الفرق بين المراجعتين لصفحة: «العقد الفريد/الجزء الرابع»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سطر 1:
==كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم==
فرش الكتاب قال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عَبد ربّه رضي الله عنه‏:‏ قد مَضى قولُنا في أخبار زياد والحجَّاج والطالبين والبرامكة ونحن قائلون بعَون الله وتَوفيقه في أيام العرب ووقائعهم فإنها مآثر الجاهليَّة ومكارمُ الأخلاق السنيّة‏.‏
قيل لبعض أصحاب رسول الله {{صل}}‏:‏ ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم في مجالسكم قال‏:‏ كُنّا نتناشد الشعر ونتحدّث بأخبار جاهليّتنا‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ وددتُ أنّ لنا مع إسلامنا كرمَ أخلاق آبائنا في الجاهليَّة ألا ترى أنّ عَنترة الفوارس جاهليّ لا دينَ له والحسنَ بن هانئ إسلاميّ له دين فمنع عنترةَ كرمُه ما لم يَمنع الحسنَ بن هانئ دينُه فقال عنترة في ذلك‏:‏ وأغُضّ طَرْفي إن بَدت ليَ جارتي حتى يُوارِي جارتي مَأواها وقال الحسنُ بن هانئ مع إسلامه‏:‏ كان الشبابُ مطيَّةَ الجَهل ومُحسِّنَ الضَّحكات والهَزْل حروب قيس في الجاهلية يوم مَنْعِجِ لغَنيّ على عبس قال أبو عبيدة مَعْمر بن المُثنّى‏:‏ يوم مَنعج يقال له يوم الرِّدْهة وفيه قُتل شأس بن زُهير بن جَذيمة بن رَواحة العبسيّ بمنعج على الردْهة‏.‏
وذلك أنّ شأس بن زُهير أقبل من عند النُعمان بن المُنذر وكان قد حَباه بحباء جَزيل وكان فيما حباه قطيفةٌ حَمراء ذات هُدب وطَيلسانٌ وطِيبٌ‏.‏
فورد مَنْعج وهو ماء لغنيّ فأناخ راحلتَه إلى جانب الرَّدْهة عليها خِباء لرِيَاح ابن الاسَل الغَنويّ وجعل يَغتسلِ وامرأةُ رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض‏.‏
فانتزع له رياحٌ لسَهما فقتله ونحر ناقته فأكلها وضمَّ متاعَه وغَيَّب أثره‏.‏
وفُقد شأس بن زهير حتى وجدوا القطيفةَ الحمراء بسوق عُكاظ قد سامتهاامرأةُ رياح بن الأسَل فعلموا أنّ رياحاً صاحبُ ثأرهم‏.‏
فغزت بنو عَبس غنياً قبل أن يطلبوا قَوَداً أوْدِيةً مع الحصين بن زُهير بن جَذيمة والحُصين بن أسَيد بن جَذيمة‏.‏
فلما بلغ ذلك غَنِياً قالوا لرِيَاح‏:‏ أنجُ لعلّنا نُصَالح القومَ على شيء‏.‏
فخرج رياحٌ رَدِيفاً لرجلِ من بني كلاب لا يريان إلا أنهما قد خالفا وِجْهة القوم‏.‏
فمرّ صُرَدٌ على رُءوسهما فصَرصر‏.‏
فقالا‏:‏ ما هذا فما راعهما إلا خيلُ بني عَبْس‏.‏
فقال الكِلاَبي لرِياح‏:‏ أنحدر من خَلفي وألتَمس نفقاً في الأرض فإنّي شاغلٌ القومَ عنك‏.‏
فأنحدر رياحٌ عن عَجز الجَمل حتى أتى صَعْدة فاحتفر تحتها مثلَ مكان الأرنب ووَلَج فيه‏.‏
ومَضى صاحبُه فسألوه فحدّثهم وقال‏:‏ هذه غني جامعة وقد استمكنتُم منهم‏.‏
فصدقوه وخلّوا سبيلَه‏.‏
فلما ولّى رأوا مَركبَ الرجل خلفَه فقالوا‏:‏ مَن الذي كان خلفَك فقال‏:‏ لا أكذب رياح بن الأسل وهو في تلك الصَعَدات‏.‏
فقال الحُصينان لمن معهما‏:‏ قد أمكننا الله من ثأرنا ولا نُريد أن يَشرَكنا فيه أحد‏.‏
فوقفوا عنهما ومَضيا فجعلا يُرِيغان رياحَ بن الأسل بين الصَعَدات‏.‏
فقال لهما رياح‏:‏ هذا غزالكما الذي ترِيغانه‏.‏
فابتدراه فَرمى أحدَهما بسهم فأقصده وطَعنه الآخر قبل أن يَرْميه فأخطأه ومرَّت به الفرسُ واستدبره رياحٌ بسهم فقَتله ثم نجا حتى أتى قومَه وانصرفوا خائبين مَوْتورين وفي ذلك يقول الكُميت بن زيد الأسديّ وكانت له أمان من غَنيّ‏:‏ أنا ابنُ غَنيّ والداي كلاهما لأمَّين منهم في الفُروع وفي الأصل هم استَودعوا زُهَراً بسَيْب بن ساِلم وهُم عَدلوا بين الحُصَينيين بالنبْل وهم قَتلوا شأسَ المُلوك وأرغموا أباه زُهيراً بالمَذَلّة والثُكْل لبني عامر على بني عبس فيه قُتل زُهير بنِ جَذيمة بن رَوَاحة العَبسيّ وكانت هوازن تُؤدي إليه إتَاوة وهي الخراج‏.‏
فأتته يوماً عجوز من بني نصر بن مُعاويةَ بسَمن في نِحْي واعتذرت إليه وشكتْ سنينَ تتابعت على الناس فذاقه فلم يَرْض طعمَه فدَعسها بقوس في يده عُطل في صدرها‏.‏
فاستلقت على قَفاها مُنكشفة‏.‏
فتألى خالدُ بن جعفر وقال‏:‏ والله لأجعلنّ ذراعي في عُنقه حتى يُقتلَ أو أقتل‏.‏
وكان زهير عَدُوسا مِقداماً لا يُبالي ما أَقدم عليه‏.‏
فاستقلّ أي انفرد من قومه بابنَيْه وبَنى أَخويه‏:‏ أُسيدَ وزِنْباع يَرعى الغيثَ في عُشَرَاوات له وشَوْل‏.‏
فأتاه الحارث بن الشرَّيد وكانت تُماضر بنت الشَرِيد تحت زُهير فلما عرف الحارث مكانَه أنذر بني عامر بن صَعصعة رهطَ خالد بن جعفر‏.‏
فركب منهم ستة فوارس فيهم خالد بن جعفر وصَخر بن الشريد وحُنْدج ابنُ البَكاء ومعاوية بن عُبادة بن عَقِيل فارس الهَرار - ويقال لمُعاوية‏:‏ الأَخيل‏:‏ وهو جَدّ ليلى الأخْيليّة - وثلاثة فوارس من سائر بني عامر‏.‏
فقال أسَيد لزُهير‏:‏ أعلمتْني راعيةُ غَنمي أنها رأتْ على رأس الثنيّة أشباحاً ولا أَحسبُها إلاّ خيلَ بني عامر فالحق بنا بقَومنا‏.‏
فقال زهير‏:‏ كُل أَزبّ نَفور‏.‏
وكان أًسيد أشعرَ القفا فذهبتْ مثلاً‏.‏
فتحمَّل أًسيد بمن معه وبقي زُهير وابناه‏:‏ ورقاء والحارث وصُحبتهم الفوارس‏.‏
فتمرِّدت بزُهير فرسُه القَعساء ولحقه خالد ومُعاوية الأخيل فطعن مُعاوية القعساء فقلبت زُهيراً وخرَّ خالد فوقه ورفع المِغْفر عن رأس زُهير وقال‏:‏ يا آل عامر أَقبلوا جميعاً‏.‏
فأقبل معاويةُ فضرِب زهيراً على مَفْرق رأسه ضرِبةً بلغت الدِّماغ وأقبل ورَقاء بن زُهير فضرب خالداً وعليه درعان فلم يُغن شيئاً وأجهض ابنا زُهير القوم عن زهير واحتملاه وقد اثخنته الضَّربة فمنعوه الماء‏.‏
فقال‏:‏ أَميِّتٌ أنا عَطشاً اسقُوني الماء وإن كانت فيه نفسي‏.‏
فسقَوْه فمات بعد ثلاثة أيام‏.‏
فقال في ذلك وَرقاء ابن زُهير‏:‏ رأيتُ زهيراً تحت كَلْكل خالدٍ فأقبلتُ أَسعَى كالعَجول أُبادرُ إلى بَطَليْن يَنْهضان كلاهما يردان نصل السيف والسيف نادر فشُلَّت يميني يومَ أضربُ خالداً ويمنعه مني الحديد المظاهر فيا ليت أنّي قبل أيام خالد ويوم زهير لم تلدني تماضر لعمري لقد بُشِّرْتِ بي إذ وَلَدْتِني فماذا الذي ردت عليك البشائر وقال خالدُ بن جعفر في قتله زُهيراً‏:‏ بل كيف تكْفُرني هوازنُ بعدما أعتقتهُم فتوالدوا أحرار وقتلتُ رَبّهمُ زُهيراً بعدما جَدَع الأنُوف وأَكثر الأوتارا يوم بطن عاقل لذبيان على عامر فيه قُتل خالد بن جَعفر ببطن عاقل‏.‏
وذلك أن خالداً قَدم على الأسود بن المُنذر أخي النُّعمان بن المُنذر ومع خالد عُروة الرحَّال بن عُتبة بن جعفر‏.‏
فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غَيظ بن مُرَّة بن عَوف بن سعد ابن ذُبيان عند الأسود بن المُنذر‏.‏
قال‏:‏ فدعا لهما الأسود بتَمر‏.‏
فجيء به على نِطْع فجُعل بين أيديهم‏.‏
فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم‏:‏ يا حارث ألا تَشكر يدي عندك أن قتلتُ عنك سيّدَ قومك زُهيراً وتركتك سيدَهم قال‏:‏ سأَجزيك شُكْر ذلك‏.‏
فلما خرج الحارث قال الأسود لخالد ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب وأنت ضيفي فقال له خالد‏:‏ إنما هو عَبد من عَبيدي لو وجدني نائماً ما أَيقظني‏.‏
وانصرف خالدٌ إلى قُبَّته فلامه عِروةُ الرحّال‏.‏
ثم ناما وقد أشرجت عليهما القُبة ومع الحارث تَبيع له من بني مُحارب يقال له خِرَاش‏.‏
فلما هدأت العُيون أخرج الحارث ناقتَه وقال لِخَراش‏:‏ كُن لي بمَكان كذا فإن طَلع كوكب الصُّبح ولم آتِك فانظُر أي البلاد أحب إليك فأعمِد لها‏.‏
ثم انطلق الحارث حتى أتى قُبةَ خالد فهتك شرَجَها ثم ولَجها وقال لعُروة‏:‏ أسكُت فلا بأس وزعم أبو عُبيدة أنه لم يشعر به حتى أتى خالداً وهو نائم فقتله ونادى عُروة عند ذلك‏:‏ واجِوَارَ المَلك‏!‏ فأقبل إليه الناسُ وسَمع الهُتافَ الأسودُ بن المُنذر وعنده امرأة من بني عامر يقال لها المُتجردة فشقت جَيبَها وصرَخت‏.‏
وفي ذلك يقولُ - عبد الله بن جَعدة‏:‏ شَقت عليكَ العامرية جَيْبَها أسفاً وما تَبْكِي عليكَ ضلا يا حارِ لو نَبهتَه لوجدتَه لا طائشاً رعِشاً ولا مِعْزالا واغرورقت عيناي لما أخْبرت بالجَعفري وأسبلتْ إسبالا فلنقتلنَ بخالدٍ سرواتِكم ولنجعلنْ للظالمين نَكالا فإذا رأيتُم عارضاً متهللاً مِنّا فإنا لا نُحاول مالا يوم رحرحان لعامر على تميم قال‏:‏ وهرب الحارثُ بن ظالم ونَبَتْ به البلادُ فلجأ إلى مَعبد بنِ زُرارة وقد هَلك زرارةُ فأجاره‏.‏
فقالت بنو تميم لمَعبد‏:‏ مالك آويتَ هذا المَشئوم الأنكد وأغريت بنا الأسود وخَذلوه غير بني دمَاوية وبني عبد الله ابن دارم‏.‏
وفي ذلك يقول لَقيطُ بن زُرارة‏:‏ فأمَا نَهشلٌ وبنو فُقَيْم فلم يَصبِر لنا منهم صَبُورُ فإنْ تَعمِد طُهيةَ في أمور تجدْها ثَم ليس لها نَصير ويَربوع بأسْفل ذي طُلوح وعمرو لا تَحل ولا تَسير أسيد والهُجيم لها حُصاص وأقوامٌ من الجَعْراء عُور وأسلمنا قبائلُ من تميم لها عددٌ إذا حُسبوا كَثير وأما الآثمان‏:‏ بنو عَديّ وَتيم إذا تُدبرت الأمور فلا تَنعم بهم فِتيانَ حَرْب إذا ما الحيُ صبحهم نذير إذا ذهبت رماحُهمِ بزَيْد فإن رِماحَ تَيْم لا تَضير قال‏:‏ وبلغ الأحوصَ بن جعفر بنِ كلاب مكانُ الحارث بن ظالم عند مَعبد فغزى مَعبداً فالتقَوْا برَحرحان‏.‏
فانهزمت بنو تَميم وأسر مَعبد ابنُ زرارة أسره عامرٌ والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب‏.‏
فوفد لَقيطُ ابن زُرارة عليهم في فِدائه فقال لهما‏:‏ لكما عندي مائتا بعير‏.‏
فقال‏:‏ لا يا أبا نَهشل أنت سيد الناس وأخوكَ معبد سيد مضر فلا نقبل فيه إلا ديةَ مَلِك‏.‏
فأبى أن يَزيدهم وقال لهم‏:‏ إن أبانا أوصانا أن لا نزيد أحداً في ديته على مائتي بعير‏.‏
فقال مَعبد للقِيط‏:‏ لا تَدَعْني يا لقيط فوالله لئن تركتَني لا تراني بعدها أبداً‏.‏
قال‏:‏ صبراً أبا القَعقاع فأين وصاة أبينا ألا تُؤكلوا العربَ أنفسكم ولا تَزيدوا بفدائكم على فِداء رجل منكم فَتذْؤُب بكم ذُؤبان العرب‏.‏
ورحل لقيط عن القوم‏.‏
قال‏:‏ فمنعوا معبداً الماءَ وضارّوه حتى مات هُزالا‏.‏
وقيل‏:‏ أبَى معبد أن يَطعم شيئا أو يَشرب حتى مات هُزالا‏.‏
ففي ذلك يقول عامر ابن الطفيل‏:‏ قضينا الجَوْن من عبس وكانت منية مَعبد فينا هُزالاَ وقال جرير‏:‏ وليلةَ وادي رَحْرحان فَرَرْتُم فِراراً ولم تُلْووا زَفيفَ النعائِم تركتم أبا القَعقاع في الغُل مُصْفَداً وأيَ أخ لم تسلموا وقال‏:‏ يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم قال أبو عُبيدة‏:‏ يوم شِعب جَبلة أعظم أيام العرب وذلك أنه لما انقضت وَقْعة رَحرحان جمع لقيطُ بن زرارة لبني عامر وألب عليهم‏.‏
وبين يوم رَحرحان ويوم جَبلة سنة كاملة‏.‏
وكان يوم شِعْب جَبَلة قبلَ الإسلام بأربعين سنة وهو عام وُلد النبيّ {{صل}}‏.‏
وكانت بنو عَبس يومئذ في بني عامر حُلفاءَ لهم فاْستعدى لَقيط بني ذُبيان لعداوتهم لبني عَبس من أجل حَرب داحس فأجابته غَطفان كلّها غيرَ بني بدر‏.‏
وتجمّعت لهم تميم كلها غير بني سَعد وخرجت معه بنو أَسد لحلْف كان بينهم وبين غَطفان حتى أتى لقيط الجونَ الكَلْبيّ وهو ملك هَجر وكان يَجبى مَن بها من العَرب فقال له‏:‏ هل لك في قوم غارِّين قد مَلئوا الأرض نَعماً وشاء فترسلَ معي ابنيك فما أَصبنا من مال وَسبْى فلهما وما أصبنا من دم فَلِي فأجابه الجَون إلى ذلك وجعل له موعداً رأسَ الحَوْل‏.‏
ثم أتى لقيطٌ النعمانَ بن المُنذر فاسنتجده وأطعمه في الغنائم فأجابه‏.‏
وكان لقيطٌ وجيهاً عند الملوك‏.‏
فلما كان على قَرن الحَول من يوم رَحرحان انهلّت الجيوش إلى لَقيط وأقبل سِنانُ بن أبي حارثة المُرّي في غَطفان وهو والد هَرِم بن سِنان الجَواد وجاءت بنو أسد وأرسل الجونُ ابنيه معاويةَ وعمراً وأرسل النعمان أخاه لأمه حسَّان ابن وَبَرة الكَلبيّ‏.‏
فلما توا فَوْا خرجوا إلى بني عامر وقد أُنذروا بهم وتَأهّبوا لهم‏.‏
فقال الأحوصُ بن جعفر وهو يومئذ رَحَا هوازن لقيس بنُ زهير‏:‏ ما ترى فإنك تزعم أنه لم يَعْرض لك أمران إلا وجد تَ في أحدهما الفَرج‏.‏
فقال قيسُ ابن زهير‏:‏ الرأي أن نَرتحل بالعِيال والأموال حتى نَدْخل شِعْب جَبلة فنُقاتِل القوم دونها من وَجه واحد فإنهم داخلون عليك الشِّعب وإنّ لقيطاً رجل فيه طَيش فسيقتحم عليك الجبَل فأرى لك أن تأمر الإبل فلا تَرعى ولا تُسقى وتُعقل ثم تَجعل الذّراري وراء ظُهورنا وتأمر الرجالَ فتأخذُ بأذناب الإبل فإذا دخلوا علينا الشِّعب حَلّت الرّجّالة عُقل الإبل ثم لَزِمت أذنابَها فإنها تنحدر عليهم وتحنّ إلى مرعاها وورْدها ولا يَردّ وجوهَها شيء وتخرج الفُرسان في إثر الرّجّالة الذين خلفَ الإبل فإنها تُحطّم ما لقيت وتُقبل عليهم الخيل وقد حُطِّموا من عَل‏.‏
قال الأحوص‏:‏ نِعم ما رأيت فأخذ برأيه‏.‏
ومع بني عامر يومئذ بنو عَبس وغنى في بني كِلاب وباهلةُ في بني كعب والأبناءُ أبناء صَعصعة‏.‏
وكان رهط المُعَقَر البارقيّ يومئذ في بني نُمير بن عامر وكانت قبائل بَجيلة كُلّها فيهم غير قَسْر‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ وأقبل لَقيط والملوك ومن مَعهم فوجدوا بني عامر قد دخلوا شِعْب جَبلة فنزلوا على فَم الشِّعب‏.‏
فقال لهم رجل من بني أسد‏:‏ خذوا عليهم فَم الشِّعب حتى يَعْطشوا ويَخْرجوا فوالله ليتساقطُنّ عليكم تساقطَ البَعَر من أست البعير‏.‏
فأتوا حتى دخلوا الشِّعب عليهمِ وقد عقلوا الإبل وعَطّشوها ثلاثة أخماس وذلك اثنتا عشرةَ ليلة ولم تَطْعم شيئاً‏.‏
فلما دخلوا حلّوا عُقُلَها فأقبلت تهوي‏.‏
فسمع القومُ دَويها في الشِّعب فظنوا أن الشِّعب قد هُدم عليهم والرّجالة في إثرها آخذين بأذنابها فدقّت كلَّ ما لقيتْ وفيها بَعير أعور يتلوه غلام أعسر أخذٌ بذنبه وهو يرتجز ويقول‏:‏ ‏"‏ أنا الغلامُ الأعسر الخيرُ فيِّ والشرّ والشرُّ في أَكثرْ ‏"‏ فانهزموا لا يُلوون على أحد‏.‏
وقُتلَ لقيطُ بنُ زُرارة وأسر حاجبُ بن زرارة أسره ذو الرُّقَيْبة‏.‏
وأسر سِنان بن حارثة المُري أسره عُروة الرحال فجزّ ناصيَته وأطلقه فلم تَشِنْه‏.‏
وأسر عمرو بن أبي عمرو بن عُدس أسره قيس بن المُنتفق فجزّ ناصيته ناصيته وخلاّه طَمعاً في المُكافأة فلم يَفعل‏.‏
وقُتل معاوية بن الجَوْن ومُنقذ بن طَرِيف الأسدي ومالك بن رِبْعيّ بن جَندل ابن نَهشل‏.‏
فقال جرير‏:‏ كأنك لم تَشهدْ لَقِيطاً وحاجباً وعمرو بنَ عمرو إذ دَعا يا لَدَارم ويومَ الصّفا كُنتم عَبيداً لعامر وبالحَزْن أصبحتم عَبيدَ اللَهازم يعنى بالحَزن يومَ الوقيط‏.‏
وقال جرير أيضاً في بني دارم‏:‏ وكبل حاجبٌ بشِمام حَوْلاً فحكَم ذا الرًّقيبة وهو عَانى وقالت دخْتَنوس بنت لَقيط تَرثي لَقيطاً‏:‏ فَرَّت بنو أسد فِرا رَ الطيْر عن أربابها عن خَير خِنْدف كلها مِن كهلها وشَبابها وأتَمَها حسباً إذا نُصَّتْ إلى أحسابها وقال المُعقَر البارقيّ‏:‏ أمِن آل شَعثاء الحُمول البَواكرُ مع الصُّبح أم زَالتْ قُبيلُ الأباعرُ وحَلت سُليمى في هِضاب وأيكة فليس عليها يومَ ذلك قادر وألقتْ عَصاها واستقرت بها النَوى كما قَرّ عيناً بالإياب المُسافر وصبحها أملاكُها بكتَيبةٍ عليها إذا أمستْ من الله ناظر مُعاويةُ بنُ الجَون ذُبيانُ حولَه وحسان في جَمع الرِّباب مُكاثر وقد زَحفتْ دُودان تَبغي لثأرِها وجاشت تميم كالفُحول تُخاطر وقد جَمَعوا جمعاً كأنَّ زُهاءه جراد هَفا في هَبْوة مُتطاير فلم نَقْرهم شيئاً ولكنْ قِراهُم صَبوح لدينا مَطْلَع الشمس حازِر وصَبَحهم عد الشَرُوق كتائب كأركان سَلْمى سيرُها مُتواتر كأن نَعام الدَوَ باض عليهمُ وأعينهمُ تحت الحَبيك خَوازر مِن الضاربين الهام يَمْشون مَقدماً إذا غُصّ بالرِّيق القليل الحَناجر أضنّ سرَاةُ القوم أنْ لن يُقاتلوا إذا دُعيت بالسَّفْح عَبْسٌ وعامر ضربنا حَبِيك البَيْض يا غَمر لجة فلم يَنج في الناجِين منهم مُفاخر هوى زَهْدمٌ تحت العَجَاج لحاجب كما انقضّ بازٍ أقتمُ الرِّيش كاسر يُفرّج عنّا كُلَّ ثَغرٍ نخافه مِسَحّ كسِرْحان القَصيمة ضَامر وكُلُّ طَموح في العِنان كأنها إذا اغتمَست في الماء فَتْخاء كاسِر لها ناهضٌ في الوَكْر قد مهدت له كما مَهَدت لِلبَعْل حَسناءُ عاقِرِ تخاف نِساءً يَبْتَززن حِليلَها مُحرَّبةٌ قد أحْردتها الضرائر استعار هذا البيت فألقت عصاها من المُعَقّر البارقيّ إذ كان مثلاً في الناس راشدُ بن عبد صحا القلب عن سَلْمى وأقْصر شأْوه ورَدّت عليه تبتغيه تًماضرُ وحَلّمه شَيْبُ القَذال عن الصِّبا وللشَّبيبُ عن بَعض الغَواية زاجر فأقصر جهلي اليومَ وارتد باطلي عن اللهو لما أبيض مني الغدائر على أنه قد هاجه بعدَ صحْوه بمَعرض ذي الآجام عِيسٌ بَواكر ولما دنتْ من جانب الغُوط أخصبت وَحلّت فلاقاها سُلَيم وعامر وخبّرها الرُّكبان أنْ ليس بينها وبين قُرى بصرى ونَجران كافر فألقت عَصاها واستقرَّت بها النِّوى كمَا قَر عيناً بالإياب المُسافر فاستعار هذا البيت الأخير من المُعقّر البارقيّ ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثّلهم به‏.‏
يوم مقتل الحارث بن ظالم بالخَربَة قال أبو عُبيدة‏:‏ لما قَتل الحارث بنُ ظالم خالدَ بن جعفر الكِلابيّ أتى صديقاً له من كِندة فالتفَّ عليه فطلبه الملك فخَفَّى ذكره‏.‏
ثم شَخص من عند الكِنْديّ وأضمرته البِلاد حتى استجار بزياد أحد بني عِجل بن لُجيم فقام بنو ذُهل بن ثَعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لعِجْل‏:‏ أخْرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقَة لنا بالشهباء ودَوْسر - وهما كتيبتان للأسود بن المُنذر - ولا بمُحاربة الملك‏.‏
فأبتْ ذلك عليهم عِجْل‏.‏
فلما رأى ذلك الحارثُ ابنُ ظالم كَرِه أن يَقع منهم فِتْنة بسببه فأرتحل من بني عِجْل إلى جَبلَي طيىء فأَجاروه فقال في ذلك‏:‏ لَعمري لقد حَلِّ بي اليومَ ناقَتي على ناصِر من طَيىّء غير خاذل فأصبحتُ جاراً للمَجرَّةِ فيهم على باذخ يعلو يدَ المتطاول إذا أَجأ لفت علِيَّ شِعابَها وَسَلْمى فأني أنتمُ مِن تَناولي فمكث عندهم حِيناً ثم إنّ الأسود بن المُنذر لما أَعجزه أمره أرسل إلى جارات كُنّ للحارث بن ظالم فاستاقهنّ وأموالهن‏.‏
فبلغِ ذلك الحارثَ ابنَ ظالم فخرج من الجَبلين فاندسَّ في الناس حتى عَلمِ مكان جاراته ومَرعى إبلهن فأتاهنّ فاستنقذهنّ واستاق إبلَهن فألحقهنّ بقومهن واندس في بلاد غَطفان حتى أتى سِنانَ بن أبي حارثة المُري وهو أبو هَرِم الذي كان يمدحه زُهير‏.‏
وكان الأسود بن المنذر قد اْسترضع ابنه شَرَحْبيل عند سَلْمى امرأة سِنان وهي من بني غَنم بن دُودان بن أسد فكانت لاَ تأمن على ابن الملك أحداً فاستعار الحارث بن ظالم سَرج سِنان وهو في ناحية الشَّرَبَّة لا يعلم سِنَان ما يُريد وأتى بالسّرْج امرأة سنان وقال لها‏:‏ يقول بعلُك‏:‏ ابعثي بابن الملك مع الحارث فإني أريد أن أستأمن له الملكَ وهذا سرجُه آية ذلك‏.‏
قال‏:‏ فزينته سَلْمى ودفعتْه إليه‏.‏
فأتى بِه ناحيةً من الشرَبة فقَتله وقال في ذلك‏:‏ أخصْيي حِمارٍ بات يَكْدِم نَجْمةً أتُؤكل جاراتي وجارُك سالمُ علوتُ بذي الحيات مَفْرقَ رأسِه ولا يركب المَكْروهَ إلا الأكارم فتكتُ به كما فتكتُ بخالد وكان سِلاحي تَجْتويه الجماجم بَدأتُ بذاك وانثنيتُ بهذه وثالثة تَبيضّ منها المَقادم قال‏:‏ وَهَرب الحارث من فَوره ذلك وهَرب سنان بن أبي حارثة‏.‏
فلما بلغ الأسودَ قتلُ ابنه شرحبيل غزا بنِي ذُبيان فقتل وسَبى وأخذ الأموال وأغار على بني دُودان رَهْطِ سَلْمى التي كانِ شرحبيل في حِجرها فقتلهم وسبَاهم بسَط أرِيك‏.‏
قال‏:‏ فوجد بعد ذلك نَعلي شرحبيل في ناحِية الشَّربة عند بني مُحَارب بن خَصفة فغزاهم الملك ثم أسرهم ثم أحْمَى الصَّفا وقال‏:‏ إني أحذيتكم نعالاً فأمشاهم على ذلك الصفا فتساقطت أقدامهم‏.‏
ثم إن سيار بن عمرو بن جابر الفَزاري احتمل للأسود ديةَ ابنه ألف بعير وهي دية الملوك ورَهنه بها قوسَه فوفاه بها فقال في ذلك‏:‏ ونحن رهنا القوسَ ثُمَّتَ فودِيت بألفٍ على ظَهر الفَزاري أقْرعاً بعشر مِئين للملوك وفَى بها ليُحمَد سيار بن عمروٍ فأسرعا وكان هذا قبل قَوس حاجب‏.‏
وقال في ذلك أيضاً‏:‏ وهل وجد تُم حاملاً كحاملي إذ رَهن القوسَ بألفٍ كامل بِدِية ابن المَلِك الحُلاحِل فافتكها مِن قَبل عام قابِل سيار الموفى بها ذو النَائل وهرب الحارث فلحق بمَعبد بن زُرارة فاستجار به فأجاره وكان من سَببه وقعة رَحْرَحان التي تقدم ذكرها‏.‏
ثم هرب الحارث حتى لحق بمكة وقريش لأنه يقال إن مُرة بن عَوف بن سعد بن ذبيان إنما هو مُرة بن عَوف بن لؤي ابن غالب فتوسَّل إليهم بهذه القَرابة وقال في ذلك‏:‏ إذا فارقتُ ثَعلبة بنَ سَعْد وإخوتَهم نسبت إلى لُؤيّ فإمْ يك منهمُ أصْلي فمنهم قَرابين الإله بني قُصي فقالوا‏:‏ هذه رَحم كَرْشَاء إذ استغنيتُم عنها لنْ يَتِرَكم‏.‏
قال‏:‏ فشخص الحارث عنهم غَضبان وقال في ذلك‏:‏ ألا لستم منّا ولا نحن منكُم بَرِئْنا إليكم من لُؤي بن غالب غَدَوْنا على نَشْز الْحِجاز وأنتم بمنشعب البَطْحاء بين الأخاشب وتوجّه الحارث بن ظالم إلى الشام فلحق بيزيدَ بن عمرو الغساني فأجاره وأكرمه‏.‏
وكان ليزيد ناقة مُحماة في عُنقها مُدية وزِناد وصُرَة مِلْح وإنما كان يَمتحن بها رعيِّته لينظر مَن يجترئ عليه‏.‏
فوَحِمت امرأة الحارث فاشتهت شَحماً في وَحَمها فانطلق الحارثُ إلى ناقة الملك فانتحرها وأتاها بشَحمها وفُقدت الناقة فأرسل الملكُ إلى الخِمْس التغلبي وكان كاهناً فسأله عن الناقة فأخبره أنِّ الحارث صاحبها‏.‏
فهَم الملك به ثم تذمم من ذلك‏.‏
وأوجس الحارثُ في نفسه شرّاً فأتى الخِمْس التّغلبيّ فقَتله‏.‏
فلما فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقَتله‏.‏
قال‏:‏ أيها الملك إنك قد أجرتَني فلا تَغْدرنّ بي‏.‏
فقال الملك‏:‏ لا ضَير إن غدرتُ بك مرة لقد غدرتَ بي مراراً‏.‏
وأمر ابنَ الخِمْس‏.‏
فقَتله وأخذ ابنُ الخِمْس سيفَ الحارث فأتى به عُكاظ في الأشهر الحُرم فأراه قيسَ بن زُهير العبسيّ فضربه به قيسٌ فقَتله وقال يرثي الحارثَ بن ظالم‏:‏ أعز وأحمَى عند جارٍ وذِمّة وأضرَبَ في كابٍ من النّقع قاتم حرب داحس والغبراء وهي من حُروب قيس قال أبو عُبيدة‏:‏ حرب داحس والغبراء بين عَبس وذُبيان ابني بَغيض بن رَيْث بن غَطفان‏.‏
وكان السبب الذي هاجها أنّ قيسَ بن زُهير وحَمل بن بَدر تَراهنا على داحسِ والغَبراء أيهما يكون له السَّبْق وكان داحس فحلاً لقيس ابنُ زهير والغبراء حِجْراً لحَمَل بن بَدْر وتواضعا الرهان على مائة بعير وجعلا مُنتهى الغاية مائة غَلْوة والإضمار أربعين ليلة ثم قادوهما إلى رأس المَيدان بعد أن أَضمروهما أربعين ليلة وفي طَرف الغاية شِعاث كثيرة‏.‏
فأكمن حَملُ بن بدر في تلك الشّعاب فِتْيانا على طريق الفَرسين وأمرهم إن جاء داحس سابقاً أن يردّوا وجهه عن الغاية‏.‏
قال‏:‏ فأرسلوهما فأحضرا فلما احضرا خَرجت الأنثى من الفحل‏.‏
فقال حَمَل بن بدر‏:‏ سبقتُك يا قيس‏.‏
قال قيس‏:‏ رُوَيدا يَعْدُوان الجَدَد إلى الوَعْث ترشح أعطاف الفحل‏.‏
قال‏:‏ فلما أَوغلا في الجَدد وخرجا إلى الوَعْث بَرز داحس عن الغَبراء فقال قيس‏:‏ جَرْي المُذْكيات غِلاء فذَهبت مثلاً‏.‏
فلما شارف داحس الغاية ودنا من الْفِتية وَثبوا في وجه داحس فردّوه عن الغاية‏.‏
ففي ذلك يقول قيسُ بن زُهير‏:‏ هُمُ فَخروا عليّ بغير فَخْر وردّوا دون غايته جَوادي ثارت الحرب بين عبس وذُبيان ابني بَغيض فبقيت أربعين سنة لم تُنتَج لهم ناقه ولا فَرس لاشتغالهم بالحرب‏.‏
فبعث حذيفة بن بدر ابنَه مالكاً إلى قيس بن زُهير يطلب منه حَق السبتى‏.‏
فقال قيس‏:‏ كلا لأمطُلنك به ثم أخذ الرُّمح فَطعنه به فدقّ صلبه ورجعت فرسه عارية فاْجتمع الناسُ فاحتملوا دية مالك مائة عُشَراء‏.‏
وزعموا أن الرَّبيع بن زياد العَبسيّ حَملها وحدَه فقَبضها حُذيفة وسكن الناس‏.‏
ثم إن مالك بن زهير نزل اللُّقاطة من أرض الشربّة فأخبر حُذيفة بمكانه فعدا عليه فقتله‏.‏
ففي ذلك يقول عَنترة الفوارس‏:‏ فللّه عَينَا مَن رَأى مثلَ مالِكٍ عَقيرةَ قوم أن جَرَى فَرَسان فليتهما لم يَجريا قَيْد غَلوة وليتهما لم يُرْسَلا لِرهان فقالت بنو عَبس‏:‏ مالك بن زُهير بمالك بن حُذيفة ورُدّوا علينا مالَنا‏.‏
فأبَى حذيفةُ أن يردّ شيئاً‏.‏
وكان الربيعُ بن زياد مجاوراً لبني فَزارة ولم يكن في العَرب مثلُه ومثلُ إخوته وكان يقال لهم الكَمَلة وكان مُشاحناً لقيس بن زهير من سَبب دِرْع لقيس غَلبه عليها الربيعُ بن زياد فاطّرد قيسٌ لَبوناً لبني زياد فأتى بها مكةَ فعاوض بها عبد الله بن جُدعان بسلاح وفي ذلك يقول قيس ابن زُهير‏:‏ ومَحْبسها على القُرشيّ تُشْرى بأدراع وأسياف حِداد وكنتُ إذا بُليت بخَصم سَوء دَلفتُ له بدَاهية نآد ولما قُتل مالك بن زُهير قامت بنو فَزارة يسألون ويقولون‏:‏ مَا فعل حِماركم قالوا‏:‏ صِدْناه‏.‏
فقال الربيع‏:‏ ما هذا الوَحْي قالوا‏:‏ قتلنا مالكَ بن زهير‏.‏
قال بئسما فعلتم بقَومكم قَبلتم الدِّية ثم رَضيتم بها وغَدرتم‏.‏
قالوَا‏:‏ لولا أنك جارنا لقَتلناك وكانت خُفرة الجار ثلاثاً‏.‏
فقالوا له‏:‏ بعد ثلاث ليال‏:‏ اخرُج عنا‏.‏
فخرج وأتبعوه فلم يَلحقوه حتى لَحق بقومه‏.‏
وأتاه قيسُ بن زهير فعاقده‏.‏
وفي ذلك يقول الربيع‏:‏ فإنْ تكُ حَربُكم أمستْ عوَانا فإني لم أكُن ممَن جَناها ولكنْ وُلْد سودة أرثوها وَحشُوا نارها لِمَن اصطلاها فإنّي غيرُ خاذلكم ولكن سأسعى الآن إذ بَلغت مداها ثم نَهضت بنو عَبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان إلى بني فَزارة وذُبيان ورئيسهم الربيع بن زياد ورئيس بني فَزارة حُذيفة بن بَدر‏.‏
يوم المريقب فالتقوا بذي المرَيْقِب‏:‏ من أرض الشربة فاقتتلوا فكانت الشوكةُ في بني فَزارة قُتل منهم عوف بن زيد بن عمرو بن أبي الحصين أحد بني عديّ بن فَزارة وضَمضم أبو الحصين المُري قتله عَنترة الفوارس ونَفر كثير ممن لا يعرف أسماؤهم‏.‏
فبلغ عنترةَ أنّ حُصينا وهَرِماً ابني ضَمضم يشتُمانه ويُواعدانه فقال في قصيدته التي أولها‏:‏ يا دار عَلبة بالجوَاء تَكلَمي وعِمِي صَباحاً دَار عَبلة واسلمي ولقد خَشيتُ بأن أمَوتَ ولم تَدُر للحَرْب دائرةُ على ابنى ضَمْضم الشاتِمَي عِرْضى ولم أشتمهما والناذِرين إذا لم ألْقَهما دَمي إن يَفعلا فلقد تركت أباهما جَزَر السباع وكل نَسر قَشْعم لما رآني قد نزلتُ أريده أبدى نواجذَه لغَير تَبسم وفي هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس‏:‏ فلتعلَمن إذا التقت فُرسانُنا يوم المُريقب أنَ ظنك أحمقُ ثم إن ذُبيان تجمّعت لِمَا أصابت بنو عَبْس منهم يومَ المُريقب‏:‏ فزارةُ ابن ذُبيان ومُرة بن عَوف بن سعد بن ذُبيان وأحلافُهم فنزلوا فتوافَوْا بذي حُسَا وهو وادي الصفا من أرض الشَرّبة وبينها وبين قَطن ثلاث ليال وبينها وبين اليَعْمرية ليلة‏.‏
فهربت بنو عَبر وخافت أن لا تقوم بجماعة بني ذُبيان واتبعوهم حتى لَحقوهم فقالوا‏:‏ التَفاني أو تُقيدونا‏.‏
فأشار قيسُ ابن زُهير على الربيع بن زياد ألا يُناجزوهم وأن يُعطوهم رهائنَ من أبنائِهم حتى ينظروا في أمرهم‏.‏
فتراضَوْا أن تكون رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو أحدِ بني ثعلبة ابن سعد بن ذبيان‏.‏
فدَفعوا إليه ثمانيةً من الصِّبيان وانصرفوا وتكاف الناس‏.‏
وكان رأيُ الربيع مُناجزَتهم‏.‏
فصرفه قيس عن ذلك‏.‏
فقال الربيع‏:‏ أقول ولم أملك لقَيْس نصيحةً أرى ما يَرى واللهُ بالغَيبِ أعلم أَتُبقي على ذُبيان في قَتل مالك فقد حَشَ جاني الحَرب ناراً تَضرَّم فمكثت رُهُنُهم عند سُبيع بن عمرو حتى حضرتْه الوفاة فقال لابنه مالك ابن سُبيع‏:‏ إن عندك مكرمةً لا تَبيد لا ضَيْرَ إنْ أنت حفظتَ هؤلاء الأغَيلمة فكأَنّي بك لو متَُّ أتاك خالُك حُذيفة بنُ بدر فعَصر لكَ عيْنيه وقال‏:‏ هلك سيدُنا ثم خَدعك عنهم حتى تَدفعهم إليه فيقتلهم فلا تشرف بعدها أبداً فإن خِفْتَ ذلك فاذهب بهم إلى قومهم‏.‏
فلما هلك شبيع أطاف حُذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه‏.‏
فأتى بهم اليَعْمريّة فجعل يُبرز كل يوم غُلاماً فينصبه غَرضاً ويقول‏:‏ نادِ أباك‏.‏
فيُنادي أباه حتى يَقتله‏.‏
يوم اليعمرية لعبس على ذبيان فلما بلغ ذلك مِن فِعل حُذيفة بني عبس أَتوهم باليَعْمرية فلقُوهم - بالحَرَّة حرَّة اليعمريّة - فقتلوا منهم اثني عشر رجلاً منهم‏:‏ مالكُ بن سُبيع الذي رَمَى بالغِلْمة إلى حُذيفة وأخوه يزيدُ بن سُبيع وعامر بن لَوذان والحارث بن زَيد وهرم بن ضَمضم أخو حُصين‏.‏
ويقال ليوم اليعمريّة يوم نفْر لأنّ بينهما أقلَّ من نصف يوم‏.‏
يوم الهباءة لعبس على ذبيان ثم اجتمعوا فالتقوا في يوم قائظ إلى جَنب جَفْر الهَباءة واقتتلوا من بُكرة حتى أنتصف النهار وحَجز الحرّ بينهم وكان حُذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركضُ فقال قيس بن زهير‏:‏ يا بني عبس إن حذيفة غداً إذا احتدمت الوديقة مُستنقع في جَفْر الهَباءة فعليكم بها‏.‏
فخرجوا حتى وَقعوا على أثر صارف فرس حُذيفة والحَنْفاء فرس حَمل بن بذر‏.‏
فقال قيس بن زهير‏:‏ هذا أثر الحَنْفاء وصارف فَقَفَوْا أثَرهما حتى توافَوْا مع الظَّهيرة على الهَباءة‏.‏
فَبصُر بهم حملُ بن بدر فقال لهم‏:‏ من أبغضُ الناس إليكم أن يقف على رؤوسكم قالوا‏:‏ قيسُ ابنُ زهير والربيعُ بن زياد فقال‏:‏ هذا قيسُ بن زهير قد أتاكم‏.‏
فلم يَنقض كلامُه حتى وقف قيسٌ وأصحابُه على جَفْر الهَباءة وقيس يقول‏:‏ لبّيكم لَبَّيكم - يعني إجابة الصِّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يُقتلون - وفي الجفر حُذيفةُ وحَمَل ابنا بدر ومالك بن بَدْر ووَرْقاءُ بن هِلال من بنِي ثَعلبة بن سعد وحَنَش بن وهْب‏.‏
فوقف عليهم شدَّاد بن مُعاوية العَبْسيِّ وهو فارس جَروة وجروة فرسه ولها يقول‏:‏ ومَنْ يكُ سائلاً عنّي فإنّي وجَروةَ كالشِّجا تحت الْوريد أقوتها بقُوتي إنْ شَتَوْنا وألحقها رِدائي في الجَليد فحال بينهم وبين خَيلهم‏.‏
ثم توافت فرسان بني عَبس فقال حَمل‏:‏ ناشدتك الله والرحم يا قيس‏.‏
فقال‏:‏ لَبيكم لَبَّيكم‏.‏
فعَرف حُذيفة أنه لن يَدعهم فأنتهر حملاً وقال‏:‏ إياك والمأثورَ من الكلام‏.‏
فَذهبت مثلاً‏.‏
وقال لقيس‏:‏ لئن قتلَتني لا تَصلح غطفانُ أبعدها‏.‏
فقال قيس‏:‏ أبعْدَها الله ولا أصلحها‏.‏
وجاءه قِرْواش بمعْبلة فقَصَم صُلبه‏.‏
وأبتدره الحارث بن زُهير وعمرو بن الأصلع فَضرباه بِسَيْفيهما حتى ذفّفَا عليه‏.‏
وقَتل الربيعُ بن زياد حمَل بن بدر‏.‏
فقال قيس ابن زهير يَرثيه‏:‏ تعَلّم أنّ خيرَ الناس مَيْت على جَفْر الهَباءة ما يَرِيم ولولا ظُلمه مازلت أبكي عليه الدهر ما طَلع النجوم ولكن الفَتى حملَ بن بَدر بَغى والبَغْيُ مَرْتعه وَخيم أضن الحلْم دلّ عليّ قَومي وقد يُستضعف الرجُل الحليم ومارستُ الرجالَ ومارَسُوني فَمُعْوجٌ عليَّ ومُستقيم ومثّلوا بحُذيفة بن بدر كما مَثل هو بالغِلْمة فقَطعوا مَذاكيره وجعلوها في فيه وجعلوا لسانه في استه‏.‏
وفيه يقول قائلهم‏:‏ فإنّ قتيلاً بالهَباءة في استه صحيفتُه إنْ عاد للظُّلم ظالمُ متى تَقرأوها تَهْدِكم عن ضلالكم وتُعرف إِذ ما فُضَّ عنها الخَواتم وقال في ذلك عَقيل بن علَّفة المرِّي‏:‏ ويوقد عوفٌ للعشيرة نارَه فهلا على جَفْر الهَباءة أوْقدَا فإنّ على جَفر الهَباءة هامة تُنادي بني بَدر وعاراً مُخلّدا وقال الربيع بن قَعْنب‏:‏ خَلُق المَخازي غيرَ أنّ بذي حُسا لبني فَزارة خِزْيةً لا تَخْلقُ تِبْيانُ ذلك أنّ في استِ أبيهم شَنعاءَ من صُحف المَخازي تَبْرق وقال عمرو بن الأسِلع‏:‏ إنّ السماء وإنّ الأرض شاهدة والله يَشهد والإنسانُ والبَلدُ أنّي جَزيتُ بني بَدْر بسَعْيهم على الهَباءة قَتلاً ماله قَوَد لمّا التقينا على أَرجاء جُمّتها والمَشرفيّة في أيماننا تَقِد عَلوتُه بحُسام ثم قلتُ له خُذْها إليك فأنتَ السيّد الصِّمَد فلما أصيب أهلُ الهَباءة واستعظمت غَطفان قَتل حُذيفة تجمّعوا وعَرفت بنو عَبس أنْ ليس لهم مُقام بأرض غَطفان فخرجوا إلى اليمامة فنزلوا بأخوالهم بني حَنيفة ثم رَحلوا عنهم فنزلوا ببني سَعد بن زيد مَناة‏.‏
يوم الفروق ثم إنّ بني سَعد غدروا لجوارهم فأتوا معاويةَ بن الجَوْن فاستجاشوه عليهم وأرادوا أكلَهم‏.‏
فبلغ ذلك بني عَبس ففروا ليلاً وقدموا ظُعُنهم ووقف فرسانهم بمَوضع يقال له الفَرُوق‏.‏
وأغارت بنو سَعد ومَن معهم من جُنود المَلِك على محلّتهم فلم يجدوا إلا مَواقد النَيران فاتبعوهم حتى أتوا الفَروق فإذا بالخيل والفُرسان وقد توارت الظعن فانصرفوا عنهم‏.‏
ومضى بنو عَبس فنزلوا ببني ضبة فأقاموا فيهم وكان بنو جَذِيمة من بني عَبس يُسَمون بني رَوَاحة وبنو بَدر من فَزارة يُسمون بني سَوْدة‏.‏
ثم رجعوا إلى قومهم فصالحوهم وكان أول مَن سعى في الحَمالة حَرْملة بن الأشعر بن صِرمة بن مُرَّة فمات فسعى فيها هاشمُ ابن حَرملة ابنُه وله يقول الشاعر‏:‏ أحيا أباه هاشمُ بن حَرْمله يوم الهَباتَينْ ويوم اليَعْمَله ترى المُلوك حولَه مُرعْبله يَقْتل ذا الذّنب ومَن لا ذَنْبَ له يوم قَطَن فلما توافَوْا للصُلح وقفت بنو عَبس بقَطن وأقبل حُصين بن ضَمْضم فلقي تيحان‏.‏
أحد بني مخزوم بن مالك‏.‏
فقتله بأبيه ضَمضم وكان عنترةُ بن شدّاد قتله بذي المُريقب‏.‏
فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غَطفان وقالوا‏:‏ لا نصالحكم ما بَلَّ البحر صُوفة وقد غدرتم بنا غيرَ مرّة وتنَاهض القومُ عبس وذُبيان فالتَقَوْا بقَطن فقَتل يومئذ عمرو بن الأسلع عُيينةَ ثم سَفرت السفراءُ بينهم وأتى خارجةُ بن سِنان أبا تَيحان بابنه فدَفعه إليه فقال‏:‏ في هذا وفاء من ابنك‏.‏
فأخذه فكان عنده أياماً‏.‏
ثم حمل خارجةُ لأبي تيْحان مائةَ بعير قادها إليه واصطلحوا وتعاقدوا‏.‏
يوم غدير قَلْهى قال أبو عُبيدة‏:‏ فاصطلح الحيان إلاّ بني ثَعلبة بن سَعد بن ذُبيان فإنهم أبَوْا ذلك وقالوا‏:‏ لا نَرضى حتى يُودوا قَتلانا أو يُهدَر دمُ مَن قَتلها‏.‏
فخرجوا من قَطن حتى وَردوا غدير قلْهى فسَبقهم بنو عَبْس إلى الماء فمَنعوهم حتى كادوا يموتون عَطشَاً ودوابّهم فاصلح بينهم عوف ومَعقل ابنا سُبيع من بني ثعلبة وإياهما يَعني زُهير بقوله‏:‏ تداركتُما عَبْساً وذُبيان بعدما تفانَوْا ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشَم فورَدوا حَرباً واخرجوا عنه سَلْما‏.‏
يوم الرّقم لغطفان على بني عامر غَزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غَطَفان بالرَّقَم - وهو ماء لبني مُرة - وعلى بني عامر عامر بن الطُّفيل - ويقال يزيد بن الصعق - فركب عُيينة بن حِصن في بني فَزارة ويزيد بن سِنان في بني مُرَّة ويقال الحارث بن عَوف فانهزمت بنو عامر وجعل يقاتل عامر بن الطُّفيل ويقول‏:‏ ‏"‏ يَا نَفْسُ إلا تقْتلي تَموتي ‏"‏ فزعمت بنو غَطفان أنهم أصابوا من بني عامر يومئذٍ أربعةً وثمانين رجلاً فدَفعوهم إلى أهل بيت من أَشجع كانت بنو عامر قد أصابُوا فيهم فقتلوهم أجمعين‏.‏
وانهزم الحَكم بن الطفيل في نفر من أصحابه فيهم جِرِابُ بن كعب حتى انتهوا إلى ماء يقال له المَرَوراة فقطع العطشُ أعناقَهم فماتوا وخنق نفسَه الحكمُ بن الطُّفيل تحت شجرة مخافَة المُثلة‏.‏
وقال في ذلك عُروة بن الوَرْد‏:‏ عجبت لهمِ لمْ يَخْنقون نُفوسهم ومَقْتلهم تحت الوَغى كان أجدرَا يوم النُّتَأة لعبس علي بني عامر خرجتْ بنو عامر تُريد أن تدرك بثأرها يوم الرِّقم فجمعوا على بني عَبس بالنُتَأة وقد أنذروا بهم فالتقوا وعلى بني عامر عامرُ بن الطُّفيل وعلى بني عَبس الربيعُ بن زياد فاقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏
فانهزمت بنو عامر وقُتل منهم صَفوان بن مُرة قتله الأحنفُ بن مالك ونهشل بن عُبيدة بن جعفر قَتله أبو زُعبة بن حارث‏:‏ وعبدُ الله بن أَنس بن خالد‏.‏
وطَعنِ ضبيعةُ بن الحارث عامرَ بن الطُّفيل فلم يَضرّه ونجا عامر وهُزمت بنو عامر هَزيمةَ قَبيحة‏.‏
