولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجُل من القَرْيتين عظيم‏.‏
ويقال إنه الوليد بن المغيرة المخزوميّ‏.‏
ولما قَدِم وفدُ تميم على النبي {{صل}} ناداه رجل ‏"‏ منهم ‏"‏ من وراء الجدار‏:‏ يا محمد اخرج إلينا‏.‏
فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنّ الذينَ يُنَادُونَكَ مِن ورَاء الحُجُراتِ أكثرُهم لا يَعْقِلُون ‏"‏‏.‏
وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ بنو تميمٍ أكثرُهم لا يَعْقلون ‏"‏‏.‏
وأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏"‏ لا تَجْعَلوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَينَكم كدُعاء بَعْضكم بَعْضاً ‏"‏‏.‏
ونظر أبو بكر ‏"‏ الصدِّيق رضي الله عنه إلى ‏"‏ رجل يَبيع ثَوْباً فقال له‏:‏ أتبيع الثوبَ قال‏:‏ لا عافاك اللهّ قال‏:‏ لقد علمتم لو تتعلّمون‏!‏ قل‏:‏ لا وعافاك الله‏.‏
وخطب الحسن في دَم‏.‏
فأجابه صاحب الدم فقال‏:‏ قد وضعتُ ذلك الدم لله ولوُجوهكم‏.‏
قال له الحسن‏:‏ ألا قلت‏:‏ قد وضعتُ ذلك لله خالصاً وذكر إعرابيّ رجلاً بسوء الأدب فقال‏:‏ إن حدّثتَه سابقَك إلى ذلك الحديث وإن تركتَه أخذ في لمن الدِّيار بقُنَة الحِجْرِ فأنشدها حتى أتى على آخرها‏.‏
فقال له المهديُّ‏:‏ ذَهب والله مَن كان يقول هذا فقال له‏:‏ كما ذَهب والله من يُقال فيه‏.‏
فاستجهله واستَحمقَه‏.‏
ولما رَفع قُطْرُبٌ النحوي كتابه في القران إلى المأمون أمرَ له بجائزة وأذن له‏.‏
فلما دخل عليه قال‏:‏ قد كانت عِدَةُ أمير المؤمنين أرفع من جائزته‏.‏
فغَضب المأمون وهَمَّ به‏.‏
فقال له سهل بن هارون‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ إنه لم يَقُل بذات نَفْسه وإنما غَلب عليه الحَصرَ‏.‏
ألا تراه كيف يَرْشَح جبينُه ويكْسِر أصابعه فَسَكَن غضبُ المأمون واستجهله واستحمقه وكان الحسنُ اللؤلئيّ ليلةً عند المؤمون بالرقَّة وهو يُسامره إذ نَعَس المأمونً والحسن يُحَدِّثه فقال له‏:‏ نَعَست يا أمير المؤمنين‏.‏
فانتبه فقال‏:‏ سُوقيٌ وربِّ الكعبة يا غلام خُذ بيده‏.‏
ودخل أبو النًجْم على هشام بن عبد الملك بأرْجوزته التي أوّلها‏:‏ الحمد لله الوَهُوب المُجْزِل وهي من أجود شِعْره‏.‏
‏"‏ فاستحسنها هشام وأصغى إليها ‏"‏ فلما أتى على قوله‏:‏ والشمسُ في الجوِّ كعَيْن الأحْول غَضب هشام وكان أحولَ فأَمر بصفْع قَفاه وإخراجه‏.‏
ودخل كُثَيِّر عَزّة على يَزيد بن عبد الملك فبينا هو يُحدِّثه إذ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما معنى قول إذا الأرْطَى تَوَسَّد أبرديْه خُدُودُ جوازيء بالرمْل عِينِ فقال له يزيد‏:‏ وماذا على أمير المؤمنين ألا يعرفَ ما قال هذا الإعرابيّ الجِلْف مثلُك واستحمقه وأمر بإخْراجه‏.‏
ودخل كُثَيِّر عَزّة على عبد العزيز بن مَرْوَان فأنشده مِدحَته التي يقول فيها‏:‏ وأنتَ فلا تُفْقَدْ ولا زال مِنْكًم إمامٌ يُحيَّا في حِجَاب مُسَدَّنِ أشَمُّ منَ الغادين في كُلِّ حُلَّة يَميسون في صَبْغ من العَصب مُتْقن لهم أُزُرٌ حُمْرُ الحَواشي يَطَوْنَها بأقدامِهم في الحَضرميّ المُلَسَّن فاستَحْسنَها وقال له‏:‏ سَلْ حاجَتك فقال‏:‏ تُولَيني مكانَ ابن رُمَّانة كاتبك فقال له‏:‏ ويلك‏!‏ ذا كاتبٌ وأنت شاعر فكيف تَقوم مَقامه وتَسُد مَسدَّه فلما خرج من عنده ندم وقال‏:‏ عَجِبتُ لأخذِي خَطَة العَجْز بعدما تَبَينَّ من عبد العزيز قَبُولُها لئن عاد عبدُ العزيز بمثْلها وأَمْكنني منها إذاً لا أقولها ووقف الأحنف بنُ قيس ومحمدٌ بن الأشعث بباب معاوية فأذِن للأحنف ثم لمحمد بن الأشعث فأسرع محمدٌ في مشْيته حتى دَخل قبل الأحنف‏.‏
فلما رآه مُعاوية قال له‏:‏ والله إنِّي ما أذنتُ له قبلَك وأنا أريد أن تَدْخل قبلَه وإنّا كما نَلى أمورَكم كذلك نلى أدبكم ولا يزيد مُتَزَيِّد في أمره إلا لنقْص يجده في نَفْسِه‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروان‏:‏ ثلاثة لا يَنبغي للعاقل أن يَستخِفَّ بهم‏:‏ العُلماء والسُّلطان والإخْوان‏.‏
فمن اْستخفَّ بالعُلماء أفْسد دينَه ومَن استخفَّ بالسُّلطان أفسد دُنياه ومن استخفَّ بالإخوان أفسد مرُوءته‏.‏
وقال أبو الزِّناد‏:‏ كنتُ كاتباً لعُمر بن عبد العزيز فكان يكتب إلى عبد الحميد عامله على المدينة في المَظالم فيُراجعه فيها فكتَب ‏"‏ إليه ‏"‏‏:‏ إنه يُخيَّل إلي أَنِّي لو كتبتُ إليك أن تُعطِي رجلاً شاةٍ لكتبتَ إليّ‏:‏ أضأنا أم مَعزاً ولو كتبتُ إليك بأحدهما لكتبتَ إليَّ‏:‏ أذكراً أم أنثى ولو كتبتُ إليك بأحدهما لكتبت‏:‏ أصغيراً أم كبيراً فإذا كتبتُ إليك في مَظْلمة ‏"‏ فنَفِّذ أمري ‏"‏ ولا تراجعني فيها‏.‏
وكتب أبو جعفر إلى سَلْم بن قُتيبة يأمره بهَدْم دور مَن خَرج مع إبراهيم ‏"‏ بن عبد الله ‏"‏ وعَقْر نخلهم فكتب إليه‏:‏ بأيّ ذلك تَبدأ بالدُّور أو بالنّخل فكتب إليه أبو جعفر‏:‏ إنِّي لو أمرتك بإفساد تَمرهم لكتبتَ‏:‏ بأيّ ذلك نبدأ بالصَّيْحاني أم بالبَرْنِيّ وعَزله وولّى محمد بن سليمان‏.‏
‏"‏ ولمحمود الورّاق‏:‏ كم قد رأيتَ مَساءةً من حيثُ تَطْمع أن تُسَرّا ولربما طَلب الفَتى لأخيه مَنْفعة فَضَرا ‏"‏ ودخل عَدِيّ بن أرْطأة على شرَيح القاضي فقال له‏:‏ أين أنت أصلحك الله قال‏:‏ بينك وبين الحائط قال‏:‏ اسمع منِّي قال‏:‏ قُلْ نَسمع قال‏:‏ إني رَجل من أهل الشام قال‏:‏ مكان سَحيق قال‏:‏ وتزوّجتُ عندكم قال‏:‏ بالرِّفاء والبَنين قال‏:‏ وأردتُ أن أرحِّلها قال‏:‏ الرَّجلُ أحقُّ بأهله قال‏:‏ وشرَطتُ لها دارها قال‏:‏ الشَرْط أَمْلك قال‏:‏ فاحكم الآن بيننا قال‏:‏ قد فعلتُ قال‏:‏ فعلى مَن حكمتَ قال‏:‏ على ابن أمّك قال‏:‏ بشهادة من قال بشهادة ابن أخت خالتك - أراد شُريح إقرارَه على نفسه بالشَّرْطِ - وكان شِريح صاحب تعريض عويص‏.‏
ودخل شريك بنُ عبد الله على إسماعيل وهو يتَبخَر بعود فقال للخادم‏:‏ جئنا بعود لأبي عبد الله‏.‏
فجاء بِبَربط فقال له إسماعيل‏:‏ اكْسِرْه ‏"‏ ويلك ‏"‏‏!‏ وقال لشَريك‏:‏ أخَذُوا البارحةَ في الحرس رجلاً ومعه هذا البَرْبط‏.‏
وقال بعض الشعراء في عيّ الخادم‏:‏ وَمَتَى أدْعها بكأْسٍ من الما ء أتَتْني بصَحْفَة وزبِيبِ وقال حَبيبٌ في بني تَغْلِب من أهل الجَزِيرة يَصفُهم بالجفاء وقِلَةِ الأدب مع كرم النُّفوس‏:‏ لا رِقَّةُ الحَضَرِ اللَّطيف غَذَتْهمُ وتَباعدُوا عن فِطْنة الأعْراب فإذا كشفتَهمُ وجدتَ لديهمُ كَرَم النُّفوس وقِلَّة الآدابَ وكان فَتًى يُجالسُ الشَّعْبيّ وكان كثيرَ الصَّمت فالتفت إلى الشَّعبيّ فقال له‏:‏ إني لأجد في قَفاي حِكِّة أفتأمُرني بالحِجامة فقال الشَعبِيُّ‏:‏ الحمدُ لله الذي حوَلنا من الفِقْه إلى الحِجامة‏.‏
‏"‏ قال‏:‏ وأتى أحمدَ بن الخَصيب بعضُ المتظلّمين يوماً فأخرج رِجْلَه من الرِّكاب فَركله بها‏.‏
فقال فيه قلْ للخليفَةِ يابن عَمِّ محمدٍ اشْكُل وزيرَك إنَّه رَكَّالُ ‏"‏ وبعثَ رجلٌ من التّجار وكيلاً له إلى رَجل من الأشراف يَقْتضيه مالاً عليه فَرَجَع إليه مَضروباَ فقال له‏:‏ ويلك‏!‏ مالك قال‏:‏ سَبك فسببته فضَرَبَني‏.‏
قال‏:‏ وما قال لك قال قال‏:‏ أدخَل الله هَنَ الحِمار في حِرِ أمَ مَن أرسلك قال‏:‏ دَعْني مِن افترائه عليّ وسَبّه لي وأخبرني كيف جعلتَ أنتَ لأيْرِ الحِمار من الحُرْمة ما لمِ تجعله لِحِر أمّ مَن أرسلك هلا قلتَ‏:‏ أيْر الحِمار في هَنِ أم مَن أرْسلك
===باب في تحنك الفتى===
قِيلَ لعُمَر بن الخطَّاب‏:‏ إِن فُلاناً لا يَعْرِف الشَر‏.‏
قال‏:‏ ذلك أحْرَى أن يَقَع فيه‏.‏
وقال سُفْيان الثَورِيّ‏:‏ مَن لم يُحْسن أن يَتفتَى لم يُحسن أن يَتَقَرَّى‏.‏
وقال عمرو بن العاص‏:‏ ليس العاقلُ الذي يعرف الخيرَ من الشر إنما العاقلُ الذي يَعرف خيَر الشرَّين‏.‏
ومثل ذلك قول الشاعر‏:‏ رَضِيتُ ببعض الذل خوفَ جَمِيعه كذلك بعضُ الشَر أهونُ من بعض وسُئِل المُغيرة بن شُعبة عن عُمَر بن الخَطّاب ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏ فقال‏:‏ كان والله له فَضْلٌ يمنعه من أن يَخدع وعَقل يَمنعه من أن يَنخدع‏.‏
قال إياس‏:‏ لستُ بِخَبّ والخب لا يَخْدعني‏.‏
وتَجادَل إياس والحَسنُ - وكان الحَسنُ يَرى كلَّ مُسْلم جائزَ الشهادة حتى تَظْهر عليه سَقْطةٌ أو يُجَرِّحه المشهود عليه وكان إِياسٌ لا يَرى ذلك - فأقبلَ رجلٌ إلى الحَسن فقال‏:‏ إنّ إياساَ رَدّ شهادتي‏.‏
فقام معه الحسنُ إليه فقال‏:‏ أبا وائلة لمَ رددت شهادة هذا المُسلم فقد قال {{صل}}‏:‏ من صلى إلى قبلتتا فهو المُسلم له مالنا وعليه ما علينا فقال له إياسٌ‏:‏ يا أبا سَعيد يقولُ الله تعالى‏:‏ ‏"‏ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداء ‏"‏ وهذا ممن لا نَرْضاه‏.‏
وكان عامرُ بنُ عبد الله بن الزًبَير في غاية الفَضْل والدِّين وكان لا يَعْرف الشرًّ فبينا هو جالسٌ في المَسْجِد إذ أتي بعَطائه فقام إلى مَنْزله فَنَسيه‏.‏
فلما صار في بَيْته ذَكَره فقال لخادمه‏:‏ اذهبْ إلى المَسْجد فائْتني بعَطائي فقال له‏:‏ وأين نجِده قال سُبحان الله‏!‏ أو بَقي أحدٌ يَأخذ ما ليس له وقال أيُّوب‏:‏ مِن أصحابي مَن ارتجى بركةَ دُعائِه ولا أقْبل شهادَته‏.‏
وذًكِرت فاطمةُ بنتُ الحُسين عليهما السلامُ عند عُمَر بن عبد العَزيز وكان لها مُعظِّماً فقيل إنها لا تَعْرِف الشَّرَّ فقال عُمر‏:‏ عَدمُ مَعْرِفتها بالشرِّ جَنَبها الشَّرً‏.‏