فقال خراشةُ بن عمرو العَبْسي‏:‏ وسارو على أَظمائهم وتَواعدُوا مِياهاً تحامتها تَميم وعامِرُ كأنْ لم يكن بين الذُّنَاب وواسطٍ إلى المُنحنَى مِن ذي الأراكة حاضر ألا أَبْلِغَا عنّي خَلِيلِيَ عامراً أتَنْسى سُعادَ اليومَ أم أنتَ ذاكِر وصدتك أطرا فُ الرِّماحِ عن الهَوى ورُمتَ أموراً ليس فيها مَصادر وغادرتَ هِزّانَ الرئيس ونَهشلاً فلله عينا عامرٍ مَن تُغادر قَذَفْتَهمُ في الموت ثم خَذلْتهم فلا وَالت نفس عليك تحاذر وقال أبو عبيدة‏:‏ إن عامر بن الطُّفيل هو الذي طَعن ضُبيعة بن الحارث ثم نجا من طَعنته وقال في ذلك‏:‏ فإن تَنجُ منها يا ضُبيع فإنّني وَجدِّك لم أعقِدْ عليك التَّمائمَا يوم شُوَاحط لبني محارب على بني عامر غَزت سرّيةٌ من بني عامر بن صعصعة بلاَد غَطفَان فأغارت على إبل لبني مُحارب بن خَصَفة فأدركهم الطلبُ فقتلوا من بني كلاب سَبعةً واْرتدّوا وإبلهم‏.‏
فلما رجعوا من عندهم وَثب بنو كلاب على جَسْر وهم من بني مُحارب كانوا حاربوا إخوتهم فخرجوا عنهم وحالفوا بني عامر بن صَعصعة فقالوا‏:‏ نَقتلهم بقَتل بني محارب من قَتلوا منّا‏.‏
فقام خِداش بن زُهير دونهم حتى مَنعهم من ذلك وقال‏:‏ أيا راكباً إمّا عرِضتَ فبلّغنْ عَقِيلاً وابْلغ إن لقيتَ أبا بَكْر فيا أخَوَينا من أبينا وأمنا إليكم إليكم لا سبيلَ إلى جَسْر أبى فارسُ الضَحياء عمرو بنُ عمرو أبي الذَّم واختار الوَفاء على الغَدْر يوم حوّزة الأول لسُلَيم على غطفان قال أبو عُبيدة‏:‏ كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حَرْملة أحد بني مُرة بن غطفان كلام بعُكاظ فقال معاوية‏:‏ لوددتُ والله أني قد سمعتُ بظعائنَ يَنْدبنْك‏.‏
فقال هاشم‏:‏ والله لوددتُ أني قد تَربت الرَّطْبة - وهي جْمة معاوية وكان الدهرَ تَنطِف ماءً ودُهنا وإن لم تُدْهن - فلما كان بعدُ تهيأ معاوية ليغزو هاشماً فنهاه أخوه صخر‏.‏
فقال كأني بك إن غزوتهم علق بجمَتك حسك العُرْفط‏.‏
قال‏:‏ فأبى مُعاوية وغزاهم يوم حوزة فرآهم هاشم بن حرملة قبل أن يراه مّعاوية وكان هاشماً ناقهاً من مَرض أصابه فقال لأخيه دُريد ابن حَرملة‏:‏ إنّ هذا إن رآني لم آمَن أن يَشد عليّ وأنا حديثُ عهد بشَكِيَّة فاستَطْرِدْ له دوني حتى تجعلَه بيني وبينك ففعل‏.‏
فحمل عليه معاويةُ وأردفه هاشم فاختلفا طَعنتين فأردى معاويةُ هاشماً عن فرسه الشمّاء وأنفذ هاشم سِنانة من عانة معاوية‏.‏
قال‏:‏ وكَرّ عليه دُريد فظنّه قد أرْدى هاشماً فضرب معاويةَ بالسيف فقتله وشدَّ خِفافُ بن عُمير على مالك ابن حارث الفَزاريّ‏:‏ قال‏:‏ وعادت الشمّاء فرس هاشم حتى دخلت في جَيش بني سُليم فأخذوها وظنّوها فرس الفَزاري الذي قَتله خفاف ورجع الجيشُ حتى دنوا من صَخْر أخي معاوية فقالوا‏:‏ أنْعم صَباحاً أبا حسان‏.‏
فقال‏:‏ حُييتم بذلك ما صنع مُعاوية قالوا‏:‏ قُتل‏.‏
قال‏:‏ فما هذه الفرس قالوا‏:‏ قَتلنا صاحبَها‏.‏
قال‏:‏ إذاً قد أدركتم ثأركم هذه فرسُ هاشم بن حرملة‏.‏
قال‏:‏ فلما دخل رجب رَكِب صخرُ بن عمرو الشّماءِ صبيحةَ يوِم حَرام فأتى بني مُرة‏.‏
فلما رأوه قال لهم هاشم‏:‏ هذا صخر فحيوه وقولوا له خيراً وهاشم مريض من الطعنة التي طَعنه معاوية فقال‏:‏ مَن قَتل أخي فسكتوا‏.‏
فقال‏:‏ لمن هذه الفرسُ التي تحتي فسكتوا‏.‏
فقال هاشم‏:‏ هَلَم أبا حسان إلى مَن يُخبرك‏.‏
قال‏:‏ مَن قتل أخي فقال هاشم‏:‏ إذا أصبتَنِي أو دريداً فقد أصبتَ ثأرَك‏.‏
قال‏:‏ فهل كفَّنتموه قال‏:‏ نعم في بُردين أحدهما بخَمس وعشرين بَكْرة‏.‏
قال‏:‏ فأروني قبره‏.‏
فأروه إياه‏.‏
فلما رأى القبر جَزع عنده ثم قال‏:‏ كأنكم قد أنكرتُم ما رأيتُم من جَزعي فوالله ما بِت منذ عَقَلتُ إلا واتراً أو موتوراً أو طالباً أو مطلوباً حتى قُتل معاوية فما ذقت طَعم نوم بعده‏.‏
يوم حوزة الثاني قال‏:‏ قم غَزاهم صَخر فلما دنا منهم مضى على الشمّاء وكانت غَرّاء مُحجّلة فسوَّد غُرتها وتَحجيلها فرأتْه بنتٌ لهاشم فقالت لعمّها دُريد‏:‏ أين الشمّاء قال‏:‏ هي في بني سُليم قالت‏:‏ ما أشبهها بهذه الفرس‏.‏
فاستوى جالساً فقال‏:‏ هذه فرس بَهيم والشمّاء غَرّاء محجّلة وعاد فاضطجع‏.‏
فلم يَشعر حتى طَعنه صخر‏.‏
قال‏:‏ فثارُوا وتَناذروا وولّى صَخر وطلبته غَطفان عامّةَ يومها وعارض دونه أبو شَجرة بن عبد العُزّى وكانت أمه خَنساء أخت صَخر وصَخْر خاله فرد الخَيل عنه حتى أراح فرسَه ونجا إلى قومه‏.‏
فقال خُفاف بن ندبه لما قتل مُعاوية‏:‏ قَتلني الله إن بَرحت مِن مَكاني حتى أثار به فشدّ على مالك سيّد بني جُمح فقَتله فقال في ذلك‏:‏ فإن تَكُ خَيلي قد أصيب صَميمُها فَعمْداً على عَيْنٍ على عَين تَيَمَّمْتُ مالكا نَصبتُ له عَلْوَى وقد خام صُحبتي لأَبْنيَ مَجداً أو لأثأر هالكا أقول له والرمحُ يَأْطر مَتنْه تَأَمَّل خُفافاً إنني أنا ذلكا وقال صَخر يَرثي مُعاوية وكان قال له قومه أهجُ بني مُرة‏.‏
فقال‏:‏ ما بيننا أجل من القَذْع‏.‏
وأنشأ يقول‏:‏ وعاذلةٍ هَبّت بليلٍ تَلُومني ألا لا تلُوميني كَفَى اللومُ مابيا تقول أَلا تَهْجو فوارسَ هاشم وماليَ أنْ أهْجوهم ثُم مالِيا إذا ما أمرؤ أَهدَى لِمَيْتٍ تحيةَ فَحَيّاك ربًّ الناس عَنِّي مُعاويا وهَوَّن وَجدي أنني لم أقُل له كذبت ولم أبخلْ عليه بماليا وذي إخوة قطّعت أقرانَ بَيْنهم كما تَركوني واحِداً لا أخَالِيا وقال في قَتْل دريد‏:‏ ولقد دفعت إلى دُريد طَعنةً نَجْلاء تُوغَرِ مثل غَطّ المنخُر ولقد قتلتُكمُ ثُناءَ ومَوْحداً وتركتُ مُرّة مِثل أمس الدَّابر قال أبو عبيدة‏:‏ وأما هاشم بن حَرملة فإنه خَرج مُنتجعاً فلقيه عمرُو بن قيس الجشميّ فتَبِعه وقال هذا قاتلُ مُعاوية لا وَألتْ نفسي إن وَأل فلما نزل هاشمٌ كَمَن له عمرو بن قَيس بين الشَجر حتى إذا دنا منه أرسل عليهِ مِعْبلة ففَلق قَحفه فقتله وقال في ذلك‏:‏ لقد قتلتُ هاشمَ بن حَرْمله إذ المُلوك حوله مُغَرْبله يقتل ذا الذَنب ومن لا ذنَب له يوم ذات الأَثل قال أبو عُبيدة‏:‏ ثم غزا صخرُ بن عمرو بن الشَّريد بني أَسد بن خُزيمة واكتسحِ إبلهم فأتى الصريخُ بني أسد فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل فاقتتلوا قِتالاً شَديداً فطعن ربيعةُ بن ثَور الأسديّ صخراً في جَنبه وفات القَوم بالغَنيمة‏.‏
وجرى صخرٌ من الطعنة فكان مريضاً قريبا من الحَوْل حتى مَلّه أهلُه فسمِع امرأة من جاراته تسأل سَلْمى امرأته‏:‏ كيف بعلُكِ قالت‏:‏ لا حَيّ فيُرجى ولا ميْت فيُنسىَ لقد لقينا منه الأمرَّين‏.‏
وكانت تُسأل أمه‏:‏ كيف صخر فتقول‏:‏ أرجو له العافية إن شاء الله‏.‏
فقلل في ذلك‏:‏ أرى أُمّ صخر لا تَملّ عِيادتي ومَلّت سُلَيمى مَضْجعي ومَكاني فأيّ امرئ ساوَى بأمّ حَليلةً فلا عاش إلا في شَقَى وهَوانَ وما كنتُ أخشِىَ أن أكونَ جِنازة عليكِ ومَن يَغترُّ بالحَدثان لَعمري لقد نبّهتُ مَن كان نائماً وأسمعت مَن كانت له أذنان أَهُمّ بأمر الحَزْم لو أسْتَطيعه وقد حِيل بين العَيْر والنّزوان فلما طال عليه البلاءُ وقد نَتأت قِطْعة من جَنبه مثْلُ اليد في موضع الطعنة قالوا له‏:‏ لو قطعْتها فما بالُ عَينِيَ ما بالُها لقد اخضل الدمع سِرْبالَها أمِن فَقدِ صَخْر من آل الشَري د حَلّت به الأرضِ أثقالَها فآليت أبكي على هالك وأسأل نائحةً ما لَها هممتُ بنَفسيِ كُلَّ الهموم فأولَى لنَفسيَ أولى لها سأحمل نفسي على آلة فإمَّا عليها وإما لها وقالت ترثيه‏:‏ وقائلة والنَّعشُ قد فات خَطْوَها لِتُدركَه يا لهفَ نَفسي على صَخْرِ ألا ثَكِلَت أمُّ الذين غَدَوا به إلى القبر ماذا يَحملون إلى القَبْرِ يوم عَدْنِيَّة وهو يوم مِلْحان قال أبو عُبيدة‏:‏ هذا اليوم قبل يوم ذات الأثْل وذلك أن صخراً غَزا بقومه وترك الحيّ خِلْواً فأغارت عليهم غطفان فثارت إليهم غِلْمانهم ومَن كان تخلّف منهمِ فقُتل من غَطفان نَفر وأنهزم الباقون فقال في ذلك صَخر‏:‏ جزى الله خيراً قومَنا إذ دعاهُم بَعْدنِيةَ الحَيُّ الخُلوف المُصبِّح وغلمانُنا كانوا أسود خَفِيَّة وحَقَّ علينا أن يُثابوا وُيمدحوا هُم نَفَّروا أقرانَها بمُضَرَّس وسعْرٍ وَذوا الجَيش حتى تَزحزحوا كأنهم إذ يُطردون عَشية بقُنّة مِلْحان نَعام مُروّح يوم اللوى لغطفان على هوازن قال أبو عُبيدة‏:‏ غزا عبدُ الله بن الصِّمة - واسم الصمَة معاوية الأصغر من بني عزيّة بن جُشم بن مُعاوية بن بكر بن هوازن وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاثُ كنى فاسمه عبد الله وخالد ومَعبد وكُنيته أبو فُرغان وأبو ذفافة وأبو وفاء وهو أخو دُريد بن الصمة لأبيه وأمه - فأغار على عَطفان فأصاب منهم إبلاً عظيمة فأطردها‏.‏
فقال له أخوه دُريد‏:‏ النجاة فقد ظَفرت‏.‏
فأبى عليه وقال‏:‏ لا أبرح حتى انتقع نقيعتي - والنقيعة‏:‏ ناقة ينحرها من وسط الابل فيَصنع منها طَعاماً لأصحابه ويَقْسم ما أصاب على أصحابه - فأقام وعَصى أخاه فتتبعته فَزازة فقاتلوه وهو بمكان يقال له اللَوى فقُتل عبد اللهّ وارتُث دُريد فبقي في القَتلى‏.‏
فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان فقال أحدُهما لصاحبه‏:‏ إني أرى عينيه تَبِصّ فأنزل فانظُر إلى سُبتَّه‏.‏
فنزل فكشف ثوبَه فإذا هي تَرمْز فطَعنه فخرج دم كان قد أحتقن‏.‏
قال دُريد‏:‏ فأفقتُ عندها فلما جاوزوني نهضتُ‏.‏
قال‏:‏ فما شعرِت إلا وأنا عند عُرقوبيَ جمل امرأة من هَوازن‏.‏
فقالت‏:‏ من أنت أعوذ بالله من شرك‏.‏
قلت‏:‏ لا بل مَن أنت ويلك‏!‏ قالت‏:‏ امرأة من هَوازن سيارة‏.‏
قلت‏:‏ وأنا من هوازن وأنا دُريد ابن الصَمّة‏.‏
قال‏:‏ وكانت في قوم مُجتازين لا يشعرون بالوَقعة فضمته وعالَجَته حتى أفاق‏.‏
فقال دُريد يرثي عبد الله أخاه ويذكر عِصْيانه له وعِصْيان قومه بقوله‏:‏ أعاذِلَ إن الرزءَ في مِثل خالد ولا رُزْءَ فيما أهلك المرءُ عن يَدِ وقُلت لعارض وأصحاب عارض ورَهْطِ بني السوداء والقوم شهَدى أمرتُهم أمرِي بمُنقطع اللوى فلم يستبينوا الرُشد إلا ضحَى الغَد فلما عَصَوْني كنتُ منهم وقد أرى غَوايتَهم وأنني غيرُ مُهْتدي وما أنا إلا من غَزِيّة إن غَوَت غويتُ وإن تَرْشُد غَزيّة أرْشُد فإن تُعقب الأيامُ والدهر تَعلموا بَني غالب أنا غِضاب لِمَعبد تنادَوْا فقالوا أردَت الخيلُ فارساً فقلتُ أعبدُ الله ذلكم الردي فإنْ يك عبدُ الله خلَّى مكانَه فما كان وقَافاً ولا طائشَ اليَد ولا بَرِماً إذ ما الرياحُ تناوحتْ برَطْب العِضاه والضرّيع المُعضد كميشُ الإزار خارجٌ نصف ساقه صبور على الضراءِ طلاع أنجُد قليل التشكّي للمَصائب حافظٌ من اليوم أعقاب الأحاديث في غَد وهوَن وَجْدي أنّني لم أَقُل لَه كَذَبْت ولم أبْخل بما مَلكتْ يدِي أبو حاتم عن أبي عُبيدة قال‏:‏ خَرج دريدُ بن الصِّمة في فوارسَ من بني جشَم حتى إذا كانوا في وادٍ لبني كِنانة يقال له الأخْرم وهم يُريدون الغارةَ على بني كنانة إذ رُفع له رجل في ناحية الوادي معه ظَعينة فلما نَظر إليه قال لفارس من أصحابه‏:‏ صِحْ به‏:‏ خَلِّ عن الظعينة وأنجُ إنّ أنثنائي دون قِرْني شائني أَبلى بلائي وأخبُري وعايِني ثم حَمل عليه فصرَعه وأخذ فرسَه فأعطَاه للظِّعينة‏.‏
فبعث دُريد فارساً آخر لينظرَ ما صَنع صاحبُه‏.‏
فلما انتهى إليه ورأى ما صَنع صاح به‏.‏
فتصامم عنه كأن لم يَسمع‏.‏
فظن أنه لم يَسمع فغَشيه‏.‏
فألقى زِمامَ الرَّاحلة إلى الظّعينة ثم خَرج وهو يقول‏:‏ خَلِّ سبيلَ الحُرّة المنيعة إنك لاقٍ دونها رَبيعه في كَفّه خَطِّيَّة مطيعه أَوْلا فخُدْها طعنةً سَريعه والطَّعنُ منّي في الوغَى شريعه ثم حَمل عليه فصرعه‏.‏
فلما أبطأ على دُريد بعث فارساً لينظر ما صنعا‏.‏
فلما انتهى إليهما وجدهما صريعَيْن ونظر إليه يقود ظعينته ويجُر رُمْحه‏.‏
فقال له الفارس‏:‏ خل عن الظعينة‏.‏
فقال للظَّعينة‏:‏ أقصِدي قصدَ البيُوت ثمِ أقبل عليه فقال‏:‏ ماذا تُريد من شَتيم عابس ألم تَر الفارس بعد الفارِس أَرْداهما عاملُ رُمح يابس ثم حَمل عليه فصرعه وانكسر رُمحه‏.‏
وارتاب دُريد فظنّ أنهم قد أخذوا الظّعينة وقَتلوا الرجل‏.‏
فلحق دريد ربيعةَ وقد دَنا من الحيّ ووجد أصحابَه قد قتلوا فقال‏:‏ أيها الفارس إنّ مِثْلك لا يُقتل ولا أرى معك رُمحك والخيلُ ثائرةٌ بأصحابها فدونَك هذا الرُّمحَ فإني مُنصرف إلى أصحابي ومُثبِّطهم عنك‏.‏
فانصرف إلى أصحابه فقال‏:‏ إنّ فارس الظَّعينة قد حَماها وقَتل أصحابكم وأنتزع رُمحي ولا مَطْمع لكم فيه‏.‏
فانصرف القومُ‏.‏
فقال دُريد في ذلك‏:‏ ما إن رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثله حامِي الظّعينة فارساً لم يُقتل أردَى فوارسَ لم يكونوا نُهْزةّ ثم استمرّ كأنه لم يَفْعل مُتهلِّلاً تَبدو أَسِرَّة وجهه مثل الْحسام جَلَتْه كفُّ الصَيْقل يُزْجِي ظَعينَته ويَسْحب رُمْحه مُتوجهاً يمنَاه نحو المَنزل وتَرى الفوارسَ من مَهابة رُمحه مثلَ البُغاث خَشِين وَقْع الأجْدل يا ليتَ شعْري مَن أبوه وأمّه يا صاح مَن يَكُ مثلَه لا يجهل وقال ابنُ مُكَدَم‏:‏ إن كان يَنفعكِ اليقينُ فسائلِي عنِّي الظعينةَ يومَ وادي الأخْرم إذ هِي لأوَّل مَن أتاها نُهبة لولا طعانُ رَبيعة بنِ مُكَدَّم إذ قال لي أدنى الفوارس منهم خَلِّ الظعينَةَ طائعاً لا تَنْدَم ومَنحت آخرَ بعدَه جَيَّاشةً نَجْلاء فاغرةً كشِدْقِ الأضجَم ولقد شفعتُهما بآخَر ثالثٍ وأبى الفِرارَ عن العُداة تَكرُّمي ثم لم يَلبث بنو كنانة أن أغاروا على بني جُشم فقتلوا وأسروا دريدَ بن الصِّمة فأخفى نَسبه‏.‏
فبينما هو عندهم مَحبوس إذ جاءت نِسوة يتهادَيْن إليه فصاحت إحداهنّ فقالت‏:‏ هلكتم وأهلكتم‏!‏ ماذا جَرّ علينا قومنا هذا والله الذي أعطى ربيعة رُمحه يوم الظعينة ثم ألقت عليه ثَوبها وقالت‏:‏ يا آل فراس أنا جارةٌ له منكم هذا صاحبنا يوم الوادي‏.‏
فسألوه‏:‏ من هو فقال‏:‏ أنا دُريد ابن الصَمة فمَن صاحبي قالوا‏:‏ رَبيعة بن مُكدَم‏.‏
قال‏:‏ فما فَعل قالوا‏:‏ قتلتْه بنو سليم‏.‏
قال‏:‏ فما فعلتْ الظّعينة قالت المرأة‏:‏ أنا هي وأنا امرأته‏.‏
فحَبسه القومُ وأتمروا أنفسهم فقال بعضُهم‏:‏ لا ينبغي لدُريد أن تُكفر نعمتُه على صاحبنا وقال الآخرون‏:‏ لا والله لا يَخرج من أيدينا إلا برضا المُخارق الذي أسره‏.‏
فانبعثت المرأة في الليل‏.‏
وهي رَبطة بنت جِذْل الطِّعان فقالت‏:‏ سنَجزى دُريداً عن ربيعة نِعمةً وكُل امرئ يجزى بما كان قَدَّمَا فإن كان خيراً كان خيراً جزاؤه وإن كان شرًا كان شراً مُذَمما سنَجزيه نُعمَى لم تكن بصَغيرةٍ بإهدائه الرُّمح الطَّويل المقوما فإنْ كان حَياً لم يَضِق بثَوابه ذِراعاً غَنِياً كان أو كان مُعْدِما ففُكّوا دُريداً من إسار مخارق ولا تجعلوا البؤسىَ إلى الشرّ سلَما فلما أصبحوا أطلقوه‏.‏
فكستْه وجَهَّزته ولحق بقومه‏.‏
فلم يَزل كافا عن حَرب بني فراس حتى هلك‏.‏
يوم الصلعاء لهوازن على غطفان فلما كان في العام المُقبل غزاهم دُريد بن الصَمة بالصَّلعاء فخرجت إليه‏.‏
غطفان‏.‏
فقال دُريد لصاحبه‏:‏ ما ترى قال‏:‏ أرى خيلاً عليها رجال كأنهم الصَبيان أسِنتها عند آذان خَيلها‏.‏
قال‏:‏ هذه فَزارة‏.‏
ثم قالت‏:‏ انظُر ما ترى قال‏:‏ أرى قوماً كأن عليهم ثياباً غُمست في الجادي‏.‏
قال‏:‏ هذه أشجع‏.‏
ثم قال‏:‏ انظر ما ترى قال‏:‏ أرى قوماً يَهزّون رماحَهم سوداً يخدُون الأرضَ بأقدامهم‏.‏
قال‏:‏ هذه عَبْس أتاكم الموت الزُّؤام فاثبتُوا‏.‏
فالتقوا بالصّلعاء فكان الظَّفر لهوازن على غَطفان وقَتل دُريدٌ ذُؤَابَ بن أسماء بن زيد بن قَارِب‏.‏
حرب قيس وكنانة يوم الكديد لسليم على كنانة فيه قتل ربيعة بنُ مُكَدَّم فارسُ كنانة‏.‏
وهو من بني فِراس بنِ غنْم بن مالك بن كِنانة وهم أنجد العرب كان الرجل منهم يُعدل بعشرة من غيرهم وفيهم يقول علي بن أبي طالب لأهل الكوفة‏:‏ وددتُ والله أنّ لي بجَميعكم وأنتم مائةُ ألف ثَلثَمائةٍ من بني فراس بن غنم‏.‏
وكان ربيعة بن مُكَدَم يعقَر على قبره في الجاهليَّة ولم يُعقر على قبر أحد غيره ومر به حسانُ بن ثابت‏.‏
وقتلته بنو سُليم يوم الكَدِيد‏.‏
ولم يحضُر يوم الكَدِيد أحد من بني الشريد‏.‏
يوم برزة لكنانة على سليم قال أبو عُبيدة‏:‏ لما قَتلت بنو سُليم ربيعَة بن مُكدم فارسَ كنانة ورجعوا أقاموا ما شاء الله‏.‏
ثم إن ذا التاج مالكَ بن خالد بن صَخر بن الشّريد - واسم الشريد عمرو وكانت بنو سُليم قد توجوا مالكاً وأمَروه عليهم - غزا بني كنانة فأغار على بني فِراس ببَرْزة ورئيسُ بني فِراس عبدُ الله بن جِذْل‏.‏
فدعا عبدُ الله إلى البِراز فبرز إليه هندُ بن خالد بن صَخْر بن الشرًيد فقال له عبدُ الله‏:‏ مَن أنت قال‏:‏ أنا هِندُ بن خالد بن صَخر‏.‏
فقال عبدُ الله‏:‏ أخوك أسن منك يُريد مالكَ بن خالد‏.‏
فَرجع فأحضر أخاه فبَرز له فجعل عبدُ الله ابن جِذلَ يرتحز ويقول‏:‏ ادْنُ بني قِرْف القِمَعْ إنّي إذا الموتُ كَنَعْ لا أستغيثُ بالجَزَعْ ثم شَدّ على مالك بن خالد فقتله فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر فشد عليه عبد الله بن جِذل فقتله أيضاً‏.‏
فشدّ عليه أخوهما عمرو بنُ خالد بن صَخْر بن الشَّريد فتخالفا طَعْنتين فجرح كُلُّ واحد منهما صاحبَه وتحاجزا‏.‏
وكان عمرو قد نهى أخاه مالكاً عن غَزو بني فِراس فعصاه وانصرف للغَزْو عنهم‏.‏
فقال عبدُ الله بن جذل‏:‏ تجنبتُ هِنداً رغبةً عن قتاله إِلى مالكٍ أَعْشُو إلى ضَوْء مالِك فأيقنت أنّي ثائرُ ابن مُكَدَّم غَداتئذ أو هالك في الهَوالك فأنفذتُه بالرُّمح حينَ طَعنتُه مُعانقةً ليست بطَعْنة باتِك وأثنى لكُرز في الغبار بطَعْنة عَلَتْ جِلْدَه منها بأحمَر عاتك قتلنا سُليماً غَثَّها وسَمِينها فصبراً سُليماً قد صَبرنا لذلك وقال عبد الله بنْ جِذل أيضاً‏:‏ قَتلنا مالكاً فبَكَوْا عليه وهل يُغْني مِن الجَزع البُكاء وكُرْزاً قد تَركناه صريعاً تَسيل علَى تَرائبه الدِّماء فإنْ تَجزع لذاك بنو سُلَيم فقد - وأبيهم - غُلب العَزاء فصبراً يا سُليم كما صَبرنا وما فِيكم لواحدنا كِفاء فلا تَبْعد ربيعةُ من نَديم أخو الهُلاك إن ذُمّ الشِّتاء وكم مِن غارة ورَعِيل خَيْل تَدَاركها وقد حَمِس اللِّقاء يوم الفيفاء لسليم على كنانة قال أبو عُبيدة‏:‏ ثم إنّ بني الشّريد حَرَّموا على أنفسهم النِّساء والدُّهن حتى يُدركوا بثأرهم من بني كِنانة‏.‏
فغزا عمرو بن خالد بن صَخر بنِ الشرّيد بقومه حتى أغار على بني فِراس فقَتل منهم نَفراً‏:‏ منهم عاصم بن المُعلَى ونَضلة والمُعارِك وعمرو بن مالك وحِصْن وشُريح وسَبى سَبْيا فيهم ابنة مُكَدّم أخت ربيعة بن مُكَدّم‏.‏
فقال عبَّاس بن مِرْداس في ذلك يرُدّ على ابن جِذْل في كلمته التي قالها يومَ بَرْزة‏:‏ ألا أَبلغَا عَنّي ابن جِذْل ورهْطَه فكيف طَلبناكمُ بِكُرْزٍ ومالِك غداةَ فَجَعْناكم بحِصن وبابنه وبابن المُعلَّى عاصمٍ والمعارك ثمانية منهم ثَأرناهُم به جميعاً وما كانوا بَواءً بمالك نُذيقكم والموتُ يَبني سرُادقاً عليكم شَبا حدِّ السّيوف البواتك تَلُوح بأيدينا كما لاح بارق تلألأ في داجٍ من اللَّيل حالك صَبحناكم العُوجَ العَناجيج بالضُّحى تَمُر بنا مَرِّ الرِّياح السواهك وقال هندُ بن خالد بن صخر بن الشَريد‏:‏ قتلتُ بمالك عمراً وحِصْناً وخَلّيت القَتام على الخُدودِ وكُرزاً قد أًبأتُ به شُريحاً على أَثر الفوارس بالكَديد جَريناهم بما انتكهوا وزِدْنا عليه ما وَجدنا من مَزِيد جَلَبنا من جَنوب الفَرْد جُرْداً كطَيْر الماء غَلّس للوُرود قال‏:‏ فلما ذكر هندُ بن خالد يوم الكَدِيد وافتخر به ولم يشهده أحدٌ من بني الشريد غضب من ذلك نُبيشة بن حَبيب فأنشأ يقول‏:‏ تُبخل صُنْعَنا في كُل يوم كمَخْضوب البَنان ولا تَصِيد وتأكل ما يَعاف الكلبُ منه وتَزعم أن والدَك الشريد أبى لي أن أقِر الضيمَ قيس وصاحبُه المَزُور به الكَديد حرب قيس وتميم يوم السُّوبان لبني عامر على بني تميم قال أبو عُبيدة‏:‏ أغارت بنو عامر علي بني تميم وضَبْة فاقتتلوا‏.‏
ورئيس ضَبَة حسّان بن وَبرة وهو أخو النعمان لأمه فأسره يزيد الصعِق وانهزمت تميم‏.‏
فلما رأى ذلك عامرُ بن مالِكِ بن جَعفر حَسده فشذ على ضرِارَ بن عمرو الضبي وهو الردِيم‏.‏
فقال لابنه أدْهم‏:‏ أغْنِه عني‏.‏
فشد عليه فطَعنه‏.‏
فتحوّل عن سرَجه إلى جَنب أبدائه‏.‏
ثم لَحقه فقال لأحد بَنيه أغنه عني فَفَعل مثل ذلك‏.‏
ثم لَحقه فقال لابن له آخر‏:‏ أغنه عني ففعل مثل ذلك فقال‏:‏ ما هذا إلا مُلاعب الأسنة فسُمَى عامرٌ من يومئذ ملاعبَ الأسنة‏.‏
فلما دنا منه قال له ضِرار‏:‏ إني لأعلم ما تريد أتُريد اللبن قال‏:‏ نعم‏.‏
إنك لن تَصل إلي ومِن هؤلاء عينٌ تَطرف كلهم بني‏.‏
قال له عامر‏:‏ فأحلني على غيرك‏.‏
فدلّه على حُبيش بن الدُّلف وقال‏:‏ عليك بذلك الفارس‏.‏
فشدّ عليه فأسره‏.‏
فلما رأى سوادَه وقِصَره جعل يتفكّر‏.‏
وخاف ابن الدُلف أن يقتله فقال‏:‏ ألست تُريد اللبن قال‏:‏ بَلى‏.‏
قال‏:‏ فأنا لك به‏.‏
وفادى حسان بن وَبرة نفسَه من يزيد بن الصّعق على يوم أقرن لبني عبس على بني دارم غزا عمرو بن عُدَس من دارم وهو فارس بن مالك بن حَنظلة فأغار على بني عَبْس وأخذ إبلا وشاء ثم أقبل حتى إذا كان أسفَل من ثَنية أقْرُن نزل فابتَنى بجارية من السبْي‏.‏
ولحقه الطلب فاقتتلوا‏.‏
فقتَل أنسُ الفوارس بنُ زياد العَبْسي عَمراً وانهزمت بنو مالك بن حَنظلة‏.‏
وقتلت بنو عبس أيضاً حَنظلةَ بن عمرو - وقال بعضُهم‏:‏ قُتل في غير هذا اليوم - وارتدوا ما كان في أيدي بني مالك‏.‏
فنعى ذلك جريرٌ على بني دارم فقال‏:‏ هل تَذكُرون لَدَى ثنية أقْرُن أنسَ الفَوارس حين يَهْوي الأسلع وكان عمرو أسلعَ أي أبرص وكان لسَمَاعة بن عمرو خال من بني عَبس فزاره يوماً فقَتله بأبيه عمرو‏.‏
يوم المروت لبني الغير على بني قشير أغار بَحيِر بن سَلْمة بن قُشير على بني العَنبر بن عمرو بن تميم فأتى الصريخُ بني عمرو بن تميم فاتبعوه حتى لحقوه وقد نزل المَرُّوت وهو يَقسم المِرْباع ويُعطى مَن معه‏.‏
فتلاَحق القومُ واقتتلوا‏.‏
فطعَن قعْنبُ بن عتّاب الهيثَم بن عامر القُشيري فصرعه فأسره وحَمل الكدَام وهو يزيد بن أزهر المازني على بحير بن سَلمة فطعنه فأرداه عن فرسه ثم نزل إليه فأسره‏.‏
فأبصره قَعنب بن عتاب فحمل عليه بالسيَّف فضربه فقتله‏.‏
فانهزم بنو عامر وقُتل رجالهم‏.‏
فقال يزيدُ بن الصَعِق يرثي بَحيرا‏:‏ أواردةٌ عليّ بني رِياح بفَخْرهُم وقد قتلوا بَحيرَا فأجابته العَوْراء من بني سَليط بن يَربوع‏:‏ قَعيدَك يا يزيدُ أبا قُبيس أَتُنذر كي تُلاقينا النّذورَا وتُوضِع تُخبرالرُّكبان أنّا وُجدنا في مراس الحَرب خُورا ألم تعلم قعيدَك يا يزيد بأنا نَقَمع الشَّيخَ الفَخُورا فأبلغ إن عَرضت بني كلاب بأنا نحن أَقعَصْنا بَحيرا وضرَّجنا عُبيدة بالعَوالي فأَصبح مُوثَقاً فِينا أَسِيرا أفخراً في الخلاء بغير فَخْرٍ وعند الحَرب خَواراً ضَجُورا يوم دارة مأسل لتميم على قيس غزا عُتبة بن شُتَير بن خالد الكِلابيّ بني ضَبّة فاستاق نَعَمهم وقَتل حُصيْن ابن ضِرار الضَّبي أبا زَيد الفوارس فجمع أبوه ضرار قومَه وخرج ثائراً بابنِهِ حُصين وزيد الفوارس يومئذ حَدَث لم يُدرك فأغار على بني عمرو بن كِلاب فأفلت منه عُتبةُ بن شُتير بن خالد وأسر أباه شُتير بن خالد وكان شيخاً أعور‏.‏
فأتى به قومه فقال‏:‏ إما أن ترُدّ ابني حُصينا‏.‏
قال‏:‏ فإني لا أَنشر الموتى‏.‏
قال‏:‏ وإما أن تدفع إليّ ابنك عُتبة أقتله به‏.‏
قال‏:‏ لا تَرضى بذلك بنو عامر أن يدفعوا فارسَهم شاباً مُقتبَلاً بشَيخ أعورَ هامة اليوم أو غد‏.‏
قال‏:‏ وإما أن أقتلك‏.‏
قال‏:‏ أمّا هذه فنعم‏.‏
قال‏:‏ فأمر ضِرارٌ ابنَه أدهم أن يَقتله فلما قَدّمه ليضربَ عُنقه نادى شُتير‏:‏ يا آل عامر صَبْراً بصبيّ‏.‏
كأنه أنِف أن يُقتل بصبيّ‏.‏
فقال في ذلك شمعلة في كلمة له طويلة‏:‏ وخيَرْنا شُتيراً في ثلاثٍ وما كان الثلاثُ له خيارَا جعلتُ السيفَ بين اللِّيث منه وبين قِصاص لمَّته عِذَارا وقال الفرزدق يَفخر بأيام ضبّة‏:‏ عوابسُ ما تَنفكُّ تحت بطونها سَرابيلُ أبطال بنائُقها حُمْر تَركْن ابنَ ذي الجَدَّين يَنْشِج مُسْندا وليس له إلا ألاءته قَبر وهُنّ على خَذَي شتير بن خالد أثير عَجاج من سنَابكها كُدْر إذا سُوّمت للبأس يَغْشى ظُهورَها أسودٌ عليها البِيض عادتها الهَصْر يَهزّون أرماحاً طِوالا مُتونُها يهن الغِنى يومَ الكَريهة والفَقْر أيام بكر على تميم يوم الوقيط قال فراسُ بن خِنْدف‏:‏ تجمَّعت اللهازُم لتُغير على تَميم وهم غارُّون فرأى لك ناشب الأعور بن بَشامة العَنبري وهو أسير في بني سَعد بن مالك ابن ضُبيعة بن قيسِ بن ثعلبة فقال لهم‏:‏ أعطوني رسولاً أرسله إلى بني العَنبر أوصيهم بصاحبكم خيراً ليولوه مثلَ الذي تولوني من البر به والإحسان إليه‏.‏
وكان حَنظلة بن الطُّفيل المَرثدي أسيراً في بني العَنبر‏.‏
فقالوا له‏:‏ على أن تُوصيه ونحن حضُور‏.‏
قال نعم‏.‏
فأتوه بغلام لهم‏.‏
فقال‏:‏ لقد أتيتموني بأحمقَ وما أراه مُبلِّغاً عني‏.‏
قال الغلام‏:‏ لا والله ما أنا بأحمَق وقل ما ئشت فإني مُبلَغه‏.‏
فملأ الأعورُ كفه من الرمل فقال‏:‏ كم هذا الذي في كفِّي من الرمل قال الغلام‏:‏ شيء لا يُحصى كَثرة ثم أومأ إلي الشمس وقال‏:‏ ما تلك قال‏:‏ هي الشمس‏.‏
قال‏:‏ فاذهب إلى قومي فابلغهم عني التحيةَ وقُل لهم يُحسنوا إلى أسيرهم وُيكْرموه فإني عند قوم مُحسنين إلي مُكرمين لي وقل لهم يَقْروا جمل الأحمر ويَرْكبوا ناقتي العَيْساء بآية أكلت معهم حَيْساً وَيرْعوا حاجتي في أبيني مالك‏.‏
وأخبرهم أنِّ العوسج قد أَوْرق وأنّ النِّساء قد اشتكت‏.‏
ولْيعصوا هَمَّام بن بَشَامة فإنه مَشْئوم مَحدود وُيطيعوا هُذَيل بن الأخْنس فإنه حازم مَيمون‏.‏
قال‏:‏ فأتاهم الرسول فأبلغهم‏.‏
فقال بنو عمرو بن تميم‏:‏ ما نعرف هذا الكلام ولقد جنّ الأعورُ بعدنا فواللهّ ما نعرف له ناقةً عَيْساء ولا جملاً أحمر‏.‏
فشخص الرسولُ ثم ناداهم هُذيل‏:‏ يا بني العنبر قد بَين لكم صاحبُكم‏:‏ أما الرمل الذي قبض عليه فإنه يُخبركم أنه أتاكم عددٌ لا يُحصى وأما الشمس التي أومأ إليها فإنه يقول‏:‏ إن ذلك أوضحُ من الشَّمس وأما جَمله الأحمر فإنه هو الصَمَّان يأمركم أن تُعْروه وأما ناقتهُ العَيساء فهي الدَّهناء يأمركم أن تَحْترزوا فيها وأما أبْناء مالك فإنه يأمركم أن تنذروا بني مالك بن حنظلة ابن مالك بن زَيد مناة ما حَذركم وأن تُمسكوا الحِلْف بينكم وبينهم وأما العَوْسج الذي أورق فيُخبركم أنّ القوم قد لَبسوا السلاح وأما تشكيَ النساء فيُخبركم بأنهن قد عَمِلنَ شِكاءً يغزون به‏.‏
قال‏:‏ وقوله بآية ما أكلت معكم حَيساً يريد أحلاطاً من الناس قد غزوكم‏.‏
فتحرَّزت عمرو فركبتَ الدَهناء وَأنذروا بني مالك فقالوا‏:‏ لسنا ندري ما يقول بنو عمرو ولسنا متحوِّلين لِمَا قال صاحبُكم‏:‏ قال فصبّحتِ اللهازمُ بني حنظلة فوجدوا بني عمرو قد أجلت وإنما أرادوهم على الوَقيط وعلى الجَيش أبجر بِن جابر العِجْليّ‏.‏
وشهدها ناسٌ مع تيم اللات وشهدها الفِزْر بن الأسود بن شريد من بني سِنان‏.‏
فاقتَتلوا فأسر ضِرارُ بن القَعقاع بن مَعبد بن زُرارة وتَنازع في أسره بِشرُ بن العوراء من تيم اللات والفِزْر بن الأسود فجزّا ناصيتَه وخَليّا سربه من تحت الليل‏.‏
وأسر عمرو بن قيس من بني ربيعة عَثْجَلَ بن المأموم بن شَيبان بن عَلقمة من بني زُرارة ومَنَ عليه‏.‏
وأسرت غَمامةُ بنت طوق بن عُبيد بن زُرارة واشترك في أسِرها الحَطيم بن هلال وظربان بن زياد وقيس بن خالد‏.‏
ورَدُوها إلى أهلها‏.‏
وعَير جريرٌ الخَطفي بني دارم بأسْر ضِرارِ وعَثْجل وغَمامة فقال‏:‏ أغَمام لو شَهد الوقيطَ فوارسي ما قِيد يقتل عَثجل وضِرَارُ وأسر حنظلةُ بن المأمون بن شيبان بن عَلقمة أسره طَيْسلة بن زِياد أحد بني ربيعة‏.‏
وأسر جُويرية بن بَدر من بني عبد الله بن دارم فلم يزل في الوثاق حتى قال أبياتاً يَمدح فيها بني عِجل وأنشأ يتغنّى بها رافعاً عقيرته‏:‏ وقائلةٍ ما غالَه أن يَزُورها وقد كنتُ عن تلك الزَيارة في شُغل وقد أدركتْني والحوادثُ جَمةٌ مَخالبُ قوم لا ضِعافٍ ولا عُزْل سِراع إلى الدّاعَي بِطاء عن الخَنَا رزانٍ لدى النّادي مِن غير ما جَهْل لعلهُم أن يمَطروني بنعمية كما طاب ماءُ المُزن في البلَد المَحْل فقد يُنعش الله الفتى بعد عسرة وقد يَبتدي الحُسنَى سَراةُ بني عِجْل فلما سَمعوه أطلقوه‏.‏
وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة وعمرو ابن ناشب وأسر سنان بن عمرو أخو بني سلامة بن كِندة من بني دارم وأسر حاضر بن ضَمرة وأسر الهيثم بن صَعصعة وهَرب عوفُ بن القَعقاع عن إخوته وقُتل حكيم النّهشلي وذلك أنه لم يَزل يُقَاتل وَهو يَرتجز ويقول‏:‏ كُل امرئ مُصبَّح في أهله والموتُ أدنى مِن شِراكَ نَعْلِهِ وفيه يقول عَنترة الفوارس‏:‏ وغادَرْنا حكيماً في مَجال صَريعاً قد سَلَبناه الإزارَا يوم النِّباج وثَيْتل لتميم على بكر الخُشنيّ قال‏:‏ أخبرنا أبو غَسّان العَبْديّ - واسمه رفيع - عن أبي عُبيدة مَعمر بن المُثنى قال‏:‏ غدا قيس بن عاصم في مُقاعس وهو رئيس عليها - ومُقاعس هم‏:‏ صُريم ورَبيع وعُبيد بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زَيدَ مناة ابن تَميم - ومعه سَلاَمة بن ظرِب بن نَمِر الحَمّاني في الأجارب وهم حِمّان وربيعة‏.‏
ومالك والأعرج بنو كعب بن سَعد بن زيد مناة بن تميم‏.‏
فغَزوا بكر بن وائل‏.‏
فوجدوا بني ذهل بن ثَعلبة بن عُكابة واللهازم - وهم قَيس وتيم اللتَ ابنا ثَعلبة وعِجْل بن لُجيم وعَنَزة بن أسد بن ربيعة - بالنِّباج وثَيْتل وبينهما رَوْحة‏.‏
فتنازع قيسُ بن عاصم وسَلامة بن ظَرِب في الإغارة ثم اتفقا على أن يُغير قَيس على أهل النِّباج ويُعير سلاَمة على أهل الثَيتل‏.‏
قال‏:‏ فبعث قيسُ بن عاصم سنانَ بنَ سُمَي الأهتم شيِّفَةً له - والشَّيفة‏:‏ الطَّليعة - فأتاه الخبرُ‏.‏
فلما أصبح قيسُ سقى خَيله ثم أطلق أَفواه الرَّوايا وقال لقومه‏:‏ قاتلوا فإن الموت بين أيديكم والفلاةَ مِن ورائكم‏.‏
فلما دنوا من القوم صُبحاً سمعوا ساقياً من بكر يقول لصاحبه‏:‏ يا قيس أَوْرد‏.‏
فتفاءلوا به‏.‏
فأغاروا على النِّباج قبل الصُبح فقاتلوهم قتالاً شديداً‏.‏
ثم إن بكر انهزمت وأَسر الأهتمُ حُمْرانَ بن بِشر بن عمرو بن مَرْثد وأصابوا غنائم كثيرة‏.‏
فقال قيس لأصحابه لا مُقام دون الثَّيتل فالنجاء النجاء‏.‏
فأبوا‏.‏
ولم يُغِر سَلاَمة ولا أَصحابه بعد على من بثَيْتَل فأغار عليهم قيس بن عاصِم فقاتلوه ثم انهزموا‏.‏
فأصاب إبلاً كثيرة‏.‏
فقال سلامة‏:‏ إنكم أعرتُم على ما كان أمره إليّ‏.‏
فتلاحَوْا في ذلك‏.‏
ثم اتفقوا على أن سَلّموا إليه غنائم ثَيتل‏.‏
ففي ذلك يقول ربيعة بن ظَرِيف‏:‏ فلا يُبعِدَنْك الله قيسَ بن عاصم فأنتَ لنا عِزٌّ عزيز وَمَوْئل وأنت الذي حَرَّبْت بكر بنَ وائل وقد عَضَّلَتْ منها النِّباجُ وثَيتل غداة دَعت يا آل شَيبان إذ رأت كراديس يَهْدِيهنّ وَرْد مُحجّل وظَلّت عُقاب الموت تَهْفو عليهم وشُعثُ النواصي لجمهنّ تُصَلصل فما منكُم أبناءَ بكر بن وائل لغارتِنا إلا رَكوبُ مُذلّل وقال جرير يصف ما كان من إطلاق قَيس بن عاصم أفواه المَزاد بقوله‏:‏ وفي يوم الكُلاب ويوم قَيْسٍ هَرَق على مُسلّحةَ المَزادَ وقال قُرة بن قَيس بن عاصم‏:‏ أنا ابنُ الذي شَقَّ المَزاد وقد رَأى بثيتل أَحياء اللَهازم حُضَّرَا على الجُرد يَعَلُكْن الشكِيم عَوابساً إذا الماءُ من أعطافهنَ تَحذَرا فلم يَرها الراءون إلا فُجاءةً يُثرنَ عَجاجاً بالسنابك أكْدرا سَقاهم بها الذِّيفانَ قيسُ بن عاصم وكان إذا ما أوْردَ الأمرَ أصْدرا وحُمران أدته إلينا رِماحُنا فنازَع غُلا مِن ذِرَاعيه أسمَرا وجَشَامة الذُهلي قُدْناه عَنْوةً إلى الحيّ مَصْفود اليدَيْن مُفكِّرا يوم زرود لبني يربوع على بني تغلب أغار خُزيمة بنِ طارق التغلبي على بني يَرْبوع وهم يزَرود فنَذِروا به فالتقَوا فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انهزِمت بنو تَغلب‏.‏
وأسر خزٍيمة بن طارق أسره أنيف بن جبلة الضبيّ وهو فارس الشَيط وكان يومئذٍ مُعتلاً في بني يربوع وأسيدُ بن حِناءة السّليطي فتنازعا فيه فحَكما بينهما الحارث بن قُراد وأم الحارث امرأة من بني سَعد بن ضَبّة فحكم بناصية خزيمة لأنيف بن جَبله على أنّ لأسيد على أنيف مائةً من الإبل‏.‏
قال‏:‏ ففدا خزيمةَ نفسَه بمائتي بعير وفَرِس‏.‏
وقال أنيف‏:‏ أخذتُك قَسراً يا خُزَيمَ بنَ طارقٍ ولاقيت منِّي الموتَ يوم زَرُود أيام يربوع على بكر وهذه أيام كُلها لبني يربوع على بني بكر من ذلك‏:‏ يوم ذي طُلوح وهو يوم أوْد ويوم الحائِر ويوم مَلْهَم ويوم القُحْقُح وهو يوم مالة ويوم رأس عَين ويوم طِخْفة‏.‏
ويوم الغَبِيط ويوم مُخطط ويوم جَدُود ويوم الْجِبايات ويوم زَرود الثاني‏.‏
يوم ذي طلوح لبني يَربوع على بكر كان عَمِيرة بن طارق بن خصينة بن أرِيم بن عبيد بن ثَعلبة تَزوَّج مُرية بنت جابر أخت أبجر بن جابر العِجْليّ فَخَرج حتى ابتنى بها في بني عِجْل‏.‏
فأتى أبجرُ أختَه مُرَيّة امرأة عَميرة يزورها فقال لها‏:‏ إني لا أرجو أنْ آتيك ببنت النَطِف امرأة عَميرة التي في قومها‏.‏
فقال له عَميرة‏:‏ أترضى أن تُحاربني وتَسْبيني فَندِم أبجر وقال لعَميرة‏:‏ ما كنتُ لأغزو قومك‏.‏
ثم غزا أبجر والحَوْفزان مُتساندين‏.‏
هذا فيمن تَبعه من بني شَيبان وهذا فيمن تَبعه من بني اللهازم وساروا بعَميرة‏.‏
معهم قد وكّل به أبجرُ أخاه حُرْفصة بن جابر‏.‏
فقال له عمَيرة‏:‏ لو رجعْتُ إلى أهلي فاحتملتُهم فقال حُرْفصة‏:‏ افعل‏.‏
فكرّ عَميرة على ناقته ثم نكل عن الجَيش فسار يومين وليلة حتى أتى بني يربوع فأنذرهم الجيش‏.‏
فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذي طُلوح‏.‏
فأوِّل ما كان فارس طَلع عليهم عَمِيرة فنادى‏:‏ يا أبجر هَلُم‏.‏
فقال‏:‏ مَن أنت قال‏:‏ أنا عَميرة‏.‏
فكذّبه فسَفر عن وجهه فعرفه فأقبل إليه‏.‏
والتقت الخيلُ بالخيل‏.‏
فأسر الجيشُ إلا أقلِّهم وأسر حَنظلةُ بن بشر بنِ عمرو بن عدس بن زَيد بن عبد الله ابن دارمَ‏.‏
وكان في بني يَربوع الحوفزانَ بنِ شريك وأخذه معه مُكَبّلا‏.‏
واخذ ابن طارِق سَوادَةَ بن يزيد بن بجير بن غنْم عم أبجر وأخذ ابن عَنَمة الضِّبي الشاعر وكان مع بني شيبان فافتكه مُتمم بن نوبرة‏.‏
فقال ابن عَنَمة يَمدح مُتمَم بن نُوبرة‏:‏ جَزى الله ربَ الناس عنّي مُتمَماً بخَير جزاء ما أعف وأمْجدَا أجيرتْ به آباؤنا وبنَاتُنا وشَاركَ في إطلاقنا وتَفرَّدا أبا نَهْشل إني لكم غيرُ كافرٍ ولا جاعلٌ من دونك المالَ مُؤصدا وأسر سُويد بن الحَوفزان وأسر أسود وفَلْحس وهما من بني سَعد بن هَمّام‏.‏
فقال جرير في ذلك يذكر يوم ذي طُلوح‏:‏ ولمّا لَقِيتا خيلَ أبجرَ يَدّعي بدَعْوى لُجيم غير مِيل العوَاتِقِ صبَرنا وكان الصبر منّا سَجِيّةً بأسيافنا تحت الظِّلال الخَوافق فلما رَأوا أن لا هوادةَ عِنْدنا دَعَوْا بعد كَربٍ يا عَمِيرَ بن طارق يوم الحائر وهو يوم مَلْهَم‏.‏
لبني يربوع على بكر وذلك أن أبا مُليلِ عبد الله بن الحارث بن عاصم بن حُميد وعَلْقمة أخاه انطلقا يطلبان إبلاً لهما حتى وردا مَلهم من أرض اليمامة‏.‏
فخرج عليهما نَفر من بني يَشْكر فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل‏.‏
فكان عندَهم ما شاء الله ثم خلّوا سبيلَه وأخذوا عليه عهداً وميثاقاً أن لا يُخبر بأمر أخيه أحداً‏.‏
فأتى قومَه فسألوه عن أمر أخيه فلم يخبرهم‏.‏
فقال وَبَرة بن حمزة‏:‏ هذا رجل قد أخذ عليه عَهد وميثاق‏.‏
فخرجوا يَقُصّون أثرَه ورئيسُهم شِهاب بن عبد القيس حتى وردوا مَلْهم‏.‏
فلما رآهم أهل مَلْهم تحصنوا‏.‏
فحرقت بنو يَربوع بعضَ زرعهم وَعقروا بعضَ نَخلهم‏.‏
فلما رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم فهُزمت بنو يشكر وقُتل عمرو بن صابر صَبْراً ضَربوا عُنقه وقَتل عُتَيبة بن الحارث بن شهاب مُثَلّم بن عبيد بن عمرو رجلاً آخر منهم وقتل مالكُ بن نويرة حُمرانَ بن عبد الله وقال‏:‏ طَلبنا بيوم مثل يومك عَلْقمَا لَعمري لمَن يَسعى بها كان أَكرَما قَتلنا بجَنْب اَلعِرْض عمرَو بن صابر وحُمْران أَقْصدناهما والمُثلَّما يوم القحقح وهو يوم مالة‏.‏