وكانوا يَسْتَحْسِنُون الحُنْكة للفَتى والصَّبْوة للحَدَث ويَكرهون الشَّيب قبل أوانه وُيشَبِّهون ذلك بيُبوسِ الثَّمرة قبل نُضْجها وأنِّ ذلك لا يَكُون إلا مِن ضرَر فيها‏.‏
فأنفع الإخوانِ مجلساَ وأكرمُهم عِشْرةً وأشدُهم حِذقاً وأنبَهُهم نَفْساَ مَن لم يكن بالشاطِر المُتَفَتِّك ولا الزًاهِد المتنَسِّك ولا الماجن المتَظَرِّف ولا العابد المتقَشِّف ولكن كما قال الشاعر‏:‏ يا هِنْدً هَلْ لك في شَيْخٍ فَتًى أبداً وقد يكونُ شبابٌ غير فِتْيانِ وقال آخر‏:‏ وفتًى وهْوَ قد أَنافَ عَلى الْخم سِينَ يَلْقالك في ثيابِ غلام وقال آخر‏:‏ فَلِلنُّسْكِ مني جانبٌ لا أًضِيعُه وللَهْو مني والبَطالة جانبُ كهْلُ الأناةِ فَتى الشَّذاة إذا عَدا للرَّوْع كان القَشْعَمَ الغِطْرِيفَا ومن قولنا ‏"‏ في هذا المعنى ‏"‏‏:‏ إذا جالسَ الفِتْيانَ ألفيتَه فتًى وجالسَ كَهْلَ الناس ألفيتَه كهْلاَ ونظيرُه قول ابن حِطّان‏:‏ يوماً يَمانٍ إذا لاقيتَ ذا يَمن وإن لَهقيت مَعديا فَعَدْناني وقولُ عمران بن حِطّان هذا هذا يَحتمل غيرَ هذا المعنى إلا أنّ هذا أقربُ إليه وأشبهُ به لأنّه أراد أنه مع اليَمانيّ يمانيّ ومَع العَدناني عدناني فيُحتمل أنّ ذلك لخوف منه أو مُساعدة وكل ذلك داخلٌ في
===باب الحنكة والحذق والتَجربة‏===
وقالوا‏:‏ اصحبْ البَرَّ لتتأسَى به والفاجرَ لتتحنَك به‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن لم يَصْحب البر والفاجرَ ‏"‏ ولم ‏"‏ يؤدّبه الرَّخاءُ والشِّدة مَرة ولم يَخْرج منِ الظّل إلى الشَمس مَرة فلا تَرْجُه‏.‏
ومن هذا قولهم‏:‏ حَلب فلانٌ الدهرَ أشْطُره وشرِبَ أفاويقَه إذ فَهِمَ خيرَه وشرَّه فإذا نَزَلَ به الغِنى عَرَفه ‏"‏ ولم يُبْطره ‏"‏ وإذا نَزَل به البَلاء ‏"‏ صَبر له و ‏"‏ لم يُنكرِه‏.‏
وقال هُدْبة العُذْريّ‏:‏ ولستُ بِمفراحَ إذا الدهرُ سرًّني ولا جازع و مِنْ صرفه المُتَقَلِّبِ وقال عبدُ العزيز بن زرارةَ في هذا المعنىِ‏.‏
قَد عِشْتُ في الدَّهر أطواراً على طُرُقٍ شتَى فصادفتُ منه اللِّينَ والفَظَعَا كُلا بَلوتُ فلا النَّعماءُ تُبْطِرني ولا تَخشَعتُ مِن لأوائِه جَزَعا لا يملأ الأمر صَدْرِي قبل وَقعته ولا أَضِيقُ به ذَرْعاً إذا وَقَعا وقال آخر‏:‏ فإِن تَهْدِمُوا بالغَدْرِ داري فإنّها تُراثُ كَرِيمٍ لا يخافُ العَوَاقِبَا إذا هَمَّ ألقَى بين عَيْنيه عَزْمه وأضرب عن ذِكْر العَواقب جانِبا ولم يَسْتشرِ في أَمره غيرَ نَفْسه ولم يرْضَ إلا قائمَ السَّيف صاحِبا سأغسِلُ عنَي العارَ بالسيف جالباً عليّ قضاءُ الله ما كان جالباً وسئِلت هِنْدُ عن مُعاوية فقالت‏:‏ والله لو جُمعت قريشٌ من أقطارها ثم رُمِي به فِي وسَطها لخرَج من أي أَعْراضها شاء‏.‏
وهذا نظَير ‏"‏ قول الشاعر ‏"‏‏:‏ برِئت إلى الرَّحمن من كلِّ صاحبٍ أصاحبهُ إلا عِراكَ بن نائل وعِلْمي به بين السِّماطين أنَهَ سَيَنْجو بحقٍّ أوسينْجو بباطل وما كنتُ أرضىَ الجهلَ خِدْناً وصاحباَ ولكنني أرضى به حين أحرج فإن قال قومٌ إنّ فيه سماجةً فقد صَدَقوا والذُّلِّ بالحُرِّ أَسْمج وِلى فَرَسٌ للِحلْم بالحم مُلْجَمٌ ولي فَرس للجَهْل بالجهْل مُسْرج فمنْ شاء تقويمي فإني مُقوَّمٌ ومَن شاء تَعْويجي فإني مُعَوَّج وقال مُعاوية في سُفيان بن عَوف الغامديّ‏:‏ هذا الذي لا يكَفكف من عَجَلة ولا يُدْفع في ظَهْره من بُطْء ولا يُضرب على الأمور ضرْب الجَمل الثَّفَال‏.‏
وقال الحسنُ بن هانئ‏:‏ مَن لِلجذَاع إذا المَيدانُ ماطَلَها بشَأو مُطلع الغايات قد قَرَحَا من لا يُغَضغض منه البُؤسُ أنملةً ولا يُصعِّد أطرافَ الربىَ فَرَحَا وقال جرير‏:‏ وابنُ اللَبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَن لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيس
===باب في الرجل النفاع الضرار===
يقال إنه لخرَّاج وَلاّج وإنه لحًوَّل قُلّب إذا كان مُتصرِّفاً في أُموره نَفّاعاً لأوليائه ضرَّاراً لأعدائه‏.‏
وإذِا كان على غير ذلك قيل‏:‏ ما يُحْلِي ولا يُمرِّ ولا يُعدّ في العِير ولا في النَّفير وما فيه خير يُرْجَى ولا شرّ يُتَّقى‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ لاَ يرضى العاقلُ أن يكون إلا إماماً فيِ الخير والشرّ‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إذا أنت لم تَنْفع فضرّ فإنما يُرَجَّى الفَتى كيما يُضرَّ وَيَنْفَعا وقال حبيب‏:‏ ولم أرَ نَفْعاً عِند من ليس ضائراً ولم أَرَ ضرًّا عند مَن ليس يَنفعُ وسمع إعرابيٌّ رجلاً يقول‏:‏ ما أتى فلانٌ بيوم خيرٍ قطُّ فقال‏:‏ إن لا يكُن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وما فعلت بنو ذُبيانَ خيراً ولا فعلتْ بنو ذُبيان شرَّا وقال آخر‏:‏ قَبَح الإلهُ عداوةَ لا تُتَّقى وقَرابةً يُدْلَى بها لا تَنفَعُ وفخر رجال فقال‏:‏ أبي الذي قَتل الملوك وغَصَب المنابر وفعل وفعل‏.‏
فقال له رجل‏:‏ لكنه أسِر وقتل وصُلب‏.‏
فقال‏:‏ دَعْني من أسره وقَتْله وصَلْبه أبوك ‏"‏ هل ‏"‏ حدّث نفسَه بشيء من هذا قطُّ‏.‏
وقال رجل ‏"‏ من العرِب ‏"‏ يذُمّ قومه وأغارت بنو شَيبان على إبله فاستنجدهم فلم لو كنتُ من مارنٍ لم تَسْتَبح إبلي بنو اللّقيطة من ذهل بن شَيْباناً إذاً لقام بنَصْري مَعْشَرٌ خشُنٌ عند الحَفيظة إن ذو لوثة لانا قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيه لهم طارُوا إليه زَرافات وَوُحْدانا لا يَسألون أخاهم حين يَنْدُبهم في النَائبات على ما قال بُرْهانا لكنَّ قَوْمي وإن كانوا ذَوي عدَدٍ ليسُوا من الشر في شيء وإن هانا ‏"‏ يَجْزُون من ظُلْم أهل الظُّلم مَغْفِرَةَ ومِن إسَاءَةِ أهْل السُّوءِ إحْساناً ‏"‏ كأنّ رَبَّك لم يَخْلُقْ لخشيته سواهُم من جميع الناس إنسانا ‏"‏ فليت لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا شَنُّوا الإغارَة فُرْساناً ورُكْبانا ‏"‏ ولم يُرد بهذا أنه وَصَفهم بالحِلْم ولا بالخَشْية لله وإنما أراد به الذلَ والعَجز كما قال النَجاشي في رَهْط تَميم بن مُقْبِل‏:‏ قَبيلَتُه لا يَخْفِرون بِذِمَّة ولا يَظلمون الناسَ حبةَ خَرْدَل ولا يَرِدون الماءَ إلا عَشيةً إذا صَدَرَ الوُرَّادُ عن كلِّ مَنْهَل وكل من نَفع في شيء فقد ضَرّ في شيء‏.‏
وكذلك قول أشْجِع بن عمرو‏:‏ يَرْجو ويَخْشىَ حالَتَيْك الوَرَى كأنَكَ الجنَّة والنَارُ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ من يَرْتجي غيرَك أو يَتَّقي وفي يَدَيْكَ الجودُ والباسُ ما عِشتَ عاشَ الناسُ في نِعْمة وإن تَمُتْ ماتَ بك النَاس وقال آخر‏:‏ وليس فَتَى الفِتْيانِ مَن راحَ واغْتَدَى لشُرْبِ صَبُوح أو لِشرْب غَبُوقِ ولَكِنْ فَتَى الفِتْيانِ مَن راح واغتَدَى لضرًّ عدوٍّ أو لِنَفْع صدِيق
===باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم===
في كتاب للهِنْد‏:‏ مَن لمِ يَرْكَب الأهوالَ لَم يَنَل الرًغائبَ ومَن ترك الأمرَ الذي لعلّه أن يَنال منه حاجَتَه مخافة ما لعَلّه يُوِقَّاه فليسَ ببالغٍ جَسيماً وإنّ الرَّجل ذا المروءة ليكُون خاملَ الذِّكْر خافض المَنْزلة فَتَأْبى مُروءتهُ إلا أن يَسْتَعْلَى ويَرْتَفع كالشُعلة من النار التي يَصُونها صاحبُها وتأبيَ إلا اْرتفاعاً‏.‏
وذو الفَضْل لا يَخفي فَضله وإن أخفاه كالمِسْك الذي يُخْتم عليه ثم لا يمْنَع ذلك رِيحَه من التَذكّي والظُّهور‏.‏
ومن قَوْلنا في هذا المعنى‏:‏ ليسَ يَخفي فَضْلُ ذي الفض ل بزُورٍ وبإفْك والذي بَرز في الفَضل غني عن مُزَكِّي رُبما غُمِّ هِلالُ ال فِطْرفي لَيْلة شَكْ ثم جَلِّى وجهَه النُّو رُ فَجَلِّى كلَّ حَلْك إنَّ ظهر اليمِّ لاتَرْ كَبه من غير فُلْك ونظامَ الدُرّ لا تع قِده مِن غير سِلْك ليسَ يصفو الذهب الإبريزُ إلا بعد سَبْك هَذه جُمْلَة أَمْثا لٍ فمن شاء فَيَحْكى أبطلتْ كلِّ يَمانيًّ وشاميٍّ ومَكّي ليس ذا من صوْغ عَيْنيِّ ولا مِن نَسْج عَكِّي وقالوا‏:‏ لا يَنبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدَى منزلتين‏:‏ إما في الغاية من طَلب الدنيا وإما في الغاية من تَرْكها‏.‏
ولا ينْبغي له أن يُرى إلا في مكانين‏:‏ إمَّا مع المًلوك مكَرماً وإمَّا مع العُبَّاد مُتبتَلا‏.‏
ولا يُعَد الغُرْم غُرْماً إذا ما ساق غنْماً ولا الغُنْمُ غُنْما إذا ما ساق غُرْما‏.‏
ونظر معاويةُ وقال حبيبٌ الطائيّ‏:‏ أَعاذِلَتي ما أخشنَ اللَّيْلَ مَرْكباً وأَخشن منه في المُلِمَّات راكِبُه ذَرِيني وأهوال الزَّمان أقاسِها فأهوالُه العُظْمى تَليها رغائبُه وقال كَعْبُ بنُ زًهير‏:‏ ولَيْسَ لمن لم يَرْكب الهوْلَ بُغْيةٌ وليس لِرَحْل حَطًه الله حامِلُ إذا أنتَ لم تُعْرِضْ عنِ الجهل والخَنَا أصبتَ حَليماً أو أصَابَكَ جاهل وقال الشًماخ‏:‏ فتٍى ليس بالراضي بأَدنىَ مَعِيشةٍ ولا في بُيوت الحَيِّ بالمُتَولِّج فَتى يملأ الشِّيزَى ويُرْوِي سِنَانَه ويَضْرِبُ في رأس الكَميِّ المدَجَّج وقال امروء القَيْس‏:‏ فَلو أن ما أَسْعَى لأدنىَ مَعيشةٍ كَفَاني ولم أطلبْ قليلٌ منَ المال ولكنَّما أسعَى لمَجْدٍ مُؤَثَّل وقد يُدْرِك المجدَ المُؤَثَّل أمثالي وقال آخر‏:‏ لولا شَماتةُ أعداء ذوي حَسَدٍ أو أن أنالَ بِنَفْعي مَن يُرَجِّينِي لكنْ مُنافسةُ الأكفاء تَحْمِلني على أمورٍ أَراها سوف تُرْديني وكيفَ لا كيفَ أنْ أرضىَ بمنزلة لا دِينَ عندي ولا دُنْيا تُواتيني وقال الحُطَيئة في هجائه الزِّبْرِ قان بن بَدْر‏:‏ دعَ المَكارِمَ لا تَرْحل لبُغْيتها واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطَاعمُ الكاسي فاستعدَى عليه عمرَ بنَ الخطاب وأَسمعه الشعرَ فقال‏:‏ ما أَرى مما قال بأساً قال‏:‏ والله يا أميرَ المُؤمنين ما هُجِيت ببيت قطًّ أَشدً‏!‏ ‏"‏ عليَّ ‏"‏ منه‏.‏
فأرسل إلى حَسَّان فسأله‏:‏ هل هجاه فقال‏:‏ ما هجاه ولكنه سَلَح عليه‏.‏
وقد أخذ هذا المعنى من الحُطيئة بعضُ المُحْدَثين فقال‏:‏ إنِّي وجدتُ مِن المكارم حَسْبُكمٍ أنْ تَلْبسوا خَر الثِّياب وتشْبَعوا فإذا تُذوكرت المكارمُ مَرَّة في مَجلِس أنتم به فَتَقنّعوا وقالوا‏:‏ مَن لم يَرْكب الأهوال لم يٍنل الرَّغائبَ ومَن طلب العظائمَ خاطرَ بعَظيمته‏.‏
وقال يزيدُ بن عبد الملك لما أتي برأس يزيدَ بنِ المُهلّب فنال منه بعضُ جلسائه فقال‏:‏ إنّ يزيدَ ركِبَ عَظيماً وطَلب جَسيماً ومات كريماً‏.‏
وقال بعض الشعراء‏:‏ لا تَقْنعن ومَطْلَب لك مُمْكن فإذا تضايقت المطالبُ فاقْنع ومما جُبِلِ عليه الحُر الكريم أن لا يَقنع من شرف الدنيا والآخر بشيءٍ مما انبسط له أملاً فيما هو أسنىِ منه درجةً وأرفعُ منزلةً ولذلك قال عمرُ بن عبد العزيز لدًكين الرِاجز‏:‏ إنّ لي نفساَ تَوَّاقة فإذا بلغك أنِّي صِرْتُ إلى أشرف مِن منزلتي ‏"‏ هذه ‏"‏ فبعَينٍ ما أَرَينَّك - قال له ذلك وهو عامل ‏"‏ المدينة ‏"‏ لسليمان بن عبد الملك - فلما صارت إليَه الخلافةُ قَدِم عليه دُكَين فقال له‏:‏ أنا كما أعلمتُك أنّ لي نَفْساً تَوَاقة وأنّ نَفْسي تاقت إلى أشرف منازل الدُّنيا فلما بلغتها وجدتُها تَتوق إلى أشرف منازل الآخرة‏.‏
ومن الشاهد لهذا المعنى أنَّ موسى صلوات الله عليه - لما كلمه الله ‏"‏ عزَّ وجل ‏"‏ تكليماً - سأله النظرَ إليه إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرفَ من المنزلة التي نالها فانبسط أملُه إلى ما لا سبيلَ إليه ليُستدلّ بذلك على أنّ الحرّ الكريم لا يَقْنع بمنزلةٍ إذا رأى ما هو أشرفُ منها‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ والحرُّ لا يَكْتفي من نَيْل مكْرُمةٍ حتى يَرومَ التي من دُونها العَطَبُ يَسْعَى به أملٌ من دونه أجلٌ إنْ كفَّه رَهَب يَسْتَدْعِه رَغَب لذاك ما سالَ مُوسى ربّه أرِني أنظُرْ إليكَ وفي تسأله عَجَب يَبْغى التزيّدَ فيما نال من كرم وَهْو النَّجِيُّ لديه الوَحْيُ والكُتُبُ وقال تأبّط شرًّا في ابن عمّ له يَصفه برُكوب الأهوال وبَذْل الأموال‏:‏ وإني لمُهْدٍ‏.‏
مِن ثَنائي فقاصدٌ به لابن عم الصَدْقِ شُمْس بنِ مالكِ قَليلُ التَّشكِّي للْمًهِمِّ يُصيبُه كثيرُ النَوى شَتَى الهَوَى والمسالك يَظَلُّ بمَوْماة ويسمى بغيرها وَحيداً ويعْرورِي ظُهورَ المهالك ويسبق وَفْدَ الرِّيحِ من حيثُ يَنْتحى بمُنْخَرِق من شَده المُتَدَارك إذا خاط عينَيْه كرَى النَّوْم لم يزل لَه كاليءٌ من قلب شَيْحانَ فاتِك ‏"‏ ويَجعل عينَيْه رَبيئة قلبه إلى سَلَّةٍ من جَفْن أخلَقَ باتك ‏"‏ إذا هَزَّه في عَظْم قِرْنٍ تَهلَّلت نَواجذُ أفواه المَنايا الضّواحك وقال غيرُه من الشعراء ‏"‏ بل هي له ‏"‏‏:‏ إذا المرءُ لم يَحْتل وقد جَدَّ جِدُّه أضاعَ وقاسىَ أمرَه وهو مُدْبِرُ ولكنْ أخو الحَزْم الذي ليس نازِلاً به الخطبُ إلا وللقَصْد مبْصِر فذاك قَريعُ الدّهر ما عاش حُوّل إذا سُدّ منه مِنْخر جاش مِنْخر
باب في الحركة والسكون
قال وَهْب بن منبِّه‏:‏ مكتوب في التوراة‏:‏ ابن آدم خلقتك من الحركة ‏"‏ للحركة ‏"‏ فتحرّك وأنا معك‏.‏
وفي بعض الكتب‏:‏ ابن آدم‏:‏ أمدُد يدك إلى بابٍ من العمل أفتح لك باباً من الرِّزْق‏.‏
وشاور عُتْبة بن رَبيعة أخاه شَيْبةَ بن ربيعَة في النُّجْعة وقال‏:‏ إني قد أجدبتُ ومن أجدب انتجع‏.‏
فذهبت مثلاً‏.‏
قال له شَيبة‏:‏ ليس من العِزِّ أن تَتَعَرَّض للذلّ‏.‏
فذهبت مثلاً‏.‏
‏"‏ فقال عُتبة‏:‏ لن يَفرِسَ الليثُ الطًّلا وهو رابض فذهبت مثلاً ‏"‏ أخذه حبيب فقال‏:‏ أراد بأن يَحْوِي الغِنَى وهو وادعٌ ولن يَفْرِس اللَّيثُ الطًّلا وهو رابضُ وقيل لأعشى بكر‏:‏ إلى كم هذه النّجعة والاغتراب ما تَرضى بالخَفْض والدَّعة فقال‏:‏ لو دامت الشمسُ عليكم لَمَلِلْتُمُوها‏.‏
أخَذه حبيبٌ فقال‏:‏ وطُول مُقام المَرْءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ لديباجَتَيه فاغتَرِبْ تَتَجَدَّدِ فإني رأيتً الشمسَ زِيدتْ مَحَبةً إلى الناس إِذ ليستْ عليهم بِسَرْمدِ قال أبو سَعيد أحمدُ بن عبد الله المَكيّ‏:‏ سمعتُ الشَافِعيَّ يقول‏:‏ قلت بيتين من الشِّعر وأنشدنا‏:‏ إني أرى نَفْسي تَتُوق إلى مِصر ومِن دونها خَوْض المَهامه والقَفْرِ فوالله ما المحرِي أللْخَفْض وَالغِنَى أقاد إليها أم أقاد إلى قَبْري فدخل مصر فمات‏.‏
وقال مُوسى بن عِمْران عليه السلام‏:‏ لا تذُّمُوا السفرَ فإني أدركتُ فيه ما لم يُدْرك أحدٌ‏.‏
يريد أنّ الله عزَّ وجلّ كلَّمه فيه تكليماً‏.‏
وقال المأمون‏:‏ لا شيء ألذُ من سفر في كِفاية لأنّك في يوم تَحل مَحلة لم تَحُلَّها وتُعاشر قوماً لم لا يَمنعنَّك خَفْضُ العيش في دَعة من أن تُبدِّل أوطاناً بأوطانِ تَلْقى بكل بلادٍ إن حَللْتَ بها أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان مع أن المُقام بالمقام الواحد يُورث المَلالة‏.‏
وقال النبي {{صل}}‏:‏ زُرْغِبًّا تَزْدَدْ حُبا‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ لا تُنَال الرّاحةُ إلا بالتَعب ولا تُدْرك الدَعة إلا بالنَصب‏.‏
وقال حبيب‏:‏ بَصُرْتَ بالراحة الكُبرى فلم تَرها تُنال إلا على جِسر من التَعَب وقال أيضاَ‏:‏ على أَنَّني لم أَحْوِ وَفْرًا مُجَمَّعا قَرٍرْتُ به إلا بشَمْل مُبَددِ ولم تًعْطِني الأيامُ نَوْماً مُسكِّناً ألذّ به إلا بنَوْم مشرِّد وقال أيضَاَ‏:‏ وَرَكْب كأطْراف الأسِنَّةِ عرّسُوا على مثلها والليلُ تَسْطُر غَياهبُه لأمرٍ عليهم أن تَتمّ صدُورُه وليس عليهم أن تتمّ عواقبُه وبعدُ فهل يجوز في وَهْم أو يتمثَّل في عقل أو يصحُّ في قياس أن يُحصد زَرْع بغير بَذْر أو تُجْنى ثمرة بغير غَرْس أو يُورَى زَنْدٌ بغير قدْح أو يُثمِر مال بغير طَلَب‏.‏
ولهذا قال الخليلُ بنُ أحمد‏:‏ لا تصل إلى ما تحتاجُ إليه إلا بالوُقوف على ما لا تحتاجُ إليه فقال له أبو شَمِر المتكلِّم‏:‏ فقد احتجتَ إذاً إلى مالا تحتاج إليه إذ كنت لا تصل إلى ما تحتاجِ إليه إلا به قال ‏"‏ له ‏"‏ الخليلُ وَيْحك‏!‏ وهل يَقْطَع السَّيفُ الحُسامُ إلا بالضرب أو يجْرِي الجَوَادُ إلا بالرّكْض أو هل تُنال نهايةٌ أو تُدْرَك غايةٌ إِلا بالسعي إِليها والإيضاع نحوَها وقد يكون الإكْداء مع الكدّ والخيْبة مع الهيْبة‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وما زِلْتُ أَقطع عَرْضَ البِلادِ من المشرقين إلى المغْرِبينِ وأِدَّرِع الخَوف تحت الدُّجَى وَأسْتَصحب الجًدْيَ والفَرْقَدَيْنِ وَأطْوِي وَأنْشُرُ ثوْبَ الهُموم إلى أَنْ رجعتُ بخُفَّيْ حُنَين إلى كم أكون على حالةٍ مقِلاً من المال صِفْرَ اليَدَين فَقِيرَ الصَّديق غنيّ العدوّ قليلَ الجَداء عنٍ الوالدين ومثْلُ هذا قليل في كثير وإنما يُحكم بالأعمّ والأغلب والنجْح مع الطّلب والْحِرمان لِلعَجْز أصْحب‏.‏
وقد شرح حبيبٌ هذا المعنى فقال‏:‏ هِمَم الفَتَى في الأرض أغْصانُ الغِنى غُرِست وليست كلّ حينِ تُورِقُ لكِ ألحاظٌ مِرَاضٌ ودَلُّ غيرَ أنّ الطَّرْفَ عنهِا أكل وأَرَى خَدَّيْكِ وَرْداً نضيراً جادَه من دمعِ عَيْنيّ طَل عَذْبة الألفاظ لم لم يَشِنْها كَرُّ تَفْنِيدٍ بِسمْعي يُضِلّ أنّ عَزَّى التي أنِفَتْبي عَنْ سواها كُثْرُها ليَ قُلّ ظَلْتُ في أفياء ظِلِّك حتى ظلّ فوقي للمَتالف ظِلّ ِأنّ أَوْلَى منكِ بي لَمَرامٌ لا يحُلّ الهَوَانُ حيثُ يَحُلّ ما مقامي وحُسامىِ قاطعٌ وسِناني صارمٌ مَا يُفَلُّ سَنائي مِثْلُ رَوْضةِ حَزْنٍ أَضْحَكَتْهَا ديمَةٌ تَسْتَهِلّ دليلى بين فَكَّيَّ يَعْلو كلَّ صَعْبِ رَيِّضٍ فَيذِلّ َثمِلاً من خَمْرة العَجْز أُسْقى نَهَلاً من بعده ليَ عَليّ إنْ يَكُنْ قُرْبك عِندي جليلا فأقلُّ الحَزْم منهَ أَجَلّ َأقعِيداً للقعيدة إلفاً كلُّ إلفٍ بي لعُدْمي مخِلّ لا يَشُك السِّمْع حين يراه أنّه بالبِيد سِمْع أزَلّ بين ثَوْبَيْهِ أخو عزمات يَتَقيها الحادثُ المصمئلِّ ليس تَنبُوِ بي رحالٌ وَبِيدٌ إن نَبَا بي مَنْزِلٌ وَمَحلّ فأقلِّي بعض عَذل مُقِلٍّ لا يَرَى صَرْفَ الزَّمان يَقِلّ نّ وَخْدَ العِيس إثْمَار رِزْق يَجْتنيها المُسْهَب المُشمعل لا تفلي حد عزمي بِلَوْمِ إنني لِلْعَزْم والَدَّهر خِلّ فالفَتى مَن ليس يَرعَى حِماه طَمعاً يوماَ له مُسْتَذِلّ مَن إذا خَطْبٌ أطلَّ عليه فله صبرٌ عليه مُطِلّ يَصْحب الليلَ الوليدَ إلى أنْ يَهْرَمَ الليلُ وما إنْ يمَلّ ويرى السَّير ‏"‏ قد ‏"‏ يًلَجْلج منه مُضغةً لكنّها لاتَصِلّ شمَرت أثوابُه تحت لَيْلٍ ثَوْبُه ضافٍ عليه رِفَلّ سأُضِيع النومَ كيما تَرَيْني ومضيعي مُعْظِمٌ لي مُجلّ
باب التماس الرزق وما يعود على الأهل والولد