لبني يربوع على بني بكر أغارت بنو أبي ربيعة بن ذُهل بن شَيبان على بني يربوع ورئيسهم المَجَبَّةُ ابن أبي ربيعة بن ذُهل فأخذوا إبلاً لعاصم بن قُرط أحد بن عُبيد وانطلقوا‏.‏
فطلبهم بنو يربوع فناوشوهم فكانت الدائرة على بني أبي ربيعة‏.‏
وقَتل المِنْهالُ بن عِصْمة المَجَبّة بن أبن ربيعة‏.‏
فقال في ذلك ابن نِمْران الرّياحيّ‏:‏ وإذا لقيتَ القومَ فاطعَن فيهم يومَ اللِّقاء كطَعنة المِنْهالِ تَرك المَجَبَّةَ للضِّباع مُنكَّساً والقومُ بين سَوافلٍ وعَوالي يوم رأس العين لبني يربوع على بكر أغارت طوائفُ من بني يربوع على بني أبي رَبيعة برأس العَيْن فاطردوا النَعم‏.‏
فاتبعهم مُعاوية بنِ فِراس في بني أبي ربيعة فأدركوهم فقُتل معاويةُ ابن فِرَاس وفاتوا بالإبل‏.‏
وقال سحُيم في ذلك‏:‏ همُ قَتلوا المَجَبَّة وابنَ تَيم تَنوح عليهما سُود اللَّيالي وهُم قَتلوا عَميد بني فِراس برأس العَين في الحِجَج الخَوالي وذاد يومَ طِخْفة عن حِماهم ذِيادَ غَرائبِ الإبل النَهال يوم العظالي لبني يربوع على بكر قال أبو عُبيدة‏:‏ وهو يوم أعشاش ويوم الأفاقة ويوم الإياد ويوم مُليحة‏.‏
قال‏:‏ وكانت بكر بن وائل تحت يدِ كسرى وفارس وكانوا يُجيرونهم ويُجهزونهم فأقبلوا من عند عامل عَين التَمر في ثلاثمائة فارس مُتساندين يتوقعون انحدار بني يربوع في الحَزن وكانوا يَشْتُون خُفافاً فإذا انقَطع الشتاء انحدروا إلى الحَزْن‏.‏
قال‏:‏ فاحتمل بنو عُتيبَة وبنو عُبيد وبنو زُبيد من بني سَليط من أول الحيّ حتى أَسْهلوا ببطن مُليحة فطَلعت بنو زُبيد في الحَزن حتى حَلّوا الحُدَيقة والأفاقة وحلت بنو عُتيبة وبنو عُبيد بعَين بروضة الثّمَد‏.‏
قال‏:‏ وأقبل الجيشُ حتى نزلوا هَضْبة الخَصيّ ثم بَعثوا رئيسَهم‏.‏
فصادفوا غلاماً شاباً من بني عُبيد يقال له‏:‏ قُرط بن أَضبط فعرفه بِسْطام وقد كان عرف عامة غلمان بني ثَعلبة حين أسره عُتيبة - قال‏:‏ وقال سَلِيط‏:‏ بل هو المُطَوًح بن قِرواش - فقال له بسطام‏:‏ أخبرني ما ذاك السواد الذي أرى بالحُديقة قال‏:‏ همٍ بنو زُبيد‏.‏
قال‏:‏ أفيهم أَسِيد بن حِنَاءة قال‏:‏ نعم كم هُم قال‏:‏ خمسون بيتاً قال‏:‏ فأين بنو عتيبة وأين بنو أَزْنم قال‏:‏ نَزَلوا رَوْضة الثمَد‏.‏
قال‏:‏ فأين سائر الناس قال‏:‏ هم مُحتجزون بخُفاف‏.‏
قال‏:‏ فمن هُناك من بني عاصم قال‏:‏ الأحيمر وقَعنب‏:‏ ومَعْدان ابنا عِصْمة‏.‏
قال‏:‏ فمن فيهم من بني الحارث بن عاصم قال‏:‏ حُصَين ابن عبد اللهّ‏.‏
فقال بِسطام لقومه‏:‏ أَطيعوني تَقْبضوا على هذا الحيّ من بني زُبيد وتُصبحوا سالمين غانمين‏.‏
قالوا‏:‏ وما يُغني عنا زُبيد لا يَردون رِحْلتنا‏.‏
قال‏:‏ إن السلامة إحدى الغَنيمتين‏.‏
فقال له مفْروق‏:‏ انتفخ سَحْرك يا أبا الصَهباء‏.‏
وقال له هانئ‏:‏ أَجُبْناً‏!‏ فقال لهم‏:‏ ويلكم إن أَسيداً لم يُظِله بيت قطُّ شاتياً ولا قائِظاً إنما بيته القفر فإذا أحسَ بكم أحال على الشقراء فَركض حتى يُشرف على مليحة فينادي‏:‏ يا ليربوع فتركب فيلقاكم طَعن يُنسيكم الغنيمة ولا يبصر أحدُكم مصرعَ صاحبه وقد جَبّنْتُموني وأنا أتابعكم وقد أَخبرتُكم ما أنتم لاقون غداً‏.‏
فقالوا‏:‏ نَلتقط بني زُبيد ثم نَلتقط بني عُبيد وبني عُتيبة كما تلتقط الكَمْأة ونبعث فارسين فيكونان بطريقِ أَسيد فيحولان بينه وبين يَرْبوع ففعلوا‏.‏
فلما أحسّ بهم أَسيد رَكِب الشّقراء ثم خرج نحو بني يَربوع‏.‏
فابتدره الفارسان فطعن أحدَهما فألقى نفسه في شِق فأخطاه ثم كَر راجعاً حتى أشرف على مُليحة فنادى‏:‏ يا صباحاه ياليربوع غُشِيتم‏.‏
فتلاحقت الخَيلُ حتى توافوا بالعُظَالي فاقتتلوِا فكانت الدائرة على بنى بكر قُتل منهم‏:‏ مَفروق بن عمرو فدُفن بثَنيّة يقال لها ثِنية مَفْروق والمقاعس الشَيباني وزُهير بن الحزوَر الشَيباني وعمور بن الحَزَور الشيباني والهَيْش بن المِقعاس وعُمير بن الوَدّاك والضريس‏.‏
وأمّا بِسْطام فألح عليه فارسان من بني يَربوع وكان دارعاً على ذات النُّسوع وكانتا إذا أَجدَت لم يتعلّق بها شيء من خيلهم وإذا أَوعثت كادوا يَلْحقونها فلما رأى ثِقل دِرْعة وَضعها بين يديه على القَربُوس وكَرِه أن يَرْمي بها وخاف أن يُلحق في الوَعث فلم يزل ديدَنُه وديدنُ طالبيه حتى حَمِيت الشمسُ وخاف اللِّحاق فمرّ بو جار ضَبُع فرمى الدِّرع فيه فمدَّ بعضها بعضاً حتى غابت في الوِجار‏.‏
فلمّا خفف عن الفرس نَشِطت ففاتت الطَّلب وكان أخر مَن أتى قومَه وكان قد رَجع إلى دِرعه لمَّا رجع عنه القومُ فأخذها‏.‏
فقال العوَّام بن شَوْذب الشيباني في بِسْطام وأصحابه‏:‏ إنْ يك في يوم الغَبِيط مَلامَة فيومُ العُظالي كان أَخزَى وأَلْوما أناخُوا يريدون الصَّباح فصَبَّحوا وكانوا على الغازين دَعْوة أَشْأَما فررتُم ولم تُلووا على مُجْحِريكم لو الحارث الحَرّاب يدْعى لأَقْدَما ولو أنّ بِسْطاماً أُطيع لأمره لأدّى إلى الأحياء بالحِنْو مَغْنما وأَيقن أنَّ الخيلَ إنْ تَلْتبس به يَعُد غانماً أو يَملأ البيت مأتما ولو أنها عُصفورة لحسبها مُسوَّمة تدعو عُبَيْداً وأَزْنَما أبَى لك قَيد بالغِبِيط لقاءهم ويومُ العُظالي إن فخرِتَ مُكلَّما فأفلتَ بسطام جَريضاً بنَفسه وغادَر في كَرْشاء لَدْناً مُقوَّما وفاظ أسيراً هانئ وكأنّما مَفارِقُ مَفْروقِ تَغشَّين عَنْدَما قال‏:‏ ثم إن هانئاً فَدَى نفسَه وأَسرى قومِه فقال العوًّام في ذلك‏:‏ إنِّ الفَتى هانئاً لاقَى يشكّته ولم يَخم عن قِتال القوم إذ نَزَلا ثمت سارَع في الأَسْرى فَفكَّهُم حامِىَ الذّمار حقيق بالذي فَعلا يوم الغبيط لبني يربوع على بني بكر قال أبو عُبيدة‏:‏ يقال لهذا اليوم‏:‏ يوم الغبيط ويوم الثَّعالب‏.‏
والثعالب‏:‏ أسماء قبائل اجتمعت فيه ويقال له يوم صَحْراء فَلْج وقال أبو عُبيدة‏:‏ حدَّثني سَليط بن سَعْد وزَبَّان الصُّبيري وجَهْم بن حسان السَلِيطيّ قالوا‏:‏ غزا بِسْطام بن قَيس ومَفْروق بن عَمرو والحارث بن شَريك وهو الحَوفْزان بلادَ بني تميم - وهذا اليومُ قبلَ يوم العُظالي - فأغاروا على بني ثَعلبة بن يَرْبوع وثعلبة بن سَعد بن ضبة وثعلبة بن عديّ بن فزارة وثعلبة بن سعد بن ذُبيان‏.‏
فلذلك قيل له يوم الثَّعالب وكان هؤلاء جميعاً مُتجاورين بصَحراء فَلج فاقتتلوا فانهزمت الثعالبُ فأصابوا فيهم واستاقوا إبلاً من نَعمهم‏.‏
ولم يَشهد عُتيبةُ بن الحارث بن شهاب هذه الوَقْعَة لأنه كان نازلاً يومئذ في بني مالك بن حَنظلة ثم امتَرُّوا على بني مالك وهم بين صحراء فَلج وبين الغَبِيط فاكتسحوا إبلَهم‏.‏
فركبتْ عليهم بنو مالك فيهم عتيبة بن الحارث بن شِهاب ومعه فَرسان من بني يَربوع تَأثّفهُم - أي صاروا لهم مثل الأثافي للرَماد - وتألّف إليهم الأحيمر بن عَبد الله والأسيد بن حِنَّاءةَ وأبو مَرْحب وجَزْء ابن سعد الرِّياحي وهو رئيس بني يَربوع وربيع والحلَيس وعُمارة بنو عُتيبة ابن الحارث ومَعْدان وعِصْمة ابنا قعنب ومالك بن نُويرة والمِنْهال بن عِصْمة أحد بني رِياح بن يَربوع وهو الذي يقول فيه مُتمَم بن نويرة في شعره الذي يَرثي فيه مالكاً أخاه‏:‏ لقد غَيّب المنهالُ تحت لِوائه فتى غير مِبْطان العَشِيِّة أَرْوعَا فأدركوهم بغَبيط المَدَرة فقاتلوهم حتى هَزَموهم وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم‏.‏
وألحّ عُتيبة وأَسيد والأحيمر على بسطام‏.‏
فلحقه عُتيبة فقال‏:‏ أَسْتَأَسِرْ لي يا أبا الصَهباء‏.‏
فقال‏:‏ ومَن أنت قال‏:‏ أنا عُتيبة وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش‏.‏
فأسره عُتيبة ونادى القومُ بِجَادَا أخا بسطام‏:‏ كُرَّ على أخيك وهم يرجون أنْ يأْسروه‏.‏
فناداه بِسْطام‏:‏ إن كَرَرت فأنا حَنيف وكان بِسْطام نَصْرانيَّاً فلحق بِجَاد بقومه‏.‏
فلم يزل بسطام عند عُتيبة حتى فادى نَفْسه‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ فزعم أبو عمرو بن العلاء أنه فَدى نَفسَه بِأربعمائة بَعير وثلاثين فرساً - ولم يكن عَرِبيُ عكاظي أعلى‏.‏
فداءً منه - على أنْ جَزَ ناصيته وعاهده أنْ لا يَغْزو بني شِهاب أبداً‏.‏
فقال عُتيبة بن الحارث بني شِهاب‏:‏ أبْلغ سَرِاة بني شَيْبان مالُكةً أَنَي أبأتُ بعبد الله بِسْطاما قاظ الشَرَبَّة في قَيْد وسِلْسلة صوت الحديد يُغنِّيه إذا قاما يوم مخطط لبني يربوع على بكر قال أبو عُبيدة غزا بِسْطام بن قيس والحَوْفزان وهو الحارث مُتساندين يقودان بكر بن وائل حتى وَردوا على بني يَرْبوع بالفِردَوْس وهو بَطْن لإياد وبينه وبين مُخطّط ليلة وقد نذرتْ بهم ينو يَربوع فالتقوا بالمُخطّط فاقتتلوا‏.‏
فانهزمت بكرُ بن وائل وهَربَ الحَوفزان وبِسطام ففاتا رَكْضاً‏.‏
وقُتل شريكُ ابن الحوفزان قَتله شِهابُ بن الحارث أخو عُتيبة وأسر الأحيمرُ بن عبد الله ابن الضُّريس الشَيباني‏.‏
فقال في ذلك مالكُ بن نويرة ولم يَشهد هذا اليوم‏:‏ إلا أكُن لاقيتُ يومَ مخطّط فقد خبَر الرُّكبان ما أَتودّدُ بأفناء حَيّ مِن قبائل مالك وعَمرو بن يَربوع أقاموا فأَخْلدوا فقال الرئيسُ الحَوفزان تَبَينوا بني الحِصْن قد شارفتُم ثم حَردوا فما فَتِئوا حتى رَأَوْنا كأنّنا مع الصُبح آذي من البَحر مُزيد بمَلْمومة شَهْباء يُبرق جالُها ترى الشمس فيها حين دَارتْ تَوَقد فما برحوا حتَى عَلَتْهم كتائب إذا طُعنت فرسانُها لا تُعَرد صَريعٌ عليه الطير ُيَحْجِل فوقَه وآخرُ مَكبُول اليَدين مُقَيد وكان لهم في أَهْلهم ونسائهم مبيت ولم يَدْرُوا بما يحدث الغَد وقد كان لابن الحَوفزان لو انتهى شَريكٌ وبِسطام عن الشر مَقْعد يوم جدود غزا الحوفزان وهو الحارث بن شريك فأغار على مَن بالقاعة من بني سَعد بن زَيد مناة فأخذ نَعَماً كثيراً وسَبى فيهنّ الزَّرقاء من بني ربيع بن الحارث فأعجب بها وأعجبت به وكانت خَرقاء فلم يتَمالك أن وَقع بها‏.‏
فلما انتهى إلى جَدود مَنعتهمّ بنو يربوع بن حَنظلة أن يَرِدُوا الماء ورئيسُهم عُتيبة ابن الحارث بن شهاب فقاتلوهم‏.‏
فلم يكن لبني بكر بهم يد فصالحوهم على أن يُعطوا بني يربوع بعضَ غنائمهم على أن يُخلوهم يَردوا الماء فقَبِلوا ذلك وأجازوهم‏.‏
فبلغ ذلك بني سَعد فقال قيسُ بن عاصم في ذلك‏:‏ جَزَى الله يَرْبوعاً بأسوأ سَعْيها إذا ذُكرت في النّائبات أمورُها ويوم حَدُود قد فَضَحتم أباكمُ وسالمتُم والخيلُ تَدْمى نُحورُها فأجابه مالك‏:‏ ولما أتى الصريخ بني سعد رَكب قيسُ بن عاصم في إثر القوم حتى أدْركهم بالأشْيمَينْ فألحّ قيسٌ على الحَوْفزان وقد حمل الزرقاء‏.‏
وكان الحَوْفزان قد خرج في طَليعة فلقيه قيس بنُ عاصم فسأله‏:‏ مَن هو فقال‏:‏ لا تَكاتُم اليوم أنا الحَوْفزان فمن أنت قال‏:‏ أنا أبو عليّ ومَضى‏.‏
ورجع الحوفزان إلى أصحابه فقال‏:‏ لقيتُ رجلاً أزرق كأنّ لِحْيته ضرَيبة صُوف فقال‏:‏ أنا أبو عليّ‏.‏
فقالت عجوز من السّبي‏:‏ بِأَبي أبو عليّ ومَن لنا بأبي عليّ فقال لها‏:‏ ومن أبو عليّ قالت‏:‏ قَيس بنُ عاصم‏.‏
فقال لأصحابه‏:‏ النَّجاء وأردف الزَّرقاء خلفه وهو على فرسه الزبِد وعَقد شَعرها إلى صَدره ونجا بها‏.‏
وكانت فرسُ قيس إذا أوْعثت قَصرَّت وتَمطَّر عليها الزَّبد‏.‏
فلما أجدَّت لحقت بحيث تكلّم الحوفزان‏.‏
فقال قيس له‏:‏ يا أبا حِمار أنا خير لك من الفلاة والعَطَش‏.‏
قالت له الحوفزان‏:‏ ما شاءت الزَّبِد‏.‏
فلما رأى قيس أنِّ فرسه لا تَلحقه نادي الزرقاء فقال‏:‏ مِيلي به يا جَعار‏.‏
فلما سَمِعه الحوفزان دَفعها بِمرفقه وجَزَّ قُرونها بسيفه‏.‏
فلما ألقاها عن عَجز فرسه‏.‏
وخاف قيس ألاّ يَلحقَه فنَجله بالرُّمح في خُرابة وَركه فلم يُقْصِده وعرّج عنها‏.‏
وردّ قيس الزرقاء إلى بنِي الرّبيعِ‏.‏
فقال سَوَّار بن حَيّان اْلمِنقريّ‏:‏ ونحن حَفرنا الحَوفزانَ بطَعْنةٍ تَمجّ نَجيعاً من دم الجَوف أشكلاَ قال أبو عُبيدة‏:‏ التقت بنو مازن وبنو شَيبان على ماء يقال له سَفَوَان فزعمت بنو شَيبان أنه لهم وأرادوا أن يُجْلوا تميَماً عنه فاقتتلوا قتالاً شديداً فظهرتْ عليهم بنو تَميم وذادوهم حتى وردوا المُحْدَث وكانوا يَتواعدون بني مازن قبلَ ذلك فقال في ذلك وَدَّاك المازنِيّ‏:‏ رُوَيْداً بني شَيْبان بعض وَعيدكم تُلاقوا غداً خَيْلي على سَفَوَانِ تُلاقُوا جِياداً تَحِيد عن الوَغَى إذا الخيلُ جالت في القَنا المُتداني عَليها الكمِاة الغُرُّ من آل مازنٍ ليوث طِعان كلَّ يوم طِعان تُلاقُوهمُ فَتعْرِفوا كيف صَيْرُهم على ما جَنت فِيهم يدُ الحَدَثان مَقاديم وصّالون في الرَّوْع خَطْوَهم بكُل رَقِيق الشَّفْرتين يَمانِي إذا استُنجدوا لم يَسألوا مَن دعاهم لأية حَرْب أم لأيّ مَكان يوم السلي قال أبو عُبيدة‏:‏ كان من حديث يوم السليّ أن بني مازن أغارت على بني يَشكُر فأصابوا منهم وشدّ زاهرُ بن عبد الله بن مالك على تيْم بن ثَعلبة اليَشْكري فقتله فقال في ذلك‏:‏ لله تَيم أيُّ رُمح طِرَادِ لاقَى الحِمَامَ وأي نَصْل جِلادِ ومِحَشّ حَرْب مُقدم متعرض للموت غَير مُعرد حَياد وقال حاجب بنَ ذُبْيان المازني‏:‏ سَلي يَشْكُراً عني وأبناء وائل لَهازِمَها طُرَأ وجَمْعَ الأراقم ألم تَعلمي أنّا إذا الحربُ شمرت سِمَامُ على أعدائنا في الحَلاَقِم عتاةٌ قُراةٌ في الشِّتاء مَساعِرٌ حُماةُ كماةٌ كالليوث الضَراغم بأيديهُم سُمْرٌ من الخَطّ لَدْنةٌ وبيضٌ تُجَلَى عن فِراخ الجَماجم أولئك قوْمٌ إن فخرتُ بعزهم فخرتُ بعزّ في اللَهى والغَلاصم هُمُ أنزلوا يومَ السلي عزيزَها بسُمْر العَوالِي والسُيوف الصَوارم يوم نقا الحسن قال أبو عُبيدة‏:‏ غزا بسطامُ بن مَسعود بن قيس بن خالد وقيسُ بن مسعود وهو ذو الجدَين وأخوه السليلُ بن قيس بن ضَبة بن أد ابن طابخة فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتَفق فيها فَحْلُها قد فَقأ عينَه وفي الإبل مالكُ بن المُنتفق‏.‏
فركب فرساً له ونجا رَكْضاً حتى إذا دنا من قومه نادى‏:‏ يا صباحاه‏.‏
فركبتْ بنو ضبة وتداعت بنو تميم فتلاحقوا بالنقا‏.‏
فقال عاصمُ بن خَليفة لرجل من فُرسان قومه‏:‏ أيهم رئيس القوم قال‏:‏ حاميتهم صاحبُ الفرس الأدهم - يعني بِسْطاماً - فعلا عاصمٌ عليه بالرمح فعارضه حتى إذا كان بحذائه رَمى بالقوس وجمعَ يَديه في رُمحه فطَعنه فلم تخطئ صِماخَ أذنه حتى خرج الرمحُ من الناحية الأخرى وخَر على الألاءة - والألاءة‏:‏ شجرة - فلما رأى ذلك بنو شَيبان خلُوا سبيل بن مَسعود أخا بِسطام في سِبعين من بني شَيبان‏.‏
فقال ابنُ عَنَمة الضبي‏:‏ وهو مجاور يومئذ في بني شَيبان يرثي بسطاماً وخاف أن يقتلوه فقال‏:‏ لأمَ الأرْض ويلٌ ما أجنَتْ بحيثُ أضَرَ بالحَسَن السَّبيل يقسِّم مالَه فينا ويَدْعو أبا الصَّهباء إذ جَنح الأصيل كأنكِ لم تَرَيْه ولن نراه تَخب به عُذَافِرةٌ ذَمُول حَقِيبة رَحْلها بَدنٌ وسَرْج تُعَارِضها مُرببة دَءُول لكَ المِرْباع منها والصَّفَايا وحُكْمُك والنَشيطةُ والفُضول لقد ضَمِنت بنو زيد بن عمرو ولا يُوفِي ببسطام قَتِيل فخر على الآلاءة لم يوسد كأن جَبينه سيفٌ صَقِيل فإن تَجزع عليه بنو أبيه فقد فُجعوا وحل بهم جليل بمِطْعام إذا الأشوالُ راحت إلى الحَجَرات ليس لها فَصيل وقال شَمعلة بن الأخضر بن هُبيرة‏:‏ ويم شقائق الحَسَنَيْن لاقتْ بنو شَيبان آجالاً قِصارا شَكَكْنا بالرِّماح وهُن زُور صِمَاخي كَبْشهم حتى استدارا وأَوْجزناه أسمرَ ذا كُعوب يُشبّه طولُه مَسداً مُغَارا وقال مُحرز بن المُكَعبر الضَّبي‏:‏ أطلقت من شَيبان سبعينَ راكباً فآبوا جميعاً كلّهم ليس يَشْكُر إذا كنتَ في أَفْناء شَيبان مُنعِماً فجُزّ اللِّحى إنّ النّواصيَ تَكْفُر فلا شُكرَهم أَبغِي إذا كنتُ مُنعِماً ولا وُدَّهم في آخر الدَّهر أُضْمِر أيام بكر على تميم يوم الزُّويرين قال أبو عُبيدة‏:‏ كانت بكر بن وائل تَنتجِع أرضَ تميم في الجاهليَّة تَرعى بها إذا أجدبوا‏.‏
فإذا أرادوا الرُّجوع لم يَدعوا عورة يُصيبونها ولا شيئاً يَظفرون به إلا اكتسحوه‏.‏
فقالت بنو تميم‏:‏ امنعوا هؤلاء القوم من رَعْي أرضكم وما يأتون إليكِم‏.‏
فَحُشدت تميم وحُشدت بكر واجتمعت فلم يتخلّف منهم إلاّ الحَوافزان ابن شريك في أناس من بني ذُهل بن شَيبان وكان غازياً‏.‏
فقدّمتْ بكرُ عليهم عَمراً الأصمّ أبا مَفْروق - قال‏:‏ وهو عمرو بن قيس بن مَسعود أبو عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان - فحسد سائرُ ربيعة الأصمّ على الرِّياسة فأتوه فقالوا‏:‏ يا أبا مَفْروق إنا قد زَحفنا لتميم وزَحفوا لنا أكثرَ ما كنا وكانوا قطُّ‏.‏
قالت‏:‏ فما تريدون قالوا‏:‏ نُريد أن نجعل كُل حيّ على حَياله ونَجعل عليهم رجلاً منهم فَنعْرفَ غناء كل قبيلة فإنه أشدُ لاجتهاد الناس‏.‏
قال‏:‏ والله إني لأبغض الخلافَ عليكم ولكن يأتي مَفْروق فينظر فيما قلتم‏.‏
فلما جاء مَفروق شاوره أبوه - وذلك أول يوم ذُكر فيه مَفروق بن عمرو - فقال له مفروق‏:‏ ليس هذا أرادوا وإنما أرادوا أن يَخْدعوك عن رأيك وحَسدوك على رِياستك والله لئن لقيتَ القومَ فظفرتَ لا يزال الفضلُ لنا بذلك أبداً ولئن ظُفِر بك لا تزال لنا رياسة نُعرف بها‏.‏
فقال الأصم‏:‏ يا قوم قد استشرتُ مَفروقاً فرأيتُه مخالِفاً لكم ولستُ مخالفاً رأيه وما أشار به‏.‏
فأقبلتْ تميم بجمَلين مجللَين مقرونين مُقيَّدين وقالوا‏:‏ لا نُولي حتى يُولّي هذان الجملان وهما الرُّوَيْران‏.‏
فأَخبرت بكر بقولهم الأصم‏.‏
وأنا زُوَيركم إن حَشُّوهما فحُشوني وإن عقروهما فاعقِروني‏.‏
قال‏:‏ والتقى القومُ فاقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏
قال‏:‏ وأَسرت بنو تميم حَرَّاث بن مالك أخا مُرة بن هَمام فركَض به رجل منهم وقد أردَفه وأتبعه ابنُه قتادة بن حَرَّاث حتى لحق الفارسَ الذي أسر أباه فطَعنه فأراده عن فرسه واستنقذ أباه‏.‏
ثم استحرّ بين الفريقين القتالُ فانهزمت بنو تميم فقُتل مِنهم مَقتلة عظيمة فممن قُتل قُتل منهم‏:‏ أبو الرئيس النَّهشلي‏.‏
وأخذت بكر الزّويرين أخذتهما بنو سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة فنحروا أحدَهما فأكلوه واقتحلوا الآخر وكان نَجِيباً فقال رجل من بني سَدوس‏:‏ يا سَلْم إن تَسْألي عنّا فلا كُشُفٌ عنا اللِّقاء ولسنا بالمَقارِيفِ نحن الذين هَزَمْنا يوم صبَّحنا جيشَ الزُّوَيْرين في جَمع الأَحاليف ظلُوا وظَلْنا نَكُرّ الخيلَ وَسْطَهمُ بالشِّيب منّا وبالمُرْد الغَطاريف وقال الأغلب بن جُشَم العِجْليّ‏:‏ فكر بالسيف الرُّمح انحطم كهِمَّةَ اللَيث إذا ما الليثُ هَمّ كانت تميمُ معشراً ذوي كَرَم مُخلِصة من الغَلاصم العظم قد نَفخوا لو يَنفُخون في فَحَمْ وصَبروا لو صبروا على أمَمْ إذ ركبتْ ضَبة أعجازَ النَّعم فلم تَدَع ساقاً لها ولا قَدَم يوم الشَّيِّطين لبكر على تميم قال أبو عُبيدة‏:‏ لما ظَهر الإسلامُ قبل أن يُسلم أهلُ نجد والعراق سارت بكر بن وائل إلى السوِاد وقالت‏:‏ نغير على تميم بالشيطين فإن في دِين ابن عبد المطلب إنه مَن قَتل نفساً قُتل بها‏.‏
فنُغير هذا العام ثم نُسلم عليها‏.‏
فارتحلوا مِن لَعلع بالذّراري والأموال فأتوا الشّيطين في أَربع وبينهما مسيرةً ثمان أميال فسَبقوا كُلّ خبر حتى صبَّحوهم وهم ولا يشعرون ورئيسُهمٍ يومئذ بشرُ بن مَسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجَدّين فقَتلوا بني تميم قتلاً ذريعاً وأخذوا أموالَهم‏.‏
واستحرّ القتلُ في بني العَنبر وبني ضَبَّة وبني يَربوع دون بني مالك بن حَنظلة‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ حَدَّثنا أو الحَمناء العَنبريّ قال‏:‏ قُتل من بني تميم يوم الشَيطين ولعلع ستمُّائة رجل‏.‏
قال‏:‏ فوفد وفدُ بني تميم على النبي {{صل}} فقالوا‏:‏ ادع الله على بكر بن وائل‏.‏
فأبى رسولُ الله {{صل}}‏.‏
فقال رُشيد بن رُمَيْض العنبريّ‏:‏ وما كان بين الشَّيِّطين ولَعْلع لِنسْوتنا إلا مراجِعُ أربُع فجئْنا بجَمْع لم يرَ الناسُ مثلَه يكاد له ظَهْر الوريعة يَظْلَع بِأَرعن دَهْم تُنْشَد البلقُ وَسْطَه له عارضٌ فيه الأسنةُ تَلمع صَبحنا به سعداً وعَمراً ومالكاً فكان لهم يومٌ من الشرّ أشنع فخلّوا لنا صَحْن العِراق فإنّه حَمِىً منهم لا يستطاع مُمنع يوم صَعْفُوق لبكر على تميم أغارت بنو أبي ربيعة على بني سَليط بن يَرْبوع يوم صَعْفوق فأصابوا منهم أَسرى‏.‏
فأتى طريفُ بن تميم العَنبري فروةَ بن مَسعود وهو يومئذ سيدُ بني أبي ربيعة ففدَى منهم أَسرى بني سَليط ورَهنهم ابنه‏.‏
فأبطأ عليهم فقَتلوا ابنَه فقال‏:‏ لا تَأْمننّ سُلَيمى أنْ أُفارقَها صرمى الظعائن بعد اليوم صَعْفوق يوم مبايض لبكر على تميم قال أبو عُبيدة‏:‏ كانت الفُرسان إذا كانت أيامُ عُكاظ في الشهر الحرام وأَمن بعضهم بعضاً تقنّعوا كيلا يُعرفوا وكان طَريف بن تميم العَنْبري لا يتقنع كما يتَقنِّعون فوافى عُكاظَ وقد كشفت بكر بن وائل وكان طريفُ قد قتل شَراحيل الشَيباني أحد بني عمرو بن أبي ربيعة بن ذُهل بن شيبان‏.‏
فقال حَصِيصه‏:‏ أروني طريفاً‏.‏
فأروه إياه‏.‏
فجعل كُلّما مرّ به تأمَله ونَظر إليه ففَطِن طَريف فقال‏:‏ مالك تنظر إليِّ فقال‏:‏ أتوسّمك لأعرفك‏.‏
فلله علي إن لَقِيتُك أن أقتلكَ أو تَقْتلني‏.‏
فقال طريف في ذلك‏:‏ أَوَ كُلما وردتْ عُكاظَ قَبيلةٌ بَعثوا إلي عريفَهم يتوسَّم فتوسموني إنّني أنا ذلكم شاكِي سلاحي في الحوادث مُعْلَم تحتي الأغر وفوق جِلْدي نَثْرةٌ زَغف تَردُ السيفَ وهو مُثَلّم حولي أُسَيِّدُ والهجيم ومازنٌ وإذا حللتُ فحولَ بيتيَ خَضَم قال‏:‏ فمضى لذلك ما شاء الله‏.‏
ثم إنّ بني عائذة حُلفاء بني أبي ربيعة بن ذهل بن أبي شيبان‏.‏
وهم يزعمون أنهم من قريش وأن عائذة ابنُ لُؤي بن غالب - خرج منهم رجلان يَصِيدان فعَرض لهما رجل من بني شَيبان فذَعر عليهما صيدَهما فوثبا عليه فقتلاه‏.‏
فثارت بنو مُرّة بن ذهل بن شَيبان يريدون قَتلهما‏.‏
فأبت بنو أبي ربيعة عليهم ذلك‏.‏
فقال هانئ بن مَسعود‏:‏ يا بني أبي ربيعة إن إخوتَكم قد أرادوا ظُلمكم فانمازوا عنهم‏.‏
قال‏:‏ ففارقوهم وساروا حتى نَزلوا بمُبايض ماء - ومُبايض‏:‏ عَلَم من وراء الدهناء - فأَبق عبدٌ لرجل من بني أبي ربيعة فسار إلى بلاد تَميم فأخبرهم أنّ حيَاً جديداً من بني بكر بن وائل نُزول على مُبايض وهم بنو أبي ربيعة أو الحيّ الجديد المُنتقى من قومه‏.‏
فقال طَريف العَنبريّ‏:‏ هؤلاء ثأرى يا آل تَميم إنما هم أَكَلة رأس‏.‏
وأقبلَ في بني عمرو بن تميم وأقبل معه أبو الجَدْعاء أحد بني طُهيَّة وجاءَه فَدكيُّ بن أَعْبد المِنْقري في جَمْع من بني سعد بن زيد مَناة فنَذِرت بهم بنو أبي ربيعة فانحاز بهم هانئ بن مَسعود وهو رئيسهم إلى عَلَم مُبايض فأقاموا عليه‏.‏
وشرَّقوا بالأموال والسرح وصَبّحتهم بنو تميم‏.‏
فقال لهم طَريف‏:‏ أطيعوني وافرغُوا من هؤلاء الأكلب يَصْفُ لكم ما وراءهم‏.‏
فقال له أبو الجدعاء رئيس بني حَنظلة وفدكيّ رئيسُ سعد بن زيد مناة‏:‏ أُنُقاتل أكْلباً أحرزوا نفوسهم ونترك أموالهم ما هذا برأي وأبوا عليه‏.‏
فقال هانئ لأصحابه‏:‏ لا يُقاتل رجل منكم‏.‏
ولحقت تميم بالنَّعم والبغال فأغاروا عليها‏.‏
فلمّا ملئوا أيديهم منِ الغَنيمة قال هانئ بن مسعود ولقد دعوتُ طريف دعوةَ جاهل سَفَهاً وأنت بعَلم قد تَعلُم وأتيتُ حيَّاً في الحُروب محلَّهمَ والجيشُ باسم أبيهم يستقدم فوجدتُ قوماً يَمنعون ذِمارهم بُسْلاً إذا هاب الفوارسُ أَقْدموا وإذا دُعُوا أبني رَبيعة شَمَّروا بكتائب دون السَّماء تُلَمْلم حَشَدوا عليك وعَجلوا بِقراهمُ وحَمَوْا ذِمار أبيهم أنْ يُشْتموا سَلبوك دِرْعك والأغرّ كليهما وبنو أُسيّد أَسْلموك وخَضَّم يوم فيحان لبكر على تميم قال أبو عُبيدة‏:‏ لما فَدى نفسه بسْطامُ بن قَيس من عُتيبة بن الحارث إذ أُسر يوم الغَبيط بأربعمائة بعير قال‏:‏ قال‏:‏ لأدركنّ عَقْل إبلي‏.‏
فأغار بفيحان فأخذ الربيعَ بن عُتَيبة وأستاق مالَه‏.‏
فلمّا سار يومين شُغل عن الربيع بالشراب وقد مال الربيع على قدِّه حتى لان ثم خَلعه وانحلّ منه ثم جال في مَتن ذات النُّسوع - فرس بِسطام - وهرب‏.‏
فركبوا في إثره فلمّا يَئسوا منه ناداه بِسطام يا ربيع هُلمّ طليقاً فأبَى‏.‏
قال‏:‏ وأبوه في نادِي قومه يُحدثهم فجعل يقول في أثناء‏.‏
حديثه‏:‏ إيهاً يا ربيع أنجُ يا ربيعَ وكان معه رَئِيِّ‏.‏
قال‏:‏ وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بني يَربوع فإذا هو براع فاستسقاه وضربت الفرس برأسها فماتت فسمى ذلك المكان إلى اليوم‏:‏ هَبِير الفرس‏.‏
فقال له أبوه عُتَيبة‏:‏ أمّا إذ نجوت بنفسك فإني مخلف لك مالَك‏.‏
يوم ذي قار الأول لبكر على تميم قال أبو عبيدة‏:‏ فخرج عتَيبة في نحو خمسةَ عشر فارساً من بني يربوع فكمن في حِمى ذي قار حتى مَرت إبل بني الحُصين بالفَداوّية اسم ماء لهم فصاحوا بمن فيها من الحامية والرِّعاء ثم استاقوها‏.‏
فأخلف للرِبيع ما ذهب له وقال‏:‏ ألم تَرني أفأتُ على رَبيعٍ جِلاداً في مَباركها وخُورَا وأني قد تركتُ بني حُصين بذي قارٍ يَرِمُّون الأمورا يوم الحاجر بكر على تميم قال أبو عبيدة‏:‏ خرج وائل بن صُريم اليَشكريّ من اليمامة فلقيه بنو أُسيِّد ابن عمرو بن تميم فأخذوه أسيراً فجعلوا يَغْمسونه في الركيَّة ويقولون‏:‏ يأيها الماتحُ دَلْوى دُونكما حتى قتلوِه‏.‏
فغزاهم أخوه باعث بن صُريم يوم حاجر فأخذ ثُمامة بنِ باعث ابن صُريم رجلاً سائلْ أسَيِّد هل ثأرتُ بوائل أم هل شَفيتُ النفسَ من بَلبالها إذ أرسلوني ماتحاً لدِلائهم فملأتُها عَلَقاً إلى أَسْبالها إنّ الذي سَمك السماء مكانَها والبدرَ ليلةَ نِصْفها وهِلالِها آليت أنقُف منهُم ذا لحْية أبداً فَتَنْظُر عينُه في مالِها وقال‏:‏ سائل أسيّد هل ثأرتُ بوائل أم هل أتيتهمُ بأمرٍ مُبْرَم إذ أرسلوني ماتحاً لِدلائهم فملأتهنّ إلى العَراقي بالدمِ يوم الشِّقِيق لبكر على تميم قال أبو عُبيدة‏:‏ أغار أَبجر بن جابر العِجلْي على بني مالك بن حَنظلة فسَبى سُلَيْمى بنت مِحْصَن فولدت له أَبجرِ‏.‏
ففي ذلك يقول أبو النَجم‏:‏ ولقد كررتُ على طُهية كَرَّةَ حتى طرقت نساءها بمَساء حرب البسوس وهي حرب بكر وتغلب ابني وائلٍ أبو المُنذر هشام بن محمد بن السائب قال‏:‏ لم تَجتمع مَعد كلها إلاّ على ثلاثة رَهط من رؤساء العرب وهم‏:‏ عامر وربيعة وكُليب‏.‏
فالأول‏:‏ عامر بن الظَّرب بن عمرِو بن بكر بن يَشكر بن الحارث وهو عَدْوان بن عمرو بن قيس بن عَيلان وهو النَاس بن مُضر‏.‏
وعامر بن الظرب هو قائد معد يوم البَيداء حين تَمَذْحجت مَذْحج وسارت إلى تِهامه وهي أول وَقْعة كانت بين تهامة واليمن‏.‏
والثاني‏:‏ ربيعة بن الحارث بن مُرة بن زهير بن جُشم بن بكر بن حُبَيب ابن كعب وهو قائد معدّ يوم السُّلان وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن‏.‏
والثالث‏:‏ كُليب بن ربيعة وهو الذي يُقال فيه‏:‏ أعزّ من كليب وائل‏.‏
وقاد معدَاً كلها يوم خَزار ففصّ جُموع اليمن وهَزمهم‏.‏
فاجتمعت عليه معدّ كُلها وجعلوا له قسمِ الملك وتاجَه وتحيّته وطاعته‏.‏
فغَبر بذلك حيناً من دهره ثم دخله زهوٌ شديد وبغى على قومه لما هو فيه من عِزّة وانقياد معدّ له حتى بلغ من بَغيه أنه كان يَحمي مواقع السحاب فلا يُرعى حِماه ويُجير على الدَهر فلا تُحفر ذمّته ويقول‏:‏ وَحش أرض كذا في جواري فلا يُهاج ولا تورد إبلُ أحدٍ مع إبله ولا توقد نار مع ناره حتى قالت العرب‏:‏ أعزُّ من كليب وائل‏.‏
وكانت بنو جُشم وبنو شَيبان في دار واحدة بتِهامة وكان كُليب بن وائل قد تزوّج جَليلة بنت مُرة بن ذُهل بن شَيبان وأخوها جَسّاس ابن مُرة‏.‏
وكانت البَسوس بنت مُنقذ التميميّة خالةَ جساس بن مُرة وكانت نازلةً في بني شَيبان مجاورةً لجسّاس وكانت لها ناقة يقال لها سَراب ولها تقول العرب‏:‏ أشأم من سَراب وأشأم من البَسوس فمرّت إبل لكُليب بسَراب ناقة البسوس وهي مَعقولة بفناء بيتها في جوار جَسَّاس بن مُرة‏.‏
فلمّا رأت سرابُ الإبلَ نازعت عِقالَها حتى قطعتْه وتَبعت الإبل واختلطت بها حتى اْنتهت إلى كُليب وهو على الحَوض معه قوسٌ وكنانة‏.‏
فلمّا رآها أنكرها فانتزع لها سهماً فخَرم ضَرعها فنفرت الناقة وهي تَرْغو‏.‏
فلما رأتها البسوس قَذفت خِمارَها عن رأسها وصاحت‏:‏ واذُلاّه‏!‏ واجاراه‏!‏ وخرجت‏.‏
فأحمست جسّاساً‏.‏
فركب فرساً له مُعْرَوريةً فأخذ آلته وتَبعه عمرو ابن الحارث بن ذُهل بن شَيبان على فرسه ومعه رمحه حتى دخلا على كليب الحِمَى فقال له‏:‏ أيا أبا الماجدة عمدتَ إلى ناقة جارتي فعقرتها‏.‏
فقال له‏:‏ أتُراك ما نِعي إن أذُبّ عن حِماي فأحمسه الغضبُ فطَعنه جسَّاس فقَصم صُلبه وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع بَطنه فوقع كُليب وهو يَفْحص برجله وقال لجساس‏:‏ أغِثْنى بشربة من ماء‏.‏
فقال‏:‏ هيهات تجاوزت شبَيثَاً والأحَصّ‏.‏
ففي ذلك يقول عمرو بن الأهْتم‏:‏ وإنّ كُليباً كان يَظلم قومَه فأدركه مثلُ الذي تَريانِ فلما حَشاه الرمحَكفُّ اْبن عمّه تذكّر ظُلم الأهل أيّ أوان وقال لجسّاسٍ أَغِثْني بشرَبة وإلا فخَبِّر مَن رأيتَ مكاني فقال تجاوزتَ الأحصَّ وماءه وبَطن شُبيثٍ وهو غير دِفَان وقال نابغة بني جَعدة‏:‏ أَبْلغ عِقالاً أنّ خُطة داحس بكَفَيك فاستأخر لها أو تَقَدّم كليب لعمري كان أكثَر ناصرأً وأيسرَ ذَنباً منك ضُرِّج بالدَّم رَمى ضَرْع ناب فاستمرّ بطَعْنة كحاشية البُرد اليَماني المُسهًم وقال لجسّاسً أغثْني بشَرْبةٍ تَداركْ بها مَنَّا عليّ وأَنعِم فقال تجاوزتَ الأحصّ وماءَه وبطن شُبيث وهو ذو مترسّم فلما قُتل كُليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النِهى‏.‏
وتشمّر المُهلهل أخو كليب بكر وترك النِّساء والغَزل وحَرّم القِمار والشَراب وجَمع إليه قومَه فأرسل رجالاً منهم إلى بني شَيبان يُعذر إليهم فيما وَقع من الأمر‏.‏
فأتوا مُرة بن ذهل بن شَيبان وهو في نادي قومه فقالوا له‏:‏ إنكم أتيتم عظيماً بقَتلكم كُليباً بناب من الإبل فقطعتمِ الرحم وانتهكتمِ الحُرمة وإنا كرهنا العَجلة عليكم دون الإعذار إليكم‏.‏
ونحن نعرض عليكمِ خِلالاً أربع لكم فيها مَخرج ولنا مَقنع‏.‏
فقال مرة‏:‏ وما هي قال له‏:‏ تُحْي لنا كليباً أو تدفع إلينا جَساساً قاتلَه فنقتله به أو همّاماً فإنه كُفء له أو تُمكننا من نفسك فإنّ فيك وفاءَ منِ دمه فقال‏:‏ أما إحيائي كُلَيباً فهذا ما لا يكون وأمّا جَسّاس فإنه غلام طَعن طعنةَ على عَجَل ثم ركب فرسَه فلا أدري أيّ البلاد أحتوى عليه وأمّا همّام فإنه أبو عَشرة وأخو عَشرة وعَمّ عشرة كُلهم فُرسان قومهم فلن يُسلموه لي فأدفعه إلَيكم يُقتل بجرَيرة غيره وأما أنا فهل هو إلاّ أنْ تَجول الخيلُ جولةً غداً فأكونَ أوّلَ قتيل بينها فما أتعجَّل من الموت ولكن لكم عندي خَصْلتان‏:‏ أما إحداهما فهؤلاء بنيّ الباقون فعلِّقوا في عُنق أيّهم شِئتم نِسْعة فانطلقوا به إلى رِحالكم فأذبحوه ذَبْح الجَزور وإلا فأَلف ناقة سوداء المُقَل أقيمِ لكم بها كفيلاً من بني وائل‏.‏
فغضب القومُ وقالوا‏:‏ لقد أسأتَ تُرْذل لنا ولدك وتسومنا اللبنَ من دم كُليب‏.‏
ووقعت الحربُ بينهم‏.‏
ولحقت جليلةُ زوجةُ بأبيها وقومها‏.‏
ودعت تغلب النمرَ بن قاسط فانضمّت إلى بني كُليب وصاروا يداً معهم على بكر ولحقت بهم غُفَيلة ابن قاسط واعتزلت قبائل بكر بن وائلِ وكَرِهوا مُجامعة بني شَيبان ومُساعدتهم على قتال إخوتهم وأعظموا قتلَ جسّاس كُليباً رئيسهم بناب من الإبل‏.‏
فظَعنت لجيم عنهم وكفّت يَشْكر عن نُصرتهم وأنقبض الحارث بن عُباد في أهل بيته‏.‏
وهو أبو بُجير وفارس النَّعامة‏.‏
وقال المُهلهل يرثي كُليباً‏:‏ بِت ليلي بالأنْعَمين طويلاً أرقب النجم سهراً أن يزولا كيف أهَدَأ ولا يزال قَتيلٌ من بني وائل ينسي قتيلا غَنِيت دارنا تهامة في الده ر وفيها بنو معد حلولا فتساقَوْا كأساً أمرت عليهم بينهم بقتل العزيز الذليلا فَصَبحْنا بني لُجيم بضَرب يترك الهم وقعه مفلولا لم يُطيقوا أن يَنْزلوا ونزَلناً وأخو الحرب من أطاق النزولا انتضَوْا مَعْجِس القسي وأبْرق نا كما توعد الفحولا قَتلوا ربَّهم كُلباً سَفاهاً ثم قالوا ما نخاف عويلا كَذبوا والحرام والحِلِّ حتى نسلب الخدر بيضة المحجولا كُليبُ لا خيرَ في الدنيا ومَن فيها إذ أنت خليتها فيمن يخلبها كُليب أيّ فتَى عزٍّ ومَكْرُمة تحت السّقائف إذ يعلوك سافيها نَعى النُعاةُ كُليباً لي فقلتُ لهم مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها الحَزم والعَزْمُ كانا من صَنيعته ما كل آلائه يا قوم أحصيها القائدُ الخَيْل تَرْدَى في أعنَتها زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها مِن خيل تَغْلبَ ما تلقي أسنَّتها إلا وقد خضبوها من أعاديها يُهَزْهِزُون من الخَطّيّ مُدْمَجة كمتاً أنابيبها زرقاً عواليها تَرى الرِّماحَ بأيدينا فنُوردها بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها ليت السماء على مَن تّحتها وقعتْ وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها لا أصلح الله منِّا من يُصالحكم ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها يوم النهِّي قال أبو المُنذر‏:‏ أخبرني خِرَاش أن أوَل وَقعة كانت بينهم بالنهي يوم النهِّى‏.‏
فالتقوا بماء يقال له النَهي كانت بنو شَيبان نازله عليه‏.‏
ورئيسُ تَغلب المهلهل ورئيس شَيبان الحارثُ بن مُرًة‏.‏
فكانت الدائرةُ لبني تَغلب وكان الشَّوكة في شَيبان واستحرّ القتل فيهم إلا أنه لم يُقتل في ذلك اليوم أحد من بني مَرَة‏.‏
يوم الذنَّائب ثم التقوا بالذنائاب وهي أعظم وَقعة كانت لهم فظفرت بنو تَغلب وقُتلت بكر مقتلة عظيمة‏.‏
وفيها قُتل شرَاحيل بن مرة بن هَمام بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان وهو جدّ الحَوْفزان وهو جد مَعْن بن زائدة‏.‏
والحَوْفزان هو الحارث ابن شريك بن عمروِ بن قيس بن شَراحيل قتله عتاب بن سَعد بن زُهير بن جُشَم‏.‏
وقُتل الحارث بن مُرة بن ذُهل بن شَيبان قتله كعب بن ذُهل بن ثعلبة‏.‏
وقُتل من بني ذهل ثَعلبة‏:‏ عمرو بنُ سَدوس بن شَيبان بن ذُهل بن ثعلبة‏.‏
وقتل مِن بني تَيم الله‏.‏
جميلُ بن مالك بن تَيم الله وعبد الله بن مالك بن تَيم الله‏.‏
وقُتل من بني قيس ابن ثعلبة‏:‏ سعدُ بن ضُبيعة بن قيس وتميم بن قيس بن ثعلبة وهو أحد الخَرِفين‏.‏
وكان شيخاً كبيراً فحُمل في هودج فلَحِقه عمرو بن مالك بن الفَدَوْكس بن جُشم وهو جدّ الأخطل فقَتله‏.‏
هؤلاء مَن أصيب من رؤساء بكر يوم الذنائب‏.‏
يوم واردات ثم التقوا بواردات وعلى الناس رؤساؤهم الذين سمَينا‏.‏
فظفرت بنو تغلب وأستحر القتلُ في بني بكر فيومئذ قتل الشعثمان شَعثم وعبد شمس ابنا معاوية بن عامر بن ذُهل بن ثعلبة وسيار بن الحارث بن سيار‏.‏
وفيه قُتل همام ابن مرة بن ذُهل بن شَيبان أخو جساس لأمه وأبيه فمرْ به مُهلهل مقتولاً فقال‏:‏ والله ما قُتل بعد كُليب قَتيل أعز علي فقداً منك وقتله ناشرة‏.‏
وكان همَام رَباه وكَفله كما كان ربى حُذيفةُ بن بَدْر قِرْواشاً فقتله يومَ الهَباءة‏.‏
يوم عُنيزة ثم التقوا بعُنيزة فظَفِرت بنو تَغلب‏.‏
ثم كانت بينهم مُعاودة ووقائع كثيرة كُل ذلك كانت الدائرة فيه لبني تَغلب على بني بكر‏.‏
فمنها‏:‏ يوم الحِنو ويوم عُويْرضات ويوم أنيق ويوم ضَرِيّة ويوم القُصيبات‏.‏
هذه الأيام لتغلب على بكر‏.‏
أُصيبت فيها بكر حتى ظنّوا أن ليس يَسْتقبلون أمرهم‏.‏
وقال مُهلهل يصف هذه الأيّام ويَنعاها على بكر في قَصيدة طويلة أولها‏:‏ أليلَتنا بذي حُسُم أَنِيري إذا أنت انقضَيت فلا تَحُورِي فإن يكُ بالذّنائب طال ليلي فقد أَبكي من اللّيل القَصير وفيها يقول‏:‏ كأنّا غدوةً وبني أَبينا بجَنب عُنَيزة رَحَيا مُدِير وإنّي قد تركتُ بوارداتٍ بجُيراً في دَم مِثل العَبير أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ حتى أبهرج بكراً أينما وُجدوا قال أبو حاتم‏:‏ أُبهرج‏:‏ أدعهم بهرجاً لا يُقتل بهم قتيل ولا تُؤخذ لهم دية‏.‏
قال‏:‏ والبَهْرج من الدراهم مِن هذا‏.‏
وقال المُهلهل‏:‏ يا لبَكر انشروا لي كُلَيباً يا لبَكر أينَ الفِرارُ تلك شيبان تقول لبكر صرِّح الشرُّ وبان السِّرار وبنو عِجْل تقول لقَيس ولتَيْم اللات سِيرُوا فسارُوا وقال‏:‏ حتى تبيدَ قبائلٌ وقبيلةٌ ويَعض كلُ مثقف بالهَامَ حتى تبيدَ قبائلٌ وقبيلةٌ ويَعض كلُ مثقف بالهَامَ وتقومَ ربَّاتُ الخُدور حواسراً يَمْسحن عُرْض ذَوائب الأيتام حتى يَعضّ الشيخُ بعدَ حَمِيمه مما يرَى نَدماً على الإيهام يوم قِضَة ثم إنّ مُهلهلاً أسرف في القتل ولم يُبال بأيّ قبيلة من قبائل بكر أوقع وكان أكثرُ بكر قعدت عن نُصرة بني شَيبان لقَتْلهم كُليب بن وائل فكان الحارث بن عُباد قد اعتزل تلك الحُروب‏.‏
حتى قُتل ابنُه بُجير بن الحارث‏.‏
ويقال إنه كان ابنَ أخيه فلما بلغ الحارثَ قتلُه قال‏:‏ نِعْم القتيلُ قتيلٌ اصلح بين ابني وائل وظنّ أنّ المُهلهل قد أدرك به ثأر كُليب وجعله كُفئاً له‏.‏
فقيل له‏:‏ إنما قتله بشِسْع نَعْل كُليب‏.‏
وذلك أن المهلهل لما قَتل بُجيراً قال‏:‏ بُؤ بشِسْع كُليب‏.‏
فغضب الحارثُ بن عُباد وكان له فرس يقال لها النَّعامة فَركبها وتولَّى أمرَ بكر فقَتل تَغلب حتى هَرب المُهلهل وتفرقت قبائل تغلب فقال في ذلك الحارث بن عُباد‏:‏ قربا مَرْبط النًّعامة مِنّي لَقحتْ حربُ وائل عَن حِيالي لم أكُن من جُناتها علم اللهُ وإنّي بحِرّها اليومَ صَالي الكلاب الأول قال أبو عُبيدة‏:‏ لما تَسافهت بكرُ بن وائل وغَلبها سفهاؤها وتقاطعت أرحامُها ارتأى رؤساؤهم فقالوا‏:‏ إنّ سُفهاءنا قد غَلبوا على أمرنا فأكل القويُ الضعيفَ ولا نَستطيع تغييرَ ذلك فنرى أن نُملَك علينا ملكاً نُعطيه الشاةَ والبعير فيأخذ للضّعيف من القوي ويردُّ على المظلوم من الظالم ولا يُمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون فتفسُد ذاتُ بيننا ولكنّا نأتي تُبعَاً فنُملَكه علينا‏.‏
فأتوه فذكروا له أمرهم فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكِنديّ فقَدِم فنزل عاقل ثم غزَا ببكر بن وائل حتى أنتزع عامة ما في أيدي ملوك الحيرة اللَّخميَين وملوك الشام الغسانيين وردّهم إلى أقاصي أعمالهم‏.‏
ثم طُعن في نَيْطه أي مات فدُفن ببطن عاقل‏.‏
واختلف أبناه شُرَحْبِيل وسَلَمة في المُهلك فتواعد الكُلاب‏.‏
فأقبل شُرَحبيل في ضَبة والرباب كُلها وبني يَربوع وبكر بن وائل‏.‏
وأقبل سَلَمة في تَغلب والنمر وبَهراء ومَن تَبعه مِن بني مالك بن حَنظلة وعليهم سُفيان بن مُجاشع وعلى تغلب السفَاح - إنما قيل له السفاح لأنه سَفح أوعية قَومه - وقال لهم‏:‏ أبدرُوا إلى ماء الكلاب فسبقوا ونزلوا عليه‏.‏
وإنما خرجتْ بكرُ بن وائل مع شُرحبيل لعداوتها لبني تغلب‏.‏
فالتقوا على الكُلاب واستحر القتلُ في بني يَربوع وشد أبو حَنَش على شُرحبيل فقتله وكان شرُحبيل قتل ابنه حَنَشاً فأراد أبو حَنَش أن يأتي برأسه إلى سَلمة فخافه فبعثه مع عَسيف له‏.‏
فلما رآه سَلمة دَمعت عيناه وقال له‏:‏ أنت قتلتَه قال‏:‏ لا ولكنه قتله أبو حَنش‏.‏
فقال‏:‏ إنما أدفع الثوابَ إلى قاتله‏.‏
وهَرب أبو حَنش عنه‏.‏
فقال سَلَمة‏:‏ ألا أبْلغ حَنَش رسولاً فما لك لا تجيء إلى الثوابِ تعلم أن خير الناس مَيْتاً قَتِيلٌ بَين أحجار الكُلاب تداعت حَوله جُشَمِ بن بَكر وأسلمه جَعاسيسُ الرباب ومما يَدُل على أن بكراً كانت مع شرُحبيل قولُ الأخطل‏:‏ أبا غسان إنّك لم تُهني ولكن قد أهنتَ بني شِهاب تَرقَّوا في النَخيل وأنسِئونا دِماءَ سرَاتكم يومُ الكُلاب يوم الصفقة ويوم الكلاب الثاني قال أبو عُبيدة‏:‏ أخبرنا أبو عمرو بن العَلاء قال‏:‏ كان يوم الكُلاب مُتصِلاً بيوم الصَفْقة وكان من حديث الصَفقة أن كِسرى الملك كان قد أوقع ببني تميم فأخذ الأموالَ وسَبى الذَّراري بمدينة هَجر وذلك أنّهم أغاروا على لَطيمة له فيها مِسك وعَنبر وجَوهر كثير فسُمِّيت تلك الوَقعة يوم الصَّفقة ثم إنّ بني تميم أداروا أمرهم وقال ذو الحِجا منهم‏:‏ إنكم قد أغضبتم الملك وقد أوقع بكم حتى وَهنتم وتسامعتْ بما لقيتُم القبائل فلا تَأْمنون دَوران العرب‏.‏
فجَمعوا سَبعة رؤساء منهم وشاوروهمِ في أمرهم وهم‏:‏ أكثم بن صيفيّ الأسيِّديّ والأُعيمر بن يَزيد بن مُرة المازنيّ وقيس بن عاصم المِنْقريّ وأُبير بن عِصْمة التَّيميّ والنُّعمان ابن الحَسْحاس التَّيمي وأُبَيْر بن عمرو السَّعدي والزِّبْرقان بن بَدر السعديّ‏.‏
فقالوا لهم‏:‏ ماذا تَروْن فقال أكثم بن صَيفيّ وكان يُكنى أبا حَنش‏:‏ إنّ الناس قد بلغهم ما قد لقينا ونحن نخاف أن يطمعوا فينا ثم مَسح بيده على قَلبه وقال‏:‏ إنّي قد نَيّفت على التِّسعين وإنما قلبي بَضْعة من جِسْمي وقد نَحل كما نحل جِسْمي وإنّي أخاف أن لا يُدرك ذهني الرأيَ لكم وأنتم قومٌ قد شاع في النّاس أمرُكم وإنما كان قوامكم أسيفاً وَعَسيفاً - يُريد العَبد والأجير - وصِرْتم اليوم إنما تَرعى لكم بناتكم فليعرض عليّ كُل رجل منكم رأيَه وما يَحْضُره فإني متى أسمع الحَزم أعرفه‏.‏
فقال كُل رجل منهم ما رأى وأكثمُ ساكتٌ لا يتكلَم حتى قام النعمان بن الحَسْحاس فقال‏:‏ يا قوم انظُروا ماءَ يجمعكم ولا يعلم الناس بأيّ ماء أنتم حتى تَنفرج الحَلْقة عنكم وقد جَممتم وصلُحت أحوالُكم وانجبر كسيركم وقَوِي ضعيفُكم‏.‏
ولا أعلمِ ماءً يَجمعكم إلا قِدّة فارتحلوا ونزلوا قِدَة‏.‏
وهو موضع يُقال له الكُلاب‏.‏
فلما سمِع أكثم ابن صيفيّ كلام النعمان قال‏:‏ هذا هو الرأي‏.‏
فارتحلُوا حتى نزلوا الكُلاَب‏.‏
وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم وأعلاه مما يلي اليمن وأَسفله مما يلي العراق‏.‏
فنزلت سعدُ والرَّباب بأعلى الوادي ونزلتْ حَنظلة بأسفله‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ وكانوا لا يخافون أن يُغْزَوا يفي القَيْظ ولا يسافر فيه أحد ولا يَستطيع أحدٌ أن يَقطع تلك الصَّحاري لبُعْد مَسافتها وليس بها ماء ولشدّة حرّها‏.‏
فأقاموا بقيّة القَيظ لا يعلم أحد بمكانهم حتى إذا تَهوّر القيظ - أي ذ هب - بَعث الله ذا العَينين وهو من أهل مدينة هَجَر فمرَّ بقِدّة وصَحرائها فرأى ما بها من النَّعم فانطلق حتى أَتىَ أهل هَجر فقال لهم‏:‏ هل لكم في جارية عَذْراء ومُهرة شَوهاء وَبكْرة حَمْراء ليس دونها نَكبة فقالوا‏:‏ ومَن لنا بذلك قال‏:‏ تلكم تَميم ألقاء مطروحون بقِدّة‏.‏
قالوا‏:‏ إي والله‏.‏
فمشى بعضُهم إلى بعض وقالوا‏:‏ أغتنمُوها من بني تَميم‏.‏
فأَخرَجوا منهم أربعةَ أملاك يقال لهم اليَزيديّون‏:‏ يزيد بن هَوْبر ويزيد بن عبد المَدَان ويزيد بن اَلمأمور ويَزيد بن المُخَرِّم وكلهم حارثيّون ومعهم عبد يغوث الحارثيّ‏.‏
فكان كُل واحد منهم على أَلفين والجماعة ثمانية آلاف‏.‏
فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبرَ منه ومن جيش كَسْرى يومَ ذي قَار ويوم شِعْب جَبلة‏.‏
فمضَوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلةَ قال جَزْء بن جَزْء الباهليّ لابنه‏:‏ يا بني كل لك في أُكْرومة لا يُصاب أبداً مثلُها قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ هذا الحيّ من تميم قد وَلجوا هناك مخافةً وقد قصصتُ أثرَ الجيش يريدونهم فأركب جَملي الأرْحبيّ وسِرْ سيراً رُويداً عُقْبةً من الليل - يعني ساعة - ثم حل عنه حَبْليه وأَنْخِه وتوسَّد ذراعه فإذا سمعته قد أَفاض بجرّته وبال فاستنقعتْ ثَفِناته في بَوْله فشُدّ عليه حَبْله ثم ضَعْ السوط عليه فإنك لا تَسأل جملَك شيئاً من السَّير إلا أعطاك حتى تصبح القوم ففعل ما أمره به‏.‏
قال الباهلي‏:‏ فحللت بالكلاب قبل الجَيش وأنا أنظُر إلى ابن ذُكاء - يعني الصّبح - فناديتُ‏:‏ يا صَباحاه‏!‏ فإنهم لَيَثِبون إليّ ليسألوني مَن أنت إذ أقبل رجل منهم من بني شَقيق على مُهر قد كان في النَّعم فنادى يا صباحاه‏!‏ قد أُتي على النَّعم‏.‏
ثم كَر راجعاً نحو الجيش‏.‏
فلقيه عبد يغوث الحارثيّ وهو أول الرعيل فطعنه في رأس مَعدته فسبق اللبنَ الدمَ وكان قد أصطبح‏.‏
فقال عبد يغوث‏:‏ أطيعوني وامضُوا بالنعم وخلوا العَجائز من تميم ساقطةً أفواهُها‏.‏
قالوا‏:‏ أما دون أن نَنكح بناتِهم فلا‏.‏
وقال ضمرة بن لَبيد الحِماسي ثم المَذْحجي الكاهن‏:‏ انظُروا إذا سُقْتم النعم فإن أتتكم الخيلُ عُصَباً العصبة تنتظر الأخرى حتى تلحق بها فإن أمر القوم هين وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضُهم بعضاً حتى يردوا وُجوه النعم فإن أمرهم شديد‏.‏
وتقدمت سعد والرباب في أوائلٍ الخَيل فالتقَوْا بالقوم فلم يَلتفتوا إليهم‏.‏
واستقبلوا النعم ولم يَنتظر بعضُهم بعضاً‏.‏
ورئيس الرباب النعمان بن الحَسْحاس ورئيس بني سعد قَيسُ بن عاصم‏.‏
وأجمع العُلماء أن قيس بن عاصم كان رئيسَ بني تميم‏.‏
فالتقى القوم فكان أولَ صريع النعمانُ بن الحسحاس‏.‏
واقتتل القومُ بقية يومهم وثبَت بعضُهم لبعض حتى حَجز الليلُ بينهم‏.‏
ثم أصبحوا على راياتهم فنادى قيسُ بن عاصم‏:‏ يالَسعد ونادى عبدُ يغوث‏:‏ يالَسعد‏.‏
قيسٌ يدعو سعدَ بنَ زيدَ مناة وعبدُ يغوث يدعو سعدَ العشيرة‏.‏
فلما سمع ذلك قيسٌ نادى‏:‏ يالكعب فنادى عبدُ يغوث يالكعب‏.‏
قيس يدعو كعبَ بن سعد وعبدُ يغوث يدعو كعبَ بن مالك‏.‏
فلما رأى ذلك قيس نادى‏:‏ يالكعب مُقاعس‏.‏
فلما سمعه وَعْلة بن عبد الله الجَرْمي وكان صاحبَ لواء أهل اليمن نادى‏:‏ ياَلمُقاعس تفاءل به فطَرح اللواء وكان أول من أنهزم‏.‏
فحملت عليهم بنو سعد والرباب فهزموهم‏.‏
ونادى قيسُ بني عاصم‏:‏ يالَتميم لا تقتلوا إلا فارساً فإن الرّجالة لكم‏.‏
ثم جعل يرتجز ويقول‏:‏ لما تولَّوا عُصَباً هواربَاً أقسمتُ أطعن إلاٌ راكباً إنْي وجدتُ الطعن فيهم صائباً وقال أبو عبيدة‏:‏ أمر قيس بن عاصم أن يَتبعوا المُنهزمة ويقطعوا عُرقوبَ مَن لَحِقوا ولا يَشتغلوا بقَتلهم عن اتَباعهم‏.‏
فجزُوا دوابرَهم‏.‏
فذلك قولُ وَعْلة‏:‏ فدى لكمُ أهلي وأُميَ ووالدي غداةَ كُلاب إذ تُجز الدَوابرُ - وسنكتب هذه القصيدة على وَجهها -‏.‏
وحَمى عبدُ يغوث أصحابه فلم يُوصل إلى الجانب الذي هو فيه فألظٌ به مَصاد بن ربيعة بن الحارث‏.‏
فلما لحقَه مَصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره‏.‏
وكان مَصاد قد أصابته طعنة في مَأْبِضه وكان عِرْقُه يَهمي - أي يَسيل - فَعصبه وكَتفه - يعني عبدَ يغوث - ثم أردفه خلفه فنزفه الدمُ فمال عن فرسه مَقْلوباً‏.‏
فلما رأى ذلك عبدُ يغوث قطع كِتافَه وأجهز عليه وانطلق على فرسه وذلك أولَ النهار‏.‏
ثم ظُفِر به بعد في آخره ونادى مُنادٍ‏:‏ قُتِل اليزيديّون‏.‏
وشَدٌ قَبيصة بن ضرار الضَبي على ضمرة بن لَبيد الحِماسيّ الكاهن فطَعنه فخر صريعاً‏.‏
فقال له قَبيصةُ‏:‏ ألا أخبرك تابعُك بمَصرعك اليوم وأسر عبد يغوث أسره عِصمة ابن أُبير التَّيمي‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ انتهى عِصْمة بن أُبير إلى مَصَاد وقد أمعنوا في الطلب فوَجده صريعاً وقد كان قبل ذلك رأى عبد يَغوث أسيراً في يديه فعرف أنه هو الذي أجهز عليه فاقتصّ أثرَه فلما لحقه قال له‏:‏ ويحك‏!‏ إنّي رجل أُحب الِّلبن وأنا خيرٌ لك من الفَلاة والعَطش‏.‏
قال عبد يغوث‏:‏ ومن أنت قال‏:‏ عصمة بن أُبير‏.‏
قال عبد يغوث‏:‏ أوَ عندك مَنَعة قال‏:‏ نعم‏.‏
فألقى يدَه لا يده‏.‏
فانطلق به عِصْمة حتى خَبأه عند الأهتم على أن جَعل له من فدائه جُعلا‏.‏
فوَضعه الأهتم عند امرأته العَبْشمية‏.‏
فأعجبها جمالُه وكمانُا خَلْقه‏.‏
وكان عِصْمة الذي أسره غلاماً نحيفاً‏.‏
فقالت لعبد يغوث‏:‏ مَن أنت قال‏:‏ أنا سيد القوم‏.‏
فضحكت وقالت‏:‏ قَبَّحك الله سيّد قوم حينَ أسرك مثلُ هذا‏!‏ ولذلك يقول عبد يغوث‏:‏ وتَضْحك مني شيخةٌ عَبْشميّة كأنْ لم تَريْ قَبْلي أسيراً يَمانيَا فاجتمعت الرباب إلى الأهتم فقالت‏:‏ ثأرُنا عندك وقد قُتل مَصاد والنُعمان فأخرجه إلينا‏.‏
فأبى الأهتم أن يُخرجه إليهم فكاد أن يكون بين الحيين الرباب وسعد فِتْنة‏.‏
حتِى أقبل قيسُ بن عاصم المِنْقري فقال‏:‏ أيؤتى قطع حِلف الرباب - مِن قِبَلنا وضرب فمَه بقَوس فهَتمه فَسُمَي الأهتم‏.‏
فقال الأهتم‏:‏ إنما دَفعه إليّ عِصْمة بن أبير ولا أدفعه إلاّ إلى مَن دَفعه إليّ فليجئ فليأخذه فأتوْا عِصْمة فقالوا‏:‏ يا عصمة قُتل سيدنا النعمان وفارسنا مَصاد وثأرنا أسيرُك وفي يدك فما ينبغي لك أن تَسْتحييه‏.‏
فقال‏:‏ إني مُمْحل وقد أصبت الغِنى في نفسي ولا تَطيب نفسي عن أسيري‏.‏
فاشتراه بنو الحَسْحاس بمائة بعير - وقال رُؤبة بن العجَّاج‏:‏ بل أرضوه بثلاثين من حواشي النَّعم - فدفعه إليهم فخَشُوا أن يهجوهم فشدُّوا على لسانه نِسْعة‏.‏
فقال‏:‏ إنكم قاتلي ولابد فَدعُوني أذُم أصحابي وأنوح على نفسي‏.‏
فقالوا‏:‏ إنك شاعر ونخاف أن تَهجوَنا‏.‏
فعقد لهم ألا يفعل‏.‏
فأطلقوا لسانَه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها‏:‏ ألم تَعْلما أنّ الملامةَ نَفعها قليل وما لوْمِي أخِي مِن شِمَاليا فيا راكباً إمَّا عَرضْتَ فبلَغنْ نَدامايَ من نَجْران أن لا تَلاقيا أبا كَرب والأيْهمين كليهما وقيس بأعلى حَضرموتِ اليمانيا جَزى الله قومي بالكُلاب مَلامة صَريحَهم والآخِرين المَواليا ولو شئتُ بَحَّتنى من القوم نَهدة ترى خلفها الجُرد الجياد تَواليا ولكنًني أحمِي ذِمارَ أبيكمِ وكاد الرِّماح يَخْتطفْن المُحاميا أحقَّاً عبادَ الله أنْ لستُ سَامِعاً نَشيدَ الرِّعاء المُعزِبين المَتاليا أقولُ وقد شَدُّوا لساني بنِسْعة أمَعشَر تَيْم أَطْلِقوا عَن لِسانيا وتَضْحك منِّي شيخةٌ عبشمية كَأَنْ لم تَرَيْ قَبْلي أسيراً يمانياً أمعشَر تَيْم قد مَلكتم فأَسْجِحوا فإنَّ أخاكم لم يكن من بَوائيا وقد عَلمتْ عِرْسي مُليكةُ أنَّني أنا الليثُ مَعْدوَاً عليه وعاديا وقد كنتُ نحّارَ الجَزور ومُعْمل اْلمط ي وأمضي حيث لا حي ماضيا كأنِّيَ لم أرْكب جواداً ولم أقُلْ لِخَيْليَ كرّي قاتِليعن رِجالِيا ولم أَسْبَأ الزِّقّ الرَّوِيّ ولم أقُلْ لأيْساَرِ صِدْقِ أَعْظِموا ضوْءَ نارِيا قال أبو عُبيدة‏:‏ فلِما ضُربِت عنقه قالت ابنةُ مَصاد‏:‏ بؤ بمَصَاد‏.‏
فقال بنو النعمان‏:‏ يا لَكاع نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمَصاد‏!‏ فوقع بينهم في ذلك الشر ثم اصطلحوا وكان الغَناء كُله يوم الكُلاب من الرَّباب لتميم ومن بني سَعد لِمُقاعس‏.‏
وقال وَعْلة الجَرْميّ وكان أول مُنهزم انهزم يوم الكُلاب وكان بيده لِواء القَوم‏:‏ ومَنّ عليَ الله مَنَّاً شكرتُه غَدَاةَ الكُلاب إذ تُجز الدّوابر ولمّا رأيتُ الخيلَ تَتْرَى أَثابجاً علمتُ بأن اليومَ أَحْمسُ فاجِر نجوتُ نجاءً ليس فيه وَتيرَة كأني عُقابٌ عند تَيمن كاسر خُدارية صَقْعاء لَبّد ريشَها بطَخْفة يوم ذو أَهاضيبَ ماطرُ لها ناهض في الوَكْر قد مَهَدت له كما مَهدت للبَعْل حَسْناءُ عاقر كأنا وقد حالت حذُنُة دوننا نَعامٌ تَلاه فارسٌ مُتواتر فمَن يك يَرْجو في تَميم هوادة فليس لجَرْم في تميم أواصِر ولا أكُ يا جَرَّارة مُضريةٍ إذا ما غدتْ قوت العِيال تُبادر وقد قُلت للنهدي هل أنت مُرْدِفي وكيف رِدافُ الفَل أمُك عاثِر يُذَكَرني بالآل بيني وبينه وقد كان في جرم ونَهْد تَدَابُر وقال محرز بن المُكعْبر الضبي ولم يَشهدها وكان مُجاوراً في بني بكر بن وائل لما بلغه الخبر‏:‏ فِدى لقومِيَ ما جمعت من نَشب إذ ساقت الحربُ أقواماً لأقوام إذ حُدِّثت مَدْحجِ عنا وقد كُذبت أنْ لا يُذببعن أحسابنا حاَمي دارت رحانا قليلاً ثم واجههم ضربٌ تَصدّع منه جِلْدة الهام ظلّت ضباع مُجَيْراتٍ تجررهم وأَلْحُموهن منهم أيّ إلحام حتى حُذُنة لم نَترك بها ضَبُعا إلا لها جزر من شِلْو مِقْدام ظَلت تدوس بني كَعب بكَلْكَلها وَهمّ يومُ بني فَهْد بإظْلام قال أبو عُبيدة‏:‏ حدَّثني المُنتجع بن نَبهان قال‏:‏ وَقف رُؤبة بن العجاج على التَّيم بمسجد الحروريَّة فقال‏:‏ يا معشر تيم إني سَمرت عند الأمير تلك الليلة فتذاكرنا يومَ الكُلاب فقال‏:‏ يا معشرَ تَيم إنّ الكُلاب ليس كما ذكرتم فأعفُونا من قصيدَتيْ صاحبَيْنا - يعني عبد يغوث وَوعْلة الجَرميّ - يوم طِخَفَة كانت الرِّدافة رِدافة المَلِك لعتّاب بن هَرْميّ بن رِياح ثم كانت لقَيس بن عَتّاب فسأل حاجب بن زُرَارة النُّعمان أن يجعلها للحارث بن قُرْط بن سفيان بن مُجاشع فسأَلها النعمانُ بن يَربوع وقال‏:‏ أَعقبوِا إخوتكم في الرِّدافة‏.‏
قالوا‏:‏ إنهم لا حاجة لهم فيها وإنما سألها حاجبٌ حسداً لنا وأَبَوْا عليه فقال الحارث بن شِهاب وهو عند النعمان‏:‏ إنّ بنيِ يَربوع لا يُسلمون رِدافتهم إلى غيرهم‏.‏
وقال حاجب‏:‏ إن بعث إليهم الملك جيشاً لم يمنعوه ولم يَمتنعوا فبعث إليهم النعمانُ قابوسَ ابنَه وحسَّانَ بن المنذر‏.‏
فكان قابوس على الناس وكان حسان على المقدمة وبَعث معهم الصَنائع والوَضائع - فالصنائع‏:‏ مَن كان يأتيه من العرب والوضائع‏:‏ المُقيمون بالحِيرة - فالتقوا بطِخفة فانهزم قابوسُ ومَن معه وضَرب طارق بنُ عُميرة فرسَ قابوس فعقره وأَخذه ليجزّ ناصيته‏.‏
فقال قابوس‏:‏ إنّ الملوك لا تُجز نواصيها فجهّزه وأرسله إلى أبيه وأما حسان بن المُنذر فأسره بشرُ بن عمرو الرياحيّ ثم مَنّ عليه وأَرسله‏.‏
فقال مالك بن نويرة‏:‏ ونحن عَقرنا مُهر قابوسَ بَعدما رَأْي القومُ منه الموتَ والخيل تُلْحَب عليه دلاص ذاتُ نَسْج وسَيفُه جُراز من الْهندي أبيضُ مُقْضَب يوم فيف الريح قال أبو عُبيدة‏:‏ تجمّعت قبائل مَذْحج وأكثرُها بنو الحارث بن كعب شعب وقبائلُ من مُراد وجُعْفِيّ وزَبِيد وخَثْعم وعليهم أنسُ بنُ مُدْركة وعلى بني الحارثُ الحُصين‏.‏
فأغاروا على بني عامر بن صَعْصعة بفَيف الرِّيح وعلى بني عامر عامرُ بن مالك مُلاعب الأسِنَّة‏.‏
قال‏:‏ فاقتَتل القومُ فكَثروهم‏.‏
وارفضّت قبائلُ من بني عامر‏.‏
وصَبرت بنو نُمير فما شُبِّهوا إلا بالكِلاب المُتعاظلة حوْلَ اللّواء‏.‏
وأقبلِ عامر بن الطًّفيلِ وخَلفه دعيُّ بن جعفر‏.‏
فقال‏:‏ يا معشر الفِتيان مَن ضرَب ضربة أو طعن طعنةَ فلْيُشهدني‏.‏
فكان الفارس إذا ضَرب ضربة أو طَعن طعنة قال عند ذلك‏:‏ أبا عليّ‏.‏
فبينما هو كذلك إذ أتاه مُسْهِر بن يزيد الحارثي فقال له مِن ورائه‏:‏ عندك يا عامر والرمح عند أذنه‏.‏
فوَهَصه - أي طعنه - فأصابَ عَينَه‏.‏
فوثب عامرٌ عن فَرسه ونجا على رِجْليه وأخذ مُسْهِر رمحَ عامر‏.‏
ففي ذلك يقول عامرُ بن الطُفيل بن مالك بن جَعفر‏:‏ لعَمري وما عَمْري على بهين لقد شان حُر الوَجْه طَعنةُ مُسْهِرِ أعاذل لو كان البِداد لقُوتلوا ولكن نَزَوْنا للعديد المُجمهَر ولو كان جمع مثلُنا لم يَبَزّنا ولكنن أَتتنا أُسْرة ذاتُ مَفْخر وقال مُسْهِر وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر بن الطفيل‏:‏ رَهصتُ بخرْص الرُّمح مُقلة عامر فأضحَى بخَيصاً في الفَوارس أَعْورَا وغادر فينا رُمحَه وسِلاحَه وأَدْبر يَدْعو في الهَوالك جَعْفرا وكُنّا إِذا قَيسيَّة دُهيت بنا جَرى دَمعُها مِن عَينها فتحدَرا مخافةَ ما لاقتْ حليلةُ عامر من الشرِّ إذ سِرْبالها قد تَعفرا وقال‏:‏ وامتنّت بنو نُمير على بني كلاب بصَبرهم يوم فَيف الريح فقال عامر‏:‏ تَمُنُّون بالنُّعمى ولولا مَكَرُنا بمُنعرجِ الفَيفا لكنتُم مواليَا ونحن تداركْنا فوارسَ وَحْوحٍ عشيّة لاقينَ الحُصين اليَمانيا وحوح من بني نُمير وكان عامر أستنقذهم وأُسر حَنظلة بن الطفيل يومئذ‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ كانت وقعة فيف الريح وقد بُعث النبيّ {{صل}}ه بمكة وأَدرك مُسهِرُ بن يزيد الإسلام فأسلم‏.‏
يوم تِيَاس كانت أفناء قبائل من بني سَعد بن زَيد مَناة وأفناء قبائل من بني عمرو بن تميم التقت بِتَياس فقطع غيلانُ بن مالك بن عمرو بن تميم رِجْلَ الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة فطلبوا القِصاص فأقسم غيلان أن لا يَعْقِلَها ولا يُقَص بها حتى تُحشى عيناه تُراباً وقال‏:‏ لا نَعْقِل الرٌجلَ ولاَ نِديها حتى تَروْا داهيةً تنسيها فالتقوا فاقتتلوا فجرحوا غيلان حتى ظَنوا أنهم قد قتلوه‏.‏
ورئيسُ عمرو كعب بن عمرو ولواؤه معِ ابنه ذُؤيب وهو القائل لأبيه‏:‏ يا كعبُ إنّ أخاك مُنْحَمِق إن لم يكن بكَ مرّةً كعب جانِيكَ مَن يَجني عليك وقد تُعْدِي الصحاحَ مَبارك الجُربِ والحربُ قد تضطر صاحبَها نحو المَضيق ودونه الرحْبُ يوم زرود الأول غزا الحوفزان حتى انتهى إلى زَرود خلفَ جبل من جبالها فأَغاروا على نَعم كثير صادر عن الماء لبني عَبْس فاحتازوه‏.‏
وأتى الصريخُ بني عَبس فركبوا‏.‏
ولحق عُمارة بن زِيَاد العَبْسيّ الحَوْفزان فعَرفه وكانت أُمًّ عُمارة قد أرضعتْ مُضَرَ بنَ شَريك وهو أخو الحَوفزان‏.‏
وقالِ عُمارة‏:‏ يا بني شَريك قد علمتُم ما بيننا وبينكم‏.‏
قال الحوفزان وهو الحارث بن شريك‏:‏ صدقتَ يا عمارة فانظُر كُل شيء هو لك فخذْه‏.‏
فقال عُمارة‏:‏ لقد علمتْ نساءُ بني بكر بن وائل أنّي لم أَملأ أيدي أزواجهنّ وأبنائهنّ شفقةً عليهن من المَوت‏.‏
فحمل عُمارة ليُعارض النَّعم ليردَّه وحال الحوفزانُ بينه وبين النَّعم فعَثرت بعُمارة فرسُه فطَعنه الحوفزان‏.‏
ولحَق به نَعامةُ بنُ عبد الله بن شَريك فطعنه أيضاً‏.‏
وقال نَعامة‏:‏ ما كرهتُ الرُّمح في كَفل رجل قط أشدّ من كَفل عُمارة‏.‏
وأُسِر ابنا عُمارة‏:‏ سِنان وشَدّاد‏.‏
وكان في بني عَبس رجلان من طيء ابنان لأوس بن حارثة مُجاورَيْن لهم وكان لهما أخ أسير في بني يَشْكر فأصابا رجلاً من بني مُرّة يقال له‏:‏ مَعْدان بن مِحْرب فذَهبا به فدَفناه تحت شجرة فلمّا فقدتْه بنو شَيبان نادَوْا‏:‏ يا ثارات مَعدان فعند ذلك قَتلوا ابني عُمارة‏.‏
وهَرب الطائيّان بأسيرهما‏.‏
فلما بَرأ عُمارة من جِراحه أتى طيّئاً فقال‏:‏ ادفعوا إليّ هذا الكَلب الذي قُتِلنا به‏.‏
فقال الطائيّ لأوس‏:‏ أدفَع إلى بني عَبس صاحبَهم‏.‏
فقال لهم أوس‏:‏ أتأمرُونني أُنْ أُعطِيَ بني عَبْس قطرةً من دمي وإن اْبني أسيرٌ في بني يَشكر فوالله ما أرجو فَكاكَه إلا بهذا‏.‏
فلما قَفل الحَوفزانُ من غَزْوه بَعث إلى بني يَشْكر في ابن أوْس‏.‏
فبعثوا به إليه فافتكّ به مَعْدان‏.‏
وقال نَعامة بن شَريك‏:‏ استَنْزلت رماحُنا سِنَانَا وشيخَه بطَخْفة عِيَانا ثم أخوه قد رَأى هَوانا لما فَقدْنا بيننا مَعْدانا هو يوم كِنهل قال أبو عُبيدة‏:‏ أقبل ابنا هُجَيمة وهما من بنى غَسّان في جَيْش فنَزلا في بني يَرْبوع فجاورا طارقَ بن عَوْف بن عاصم بن ثعلبة بن يَرْبوع فنزلا معه على ماء يقال له كِنْهل فأغار عليهما أناسٌ من ثَعلبة بن يَربوع فاستاقوا نَعمَهما وأسروا مَن كان في النَعم فركب قيسُ بن هُجيمة بخَيله حتى أدرك بني ثَعلبة فكَر عليه عُتيبة بن الحارث‏.‏
فقال له قَيس‏:‏ هل لك يا عتيبة إلى البِرَاز فقال‏:‏ ما كنتُ لأسْألَه وادعه‏.‏
فبارزه‏.‏
قال عُتيبة‏:‏ فما رأيتُ فارساً أملأ لعيني منه يومَ رأيتُه فَرَماني بقَوسه فما رأيتُ شيئاً كان أكرهَ إليَ منه‏.‏
فطَعنني‏.‏
فأصاب قَرْبوس سَرْجي حتى وجدت مَسّ السِنان في باطن فَخِذي فتجنبتُ‏.‏
قال‏:‏ ثم أَرسل الرُّمح وقَبض بيدي وهو يَرى أنْ قد أَثْبتني وانصرف‏.‏
فأتبعتهُ الفرس‏.‏
فلما سَمع زَجلها رَجع جانحاً على قَرَبوس سَرْجه وبدا لي فَرْج الدِّرع ومَعي رمح مُعلَّب بالقِدّ والعَصَب كُنّا نَصطاد به الوَحش فرميتُه بالقَوس وطعنتُه بالرمحٍ فقتلتُه وانصرفت فلحقتُ النَّعم‏.‏
وأقبل الهِرْماس بن هُجيمة فوقف على أخيه قتيلاً ثم أتْبعني وقال‏:‏ هل لك في البِراز فقلتُ لعلّ الرجعةَ لك خير‏.‏
قال‏:‏ أبعد قَيس ثَم شدّ عليّ فضربني على البَيضة فخَلَص السيفُ إلى رأسي‏.‏
وضربتُه فقتلتُه‏.‏
لقد كنتَ جار ابْني هُجيمة قبلَها فلم تغْن شَيئاً غير قَتْل المُجاور وقال جرير‏:‏ وساق ابني هجَيمة يومَ غَوْلٍ إلى أسْيافنا قَدَرُ الحِمام يوم الجُبَّات قال أبو عُبيدة‏:‏ خَرج بنو ثَعلبة بن يِرْبوع فمرّوا بنَاسٍ من طوائف بني بَكْر بن وائل بالجُبَّات خرجوا سِفاراً فنزلوا وسرحوا إبلهم تَرْعى وفيها نَفر منهم يَرْعونها منهم سَوادة بن يَزيد بن بُجير العِجْليّ ورجل من بني شَيبان وكان مَحمُوماً فمرَّت بنو ثَعلبة بن يَرْبوع بالإبل فأطْرَدوها وأخذوا الرّجلين فسألوهما‏:‏ مَن مَعكما فقالا‏:‏ معنا شيخُ بن يزيد بن بُجير العِجْليّ في عصابة من بني بَكْر بن وائل خَرجوا سِفاراً يُريدون البَحْرين‏.‏
فقال الربيعُ ودُعْموص ابنا عُتيبة بن الحارث بن شِهاب‏:‏ لن نذهب بهذين الرجلين وبهذِه الإبل ولم يَعلموا مَن أخذها ارجعوا بنا حتى يَعلموا مَن أخذ إِبلهم وصاحَبيْهم ليعنِيَهم ذلك‏.‏
فقال لهما عُميرة‏:‏ ما وراءكما إلا شَيْخ ابن يَزيد قد أَخذتما أخاه وأَطْردتُما مالَه دعاه‏.‏
فأبَيا ورَجعا فوقفا عليهم وأخبراهم وتسمَّيا لهم فركب شيخُ بن يزيد فأتْبعهما وقد وَلّيا فَلَحِق دُعموصاً فأسره‏.‏
ومَضى ربيع حتى أتى عُميرة فأخبره أنّ أخاه قد قُتل‏.‏
فرجع عُميرة على فرس يقال له الخنساء حتى لَحِق القَوْم فافتكّ دُعْموصاً على أن يردَّ عليهم أخاهم وإبلهم‏.‏
فردّها عليهم‏.‏
فكفَر ابنا عُتيبة ولم يَشْكُرا عُميرة‏.‏
فقال‏:‏ ألمن تَرَ دُعْموصاً يصُدّ بوَجهه إذا ما رآني مُقْبِلاً لم يُسَلِّم فعارضتُ فيه القومَ حتى انتزعتُه جِهاراً ولم أنظُر له بالتلوُّم يوم إرَاب غزا الهُذيلِ بن هُبيرة بن حَسَّان التَّغلبيِّ فأغار على بني يَربوع بإراب فقَتل فيهم قَتْيلاً ذَريعاً وأصاب نَعَماً كثيرة وسَبى سَبْياً كثيراً فيهم زينب بنت حِمْير بن الحارث بن همَّام بن رِياح بن يَرْبوع وهي يومئذ عَقِيلة نساء بني تَميم‏.‏
وكان الهُذيل يُسمَى مِجْدعا وكان بنو تميم يُفزعون به أولادهم وسَبى أيضاً طابية بنت جَزْء بن سَعد الرِّياحي ففَداها أبوها ورَكب عُتيبة بن الحارث في أسراهم ففكَّهم أجمعين‏.‏
يوم الشِّعْب غزا قيسُ بن شَرْقَاء التَّغلبيّ فأغار على بني يَرْبوع بالشِّعب فاقتتلوا فانهزمت بنو يَربوع‏.‏
فزَعم أبو هُدْبة أنها كانت اختطافا‏.‏
فأُسر سُحيم لا ابن وثيل الرِّياحي ففي ذلك يقول سُحيم‏:‏ أقول لهم بالشِّعْب إذ يأسرُونني ألم تَعْلموا أنِّي ابن فارس زَهْدَم ففدا نَفسه وأُسر يومئذ مُتمَم بن نُويرة‏.‏
فوفد مالكُ بن نوبرة على قَيسَ ابن شرقاء في فِدائه فقال‏:‏ فلما رأى وَسامته وحُسن شارته قال‏:‏ بل مُنعم‏.‏
فأطلقه له‏.‏
يوم غول الأول فيه قُتل طَريف بن شَراحيل وعمرو بن مَرثد المحلَّيّ‏.‏
غزا طَريف بن تميمِ في بني العَنبر وطوائف من بني عمرو بن تَميم فأغار على بني بَكْر بن وائل بغول فاقتتلوا‏.‏
ثم إن بكراً انهزمتْ فقُتل طَريف بن شرَاحيل أحدُ بني أبي رَبيعة وقُتل أيضاً عمرو بن مَرْثد المُحلَّميِّ وقتل المُحسَّر‏.‏
فقال في ذلك رَبيعة بن طَريف‏:‏ يا راكباً بَلِّغن عني مغَلْغلة بني الخَصِيب وشرُّ المَنْطق الفَنَدُ هَلا شراحيل إذ مالَ الحِزامُ به وسْطَ العَجَاج فلم يَغْضب له أحد أو المُحسَّر أو عمرو تَحيفَهم منّا فوارسُ هَيْجا نَصْرُهم حَشَدُ إنْ يَلحظوني بزُرْق من أسنَّتنا يُشْفَي بهنَ الشَّنا والعُجب والكَمد وقد قَتلناكُم صَبراً ونَأْسرِكم وقد طَرَدْناكم لو يَنْفع الطَّرد حتى استغاث بنا أدنىَ شَريدكم مِن بَعد ما مَسَّه الضرَّاء والنَّكد وقال نَضلة السُلميّ في يوم غَوْل وكان حقيراً دَميماً وكان ذا نَجدة وبأس‏:‏ رأوْه فازْدَروه وهو حُرٌّ ويَنفع أهله الرجلُ القَبِيح فشدّ عليهم بالسيَّف صَلْتاً كما عَضَ الشِّبا الفرس الجَموح فأطْلق غُلّ صاحبه وأردَى قَتيلاً منهمُ ونَجا جَرِيح ولم يخشُوا مَصَالته عليهم وتحتَ الرّغْوة اللبن الصَّريح يوم الخَندَمَة كان رجلٌ من مُشركي قريش يَحدُ حَرْبةً يومَ فَتْح مكّة فقالت له امرأته‏:‏ ما تصنع بهذه قال‏:‏ أعددتُها لمحمَّد وأصحابه‏.‏
قالت‏:‏ والله ما أرى يقوم لمُحمد وأصحابه شيء‏.‏
قال‏:‏ والله إنِّي لأرجو أن أخدِمَك بعضَ نسائهم‏.‏
وأنشأ يقول‏:‏ إن تُقْبِلوا اليومَ فما بي عِلّة هذا سلاحٌ كامل وألّه وذو غِرَارين سريعُ السَّلّه فلما لَقيهم خالدُ بن الوليد يوم الخَندمة انهزم الرجل لا يلوي على شيء‏.‏
فلامتْه امرأته فقال‏:‏ إنك لو شَهدتِ يوم الخنْدمه إذ فَر صَفوانٌ وفَرّ عِكْرمه ولقِيتْنا بالسُّيوف المُسْلمه يَفْلقن كُلّ ساعد وجُمْجمه ضَرْباً فلا تَسمع إلا غَمْغمه لم تَنْطِقي في اللوم أدنى كَلِمه يوم اللهيْماء قال أبو عُبيدة‏:‏ كان سبب الحرّب التي كانت بين عمرو بن الحارث ابن تميمِ بن سَعد بن هُذيل وبين بني عَبْد بن عَديّ بن الدِّيل بن بَكْر بن عَبْد مَناة أن قيْس بن عامر بن عَريب أخا بني عبد بن عَديّ وأخاه سالماً خَرجا يُريدان بني عمرو بن الحارث على فَرسين يقال لإحداهما الَّلعَّاب والأخرى عَفزر‏.‏
فباتا عند رجل من بني نُفاثة‏.‏
فقال النُّفاثيّ لقَيس وأخيه‏:‏ أطيعاني وارجعا لا أعرفنّ رماحَكما تكْسر في قَتال نُعمان‏.‏
قالا‏:‏ إنَّ رماحنا لا تُكسر إلا في صُدور الرِّجال‏.‏
قال‏:‏ لا يَضرّكما وسَتَحْمدان أَمري‏.‏
فأصبحا غاديَينْ فلما شارفا مَتْن الّلهيماء منِ نَعمان وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أًديمة أغارا على غنَم لجُندب بن أبي عُمَيس وفيها جُندب فتقدَّم إليه قَيس فرماه جُندب في حَلَمة ثَدْيه وبَعجه قيس بالسيف فأصابت ظُبَةُ السَّيف وجه جُندب وخَرَّ قَيس‏.‏
ونَفرت الغنم نحو الدار وأَتْبعها‏.‏
وحَمل سالمُ على جُندب بفَرسه عَفْزر فضربَ جُندب خَطْمَ عَفزر بالسَّيْف فقَطعه وضَربه سالمٌ فاتقاه بيده فقَطع أحدَ زَنْديه فخر جُندب وذَفّف عليه سالم‏.‏
وأدرك العشيُّ سالماً فخرج وترك سيفَه في المَعركة وثوبهُ بحِقْويه لم يَنْج إلا بجفْن سيفه ومِئْزره فقال في ذلك حَمَّاد بن عامر‏:‏ لعمرُك ما ونىَ ابنُ أبي عُميس وما خانَ القتال وما أضاعَا سَمَا بقرانِه حتّى إذا ما أتاه قِرْنه بَذَل المِصَاعا فإنْ أكُ نائياً عنه فإنّي سرُرت بأنّه غُبِن البِيَاعا وأفلتَ سالمٌ منها جَرِيضاً وقد كُلِم الذُّبابة والذَّراعا وقال حُذيفة بن أُنس‏:‏ ألا بَلِّغَا جِلّ السًواري وجابراً وَبلِّغ بني ذِي السِّهم عَنا ويَعْمُرا كَشفتُ غِطاء الحَرْب لما رأيتُها تَميل على صِغوٍ من الَّليل أكْدرا أخو الحَرْب إن عَضت به الحرب عضها وإن شَمَرت عن ساقَها الحَربُ شَمَّرا ويمْشي إذا ما الموتُ كان أمامَه كذي الشِّبْل يَحْمي الأنْف أن يَتأخرا نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدْقه ولم يَنْج إلا جَفنَ سيف ومِئْزرا وطاب عن الَّلعّاب نفساً ورَبه وغادر قيسا في المكر وعفزرا يوم خزَاز قال أبو عُبيدة‏:‏ فنازع عامر ومِسْمع ابنا عبد الملك وخالدُ بن جَبلة وإبراهيم بنِ محّمد بن نُوح العُطارديّ وغسان بن عبد الحميد وعبد الله بن سَلْم الباهليّ ونفر من وجوه أهل البَصْرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويَتنازعون في الرِّياسة يومَ خَزاز فقال خالد بن جَبلة‏:‏ كان الأحوص بن جَعفر الرئيس‏.‏
وقال عامر ومِسْمع‏:‏ كان الرئيسَ كليبُ بن وائل‏.‏
وقال ابن نُوح‏:‏ كان الرئيسَ زرارةُ بن عُدَس‏.‏
وهذا في مجلس أبي عمرو بن العَلاء‏.‏
فتحاكَموا إلى أبي عَمرو فقال‏:‏ ما شَهدها عامرُ بن صَعْصعة ولا دارمُ بن مالك ولا جُشَم بن بكر اليومُ أقدمُ من ذلك ولقد سألت عنه منذ ستّين سنة فما وجدتُ أحداً من القوم يعلم مَن رئيسُهم ومَن المَلِك غَير أنَّ أهل اليمن كان الرجلُ منهم يأتي ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها فيأخذ من أموال نزار ما شاء كعُمّال صَدقاتهم اليومِ وكان أوّل يوم امتنعت معدّ عن المُلوك ملوك حْمير وكانت نِزَار لم تَكْثُر بعد فأوقدوا ناراً على خَزَاز ثلاثَ ليال ودخَّنوا ثلاثةَ أيام‏.‏
فقيل له‏:‏ وما خزَز قال‏:‏ هو جَبل قريب من إمْر على يَسار الطريق خلفه صَحْراء مَنْعِج يُناوحه كُور وكُوير إذا قطعتَ بطنَ عاقل‏.‏
ففي ذلك اليوم امتنعت نِزار من أهل اليمن أنْ يأكلوهم ولولا قولُ عمرو بن كًلثوم ما ونحنُ غَدَاةَ أوقد في خَزَارِ رَفَدْنا فوق رِفْد الرافدينَا فكُنّا الأيْمنين إذا التقينا وكانَ الأيْسرِينِ بنو أبينا فصالُوا صَولةً فيمن يَليهم وصُلْنا صولةَ فيمن يَلينا فأبوا بالنِّهاب وبالسَّبايا وأبْنا بالمُلوك مصفدينا قال أبو عمر بن العلاء‏:‏ ولو كان جدّه كُليب وائل قائدَهم ورئيسَهم ما ادَّعى الرّفادة وتَرك الرياسة وما رأيتُ أحداً عرَف هذا اليومَ ولا ذكره في شِعْره قبله ولا بعده‏.‏
يوم المِعَا قال أبو عُبيدة‏:‏ أغار المُنبطح الأسديُّ على بني عُبَاد بن ضُبَيعة فأخذ نَعَما لبني الحارث بن عُبَاد وهي ألفُ بعير فمر ببني سَعد بن مالك بن ضُبيعة وبني عِجْل بن لُجيم فتَبعوه حتى انتزعوها منه ورئيسُ بني سعد حُمران ابن عَبد عمرو فأسر اقْتلُ بن حَسان العِجْلي المُنبطحَ الأسديَ ففَداه قومه ولا أدري كم كان فداؤه واستنقذوا السَّبي‏.‏
فقال حُجر بن خالد بن مَحمود في يوم المِعَا‏:‏ ومُنْبَطح الفواضِر قد أذقْنا بنَا عجةِ المِعَا حَرَّ الجلاد سكن ابن باعث بن الحارث بن عُباد‏.‏
والأخاذيذ‏.‏
مَن أخذ من النساء‏.‏
وقال حُمران بن عبد عمرو‏:‏ إنَّ الفوارس يوم ناعجة المِعَا نِعْمَ الفوارسُ مِن بني سَيّار لم يُلْهم عَقْد الأصِرّة خَلْفهم وَحنِينُ مُنْهَلة الضُّروع عِشَار لَحِقوا على قُبِّ الأياطل كالقَنا شُعْث تُعدّ لكُلِّ يوم عَوَار حتى حَبَوْن أخا الغَواضِر ظَعْنةً وفَكَكن منه القِدَّ بعدَ إسَار سالتْ عليه من الشِّعاب خوانِف وِرْد الغَطَاط تبلُجَ الأسْحار يوم النِّسَار قال أبو عُبيدة‏:‏ تحالفت أسدٌ وطيء وغَطفان ولَحقت بهم ضَبّة وعديّ فغَزَوْا بني عامر فقتلوهم قَتْلاً شديداً فغَضبتْ بنو تميم لقَتل بني عامر فتجمعوا حتى لحقوا طيِّئاً وغَطَفان وحلَفاءهم من بني ضَبّة وعَدِيّ يوم الجفَار فقُتلت تميمُ أشدَّ ممّا قُتلت عامر يومَ النِّسار‏.‏
فقال في ذلك بِشرْ بن أبي خاَزم‏:‏ غضبتْ تميم أن تقتَّلَ عامرٌ يوم النِّسار فأعْتِبوا بالصَّيْلَم فحلف ضمرة بنِ ضَمْرة النَّهشليّ فقال‏:‏ الخَمر علي حرام حتى يكونَ له يوم يُكافئه‏.‏
فأغار عليهم ضمرة يوم ذات الشُّقوق فقَتلهم وقال في ذلك‏:‏ الآنَ ساغَ الشَّرابُ ولم أَكُن آتي التِّجارولا أَشُدّ تَكلُّمي حتى صَبحْت على الشقوق بغارة كالتَّمر ينْثر في حَرِير الحُرَّم وأبأتُ يوماً بالجفَار بمثله وأجرت نِصفاً مِن حَديث المَوْسم ومشتْ نساء كَالظباءَ عواطلاً من بين عارفة السباء وأيِّم ذَهب الرِّماح بزَوْجها فتَرَكْنَه في صَدْر معتدل القَناة مُقَوّم يوم خَوّ قال أبو عُبيدة‏:‏ أغارت بنو أَسد على بني يَرْبوع فاكتَسحوا إبِلهم فأتى الصريخُ الحيَّ فلم يَتلاحقوا إلا مساءً بمَوضع يُقال له خَوّ‏.‏
وكان ذُؤاب بن ربيعة الأشتر على فرس أنثى وحصان عُتَيبة بن الحارث بن شِهاب على حِصان فجعل الحصان يستنشق ريح الأُنثى في سواد الليل ويَتبعها فلم يعلم عُتَيبة إلا وقد أقحم فرسَه على ذُؤاب بن رَبيعة الأشتر وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه في ظلمة اللّيل وكان عُتيبة قد لَبس دِرْعه وغَفل عن جُربَّانها حتى أتى الصَّريخ فلم يشُده ورآه ذُؤاب فأقبل بالرُّمح إلى ثُغرة نَحره‏.‏
فخرّ صريعاً قتيلاً‏.‏
ولحق الربيعُ بن عُتيبة فشدِّ على ذُؤاب فأَسره وهو لا يَعلم أنه قاتلُ أبيه فكان عنده أسيراً حتى فاداه أبوه ربيعةُ بإيل مَعلومة قاطَعَه عليها وتواعدا سُوقَ عُكاظ في الأشهر الحُرم أن يأتيَ هذا بالإبل ويأتي هذا بالأسير‏.‏
وأقبلَ أبو ذُؤاب بالإبل وشغل الربيعُ بن عتيبة فلم يحضر سُوقَ عُكاظ‏.‏
فلما رأى ذلك ربيعة أبو ذؤاب لم يشُك أن ذُؤابا قد قَتلوه بأبيهم عُتيبة فرثاه وقال‏:‏ أبْلغ قبائلَ جَعْفر مخْصوصة ما إن أحاول جَعفرَ بنَ كِلابِ إنّ المودة والهوادة بيننا خَلَق كسَحْق الرَّيْطة المِنْجاب ولقد علمتُ على التجلّد والأسى أنّ الرزّية كان يومَ ذُؤاب إنْ يَقتلوك فَقد هتكتَ بيوتَهم بعُتيبة بن الحارث بن شِهَاب بأحبّهم فقداً إلى أعدائه وأشدِّهم فقداً على الأصحاب فلما بلغهم الشعرُ قتلوا ذُؤاب بن ربيعة‏.‏