قال النبي {{صل}}‏:‏ العائد على أهْله ووَلده كالمُجاهد المُرابط في سَبِيل الله‏.‏
وقال {{صل}}‏:‏ اليد العُلْيَا خَيْرٌ من اليد السُّفلى وابدأ ‏"‏ بنَفْسك ثم ‏"‏ بمَنْ تَعُول‏.‏
وقال عمرُ بن الخَطّاب‏:‏ لا يَقْعُدْ أحدُكمِ عن طَلب الرِّزق ويقول‏:‏ اللهم ارزُقْني وقد عَلِم أن السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذَهَباً ولا فِضة وإنّ الله تعالى إنما يَرْزق الناسَ بعضهم من بعض وتلا قولَ الله جلّ وعلا‏:‏ ‏"‏ فإذا قُضيت الصَلاةُ فانتشروا في الأرْض وأبْتَغُوا مِنْ فَضْل الله واذْكُرُوا الله كثيراً لَعَلَّكُم تُفلحُون ‏"‏‏.‏
وقال محمدُ بن إدريس الشَافعي‏:‏ احرصْ على ما يَنفعك ودَعْ كلامَ الناس فإنّه لا سَبيل إلى السَّلامة من ألْسنة العامّة‏.‏
ومثلُه قولُ مالك بن دِينار‏:‏ مَن عَرف نَفْسَه لم يَضِرْه ما قال الناسُ فيه‏.‏
وقال كطاهر بن عبد العزيز‏:‏ أَخبرنا علي بن عبد العزيز قال‏:‏ أَنشدنا أبو عُبيد القاسم بن سَلام‏:‏ لا يَنْقص الكاملَ مِن كماله ما ساقَ مِن خير إلى عِيالِه وقال عمرُ بن الخطّاب ‏"‏ رضى الله عنه ‏"‏‏:‏ يا معشرَ القُرَّاء التًمسوا الرِّزْق ولا تَكُونوا عالةً على الناس‏.‏
وقال أكثمُ بن صَيْفيّ‏:‏ مَن ضَيَّع زاده اتَكل على زادِ غيره‏.‏
وقال النبي {{صل}}‏:‏ خَيْركم مَن لم يَدَع آخرتَه لدُنْياه ولا دُنياه لآخرته‏.‏
وقال عمرو بن العاص‏:‏ اعمل لدُنياكَ عَمل من يَعيش أبداً واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً‏.‏
وذُكر رجلٌ عند النبي {{صل}} بالاجتهادِ في العِبادة والقُوَّة على العمل وقالوا‏:‏ صَحِبْناه في سَفر فما رأينا بعدك يا رسول الله {{صل}} أعبَدَ منه كان لا يَنْفتل من صلاة ولا يُفْطر من صيام‏.‏
قال النبي {{صل}}‏:‏ فمن كان يَمُونه ويَقُوم به قالوا‏:‏ كلّنا قال‏:‏ كلُّكم أعبدُ منه‏.‏
ومَرّ المسيحُ برجل من بني إسرائيل يتعبّد فقال‏:‏ ما تصنع قال‏:‏ أتعبد قال‏:‏ ومَن يقوم بك قال‏:‏ أخي قال‏:‏ أخوك أعبدُ منك‏.‏
وقد جعل الله طَلَب الرِّزق مَفْروضا على الخَلْقِ كلّه من الإنس والجنّ والطير والهوام منهم بتَعْليم ومنهم بإلهام وأهلُ التَّحصيل والنَظر ‏"‏ من الناس ‏"‏ يَطْلبونه بأحسن وُجوهه من التصرف والتَحرز وأهلُ العَجْز والكسل يَطْلبونه بأقْبح وجوهه من السؤال والاتكال والخِلابة والاحتيال‏.‏
باب في فضل المال
قال الله تعالى ‏"‏ المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا والْبَاقِيَاتً الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيرٌ أَمَلاً ‏"‏‏.‏
وقال النبي {{صل}} للمُجاشِعيّ‏:‏ إن كان لك مال فلك حسَب وإن كان لك خُلًق فلك مُروءة وإن كان لك دِين فلك كَرم‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب‏:‏ حَسَب الرجل مالُه وكرَمه دِينه ومُروءته خُلُقُه‏.‏
وفي كتاب الأدب للجاحظ‏:‏ اعلم أنّ تَثْمير المال آلةٌ للمكارم وعَوْنٌ على الدِّين وتأليف للإخوان وأنّ مَن فَقد المالَ قَلَت الرَّغبةُ إليه والرَّهبة منه ومَن لم يكن بمَوْضع رَغْبة ولا رَهْبة استهان الناسُ به فاجْهَد جَهْدك كلًه في أَنْ تكُون القلوبُ مُعَلَّقة منك برَغْبة أو رَهْبة في دِبن أو دُنيا‏.‏
وقال حكيم لابنه‏:‏ يا بُنيّ عليك بطَلَب المال فلو لم يكن فيه إلاّ أنّه عِزٌّ في قَلْبك وذُلٌ في قلب عدوّك لكفي‏.‏
وقال عبدُ الله بن عبّاس‏:‏ الدُّنيا العافية والشَّباب الصِّحة والمُروءة الصبر والكرِم التَّقْوى والحَسَب المال‏.‏
وكان سعدُ بن عُبادة يقول‏:‏ اللهم ارزقني جِدّاً ومَجداَ فإنه لا مَجد إلا بفعَال ولا فَعال إلا بمال‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ لا خيرَ فيمن لا يَجْمع المالَ يَصون به عرْضه ويَحْمي به مُروءته ويَصِل به رَحِمه‏.‏
وقال عبد الرحمن بن عَوْف‏:‏ يا حَبذا المالُ أصونُ به عِرْضي وأتقربُ به إلى ربِّي وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ‏:‏ المالُ سِلاح المُؤمن في هذا الزمان‏.‏
وقال النبي {{صل}}‏:‏ نِعْمَ العَوْنُ على طاعة الله الغِنى ونعَم السُّلَّم إلى طاعة الله الغنى وتَلا ‏"‏ وَلَوْ أنَهم أقامُوا التَّوْراةَ وَالإنجِيلَ وَما أنْزِلَ إِليهم مِن ربِّهم لأكًلُوا مِنْ فَوْقهم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم ‏"‏ وقولَه‏:‏ ‏"‏ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ‏.‏
وقال خالدُ بن صفْوان لابنه‏:‏ يا بُنَيَّ أوصيك باثنتين لن تزال بخَيْر ما تمسَّكت بهما‏:‏ درْهمك لمعاشك ودِينك لمعادك‏.‏
وقال عُروة بن الوَرد‏:‏ ذَرِيني للغِنَى أسعى فإنِّي رأيتُ النَّاسَ شَرّهُم الفقيرُ وأحقَرُهم وأهونُهم عليهم وإنْ أمسى له حَسب وخِير يُباعده القريبُ وتَزْدرِيه حَلِيلتُه ويَنْهره الصَّغير وتُلْفِي ذا الغنى وله جَلالٌ يكاد فؤادُ صاحبه يَطير قلِيل ذَنْبُه وَالذنْبُ جم ولكنْ لِلْغَني رَبٌّ غَفور قَلِيلٌ ذَنْبُه وَالذَّنْبُ جم ولكنْ لِلْغَنِي رَبُّ غَفور سأكسبُ مالاً أو أموتَ ببَلدة يَقِلُ بها قَطْرُ الدًّموع على قَبْرِي وقال آخر‏:‏ سأعْمل نَصَّ العِيس حتى يَكُفَّني غِنَى المال يوماً أو غِنَى الْحَدَثانِ فَللْموتُ خيرٌ من حياة يُرى بهاَ على المَرْء بالإقلال وَسْمُ هَوَانِ إذا قال لم يُسْمع لِحُسْن مَقاله وإن لم يَقُل قالوا عَدِيمُ بَيَانِ كأنّ الغِنَى عن أهْله - بُورك الغِنَى - بغَيْرِ لِسانٍ ناطقٌ بلسانِ الرِّياشيّ قال‏:‏ أنشدنا أبو بكر بن عَيَّاش‏:‏ حيْران يَعلم أنّ المالَ ساقَ له ما لم يَسُقْهُ له دِينٌ ولا خُلقُ لولا ثلاثون ألفاً سُقْتها بِدَراً إلى ثلاثين ألفاً ضاقت الطُرق فمن يَكُن عن كرام الناس يَسْألني فأكْرم الناس مَن كانت له وَرِق وقال آخر‏:‏ أجلّكَ قوم حين صِرْتَ إلى الغِنَى وكلُّ غَني في العُيون جَلِيلُ ولو كنتَ ذا عقل ولم تُؤْتَ ثروَةً ذَلَلْت لدًيهم والفقيرُ ذليل فشرًّف ذَوِي الأموال حيثُ لَقِيتَهم فقَوْلهُمُ قَوْلٌ وَفِعْلُهم فِعْلُ وأنشد أبو مُحَلَم لرجل من وَلد ‏"‏ طَلِبَة بن ‏"‏ قَيسى بن عاصم‏:‏ وكنتُ إذا خاصمتُ خَصماً كبَبْتُه على الوَجْه حتى خاصَمَتْني الدَّرَاهمُ فلمّا تنازعنا الخُصومة غُلِّبت عليّ وقالوا قُمْ فإنّك ظالم وأنشد الرِّياشي‏:‏ لم يَبْقَ مِن طَلب الغِنَى إلا التَّعَرضُ للحُتُوف فَلأَقْذِفَنَّ بمًهْجَتي بين الأسِنَّة والسيوف ولأطْلُبَنَّ ولو رَأيتُ الموتَ يلمعُ في الصُّفوف وكان لأحَيْحَة بن الجُلاَح بالزَّوْراء ثلثمائة ناضح فَدَخَل بستاناً له فمرَّ بتَمْرة فَلَقطها فعُوتب في ذلك فقال‏:‏ تمْرَة إلى تَمرة تَمرات وجَمل إلى جَمل ذَوْد‏.‏
ثم أنشأ يقول‏:‏ إني مُقيم على الزَّوْراء أعمرُها إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال فلا يَغُرَّنك ذو قُرْبى وذو نَسب من ابن عمّ ومن عمٍ ومن خال كلّ النداء إذا ناديتُ يَخْذًلني إلا نِدَائي إذا ناديتُ يا مالي قالوا نأيتَ عن الإخوان قلتُ لهم مالِي أخٌ غَير ما تًطْوَى عليه يَدِي ‏"‏ كان الرُّمَاحِس بن حَفْصة بن قَيْس وابن عمِّ له يُدْعى رَبيعة بن الوَرْد يَسْكًنان الارْدُن وكان رَبيعة بن الوَرْد مُوسِراً والرُّمَاحسُ مُعْسِراً كثيراً ما يَشْكو إليه الحاجة ويَعْطف عليه ربيعةُ بعضَ العَطْف فلما أكثر عليه كَتب إليه‏:‏ إِذَا المَرْء لم يَطْلُب مَعاشاً لنَفْسه شكاَ الفَقْرَ أوْ لامَ الصَّدَيقَ فأكْثرا وصار عَلَى الأدنين كَلاًّ وأوشَكت صِلاتُ ذَوي القرْبىَ له أن تَنَكَرا فَسِرْ في بِلاد الله والتَمس الغنَى تَعِشْ ذا يَسَارٍ أو تموتَ فَتُعْذَرا فما طالبُ الحاجات مِنْ حيثُ تبتغى من المال إلا مَنْ أََجدَّ وشَمَّرا ولا تَرْضَ مِنْ عَيْش بدُونٍ ولا تَنمَ وكيف يَنام الليلَ من كان مُعْسرا وقال بعضُ الُحَكَماء‏:‏ المالُ يُوَقَر الدنئ والفَقْر يُذِل السَنيّ‏.‏
وأنشد‏:‏ أرَى ذا الغِنَى في النَّاس يَسْعَون حولِه فإِنْ قال قولا تَابَعُوه وصدَقُوا فذلك دَأْبُ النَّاس ما كان ذا غِنَى فإنْ زال عنه المال يومًا تَفَرقوا وأنشد‏:‏ ما النَّاس إلا مع الدُّنيا وصاحبها فحيثُما انقلبتْ يوماً به انقلَبُوا صنوف المال قال مُعاوية لصَعْصعة بن صُوحان‏:‏ إنما أنت هاتِف بلسانك لا تَنْظُر في أود الكلام ولا في استقامته فإن كنتَ تَنْظُر في ذلك فأخْبرني عن أفضل المال‏.‏
فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إني لأدع الكلامَ حتى يَخْتمر في صَدْرِي فما أرْهِف به ولا أتَلَهَق فيه حتى أقيم أوده وأحَرِّر مَتْنه‏.‏
وإنّ أفضلَ المال لبرة سَمْراء في تُرْبة غَبْراء أو نَعْجَة صَفْراء في رَوْضة خضراء أو عَينْ خَرَّارة في أرض خَوَّارة‏.‏
قال معاوية‏:‏ لله أنتَ‏!‏ فأين الذِّهب والفِضِّة قال‏:‏ حَجَران يَصْطَكان إن أقبلتَ عليِهما نَفدا وإن تركتَهما لم يزيدا‏.‏
وقيل لأعرابيَّة‏:‏ ما تَقُولين في مائة من المَعز قالتِ‏:‏ قني قيل لها‏:‏ فمائة من الضّأن قالت‏:‏ غِنَى قيل لها‏:‏ فمائة من الإبل قالت‏:‏ مُنَى‏.‏
وقال عبدُ الله بن الحسن‏:‏ غَلّةُ الدُور مسألة وغَلّة النَّخل كَفاف وغَلة الحَبّ مِلْك‏.‏
وفي الحديث‏:‏ أفْضل أموالكم فَرَسٌ في بَطْنها فرس يَتْبعها فرس وعَينْ ساهرة لعَيْن نائمة‏.‏
وأنشد فَرج بن سلام لبعض العِراقيّين‏:‏ ولقد أقولُ لحاجب نُصْحاً له خَلِّ العُروض وبِعْ لنا أرْضا إني رأيتُ الأرض يَبقى نَفْعُها والمال يأكل بعضه بعضا واحذَرْ أناساً يظْهرون محبَّة وعُيونُهم وقُلوبُهم مَرْضىَ تدبير المال قالوا‏:‏ ‏"‏ لا مالَ ‏"‏ لأخرَق ولا عَيْلة على مُصلح وخيرُ المال ما أطعمك لا ما أطعمتَه‏.‏
وقال صاحبُ كليلة ودِمْنة‏:‏ لِيُنْفِق ذو المال مالَه في ثلاثة مواضع‏:‏ في الصَّدقة إن أراد الآخرةَ وفي مُصانعة السُّلطان إن أراد الذِّكْر وفي النِّساء إن أراد ‏"‏ نَعيم ‏"‏ العيش‏.‏
وقال‏:‏ إنّ صاحبَ الدنيا يَطْلب ثلاثة ولا يُدْركها إلاّ بأربعة فأما الثلاثة التي تُطلب‏:‏ فالسَّعة في المعيشة والمنزلة في النَّاس والزاد إلى الآخرة‏.‏
وأما الأربعة التي تُدرك بها هذه الثلاثة‏:‏ فاكتساب المال من أحسن وُجوهه وحُسْن القيام عليه ثم التَّثْمير له ثمّ إنْفاقه فيما يُصْلِح المَعِيشةَ ويُرْضى الأهلَ والإخوان ويَعًود في الآخرة نَفْعه فإن أضاع شيئاً من هذه الأربعة لم يُدْرك شيئاً من هذه الثلاثة إن لم يَكْتسب لم يكنْ له مالٌ يِعيش به وإنْ كان ذا مال واكتسابِ ولم يُحسن القيامَ عليه يُوشِك أن يَفْنى ويَبْقى بلا مال وإن هو أَنْفقَه ولم يُثَمِّره لم تمنعَه قِلّةُ الإنفاق من سُرْعة النَّفاد كالكُحْل الذي إنما يُؤخذ منه على المِيل مثلُ الغبار ثم هو مع ذلك سرَيعٌ نفادُه وإن هو اكتَسب وأَصْلح وثَمِّر ولمِ يُنفق الأموالَ في أبوابها كان بمنزلة الفقير الذي لا مالَ له ثم لا يَمنع ذلك مالَه من أن يُفارقَه ويَذهب حيثُ لا مَنْفعة فيه كحابس الماء في المَوْضع الذي تَنْصَبّ فيه المياه إن لم يَخْرج منه بقَدْر ما يَدْخل فيه مَصَل وسال من نواحيه فيَذْهب الماء ضَياعا‏.‏
وهذا نظير قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذينَ إِذَا أَنْفَقُوا لمْ يُسْرِفوا ولَم يَقْتُرُوا وَكانَ بَين ذلِكَ قَوَاماً ‏"‏ و وقولِه عز وجلّ لنبيّه {{صل}}‏:‏ ‏"‏ وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كلً البسطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ‏"‏‏.‏
ونظر عبد اللهّ بن عباس إلى دِرْهم بيد رَجُل فقال له‏:‏ إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك‏.‏
يريد أنه لا ينتفعُ به حتى يُنْفِقَه ويَسْتفيد غيرَه مكانَه‏.‏
وقال الحُطَيئة‏:‏ مفيد ومِتْلاف إذا ما سألتَه تَهلَّل وأهتزّ اهتزازَ المُهَنّدَ وقال مُسْلِم بن الوَليد‏:‏ لا يَعْرِف المالَ إلا رَيْثَ يُنْفِقه أو يومَ يَجْمعه للنَّهب والبَدَدِ وقال آخر‏:‏ مُهْلِكُ مالٍ ومُفِيدُ مال وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ‏:‏ مَن كان في يده شيءٌ فَلْيُصْلِحْه فإنّه في زمان إن احتاجَ فيه كان أولَ ما يَبْذُله دينُه‏.‏
وقال المُتلَمِّس‏:‏ وحَبْسُ المال أَيْسَرُ من بُغَاهُ وضَرْب في البِلادِ بغَيْر زاد سَعْد القَصِير قال‏:‏ وَلاّني عُتْبة أموالَه بالحِجاز فلما ودّعته قال لي‏:‏ يا سَعْد تعاهدْ صغير مالي ‏"‏ فَيَكْثُرَ ‏"‏ ولا تُضيِّع كثيرَه فَيَصْغُر فإنه ليس يَشْغلني كثير مالي عن إصلاح قَليله ولا يَمْنعني قليلُ ما في يدي عن الصبر على كثير مما يَنُوبني‏.‏
قال‏:‏ فقَدمْت المدينةَ فحدّثت بها رجالاتِ قُريش ففرَّقوا بها الكُتب على الوُكلاء‏.‏
الإقلال قال أَرِسْططاليس‏:‏ الغِنَى في الغُرْبة وَطَن والمقلّ في أهله غريب‏.‏
أخذه الشاعرُ فقال‏:‏ لَعَمْرُك ما الغريبُ بذي التنائي ولكنّ المُقِلَّ هو الغريبُ إذا ما المرء أَعْوزَ ضاقَ ذَرْعاَ بحاجته وأَبعدَه القريب وقال إبراهيمُ الشَّيباني‏:‏ رأيتُ في جدار من جُدًر بيت المقدس ‏"‏ بيتين مكتوبين بالذَّهب‏:‏ وكُلّ مُقلٍّ حين يَغْدو لحاجةٍ إلى كُل مَن يَلْقى من النَّاس مُذْنِبُ وكان بَنُو عَمِّي يقولون مَرْحباً فلمّا رأوْني مُقْتِراً مات مَرْحب ومِن قَوْلنا في هذا المعنى‏:‏ اقد أسْقطتْ حقّي عليك صَبابتي كما أسْقط الإفْلاسُ حقَّ غَرِيم وأعذَرُ ما أدمى الجُفُونَ من البُكا كريمٌ رأى الدًّنيا بكفِّ لَئِيم أرى كلّ فَدْمٍ قد تَبَحْبَح في الغِنَى وذو الظَّرف لا تَلْقاه غيرَ عَديم قال الحسن بن هانئ‏:‏ الحمدُ لله لَيس لي نَشَبٌ فَخَفَّ ظَهْري ومَلَّني وَلدِي مَن نَظَرتْ عَيْنُه إليّ فَقَد أحاطَ عِلْماً بما حَوَته يَدِي وكان أبو الشَمَقْمق الشاعر أديباً ظريفاً محارفاً صُعْلوكاً مُتبرَماً قد لَزم بيتَه في أطْمار مَسْحوقة وكان إذا استَفْتح عليه أحدٌ بابَه خرج فَنَظر من فُرَج الباب فإن أعجبه الواقفُ فَتح له وإلا سَكَت عنه‏.‏
فأقبل إليه بعضُ إخوانه فدخل عليه فلما رأى سُوء حاله قال له‏:‏ أبْشر أبا الشَّمَقْمق فإنّا رَوَينا في بَعض الحديث أنّ العارين في الدنيا هم الكاسُون يومَ القيامة‏.‏
قال‏:‏ إن كان والله ما تقول حقًّا لأكونَنَّ بَزَازاً يوم القيامة ثم أنشأ يقول‏:‏ أنا في حالٍ تعالى الله ربِّي أيّ حالِ ولقد أهزلت حتى محت الشَّمسُ خَيالي مَن رَأى شَيْئاً مُحالاَ فأنَا عَين المحال ولقد أفلستُ حتّى حَلَّ أكلي لِعيَالَي في حِرام النَّاس طُرًّا مِن نِسَاء ورجال لو أرَى في النَّاس حُرًّا لَم أكنْ في ذا المِثَال وقال أيضاً‏:‏ أتُراني أرَى من الدَّهر يوماً ليَ فيه مَطِيَّة غيرُ رِجْلي ًكلّما كُنتُ في جَميع فقالوِا قًرِّبُوا للرَّحيل قَرًبتُ نَعْلِى حيثُما كنت لا أخَلِّف رَحْلا مَن رآني فقد رآني ورَحْلي وقال أيضاً‏:‏ لو قد رأيتَ سَرِيري كنتَ تَرْحمني الله يَعلم ما لي فيه تَلْبيسُ والله يَعلم ما لي فيه شابكةٌ إلا الحَصيرة والأطْمار والدِّيسُ وقال أيضاً‏:‏ بَرَزت من المَنازل والقِباب فلم يَعْسُر على أحدٍ حِجَابي فمنزليَ الفضاءُ وَسقفُ بَيْتي سماءُ الله أو قِطَع السَّحاب ولا انشَقَّ الثرى عن عُود تَخْتٍ أؤمِّل أنْ أشُدّ به ثِيابي ولا خِفتُ الإبَاقَ على عَبِيدي ولا خِفْتُ الهلاك على دَوَابي ولا حاسَبْتُ يوماً قَهْرماناً مُحاسبةً فأَغْلَظ في حِسابي وفي ذا راحةٌ وفَراغُ بالٍ فَدابُ الدَّهرِ ذا أبداً ودَابي وفي كتاب للهِنْد‏:‏ ما التَّبَع والإخْوان والأهلُ والأصدقاء والأعوان والحَشم إلا مع المال وما أرى المُروءة يُظهرها إلا المال ولا الرّأيَ والقُوّة إلا بالمال ووجدتُ مَن لا مَالَ له إذا أراد أن يتناول أمراً قَعد به العُدْم فيبقى مقَصرأً عما أراد كالماء الذي يَبْقى في الأوْدية من مَطر الصَّيف فلا يَجْري إلى بحر ولا نهر بل يَبْقى مكانَه حتى تَنشَفَه الأرضُ ووجدتُ مَن لا إخوانَ له لا أهلَ له ومَن لا وَلد له لا ذِكر له ومَن لا عَقْل له لا دُنيا له ولا آخرةَ له ومَن لا مال له لا شيءَ له لأن الرجل إذا افتقر رَفَضَه إخوانُه وقَطعه ذوو رَحمه وربما اضطرتْه الحاجة لِنفْسه وعياله إلى التماس الرِّزق بما يُغَرِّر فيه بدينه ودُنياه فإذا هو قد خَسِر الدُّنيا والآخرةَ فلا شيء أشدُّ من الفقر‏.‏
والشَّجَرةُ النابتة على الطريق المأْكولة من كلِّ جانب أمثلُ حالاً من الفقير المُحتاج إلى ما في أيْدي الناس والفَقرُ داعٍ صاحِبَه إلى مقْت الناس ومُتْلِف للعَقْل والمُروءة ومُذْهب لِلعلْم والأدب ومَعْدن للتُّهمة ومَجْمَع للبَلايا‏.‏
ووجدتُ الرجلَ إذا افتقر أساء به الظنَّ مَن كان له مُؤْتمناً وليس مِن خَصلة هي للغنيِّ مَدْح وزَيْن إلا وهي للفَقِير ذَمٌ وشَيْن فإن كان شُجاعاً قيل أهْوج وإن كان جَواداَ قيل مُفْسد وإن كان حَليماً قيل ضَعيف وإن كان وَقُوراً قيل بليد وإن كان صَمُوتاً قيل عَي وإن كان بليغاً قيل مِهْذار‏.‏
فالموت أهونُ من الفقر الذي يَضْطر صاحبَه إلى المسألة ولا سيَّما مسألة اللئام فإنَّ الكريم ‏"‏ لو كُلِّفَ ‏"‏ أن يدخل يده في فَم تنِّين ويْخرجَ منه سُمًّا فيَبْتَلِعَه كان أخفَّ عليه من مسألة ‏"‏ البَخيل اللئيم‏.‏
السؤال قال النبي {{صل}}‏:‏ لأنْ يأخذ أحدُكم أحْبُلَه فَيَحْتطب بها على ظَهره أهونُ عليه من أن يَأتيَ رجلاً أعطاهُ اللهّ من فَضْله فيسأله أعْطاه أو منعه‏.‏
وقال‏:‏ مَن فَتح علٍى نفسه باباً من السًّؤال فَح الله عليه سَبْعين باباً من الفَقر‏.‏
وقال أكثم بن صَيْفِيّ‏:‏ كلّ سُؤال وإن قَلَّ أكثرُ منِ كلّ نَوَال وإن جَلَّ‏.‏
ورَأى عليُّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهَه رجلا يَسأل بعَرفات فقَنَّعَه بالسَّوط وقال‏:‏ وَيلك‏!‏ أفي مِثل هذا اليوم تَسأل أحداً غيرَ الله وقال عبدُ الله بن عباس‏:‏ المساكينُ لا يَعُودون مَريضاً ولا يَشْهَدُون جِنازةً ولا يَحْضُرُون جُمعة وإذا اجتمع الناسُ في أعيادهم ومَساجدهم يَسألون الله منِ فَضْلِه اجتمعُوا يسألون الناسَ ما في أيديهم‏.‏
وقال النّعمان بن النُذر‏:‏ مَن سأل فوْق حَقِّه استحقَّ الحِرْمان ومَن أَلْحَف في مَسْألته استحقَّ المَطْل والرِّفق يُمْن والخُرْق شُؤْم وخَير السَّخاء ما وافق الحاجة وخَير العَفْو مع المَقْدِرة‏.‏
وقال شُرَيح‏:‏ مَن سأل حاجةً فقد عَرض نفْسَه على الرِّق فإن قَضَاها المسئولُ استعبده بها وإن رَدًه عنها رجعَ كلاهما ذليلاً‏:‏ هذا بذُلِّ البُخْل وذاك بذُلِّ الرَّد‏.‏
وقال حَبيب‏:‏ كُلّ السُّؤال شَجىً في الحَلْقِ مُعْترض من دونه شَرَقٌ من تحته جَرض الخُشَنى قال‏:‏ قال أبو غَسان‏:‏ أخبرني أبو زيد قال‏:‏ سأل سائلٌ بمسجد الكوفة وقتَ الظهر فلم يُعْطَ شيئاً فقال‏:‏ اللهم إنّك بحاجتي عالم لا تُعَلَّم أنت الذي لا يُعْوِزك نائل ولا يُحفيك سائل ولا يَبْلغ مَدْحَك قائل أسألك صبراً جميلا وَفَرَجاً قريباً وبصَراً بالهُدى وقُوَّة فيما تُحب وتَرْضى‏.‏