وقالت آمنةُ بنتُ عتيبة تَرثي أباها‏:‏ على مِثْل ابن مَيّة فانْعَيَاه بشَقّ نَواعِم البَشَر الجُيوبَا وكان أبي عتيبة سَمهريّاً فلا تَلْقَاه يدَخر النَّصيبا ضَرُوباً للكَمِيّ إذا اشمعلّت عَوانُ الحَرْب لا وَرعاً هَيُوبا أيام الفجار الفجار الأول قال أبو عبيدة‏:‏ أيّام الفِجار عدَّة وهذا أولها‏.‏
وهو بين كِنَانة وهَوازن وكان الذي هَاجَه أنّ بَدر بن مَعْشر أحدَ بني غفار بن مُلَيْل بن ضمرِة بن بكر بن عَبد مَناة بن كِنانة‏.‏
جُعل له مجلس بسوق عكاظ وكان حَدَثاً مَنيعاً في نفسه فقام في المجلس وقام على رأسه قائم وأنشأ يقول‏:‏ نحن بنو مُدْرِكة بن خِنْدفْ مَن يَطْعنوا في عَيْنه لم يَطْوفْ ومَن يكونوا قومَه يُغَطْرف كأنّهم لُجة بحر مسْدف قال‏:‏ ومدَّ رجلَه وقال‏:‏ أنا أعزُّ العرب فمن زَعم أنه أعزُّ منّي فَلْيضربها‏.‏
فضربها الأُحَيمر بن مازن أحدُ بني دَهْمان بن نَصر بن مُعاوية فأَنْدرها من الرُّكبة وقال‏:‏ خُذْها إليك أيها المُخنْدف وقال أبو عبيدة‏:‏ إنما خَرصها خريصة يسبرة وقال في ذلك‏:‏ نحن بنو دهْمان ذو التغِطْرُف بحر لبَحر زاخرِ لم يُنْزفِ قال أبو عُبيدة‏:‏ فتجاور الحيّان عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهما الدماء ثم تراجعوا ورَأَوْا أنّ الخطبَ يسير‏.‏
الفجار الثاني كان الفجار الثاني بين قُريش وهوازن وكان الذي هاجه أنَّ فِتْيةً من قُريش قَعدوا إلى امرأة من بني عامر بن صَعصعة وضيئةٍ حُسَّانة بسُوق عُكاظ‏.‏
وقالوا‏:‏ بل أطاف بها شبابٌ من بني كنانة وعليها بُرقع وهي في دِرْع فُضُل فأعجبهم ما رأوا من هَيئتها فسألوها أن تُسفر عن وجهها‏.‏
فأبت عليهم‏.‏
فأتي أحدُهم من خَلفها فشدَّ دُبُر دِرْعها بشوكة إلى ظهرها وهي لا تدري فلما قامت تقلّص الدرعُ عن دُبرها‏.‏
فضحكوا وقالوا‏:‏ مَنعتْنا النظَر إلى وجهها فقد رأينا دُبرها‏.‏
فنادت المرأة‏:‏ يا لعامر‏.‏
فتحاور الناسُ وكان بينهم قتال ودماء يسيرة فحملها حربُ بن أُمية وأَصلح بينهم‏.‏
الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن‏.‏
وكان الذي هاجه أنَّ رجلاً من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نَصر بن مُعاوية فأَعدم الكِنانيّ‏.‏
فوافى النصريُّ بسُوق عُكاظ بقِرْد فأَوقفه في سوق عُكاظ وقال‏:‏ مَن يَبيعني مثلَ هذا بمالي على فلان حتى أَكثر في ذلك‏.‏
وإنما فعل ذلك النَّصريُّ تعييراً للكنانيّ ولقومه‏.‏
فمرّ به رجل من بني كنانة فضرب القِرْد بسَيفه فقتله‏.‏
فهتَف النصريُّ‏:‏ يا لَهوازن وهتَف الكنانيّ‏:‏ يا لكنانة‏.‏
فتهايج الناسُ حتى كاد أن يكونَ بينهم قتال ثم رأوا الخطبَ يسيراً فتراجعوا ولم يَفقم الشر بينهم‏.‏
قال أبو عبيدة‏:‏ فهذه الأيام تسمى فِجاراً لأنها كانت في الأشهر الحُرم وهي الشُّهور التي يُحرِّمونها ففجروا فيها فلذلك سُمِّيت فِجاراً‏.‏
وهذه يقال لها‏:‏ أيام الفجار الأول‏.‏
الفجار الآخر وهو بين قُريش وكِنانة كلها وبين هوازن وإنما هاجها البرّاض بقتله عُروة الرَّجال بن عُتبة بن جعفر بن كلاب فأبت أن تقتل بعُرْوةَ البرّاض لأنَّ عروة سيّد هوازن والبرّاض خليع من بني كِنانة أرادوا أن يَقتلوا به سيّداً من قُريش‏.‏
وهذه الحروب كانت قبل مَبعث النبيّ {{صل}} بستٍّ وعِشرين سنة وقد شَهدها النبيُّ {{صل}} وهو ابنُ أربعَ عشرةَ سنة مع أعمامه‏.‏
وقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام‏:‏ كنت أنْبُل على أعمامي يومَ الفِجار وأنا ابنُ أربعَ عشرةِ سنة - يعني أناولهم النَّبل - وكان سببُ هذه الحرب أنَّ النعمان بن المُنذر ملك الحِيره كان يَبعث بسُوق عُكاظ في كُل عام لطيمةً في جِوار رجل شريف مِن أشراف العرب يُجيرها له حتى تُباع هناك ويَشتري له بثَمنها من أدَم الطائف ما يحتاج إليه‏.‏
وكانت سوق عكاظ تقوم في أول يوم من ذي القِعدة فيتسوَّقون إلى حُضور الحج ثم يَحُجّون‏.‏
وكانت الأشهر الحرم أربعةَ أشهر‏:‏ ذا القعدة وذا الحجّة والمُحرم ورجب‏.‏
وعكاظ‏:‏ بين نخلة والطائف وبينها وبين الطائف نحو من عشرة أميال‏.‏
وكانت العربُ تَجتمع فيها للتجارة والتهيء للحجّ من أول ذي القعدة إلى وقت الحج ويأمن بعضُها بعضاً‏.‏
فجهّز النُعمان عِير اللطيمة ثم قال‏:‏ من يُجيرها فقال البرَّاض ابن قيس النمريُ‏:‏ أنا أجيرها على بني كنانة‏.‏
فقال النّعمان‏:‏ ما أريد إلا رجلاً يُجيرها على أهل نجد وتِهامة‏.‏
- فقال عُروة الرحّال وهو يومئذ رجلُ هوازن‏:‏ أكَلْب خليع يُجيرها لك أبيتَ اللعن أنا أجيرها لك على أهل الشّيح والقَيْصوم من أهل نَجد وتهامة‏.‏
فقال البرّاض‏:‏ أعلى بني كِنانة تُجيرها يا عُروة قال‏:‏ وعلى الناسِ كلِّهم‏.‏
فدفعها النُّعمان إلى عُروة‏.‏
فخرج بها وتبعه البَرّاضُ وعُروة لا يَخشى منه شيئاً لأنه كان بين ظَهراني قومه من غَطَفان إلى جانب فَدك إلى أرض يقال لها أُوارة‏.‏
فنزل بها عروةُ فشرب من الخمر وغنّته قَيْنة ثم قام فنام‏.‏
فجاء البرَاض فدخل عليه فناشده عُروة وقال‏:‏ كانت مني زلّة وكانت الفعلة مني ضلّة‏.‏
فقتله وخَرج يرتجز ويقول‏:‏ هلا على غيري جعلتَ الزلّة فسوف أَعْلو بالحُسام القُلّة‏.‏
وقال‏:‏ وداهية يُهال الناس منها شددتُ لها بني بَكْر ضُلوعِي هَتكتُ بها بيوتَ بني كلاَبِ وأَرضعتُ الموالي بالضُّروع جمعتُ له يديَّ بنَصَل سَيفَ أفلّ فخرّ كالجذْع الصرَّيعِ واستاق اللَطيمة إلى خَيبر‏.‏
وأتبعه المُساور بن مالك الغَطَفانَي وأسد بن خيْثم الغَنوى حتى دخل خَيبر‏.‏
فكان البرّاض أولَ مَن لَقِيهما فقال لهما مَن الرجلان قالا‏:‏ من غَطفان وغَنيّ‏.‏
قال البرّاض‏:‏ ما شأن غَطَفان وغنىّ بهذه البلدة قال‏:‏ ومَن أنت قال‏:‏ من أهل خَيبر‏.‏
قالا‏:‏ ألك عِلْم بالبرّاض قال‏:‏ دَخل علينا طريداً خليعاً فلم يُؤْوِه أحد بخَيبر ولا أَدخله بيتاً‏.‏
قالا‏:‏ فأين يكون قال‏:‏ وهل لكما به طاقةٌ إن دللتكما عليه قالا‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فانزلا‏.‏
فنزلاً وعَقلاً راحلتَيْهما‏.‏
قال‏:‏ فأيّكما أجرأ عليه وأمضى مَقْدماً وأحدّ سيفاً قال الغَطفاني‏:‏ أنا‏.‏
قال البرَّاض‏:‏ فانطلقْ أدلُّك عليه ويحفظ صاحبُك راحلتيكما‏.‏
ففَعل‏.‏
فانطلق البرَّاض يَمشي بين يدي الغَطفانيّ حتى انتهى إلى خَربة في جانب خَيبر خارجة عن البيُوت‏.‏
فقال البرَّاض‏:‏ هو في هذه الخَرِبة وإليها يَأْوي فأَنظرني حتى أنظرُ أثمَّ هو أم لا‏.‏
فوقف له ودخل البرّاض ثم خرج إليه وقال‏:‏ هو نائم في البَيت الأقصى خلفَ هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت فهل عندك سيفٌ فيه صرامة قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ هاتِ سَيفك أنظرُ إليه أصارم هو فأعطاه إياه‏.‏
فهزِّه البرّاض ثم ضَربه بن حتى قَتله ووضع السيفَ خلفَ الباب وأقبل على الغنويّ فقال‏:‏ ما وراءك قال‏:‏ لم أَرَ أجبنَ من صاحبك تركته قائماً في الباب الذي فيه الرجل والرجلُ نائم لا يتقدم إليه ولا يتأخَر عنه‏.‏
قال الغنويّ‏:‏ يا لَهْفاه لو كان أحد ينظرُ راحلتَينا قال البراض‏:‏ هما علي إن ذهبت‏.‏
فانطلق الغنويُّ والبراض خلفه حتى إذا جاوز الغنويّ بابَ الخَرِبة أخذ البرَّاض السيفَ من خلف الباب ثم ضرَبه حتى قتله وأخذ سِلاحَيهما وراحلتيهما ثم انطلق‏.‏
وِبلغ قريشاً خبرُ البرَّاض بسُوق العكاظ فخَلصوا نَجِيَّاً‏.‏
وأتبعتهم قَيس لمّا بلغهم أن البرَّاص قتل عُروة الرحَّال وعلى قيس أبو بَراء عامر بن مالك‏.‏
فأدركوهم وقد دخلوا الحرم ونادَوْهم‏:‏ يا معشر قريش إنَّا نُعاهد الله أن لا نُبطل دم عُروة الرحَّال أبداً ونقتل به عظيماً منكم وميعادنا وإيّاكم هذه الليالي من العام المُقبل‏.‏
فقال حرب بنُ أُمية لأبي سفيان ابنه‏:‏ قل لهم‏:‏ إنّ موعدكم قابِل في هذا اليوم‏.‏
فقال خِداشُ بن زُهير في هذا اليوم وهو يوم نَخلة‏:‏ يا شدَةً ما شدَدْنا غَيرَ كاذبةٍ على سَخِينةً لولا البيت والحَرمُ واستُقبلوا بضِراب لا كِفاءَ له يُبْدِي من العُزل الأكفال ما كَتموا ولَوا شلالاً وعُظمُ الخيل لاحقة كما تَخُب إلى أوطانها النَّعَم ولَت بهم كل مِحْضارٍ مُلَمْلمةٌ كأنَّها لِقْوة يَحْتثها ضَرَم وكانت العرب تسمي قريشاً سَخِينة لأكلها السُّخن‏.‏
يوم شمطَة وهي من الفِجار الآخر ويوم نخلة منه أيضاً‏.‏
قال‏:‏ فجمعت كنانة قُريشها وعبد منافها والأحابيشومَن لحق بهم من بني أسد بن خُزيمة‏.‏
وسلَّحَ يومئذ عبد الله بن جُدعان مائة كَمِيّ بأداة كاملة سِوى من سُلّح من قومه‏.‏
والأحابيشُ بنو الحارث بن عبد مَناة بن كِنانة‏:‏ قال‏:‏ وجمعت سليم وهوازن جموعَها وأحلافها غير كِلاب وبني كعب فإنهما لم يشهدا يوماً الفِجار غيرَ يوم نَخلة فاجتمعوا بشْمطة من عُكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قَرن الحَول وعلى كل قَبيلة من قريش وكِنانة سيِّدها وكذلك على قبائل قيس غير أن أمر كِنانة كلها إلى حَرْبِ بن أمية وعلى إحدى مُجنَّبَتها عبد الله بن جُدعان‏.‏
وعلى الأخرى كريز بن ربيعة وحَرب بن أمية في القلب وأمرُ هوازن كُلها إلى مسعود بن معتب الثّقفي‏.‏
فتناهض الناس وزَحف بعضهم إلى بعض فكانت الدائرة في أول النهار لكِنانة على هَوازن حتى إذا كان آخرُ النهار تداعت هَوازن وصابرت وانقشعت كنانة فاستحرَّ القتلُ فيهم فقُتل منهم تحت رايتهم مائة رجل وقيل ثمانون‏.‏
ولم يُقتل من قُريش يومئذ أحدٌ يذكر‏.‏
فكان يوم شَمطة لهوازن على كنانة‏.‏
ثم جَمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قَرن الحَوْل في اليوم الثالث من أيام عُكاظ والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا في يوم شَمطة وكذلك على المُجَنَبتين فكان هذا اليوم أيضاً لهَوازن على كنانة وفي ذلك يقول خِداش بن زُهير‏:‏ ألم يَبْلغك ما لقيتْ قُريش وحيّ بني كنانة إذ أُبِيروا دَهمناهم بأرعَن مُكفهرّ فظلّ لنا بِعَقْوتهم زَئِير وفي هذا اليوم قتل العوَامِ بن خُويلد والد الزُّبير بن العوَّام قتله مُرَّة ابن مُعتِّب الثقفيّ فقال رجل من ثقيف‏:‏ منَا الذي ترك العوَّام مُنْجدلاً تَنتابه الطيرُ لحماً بين أَحجارِ يوم شَرَب ثم جمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قَرن الحَوْل في الثالث من أيام عُكاظ فالتقوا بشَرب ولم يكن بينهم يومٌ أعظم منه‏.‏
والرؤساء على هؤلاء وأولئك الذين ذكرنا وكذلك على المُجنّبتين‏.‏
وحَمل ابنُ جُدْعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير ممَّن لم تكن له حَمولة فالتقوا‏.‏
وقد كان لهوازن على كِنانة يومان مُتواليان‏:‏ يوم شمطة ويوم العَبْلاء‏.‏
فحميت قُريش وكنانة‏.‏
وصابرت بنو مَخزوم ألا للهّ قومٌ و لدتْ أُختُ بني سَهْم هشامٌ وأبو عَبد مَنافٍ مِدْره الخَصْم وذو الرُّمحين أشبال مِن القُوَّة والحَزم فهذان يذُودان وذا مِنْ كَثَب يَرْمي وأبو عبد مناف‏:‏ قُصي وهشام‏:‏ ابن المُغيرة وذو الرُّمحين‏:‏ أبو ربيعة بن المُغيرة قاتل يوم شرَب برُمحين وأمهم رَيطة بنت سَعيد بن لسَهْم‏.‏
فقال في ذلك جَذْل الطعان‏:‏ جاءت هوازنُ أرسالاً وإخوتها بنو سلَيم فهابوا المَوتَ وانصرفوا فاستُقبلوا بضرِابٍ فَضَّ جَمْعَهم مثلَ الحريق فما عاجُوا ولا عَطَفوا يوم الحرَيرة قال‏:‏ ثم جمع هؤلاء وأولئك ثم التقَوْا على رأس الحَوْل بالحُريرة وهي حَرَّة إلى جَنب عُكاظ‏.‏
والرؤساء على هؤلاء وأولئك هم الذين كانوا في سائر الأيام وكذلك على المُجنَّبتين إلا أنّ أبا مُساحق بَلْعاء بن قَيس اليَعْمُري قد كان مات‏.‏
فكان من بعده على بكر بن عبد مَناة بن كِنانة أخوه حُثامة بن قَيس‏.‏
فكان يوم الحُريرة لَهوازن على كِنانة وكان آخر الأيام الخَمسة التي تزاحفوا فيها‏.‏
قال‏:‏ فقُتل يومئذ أبو سفيان بن أُمية أخو حَرْب بن أمية‏.‏
وقُتل من كِنانة ثمانيةُ نَفر قتلهم عثمانُ بن أُسيد بن مالك صت بني عامر ابن صَعْصعة‏.‏
وقُتل أبو كَنَف وابنا إياس وعمرو بن أيوب‏.‏
فقال خِدَاشُ بن زهير‏:‏ إنّي مِن النَّفر المُحْمَر أَعْينهمِ أهل السوام وأهل الصَخر واللُّوبِ الطاعِنين نُحورَ الخَيل مُقْبِلةَ بكل سَمْراء لم تُعْلب ومَعْلوب وقد بلوتُم فأبلوكم بلاءَهم يوم الحُريرة ضرباً غير مَكذوب لاقتْهمُ منهمُ اسادُ مَلْحمة ليسوا بزارعة عُوج العَراقيب فالآن إن تُقْبلوا نأخذ نحورَكم كان تباهوا فإني غيرُ مَغلوب تركتُ الفارسَ البَذّاخ منهم تَمُجّ عروقُه عَلقاً غبيطا دعستُ لبانَه بالرُّمح حتى سمعتُ لِمَتْنه فيه أطيطا لقد أرديتَ قومَك يا بنَ صَخْر وقد جَشًمتهم أمراً سَلِيطاً وكم أسلمتُ منكم من كميِّ جريحاً قد سمعت له غَطِيطاً مضت أيام الفجار الأخر وهي خمسةُ أيام في أربعة سنين أولها يوم نَخلة ولم يكن لواحد منهما على صاحبه ثم يوم شَمطة لهوازن على كنانة وهو أعظم أيامهم ثم يوم العَبْلاء ثم يوم شَرب وكان لكنانة على هوازن ثم يوم الحُريرة لهوازن على كنانة‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ ثم تداعى الناس إلى السلم على أن يَذروا الفضلَ ويَتعاهدوا ويتواثقوا‏.‏
يوم عين أباغ وبعده يوم ذي قار قال أبو عُبيدة‏:‏ كان ملكَ العرب المُنذر الأكبر بنُ ماء السماء ثم مات‏.‏
فملك ابنهُ عمرو بن المُنذر وأُمّه هند وإليه يُنسب‏.‏
ثم هلك فَمَلك أخوه قابوس‏.‏
وأمه هِنْد أيضاً فكان مُلكه أربعَ سنين‏.‏
وذلك في مَملكة كِسْرى ابن هُرمز‏.‏
ثم مات فملك بعده أخوه المُنذر بن المنذر بن ماء السماء وذلك في مَملكة كِسرى بن هُرمز‏.‏
فغزاه الحارث الغساني وكان بالشامِ من تحت يد قَيصر فالتقوا بعَينْ أَباغ فقُتل المنذر‏.‏
فطلب كسرى رجلاً يجعله مكانه‏.‏
فأشار إليه عديّ بن زيد - وكان من تَراجمة كِسْرى - بالنّعان بن المنذر وكان صديقاً له فأَحبّ أنْ يَنفعه وهو أصغر بني المنذر بن ماء السماء فولاّه كِسْرى على ما كان عليه أبوه‏.‏
وأتاه عديّ بن زيد فمكّنه النعمان‏.‏
ثم سَعى بينهما فَحبسه حتى أتى على نَفسه وهو القائل‏:‏ أبلغ النعمان عني مَالُكا أنّه قد طال حَبَسي وانتظاري لو يغير الماء حَلْقي شَرِق كنتَ كالغصّان بالماء اعتصاري وعِداتي شُمَّت أَعْجبهمِ أنّني غُيِّبت عنهم في إسارِي لامرئ لم يَبْل مني سَقْطةَ إن أصابَتْه مُلِمّات العِثارِ فلئن دَهْرٌ تولّى خَيرُه وجَرت بالنَّحس لي منه الجَواري لَبِما مِنه قَضَينا حاجةً وحياةُ المَرء كالشيء المُعار فلما قَتل النعمانُ عديّ بن زَيد العبَاديّ وهو من بني امرئ القيس بن سَعد بن زيد مَناة بن تميم سار ابنُه زيد بن عديّ إلى كسرى فكان من تَراجمته‏.‏
فكاد النعمانُ عند كِسرى حتى حمله عليه‏.‏
فهرب النعمانُ حتى لحق ببني رَواحة من عَبْس واستعمل كِسرى على العرب إياسَ بنَ قَبيصة الطائي‏.‏
ثم إنّ النعمان تجوَّل حِيناً في أحياء العرب ثم أشارت عليه امرأتُه المُتجرّدة أنْ يأتي كسرى ويعتذرَ إليه ففعل‏.‏
فَحبسه بساباط حتى هلك ويقال‏:‏ أوْطأه الفيلة‏.‏
وكان النعمانُ إذا شَخِص إلى كسرى أودع حَلْقته وهي ثمانمائة دِرْع وسلاحاً كثيراً هانئ بنَ مسعود الشّيباني وجعل عنده ابنته هندَ التي تُسمّى حُرَقة‏.‏
فلما قُتل النعمان قالت فيه الشعراء‏.‏
فقال فيه زُهير بن أبي سُلْمى المزنيّ‏:‏ ألم تَر للنُّعمان كان بنَجْوةٍ من الشرِّ لو أَنّ امرأَ كان باقيَا فلم أرَ مَخذولاً له مثلُ مُلْكه أقلَّ صديقاً أو خليلا مُوافيا خلا أنَّ حيا من رَوَاحة حافظوا وكانوا أُناساً يَتَّقون المَخازيا فقال لهم خيراً وأَثنى عليهمُ ووَدّعهم تَوديع أنْ لا تَلاقيا يوم ذي قار قال أبو عُبيدة‏:‏ يوم ذي قار هو يوم الحِنْو ويوم قُراقر ويوم الجبابات ويوم ذات العَجرم ويوم بَطحاء ذي قار وكُلّهن حَوْل ذي قار وقد ذكرتْهن الشعراء‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ لم يكن هانئ بن مَسعود المُستودع حلقة النًّعمان وإنما هو ابنُ ابنه واسمه هانئ بن قَبيصة بن هانئ بن مَسعود لأن وَقعة ذي قار كانت وقد بُعث النبيّ {{صل}} وخبّر أصحابَه بها فقال‏:‏ اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا‏.‏
فكتب كسرى إلى إياس بنِ قَبيصة بأمره أن يَضُم ما كان للنُّعمان‏.‏
فأَبى هانئ بن قَبيصة أن يُسلم ذلك إليه فغضب كسرى وأراد استئصال بَكْر بن وائل‏.‏
وقَدِم عليه النَّعمانُ بن زُرْعة التَّغلبيّ وقد طمع في هلاك بكر بن وائل فقال‏:‏ يا خير الملوك ألا أدلّك على غِرَّة بكر قالَ‏:‏ بلى‏.‏
قال أقِرَّها وأظْهر الإضراب عنها حتى يُجْليها القَيظ ويُدنيها منك فإنهم لو قاظُوا تساقطوا بماء لهم يقال له ذو قار تساقطَ الفَراش في النار فأقرَّهم حتى إذا قاظوا جاءت بكرُ بن وائل حتى نزلوا الحِنْو حِنْو ذي قار فأرسل إليهم كِسْرى النعمانَ بن زُرعة يُخيّرهم بين ثلاث خصال‏:‏ إما أن يُسلموا الحَلْقة وإما أن يُعرو الدِّيار‏.‏
وإما أن يَأْذنوا بحَرب‏.‏
فتنازعتْ بكرُ بينها‏.‏
فهَمَّ هانئ بن قَبيصة برُكوب الفلاة وأشار به على بَكْر وقال‏:‏ لا طاقَة لكم بجمُوع الملك‏.‏
فلم تُرَ من هانئ سقطةٌ قبلها‏.‏
وقال حِنظلةُ ابن ثَعلبة بن سيّار العِجْليّ‏:‏ لا أرى غير القتال فإنّا إن رَكبنا الفلاة مِتْنا عَطشا وإن أعطينا بأيدينا تقتل مُقاتلتُنا وتُسبى ذرارينا‏.‏
فراسلت بكر بينها وتوافت بذي قار ولم يَشْهدها أحد من بني حَنيفة‏.‏
ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر‏:‏ هانئ بن قَبيصة ويزيد بن مُسْهر الشَّيباني وَحنظلة بن ثَعلبة العِجْتي - وقال مِسْمع بن عبد الملك العِجْلي بن لُجيم بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل‏:‏ لا والله ما كان لهم رئيس وإنما غُزوا في ديارهم - فثار الناسُ إليهم من بيوتهم‏.‏
وقال حَنظلة بن ثعلبة في هانئ بن قَبيصمة‏:‏ يا أبا أمامة إنّ ذمّتنا عامّة وإنه لن يُوصل إليك حتى تفَنى أرواحنا فأخْرج هذه الحلقة ففرِّقها في قومك فإن تَظفر فستردّ عليك وإن تَهْلِك فأهونُ مَفقود‏.‏
فأمر بها فأُخرجت وفُرِّفت بينهم وقال للنعمان‏:‏ لولا أنك رسول ما أُبتَ إلى قومك سالماً‏.‏
قال أبو المُنذر‏:‏ فعقد كِسْرى للنعمان بن زُرعة على تَغلب والنّمِر وعقد لخالد بن يزيد البَهرانيّ على قُضاعة وإياد وعَقد لإياس بن قَبيصة على جَميع العَرب ومعه كَتيبتاه الشَّهباء والدَّوْسر وعقد للهامَرْز التُّسْتَريّ وكان على مسلّحة كِسرى بالسواد على ألف من الأساورة‏.‏
وكتب إلى قَيس بنِ مَسعود ابن قَيس بنِ خالد ذي الجَدّين وكان عاملَه على الطَّف طفّ سَفَوان‏.‏
وأمره أن يُوافيَ إياس بن قَبيصة ففعل‏.‏
وسار إياس بمَن معه من جُنده من طيىء ومعه الهامَرْز والنّعمان بن زُرعة وخالد بن يَزيد وقَيْس بن مَسْعود كُل واحد منهم على قومه‏.‏
فلما دنا من بَكر انسل قيسٌ إلى قومه ليلاً فأتى هانئاً فأشار عليهم كيف يصنعون وأمرهم بالصبر ثم رجع‏.‏
قلما التقى الزَّحْفان وتقارب القومُ قام حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العِجْلي فقال‏:‏ يا معشر بكر إنّ النّشّاب التي مع هؤلاء الأعاجم تُفرقكُم فعاجلوا اللقاء وابدءوا بالشدَّة‏.‏
وقال هانئ بن مَسعود‏:‏ يا قوم مَهلك مَعْذور خير من مَنْجى مَغرور‏.‏
إن الجَزع لا يردّ القَدر وإن الصبر من أسباب الظّفر‏.‏
المنيّة خير من الدنيّة واستقبال الموت خير من استدباره‏.‏
فالجِدّ الجِد فما من الموت بُد‏.‏
ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقَطع وُضُن النِّساء فسقطْنَ إلى الأرض وقال‏:‏ ليقاتل كُل رجل منكم عن حَليلته فسُمَي مُقَطّع الوُضُن‏.‏
قال‏:‏ وقَطع يومئذ سبعُمائة رجل من بني شَيبان أيديَ أَقْبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضَرب السُّيوف‏.‏
وعلى ميمنتهم بكرُ ابن يزيد بن مُسهر الشّيباني وعلى مَيْسرتهم حَنظَلة بن ثعلبة العِجْلي وهانئ بن قَبيصة‏.‏
ويقال‏:‏ ابنُ مَسعود في القَلب‏.‏
فتجالد القومُ وقَتل يزيدُ بن حارثة اليشكري الهَامَرز مُبارِزه ثم قُتل يزيد بعد ذلك‏.‏
ويقال إنَّ الحَوفزان بن شريك شد على الهامَرْز فقَتله‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ لم يُدرك الحَوفزان يوم ذي قار وإنما قتله يزيدُ بن حارثة‏.‏
وضرب الله وُجوهي الفُرس فانهزموا فأَتبعهم بكر حتى دخلوا السّواد في طلبهم يَقْتلونهم‏.‏
وأُسر النّعمان بن زُرعة التّغلَبي ونجا إياسُ بن قبيصة على فرسِه الحَمامة فكان أولَ من انصرِف إلى كسرى بالهزيمة إياسُ بن قَبيصة وكان كِسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتِفه‏.‏
فلما أتاه ابن قَبيصة سأله عن الجيش‏.‏
فقال‏:‏ هَزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم‏.‏
فأعجب بذلك كِسْرى وأمر له بكسوة ثم استأذنه إياس وقال‏:‏ إن أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التّمر فأردتُ أن آتيَه‏.‏
فأذن له‏.‏
ثم أَتى كِسْرى رجل من أهل الحِيرة وهو بالخَوَرْنق فسأل‏:‏ هل دَخل على الملك أحدٌ فقالوا‏:‏ إياس فظَنّ أنه حدّثه الخَبر فدَخل عليه وأَخبره بهزيمة القوم وقَتْلهم‏.‏
فأَمر به فنُزعت كَتِفاه‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ لما كان يوم ذي قار كان في بَكْر أسرى من تَميم قريباً من مائتي أَسِير أكثرهم من بني رِيَاح بن يَرْبوع‏.‏
فقالوا‏:‏ خَلُّوا عنّا نُقاتلْ معكم فإنما نَذُب عن أَنفسنا‏.‏
قالوا‏:‏ فإنا نخاف ألا تناصحونا‏.‏
قالوا‏:‏ فدعونا نُعلم حتى تروا مكاننا وغَناءنا فذلك قولُ جرير‏:‏ منّا فوارسُ ذي بهْدِي وذي نَجَب والمُعْلَمِون صباحاً يوم ذِي قار قال أبو عُبيدة‏:‏ سُئل عمرو بن العلاء وتَنافر إليهِ عِجْليّ ويَشكري فزعم العِجْليّ أنه لم يَشهد يومَ ذي قار غيرُ شيبانيّ وعِجْلي‏.‏
وقال اليَشكريّ‏:‏ بل شهدتْها قبائلُ بكر وحُلفاؤهم‏.‏
فقال عمرو‏:‏ قد فَصل بينكماَ التّغلَبيّ حيث يقول‏:‏ في غَمرة الموتِ التي لا تَشتَكي غمراتِها الأبطالُ غير تَغَمْغم وكأنما أقدامهم وأكفُّهم سِرْب تَساقَط في خَليج مُفْعم لمَّا سمعتُ دُعاء مُرَّة قد عَلا وابني رَبيعة في العَجاج الأَقتم ومحلم يَمْشون تحت لوِائهم والموتُ تحت لواء آل مُحلِّم لا يَصْدفون عن الوغى بوجوههم في كُل سابغةٍ كلون العِظْلم ودَعَت بنو أُم الرِّقاع فأقبلوا عند الِّلقاء بحَل شاكٍ مُعْلم وسمعتُ يَشْكر تدّعي بخُبَيِّب تحت العجَاجة وهي تَقْطُر بالدّم يَمْشون في حَلق الحديد كما مَشت أُسْد العَرين بيوم نَحْس مُظْلم والجَمع من ذُهل كأنّ زُهاءهمِ جُرد الجمال يَقودها ابنا قَشْعم والخَيل من تحت العجاج عوابساً وعلى سنَابكها مناسج من دَم وقال العُديل بن الفُرْخ العِجْليّ‏:‏ ما أَوقد الناس من نار لمَكْرُمة إلا اصطَلينا وكُنّا موقدي النّارِ ومن نائب الملك ومن الرئيس فهو إذا كان لهم كانت الرياسة لهانئ وكان حَنظلة يُشير بالرأي‏.‏
وقال شاعرهم‏:‏ إنْ كُنت ساقيةً يوماً ذوي كَرم فاسقي الفوارِسَ من ذُهلِ بنِ شَيبانَا واسقي فوارسَ حامُوا عن ذِمارهم واعلي مفارقَهم منسْكاً ورَيْحانا وقال أعشي بكر‏:‏ أمّا تميمٌ فقد ذاقتْ عداوتَنا وقيسَ عَيلان مَسَّ الخِزْيُ والأسَفُ وجُند كِسْرى غداة الحِنْو صَبَّحهم منّا غَطاريف تُزجي الموتَ فانْصرفوا لَقُوا مُلَمْلَمةَ شَهْبَاء يَقْدمها للموتِ لا عاجزٌ فيها ولا خَرِف فَرْعٌ نَمَتْهُ فُروع غيرُ ناقصةٍ مُوفَّق حازمٌ في أمره أُنف فيها فوارسُ محمود لقاؤهمُ مِثْل الَأسنَّة لا مِيل ولا كُشف بِيضُ الوُجوهِ غداةَ الروع تَحْسَبهم جِنَّان عَبْس عليها البَيْض والزَّغَف لما التقينا كَشَفْنا عن جَماجمنا لِيَعْلَموا أننا بَكْرٌ فينْصَرفوا قالوا البقيَّةَ والهِنْديُ يحْصدهم ولا بقيَّةَ إلا السيف فانكَشفوا إذا عَطْفنا عليهم عَطْفَةً صَبَرتْ حتى تولَّت وكاد اليومُ يَنْتَصف بطارق وبنو مُلْك مرازبة من الأعاجم في آذانها النَّطف مِنْ كل مَرْجانة في البحر أحرَزها تيارُها ووقاها طينَها الصّدَف كأنما الآلُ في حافاتِ جَمْعهم والبِيض بَرْق بدا في عارضٍ يَكِف ما في الخُدود صدود عن سيُوفهم ولا عن الطَّعْنِ في الَّلبَّات مُنْحَرف وقال الأعشىَ يلوم قَيسَ بن مسعود‏:‏ أقَيسَ بنَ مَسْعود بنِ قيس بنِ خالد وأنت أمرؤٌ تَرْجو شبابك وائلُ أَطوْرَيْن في عام‏:‏ غزَاة ورحلة ألا ليت قيْساً غَرَّفَتْه القوابل لقد كان في شَيبان لو كنتَ راضياً قِبابٌ وحيٌّ حِلَّة وقَنابل ورَجْراجة تُعْشي النواظرَ فَحْمةٌ وجُرْد على أكتافهنَّ الرَّواحل رحلتَ و تَنْظُر وأنت عميدُهم فلا يَبْلغنَي عنك ما أنت فاعل وعُرِّيت من أهل ومالٍ جمعتَه كما عُرِّيَتْ مما تُمِرُّ المَغازل ولما بلغ كسرى خبرُ قيس بن مَسعود إذ انسل إلى قومه حَبسه حتى مات في حَبْسه‏.‏
وفيه يقول الأعشى‏:‏ وعُرِّيت من أهل ومال جَمعتَه كما عُرِّيت مما تُمِرّ المغازلُ وكتب لَقيطٌ الإياديّ إلى بني شَيبان في يوم ذي قار شعراً يقول في بَعضه‏:‏ قُوموا قياماً على أمشاط أرجلِكم ثم أفزعوا قد يَنالُ الأمنَ من فَزِعا وقَلِّدوا أمرَكم لله دَرُّكم رَحْبَ الذِّراع بأمر الحرب مُضطلعا لا مُترَفاً إنْ رخاءُ العيش ساعدَه ولا إذا عَض مكروهٌ به خَشَعا ما زال يَحْلُب هذا الدهرَ أشْطُرَه يكون مُتَبَعاً طوراً ومُتَبِعا حتى اْستمرّت على شَزْر مَريرتُه لا مُسْتحكمَ الرأي لا قَحْماً ولا ضَرعا وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زُرَارة‏:‏ قد عِشتُ في الدهر أطواراً على طُرق شتى فصادفت منه اللينَ والفَظَعا كُلاَّ بلوتُ فلا النعماءً تُبطرني ولا تَخشّعت من لأوائه جَزعا لا يملأ الأمرُ صدري قبلَ موقعه ولا أضيق به ذرْعاً إذا وَقعا
===كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر===
قال الفتيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه رحمه الله‏:‏ قد مَضى قولُنا في أيام العرب ووقائعها وأخبارها ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في فضائل الشعر ومَقاطعه ومَخارجه إذ كان الشعر ديوانَ العرب خاصة والمنظومَ من كلامها والمقيِّدَ لأيامها والشاهد على أحكامها‏.‏
حتى لقد بلغ من كَلَف العرب به وتَفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تَخيَّرتها من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القبَاطيّ المُدرجة وعَلِّقتها بين أستار الكعبة‏.‏
فمنه يقال‏:‏ مذهَّبة امرئ القيس ومُذَهَّبة زُهير‏.‏
والمذَهبات سبع وقد يقال لها المُعَلقات‏.‏
قال بعضُ المحدثين يصف قصيدةً له ويُشبهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت‏:‏ بَرْزة تُذكر في الحُس ن من الشعر المعلق كل حَرْف نادرٍ من ها له وجهٌ معشق المعلقات لامرئ القَيس‏:‏ قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل‏.‏
أمن أم أوفى دِمْنة لم تكلم ولطَرَفة‏:‏ لِخَوْلة أطلالٌ ببرقة ثَهمد ولعَنترة‏:‏ يا دارَ عَبلة بالجواء تكلمي ولعمرو بن كُلْثوم ألا هُبِّي بصحنك فاصْبحينا وللَبيد‏:‏ عفَت الدِّيار محلها فمقامها وللحارث بن حِلَّزة‏:‏ آذَنَتْنا ببَيْنها أسماء اختلاف الناس في أشعر الشعراء قال النبيُّ {{صل}} وذُكر عنه امرؤ القيس بن حُجْر‏:‏ هو قائد الشعراء وصاحبُ حلفتُ فلم اتركْ لنَفْسك رِيبةً وليس وراء الله للمرءِ مَذْهَبُ قالوا‏:‏ نابغة بني ذُبيان‏.‏
قال لهم‏:‏ فمن الذي يقول هذا الشعر‏:‏ أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيابي على وَجَل تُطَنُّ بيَ الظُنونُ فألفيت الأَمانةَ لم نَخنها كذلك كَان نُوح لا يَخون قالوا‏:‏ هو النابغة‏.‏
قال‏:‏ هو أشعرُ شُعرائكم‏.‏
وما أحسب عُمر ذهب إلا إلى أنه أشعرُ شُعراء غَطفان‏:‏ ويَدُل على ذلك قوله‏:‏ هو أشعرُ شُعرائكم‏.‏
وقد قال عمر لابن عَباس‏:‏ أنشدني لأشعر الناس الذي لا يُعاظِل بين القوافي ولا يَتَتَبَّع حُوشيّ الكلام‏.‏
قال‏:‏ مَن ذلك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ زُهير بن أبي سُلْمى‏.‏
فلم يَزل يُنشده من شعره حتى أصبح‏.‏
وكان زُهير لا يَمدح إلا مُستحقّاً كمدحه لِسنان بن أبي حارثة وهَرِم بن سِنان وهو القائِل‏:‏ وانّ أشعر بيتِ أنتَ قائلُه بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صَدَقا وكذلك أحسنُ القول ما صدّقه الفعل قالت بنو تَميمٍِ لسَلامة بن جَندَل‏:‏ مجدْنا بشعرك قال‏:‏ افعلوا حتى أقول‏.‏
وقيل للبيد‏:‏ مَن أشعر الشعراء قال‏:‏ صاحبُ القُروح - يريد امرأ القيس - قيل له‏:‏ فبعده مَن قال‏:‏ ابن العِشْرين - وقيل للحُطيئة‏:‏ من أشعَر الناس قال‏:‏ النابغة إذا رَهب وزُهير إذا رَغب وجَرير إذا غَضِب‏.‏
وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ طرفة أشعرُهم واحدةً يعني قصيدته‏:‏ لِخولة أطلالٌ بِبُرقة ثَهْمد وفيها يقول‏:‏ ستُبدى لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويَأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّدِ وانشد النبي {{صل}} هذا البيتَ فقال‏:‏ هذا من كلام النُّبوة‏.‏
وسمع عبد الله بن عمر رجلاً ينشد بيت الحُطيئة‏:‏ مَتى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوء نارِه تَجدْ خَيْرَ نارٍ عندها خيرُ موقِدِ فقال‏:‏ ذاك رسولُ الله {{صل}} إعجاباً بَالبيت‏.‏
يعني أنّ مثل هذا المَدح لا يَستحقّه إلا رسول الله {{صل}} وسُئل الأصمعيّ عن شعر النابغة فقال‏:‏ إنْ قلت ألينُ من الحرير صدقتَ وإن قلتَ أشدّ من الحديد صدقت‏.‏
وسُئل عن شعر الجَعديّ فقال‏:‏ مُطْرف بآلاف‏.‏
وخِمار بواف‏.‏
وسُئل حمَّاد الراوية عن شعر ابن أبي رَبيعة فقال‏:‏ ذلك الفسِتق المُقشرّ الذي لا يُشبع منه‏.‏
وقالوا في عمرو بن الأهتم‏:‏ كان شعره حللاً مًنَشرَة‏.‏
وسُئل عمرو بن العلاء عن جَرير والفَرزدق فقال‏:‏ هما بازيان يَصيدان ما بين الفِيل والعَنْدبيل‏.‏
وقال جرير‏:‏ أنا مدينةُ الشعر والفَرزدقُ نَبْعته‏.‏
وقال بلالُ بن جرير‏:‏ قلت لأبي‏:‏ يا أبت إنك لم تَهْج قوماً قطُّ إلا وضعتَهم إلا بني لَجأ‏.‏
قال‏:‏ إنّي لم أجد شرفاً فأضعَه ولا بناء فأهدمه‏.‏
واختلف الناس في أَشعر نصف بَيت قالته العربُ‏.‏
فقال بعضهم‏:‏ قولُ أبي ذُؤيب الهُذلي‏:‏ والدهرُ ليس بمُعتب من يَجْزَع وقال بعضهُم‏:‏ قول حُميد بن ثَور الهِلاليّ‏:‏ نوكّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضي وقال بعضهُم قول زُميل‏:‏ ومَن يَكُ رهناً للحوادث يَغلق وهذا ما لا تُدرك غايته ولا يُوقف على حده‏.‏
والشعر لا يفوت به أحد ولا يأتي له بديع إلا أتى ما هو أبدعُ منه وللّه دَرّ القائل‏:‏ أشعر الناس مَن أبدع في شعره‏.‏
إلا ترى مَروان بن أبي حَفصة على موضعه من الشعر وبُعد صِيته فيه ومَعرفته بغَثِّه وسَمِينه انشدوه لامرئ القَيس فقال‏:‏ هذا أشعرُ الناس‏.‏
وقد قالوا‏:‏ إنَّ لحسَّان بن ثابت أفخِرَ بيت قالته العرب وأحكمَ بيت قالته العرب‏.‏
فأما أفخر وبيوم بَدْرٍ إذ يرد وجوهَهم جِبريل تحت لِوائنا ومحمدُ وأما أحكم بيت قالته العرب فقوله‏:‏ وإنَ امرأً أَمسى وأصبح سالماً من النَّاس إلا ما جَنى لسعيدُ وقالوا‏:‏ أهجى بيت قالته العرب قول جرير‏:‏ والتَّغْلبيّ إذا تَنَحْنح للقِرَى حكَّ آسْتَه وتمثَّلَ الأمْثَالاَ ولما قال جرير هذا البيت قال‏:‏ والله لقد هجوتُ بني تَغلب ببيت لو طُعنوا في أستاههم بالرِّماحِ ما حكّوها‏.‏
ويقال‏:‏ إن أبدع بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤيب الهُذَليّ‏:‏ والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها وإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنعُ ويقال‏:‏ إنَّ أصدق بيت قالته العرب قولُ لَبيد‏:‏ ألاَ كُل شيءٍ ما خلا الله باطلُ وكُل نَعيم لا محالةَ زائلُ وذُكر الشعر عند عبد الملك بن مَروان فقال‏:‏ إذا أردتُم الشعر الجيِّد فعليكم بالزُّرق من بني قيس بن ثَعلبة وهم رهط أعشى بَكْر وبأصحاب النِّخل من يَثرب يريد الأوس والخَزْرج وأصحاب الشَّعف من هُذيل والشَّعف‏:‏ رءوس الجبال‏.‏
ومن الدليل على عِظَم الشِّعر عند العرب وجليل خَطْبهِ في قلوبهم أنَّه لما بُعث النبيُ {{صل}} بالقرآن المُعجِز نظمه المُحكم تأليفه وأعجب قريشاً ما سمعوا منه قالوا‏:‏ ما هذا إلا سِحْر‏.‏
وقالوا في النبيّ {{صل}}‏:‏ ‏"‏ شَاعِرٌ نَتربصُ بهِ رَيْبَ المَنُون ‏"‏‏.‏
وكذلك قال النبي {{صل}} في عمرو بن الأهتم لمّا أعجبه كلامُه‏:‏ إنَّ مِنِ البيان لَسِحْراً‏.‏
لقد خشيت أن تَكون ساحرَاً روايةً مَرّاً ومراً شاعرَاً وقال النبيُّ {{صل}}‏:‏ إنَّ من الشعر لحِكْمة‏.‏
وقال كعبُ الأحبار‏:‏ إنّا نَجد قوماً في التوراة أناجيلُهم في صُدورهم تَنطق ألسنتهم بالحِكْمة وأظنّهم الشُّعراء‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر يُقدِّمها في حاجاته يَستعطف بها قلبَ الكريم ويستميل بها قلب اللئيم‏.‏
وقال الحجَّاج للمُساور بن هند‏:‏ ما لك تقول الشعرَ وقد بلغتَ من العُمر ما بلغتَ قال‏.‏
أرعى به الكلأ وأشرب به الماء وتقضي لي به الحاجة فإن كفيتَني ذلك تركتهُ‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده‏:‏ روَهم الشِّعر يَمْجدوا ويَنْجدوا‏.‏
وقالت عائشة‏:‏ روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم‏.‏
وبعث زياد بولده إلى معاوية فكاشفه عن فنون منِ العِلم فوجده عالماً بكل ما سأله عنه‏.‏
ثم أستنشده الشعر فقال‏:‏ لم أَرْوِ منه شيئاً‏.‏
فكتب معاويةُ إلى زياد‏:‏ ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل‏.‏
وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المُبارزة في الحرب أنشأ يقول‏:‏ أيّ يوميّ من المَوتِ أفرّ يومَ لا يُقدر أم يوم قَدِرْ يومَ لا يُقدر لا أَرْهَبه ومِن المَقدور لا يَنجو الحَذِر وقال المقداد بن الأسود‏:‏ ما كنتُ أعلم أحداً من أصحاب رسول الله {{صل}} أعلم بشِعر ولا فَريضة من عائشة رضي الله عنها‏.‏
وفي رواية الخُشَنِيّ عن أبي عاصمٍ عن عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مُليكة قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ رحم الله لَبيداً كان يقول‏:‏ قَضِّ اللُبانةَ لا أبالك وأذهبِ والحق بأسرتك الكِرام الغُيَّبِ ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيتُ في خَلف كجِلْدِ الأجرب فكيف لو أدرك زَماننا هذا‏!‏ ثم قالت‏:‏ إني لأروي ألفَ بيت له وإنه أقلُّ ما أروي لغيره‏.‏
وقال الشَعبيّ‏:‏ ما أنا لشيء من العِلم أقلّ مني روايةً للشِّعر ولو شئتُ أن أنشد شعراً شهراً لا أعيد بيتاً لفعلت‏.‏
وسمع النبيُّ {{صل}} عائشة وهي تُنشد شعر زُهير بن جَناب‏:‏ أرفَعْ ضعيفَك لا يَحُر بك ضعْفهُ يوماً فتُدركَه عواقبُ ما جَنَى فقال النبيّ {{صل}}‏:‏ صدق يا عائشة لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس‏.‏
يزيد بن عمرو بنِ مسلم الخُزاعي عن أبيه عن جَدّه قال‏:‏ دخلتُ على النبيّ {{صل}} ومُنشد يُنشده قول سُويد بن عامر المصطلق‏:‏ لا تأمنَن وإن أمسيتَ في حَرَمٍ إنَّ المَنايا بجَنْبي كُل إِنْسانِ فاسلُك طريقَك تَمْشي غير مُخْتَشع حتى تلاقِي الذي مَنَّى لك الماني فكل ذي صاحب يوماً مُفارقهُ وكُلّ زادٍ وإنّ أبقيته فاني والخيرُ والشرُّ مَقْرونان في قَرَن بكُل ذلك يأتيك الجَدِيدان فقال النبيّ {{صل}}‏:‏ لو أَدرك هذا الإسلام لأسلم‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ جاء رجُل إلى النبيّ {{صل}} فقال‏:‏ أنشدك يا رسول الله قال‏:‏ نعم‏.‏
فأنشده‏:‏ تركتُ القِيان وَعزْف القِيان وأدمنتُ تَصليةً وابتهالا وكَرِّي المُشقَّر في حَوْمة وشَنِّي على المُشْركين القِتالا فيا ربّ لا أغبننْ صفقتيَ فقد بِعْت مالي وأهلي بدالا فقال النبيّ {{صل}}‏:‏ رَبح البَيع ربح البيع‏.‏
قدم أبو ليلى النابغة الجَعديّ على بَلَغنا السماءَ مجدنا وسناؤنا وإِنا لَنرجو فوق ذلك مَظْهَرَا فقال له النبيّ {{صل}}‏:‏ إلى أين يا أبا ليلى فقال‏:‏ إلى الجنة يا رسول الله بك‏.‏