فتبادَروا إليه يُعْطونه فقال‏:‏ وإلله لا رَزأتكم الليلةَ شيئاً ‏"‏ وقد رفعتُ حاجتِي إلى الله ‏"‏ ثم أنشأ يقول‏:‏ ما نالَ باذلُ وَجْهه بِسُؤاله عِوَضاَ ولو نال الغِنى بِسُؤال إذا النًوَال مع السُّؤَال وَزَنْتَه رجَح السؤال وشالَ كلُّ نَوال وقال مسْلم بن الوليد‏:‏ ِسل الناسَ إني سائِلُ الله وَحده وصائنُ عِرْضي عن فُلانٍ وعن فُل وقال عَبيد بن الأبرص‏:‏ َمنْ يَسْأَل الناس يَحْرِموه وسائلُ الله لا يَخِيبُ وقال ابن أبي حازم‏:‏ َلطَيُّ يومٍ ولَيْلتين ولُبْس ثَوْبين بالبَين أَهْوَنُ من مِنَةٍ لقَوْم أغضُّ منها جفُونَ عَيْني لأحْمَدُ اللهّ حين صارتْ حوائجي بَيْنه وبَيْني ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ سُؤَالُ الناس مِفْتَاح عَتِيدٌ لِبَاب الفَقْرِ فألطف في السًّؤَال ‏"‏ وَرَوَى أشعبُ الطَّمَّاع عن عبد الله بن عُمر عن النبي {{صل}} أنه قال‏:‏ يَحْشرٌ اللهّ عز وجل يوم القيامة قوماً عاريةً وجوههم قد أذهب حياءَها كثرةُ السؤال ‏"‏‏.‏
سؤال السائل من السائل مدح أبو الشَّمَقْمق مروانَ بن أبي حَفصة فقال له‏:‏ أبا الشَّمقمق أنت شاعرٌ وأنا شاعر وغايتنا كلَّنا السؤال‏.‏
وذَكر أعرابيٌ رجلاً بالسُّؤال فقال‏:‏ إنّه أسألُ من ذي عَصَوَين‏.‏
وقال حبيب‏:‏ لم يَخْلُق الرحمنُ أحمقَ لِحْيةً من سائلٍ يَرْجو الغِنى من سائل الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر النّحويّ قال‏:‏ قَدِمْتُ من سَفر فدخل عليّ ذو الرُمة الشاعر فعَرضتُ أن أعطيه شيئاً فقال‏:‏ ‏"‏ كل ‏"‏ أنا وأنتَ نأخذ ولا نُعْطى‏.‏
الشيب قال قيسُ بن عاصم‏:‏ الشيبُ خِطَامُ المَنيّة‏.‏
وقال غيرُه‏:‏ الشيبُ نذيرُ الموت‏.‏
وقال النُّميريّ‏:‏ الثيبُ عُنوان الكِبَر‏.‏
وقال المُعْتَمر بن سُليمان‏:‏ الشيبُ مَوت الشّعَر ومَوت الشّعَر عِلّة لمَوْت البَشر‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ كنتُ أنكِر البَيْضاء فصِرْتُ أنكِر السَّوداء فيا خيرَ مَبْدول ويا شَرَّ بَدَل‏.‏
وقيل للنبيّ {{صل}}‏:‏ عَجِل عليك الشّيبُ يا رسولَ الله‏!‏ قال‏:‏ شَيَّبَتْني هُود وأخواتُها‏.‏
وقيل لعبد الملك بن مَرْوَان‏:‏ عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين‏!‏ قال‏:‏ شَيَّبَني اْرتقاء المَنابر وتَوَقُّع اللّحن‏.‏
وقيل لرجل من الشًّعراء‏:‏ عَجِل عليك الشّيبُ‏!‏ فقال‏:‏ وكيف لا يَعْجَل وأنا أَعْصرُ قَلْبي في عمل لا يُرْجَى ثَوابُه ولا يُؤْمَن عِقابُه‏.‏
وقال حبيبٌ الطائي‏:‏ غَدَا الشّيْبُ مختَطًّا بِفَودِيَ خُطّةً طريقُ الرّدىَ منها إلى النَّفْس مَهْيَعُ هُو الزَوْرُ يُجْفي والمُعاشر يُحْتوى وذو الإلْف يُقْلَى والجديدُ يُرِقّعُ له مَنْظر في العَينْ أبيضُ ناصعٌ ولكنه في القلْب أسْود أسْفع بَكيتُ لقُرْبِ الأجلْ وبُعْدِ قَوات الأملْ ووَافِدِ شيْب طَرَا بعِقْبِ شبابٍ رَحَل شَباب كأنًْ لم يَكُن وشيبٌ كأنً لم يزَل طَواك بَشِيرُ البَقا وجاء بشير الأجل ‏"‏ وقال أيضاً‏:‏ لا تَطْلُبَنْ أثراً بعَينْ فالشَيْب إحدَى الميتَتَين أبْدَى مَقابحَ كلِّ شَين ومَحَا مَحاسِنَ كل زَيْن فإذا رَأتكَ الغانيا تُ رَأينَ منك غُرابَ بَين ولرُيما نافَسْنَ في ك وكُنَّ طَوْعاً لليَدَين أيامِ عممك الشَّبا بُ وأنا سَهل العارِضيَنْ حتى إذا نزل المَشي بُ وَصِرْتَ بين عِمَامتين سَوْدَاءَ حالكةٍ وبَي ضاءِ المَناشرِ كاللُجَين َمزَج الصُّدُودُ وِصاله ن كُنَّ أمراً بَين بَين وصَبرن ما صَبر السَّوا د على مُصانَعة ومَينْ قَفين شرّ َقَفِيَّة وأخذْن منك الأطيَبَينْ فاقْنَ الحَياءَ وَسَلِّ نف سك أو فَنادِ الفَرْقَدَين ولَئِنْ أصابتْك الخُطو بُ بكل مكروه وشَين فلقد أَمِنْتَ بأن يُصِب بك ناظرٌ أبداً بعين وقال حبيب الطائيّ‏:‏ نظرتْ إليّ بعين مَن لم يَعْدِل لمّا تَمَكّن حبُّها من مَقْتَلي لمِّا رأتْ وَضَح المَشِيب بلِمَّتي صَدَّت صُدودَ مُجانِب مُتحمِّلَ فجعلتُ أطلب وصلها بتلطفٍ والشَّيْبُ يَغْمِزُها بأنً لا تَفْعلي وقال آخر‏:‏ صَدَّت أمامةُ لمَّا جِئتُ زائرَها عنِّي بمَطْروفةٍ إنسانُها غَرقُ وراعها الشيبُ في رأسي فقلتُ لها كذاكَ يَصفرُّ بعد الخُضْرة الوَرَق وقال محمد بن أميّة‏:‏ رأتني الغواني الشّيبُ لاح بعارضي فأَعرضنَ عنِّي بالخُدود النّواضِرِ عَيرتني بشيب رأسي نَوار يا ابنةَ العمِّ ليس في الشّيب عارُ إنَّما العارُ في الفِرار من الزّح ف إذا قِيل أينَ أينَ الفِرار ومن قولنا في الشّيب‏:‏ بِدا وَضَحُ المَشيبِ على عِذَارِي وهَل ليلٌ يكونُ بلا نَهارِ وأِلبسني النُّهى ثوباً جديداً وجَرَّدني من الثَوْب المُعار شرَيت سوادَ ذا ببياض هذا فَبدَّلتُ العِمامةَ بالخِمَار وما بِعْتُ الهوَى بَيْعا بشَرْط ولا استثنيت فيه بالخِيَار ومن قولنا فيه‏:‏ قالوا شَبابُك قد وَلَّى فقلتُ لهمٍ هل من جديدٍ على كَرِّ الجَديدَيْنِ صِلْ من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبة فأطيبُ العَيْش وصلٌ بين إلْفَين وَاقطَعْ حَبَائلَ خِدْنٍ لا تُلاَئمهُ فرَّبمَا ضاقَتِ الدُّنيا على اثنين ومن قولنا فيه‏:‏ جارَ المَشيبُ على رَأسي فَغَيَّره لمّا رَأَى عندنا الحُكَّامَ قد جارُوا َسوادُ المَرْءِ تُنْفِدُه اللَّيَالِي وإِنْ كانت تَصير إلى نَفَادِ فأَسوده يَعود إلى بَياض وأبيضه يَعود إلى سَواد ومن قولنا أيضاً‏:‏ أطلالُ َلهْوك قد أَقوَتْ مَغانيها لم يَبْقَ من عَهدها إلا أَثافيها هذِي المَفَارق قد قامت شواهدُها على فَنائِك والدُّنيا تُزَكِّيها الشَّيبُ سُفْتَجة فيها مُعَنْونة لم يَبْقَ إلاّ أن يسحيها ومن قولنا أيضاً‏:‏ ُنجوم في المَفارق ما تَغُور ولا يَجْرِي بها فلكٌ يَدُورُ كأنّ سواد لِمَّته ظلاً أغارَ من المَشيبِ عليه نُور ألا إنَّ القَتِيرَ وَعِيدُ صِدْق لنا لو كان يَزْجُرنا القَتير نذيرُ الموت أرسلَه إلينا فكذَّبْنا بما جاء النَّذير وقُلنا للنُّفوس لعلِّ عُمْراً يطول بنا وأطولُه قَصير متى كُذبتْ مواعدُها وخانت فأوَّلُها وآخرُها غُرور ولم ألقَ المُنَى في ظلِّ لَهْوٍ بأقمارٍ سحائبُها السُّتور ‏"‏ ولآخر‏:‏ والشّيبُ تَنْغيصُ الصِّبا فاقض اللبابةَ في الشَّبابْ وقال ابن عبّاس‏:‏ الدنيا الصحّة والشباب‏.‏
ولبعضهم‏:‏ في كل يوم أرى بَيضاء قد طَلَعتَ كأنَّما طَلعت في ناظِر البَصرِ لَئن قصَصْتُكِ بِالمِقْرَاض عن نَظري لَمَا قَصصتًكِ عن هَمِّي ولا فِكَري ولابن المُعتزّ‏:‏ جاء المَشيب فما تَعِسْتُ به ومَضى الشَّباب فما بُكايَ عليْه وقال أيضَاَ‏:‏ ماذا تُريدين من جَهْلي وقد غَبَرت سِنُو شَبابي وهذا الشًيبُ قد وَخَطَا أرفِّع الشَّعرة البَيْضاء مُلْتقطاً فيُصْبِح الشَيبُ للسوداء مُلتقِطا وسَوفَ - لا شَكّ - يُعْييِني فأتْركه فطالما أعْمِل المِقْراضَ والمُشُطا ‏"‏ الشباب والصحة قال أبو عمرو بن العَلاء‏:‏ ما بَكت العربُ شيثاً ما بَكَت الشباب وما بلغت به ما يستحقّه‏.‏
وقال الأصمعيّ‏:‏ أحسن أنماط الشِّعر المَرائي والبُكاء على الشَباب‏.‏
وقيل لكُثَيِّر عَزًة‏:‏ ما ‏"‏ لك لا ‏"‏ تقول الشعر قال‏:‏ ذهب الشبابُ فما أطرب ومات عبدُ العزيز فما - أرغب‏.‏
وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ الدُّنيا العافية والشّباب الصحة‏.‏
وقال محمود الورّاق‏:‏ أليسَ عَجِيباً بأن الفَتَى يُصاب ببَعضٍ الذي في يَدَيْهِ فمن بين باكٍ له مُوجَع وبين مُغذّ مُعَزٍّ إليه ويَسْلًبه الشيبُ شَرْخَ الشبا بِ فليس يُعزِّيه خَلْقٌ عليه قال ابن أبي حازم‏:‏ َولَّى الشَّبابُ فخَلِّ الدَّمعَ ينْهملُ فَقْدُ الشِّبابِ بِفَقْدِ الروح مُتَّصلُ لا تُكْذَبنَّ فما الدُّنيا بأجمعها مِنَ الشَّباب بيومٍ واحدٍ بَدَل وقال جرير‏:‏ وَلَّى الشبابُ حَمِيدةً أيامُه لو كان ذلك يُشْترى أو يُرْجَعُ وقال صريعُ الغواني‏:‏ سَلْ عيش دهرِ قد مَضتْ أيامُه هل يَسْتطيع إلى الرُّجوع سَبيلا وقال الحسنُ ‏"‏ بن هانئ ‏"‏‏:‏ وأراني إذ ذاك في طاعة الجه ل وَفَوْقي من الصِّبا أمراءُ تِرْب عَبْث لرَبْطتي فَصْلُ ذَيْل ولرأْسي ذًؤَابةٌ فَرْعاءُ بقِناع من الشَباب جديدٍ لم ترَقَعه بالخِضاب النَساءُ قبل أنْ يَلْبَس المَشيبَ عِذارى وتبلى عمامتي السوداء وقال أعرابي‏:‏ للهّ أيامَ الشباب وعَصره لو يُستعار جديدُه فيُعارُ ما كان أقصرَ ليلَه ونَهَارَه وكذاك أيامُ السُّرور قِصارُ ومن قولنا في الشباب‏:‏ وَلّى الشبابُ وكنتَ تَسكن ظِلّه فانظُر لنفسك أَيَّ ظلٍّ تَسكنُ ونَهى المَشيبُ عن الصبا لو أنّه يُدْلى بحُجَّته إلى مَنْ يَلْقن ومن قولنا فيه‏:‏ حَسَر المَشيبُ قِناعَه عن رأسه وصَحَا العواذلُ بعد طول مَلام فكأنَّ ذاك العيشَ ظل غمامةٍ وكأنّ ذاك اللهوَ طيفُ منام ‏"‏ ومن قولنا فيه‏:‏ ولو شِئتُ راهنتُ الصَبابةَ والهوَى وأَجْريتُ في اللّذات من مائتين وأسبلتُ من ثَوْب الشّباب وللصّبا عليّ رداءٌ مُعْلَم الطَرَفَينْ ‏"‏ وقال آخر‏:‏ إِنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعرِ الأس ود ما لم يُعاصَ كان جُنونَا وقال آخر‏:‏ قالتْ عَهِدْتُكَ مجنوناً فقلتُ لها إنّ الشّبابَ جُنونٌ بُرؤُه الكِبَرُ ومن قولنا في الشباب‏:‏ كنتُ إلْفَ الصِّبا فَوَدَّعني وَداعَ مَن بانَ غيرَ مُنْصَرفِ أيامُ لهوِي كظِلِّ إسْحَلة وذا شَبابي كروضة أنًف ومن قولنا فيه‏:‏ شبابي كيف صِرْتَ إلى نَفَاد وبُدِّلتَ البياضَ منَ السَّوادِ فِراقُك عَرًف الأحزان قَلبي وفَرَّق بين جَفْني والرُّقاد فيا لنعيم عَيْشِ قد تَولى ويا لغليل حُزْنٍ مستفاد كأني مِنْك لم أرْبَع برَبْع ولم أَرْتَدَّ به أحْلَى مَراد سَقى ذاك الثَّرَى وَبْلُ الثَرَيَّا وغادىَ نَبْته صوْبُ الغوادِي فكم لي من غَلِيلٍ فيه خافٍ وكم لي مِن عَويلٍ فيه بادِي زمانٌ كان فيه الرُّشد غَيّا وكان الغَيُّ فيه من الرًشاد يُقبِّلني بدلٍّ من قَبُول ويُسْعدني بوٍصْل من سُعاد وأجنُبه فيُعطِيني قياداً ويَجْنُبني فأعْطيه قِيَادي