فقال النبيّ {{صل}}‏:‏ إلى الجنة إن شاء الله‏:‏ فلما انتهى إلى قوله‏:‏ ولا خير في حِلم إذا لم تَكُن له بوادرُ تَحْمِي صَفْوه أن يُكَدَّرا ولا خيرَ في جَهل إن لم يكُن له حَلِيم إذا ما أورد الأمرُ اصدرَا قال النبيّ {{صل}}‏:‏ لا يفْضض الله فاك‏.‏
فعاش مائةً وثلاثين سنة لم تَنْغُض له ثنية‏.‏
سفيان الثّوري عن لَيث عن طاووس عن ابن عباس قال‏:‏ إنها لكَلمة نبيّ‏.‏
يَعني قولَ طرفة‏:‏ ستُبدي لك الأيامً ما كنت جاهلاً وَيأتيك بالأحبار مَن لم تُزودِ وسمع كعب قولَ الحُطيئة‏:‏ مَن يفعل الخير لا يَعْدَم جَوازيه لا يذْهبُ العُرف بين الله والناس قال‏:‏ إنه في التّوْراة حَرْفاً بحَرف‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ مَن يفعل الخير يَجدْه عندي لا يذهب الخيرُ بيني وبينَ عبدي ‏"‏‏.‏
وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ أنشدت النبيّ {{صل}} أبياتاً لأًمية بن أبي الصَّلت يذكر رَجُلٌ وثَورٌ تحتَ رِجْل يَمينه والنّسرِ للأخرى وليثٌ مُرْصَدُ والشمسُ تَطْلُع كُل آخر ليلةٍ فجراً ويُصبح لونُها يتوقد تبدو فما تبدو لهم في وَقْتها إلا مُعذِّبة وإلا تُجْلَد فتبسم النبي {{صل}} كالمُصدِّق له‏.‏
ومن حديث ابن أبي شَيْبة‏:‏ أن النبيّ {{صل}} أردف الشريد فقال له النبيّ {{صل}}‏:‏ تَرْوي من شِعر أُمية بن أبي الصَّلت شيئاً قلتُ‏:‏ نعم‏.‏
قالت‏:‏ فأنشِدني‏.‏
فأنشدته‏.‏
فجعل يقول بين كل قافيتين‏:‏ هيه حتى أنشدتُه مائة قافية‏.‏
فقال‏:‏ هذا رجل آمن لسانه وكَفر قلبُه‏.‏
ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جُند يجنّده رسول الله {{صل}} على المُشركين يدُل على ذلك قولُه لحَسان‏:‏ شُنَ الغَطاريف على بني عبد مناف فوالله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام‏:‏ وتَحفظْ ببَيْتي فيهم‏.‏
قال‏:‏ والذي بعثك بالحقّ نبيَّاً لأسُلّنّك منهم سَلّ الشّعرة من العجين‏.‏
ثم أخرج لسانه فضرب به أَرنبة أَنفه وقال‏:‏ والله يا رسولَ الله إنه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلقه أو على شَعَر لحَلقه‏.‏
فقال النبيُّ {{صل}}‏:‏ أيد الله حسّاناً في هَجْوه برُوح القُدس‏.‏
وقال ابن سيرين‏:‏ بلغني أنّ دَوْساً إنما قَضينا من تِهامة كُلّ نحب وخَيْبر ثم أَغْمدنا السيوفَا نُخبِّرها ولو نَطقت لقالت قواضبُهنَّ دَوْساً أو ثَقِيفاً وقال النبيّ {{صل}} لحسان بن ثابت لقد شكر الله لك قولَك حيثُ تقول‏:‏ زعمتْ سَخينةُ أنْ ستغلب رَبَّها ولَيُغْلبنّ مُغالب الغَلاّبِ ولو لم يكن من فضائل الشّعر إلا أنّه أعظمُ الوسائل عند رسول الله {{صل}}‏.‏
فمن ذلك أنه قال لعبد الله بن رَواحة‏:‏ أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله قال‏:‏ شيء يَختلج في صَدْري فيَنطق بهِ لساني‏.‏
قال‏:‏ فأَنْشِدني فأَنشده شعره الذي يقول فيه‏:‏ فثبَّت الله ما آتاك مِنْ حَسَنِ فَفَوْتَ عيسى بإذْن الله والقَدَرِ فقال النبيّ {{صل}}‏:‏ وإياك ثَبَّت الله وإياك ثَبت الله ومِن ذلك ما رواه ابنُ إسحاق صاحب المَغازي وابنُ هشام‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ لما نزل رسولُ الله {{صل}} الصفراء - قال ابنُ هشام‏:‏ الاثيلِ - أمر عليَّاً فضرَب عنق النَضر بن الحارث بن كَلدة بن عَلْقمة بن عبد مناف صبراً بين يدي رسول الله {{صل}}‏.‏
فقالت أُختُه قُتيلة بنت الحارث ترثيه‏:‏ يا راكباً إنّ الأثيل مَظنّة من صُبحِ خامسة وأنت مُوفقُ مني عليك وعَبرة مَسْفوحة جادت بواكِفها وأًخرى تَخنُق هل يَسمعني النضرُ إن ناديتُه أم كيف يَسمع مَيت لا ينطق أمحمد يا خيرَ ضِنْء كَريمة في قَومنها والفحلُ فحلٌ مُعرق ما كان ضرك لو مَننت وربما مَنّ الفتى وهو المَغيظ المُحنق فالنضر أقربُ من أَسرت قرابةً وأحقُّهم إن كان عِتْق يُعتق ظَلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشه للهّ أرحام هناك تمزق صبراً يُقاد إلى المنيّة مُتعباً رَسْفَ المُقيّد وهو عانٍ مُوثَق قال ابن هشام‏:‏ قال النبيّ {{صل}} لمّا بلغه هذا الشعر‏:‏ لو بلغني قبلَ قتله ما قتلْتهُ‏.‏
من حديث زياد بن طارق الجشميّ قال‏:‏ حدّثني أبو جَرْول الجُشمي وكان رئيس قومه قال‏:‏ أَسَرَنا النبيُّ {{صل}} يوم حُنين فبينما هو يُميز الرجال من النساء إذ وثبتُ فوقفتُ بين يديه وأنشدته‏:‏ امنُن علينا رسولَ الله في حُرَم فإنك المرءُ نرجوه ونَنتظر امنُن على نِشوة قد كنتَ تَرْضعها يا أَرجح الناس حِلْماً حين يُخْتبر فذكَّرته حين نشأ في هوازن وأرضعوه‏.‏
فقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم‏.‏
فقالت الأنصار‏:‏ وما كان لنا فهو لله ولرسوله‏.‏
فردّت الأنصار ما كان في أيهديها من الذَّراري والأموال‏.‏
فإذا كان هذا مَقامِ الشعر عند النبيّ {{صل}} فأي وسيلة تَبلغه أو تعْشره‏.‏
وكان الذي هاج فتْح مكة أنّ عمرو بن مالك الخْزاعِيّ أحدَ بني كَعب خَرج من مكة حتى قَدم على رسول الله {{صل}} المدينة وكانت خُزاعة في حِلْف النبيِّ {{صل}} وفي عهده وعَقْده فلمّا انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا أقبل عمرو بنُ مالك الخُزاعيّ بأبيات قالها‏.‏
فوقف على رسول الله {{صل}} وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال‏:‏ يا رب إنّي ناشدٌ مُحمدَاً حِلْفَ أَبينا وأَبيه الأتْلدَا قد كنتُم وُلْداً وكُنّا وَلدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك الموكدا وجعلوا لي في كَداء رَصداً وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذلّ وأقل عدداً هُم بيّتونا بالوتير هُجَّدا وأدْع عبَاد الله يأتوا مَدَدا فيهِم رسولُ الله قد تجرّدا إنْ سِيم خَسْفاً وجهُه تَربّدا في فَيْلق كالبَحر يَجْري مُزْبدا قال ابن هشام‏:‏ فقال رسولُ الله {{صل}} نُصرت يا عمرو بن مالك‏.‏
ثمَّ عَرض عارضٌ من السماء فقال رسولُ الله {{صل}}‏:‏ إن هذه السحابة تستهلّ بنَصْر بني كعب‏.‏
وقال عمر بن الخطّاب‏:‏ الشعر جَزل من كلام العرب يُسكَّن به الغَيظ وتُطفأ به الثائرة ويتبلَّغ به القومُ في ناديهم وُيعطى به السائل‏.‏
وقال ابنِ عبّاس‏:‏ الشعر عِلْم العرب وديوانها فتعلَّموه وعليكم بشعر الحِجاز‏.‏
فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز وحَضَّ عليه إذ لغتهم أَوسط اللّغات‏.‏
وقال معاويةُ لعبد الرحمن بن الحكم‏:‏ يا بن أخي إنك شُهرت بالشعر فإياك والتشبيبَ بالنّساء فإنك تغرّ الشريفة في قومها والعفيفة في نفسها والهجاء فإنك لا تَعْدو أن تُعادي كريماً أَو تَستثير به لئيماً‏.‏
ولكن افخر بمآثر قَومك وقُل من الأمثال ما تُوَقّر به نفسك وتؤدِّب به غيرك‏.‏
وسُئل مالك ابن أنس‏:‏ منِ أين شاطر عمرُ بن الخطاب عُمّاله فقال أموال كثيرة ظهرت عليهم وإنّ شاعراً كتب إليه يقول‏:‏ نَحجُّ إذا حَجُّوا ونَغْزو إذا غَزَوْا فأنيَّ لهم وَفْر وَلَسنا بذي وَفْر فدونك مالَ الله حيثُ وجدتَه سَيرضَون إن شاطرتهم منك بالشَّطْر قال‏:‏ فشاطرهم عُمر أموالهم‏.‏
وأنشد عمر بن الخطّاب قولَ زُهير‏:‏ فإن الحق مَقْطعه ثلاثٌ يَمين أو نَفارٌ أو جَلاءُ فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحُقوق وتَفصيلها وإنما أراد‏:‏ مَقطع الحقوق يَمين أو حكومة أو بيِّنة‏.‏
وأُنشد عُمر قول عَبَدة بن الطَّبيب‏:‏ والعيشُ شح وإشفاقٌ وتَأميلُ فقال‏:‏ على هذا بُنيت الدنيا‏.‏
ولمّا هاجر النبيُّ {{صل}} إلى المدينة وهاجر أصحابُه مستهم وباء المدينة فمرض أبو بكر وبلال‏.‏
قالت عائشة‏:‏ فدخلتُ عليهما فقلت‏:‏ يا أبت كيف تَجدك ويا بِلال كيف تَجدك قالت‏:‏ فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول‏:‏ كُلّ امرئ مُصَبّح في أهله والموتُ أَدْنى من شرِاك نَعْلِهِ وقالت‏:‏ وكان بلال إذا أَقلعت عنه يَرفع عقيرته ويقول‏:‏ ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً بوادٍ وحَوْلي إذْخر وجَليلُ قالت عائشة‏:‏ وكان عامر بن فُهيرة يقول‏:‏ وقد رأيتُ الموتَ قبل ذَوْقه إنّ الجَبان حَتْفه مِن فَوْقه كالثَور يَحْمي جِلده برَوْقِه قالت عائشة‏:‏ فجئتُ رسوله الله {{صل}} فأخبرتُه‏.‏
فقال‏:‏ اللهم حبِّب إلينا المدينة كحُبنا مكة وأشد وصَحّحها وبارك لنا في صاعها ومُدها وأنقُل حماها فاجعلها بالجُحفة‏.‏
ومن حديث البَراء بن عازب قال‏:‏ لما كان يوم حُنين رأيتُ النبيّ {{صل}} والعبّاس وأبا سُفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وهما آخذان بِلجام بغلته وهو يقول‏:‏ أنا النبيّ لا كَذِب أنا ابنُ عبد المُطّلبْ ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة عن سُفيان بن عُيينة يَرفعه إلى النبيّ {{صل}} أنه لما دخل الغار نُكِبَ فقال‏.‏
هل أنتِ إلا إصْبع دَمِيت في سَبيل الله ما لقيت فهذا من المَنثور الذي يُوافِق المنظوم وإن لَم يتعمد به قائله المنظوم‏.‏
ومثل هذا من كلام الناس كثير يأخذه الوَزن مثلُ قول عبد مملوك لمواليه‏:‏ اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى‏.‏
ومثله كثير مما يأخذه الوزن ولا يُراد به الشعر‏.‏
ولا يُسمَّى قولُ النبيّ {{صل}} وإن كان موزوناً شعراً لأنه لا يراد به الشّعر‏.‏
ومثلُه قي أي الكتاب‏:‏ ‏"‏ ومِن اللَّيْل فَسَبّحه وإدْبَار النُّجوم ‏"‏ ومنه‏:‏ ‏"‏ وجِفَان كالجَوَاب وقُدُور راسيات ‏"‏ ومثله ‏"‏ ويُخزْهم ويَنْصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مُؤمنين ‏"‏ ومنه‏:‏ ‏"‏ فَذَلكَ الَّذي يَدُعِّ اليَتيم ‏"‏‏.‏
ولو تطلّبت في رسائل الناس وكلامهم لوجدت فيه ما يَحتمل الوزن كثيراً ولا يُسمّى شعراً‏.‏
من ذلك قولُ القائل‏:‏ مَن يشتري باذنجان‏.‏
تقطيعه‏:‏ مستفعلن مفعولات‏.‏
وهذا كثير‏.‏
مَن قال الشعر من الصحابة والتابعين والعلماء المشهورين كان شعراء النبيّ {{صل}}‏:‏ حسّان بن ثابت وكَعب بن مالك وعبدَ الله بن رواحة‏.‏
وقال سعيد بن المُسيِّب‏:‏ كان أبو بكر شاعراً وعُمر شاعراً وعليُّ أشعرَ الثلاثة‏.‏
ومن قول عليّ كرّم الله وجهه بصِفين‏:‏ لمَن رايةٌ سَوداء يخْفِق ظلُّها إذا قِيل قَدِّمها حُضين تَقدَّما يُقدِّمها في الصَّف حتى يزِيرها حِياضَ المَنايا تَقْطُر السّمّ والدَما جَزى الله عنِّي والجَزاء بكَفِّه رَبيعة خيراً ما أَعف وأكَرما وقال أنس بن مالك خادمُ النبيّ {{صل}}‏:‏ قَدِم علينا رسولُ الله {{صل}} وما في الأنصار بيت إلاّ وهو يقول الشعر‏.‏
قيل له‏:‏ وأنتَ أبا حمزة قال‏:‏ وأنا وقال عمرو بن العاص يوم صفين‏:‏ شَبّت الحربُ فأعددتُ لها مُفْرع الحارِك مَحْبوك الثَّبَجْ يَصِل الشدَّ بشِدٍّ فإذا وَنت الخيلُ عن الشدَ مَعَج جُرْشُع أعظَمُه جُفْرَته فإذا أبتلّ من الماء خَرَج وقال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ فلو شَهدتْ جُمل مُقامي ومَشْهدي بصفِّين يوماً شاب منها الذوائب عشيّةً جا أهلُ العِراق كأنهم سَحاب ربيع زعْزعتها الجَنائب وجِئْناهُم نَرْدِي كأنّ صُفوفنا من البحر مدٌّ موجُه مُتراكب إذا قلت قد ولَّوا سرِاعاً بدت لنا كتائبُ مِنهم وأرجحنّت كَتائب فدارتْ رَحانا واستدارت رَحاهُم سراة النّهارِ ما تَوالى المناكب وقالوا لنا إنا نَرى أنْ تبايعوا علياً فقُلنا بل نَرى أن نُضارب من شعراء التابعين عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مَسعود وهو ابن أخي عبد الله بن مَسعود صاحب رسول الله {{صل}} وهو أحد السَّبعة من فُقهاء المدينة وله يقول سَعيد بن المُسيّب‏:‏ أنت الفقيه الشاعر‏.‏
فقال‏:‏ لا بُد للمصدور أن يَنْفث‏.‏
يعني أنه مَن كان في صَدره زُكام فلا بد من أن يَنفث زَكمة صدره‏.‏
يريد أن كل من أختلج في صَدره شيء من شعر أو غيره ظهر على لسانه‏.‏
وقال عُمر بن عبد العزيز‏:‏ وَدِدْت لو أنّ لي مجلساً من عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة بن مَسعود بدينار‏.‏
قال عبيد الله بن عَبد الله بن عُتبة بن مسعود‏:‏ ما أحسن الحسنات في إثْر السيآت وأقبحَ السيآت في إثر الحَسنات وأحسن من هذا وأقبح من ذلك‏:‏ الحسنات في إثر الحسنات والسيآت في إثر السيآت‏.‏
ومن شعراء التابعين عروة بن أذينة وكان من ثقات أصحاب حديث رسول الله {{صل}} يَروي عنه مالك‏.‏
وقال ابن شُبرمة‏:‏ أن عُروة بن أذينة يَخرج في الثُّلث الأخير من الليلِ إلى سِكك البصرة فينادي‏:‏ يأهل البصرة ‏"‏ أَفأمِنْ أَهْلُ القُرَى أنْ لأْتِيَهم بَأْسُنا بَيَاتاً وهُم نائِمُون‏.‏
أَوَ أَمِن أهْل القُرى أن يأتيَهم بأْسنا ضُحى وهُم يَلعَبونّ ‏"‏‏.‏
الصلاة الصلاة‏.‏
من شعراء الفقهاء المبرزين عبد الله بن المًبارك صاحب الرقائق‏.‏
وقال حِبان‏:‏ خرجنا مع ابن المُبارك مُرابطين إلى الشام فلما نَظر إلى ما فيه القومُ من التعبّد والغَزو والسرايا كل يَوم التفت إليّ وقال‏:‏ إنّا للهّ وإنّا إليه راجعون على أعمار أفنيناها وليال وأيام قطعناها في عِلْم الخليَّة والبَرِيّة وتركناها هنا أبوابَ الجَنَّة مفتوحة‏.‏
قال‏:‏ فبينما هو يمشي وأنا معه في أزقة المَصِّيصة إذ لقي سَكرانَ قد رفع عَقيرته يتغنّى ويقول‏:‏ أذلني الهوى فأنا الذليلُ وليس إلى الذي أهوى سبيل قال‏:‏ فأخرج برنامجاً من كُمه فكتب البيت‏.‏
فقلنا له‏:‏ أتكتب بيت‏.‏
شعر سمعتَه من سكران قال‏:‏ أما سمعتم المَثل‏:‏ رُب جوهرة في مَزْبلة قالوا‏:‏ نعم‏.‏
فهذه جَوْهرة في مَزبلة‏.‏
وبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن عمر بن عبد العزيز بعضُ ما يكره فكتب إليه‏:‏ أتاني عنك هذا اليومَ قولٌ فضِقْت به وضاق به جَوابي فإن تك عاتباً تُعْتَب وإلا فما عودي إذاً بيَراع غاب وقد فارقتُ أعظَم منك رُزءَاً وواريتُ الأحِبَّة في التُّراب وقد عَزّوا علي إذ اسْلموني معاً فلبستُ بعدهُم ثِيابي وقد ذكرنا شعر عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة وعُروة بن أُذينة في الباب الذي يتلو هذا الباب وهو‏:‏ قولهم في الغزل‏.‏
حدّث فرج بن سلام قال‏:‏ حدِّثنا عبد الله بن الحَكم الواسطيّ عن بعض أشياخ أهل الشام قال‏:‏ استعمل رسولُ الله {{صل}} أبا سفيان بن حَرب على نجران‏.‏
فولاّه الصلاة والحرب‏.‏
ووجّه راشدَ بن عبد ربِّه السلمي أميراً على القضاء والمظالم‏.‏
فقال راشدُ بن عبد ربّه‏:‏ صحا القلبُ عن سَلمى وأقصر شأوه وردّت عليه ما بَعَتْه تُماضر وحكّمه شيبُ القَذال عن الصبا وللشّيب عن بعض الغَواية زاجر فاقصر جَهْلِي اليومَ وأرتد باطلي عن الَّلهو لما ابيض مني الغدائر على أنه قد هاجه بعد صحْوه بمَعْرض ذي الاجام عيسٌ بواكر ولما دنت من جانب الغُوط أخصبت وحلّت ولاقاها سُلَيم وعامر فألقت عَصاها واستقرت بها النَّوى كما قَر عيناً بالإياب المُسافر وكان عبد الله بن عمر يُحب ولده سالماً حبّاً مُفرطا فلامه الناس في ذلك فقال‏:‏ يلومونني في سالم وألومهم وجِلْدَةُ بين العَين والأنْف سالم وقال‏:‏ إنّ ابني سالما ليُحب الله حبّاً لو لم يخَفه ما عصاه‏.‏
وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إذا برز إلى القتال أنشد‏:‏ أيّ يومي من الموتِ أفر يومَ لا يُقدر أم يوم قُدر يومَ لا يُقدر لا أرهبه ومِن المقدور لا يَنْجو الحَذِر وكان إذا سار بأرض الكوفة يرتجز ويقول‏:‏ يا حبذا السير بأرض الكُوفه أرضٍ سواءٍ سَهْلة مَعروفه تعرفها جِمالنا المَعْلوفه وكان عبد الله بن عباس في طريقه من البصرة إلى مكة يحدو الإبل ويقول‏:‏ أُولى إلى أهلك يا ربَابُ أُولى فقد هان لك الإيابُ وقال ابن عباس لما كفّ بصره إن يأخذ الله من عينيّ نُورَهما ففي لساني وقَلبي منهما نُورُ قولهم في الغزل قال رجل لمحمد بن سيرين‏:‏ ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه فقال‏:‏ وتبرد بَرد رداء العرو س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا ثم قال‏:‏ الله أكبر‏.‏
وقال العجاّج‏.‏
دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ {{صل}} فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه فقلت‏:‏ أفرجوا لي عن وجهه‏.‏
فأفرج لي عنه‏.‏
فقلت له‏:‏ إني إنما أقول‏:‏ طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما فما تقوله فيه قال‏:‏ قد كان رسولُ الله {{صل}} يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره‏.‏
ودخل كعب بن زهير على النبي {{صل}} قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه وأنشد‏:‏ ما إن تَدوم على حال تكون بها كما تلوّن في أثوابها الغُول ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً وما مواعيدُها إلا الأباطيل ولا يَغُرًنك ما منت وما وَعدت إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ {{صل}}‏.‏
فكساه بُرداً اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً‏.‏
ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود في الغزل‏:‏ كتمتَ الهوى حتى أضرّ بك الكَتْم ولامَك أقوامٌ ولومُهمُ ظُلم ونَم عليك الكاشِحون وقبل ذا عليك الهَوى قد تَمّ لو نَفع النّم فيامَن لِنفس لا تَموت فَيْنقضي عَناها ولا تَحْيا حَياةً لها طَعم ودخل كعب بن زهير على النبي {{صل}} قبل صلاة الصبح فمثل بيت يديه وأنشد‏:‏ بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول ما إن تَدوم على حال تكون بها كما تلوّن في أثوابها الغُول ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً وما مواعيدُها إلا الأباطيل ونَم عليك الكاشِحون وقبل ذا عليك الهَوى قد تَمّ لو نَفع النّم فيامَن لِنفس لا تَموت فَيْنقضي عَناها ولا تَحْيا حَياةً لها طَعم ومن شعر عُروة بن أذينة وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها وكان من أرقّ الناس تشبيبا‏:‏ قالت وأَنبثتها وَجْدي وبُحت به قد كُنتَ عندي تحب السِّتر فاستَتِر ومن شعر عُروة بن أذينة وهو من فقهاء المدينة وعُبّادها وكان من أرقّ الناس تشبيبا‏:‏ قالت وأَنبثتها وَجْدي وبُحت به قد كُنتَ عندي تحب السِّتر فاستَتِر ألست تُبصر من حولي فقلتُ لها غطَّى هواك وما ألقَى على بَصري ووقفتْ عليه امرأة فقالت له‏:‏ أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقوله‏:‏ إذا وجدتُ أُوار الحُبّ في كَبِدي غدوتُ نحو سِقاء الماء أَبتَرِدُ هبني بردتُ ببرَد الماء ظاهرَه فَمن لنار على الأحشاء تَتّقد والله ما قال هذا رجل صالح‏.‏
وكذبتْ عدوةُ الله عليها لعنة الله بل لم يكن مُرائيا ولكنه كان مَصْدورا فنَفث‏.‏
وقدم عُروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجِهم فقضاها ثم التفت إلى عُروة فقال له‏:‏ ألست القائل‏:‏ لقد علمتُ وخيرُ القول أصدَقهُ بأنّ رزْقي وإن لم آتِ يَأْتيني أسعى له فيُعنِّيني تَطَلُّبه ولو قعدت أتاني لا يُعَنّيني قال‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ فما أراك إلا قد سَعيت له‏.‏
قال‏:‏ سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين وخَرج عنه قولهم في المدح قال شَراحيل بن مَعْن بن زائدة‏:‏ حجّ الرشيد وزميلُه أبو يوسف القاضي وكنت كثيراً ما أسايره‏:‏ فبينما أنا أسايره إذ عرض له أعرابيّ من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وقَرّظه‏.‏
فقال له الرشيد‏:‏ ألم أَنْهك عن مثل هذا في شِعْرك يا أخا بني أسد إذا أنت قلت فقل كما قال مَروان بن أبي حَفصة في أبي هذا وأشار إليّ يقول‏:‏ بنوِ مَطر يوم اللِّقاء كأنهم أُسود لها في غِيل خِفَّان أَشْبُلُ همً يمنعون الجار حتى كأنما لجارهمُ بين السِّماكين منزل بها ليلُ في الإسلام سادُوا ولم يكُن كأوِّلهم في الجاهليّة أول هم القومُ إن قالوا أصابُواو إن دُعوا أجابُواو إنْ أَعطوا أَطابوا وأَجْزلوا وما يَستطيع الفاعلون فَعالَهم وإنْ أَحسنوا في النائبات وأَجملوا وقال عُتبة بن شمَّاس يَمدح عُمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى‏:‏ إنّ أولى بالحقّ في كل حَقٍّ ثُمّ أحرى بأن يكون حَقِيقَا مَن أبوه عبدُ العزيز بنُ مَرْوا ن ومَن كان جَدُّه الفَاروقا مَدحٍ عبّاس بن مِرْداس رسولَ الله {{صل}} فكَساه حُلَّة‏.‏
ومَدحه كَعب بن زهير كَساه بُردا اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألف درهم وإن ذلك البُرد لعند الخلفاء إلى اليوم‏.‏
وقال ابنُ عبّاس‏:‏ قال لي عُمر بن الخطّاب‏:‏ أنشدني قول زُهير‏.‏
فأنشدتُه قولَه في هَرِم بن سِنَان بن حارثة حيثُ يقول‏:‏ قومٌ أبوهم سِنان حين تَنْسبهم طابُوا وطابَ من الأفلاذ ما ولَدوا لو كان يُعقد فوق الشّمس من كَرم قوم بأولهم أو مَجْدهم قَعدوا جِنّ إذا فَزِعوا إنْس إذا أمنوا مُرَزَّءون بهاليل إذا احتَشدوا مُحسَّدون على ما كان مِن نِعم لا يَنزع الله منهم مالَه حُسدوا فقال له عمر‏:‏ ما كان أحبَّ إليّ لو كان هذا الشِّعر في أهل بيت رسول الله {{صل}}‏.‏
انظُر إلى ضنانة عُمر بالشعر كيف يرَ أحداً يَستحق مثل هذا المدح إلا أهلَ بيت محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏
وأسمع رجل عبد الله بنِ عمر بيتَ الحُطيئة‏:‏ مَتى تَأْتِه تَعْشو إلى ضوْء ناره تَجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِد فقال ذلك رسولُ الله {{صل}}‏.‏
فلم ير أحداً يَستحق هذا المدح غير رسول الله {{صل}} واستأذن نُصيب بن رَبَاح على عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له فقال‏:‏ أعْلموا أميرَ المؤمنين أنِّي قلتُ شعراً أوله الحمد للّه‏.‏
فأعلموه‏.‏
فأَذِن له فأُدخل عليه وهو يقول‏:‏ الحمدُ لله أما بعدُ يا عُمر فقد أتتْنا بك الحاجاتُ والقَدرُ فأَنت رأسُ قريش وابنُ سيِّدها والرأسُ فيه يكون السمع والبَصر فأَمر له بحلْية سَيفه‏.‏
ومدَحه جرير بشعره الذي يقول فيه‏:‏ هذِي الأراملُ قد قَضِّيت حاجتَها فَمَنْ لحاجةِ هذا الأرمل الذكرِ فأَمر له بثلثمائة دِرْهم‏.‏
ومدحه دُكين الرَّاجز فأَمر له بخَمس عشر ناقة‏.‏
ومَدح نُصيب بن ربَاح عبد الله بن جعفر فأَمر له بمال كثير وكُسوة ورَواحل‏.‏
فقيل له‏:‏ تَفعل هذا بمثل هذا العَبدِ الأسود فقال‏:‏ أمَا والله لئن كان عبداً إنّ شعره لحُر وان كان أسودَ إن ثناءه لأبيض‏.‏
وإنما أخذ مالاً يفَنى وثياباً تَبلى ورواحل تَنضى فأعطى مديحا يُروى وثَناءه يَبقى‏.‏
ودخل ابن هَرِم بن سِنان على عمرَ بن الخطاب فقال له‏:‏ مَن أنت قال‏:‏ أنا ابنُ هرم بن سنان‏.‏
قال‏:‏ صاحب زهير قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أما إنه كان يقول فيكم فيُحسن‏.‏
قال‏:‏ كذلك كنا وكان طُريح الثًقفي ناسكاً شاعراً فلما قال في أبي جعفر المَنصور قولَه‏:‏ أنت ابنُ مُسْلنِطح البِطاح ولم تَعْطِف عليك الحني والولُجُ لو قلت للسيل دَعْ طريقَك والمو جُ عليه كالليل يَعتلج لهمَّ أو كاد أو لكان له في سائر الأرض عنك مُنعرج طُوبىَ لفرعَيْك من هُنا وهُنا طوبَى لأعراقك التي تَشج قال أبو جعفر‏:‏ بلغني عن هذا الرجل أنه يتأله فكيف يقول للسّيل‏:‏ دع طريقك‏.‏
فبلغ ذلك طريحاً فقال‏:‏ الله يعلم أني إنما أردت‏:‏ يا رب لو قلت للسيل دع طريقك‏.‏
وقال الحطيئة لمّا حَبسه عمرُ بن الخطاب في هجائه للزّبرقان بنَ بدر أبياتاً يمدح فيها عُمر ويسَتعطفه‏.‏
فلما قرأها عمرُ عَطف له وأمر بإطلاقه وعفا عما سلف منه‏.‏
والأبيات‏:‏ ماذا تقول لأَفراح بذي مَرَخ زُغْبٍ الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ ألقيت كاسبَهم في قَعر مُظلمة فاغفر عليك سلامُ الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحِبه ألقَى إليك مقاليد النًّهى البَشر ما آثروك بها إذ قدّموك لها لكنْ لأنفسهم كانت بها الإثر ودخل ابن دارَة على عديّ بن حاتم صاحب رسول الله {{صل}} فقال‏:‏ إني مدحتُك‏.‏
قال‏:‏ أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حَسبه فإنّي أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول لي ألفُ شاة وألفُ دِرْهم وثلاثة أَعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حَبيس في سبيل الله فامدَحْني على حَسب ما أخبرتك‏.‏
فقال‏:‏ تحِنّ قَلوصي في مَعدٍّ وإنما تُلاقيِ الربيعُ في ديار بني ثُعَلْ وأبْقى الليالي مِن عَديّ بن حاتم حُساماً كنَصل السِّيف سُلَّ من الخِلَل أبوك جواد لا يُشق غُباره وأنت جواد ليس يُعذِر بالعِلل فإنْ تَفعلوا شرّاً فمثلكُم اتَّقى وإنْ تَفعلوا خيراً فمثلكُم فعل قال عديّ‏:‏ أمسك لا يبلغ مالي إلى أكثر من هذا‏.‏
قولهم في الهجاء قال الله تبارك وتعالى في هجو المشركين‏:‏ ‏"‏ والشَعَراءُ يَتبِعُهم الغَاوون‏.‏
آَلمْ تَرَ أَنّهم في كُلِّ وادٍ يَهيمون‏.‏
وأَنّهم يَقُولون ما لا يفعلونْ‏.‏
إلا الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحات وذَكَرُوا الله كَثيراً وانتصروا مِن بَعد ما ظُلموا وسَيَعْلَم الذين ظَلَموا أيَّ مُنْقَلب يَنْقَلبون ‏"‏ فأرْخَص الله للشعراء بهذه الآية في هِجائهم لمن تعرّض لهم يزيد بن عمرو بن تميم الخُزاعيّ عن أبيه عن جدّه‏:‏ أنَّ رجلاً أتى النبيَّ {{صل}} فقال‏.‏
يا رسول الله إن أبا سفيان يهجوك‏.‏
فقال رسولُ الله {{صل}}‏:‏ اللهم إنه هَجاني وإني لا أقول الشعر فاهجُه عني‏.‏
فقام إليه عبد الله بن رَواحة فقال‏:‏ يا رسول الله إيذن لي فيه‏.‏
قال‏:‏ أنت القائل‏:‏ قثبّت الله ما آتاك من حسن‏.‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ وإياك فثبت الله‏.‏
ثم قام إليه كعب بن مالك فقال‏:‏ يا رسول الله إيذن لي فيه‏.‏
فقال‏:‏ أنت القائل هممت قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ لستَ له‏.‏
ثم قام حسَّان بن ثابت فقال‏:‏ يا رسول الله إيذن لي فيه وأخرج لسانه فضَرب به أَرْنبة أنفه وقال‏:‏ والله يا رسول الله إنه ليخيَّل لي أني لو وضعتُه على حجر لفَلقه أو على شَعر لحَلقه‏.‏
فقال‏:‏ أنت له اذهب إلى أبي بكر يُخبرك بمثالب القوم ثم اهجهم وجبريل معك‏.‏
فقال يرد على أبي سفيان‏:‏ ألا أبلِغ أبا سفيان عَنِّي مغلغَلةً فقد برح الخَفاءُ هجوت محمداً وأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجَزاء أتهجوه ولست له بندٍّ فشركما لخير كما الفداء أمن يهجو رسوله الله منكم ويطريه ويمدحه سواء لنا في كُل يوم من مَعدٍّ سِباب أو قِتال أو هِجَاء لساني صارمٌ لا عيبَ فيه وبَحْري لا تُكدِّره الدِّلاء فإنّ أبي ووالدَه وعِرْضى لِعْرض محمد منكم وِقَاء وقال رجل من أهل اليمن‏:‏ دخلتُ الكوفة فأتيتُ المسجد فإذا بعَمار بن ياسر ورجل يُنشده هِجاء معاوية وعمرو بن العاص وهو يقول‏:‏ ألصق بالعجوزَيْن‏.‏
قلت له‏:‏ سبحان الله‏!‏‏.‏
أتقول هذا وأنتم أصحاب محمد {{صل}} قال‏:‏ إن شئت فاجلس وإن شئت فاذهب‏.‏
فجلست فقال‏.‏
أتدري ما كان يقول لنا رسول الله {{صل}} لما هجانا أهلُ مكة قلت‏:‏ لا أدري‏.‏
قال‏:‏ كان يقول لنا‏:‏ قولوا لهم مثل ما يقولون لكم‏.‏
وقال النبيّ صلى الله عليه زعمتْ سَخينة أنْ ستغلب ربَّها وليُغلبنّ مُغالب الغلاّب وسألت هُذيل رسولَ الله {{صل}} أن يُحل لها الزِّنا‏.‏
فقال حسان في ذلك‏:‏ سالت هذيل رسولَ الله فاحشةً ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب وقال عبد الملك بن مروان‏:‏ ما هجاني أحدٌ بأوجع من بيت هُجي به ابن الزُّبَير وهو‏:‏ فإن تُصِبْك مِن الأيام جائحة لم نَبك منك على دُنيا ولا دين وقيل لعَقيل بن علَّقة‏:‏ ما لك لا تُطيل الهجاء قال‏:‏ يَكفيك من القِلاَدة ما أحاط بالعنق‏.‏
وقال رجل من ثَقيف لمحمد بن مُناذر‏:‏ ما بالُ هجائك أكثر من مَدْحك قال‏:‏ ذلك مما أغراني به قومُك واضطرني إليه لؤمك‏.‏
وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ قلت لجرير‏:‏ إنك لعَفيف الفَرج كثيرُ الصَّدقة فَلِم تَسُب الناس قال‏:‏ يبدءوني ثم لا أغفر لهم‏.‏
وكان جرير يقول‏:‏ لست بمُبتدئ ولكنني مُعتدٍ - يريد أنه يُسْرفِ في القِصاص‏.‏
ومثله قوله الشاعر‏:‏ بني عمّنا لا تَنْطقوا الشعرَ بعدما دَفنتم بأفناء العُذَيب القَوافِيا فَلَسنا كَمن قد كنتمُ تَظْلِمونه فيقبل ضَيماً أو يحكم قاضيا ولكنّ حكم الصيف فيكم مُسلَط فنرضى إذا ما اصبح السيفُ راضيا فإن قلتُم إنّا ظَلمنا فلم نكُن ظَلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا أبو الحسن المدائني قال‏:‏ وفد جرير على عبد الملك بن مروان فقال عبد الملك للأخطل‏:‏ أتعرف هذا قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ هذا جرير قال الأخطل‏:‏ والذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتُك‏.‏
قال له جرير‏:‏ والذي أعمى بصيرتك وأدام خِزيتك لقد عرفتُك لَسِيماك سِيما أهل النار‏.‏
ابنُ الأعرابيّ قال‏:‏ دَخل كُثيّر عَزّة على عبد الملك فانشده وعنده رجل لا يعرفه‏.‏
فقال عبدُ الملك للرجل‏:‏ كيف تَرى هذا الشعر قال‏.‏
هذا شعر حِجازيّ دعني أضغَمه لك ضَغْمه‏.‏
قال كُثِّير‏:‏ مَن هذا يا أمير المؤمنين قال‏:‏ هذا الأخطل‏.‏
قال‏:‏ فالتفت إليه فقال له‏:‏ هل ضَغمتَ الذي يقول‏:‏ والتَغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى حكّ آستَه وتمثَّل الأمثالاَ تلقاهُم حُلَماء عن أعدائهم وعلى الصَّديق تراهم جُهَّالا حدّثنا يحيى بن عبد العزيز قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الحَكم بمصر قال‏:‏ كان رجل له صديق يقال له حُصين فَولى موضعاً يقال له السَّابَيْن فطلب إليه حاجةً فاعتلّ عليه فيها فكتب له‏:‏ لا أذهبْ إليك فإنّ وُدّكَ طالق مني وليس طلاقَ ذات البَيْنِ فإذا ارْعويتَ فإنها تَطْليقة وتُقيم وُدَّك لي على ثِنْتين وإذا أبيتَ شفعتُها بمثالها فيكون تَطليقان في حَيْضين لم أَرض أنْ أَهجو حُصيناً وحدَه حتى أسود وجهَ كل حُصين طَلب دِعبلُ بن عليِّ حاجة إلى بعض الملوك فصَرّح بمَنعه‏.‏
فكتب إليه‏:‏ أحسبتَ أرضَ الله ضيّقةً عنّي فأرضُ الله لم تَضِقِ وحَسبْتني فَقْعاً بِقَرْقرةٍ فوطِئْتَني وَطْئاً على حَنَقِ فإِذا سألتُك حاجةً أبدا فاضربْ بها قُفْلاً على غَلَق وأعِدَّ لي غُلاًّ وجامعةً فاجمع يديّ بها إلى عُنقي ثم ارم بي في قَعر مُظلمة إن عدتُ بعد اليوم في الحُمُق ما أطوَلَ الدُّنيا وأوسَعها وأدلَّني بمَسالك الطُّرق ومثل هذا قول أبي زُبيدة‏:‏ ليتكَ أَدّبتَني بواحدة تجعلها منكَ آخِرَ الأبدِ تَحِلف ألا تَبرّني أبداً فإنّ فيها بَرْداً على كَبِديَ إن كان رِزْقي إليك فارْم به في ناظرَيْ حية على رَصَدِ وقال زياد‏:‏ ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ من قول الشاعر‏:‏ سُبْحان من مُلْك عَبّاد بقُدرته لا يَدْفع الخلقُ محتومَ المَقادير وقال بِلاَل بن جَرير‏:‏ سألتُ أبي‏:‏ أيّ شيء أشدُّ عليك قال‏:‏ قولُ البَعِيث‏:‏ ألستَ كُليبياً إذا سِيم خُطّةً أقرَّ كإقرار الحَليلة للبَعْل وكل كُليبيّ صحيفة وجهه أذلُّ لأقدام الرّجال من النَعل وكان بلالُ بن جَرير شاعراً ابنَ شاعر ابنَ شاعر لأن الخَطفي جدَّه كان شاعراً وهو القائل‏:‏ ما زال عِصيانُنا لله يُسْلمنا حتى دفعنا إلى يَحيى ودينارِ إلى عُليجين لم تُقْطع ثِمارُهما قد طالما سَجداً للشمس والنّار ومن أخبث الهجاء قولُ جَميل‏:‏ أبوك حُباب شارق الضَّيف بُرْدَه وجدِّيَ يا شمّاخ فارسُ شَمَّرَا بنو الصّالحين الصالحون ومَن يَكُن لآباء سَوْء يَلْقهم حيث سَيَّرَا فإن تَغْضبوا من قِسمة الله فيكم فَللَهُ إذ لم يُرضِكم كان أبصرا وقال كُثير في نُصيب وكان أسودَ ويكني أبا الحَجناء‏:‏ رأيت أبا الحَجناء في الناس حائراً ولونُ أبي الحَجناء لونُ البهائِم يراه على ما لاحَه من سَواده وإن كان مَظلوماً له وجهُ ظالم ألم تَر أنّ الله أنزل نَصْره وسعدٌ بباب القادسيّة مُعْصِم فأُبْنا وقد آمتّ نساء كثيرة ونسْوة سَعد ليس فيهنّ أيَم فقال سَعد‏:‏ اللهم اكفني يَده ولسانَه‏.‏
فَخَرِس لسانُه وضُربت يدُه فقُطعت‏.‏
وذُكر عند المُبرّد محمد بن يزيد النحويّ رجلٌ من الشعراء فقال‏:‏ لقد هجاني ببيتين أنضجَ بهما كَبدي‏.‏
فاستنشدوه‏.‏
فأَنشدهم هذين البيتين‏:‏ سألنا عن ثُمالةَ كُلّ حَيّ فكُلّ قد أجاب ومَن ثُماله فقلتُ محمد بن يزيدَ منهم فقالوا الآن زِدْتهما جَهاله ولم يَقل أحدٌ في القبيح أحسنَ من قول أبي نُوَاس‏:‏ وقائِلةٍ لها في وَجْه نُصْحٍ علامَ قتلتِ هذا المُستهامَا فكان جوابُها في حُسن مَيْسِ أأجمع وجهَ هذا والحَراما وكان جرير يقول‏:‏ إذا هجوت فأضحك‏.‏
وينشَد له‏:‏ إذا سَعلتْ فتاةُ بَنى نُمير تلقَّمَ بابُ عِصْرِطها التُّرابا تَرى بَرصاً بمَجمع إسكَتيها كعَنْفقَة الفَرزدق حين شَابا وقوله أيضاً‏:‏ وقوله أيضاً‏:‏ أحين صِرْت سَماماً يا بني لجأ وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ هيأتمُ عُمَرا يحمي دياركم كما يُهيَّأ لاست الخارئ الحَجر وقال عليُّ بن الجهم يهجو محمدَ بن عبد الملك الزيَّات وزيرَ المتوكل‏:‏ أحسن من سبعين بيتاً سُدى جمعُك إياهنّ في بَيْتِ ما أحوَج المُلك إلى دِيمَة تَغسل عنه وَضَر الزَّيت وقالوا‏:‏ أَهجى بيت قالْته العرب قولُ الطرمّاح بن حَكيم‏:‏ تميم بطُرْق اللؤمٍ أهدَى من القَطَا ولو سَلكتْ سُبْلَ المَكارم ضَلَّت ولو أنّ بُرْغوثا على ظهر قَملة رأتْه تميمٌ يوم زحْفٍ لولّت ولو أن عُصفوراً يمُد جناحَه لقامت تميمٌ تحتَه واستظلّتِ وقال بعضُهم‏:‏ قولُ جرير في بني تَغلب‏:‏ والتّغلبيّ إذا تَنحنح للقِرَى حكّ آستَه وتمثّل الأمثالاَ ويقال‏:‏ قولُه‏:‏ قومٌ إذا اْستَنْبح الأضيافُ كلبَهُم قالوا لأمهم بُولِي على النّار قالوا الأشاقر تَهجوكم فقلتُ لهم ما كنتُ أحسبُهم كانوا ولا خُلِقُوا وهم من الحَسب الذّاكي بمنزلةٍ كطُحلب الماء لا أصلٌ ولا وَرَق لا يكثُرون وإن طالتْ حياتهم ولو يَبول عليهم ثَعلب غَرِقوا وقوله أيضاً‏:‏ قَضى الله خلقَ الناس ثم خُلقُتُم بَقِيَّةَ خَلْق الله آخرَ آخِر فلم تَسمعوا إلا الذي كان قبلكم ولم تُدركوا إلا مَدَقّ الحَوافر وقال فيهم‏:‏ قَبيلةٌ خَيرُها شرّها وأصدقُها الكاذب الآثم وضيفهُمُ وَسْطَ أبياتِهم وان لم يكن صائماً ضائمُ ونظير هذا قول الطِّرمَّاح‏:‏ وما خُلقتْ تَيْم وزَيد مَناتِها وضبَّةُ إلا بعد خَلق القَبائل ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم‏:‏ لو حان ورد تَميم ثم قِيل لهم حوض الرَّسول عليه الأزْدُ لم تَرِدِ لو كان يخفى على الرحمن خافية من خَلْقه خَفِيت عنه بنو أسد قومٌ أقام بدار الذل أوّلُهم كما أقامت عليه جذْمةُ الوَتِد ومثله قول المُساور بن هِنْد‏:‏ ما سرني أنّ قَوْمي من بني أسد وأنّ رَبيٍّ يُنْجيني من النارِ وأنهم زَوّجوني من بناتِهم وأنّ لي كلّ يوم ألفَ دينار ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع‏:‏ بلاد نأَى عني الصديقُ وسبّني بها عنزيَّ ثم لم أَتكلّم وقال عبيد‏:‏ يا أبا جعفر كتبتُك سَمْحاً فاستطال المِداد فالميم لامُ لا تلمني على الهِجماء فلم يَه جك إلا المدادُ والأقلام وقال سليمان بن أبي شَيخ‏:‏ كان أبو سَعيد الرَّاني يُماري أهل الكوفة ويفضل أهلَ المديِنة فهجاه رجل من أهل الكوفة وسّماه شرْشيراً‏.‏
وقال‏:‏ كلب في جهنم يُسمى شرْشيراً‏.‏
فقال‏:‏ عندي مسائلُ لا شَرْشير يَعرفها إنْ سِيل عنها ولا أصحاب شَرْشير لا تسألنَّ مَدينيّا فتُكْفِرهْ إلا عن البَمّ والمَثْنى أو الزِّير فكتب أبو سعيد إلى أهل المدينة‏:‏ إنكم قد هُجيتم فرُدُّوا‏.‏
فَرَد عليه رجل من أهل المدينة يقول‏:‏ لقد عجبت لغَاوٍ ساقَه قدر وكُل أمر إذا ما حُمّ مَقدورُ قالوا المدينة أرضَ لا يكون بها إلاّ الغِناء وإلاِّ البمّ والزّير لقد كذبتَ لعمر الله إنّ بها قَبرَ النبي وخير الناس مَقْبور قال‏:‏ فما انتَصر ولا انتُصر به فليته لم يَقُل شيئاَ‏.‏
وقال‏:‏ فساور الوراق في أهل القِياس‏:‏ كُنا من الدّين قبل اليوم في سَعِةٍ حتى بُلِينا بأصحاب المقاييس قامُوا من السُوق إذ قلّت مكاسبُهم فاستعمَلوا الرأيَ بعد الجَهد والبوس أمِّا العُرَيْب فأمَسوْا لا عطَاءَ لهم وفي المَوالي علاماتُ المفاليس قال‏:‏ فلقيه أبو حَنيفة فقال له‏:‏ هجوْتنا نحن نرضيك فبعث إليه بدراهم فَكفَّ عنه وقال‏:‏ إذا ما الناسُ يوماً قايسُونا بمسألة من الفُتيا طريفَهْ أتيناهم بمقْياس صَحيح بَديع من طِراز أبي حَنِيفة ومن خبيث الهجاء قولُ الشاعر‏:‏ عَجِبْت لعبدانٍ هَجوْني سَفاهةً أَن اصطَبحوا من شائِهم وتَقيَّلُوا بِجَاد وَرَيْسان وفِهْر وغالب وعَون وهِدْم وابن صِفْوة أَخيلُ فأمّا الذي يُحصيهم فمُكَثِّر وأمّا الذي يطريهم فمُقلِّل وقال أبو العتاهية في عبد الله بن مَعن بن زائدة‏:‏ قال ابنُ مَعْنِ وجَلَى نَفسه على القَرابات مِن الأَهل هَل في جَوارِي الحَيّ من وائل جاريةٌ واحدة مِثْلي أُكْنَى أبا الفضل فيا مَن رأى جاريةً تُكنى أبا الفَضْل قد نقطت في خدِّها نُقطةً مخافةَ العَين من الكُحل مداراة الشعراء وتَقيتهم أبو جعفر البَغداديّ قال‏:‏ مَدح قومٌ من الشعراء بن سُليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبَّاس فماطلهم بالجائزة وكان الخليلُ بن أحمد صدَيقه وكان وقتَ مَدْحهم إياه غائباً فلمّا قَدِمَ الخليلُ أَتَوْه فأخبروه واستعانوا به عليه فكتب إليه‏:‏ لا تَقبلنّ الشعر ثم تَعُقه وتَنام والشعراءُ غيرُ نيام واعلم بأنهمُ إذا لم يُنصَفوا حَكموا لأنفسهم على الحُكّام وجنايةُ الجاني عليهم تَنْقضي وعقابُهم باقٍ على الأيّام فأجازهم وأحسن إليهم‏.‏
وقال النبيُّ {{صل}} لمّا مدحه عبّاس بن مِرْداس‏:‏ اقطعوا عنّي لسانَه‏.‏
قالوا‏:‏ بماذا يا رسولَ الله فأمر له بحُلة قَطع بها لسانَه‏.‏
ومَدح ربيعةُ الرقيّ يزيدَ بنَ حاتم وهو والي مصر فتشاغل عنه ببعض الأمور واستبطأه ربيعةُ فشخص من مصر وقال‏:‏ أُراني ولا كُفران لله راجعاً بخُفَّيْ حُنين من نَوال ابنِ حاتِم فبلغ قولُه يزيدَ بن حاتم فأرسل في طلبه وردّه‏.‏
فلمّا دخل عليه قال له‏:‏ أنت القائل‏:‏ قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ هل قُلت غير هذا قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ والله لترجعنّ بِخُفيِّ حُنين مملوءتين مالاً فأمر بخَلْع خُفيه وأن تُملا له مالاً‏.‏
ثمّ قال‏:‏ أَصْلح ما أفسدت من قولك‏.‏
فقال فيه لما عُزل من مصر ووُلّي مكانَه يزيدُ بن حاتم السُّلمي‏:‏ بَكى أهلُ مصر بالدموع السَّواجِم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم لشتّان ما بيت اليَزيدين في النّدى يزيد سليمٍ والأغرِّ ابن حاتم فَهَمُّ الفَتى القَيْسيّ إنفاقُ مالِه وهَمُّ الفَتى العَبْسيّ جَمْعُ الدَّراهم فلا يَحسب التَّمتامُ أنّي هجوته ولكنًني فضّلتُ أهل المَكارم وأعلم أنّ تقيّةَ الشعراء من حِفظ الأعراض التي أمر الله تعالى بحفظها‏.‏
وقد وضعنا في هذا الكتاب باباً فيمن وضعه الهجاء ومَن رفعه المدح‏.‏
وكان لزياد عامل على الأهوازِ يقال له‏:‏ تَيم‏.‏
فمدحه رجلٌ من الشعراء فلم يعطه شيئاً‏.‏
فقال له الشاعر‏:‏ أما إني لا أهجوك ولكنّني سأقول فيك ما هو شرّ عليك من الهجاء فدخل على زياد فأسمعه شعراً مدحه فيه وقال في بَعضه‏:‏ وكائن عند تَيْم مِن بُدُور إذا ما صُفِّدتْ تدعو زِياداً دعَتْه كي يُجيب لها وشيكاً وقد مُلئت حناجرُها صِفاداً
===باب في رواة الشعر===
قال الأصمعيّ‏:‏ ما بلغتُ الحلُم حتى رويتً اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب‏.‏
وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده‏.‏
قال مَروان بن أبي حَفْصة‏:‏ لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولًه‏:‏ طرقْتك زائرةً فحيِّ خَيالَهَا بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة فدخلتُ المسجد الجامع فتصفَحت الحَلَق فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي فجلستُ إليه فقلتُ له‏:‏ إني مدحتُ المهديَّ بشعر وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل‏.‏
فقال‏:‏ يا بن أخي إنّ هاهنا خَلَفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضَر فإذا حَضر فأسْمعه‏.‏
فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر‏.‏
فلمّا جلس جلستُ إليه ثم قلت له ما قلتُ ليونس‏.‏
فقال‏:‏ أنشد يا بن أخي‏.‏
فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره‏.‏
فقال لي‏:‏ أنتَ والله كأعشى بكر بل أنت أشعرُ منه حيث يقول‏:‏ رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن وينَحله الشعراء‏.‏
ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً وهو‏:‏ إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ لخلَف الأحمر وإنه نَحله إياه‏.‏
وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية يَخلط الشعر القديم بأبيات له‏.‏
قال حماد‏:‏ ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر‏.‏
قيل له‏:‏ وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى فقال‏:‏ وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا وقال حمّاد الراوية‏:‏ أرسل إليّ أبو مُسلم ليلاً فراعني ذلك فلبستُ أكفاني ومضيتُ‏.‏
فلما دخلتُ عليه تركني حتى سَكن جأشي ثم قال لي‏:‏ ما شِعر فيه أوتاد قلت‏:‏ من قائله أصلح الله الأمير قال‏:‏ لا أدري‏.‏
قلت‏:‏ فمِن شعراء الجاهلية أم مِن شُعراء الإسلام قال‏:‏ لا أدري‏.‏
قال‏:‏ فأطرقتُ حيناً أفكر فيه حتى بدر إلى وَهمي شعر الأفوه الأوديّ حيث يقول‏:‏ لا يَصلح الناسُ فوضىَ لا سراةَ لهم ولا سَراةَ إذا جُهّالهم سادُوا والبيت لا يُبتنَي إلا له عَمَد ولا عِمادَ إذا لم تُرْس أوتاد فقلت‏:‏ هو قَوْل الأَفوه الأودي أصلح الله الأمير وأنشدته الأبيات‏.‏
فقال‏:‏ صدقتَ انصرفْ إذا شئتَ‏.‏
فقمتُ فلما خطوتُ البابَ لحَقني أعوان له معهم بَدْرة فصَحِبوني إلى الباب‏.‏
فلما أردتُ أن اقبضها منهم قالوا‏:‏ لا بُدّ مِن إدخالها إلى موضع مَنامك‏.‏
فدخلوا معي فعرضتُ أنْ أعطيهِم منها‏.‏
فقالوا‏:‏ لا نقدم على الأمير‏.‏
الأصمعيّ قال‏:‏ أقبل فِتْيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء فقال‏:‏ ما جاء بكم قالوا‏:‏ جِئنا نتحدّث إليك‏.‏
قال‏:‏ كذبتم يا خُبثاء ولكنْ قُلتم‏:‏ كَبر الشيخُ فهلم بنا عسى أن نأخذَ عليه سَقطة قال‏:‏ فأَنشدهم لمائة شاعر كُلهم اسمه عمرو‏.‏
وقال الأصمعي‏:‏ فعددتُ أنا وخَلف الأَحمر فلم نَزد على أكثر من ثلاثين‏.‏
وقال الشَّعبي‏:‏ لستُ لشيء من العُلوم أقلَّ رواية مني للشعر ولو شئتُ لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً‏.‏
وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً‏.‏
وكذلك كان الأصمعي‏.‏
وقيل للأصمعي‏:‏ ما يمنعك من قول الشعر قال‏:‏ نَظري لجيِّده‏.‏
وقيل للخليل‏:‏ ما لك لا تقول الشعر قال‏:‏ الذي أريده لا أجده والذي أجده منه لا أريده‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما لك تَروي الشعر ولا تقوله قال‏:‏ لأني كالمسَنّ أَشحذ ولا أَقطع‏.‏
وقال الحسنُ القاسم بن محمد السّلاميّ قال‏:‏ حدَّثنا أحمد بن بِشْر الأطْروش قال‏:‏ حدَّثني يحيىِ بن سَعيد قال‏:‏ أخبرني الأصمعيِّ قال‏:‏ تصرَفتْ بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤِمِّلاً للظفر بما كان في الهِمَّة دفيناً أترقّب به طالع سَعد يكون على الدَّرك مُعيناً‏.‏
فاتَصل بي ذلك إلى أن كنت للحرسِ مُؤْنساً بما استملتُ به مودتَهم‏.‏
فكنتُ كالضَّيف عند أهل المبرة‏.‏
فطَرقتُهمِ متوجِّهاً بإتحافي‏.‏
وطاولْتني الغايات بما كِدْت أصِير به إلى مَلالة غير أنني لم أزل مُحْيِياً للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفَترة وقلتُ في ذلك‏:‏ وأيُّ فتى أعِير ثباتَ قَلْب وساع ما تَضِيق به المَعاني تجاذبه المواهبُ عن إباء ألاّ بل لا تُواتيه الأمانَي فرُبَّ مُعرَّس للناس أجلى عن الدَرك الحميد لدى الرِّهان وأيّ فتى أناف على سُموّ مِن الهمّات مُلْتهبَ الْجَنَان بغير توسُّع في الصَّدرماض على العَزمات كالعَضْب اليَماني فلم نَبْعد أنْ خرج علينا خادم في ليلةٍ نَثرت السعادةَ والتوفيق وذلك أن الرشيد تربّعِ الأرقُ بين عينيه فقال‏:‏ هل بالحَضرة أحدٌ يحسن الشعر فقلت‏:‏ الله أكبر رُبّ قيْد مُضيَّق قد فكّه التَيسير للإنعام‏.‏
أنا صاحبُك إن كان صاحبُك مَن طلب فأدمن أو حَفِظ فأَتقن‏.‏
فأَخذ بيدي ثم قال‏:‏ ادخل إنْ يحتم الله لك بالِإحسان لديه والتَّصويب فلعلّها تكون ليلةً تُعوِّض صاحبها الغِنى‏.‏
قلت‏:‏ بَشرك الله بالخير‏.‏
قال‏:‏ ودخلتُ فواجهتُ الرَشيد في البهو جالساً كإنّما رُكِّبب البدرُ فوق أزراوه جمالاً والفضلُ بن يحيى إلى جانبه والشَمع يحُدق به على قضب المَنابر والخَدم فوق فَرشه وُقوف‏.‏
فوقف بي الخادم حيث يَسمع تَسْليمي ثم قال‏:‏ سَلِّم‏.‏
فسلّمت‏.‏
فردّ ثم قال‏:‏ يُنَحَّى قليلاً ليسكن روعه إن وجد للرَّوْعة حساً‏.‏
فقعدتُ حتى سكن جأشي قليلاً ثم أقدمتُ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إضاءة كَرمك وبَهاء مجدك مُجيران لمن نَظر إليك من اعتراض أذَّية له أيسألني أمير المؤمنين فأجيب أم أبتدئ فأصيب بيُمن أمير المؤمنين وفَضْله قال‏:‏ فتبسّم إليَّ الفَضلُ ثم قال‏:‏ ما أحسن ما أستدعى الاختبار وأسهلّ به المُفاتحة وأجْدر به أن يكون محسناً‏.‏
ثم قال الفضل‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزاً مُحسناً في استشهاده على براءته من الحَيْرة وأرجو أن يكون مُمْتعاً‏.‏
قال‏:‏ أرجو‏.‏
ثم قال‏:‏ ادْنُ‏.‏
فدنوتُ‏.‏
فقال‏:‏ أشاعرٌ أم راوية قلت‏:‏ رواية يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ لمن قلت‏:‏ لذى جِدٍّ وهَزْل بعد أن يكون محسناً‏.‏
قال‏:‏ والله ما رأيتُ أوعى لعِلم ولا أخير بَمحاسنِ بيان قَتقَتْه الأذهان منك‏.‏
ولئن صرتُ حامداً أثرَك لتعرفن الإفضال مُتوجِّهاً إليك سريعاً‏.‏
قلت‏:‏ أنا على الميْدان يا أمير المؤمنين فيُطلق أميرُ المؤمنين من عِقالي مُجيباً فيما أحبه‏.‏
قال‏:‏ قد أنصف القارةَ مَن راماها‏.‏
ثم قال‏:‏ ما معنى المثل في هذه الكلمة بَديّاً قلت‏:‏ ذكرت العربُ يا أمير المؤمنين أنَ التتابعة كانت لهم رُماة لا تقع سِهامهم في غير الحَدق وكانت تكون في المَوْكب الذي يكون فيه المَلك على الجياد البُلْق بأيديهم الأسورةُ وفي أعناقهم الأطواق تُسميهم العرب القارة‏.‏
فخرج من موكب الصُغد فارس مُعْلَم بعَذَبات سُود في قَلنْسوته قد وضع نُشابته في الوتر ثم صاح‏:‏ أين رُماة الحرب قالوا‏:‏ قد أنصف القارة مَن راماها‏.‏
والملك أبو حسَّان إذ ذاك المضاف إليه‏.‏
قال‏:‏ أحسنت‏!‏ أرويتَ للغجَّاج ورُؤبة شيئاً قلت‏:‏ هما يا أمير المُؤمنين يتناشدان لك بالقَوافي وإن غابا عنك بالأشخاص‏.‏
فمدَ يدَه فأخرج من تحت فراشه رُقعة ينظر فيها ثم قال‏:‏ اسْمعني‏:‏ ارقني طارقُ هّم طَرَقا فمضيتُ فيها مُضي الجَواد في سَنن مَيدانه تَهْدِرُ بها أشداقي حتى إذَا صَرتُ إلى امتداح بني أمية ثَنيتُ عِنان اللسان إلى امتداحه المنصورَ في قوله‏.‏
قُلْت لزِيرٍ لم تَصِلْه مَرَيمه قال‏:‏ أعن حَيْرة أمِ عن عَمد قلت‏:‏ بل عن عمد تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده‏.‏
قال الفضل‏:‏ أحسنتَ بارك الله فيك مثلك يُؤمَّل لهذا الموقف‏.‏
قال الرشيد‏:‏ أرجع إلى أول هذا الشعر‏.‏
فأخذتُ من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلتُ‏.‏
فقال الفَضل‏:‏ ما لك تُضيِّق علينا كَلّ ما اتسع لنا من مساعدة السَّهر في ليلتنا هذه بذكر جَمل أَجرب صِرْ إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره‏.‏
فقال الرشيد‏:‏ اسكت هي التي أخرجتْك من دارك وأَزعجتك من قَرارك وسلبتْك تاجِ مُلكك ثم ماتت فعملت جلودها سِياطاً يضرب بها قومُك ضربَ العبيد ثم قهقه‏.‏
ثم قال‏:‏ لا تَدع نفسك والتعرّضَ لما تكره‏.‏
فقال الفضل‏:‏ لقد عُوقبتُ على غير ذنب والحمد للّه‏.‏
قال الرشيد‏:‏ أخطأتَ في كلامك يرحمك الله لو قلتَ‏:‏ وأستغفر الله قلتَ صواباً وإنما يُحمد الله على النعم‏.‏
ثم صَرف وجهه إليّ وقال‏:‏ ما أحسن ما أدَّيت في قدر ما سئلت أسمعني كلمةَ عديِّ بن الرّقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك‏:‏ عَرف الدِّيار توهماً فاعتادها فقال الفضل‏:‏ يا أمير المؤمنين ألبستْنا ثوبَ السهر ليلتَنا هذه لاستماع الكذب لمَ لا تأمره أن يُسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك قال‏:‏ ويحك‏!‏ إنه أدب ما يُخطب أبكاره بالنّسب وقلّما يُعتاض عن مثله‏.‏
ولأن أسمع الشعر ممن يَخْبره وشغلته العنايةُ به عُمرَه أحبُّ إليّ من أن تُشافهني به الرُّسوم‏.‏
وللمُمتَدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدُر من غير انتفاع بها‏.‏
ولا أكون أول مُستنّ طريقة ذِكْر لم تؤدها الرواية‏.‏
قال الفضل‏:‏ قد والله يا أميرَ المؤمنين شاركتُك في الشوق وأعنتُك على التّوْق‏.‏
ثم التفتَ إليّ الفضلِ فقال‏:‏ أحْدُ بنا ليلتك مُنشداً هذا سيدي أمير المُؤمنين قد أصغى إليك مُستمعاً فمُر وَيحك في عِنان الإنشاد فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانماً‏.‏
قال الرشيد‏:‏ أمّا إذا قطعتَ عليّ فأحلف لتشركنّي في الجزاء‏.‏
فما كان لي في هذا شيء لم تُقاسمنيه‏.‏
قال الفضل‏:‏ قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدّماً فلا تَجعلنّه وعيداً‏.‏
قال الرشيد‏:‏ ولا أجعله وَعيداً‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ الآن ألبس رداء التِّيه على العرب كلها إني أرى الخليفة والوزير وهما يَتناظران في المَواهب لي‏.‏
فمررتُ في سنن الإنشاد حتى إذا بلغتُ إلى قوله‏:‏ تُزْجِي أَغنَّ كأن إبرة رَوْقة قَلَم أصابَ من الدَّواة مِدادَها فاستوى جالساً ثم قال‏:‏ أتحفظ في هذا شيئاً قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏
قال الفرزدق‏:‏ لما قال عَدي‏:‏ تزجي أغنّ كأن إبرة رَوْقة قلت لجرير‏:‏ أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبِيهاً فقال جرير‏:‏ قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها فما رجع الجواب حتى قال عديّ‏:‏ فقلت لجرير‏:‏ ويحك‏!‏ لكأن سَمعَك مَخبوء في فؤاده‏.‏
فقال جرير‏:‏ اسكت شغَلني سَبُّك عن جَيّد الكلام‏.‏
ثم قال الرشيد‏:‏ مُرَّ في إنشادك‏.‏
فمضيت حتى بلغت إلى قوله‏:‏ ولقد أراد الله إذ ولاكها من أُمةٍ إصلاحَها ورَشادها قال الفضل‏:‏ كذب وما برّ‏.‏
قال الرشيد‏:‏ ماذا صَنع إذ سمع هذا البيت قلت‏:‏ ذكرت الرواةُ يا أمير المؤمنين أنه قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلاّ بالله‏.‏
قال‏:‏ مُرّ في إنشادك‏.‏
فمضيت حتى بلغت إلى قوله‏:‏ تأتيه أَسْلاب الأعِزة عَنوَةً عُصَباً وتَجمع للحُروب عَتادَها قال الرشيد‏:‏ لقد وصفه بحَزم وعزم لا يَعْرِض بينهما وَكْلٌ ولا استذلال‏.‏
قال‏:‏ فماذا صَنع قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال‏:‏ ما شاء الله‏.‏
قال‏:‏ أحسبك وَهمت قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنت أولى بالهِداية فليردّني أميرُ المؤمنين إلى الصواب‏.‏
قال‏:‏ إنما هذا عند قوله‏:‏ ولقد أراد الله إذ ولاّكها من أُمة إصلاحَها ورشادَها ثمّ قال‏:‏ والله ما قلت هذا عن سَمع ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يمكن يُخطئ في مثل هذا‏.‏
قال الأصمعيّ‏:‏ وهو والله الصواب‏.‏
ثم قال‏:‏ مُرَّ في إنشادك‏.‏
فمضيتُ حتى بلغت إلى قوله‏:‏ وقال‏:‏ وكان من خَبرهم ماذا قلت‏:‏ ذكرت الرواة أن جريراً لمّا أنشد عدي هذا البيت قال‏:‏ بلى والله وعشر مِئين‏.‏
قال عديّ‏:‏ وَقْر في سمعك أثفل من الرصاص‏.‏
هذا والله يا أمير المؤمنين المَديح المُنتقى‏.‏
قال الرشيد‏:‏ والله إنه لنقيّ الكلام في مَدْحه وتَشبيبه‏.‏
قال الفضل‏:‏ يا أمير المؤمنين لا يُحسنِ عديّ أن يقول‏:‏ شُمسُ العَداوة حتى يُستقاد لهم وأعظم الناس أحلاماً إذا قَدروا قال الرشيد‏:‏ بلى‏.‏
قد أحسن إذ يقول في الوليد‏:‏ لِلْحمد فيه مذاهب ما تَنتهي ومكارم يَعْلون كُلَّ مكارم ثمّ التفت إليَّ فقال‏:‏ ما حفظتُ له في هذا الشعر شيئاً حين قال‏:‏ أطفأتَ نِيران الحُروب وأُوقدت نارٌ قَدَحْتَ براحتيك زِنادهَا قلت‏:‏ ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حَك يميناً بشمال مُقتدحاً بذلك ثم قال‏:‏ الحمد لله على هبة الإنعام‏.‏
ثم قال الرشيد‏:‏ أرويتَ لذي الرُّمة شيئاً قلت‏:‏ الأكثر يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ والله إني لا أسألك سؤال امتحان وما كان هذا عليك ولكنّني أجعله سبباً للمُذاكرة فإن وَقع عن عِرْفانك شيء فلا ضيق عليك بذلك عِندي فما ذا أراد بقوله‏:‏ مُمَرّ أَمرّت مَتْنَه أسديّة يَمانيّة حَلالة بالمَصانِع قلت‏:‏ وصف يا أمير المؤمنين حماراً وحشِيَّاً أسمنه بَقل رَوضة تشابكت فروعه ثم تواشجت عُروقه من قَطْر سحابة كانت في نَوء الأسد ثم في الذَراع منه‏.‏
قال‏:‏ أصبتَ‏.‏
أفترى القومَ علموا هذا من النجوم بنظرهم إذ هو شيء قَلّما يُستخرج بغير السبب الذي رُويت لهم أصوله أو أَدَّتهم إليه الأوهام والظُّنون فالله أعلم بذلك‏.‏
قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا كثير في كلامهم ولا أحسبه إلا عن أثر أُلْقي إليهم‏.‏
قال‏:‏ قلّما أجد الأشياء لا تُثيرها إلاّ الفكر في القُلوب‏.‏
فإن ذهبتَ إلى أنه هِبة الله ذكّرهم بها ذهبتَ إلى ما أدَتهم إليه الأوهام‏.‏
ثم قال‏:‏ أرويتَ للشّماخ شيئاً قلتُ‏:‏ نعم يا أمير المؤِمنين‏.‏
قال‏:‏ يُعجبني منه قولُه‏:‏ إذا رُدَّ من ثِنْي الزِّمَام ثَنتْ له جِراناً كخُوط الخَيْزران المُمَوَّج قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين هي عَروس كلامه‏.‏
قال‏:‏ فأيها الحسن ألان من كلامه قلت‏:‏ الرائيّة وأنشدتُه أبياتاً منها‏.‏
قال‏:‏ أمسك ثمّ قال‏:‏ أستغفر الله ثلاثاً أَرِحْ قليلاً واجلس فقد أمتعتَ مُنشداً ووجدناك مُحسناً في أدبك مُعبراً عن سرائر حفظك‏.‏
ثم التفت إلى الفضل فقال‏:‏ لكَلام هؤلاء ومَن تقدّم من الشعراء دِيباجُ الكلام الخُسْرواني يَزيد على القَدِم جِدّة وحُسناً‏.‏
فإذا جاءك الكلام المُزيَن بالبديع جاءك الحرير الصِّينيّ المُذهّب يَبقى على المُحادثة في أفواه الرواة‏.‏
فإذا كان له رَوْنق صَوَاب وَعَته الأسماع ولَذّ في القلوب ولكن في الأقل منه‏.‏
ثم قال‏:‏ يُعجبني مثلُ قول مُسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته مفتخراً عليها بطُول السّرى في اكتساب المغانم حيث قال‏:‏ أجدّكِ هل تَدرين أن رُبَ ليلةٍ كأنّ دُجاها من قُرونك يُنشَر صبرتُ لها حتى تجلّت بُغرة كغُرة يحيى حين يُذكر جَعفر أفرأيت ما ألطف ما جعلهما مَعدناً لكمال الصفات ومَحاسِنها ثم التفت إليّ فقال‏:‏ أجدُ ملالة ولعلِّ أبا العبّاس يكون لذلك أنشط وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه فأقِم معه مُسامراً له ثم نَهض‏.‏
فتبادر الخدم فأمسكوا بيده حتى نزل عن فَرشه ثم قُدّمت النعل فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يُسوّي عَقب النعل في رجْله‏.‏
فقال له‏:‏ ارفُق ويحك حَسْبك قد عَقرتني‏.‏
قال الفضل‏:‏ لله دَرُّ العَجم ما أحكم صَنعتهم لو كانت سِنْديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة‏.‏
قال‏:‏ هذه نَعلي ونَعل آبائي رحمة الله عليهم وتلك نَعلك ونعل آبائك‏.‏
لا تزال تُعارضني في الشيء ولا أَدعك بغير جواب يُمضّك ثم قال‏:‏ يا غلام عليّ بصالح الخادم‏.‏
فقالت‏:‏ يُؤمر بتَعجيل ثلاثين ألفَ درهم في ليلته هذه‏.‏
قال الفضل‏:‏ لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين‏.‏
فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألفَ درهم‏.‏
وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء الله‏.‏
قال الأصمعيّ‏:‏ فما صليت الظَّهر إلا وفي منزلي وقال دِعبل بّن علي الخُزاعي‏:‏ يَموت رديء الشَعر من قبل أهلِه وجيّده يَبقى وإن مات قائلُه وقال أيضاً‏:‏ إنّي إذا قلتُ بيتاً مات قائله ومَن يقال له والبيتُ لم يَمُتِ باب مَن استعدى عليه من الشعراء لما هَجا الحُطيئة الزِّبرقان بنَ بَدْر بالشّعر الذي يقول فيه‏:‏ دَع المكارِم لا تَرْحل لبُغيتها واقعُد فإنك أنت الطاعِم الكاسي إستعدى عليه عمرَ بن الخطّاب وأنشده البيتَ‏.‏
فقال‏:‏ ما أرى به بأساً‏.‏
قال الزِّبرقان‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ منه‏.‏
فبعث إلى حسّان بن ثابت وقال‏:‏ انظُر إن كان هجاه‏.‏
فقال‏:‏ ما هَجاه ولكن سَلح عليه‏.‏
ولم يكن عُمر يَجهل موضع الهجاء في هذا البيت ولكنه كَره أن يتعرّض لشأنه فبعث إلى شاعر مثله وأمر بالحُطيئة إلى الحَبس وقال‏:‏ يا خَبيث‏!‏ لأشغلّنك عن أعراض المسلمين‏.‏
فكتب إليه من الحَبس يقول‏:‏ ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ زغب الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة فاغفِر عَليك سلامُ الله يا عُمر أنت الإمام الذي مِن بعد صاحبه أَلقت إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر ما آثروك بها إذ قدَّموك لها لكنْ لأنفسهم قد كانت الإثَر فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلاً مُسلماً‏.‏
ولمِّا هجا النجاشيُ رهطَ تميم بن مُقبل استعدَوا عليه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّه هجانا‏.‏
قال‏:‏ وما قال فيكم قالوا‏:‏ قال‏:‏ إذا الله عادَى أهل لُؤم ورقة فعادَى بني عَجْلان رَهْط ابنِ مُقبل قال عمر‏:‏ هذا رجل دعا فإن كان مظلوماً استُجيب له وإن لم يكن مظلوماً لم يُستجب له‏.‏
قالوا‏:‏ فإنه قد قال بعد هذا‏:‏ قبيلته لا يَخْفرون بذمَة ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَرْدل قال عمر‏:‏ ليت آلَ الخطاب مثل هؤلاء‏.‏
قالوا‏:‏ فإنه يقول بعد هذا‏:‏ ولا يَردون الماءَ إلا عشية إذا صَدر الوْرَّاد عن كُل مَنْهل قال‏:‏ فإن ذلك أَجَمّ لهم وأمكن‏.‏
قَالوا‏:‏ فإنه يقول بعد هذا‏:‏ وما سمَي العَجلان إلاّ لقَولهم خُذ القَعْب واحلب أيها العَبْد واعجل قال عمر‏:‏ سيِّد القوم خادمُهم فما أرى بهذا بأساً‏.‏
ونظير هذا قول معاوية لأبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري وكان دَخل حمّاما فزحمه رجل فرفع رجلُ يده فلَطم بها أبا بُردة فأثر في وجهه‏.‏
فقال فيه عُقَيبة الأسديّ‏:‏ لا يَصرم الله اليمينَ التي لها بوَجهك يابنَ الأشعريّ نُدوبُ قال‏:‏ فاستعدى عليه مُعاوية وقال‏:‏ إنّه هَجاني‏.‏
قال‏:‏ وما قال فيك فأنشده البيت‏.‏
قال معاوية‏:‏ هذا رجل دَعا ولم يقل إلا خيراً‏.‏
قال‏:‏ فقد قال غير هذا‏.‏
قال‏:‏ وما قال فأنشده‏:‏ وأنت اْمرؤٌ في الأشْعرين مُقابَل وفي البَيت والبَطحاء أنت غَريبُ قال معاوية‏:‏ وإذا كنتَ مُقابَلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابَلا في غيرهم‏.‏
قال‏:‏ فقد قال غير هذا‏.‏
قال‏:‏ وما قال قال قال‏:‏ وما أنا من حُدّاث أمك بالضُّحى ولا مَن يُزكِّيها بظَهر مَغِيبِ قال‏:‏ إنما قال‏:‏ ما أنا من حدَاث أمك فلو قال‏:‏ إنه من حُدَّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب‏.‏
والذي قال لي أشد من هذا‏.‏
قال‏:‏ وما قال لك يا أمير المؤمنين قال قال‏:‏ مُعاويَ إننا بَشرٌ فأسجِحْ فَلسْنا بالجبال ولا الحديدِ أكلتُم أرضَنا وجَردتموها فهل من قاَئم أو من حَصِيد فَهَبْنا أُمةً هَلَكت ضَياعاً يَزيدُ أميرُها وأبو يَزيدِ أتطمع بالخُلود إذا هَلَكنا وليس لنا ولا لك مِن خُلود ذَرُواجَور الخلافة واستقِيموا وتأميرَ الأرازل والعَبيد قال‏:‏ فما مَنعك يا أميرَ المًؤمنين أن تَبعثَ إليه مَن يضرب عُنقه قال‏:‏ أو خَيْر من ذلك قال‏:‏ استعدى قومٌ زيادا على الفَرزدق وزعموا أنه هَجاهم‏.‏
فأرسل إليه وَعَرض له أن يُعطيه‏.‏
فهرب منه وأنشده‏:‏ دَعانِي زيادٌ للعَطاء ولم أكُن لأقْرَبه ما ساق ذو حَسَب وَفرا وعِنْد زياد لو يريد عطاءَهم رجالٌ كثيرٌ قد يَرى بهمُ فَقْرا فلمّا خَشِيتُ أن يكون عطاؤه أداهم سُودا أو مُحَدْرَجة سمرا نَهضتُ إلى عَنْس تَخوَّن نيها سُرى الليل واستعراضُها البلدَ القَفْرا يَؤم بها المَوماة مَن لا ترى له لدى ابن أبي سُفيان جاهاً ولا عُذرا ثم لحق بَسعيد بن العاص وهو والي المدينة فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه‏:‏ إليك فررتُ منك ومن زيادٍ ولم أحْسب دمِي لكما حَلالاً فإنْ يكُن الهِجاء أحلّ قَتْلي فقد قُلنا لشاعركم وقَالا ترى الغُر السوابق من قريش إذا مِا الأمرُ في الحَدَثان عالا قِياماً يَنْظرون إلى سعيد كأنَهمُ يَرَوْن به هلالا ولما وقع التّهاجي بين عبد الرحمن بن حسَّان وعبد الرحمن بن أم الحكَم أرسل يزيد بنُ مُعاوية فاهْج الأنصار‏.‏
فقال‏:‏ أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان لا أهجوا قوماً نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم ولكن أدلك على غُلامٍ منّا نصرانيّ‏.‏
فدلّه على الأخطل‏.‏
فأرسل إليه فهجا الأنصار وقال فيهم‏:‏ ذهبت قريش بالمَكارم كُلِّها والُّلؤمُ تحت عَمائِم الأنصارِ قومٌ إذا حَضر العَصِير رأيتَهم حُمْرا عُيونُهم من المُسْطار وإذا نسبتَ ابن الفُريعة خِلْتَه كالجَحش بين حِمارة وحِمار فدعُوا المَكارم لستُمُ من أهلها وخذُوا مساحِيَكم بني النّجار وكان مع معاوية النُّعمان بن بَشير الأنصاريّ فلما بلغه الشّعر أقبل حتى دخل على معاوية ثم حَسر العِمامة عن رأسه وقال‏:‏ يا معاوية هل تَرى من لؤم قال‏:‏ ما أرى إلا كَرَماً‏.‏
قال‏:‏ فما الذي يقول فينا عبدُ الأراقم‏:‏ ذهبت قُريش بالمَكارم كُلها واللؤمُ تحت عمائم الأنصار قال‏:‏ قد حكّمتك فيه‏.‏
قال‏:‏ والله لا رضيتُ إلا بقَطع لسانه‏.‏
ثم قال‏:‏ مُعاوي إلا تُعطنا الحقّ تَعْترف لِحَى الأزد مَشْدودا عليها العمائمُ أيشتُمنا عبدُ الأراقم ضلّة وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم قال معاوية‏:‏ قد وهبتُك لسانَه‏.‏
وبلغ الأخطلَ‏.‏
فلجأ إلى يزيدَ بن معاوية‏.‏
فركب يزيدُ إلى النُّعمان فاستوهبه إياه‏.‏
فوَهبه له‏.‏
ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أُم الحكم‏:‏ وأمَّا قولُك الخُلفاء منّا فهم مَنعوا وَريدَك مِن وِداجِي ولولاهم لَطِحْتَ كَحُوت بَحْر هَوَى في مُظلم الغَمرات داجِي وهم دُعْج ووُلْد أبيك زُرق كأنّ عُيونهم قِطَع الزُجاج وقال يزيد لأبيه‏:‏ إنّ عبد الرحمن بن حسَّان يُشبَب بابنتك رَملة قال‏:‏ وما يقول فيها قال‏:‏ يقول‏:‏ هِيَ بَيْضاء مثلُ لؤلؤة الغَوّ اص صِيغت من لُؤلؤ مَكنونِ قال‏:‏ صدق‏.‏
قال‏:‏ ويقول‏:‏ إذا ما نسبتها لم تَجِدْها في سَناء من المَكارم دونِ قال‏:‏ صدق أيضاً‏.‏
قال‏:‏ ويقول‏:‏ تجعل المسك واليَلَنْجو ج صِلاءً لها على الكانون قال‏:‏ وصدق‏.‏
قال‏:‏ فإنه يقول‏:‏ ثم خاصَرتها إلى القُبة الخض راء تَمشي في مَرمر مَسْنون قُبّة من مَراجل ضربوها عند بَرْد الشتاء في قَيْطون قال‏:‏ ما في هذا شيء‏.‏
قال‏:‏ تبعث إليه من يأتيك برأسه‏.‏
قال‏:‏ يا بُني لو فعلت ذلك لكان أشدَّ عليك لأنه يكون سبباً للخوض في ذِكره فيُكثِّر مكثر ويزيد زائد اضرب عن هذا صفحا واطودونه كَشْحا‏.‏
ومن قول عبد الله بن قيس المَعروف بالرُّقيات‏.‏
يُشبِّب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية‏:‏ أعاتِك يا بنْت الخَلائف عاتكَا أنيلي فتىً أَمسى بحُبك هالِكَا تبدَّتْ وأتراب لها فقتْلنَنيِ كذلَك يَقْتلن الرجالَ كذلكا يُقلِّبن ألحاظاً لهنّ فوِاتراَ ويَحْملن من فوق النَعال السبائكا إذا غَفلت عنّا العُيون التي نرى سَلَكْن بنا حيثُ اشتهين المَسالكا وقُلْن لنا لو نَستطيع لزاركم طَبِيبان مِنّا عالمان بدائكا فهل مِن طَبيب بالعِراف لعلّه يُداوي سَقِيماً هالكاً مُتهالكا فلم يَعرض له يزيدُ للذي تقدّم من وصاية أبيه مُعاوية في رَملة‏.‏
تحدَثت الرواة أن الحَجاج رأى محمدَ بن عبد الله بن نُمير الثقفي وكان يُشبّب بزَينب بنت يوسف أخت الحجّاج فارتاع مِن نظر الحجّاج إليه‏.‏
فدعا به‏.‏
فلما وقف بين يديه قال‏:‏ وإن كنتُ بالعنقاء أو بتُخومها ظننتك إلا أنْ تَصُد تَراني فقال له‏:‏ لا عليك فوالله إن قُلتَ إلا خيراً إنما قلت هذا الشعرَ‏:‏ يُخبئن أطرافَ البنَان من التُقى ويَخْرُجن وسطَ الليل مُعتجراتِ ولكن اخبرني عن قولك‏:‏ ولما رأت رَكْب النّميري أعرضت وكُنُ من أن يَلقينَه حَذِرات في كم كنت قال‏:‏ والله إن كنتُ إلا على حِمار هَزيل معي رفيق على اتان مثله‏.‏
قال‏:‏ فتبسِّم الحجّاج ولم يَعرض له‏.‏
والأبيات التي قالها ابنُ نمير في زَينب بنت يوسف‏:‏ ولم تَر عيني مثلَ سِرْب رأيتُه خَرَجْن من التَّنْعيم مُعْتمرات مَرَرْن بفَخِّ ثم رُحن عشيةً يُلبِّين لرحمن مُؤْتجرات تَضوّع مِسْكاً بطنُ نَعمان إذ مَشَتْ به زينب في نسْوة خَفِرات ولما رأت رَكْب النُّميري أعرضتْ وكُنَّ من أن يلْقَينه حَذِرات دَعَت نِسْوةً شُمَّ بدَناً نواضِرَ لا شُعْثاً ولا غَبِرات فأدْنين لما قُمْن يَحْجُبن دونها حِجاباً مِن القَسيِّ والحِبرَات وكان الفرزدق قد عرَّض بهشام بن عبد الملك في شِعره‏.‏
والبيتُ الذي عرض به فيه قولُه‏:‏ يُقلِّب عينَاً لم تكن لخليفة مُشَوِّهةً حَوْلاء جما عُيوبُها فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ عامله على العراق يأمره بحَبسه فحبسه حتى دخل جَرير على هشام فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كنت تُريد أن تَبْسط يدَك على بادي مُضر وحاضرها فأطْلِق لها شاعرهَا وسيّدها الفرزدق‏.‏
فقال له هشام‏:‏ أوَ مَا يسُرك ما أخزاه الله قال‏:‏ ما أريد أن يُخزيه الله إلا على يديّ‏.‏
فأمر بإطلاقه‏.‏
أي بيت تقوله العرب أشعر قيل لأبي عمرو بن العلاء‏:‏ أيّ بيت تقوله العرب أشعر قال‏:‏ البيت الذي إذا سمعه سامعُه سَوّلت له نفسه أن يقول مثله ولأن يخدَش أنفه بظفر كلْبٍ أهونَ عليه من أن يقول مثلَه‏.‏
وقيل للأصمعيّ‏:‏ أيّ بيت تقوله العرب أشعر قال‏:‏ الذي يُسابق لفظه معناه‏.‏
وقيل لخليل‏:‏ أي بيت تقوله العرب أشعر قال‏:‏ البَيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته‏.‏
وقيل لغيره‏:‏ أي بيت تقوله العرب أشعر قال‏:‏ البيتُ الذي لا يَحْجبه عن القلب شيء‏.‏
وأحسن من هذا كله قول زُهير‏:‏ وإنّ أحسنَ بيتٍ أنت قائُله بيت يُقال إذا أَنشدتَه صَدَقا أحسن ما يجتلب به الشعر قالت الحكماء‏:‏ لم يُستدع شارد الشعر بأَحسنَ من الماء الجاري والمكان الخالي والشرف العالي‏.‏
وتأول بعضهم الحالي بالحاء‏.‏
يريد الحالي بالنوَّار يعني الرياض وهو توجيه حسن ولقي أبو العتاهية الحسنَ بن هانئ فقال له‏:‏ أنت الذي لا تقول الشعر حتى تُؤتى بالرّياحين والزهور فتوضع بين يديك قال‏:‏ وكيف ينبغي للشعر أن يُقال إلا على هكذا قال‏:‏ أما إني وقال عبد الملك بن مَروان لأرطاة بن سُهيّة‏:‏ هل تقول الآن شعراً قال‏:‏ ما أَشرب ولا أَطرب ولا أضرب فلا يقال الشعر إلا بواحدة من هذه‏.‏
وقيل للحُطيئة‏:‏ مَن أشعر الناس فأخرج لساناً رقيقاً كأنه لِسان حَيّة وقال‏:‏ هذا إذا طَمِع‏.‏
وقيل لكُثير عَزّة‏:‏ لمَ تركتَ الشعر قال‏:‏ ذهب الشَّباب فما أَعجب وماتت عَزّة فما أطرب ومات ابن أبي ليلى فما أرغب‏.‏
يريد عبد العزيز بن مروان وقالوا‏:‏ أشعر الناس النابغة إذاَ هب وزُهير إذا غضب وجَرير إذا رَغب‏.‏
وقال عمرو بن هند لِعَبيد بن الأبرص ولَقيه في يوم بُؤسه‏:‏ أَنْشِدني من شعرك‏.‏
قال‏:‏ حال الجَريض دون القَريض‏.‏
وقد يَمتنع الشعر على قائله ولا يَسلس حتى يَبعثه خاطر يطربه أو صوت حَمامة‏.‏
وقال الفرزدق‏:‏ أنا أشعر الناس عند اليأس وقد يأتي عليّ الحِين وقَلْع ضِرْس عندي أهون من قول بيت شِعر‏.‏
وقال الراجز‏:‏ إنما الشِّعر بناءٌ يبتنيه المُتنونَا فإذا ما نسقوه كان غَثاً أو سمينا رُبما وأتاك حِينا ثم يستصعب حِينا واسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكَرى وأول النهار قبل الغداء وعند مفاجأة النفس واجتماع الفكر‏.‏
وأقوى ما يكون الشعر عندي على قَدر قُوة أسباب الرغبة أو الرهبة‏.‏
قيل للخُريمي‏:‏ ما بال مدائحك لمحمد من مَنصور بن زياد أحسنُ من مَراثيك قال‏:‏ كُنا حينئذ نعمل على الرجاء ونحن اليوم نَعمل على الوفاء وبينهما بَوْن بعيد‏.‏
والدليل على صحة هذا المعنى وصِدْق هذا القياس أنّ كُثيرَ عزّة والكُميت ابن زيد كانا شِيعيّين غاليين في التشيع وكانت مدائحهما في بني أمية أشرفَ وأجود منها في بني هاشم وما لذلك علّة إلا قوة أسباب الطمع‏.‏
وقيل لكُثير عزّة‏:‏ يا أبا صخر كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر قال‏:‏ أَطوف في الرّباع المُحيلة والرِّياض المُعشبة فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني فروّح قلبك وأجمّ ذهنك وارتصد لقولك فراغَ بالك وسعة ذِهنك فإنك تجد في تلك الساعة ما يَمتنع عليك يومَك الأطول وليلك الأجمع‏.‏
من رفعه المدح ووضْعه الهجاء قال بلال بن جرير‏:‏ سألتُ أبي جريراً فقلت له‏:‏ إنك لم تَهجُ قوماً قط إلا وضعتَهم غير بني لجأ وقد يكون الشيء مدحاً فيجعله الشَعر ذمّا ويكون ذمَّا فيجعله الشعر مدحا‏.‏
قال حبيب الطائي في هذا المعنى‏:‏ ولولا خِلال سَنها الشِّعْر ما دَرى بُغاةُ النَّدَى من أين تُؤتى المَكارمُ تُرى حكمة ما فيه وهو فُكاهة وَيقضي بما يقضي به وهْو ظالم ألا تَرى إلى بني عبد المَدان الحارثيِّين كانوا يَفخرون بطُول أجسامهم وقديم شرفهم حتى قال فيهم حسان بن ثابت‏:‏ لا بأسَ بالقَوم مِن طُول ومن غِلَظ جِسْم البِغال وأحلامُ الصَافير فقالوا له‏:‏ والله يا أبا الوليد لقد تَركْتَنا ونحن نَسْتحي من ذكر أَجسامنا بعدَ أن كُنَّا نَفخر بها‏.‏
فقال لهم‏:‏ سأصلح منكم ما أفسدت فقال فيهم‏:‏ وقد كُنا نقول إذا رَأينا لِذي جِسْم يُعدّ وذِي بَيانِ كأنك أيها المُعطَى لِساناً وجِسْماً من بني عَبد المَدان وكان بنو حنظلة بن قُريع بن عَوْف بن كعب يقال لهم‏:‏ بنوِ أنف الناقة يُسَبون بهذا الاسم في الجاهلية‏.‏
وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراَ وقسم اللحم فجاء حَنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس وكان صبيّاً فجعل يجره‏.‏
فقيل له‏:‏ ما هذا فقال‏:‏ أنف الناقة‏.‏
فلُقب به وكانوا سِيري أمامَ فإنّ الأكثرين حصىً والأكرمين إذا ما ينسبون أبَا قوم هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهُمِ ومن يُسوّي بأنف النّاقة الذّنبا فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاَ فيهم‏.‏
وكان بنو نمير أشرافَ قيس وذوائبهَا حتى قال جريرِ فيهم‏:‏ فغُضَّ الطَّرفَ إنك من نُمير فلا كَعباً بلغتَ ولا كلابا فما بقي نُميريّ إلا طأطأ رأسه‏.‏
وقال حَبيب الطَّائي‏:‏ وقد كان المحلق بن حَنْتَم بن شدَّاد خاملاً لا يذكر حتى طَرقه الأعشى في فِتْية وليس عنده إلا ناقة‏.‏
فأتى أمه فقال‏:‏ إنّ فتية طَرقونا الليلة فإنْ رأيتِ أن تأذني في نَحر الناقة قالت‏:‏ نعم يا بُني‏.‏
فنَحرها واشترى لهم ببعض لحمها شراباً وشَوى لهم بعضَ لحمها‏.‏
فأصبح الأعشى ومَن معه غادِين‏.‏
فلم يَشْعر المحلّق حتى أتته القصيدةُ التي أولها‏:‏ أَرِقتُ وما هذا السُّهاد المُؤرّقُ وما بِيَ من سُقْم وما بي مَعشَقُ وفيها يقول‏:‏ لَعْمري لقد لاحتْ عيون كثيرة إلى ضَوء نار في يَفاع تَحرَّقُ رَضِيعي لَبانٍ ثَدْىَ أمّ تقَاسما بأسْحمَ داجٍ عوْضُ لا نتَفرّق ترى الجُود يَسْرِي سائلاً فوق وَجهه كما زان مَتْن الهُنْدوانيّ رَونق فلما أتته القصيدةُ جَعلت الأشراف تخطب إليه ويقول القاتل‏:‏ وبات على النّار النَّدى والمُحلَّق وقوله تقاسما بأسحم داج‏.‏
يقول‏:‏ تحالقا على الرماد وهذا شيء تفعله الفُرس لئلا يفترقوا أبداً‏.‏
والعرض‏:‏ الدهر‏.‏
ما يعاب من الشعر وليس بعيب قال الأصمعي‏:‏ سمعتُ حمّاداً الراوية وأَنشده رجل بيتَ حَسّان‏:‏ يُغْشَون حتى ما تَهِرّ كلابُهم لا يَسْألون عن السواد المُقبل فقال‏:‏ ما يُعرف هذا إلا في كلاب الحَانات‏.‏