===الخضاب===
قال النبي {{صل}}‏:‏ غَيِّروا هذا الشّيبَ ‏"‏ وجَنِّبوه السوادَ ‏"‏‏.‏
وكان أبو بكر يَخْضب بالحِنَّاء والكَتَم‏.‏
وقال مالك بنُ أسماء بن خارجة لجاريته‏:‏ ‏"‏ قُومي ‏"‏ اخضبِي رأسي ولِحيتىِ فقالت‏:‏ دَعْني قد عَييت بما أُرقِّعك‏.‏
فقال مالك بنُ أسماء‏:‏ عَيَّرْتِني خَلَقاً أَبليتُ جِدَّته وهل رأيت جَديداً لم يَعُدْ خَلَقَا ودخلِ أبو الأسود الدُؤليّ على معاوية وقد خَضَب فقال‏:‏ لقد أصبحتَ يا أبا الأسود جميلاَ فلو عَلَّقت تميمة‏.‏
فأنشأ أبو الأسود يقول‏:‏ أَفْنى الشّبابَ الذي فارقتُ بهجَته مَرُّ الجديدَيْن من آتٍ ومُنْطلقِ لم يُبْقِيا ليَ في طُول اختلافهما شيئاً يُخاف عليه لَذْعةُ الحَدَق وذُكر عن الأصمعيّ قال‏:‏ بَلغني عن بعض العَرب فصاحةٌ فأتيتُه فوجدتُه يَخْضب فقال‏:‏ يا بن أخي ما الذيَ أَقصدَك إليِّ قلتُ‏:‏ الاستئناسُ بك والاستماع من حديثك قال‏:‏ يا بن أخي قَصدْتَني وأنا أخْضِب والخضاب من مُقدِّمات الضّعف ولطالما فَزّعت الوُحوش وقُدْت الجيوش وَرَوَّيْت السّيف وقَرَيت الضَّيف وحَميت الجارَ وأبيت العار وشَرِبْتُ الرَّاح وجالستُ المِلاَح وعاديت القُروم وعَلوت الخُصوم واليوم يا بن أخي الكِبَرُ وضعف البصر تركا من بعد الصَّفو الكَدَر وأنشأ يقول‏:‏ شَيْبٌ نُعَلِّله كيما نُسرّ به كهيئة الثَّوب مطويا على خِرَقِ فكنتُ كالغُصْ يَرْتاح الفؤادُ به فصرْتُ عُوداً بلا ماءٍ ولا وَرَق صَبْراً على الدَّهر إنِّ الدّهر ذو غِيَرٍ وأهْلُه منه بين الصفو والرَّنَق ‏"‏ ودخل مُعاويةُ على ابن جعفر يعوده فوجده مُفيقاً وعنده جاريةٌ في حِجْرها عودٌ فقال‏:‏ ما هذا يا بن جعفر فقال‏:‏ هذه جارية أروَيها رقيقَ الشعر فَتَزِيده حُسناً بحُسْن نَغْمتها‏.‏
قال‏:‏ فَلْتقل‏.‏
فحرَّكت عُودَها وغنَّت وكان معاوية قد خَضب‏:‏ أليس عندك شُكْرٌ للَّتي جَعلتْ ما ابيضَ من قادمات الرِّيش كالحُمَم جَدَّت منك ما قد كان أخْلَقه رَيْبُ الزمان وصَرْفُ الدهر والقِدَم فحرَّك معاويةُ رجلَه فقال له ابن جعفر‏:‏ لم حركت رجلَك يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ كلُّ كريم طَروب‏.‏
وقال محمود الورّاق في الخِضاب‏:‏ للضيف أَنْ يُقرَى ويُعْرفَ حقُّه والشَّيبُ ضيفُك فاْقْرِه بِخِضَابِ وافي بأكْذَب شاهِد ولربَّما وافي المَشيبُ بشاهِدٍ كذّابِ فافسَخ شهادتَه عليك بخَضبِه تَنْفي الظُّنون به عن المُرْتاب فإذا دنا وَقْتُ المَشيب فخلِّه والشَّيبَ يذهبُ فيه كلِّ ذَهاب وقال آخر‏:‏ وقائلةٍ تقولُ وقد رَأتنْي أًرَقِّع عارضَيّ من القَتِيرِ عليك الخِطْرَ أن تُدَنى إلى بِيضٍ ترائبُهنّ حُور فقلتُ لها المشيبُ نَذِيرُ عُمْري ولستُ مُسَوِّداً وجهَ النَّذير إنّ شَيباً صَلاحُه بخِضَاب لَعَذَابٌ مُوَكَّلٌ بِعَذَاب فوَحَقِّ الشَّباب لولا هَوَى الْبِي ض وأَنْ تَشْمَئِزّ نفسُ الكَعَاَب لأرَحْتُ الخَدًّين مِن وَضر الْخِط ر وآذنتُ بانقضاء الشَّباب وقال غيره‏:‏ َبكَرت تحسِّن لي سوادَ خِضابي لكأنّ ذاك يُعيدني لِشَبابي وإذا أدِيمُ الوَجْه أَخْلَقَه البِلَى لم يُنتَفَع فيه بحُسْن خِضاب ماذا تُرَى يجْدِي عليكِ سوادهُ وخلافُ ما يُرْضيك تحت ثِيابي ما الشَيبُ عندي والخضاب لواصِفٍ إلا كَشَمس جلَلَت بسَحاب تَخْفي قليلاً ثم تَقْشَعه الصَبا فيصيرُ ما سُتِرَت به لِذَهاب ومن قولنا هذا المعني‏:‏ أصمَّم في الغَواية أم أَنابا وشَيبُ الرَّأس قد خَلَس الشَّبَابا إذا نَصل الخِضاب بَكى عليه وَيَضحَك كلما وَصَل الخضابا كأن حمامةً بيضاءَ ظَلَّت تُقاتل في مَفارقه غُرابا قال النبي {{صل}}‏:‏ مَن شَاب شَيْبة في الإسلام كانت له نُوراً يومَ القيامة‏.‏
وقال ابن أبي شَيبة‏:‏ نهى رسولُ الله {{صل}} عن نَتْف الشَّيب وقال‏:‏ هو نُور المُؤمن‏.‏
وقالوا‏:‏ أوَّل مَن رأى الشيب إبراهيمُ خليل الرحمن فقال‏:‏ يا ربِّ ما هذا قال له‏:‏ هذا الوَقار قال‏:‏ ربِّ زِدني وقارًا‏.‏
وقال أبو نُواس‏:‏ يَقُولون في الشّيب الوقارُ لأهْلِه وشَيبي بحمد الله غير وقارِ وقال غيرُه‏:‏ يقُولون هلْ بعد الثلاثين مَلْعب فقلتُ وهل قبلَ الثلاثين مَلْعبُ لقد جَلَّ قَدْرُ الشَيب إن كان كُلّما بَدت شَيْبةٌ يَعْرَى من اللهو مَركب دخل أبو دُلَف على المأمون وعنده جارية وقد ترك أبو دُلف الخِضَابَ فغمز المأمونُ الجاريَةَ فقالت ‏"‏ له ‏"‏‏:‏ شِبْت أبا دُلف إنا لله وإنا إليه راجعون ‏"‏ لا ‏"‏ عليك‏!‏ فسكت أبو دُلف‏.‏
فقال له المأمون‏:‏ أجِبْها أبا دُلف‏:‏ فأطرق ساعةً ثم رَفع رأسه فقال‏:‏ تَهزأت أن رأت شيْبي فقلتُ لها لا تَهْزَئِي مَن يطل عُمرٌ به يَشبِ شَيْبُ الرِّجال لهم زينٌ وَمَكْرُمة وَشَيْبُكًن لَكُنّ الوَيْلُ فاكتئبي وقال محمود الوراق‏:‏ وعائب عابني بشيبٍ لم يَعْدُ لمّا ألم وَقْتَه فقلتُ للعائبي بشيبي ياعائبَ الشَيب لا بَلغتَه ‏"‏ أنشدني أبو عبد الله الإسْكَنْدراني ‏"‏ معلَم الإخْوة‏:‏ وممّا زادَ في طول اكتئابي طلائعُ شيبتين ألمتا بي فأمِّا شَيْبَةٌ فَفَزِعْتُ فيها إلى المِقراض من حُبِّ التَّصابيِ وأمّا شَيْبةٌ فَعَفَوت عنها لتَشْهد بالبَرَاء من الخِضاب ‏"‏ وقال محمد بن مُناذِر‏:‏ لا سَلامٌ على الشَّباب ولا حَي يا الإلهُ الشبابَ من مَعْهودِ قد لَبِسْت الجديدَ من كلّ شيء فوجدتُ الشَّباب شرَّ جَديد صاحبٌ ما يزال يَدْعو إلى الغي ي وما مِن دُعاً له برَشِيد ولَنِعْم المَشيبُ والوازعُ الشَّي - ب ونِعم المًفادُ لِلْمستفيد كبر السن قيل لأعرابيّ قد أَخذته كَبْرة السِّن‏:‏ كيف أصبحتَ فقال‏:‏ أصبحتُ تقيِّدني الشَّعرةُ وأَعثُر بالبَعْرة قد أقام الدهرُ صَعَرِي بعد أن أقمتُ صَعَره‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ لقد كنت أنْكِر البيضاءَ فصرْت أُنْكِر السوداءَ فيا خير مَبْدول ويا شرَّ بَدَل‏.‏
ودخل المُسْتَوْغِرِ بنُ ربيعة على معاويةَ بن أبي سُفيان وهو ابن ثلثمائة سنة فقال‏:‏ كيف تَجدك يا مُسْتوغر فقال‏:‏ أَجِدني يا أميرَ المؤمنين قد لان مِنِّي ما كنتُ أحبّ أن يشتدّ واشتدّ مني ما كنتُ أحبُّ أن يَلين وابيضّ مني ما كنتُ أحبُ أن يسودّ واسودّ مني ما كنتُ أحبّ أن يَبْيضَ ثم أَنشأ يقول‏:‏ سَلْني أنَبِّئك بآياتِ الكِبَرْ نوم العِشاءِ وسُعال بالسَّحَرْ ‏"‏ وقِلَّةَ النَّوْم إذا الليل آعْتَكر ‏"‏ وقِلّة الطُّعْم إذا الزَّاد حَضَر ‏"‏ وسُرْعة الطَّرَف وتَحْمِيج النظر ‏"‏ وتَرْكُك الحَسناءَ في قُبْل الطُّهُر والناسُ يَبْلَوْن كما يَبْلى الشًجَر وقال أعرابي‏:‏ أشْكو إليك وَجَعاً برُكْبتي وَهَدجاناً لم يَكًن في مِشْيتي كهَدَجان الرَّأل خَلْف الهَيْقَتِ وقال آخر‏:‏ وقال جرير‏:‏ تَحِنّ العِظام الرّاجفاتُ من البِلَى ولَيْس لداء الركْبتين طبيبُ وقال أعرابيّ في امرأة ‏"‏ عَجُوز ‏"‏‏:‏ يا بِكْرَ حَوَّاءَ من الأوْلاد وأقدمَ العالم في المِيلادِ عُمْركِ ممدودٌ إلى التَّنادِي فحدًثينا بحَدِيث عادِ ومُبْتدا فِرعون ذي الأوْتاد وكيف حالُ السَّيل بالأطْوادِ وقال آخر‏:‏ إذا عاش سَبْعين عاماً فقد ذَهب المَسرةُ والفَتَاءُ كان في غَطفان نَصْر بنُ دُهْمان قادَ غَطفان وسادَها حتى خرِف وعُمِّر تسعين ومائة سنةٍ حتى اسودَّ شَعرُه ونَبتت أضراسُه وعاد شاباً فلا تُعرف في العرب أعجوبة مثله‏.‏
وقال محمد بن مناذر في رجل من المُعمَّرين‏:‏ إنَّ مُعاذَ بنَ مُسْلم رَجلٌ قد ضَجّ من طُول عُمره الأبدُ قد شابَ رأسُ الزَّمان واكتهل الدَّه ر وأثوابُ عُمْره جدُد يا نَسْرَ لُقمان كم تعيشُ وكم تَسْحَبُ ذَيْلَ الحياةِ يا لُبَد تَسأالُ غِرْبانها إذا حجَلت كيفَ يكون الصّدَاع والرَّمد ودخل الشّعبيّ على عبد الملك بن مَرْوَان فوَجده قد كبا مُهْتَمًّا فقالت‏:‏ ما بالُ أمير المؤمنين قال‏:‏ يا شعبيِّ ذكرتُ قولَ زُهير‏:‏ كأني وقد جاوزت سَبْعين حِجًةً خَلعتُ بها عنِّي عِذَارَ لجامي رَمَتني بناتُ الدهر من حيث لا أَرى فكيف بمن يُرْمى وليس بِرَامي فلو أنني أرْمَى بِنبْلٍ رأيتها ولكنًني أرْمَى بغير سِهام عَلَى الرَّاحَتَيْن تارةً وعلى العصا أُنُوءُ ثلاثاً بعدهنَّ قِيامي قال له الشًعبيُّ‏:‏ ليس كذلك يا أميرَ المؤمنين ولكن كما قال لَبِيدُ ابن ربيعة وقد بلغ سبعين سنة كأني وقد جاوزتُ سَبْعينَ حِجَّةً خلعتُ بها عن مَنْكِبَّيَّ رِدَائيَا فلما بلغ سبعاً وسبعين قال‏:‏ باتت تَشكّى إلى النفسُ مُجهِشةً وقد حملتُكِ سبعاً بعد سَبْعيناً فإن تُزَادي ثلاثاً تَبْلُغي أملاً وفي الثلاثِ وفاءٌ للثّمانينَا فلما بلغ مائة سنة قال‏:‏ فلما بلغ مائة سنةٍ وعشراً قال‏:‏ أليسَ في مائةٍ قد عاشها رجُلٌ وفي تَكامُل عَشْرٍ بعدها عُمُرُ فلما بلغ ثلاثينَ ومائةً وقد حضرَتْه الوفاة قال‏:‏ تَمَنَئ ابنتاي أن يَعيشَ أبوهما وهل أنا إلا منِ رَبيعةَ أو مُضرْ فقُوما وقُولا بالذي تَعْلمانه ولاتَخْمِشَا وجها ولا تَحْلِقَا شَعَر وقولا هو المرءُ الذي لا صَدِيقَه أضاع ولا خانَ الخليلَ ولا غَدر إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلام عليكما ومَن يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَر قال الشّعبيّ‏:‏ فلقد رأيت السرورَ في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها‏.‏
وقال لبيد أيضاً‏:‏ أليسَ ورائِي إن تراختْ مَنِيَّتي لُزُومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ أخَبر أخبارَ القُرون التي مَضت أدِبُّ كأنّي كلما قمتُ راكِع فأصبحتُ مثل السيفِ أَخْلق جَفْنَه تَقادمُ عهدِ القَيْن والنَصْلُ قاطِع وقالوا‏:‏ مكتوبٌ في الزّبور‏:‏ مَن بَلغ السبعين أشتكي من غير علّة‏.‏
وقال محمد ابن حسّان النِّبطي‏:‏ لا تَسأل نفسك العامَ ما أعطتك في العام الماضي‏.‏
وقال مُعاويةُ لما أَسنَّ‏:‏ ما مَرَّ شيءٌ كنتُ أستلذّه وأنا شابّ فأجِده اليومَ كما أجده إلا اللبن والحديث الحَسَن‏.‏
عاش ضِرَارُ بن عمرو حتى وُلد له ثلاثةَ عشرَ ذكراً فقال‏:‏ مَن سَرَّه بنوه ساءته نفسُه‏.‏
وقال ابن أبي فَننِ‏:‏ مَن عاشَ أَخْلقتِ الأيام جدَته وخانَه ثِقَتاه السَّمعُ والبَصرُ قالت عَهِدْتًك مَجنوناً فقلتُ لها إنّ الشبَابَ جُنونٌ بُرْؤُه الكِبر قال أبو عُبيدة‏:‏ قيل لشَيْخ‏:‏ ما بَقَى منك قال يَسْبقني مَن بي يَديّ ويُدْركني مَن خَلْفي وأذكر القديمَ وأنْسى الحديثَ وأنْعسِ في الملا وأسْهرُ في الخَلا وإذا قمتُ قَرُبَتِ الأرض مِنِّي وإذا قَعدْتُ تباعدت عَنّي‏.‏
وقال حُمَيد بن ثَوْر الهِلاليّ‏:‏ أرى بَصرِي قد رابني بعد صِحَّةٍ وحَسْبُك داءً أن تَصِحَّ وتَسْلَمَا وِقال آخر‏:‏ كانت قَنَاتي لا تَلِينُ لغامزٍ فألانَهَا الإصباحُ والِإمْساءُ وَدَعَوْتُ رَبِّي بالسلاَمة جاهِداُ لِيُصِحًني فإذا السلامةُ داء وقال أبو العتاهية ‏"‏ ويروى للقُطاميّ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ أَلستَ تَرَى أنّ الزَّمانَ طواني وبدَّل عقلي كلّه وبَرَاني ‏"‏ تَحَيَّفَني عُضْواً فَعُضْواً فلم يَدَع سوى اسمي صحيحاً وحدَه ولِساني ولو كانت الأسماء يَدْخُلها البِلَىِ إذاً بَليَ اسمي لامتدادِ زَمانِي وما ليَ أَبْلَى لِسَبْعِينَ حجَّةَ وَسبع أَتَتْ مِن بعدها سَنَتان إذا عَنًّ لي شيءٌ تَخيَّل دونه شَبيهُ ضَباب أو شَبيهُ دُخان وقال الغَزال‏:‏ أصبحتُ واللهّ مَحْسودأً على أَمدٍ مِنَ الحياة قَصيرِ غير مُمتَدِّ حتى بقيتُ بحمد الله في خَلَفٍ كأنّني بينهم من وَحْشًةٍ وَحْدي وما أُفارق يوماً مَن أفارقه إلا حَسِبْت فِراقِي آخرَ العَهد وقال آخر‏:‏ يا مَن لشيخٍ قد تَخَدَّد لحمُه أَفنَى ثلاثَ عمائمٍ أَلوانا سوداءَ حالكةً وسَحْقَ مُفوَف وأجدَّ لوناً بعد ذاك هِجَانَا قَصَرَ اللّيالي خَطْوَه فَتَدَاني وحَنَينْ قائم صُلبه فتحانىَ إنِّي وإن كان مَسنَّى كِبر على ما قد تَرَيْنَ من كِبَرِى أَعرفُ من قبل أن تُفَارِقَني موقعَ سَهْمِي والسهمُ في الوتَر ‏"‏ من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه كان حارثةُ بن بَدر الغُدَانيِّ فارسَ بني تميم وكان شاعراً أديبَا ظريفاً وكان يُعاقرا الشَّرابَ ويَصْحب زياداَ فقيل لزياد‏:‏ إنك تَصْحب هذا الرجلَ وليس من شاكِلَتك إنهُ يُعاقر الشراب فقال‏:‏ كيف لا أَصحبه ولم أَسْأله عن شيء قطّ إلا وجدتُ عنده منه عِلماً ولا مَشىَ أمامي فاضطرَّني أن أناديه ولا مَشى خَلْفي فاضطرَّني أن أَلتفتَ إليه ولا راكَبني فمسَّتْ رُكْبتي رُكْبَتَه‏.‏
فلما هلك زيادٌ قال حارثةُ بنُ بَدْر يَرْثيه‏:‏ أَبا المُغِيرَةِ والدُنيا مُغَرِّرَةٌ وإِنّ مَن غَرَّت الدُّنيا لَمَغْرورُ قد كان عِنْدك للمَعْروف مَعْرِفَةٌ وكان عندك للتَّنْكير تَنْكِير لو خلدَ الخيرُ والإسلامُ ذا قِدَمٍ إذاً لخلّدَك الإسلامُ والخِير وتمامُ هذه الأبياتِ قد وقعتْ في الكتاب الذي أَفْرَدناه للمَرَاثي‏.‏
وكان زياد لا يُدَاعب ‏"‏ أحداً ‏"‏ في مجلسه ولا يَضْحَك فاختصم إليه بنو راسِب وبنو الطُّفَاوَة في غُلام أثْبته هؤلاء وهؤلاء فَتَحَيَّر زيادٌ في الحًكم‏.‏
فقال له حارثةُ ابن بدر‏:‏ عِنْدي أكرمَ اللهّ الأميرَ في هذا الغلام أمرٌ إن أذِن الأميرُ تكلّمت به فيه قال‏:‏ وما عندك فيه قال‏:‏ أرى أن يُلْقَى في دِجْلة فإن رَسَب فهو لِبَني راسِب وإن طفا فهو لبني الطُّفَاوَة فتبسَّم زياد وأَخَذَ نَعْليه ودخل ثم خَرج فقال لحارثة‏:‏ ما حَمَلك على الدُّعابة في مَجلسي قال‏:‏ طَيِّبَةٌ حَضرَتْني أبقى الله الأمير خِفْت أن تَفُوتنِى قال‏:‏ لا تَعُدْ إلى مثلها‏.‏
ولما وَليَ عُبيد اللهّ بن زياد بعد موت أبيه اطرحَ حارثةَ بنَ بدر وجفاه‏.‏
فقال له حارثةُ‏:‏ مالك لا تُنْزلني المنزلةَ التي كان يُنزِلني أبوك أتدَّعي أنّكَ أفضلُ منه أو أعقل قال له‏:‏ إنّ أبي كان بَرَع في الفضل بُرُوعاَ لا تَضرّه صُحْبَة مثلك وأنا حَدَث أخشى أن تَحْرِقني بنارك فإنْ شِئْتَ فاتْرُك الشراب وتكونَ أوَلَ داخل وآخِرَ خارج قال‏:‏ والله ما تركتُه لله فكيف أتركه لك قال‏:‏ فتخَيَّرْ بلداً أوَلِّيكه‏.‏
فاختار سُرَّق من أرض العِراق فولاّه إياها‏.‏
فكتب إليه أبو الأسود الدُؤلي وكان صديقاً له‏:‏ أحارَ بنَ بَدْرٍ قَدْ وَليتَ وِلايةً فكُنْ جًرَذاً فيها تَخُون وتَسْرِقُ وباهِ تَمِيَماَ بالغِنى إنّ للغنى لِساناً به المرْء الهيوبة يَنطق وما الناس إلا اثنان إما مُكَذِّبٌ يقول بما يهْوَى وإمَّا مُصدِّق يقُولون أقوالاً ولا يحْكِمُونها فإنْ قيل يوماً حققوا لم يُحَقَقُوا فدع عنك ما قالوا ولا تَكْترث بهم فحظك من مال العِرَاقين سُرّق وكان ابن الوليد البَجليّ وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القَسْرِيّ ولي أصبهان وكان رجلاً مُتَسَمِّتاً مُتَصَلحاً فَقدِمَ عليه حمزةُ بن بيض بن عَوْف ‏"‏ راغباً ‏"‏ في صُحْبته فقيل له‏:‏ إنّ مثل حمزة لا يَصْحب مثلَك لأنه صاحبُ كِلاب ولهو فبعث إليه ثلاثةَ آلاف درْهم وأمره بالانصراف‏.‏
فقال فيه‏:‏ يابن الوليد المُرْتَجَى سَيْبهُ ومن يُجَلي الحدث الحالِكَا سَبِيلُ مَعْروفك مني عَلَى بالٍ فما بالِي عَلَى بالِكا حَشْوُ قميصي شاعرٌ مُفْلِقٌ والجودُ أمْسى حشو سربالِكا يلومك النَّاسُ على صُحْبتٍي والمِسْكُ قد يستصحبِ الرّامِكا إنْ كُنتَ لا تَصحَب إلا فَتى مِثْلك لن تُؤْتىَ بأمْثَالِكا إنيّ آمرُؤ جئتُ أريد الهُدَى فَعُد على جَهلي بإسْلامِكا قال له‏:‏ صدقتَ وقَرَّبه وحَسُنت منزلته ‏"‏ عنده ‏"‏‏.‏
وكان عبدُ الرحمن بن الحَكم الأمير قد عَتَب على نُدمائه‏!‏ فأَمرَ نَصْراً الفتى بإسقاطهم من ديوان عَطائه ولم يَسْتبدل بهم‏.‏
فلما كان بعد أيام أستوحش لهم فقال لِنصر‏:‏ قد استوحشنا لأصحابنا أولئك فقال له نصر‏:‏ قد نالهم من سخْط الأمير ما فيه أدبٌ لهم فإن رأى أن يُرْسل فيهم أرْسلت قال‏:‏ أرْسِلْ‏.‏
فأقبل القومُ وعليهم كآبة فأخذُوا مجالسهم ولم يَنشرحوا ولا خاضُوا فيما كانوا يَخُوضون فيه فقال الأميرُ لِنصر‏:‏ ما يَمنع هؤلاء من الانشراح قال‏:‏ عليهم أَبقى الله الأمير وَجْمَةُ السُخط الذي نالهم قال‏:‏ قُلْ لهم‏:‏ قد عَفَوْنا فليَنْشرحوا‏.‏
قال فقام عبد الرحمن بن الشَمر الشاعرِ المُتنجِّم فجثا بين يديه ثم أنشد شَعراً له أقذع فيه على بعض أصْحابه إلا أنه خَتمه ببيتين بديعين وهما‏:‏ فيا رَحْمَةَ الله في خَلْقه ومَن جُوده أبداً يَسْكُبُ لئن عِفْتَ صُحْبة أهل الذُّنوب لقلَّ مِن الناس من يُصْحَب وأَحسنُ ما قيل في هذا المعنى قولُ النابغة‏:‏ ولمسْتَ بِمُسْتَبْق أخا لا تَلُمّه على شَعَثٍ أيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ قولهم في القرآن كتب المَرِيسيّ إلى أبي يحيى مَنصور بن محمد‏:‏ اكتب إليَّ‏:‏ القرآنُ خالق أو مَخْلوق فكتب إليه‏:‏ عافانا الله وإياك من كلِّ فِتْنة وجَعَلنا وإِيَّاك من أهل السُّنة وممن لا يَرْغب بنفْسه عن الجماعة فإنه إن تَفْعل فأعْظِم بها مِنَّة وإن لا تَفْعل فهي الهَلَكة ونحن نقول‏:‏ إنّ الكلامَ في القرآن بِدعة يتكلّف المُجيبُ ما ليس عليه ويتعاطى السائل ما ليس له وما نعلم خالقاً إلا الله وما سِوى الله فمخلوق والقرآنُ كلام الله فانْتَه بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكونَ من الضالين جَعلنا الله وإياك من الذين يَخْشَوْن رَبَّهم بالغيب وهم من الساعة مُشْفِقون‏.‏
=كتاب الجوهرة في الأمثال=
‏"‏ قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه ‏"‏‏:‏ قدْ مَضى قولُنا في العِلْم والأدب وما يتولّد منهما ويُنْسب إليهما من الحِكَم النادرة والفِطَن البارعة ونحن قائلون بعَوْن الله وتوفيقه في الأمثال التي هي وَشيُ الكلام وجوهر اللفظ وحَلْى المعاني والتي تخيَّرتْها العربُ وقَدَّمتها العجم ونُطِق بها ‏"‏ في ‏"‏ كل زمان وعلى كلِّ لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يَسِرْ شيءٌ مَسِيرَها ولا عَمَّ عُمومَها حتى قيل‏:‏ أسير من مثل‏.‏