وأنشده آخر قولَ الشاعر‏:‏ لِمنْ مَنزل بين المَذانب والجِسْر فقال‏:‏ ما يعرف هذا إلا دار الماسيديين‏.‏
ومما يُعاب من الشعر وليس بعيب قولُ الفرزدق‏:‏ فقال مَن جهل المَعنى ولم يعرف الخبر‏:‏ ما في هذا من المدح أن يمدح رجل بلباس بُردين وركوب فرس ورْد‏.‏
وإنما معناه‏:‏ ما قال أبو عُبيدة‏:‏ إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان فأخرج إليهم برُدي مُحرِّق‏.‏
وقاد لهم‏:‏ ليقُم أعزّ العرب قَبيلةً فَليلْبِسْهما‏.‏
فقال عامر بن أحيمر بن بَهدلة فائترز بأحدهما وتَردّى بالآخر‏.‏
فقال له النُّعمان‏:‏ بم أنت أعزُ العرب قبيلةً قال‏:‏ العِزّ والعدد من العرب في مَعدّ ثم في نِزار ثم في مُضَر ثم في خِنْدف ثم في تَميم ثم في سَعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بَهدلة فمن أنكر هذا من العرب فَلْينافرني فسكت الناس‏.‏
فقال النعمان‏:‏ هذه عَشيرتك فكيف أنت كما تَزعم في نَفسك وأهل بَيتك فقال‏:‏ أنا أبو عشرة وعَم عشرة وخال عشرة وأمّا أنا في نفسي فهذا شاهدي‏.‏
ثم وَضع قَدمَه في الأرض وقال‏:‏ مَن أزالها فله مائة من الإبل‏.‏
فلَمْ يتعاطَ ذلك أحدٌ‏.‏
فذهب بالبُردين‏.‏
فسُمَّي‏:‏ ذا البُردين وفيه يقول الفرزدق‏:‏ فما تمِّ في سَعد ولا آل مالك غُلام إذا ما سِيل لم يَتبهدل لهمْ وهَب النعمانُ بُردَي مُحَرِّق بمَجْد مَعَدّ والعديد المُحصّل ومما يُعاب من الشعر وليس بعَيْب قولُ الأعشى في فرس النُّعمان وكان يُسمَى اليحموم‏:‏ ويأمر لليَحموم كُلّ عشيَّة بقَت وتَعْليق فقد كاد يَسْنَقُ فقالوا ما هذا مما يُمدح به أحد من السُّوقة فضلاً عن الملوك‏.‏
إنه يقوم بفوس ويأمر له بالعلف حتى كادَ يسنق‏.‏
وليس هذا معناه وإنما المعنى فيه ما قال أبو عُبيدة‏:‏ إن ملوك العرب بلغ من حَزمها ونَظرها في العواقب أنّ أحدهم لا يبيت إلا وفرسُه مَوقوف بسَرجه ولجامه بين يديه قريباً منه مخافة عدو يفجؤه أو حال تنقلب عليه‏:‏ فكان للنعمان فرس يقال له اليَحموم يتعاهده كُلّ عشية‏.‏
وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأَفنية البيوت‏.‏
ومما عابوه وليس بعَيب قولُ زُهير‏:‏ قِفْ بالديار التي لم يَعْفُها القِدَم بلَى وغيَّرها الأرياح والدِّيمُ فنَفى ثم حقّق في معنى واحد‏.‏
فنَقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره لأنه زعم أنَّ الديار لم يَعْفُها القِدَم‏.‏
ثم إن انتبه من مَرْقده فقال‏:‏ بلى عفاها وغيْرها أيضاً الأرياح والدِّيم‏.‏
وليس هذا معناه الذي ذهب إليه وإنما معناه‏:‏ أنَّ الديار لم تَعْفُ في عَيْنه من طريق محبّته لها وشغفه بمن كان فيها‏.‏
وقال غيرُه في هذا المعنى ما هو أبين من هذا وهو قولُه‏:‏ ألا ليتَ المنازل قد بَلينا فلا يَرْمِين عن شَزْر حَزِينَا فقوله ألا ليت المنازل قد بلينا أي بَلِي ذِكْرُها ولكنَها تتجدّد على طُول البلى بتجدّد ذكرها‏.‏
وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى فلخّصه وأوضحه وشنَّفه وقرّطه حيث يقول‏:‏ تجافَى البِلَى عنهنّ حتى كأنما لَبسْنَ على الإقواء ثوبَ نَعيم وممَّا عِيب من الشّعر وليس بعَيب ما يُروى عن مَروان بن الحَكم أنه قال لخالد بن يزيدَ بن معاوية وقد أستنشده من شعره فأَنشده‏:‏ فلو بقيتْ خلائفُ آل حَرْب ولم يُلْبِسْهمُ الدَّهرُ المَنونَا لأصبح ماءُ أهل الأرض عَذْباً وأصبح لحمُ دُنياهم سمينا فقال له مروان‏:‏ منونا وسمينا والله إنها لقافية ما اضطرك إليها إلا العَجْز‏.‏
وهذا مما لا عَجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر وما أرى العيب فيه إلا على مَن رآه عيباً لأنَ الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كُلها قديمها وحديثها‏.‏
وقال عبَيد بن الأبرصِ‏:‏ وكُل ذي غيْبة يؤوب وغائبُ المَوت لا يؤوبً مَن يسأل الناسَ يَحْرموه وسائلُ الله لا يَخِيب ومثلُه من المُحدثين‏:‏ أجارةَ بيتينا أبوك غَيُور وميسور ما يُرجى لديك عَسيرُ ومما عِيب من الشعر وليس بعيب قولُ ذي الأمة‏:‏ رأيتُ الناسَ يَنْتجعون غَيْثاً فقلت لصَيْدح انتجعي بلالا ولما أنشدوا هذا الشعر بلالَ بن أبي بُردة قال‏:‏ يا غلام مُرْ لصيدح بقَتٍّ من عَلف فإنها هي انتجعَتْنا‏.‏
وهذا من التعنّت الذي لا إنصاف معه لأن قوله انتجعي بلالا إنما أراد نفسه‏.‏
ومثله في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏"‏ واسأل القَرْيةَ التي كُنّا فِيها والعِيَر التي أقْبَلنا فيها ‏"‏‏.‏
وإنما أراد أهلَ القرية وأهل العِير‏.‏
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في بعض ما يَرتجز به من شعر‏:‏ إليك تَعدو قَلِقاً وَضينُها مخالِفاً دينَ النصارى دينُها فجعل الدِّين للناقة وإنما أراد صاحبَ الناقة‏.‏
ولم تزل الشعراء في مدائحها تصف النُّوق وزيارتَها لمن تمدحه ولكنّ مَن طلب تعنّتاً وَجده أو تجنّياً على الشاعر أدركه عليه كما فعل صريعُ الغواني بالحَسن بن هانئ حين لَقيه فقال له‏:‏ ما يَسلم لك بيتٌ عندي من سَقَط‏.‏
قال‏:‏ فأيّ بيت أسْقطت فيه قال‏:‏ أنشدني أيَّ بيتٍ شئتَ‏.‏
فأنشدَه‏:‏ ذَكر الصِّبوحَ بسُحرِة فارتاحا وأمله ديكُ الصّباح صِياحَا فقال له‏:‏ قد ناقضت في قولك كيف يُمِلّه ديك الصباح صِياحاً وإنما يُبشره بالصَّبوح الذي ارتاح له‏.‏
فقال له الحسن‏:‏ فأنشدني أنت من قولك‏.‏
فأنشده‏:‏ عاصىَ العَزاءَ فراح غَير مُفَنَدِ وأقام بين عَزيمة وتجلّدِ عاصى العزاء فراح غير مُفند ثم قلت‏:‏ وأقام بين عزيمة وتجلّد فجعلته رائحاً مُقيماً في مقام واحد والرائح غير المُقيم‏.‏
والبيتان جميعاً مؤتلفان‏.‏
ولكنَ من طلب عيباً وجده‏.‏
ومما عابه ابنُ قتيبة وليس بعيب قول المُرقَش الأصغر‏:‏ صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكْرها إذا ذُكرت دارت به الأرضُ قائمَا فقال له‏:‏ كيفَ يَصحو مَن كانت هذه صِفته والمعنى صحيح وإنما ذهب إلى أن حاله هذه على ما تقدّم من سوء حاله حال صَحْو عنده‏.‏
ومثل هذا في الشعر كثير لأن بعض الشّر أهون من بعض‏.‏
وقال النبيّ صلى الله عيه وسلم في عمّه أبي طالب‏:‏ إنه أخفُّ الناس عذاباً يوم القيامة يُحذَى نعلين من نار يَغلي منها دماغُه‏.‏
وهذا من العذاب الشديد وإنما صار خفيفًا عندما هو أشدّ منه فزعم المُرقّش أنه عند نفسه صاحٍ إذ تبدُل حاله أسهل مما كان فيه‏.‏
وقد عاب الناسُ على الحَسن بن هانئ قَوله‏:‏ واخفَت أهلَ الشّرك حتى إنّه لتخافُك النُطفُ التي لم تخلقِ فقالوا‏:‏ كيف تَخافه النُطف التي لم تُخلق ومجاز هذا قَريب إذا لحظ أنّ كل من خاف شيئاً خافه بجوارحه وسَمْعه وبَصره ولحمه ودمه والنُطف داخلة في هذه الجملة فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النُطف التي في أصلابها‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ألا تَرْثِي لمُكتئبٍ يُحبّك لحمُه ودمُه وقال المكفوف‏:‏ أحبكمُ حبّاً على الله أجرُه تَضمّنه الأحشاءُ واللحمُ والدمُ ولقى العتّابي منصوراً النَمريّ فسأله عن حاله‏.‏
فقال‏:‏ إني لَمدهوش وذلك أني تركت امرأتي وقد عَسُر عليها ولادُها‏.‏
فقال له العتّابي‏:‏ ألا أدلّك على ما يُسهل عليها‏.‏
قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ اكتب عَلى رَحمها هارون‏.‏
قال‏:‏ وما مَعناكَ في هذا قال‏:‏ ألستَ القائل فيه‏:‏ إنْ أخلف القَطر لم تُخلف مواهبُه أو ضاق أمر ذَكرناه فيتسعُ فقال‏:‏ أبا لخُلفاء تُعرّض وفيهم تَقع وإياهم تَعيب‏.‏
فيقال‏:‏ إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العَتّابي‏.‏
فكتب إلى عبد الصمد عمّه يأمره بقتله‏.‏
فكتب إليه عبدُ الصمد يشفع له‏.‏
فوهبه إياه‏.‏
سُئل بعض علماء الشعر‏:‏ من أشعر الناس قال الذي يُصوِّر الباطل في صورة الحق والحقَّ في صورة الباطل بلُطف معناه ورقّة فِطْنته فيُقَبِّح الحسنَ الذي لا أحسن منه ويُحسن القبيح الذي لا أقبح منه‏.‏
فمن تحسين القبيح قولُ الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بَدْر‏:‏ الله أعلم ما تركتُ قِتالَهم حتى رَموا مُهري بأشقَرَ مُزْبِدِ وعلمتُ أنّي إن أقاتل واحداً أقتل ولا يَضْرر عدوّي مَشهدي فصرفتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ طمعاً لهم بعقاب يوم مُفْسِدِ وهذا الذي سمعه صاحب الهند رُتْبيل فقال‏:‏ يا معشر العرب حَسّنتم كل شيء فحَسُن حتى حَسّنتم الفرار‏.‏
ومن تقبيح الحسن‏:‏ قولُ بشّار العقيلي في سليمان بن عليّ وكان وصل رجلاً وأحسن إليه‏:‏ يا سوأةً يُكثر الشيطانُ ما ذُكرت منها التعجبَ جاءت من سُليمانَا لا تَعجبنَّ لخَيْرِ زلّ عن يده فالكَوكبُ النَّحس يَسقي الأرضَ أحيانا وقال غيرُه في تَحسَين القَبيح‏:‏ يقولون لي إنّي بَخيل بنائلي ولَلْبخلُ خيرٌ من سؤال بَخيل وحَبْس المال خيرٌ من بُغاه وضَرْبٌ في البلاد بغَيْر زادِ وإصلاحُ القليل يزيدُ فيه ولا يَبقَى الكثير مع الفَساد وقال محمود الورَاق في تحسين القبيح‏:‏ يا عائبَ الفقر ألا تَزدجرْ عيبُ الغِنى أكبرُ لو تعتبرْ مِن شرَف الفَقر ومِن فَضله على الغِنى إنْ صَحّ منك النَّظر أنك تَعصي كي تَنال الغِنَى وليس تَعصي الله كي تفتقر ومن تحسين القبيح أنه قيل لجَذيمة الأبرش‏:‏ ما هذا الوَضح الذي بك قال‏:‏ سيفُ الله جلاه‏.‏
وقال اْبن حَبْناء وكان به بَرص‏:‏ لا تحسبنّ بياضاً فيَّ مَنْقصةً إنّ اللهاميمَ في أقرابها بَلقُ وقال محمود الورّاق يمدح الشَيب‏:‏ وعائب عابَني بشَيْبي لم يَعْدُ لمّا ألم وقتَه فقلت للعائِبي بشيبي يا عائبَ الشَّيب لا بلغتَه وقال آخر‏:‏ يقولون هل بعدَ الثلاثين مَلْعبُ فقلتُ وهل قبل الثلاثين مَلعبُ وقال أعرابيّ في عجوز‏:‏ أبى القلبُ إلا أمّ عمرو وحُبّها عجوزاً ومَنْ يُحبِب عجوزاً يفنَّدِ كثَوْب يمانٍ قد تَقادم عهدُه ورُقْعته ماشِيتَ في العَين واليَدِ قال بَشّار العُقبليّ في سوداء‏:‏ أشبهك المِسكُ وأشبهته قائمةً في لونه قاعدَه لا شَكَّ إذ لونُكما واحد أنّكما من طِينة واحده الاستعارة لم تزل الاستعارة قديمةً تُستعمل في المَنظوم والمَنثور‏.‏
وأحسن ما تكون أن يُستعار المنثور من المنظوم والمَنظوم من المنثور‏.‏
وهذه الاستعارة خفية لا يُؤبه بها لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال‏.‏
وأكثر ما يجتلبه الشعراء ويتصرف فيه البلغاء فإنما يجري فيه الآخر على سنَن الأول‏.‏
وقلَّ ما يأتي لهم معنى لم يَسبق إليه أحد إما في مَنظوم وإما في مَنثور لأن الكلام بعضه من بعض ولذلك قالوا في الأمثال‏:‏ ما ترك الأول للآخر شيئاً‏.‏
ألا ترى أنّ كعب بن زُهير وهو في الرَّعيل الأول والصدر المتقدم قد قال ِفي شعره‏:‏ ما أرانا نقول إلا مُعاراً أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا ولكن في قولهم إن الآخِر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يُحسنه ويَقرِّبه ويوضحه فهو أولى به من الأول وذلك كقول الأعشى‏:‏ وكأْسٍ شربتُ على لذّة وأخرى تداويتُ منها بهَا فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانئ فحسّنه وقَرّبه إذ قال‏:‏ دعْ عنكَ لَوْمي فإنّ اللومَ إغراءُ وَداوِني بالَّتي كانتْ هي الدَّاءُ والناسُ مَن يَلْقَ خيراً قائلون له ما يَشْتَهي ولأمّ المخطئ الهَبَلُ أخذه من قول المُرقِّش‏:‏ ومَن يَلق خيراً يَحمد الناسُ أمرَه ومن يَغْوَ لا يَعدَم على الغيّ لائِمَا وقال قيس بن الخَطيم‏:‏ تَبدَّت لنا كالشَّمس تحت غمامةٍ بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب أخذه بعضً المُحدثين فقال‏:‏ فشبَّهتُها بدراً بدَا منه شِقُّه وقد سَترتْ خدا فأبدت لنا خَدا وأَذْرت على الخَدّين دمعاً كأنه تنَاثُر درّ أو نَدى واقَع الوَرْدا وأخذه آخر فقال‏:‏ يا قمرا للنِّصف من شَهره أبْدَى ضِياءً لثمانٍ بَقينْ وأخذه بشّار فقال‏:‏ ضنت بخدّ وجَلَت عن خَد ثم انثنت كالنَّفَس المُرْتدِّ فلم يُفسد الآخر قولَ الأول ولم يكن الأولُ أولى بالمعنى من الآخر‏.‏
وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله وهو قولي‏:‏ وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم ومن المنظوم في المنثور فإنها أحسن استعارة‏.‏
دخل سهلُ بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون فقال سهل‏:‏ يدعو للمأمون‏:‏ اللهم زِدْه من الخيرات وابسُط له من البركات حتى يكون كُل يوم من أيامه مُوفياً على أمسه مقصّراً عن غده‏.‏
فقال له الرشيد‏:‏ يا سهل من رَوى من الشعر أفصحه ومن الحديث أوضحه إذا رام أن يقول لم يعجزه القول قال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما أعلم أحداً سبقني إلى هذا المعنى‏.‏
قال‏:‏ بلي‏.‏
سبقك أعشى همدان حيث يقول‏:‏ رأيتك أمس خير بني مَعدّ وأنت اليوم خيرٌ منك أمس وأنت غداً تزيد الضعفَ خيراً كذاك تزيد سادةُ عبد شَمْس وقد يكون مثلُ هذا وما أشبهه عن موافقة‏.‏
وقد سُئل الأصمعيّ عن الشاعريْنِ يَتّفقان في المعنى الواحد ولم يَسمع أحدُهما قول صاحبه‏.‏
فقال‏:‏ عُقول الرجال توافتْ على ألسنتها‏.‏
اختلاف الشعراء في المعنى الواحد وقد تختلف الشعراء في الواحد وكل واحدٍ منهم مُحسن في مذهبه جارٍ في توجيهه وإن كان ألا ترى أن الشَماخ بن ضِرار يقول في ناقته‏:‏ إذا بلغتني وحملتِ رَحلي عَرابةَ فاشرَقي بدَم الوَتِين وقال الحسن بن هانئ في ضِدّ هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمَين‏:‏ فإذا المطيُّ بنا بلغْن محمداً فظُهورهن على الرجال حَرامُ وقال أيضاُ‏:‏ أقول لناقتي إذ أبلغتْني لقد صبحتِ مني باليَمين فلم أجعلك للغِربان نُحْلاً ولا قلتُ اشرَقي بدَم الوتين فقد عاب بعضُ الرواة قولَ الشماخ واحتجوا في ذلك بقول النبيّ {{صل}} للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبيّ {{صل}}‏:‏ إِني نذرت يا رسول الله إن نجْا بي الله عليها أن أنحرها قال‏:‏ بئسما جَزيتيها‏.‏
ولا نذْر لأحد في مِلْك غيره‏.‏
وقد قالت الشعراء فلم تزل تمدح حُسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب‏.‏
قال الفرزدق‏:‏ بنو دارم قَومي ترى حُجزاتِهم عِتاقاً حواشيها رِقاقاً نِعالهُا يَجُرون هُدَّابَ اليَماني كأَنهم سُيوفٌ جلاَ الأطباعُ عنها صِقالُها رقاقُ النّعال طَيِّبٌ حُجزاتُهم يحيَّوْن بالريحان يوم السَّباسبِ وقال طَرَفة‏:‏ ثم راحوا عَبقُ المِسك بهم يُلْحِفُين الأرضَ هُدَّابَ الأزُرْ وقال كُثير عَزِّة في إسبال الذيول يمدح بعض بني أمية‏:‏ أشمّ من الغادِين في كُل حُلّة يَميسون في صِبْغ من العَصْب مُتْقِن هم أزر حمر الحَواشي بُطونها بأَقدامهم في الحَضْرميّ المُلسَّن وقال فيه أيضاً‏:‏ إذا حُلَل العَصْب اليَماني أجادَها أَكُفُّ أساتيذ على النَّسج دُرَّب أتاهم بها الجابي فراحوا عليهمُ تمائمُ من فَضفاضهن المُكَعب لها طُرُز تحت البَنائِق أدنيت إلى مُرهفات الحَضرمي المُعَقْرب وقال آخر‏:‏ معي كُل فَضفاض القَمِيص كأنه إذا ما سرتْ فيه المُدَام فَنِيق وخالفهم فيه صريع الغواني فقال‏:‏ لا يَعبق الطيب خدّيه ومَفرقَه ولا يُمَسِّح عينيه من الكُحُل كَمِيش الإزار خارجٌ نصف ساقه بَعيد عن السوات طَلاّع أنجُدِ مثل قول الحجاج‏:‏ أنا ابن جَلاَ وطَلاعِ الثنايا متَى أضع العمامَة تَعرفوني وقد يُحمل معناهم في تشمير الثوب وسَحبه واختلافهم فيه على وجهين‏:‏ أحدهما أن يَستحسن بعضُهم ما يَستقبح بعض‏.‏
والوجه الثاني وهو أشبه أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع كما قال عمرو بن معد يكرب‏:‏ فيوماً تَرانا في الخزوز نجرّها ويوماً تَرانا في الحَديد عوابسَا ويوماً تَرانا في الثَريد نَدسه ويوماً ترانا نكسر الكَعك يابسا وقال أعشى بكر لعمر بن مَعد يكرب‏:‏ وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة شهباء يجتنب الكُماة نزالَها كتب المقدَم غيرَ لابس جُنّة بالسيف تَضرب معلماً أبطالها وقال مُسلم بن الوليد في يزيدَ بن مَزيد خلافَ هذا كُله وهو‏:‏ تراه في الأمن في دِرع مُضاعَفة لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجل ولما أنشده يزيدَ بن مزيد قال له‏:‏ ألا قلت كما قال الأعشى وأنشده البيتين‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسديّ‏:‏ ما أحسنُ شيء مُدحت به قال‏:‏ قول الشاعر‏:‏ أسيلم ذا كُمْ لا خَفاً بِمكانه لعين تُرجِّي أو لأذن تَسمَّعُ من النَّفر الشُّم الذين إذا اعتَزَوْا وهاب رجال حلْقَة الباب قَعْقَعوا جلا الأذفُر الأحوى من المسك فَرْقَه وطيبُ الدِّهان رأسَه فهوِ أنزع إذا النَفر السُّود اليمانون حاولوا له حَوْكَ بُرديه أدقّوا وأوْسعوا فقال عبد الملك‏:‏ أحسن من هذا قول أبي قَيسِ بن الأسلت‏:‏ قد حَصَّت البيضة رأسي فما أطعَم نوْماً غير تَهْجاع أَسْعى على جُلِّ بني مالكٍ كُل امرئ في شأنه ساعِي وقال بعضُهم‏:‏ سألتُ المُحبين الذين تَحمّلوا تبَاريحَ هَذا الحُب في سالف الدَهرِ فقالوا شفاءُ الحُب حب يُزيله لأخرى وطُولٌ للتَمادي على الهَجر وقال الحَمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه وهو قولُه‏:‏ زَعموا أنّ من تشاغل بالح بّ سَلا عن حَبيبِه وأفاقا كيف أسلو بلذة عنك والل ذات يُحدثْن لي إليك اشتياقا كُلما رُمتُ سَلوةً تُذهب الحُرقةَ زادت قلبي عليكِ احتراقا وقال كُثير عزّة‏:‏ أريد لأنسى ذكرَها فكأنما تَمثلُ لي ليلى بكُل سَبيل وقال بعضُ الناس‏:‏ إن كان يُحبها فلماذا يُحب أن يَنسى ذكرها ألا قال كما قال مجنون بني عامر‏:‏ فلا خَفِّف الرحمنُ ما بي من الهَوى ولا قَطَع الرحمنُ عن حُبها قَلْبي فما سَرَّني أنّي خَليُّ من الهَوى ولو أن لي ما بين شرَق إلى غَرب وذهب أكثرهم إلى أنّ بُعْدَ العَهد يُسلي المُحب عن حَبيبه وقالوا فيه‏:‏ إذ ما شئتَ أن تَسلو حبيباً فأكثر دونه عَدَد اللّيالِي وقال العبّاس بن الأحنف‏:‏ إذا كنت لا يُسليك عمن تُحبه تَناء ولا يَشفيك طُولُ تلاقِي فما أنتَ إلا مستعير حَشاشةً لمُهجة نَفس آذنتْ بِفراق وقال كُثيّر عَزة‏:‏ ومثله قولُ بشّار‏:‏ ومن حُبها أتمنّى أن يُلاقيَني من نحو بَلْدتها ناعٍ فيَنْعاها كيما أقول فِراقٌ لا لِقاء له وتُضمر النفس يأسا ثم تَسلاها وهذه المذاهب كلها خارجة من معناها حائرة في مجراها‏.‏
وقال عبدُ الله بن جُندب‏:‏ ألا يا عبادَ الله هذا أخوكُم قتيلاً فهل منكم له اليومَ واترُ خذوا بدَمي إن مِتُّ كل خَريدة مريضةِ جَفْن العَين والطَّرفُ ساهر وقال صَريع الغواني في ضد هذا‏:‏ أدِيرا عليِّ الراح لا تَشربَا قبلي ولا تَطْلُبا من عند قاتلتي ذَحْلي وقول عبد الله بن جُندب أحسَن في هذا المعنى لأنه إنما أراد أن يَدُل على موضع ثأره واسم قاتله ولم يُرد الطلب بالثأر لأنه لا ثأر له‏.‏
وقد قال عبدُ الله بن عبّاس ونَظر إلى رجل مُدنف عِشْقاً‏:‏ هذا قتيلً الحُبّ لا عَقْل ولا قَوَد وقال الفرزدق وأراد مذهب ابن جُندب فلم تُوانه رقّة الطَّبع فخرج إلى أَجْف القول وأَقْبحه يا أخت ناجيةَ بنِ سامةَ إنني أَخشى عليكِ بَنيَّ إن طَلبوا دَمِي لن يَتْركوك وقد قتلتِ أباهمُ ولو ارتقيت إلى السماء بسلم وقال ابنُ أخت تأبط شرّاً يرثي خالَه وقتلْته هُذيل‏:‏ شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ذَكَت الشِعرى فبرْد وظِل ظاعِن بالحَزم حتى إذا ما حلَّ حَلَّ الحَزمُ حيث يحلّ أخذ معنى البيت الأول أعرابيّ فسهّل معناه وحسّن ديباجته فقال‏:‏ إذا نزل الشتاء فأنت شمسٌ وإن نزل المصيف فأنت ظِلُّ وأَخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانئ فقال في الخَصيب‏:‏ فما جازه جود ولا حلّ دونه ولكنْ يصير الجُود حيثُ يصيرُ وقالوا في الخَيال فحيّوه بالسلام ورحّبوا به فمن ذلك قولُ مروان ابن أبي حَفْصة‏:‏ طرقْتك زائرةً فحيِّ خيالَها وقال آخر‏:‏ طَرق الخَيالُ فحيّه بسَلام وعلى هذا بُنيت أشعارهم وخالفهم جَرير فطَرد الخيال فقال‏:‏ وأولُ من طَرد الخيال طرفة فقال‏:‏ فقُل لخَيال الحنظلية يَنقلب إليها فإنِّي واصلٌ مَن وَصَلْ وأعجبُ مِن هذا قولُ الرّاعي الذي هجا الخَيال فقال‏:‏ طافَ الخيالُ بأصحابي فقلتُ لهم أم شَذرة زارتْني أم الغُولُ لا مرحباً بابنة الأقيال إذ طَرقت كأنّ مَحْجرها بالقار مَكْحول وقد يختلف معنى الشاعر أيضاً في شعر واحد يقوله ألا ترى أن امرأ القيس قال في شعره‏:‏ وإن تك قد ساءتك منّي خليفةٌ فسُلِّي ثِيابي مِن ثيابك تَنْسُل توصف نفسَه بالصبر والجَلَد والقوة على التهالك ثم أدركتْه الرقةُ والاشتياق فقال في البيت الذي بعده‏:‏ أغرّك منّي أنّ حُبّك قاتِلي وأنك مهما تأمري القلبَ يَفعَل مُستدركاً قولَه في البيت الأول‏:‏ فسُلي ثيابي من ثيابك تَنْسُل ولم يزلْ من تقدم من الشعراء وغيرهم مُجمعين على ذَم الغُراب والتشاؤم به وكأن اسمَه مُشتق من الغُربة فسمَّوه غراب البَيْن وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوتْ من أهلها‏.‏
وخالفهم أبو ما فَرق الأحباب بع د الله إلا الإبلُ والناس يَلْحَون غُرا ب البَيْن لما جَهِلوا وما إذا صاح غُرا ب في الدِّيار احتملوا وما على ظَهر غُرا ب البَينْ تُطْوى الرحل وما غُراب البين إل لا ناقة أو جَمل وقال آخر في هذا المعنى وذَكَر الإبل‏:‏ لهنّ الوَجى إذ كُن عَوْناً على النَوى ولا زال منها ظالعٌ وكَسِيرُ وما الشّؤم في نَعْب الغُراب ونَعْقه وما الشؤْم إلا ناقة وبَعير ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ نعب الغراب فقلتُ أكذبُ طائرٍ إن لم يُصدِّقه رُغاء بَعير رِدُّ الجمال هو المُحقَق للنَّوى بل شَر أحلاس لهنّ وَكُور وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء مُنفردٌ في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تَشْبيهه كقول جعفر بن جِدار كاتب ابن طُولون‏:‏ وطَفْلة رَخْصة المَدارِي لَيست تُحَلّى ولا تُسمى إلا بسِلْك من اللآلى يُعْجِز من يُخرج المُعمَى صُغرى وكُبرى إلى ثلاثِ مثل التّعاليل أو أتَمَّا وكم ببَم وأرض بَمّ وكَم بِرَمّ وأرْض رَمّا من طَفلة بَضَة لَعوب تلقاك بالحُسن مستتما مُنهن رَيّا وكيف رَيّا ريا إذا لاقت المَشَما لو شمها طائر بَدوٍّ لَخَرّ في التُرب أولَهَمّا تَسحب ثوبين من خَلْوق قد أفنيا زعفران قُمّا كأنما جلّيا عليها من طِيب ما باشرَا وشَما فأَلفيا زعفران قُم فانغمسا فيه واستحمِّا فهي نظير اسمها المُعلَّى يقوح لامِرْطها المُدَمَّا هيهاتَ يا أختَ آل بَمِّ غَلطت في الاسم والمُسمَّى لو كنت ممن لكنت مِمّا لكنّني قد كَبرتُ عَمّا عاتبني الدهرُ في عِذاري بأحرُف فارعويت لمّا قُوّس ما كان مستقيماً وأبيضّ ما كان مُدّلهمّا وكيف تَصبو الدُّمى إلى مَنِ كان أخاً ثم صار عَمّا بي عنكِ يا أختَ أهل بَمَ شُغْل بما قد دنا مُهِمّا فلستُ من وجهك المُفدَّى ولستُ من قَدّك المُحمّى أذهلني عنك خوفُ يوم يحيا له كل من ألمَّا ما كسَبتْه يداي وَهْنا خيراً وشرًّاً أصبت ثَما تُحشر فيه الجنان زَفًّا وتُحشر النَار فيه زَمّا تقول هذي لَطالبيها هَيتَ وهذي لهم هَلُمّا نَفسيَ أولى بأنْ أذُمّا مِن أمرها كل ما استُذمّا يا نفسُ كم تُخدعين عَمّا بلُبس داج وأكل لمّا في حُفرة ما يُحير حَرفاً قد دكّ من فوقها وطما والمُزَنَيّ الذيَ إليه نَعشو إذا دَهرُنا ادلهما أخفى فؤادي له عَزائي لكنْ زَفيري عليه نَمَا كأنما خُوِّفا فخافا أو حذَرا كاساهما فصما أقبل سَهْم من الرَّزايا فخَصَ أعلامنا وعَمَّا دَكدك منّا ذُرَا جبال شامخة في السماء شما وَحصَنا دون مَنْ عليها وزاد همًّا بنا وغما قد قَرُب الموتُ يا بنَ أما فبادر المَوت يا بن أما واعلم بأنَّ من عصاك جهلا مِن التُقى لم يُطعك هِمّا هو الهُدى والرَّدى فإمَّا أتيت آتى الردى وإما ها أنذا فَاعتبر بحالي في طَبق مُوصَد مُعَمَّى قد أسكنتني الذُّنوب بيتاً يخاله الإلف مُستحما أو ابحثي عن فُل بن فُل تَرَيْه تحت التراب رِمّا لبئس عَبْد يروح بَغْياَ مع المَساوي تراه دَوْما في غَمرة العَيش لا يُبالي أحمده الجارُ أمْ أَذَمَّا كم بين هذا وبين عبد يغدو خميصَ الحشى هضمّا يقطع آناءه صلاةً ودهره بالصلاح صوْمَا إنّ بهذا الكلام نُصحاً إن لم يوافِ القلوب صُمّا يا رب لِي ألفُ ذَنب إن تعفُ يا رب فاعفُ جَمّا فأبْرِد بعفوٍ غليلَ قَلب كأنّ فيه رسيسَ حُمَى وقال الغَزّال‏:‏ لَعَمْري ما ملّكتُ مِقْوَدَي الصِّبا فأمْطوَ للذّات في السَّهل والوَعْرِ ولا أنا ممّن يُؤثِر اللهوَ قلبُه فأمسي في سُكر وأصبحِ في سكرِ ولا قارع باب اليهوديّ مَوْهناً وقد هَجع النُّوامُ من شهوة الخمر وأوْتَغه الشيطان حتى أصاره من الغَيّ في بحر أضلّ من البَحر كفانيَ من كُل الذي أعجبوا به قُلَيلة ماء تُستقى لي من النَّهر ففيها شرَابي إن عَطشتُ وكُلّ ما يريد عيالي للعَجين وللقِدْر بخُبْز وبَقل ليس لحماً وإنني عليه كثيرُ الحمد لله والشكر فيا صاحبَ اللُحمان والخَمر هل تَرى بوجهي إذا عاينتَ وجهيَ من ضر وبالله لو عمرت تِسعين حِجةً إلى مثلها ما اشتقتُ فيها إلى خَمْر ولا طربتْ نفسي إلا مِزْهر ولا تَحَنَّن قلبي نحو عُود ولا زَمْر وقد حدّثوني أن فيها مَرارة وما حاجة الإنسان في الشرب للمُرّ أخي عُد ما قاسيتَه وتقلبت عليك به الدُّنيا من الخَير والشر فهل لك في الدُنيا سِوَى الساعةِ التي تكون بها السَّراء أو حاضِر الضُّرّ فما ساق منها لا يُحس ولا يُرى وما لم يكن منها عَمِي عن الفِكْر فطوبَى لعبدٍ أخرج الله روحَه إليه من الدنيا على عَمل البِر ولكنني حُدثْت أن نُفوسَهم هنالك في جاه جليل وفي قَدْر نَجْم من الحُسن ما يجرى به فَلَك كأنه الدرّ والياقوت في النَّظم ذاك الذي حاز حُسناً لا نظير له كالبدر نوراً عَلا في مَنْزل النّعم وقد تناظَرَ واليِرْجِيسُ في شَرَفٍ وقَارَن الزَّهرةَ البَيضاء في تَوَم فذاك يُشبهه في حُسن صُورته وذا يَزيد بحظّ الشّعر والقَلم أشكو إلى الله ما ألقى لفُرقته شِكْوى مُحبّ سَقيم حافظِ الذِّمم لو كنت أشكو إلى صُمِّ الهضاب إذاً تَفطَّرتْ للذي أبديه من أَلم يا غادراً لم يزَل بالغَدر مُرتدياً أين الوفاءُ ابِنْ لي غيرَ محْتشم إن غاب جسمُك عن عَيني وعن نَظري فما يَغيب عن الأسرار والوَهم إني سأبكيك ما ناحتْ مَطوقةٌ تبْكي أَلِيفاً على فَرْع من النَّشم ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام قال أبو حاتم‏:‏ أبيح للشاعر ما لم يُبَح للمتكلم من قَصرْ الممدود ومَدّ المقصور وتَحريك الساكن وتَسكين المتحرك وصَرْف ما لا يَنصرف وحَذف الكلمة ما لم تلتبس بأُخرى كقولهم‏:‏ فل من فلان وحم من حمام‏.‏
وجاءت حوادث مِن مِثلها يقال لِمثلك‏:‏ ويهاً فُل وقال مُسلم بن الوليد‏:‏ سَل الناسَ إني سائل الله وحْدَه وصائنُ وِجهي عن فُلان وعن فُل وقال آخر‏:‏ دعاء حمامات تُجاوبها حَمُ ومن المحذوف أيضاً قولُ الشاعر‏:‏ لها أشاريرُ مات لَحم تتَمِّره من الثَعالِي وَوَخْز من أرَانِيها يريد من الثعالب‏.‏
ومثله قول الشاعر‏:‏ ولضَفادِي جمَه نَقانِقُ يريد الضفادع‏.‏
ومن المحذوف قولُ كعب بن زُهير‏:‏ ويلُمّها خَلّةً لو أنها صَدقت في وَعدها أو لو أنَّ النُّصح مَقْبولُ يريد ويل لأمها‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لاه أبوك يريدون‏:‏ لله أبوك‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ لاه ابن عَمّك لا يخا ف المُبْديات من العَواقب ثم استمرُّوا وقالوا إنّ موعدَكم ماء بشرقيّ سَلْمى فَيْدُ أورَكَكُ قال الأصمعي‏:‏ سألت بجنبات فَيد عن رَكك‏.‏
فقيل‏:‏ ماء هاهنا يُسمى ركّا‏.‏
فعلمت أن زهيراً احتاج فضعَّف‏:‏ ومنه قول القِطامىّ‏.‏
وقولُ المرء يَنْفُذ بعد حِين مواضعَ ليس يَنفذُها الإبارُ ومثله قولهم‏:‏ كَلكال من كلكل‏.‏
ونظر هذا كثير في الشعر لمن تتَبّعه‏.‏
وأما قَصرهم المَمدود فجائز في أشعارهم ومدِّ المقصور عندهم قَبيح‏.‏
وقد يُستجاد في الشعر على قِبحه مثلُ قوله حسّان بن ثابت‏:‏ قَفاؤُك أحسن من وجهه وأمك خيرٌ من المُنذرِ وأنشد أبو عُبيدة‏:‏ يالك من تمْرٍ ومن شِيشاءِ يَنْشبَ في الحَلق وفي اللهاء فمد اللهى هو جمع لهاة‏:‏ كما قالوا‏:‏ قطاة وقطى ونواة ونوى‏.‏
أما تحريك الساكن وتسكين المتحرك فمن ذلك قول لَبيد بن ربيعة‏:‏ تَرّاك أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها أو يَرْتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها ومثله قولُ امرئ القيس‏:‏ وِقال أمية بن أبي الصَّلت‏:‏ تأبى فما تَطلع لهم في وقتها إلا مُعذبة وإلا تُجْلدُ ومن قولهم في تحريك الساكن‏:‏ اضْرِبَ عنك الهُمومَ طارقَها ضَرْبَك بالسَّوط قَوْنَس الفَرس وأما صَرف مالا يَنصرف عندهم فكثير والقَبيح عندهم ألا يُصرف المُنصرف وقد يُستجاد في الشعر على قُبحه‏.‏
قال عبِّاس بن مُرْداس‏:‏ وما كانَ بَدْر ولا حابس يفوق مِرداس في المَجمع ومن قولهم في تَسكين المُتحرّك وقد استشهد به سيبويه في كتابه‏:‏ عَجِب الناسُ وقالُوا شِعْرُ وضَاح اليَماني إنما شِعْريَ قَنْدٌ قد خُلِطْ بجُلجلان ولو حرك خلط اجتمع خمس حركات‏.‏
 
 
===باب ما أدرك على الشعراء===
{{العقد الفريد/الجزء الرابع}}
قال أبو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة‏:‏ أدركتِ العلماءُ بالشعر على امرئ القيس قولَه‏:‏ أغرّك منّي أنّ حُبك قاتلي وانك مهما تأمُري القلبَ يفعل وقالوا‏:‏ إذا لم يَغُرّ هذا فما الذي يَغر ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله حيث يقول‏:‏ وإنْ كُنتِ قد ساءتكِ مني خليقة فسُلّى ثِيابي من ثيابك تَنْسُل لأنه ادَّعى في هذا البيت فضلاً للتجلد وقوة الصبر بقوله‏:‏ فسُلّى ثيابي من ثيابك تنسل وزعم في البيت الثاني أنه لا تَحمُل فيه للصبر ولا قُوة على التمالك بقوله‏:‏ وإنك مهما تأمُري القلبَ يَفْعَل وأقبح من هذا عِندي قولهُ‏:‏ فظَلّ العَذَارى يَرْتمين بلَحْمها وشَحْمٍ كهُدَّاب الدِّمَقْس المُفتَّل ومما أدرك على زُهير قولُه في الضفادع‏:‏ وقالوا‏:‏ ليس خروج الضفادع من الماء مخافَة الغَمّ والغرق وإنما ذلك لأنهن يبتن في الشّطوط‏.‏
ومما أدرك على النابغة قولُه يصف الثِّور‏:‏ تَحِيد عن أسْتَن سودٍ أسافلُه مثل الإماء الغوادِي تَحْمل الحُزَمَا قال الأصمعيّ‏:‏ إنما تُوصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرَّواح لا بالغدو لأنهن يجَئن بالحَطبِ إذا رُحن قال الأخْنَس التِّغلبيّ‏:‏ تَظل بها رُبْدُ النَعام كأنها إماء يَرُحن‏.‏
بالعَشيّ حَواطبُ وأخذ عليه في وصف السيف قولُه‏:‏ يَقُدِّ السَّلوقيَّ المُضاعَفَ نَسجه وُيوقِد بالصُّفّاح نارَ الحُباحبِ فزعم أنه يَقُد الدّرع المضاعفة والفارس والفرس ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة وهذا من الإفراط القَبيح‏.‏
وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قولِه‏:‏ ليستْ من السُّود أعقاباً إذا انصرفتْ ولا تَبيع بأعلى مكّة البُرمَا وممّا أخذ عليه قولُه‏:‏ خَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبَال مَتينةٍ تُمدُ بها أيدٍ إليك نَوَازعُ تُمدّ بها الدلو‏.‏
وكان الأصمعيّ يُكثر التعجب من قوله‏:‏ وعَيرتْني بنو ذُبيان خَشْيتَه وهل علي بأن أخشاكَ من عارِ ومما أدبك على المُتلمّس قوله‏:‏
وقد أتناسى الهَمّ عند احتقاره بناجٍ عليه الصيعريّة مُكْدَم والصيعرية‏:‏ سِمة للنوق فجعلها صفة للفَحْل‏.‏
وسمعه طرفة وهو صبّي يُنشد هذا البيت فقال‏:‏ استنوق الجمل‏.‏
فضحك الناس وصارت مثلاً‏.‏
وأخذ عليه أيضاً قولُه‏.‏
أحارثُ إنا لو تُساط دماؤنا تَزايلْنَ حتى لا يَمسّ دمٌ دمَا وهذا من الكَذب المُحال‏.‏
ومما أدرك على طَرفة قوله‏:‏ أسد غِيل فإذا ما شرَبوا وَهَبوا كلّ أمُون وطِمِرّ ثم راحوا عَبق المسك بهم يلْحِفون الأرضَ هدّاب الأزر فذكر أنهم يُعطون إذا سَكروا ولم يَشترط لهم ذلك إذا صَحَوْا كما قال عنترة‏:‏ وإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ مالِي وعِرْضي وافر لم يُكَلم وإذا صحوتْ فما أقصِّر عن ندى وكما عَلمتِ شمائِلي وتكرُّمي ومما أدرك على عديّ بن زَيد قولُه في صفة الفَرس‏:‏ ولا يقال للفرس‏:‏ فاره وإنما يقال له‏:‏ جواد وَعَتيق‏.‏
ويقال للكَوْدن والبَغْل والحمار‏:‏ فاره‏.‏
ومما أدرك عليه وصفهُ الخمر بالخُضرة ولا نعلم أحداً وصفها بذلك فقال‏:‏ المُشْرِفُ الهِنديّ يُسْقَى به أخضَر مَطْموثاً بماء الخَريصْ ومما أدرك على أعشى بَكر قولُه‏:‏ وقد غَدوتُ إلى الحانوت يَتْبعني شاوٍ مِشَلّ شَلول شلشل شَوِلُ وهذه الألفاظ الأربعة في معنى واحد‏.‏
ومما أدرك علِى لَبيد قوله‏:‏ ومُقام ضيِّق فرْجتُه بمُقامي ولساني وجَدَلْ لو يقوم الفِيل أو فيّالُه زلّ عن مِثل مُقامي وزَحَل فظن أن الفَيال أقوى الناس كما أن الفِيل أقوى البهائم‏.‏
ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قولُه يصف المرأة‏:‏ لم تدر ما نَسْجُ اليَرندج قبلَها وَدِراسُ أعوصَ دَارِس مُتجَدّدِ اليَرَندجِ‏:‏ جلود سُود‏.‏
فَظنّ أنه شيء يُنْسج‏.‏
ودِراسِ أعوص يريد أنها لم تُدارس الناس عَويص الكلام الذي يخفي أحياناً ويَتبين أحياناً‏.‏
وقد أتى ابنُ أحمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تُعرف في كلام العرب منها‏:‏ أنه سمّى الناعر كما تطايح عن مامُوسة الشَّرَرُ وسَمَّى حُوار الناقة بابوساً ولا يُعرف ذلك فقال‏:‏ حَنّتْ قَلُوصي إلى بابُولسِها جَزعاً فما حَنِينُكِ أمْ مَا أنتِ والذّكَر وفي بيت آخر يذكر فيه البَقرة‏:‏ وبَنسَ عنها فرْقَد خَصِرُ أي تأخّر ولا يُعرف التَبنّس‏.‏
وقال‏.‏
وتقَنَع الحرباء أرْنَتَه يريد ما لُفّ على الرأس‏.‏
ولا تعرف الأرنة إلا في شعره‏.‏
ومما أدرك على نُصيب بن رَبَاح قولُه‏:‏ أَهيمُ بدَعْد ما حَييت فإن أمُت فواكبدي مَن ذا يَهيم بها بَعدِي تلهّف على من يهيم بها بعده‏.‏
ومما أدرك على الرَّاعي قولهُ في المرأة‏:‏ تكسو المفارقَ واللّباتِ ذا أرَج من قُصْب مُعتَلف الكافور درَّاج أراد المسك‏.‏
فجعله من قُصْب‏.‏
والقُصب‏:‏ المِعَى‏.‏
فجعل المِسك من قُصْب دابّة تعتلف هذا ابنُ عمّي في دِمَشْق خليفة لو شِئتُ ساقكُم إليَّ قَطِبنَا القطين في هذا الموضع‏:‏ العَبيد والإماء‏.‏
وقيل له‏:‏ أبا حَزْرة ما وجدتَ في تميم شيئاً تفخر به عليهم حتى فخرتَ بالخلافة لا والله ما صنعتَ في هجائهم شيئاً‏.‏
ومما أدركَ على الفَرزدق قولُه‏:‏ وعَضّ زمان يابن مَروان لم يَدَعْ من المال إلا مُسْحتا أو مُجَلَّفُ وقد أكثر النحويّون الاحتيالَ لهذا البيت ولم يأتوا فيه بشيء يُرضي‏.‏
ومثلُ ذلك قولُه‏:‏ غداةَ أحلَّت لابن أَصْرَم طَعنةً حُصَينٌ عَبيطاتِ السَّدائفِ والخَمرُ كان حُصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره‏.‏
فقال ‏"‏ عبيطات السدائف‏.‏
فنصب عبيطات السدائف ورفع الخمر هانما هي معطوفة عليها وكان وجهها النصب فكأنه أراد‏:‏ وحلّت له الخمر‏.‏
ومما أدرك على الأخطلِ قولُه في عبد الملك بِن مَرْوان‏:‏ وقد جَعل الله الخِلافة منهمُ لأبيض لا عارِي الخِوَان ولا جَدْبِ وهذا مما لا يُمدح به خليفة‏.‏
وأخذ عليه قولُه في رجل من بني أسد يمدحه وكان يُعرف بالقَين ولم يكن قَيناً فقال فيه‏:‏ قد كنتُ أحسبه قَيْناً وأنبؤه فالآن طيَر عن أثوابِه الشَرَرُ وهذا مدْح كالهجاء‏.‏
ومما أدرك على ذي الرمة‏:‏ تُصْغي إذا شَدَّها بالكور جانحةً حتى إذا ما استَوى في غَرْزها تَثِبُ وسَمعه أعرابيّ يُنشده فقالت‏:‏ صُرع والله الرجل ألا قلت كما قال عَمُّك الراعي‏:‏ وواضعة خدّها للزَما م فالخَدُّ منها له أصْعرُ ولا تُعجل المرءَ قبل الرًّكو ب وهي برُكبته أبْصر وهي إذا قام في غرْزها كمثل السفينة أو أوْقرُ ومما أدرك عليه قولُه‏:‏ حتى إذا دَوّمت في الأرض راجعةً كِبْرٌ ولو شاء نَجَّى نَفْسه الهَربُ قالوا‏:‏ التَّدويم‏:‏ إنما يكون في الجوّ يقال‏:‏ دَوّم الطائر في السماء إذا حلّق واْستدار ودوَم في الأرض إذا استدار فيها‏.‏
وما أدرك على أبي الطَّمَحان القَيْنيّ قولُه‏:‏ لما تَحَمَّلت الحُمول حسبتُها دَوْماً بأثلة ناعماً مَكْمُوماً ومما أخذ على العجّاج قوله‏:‏ كأنّ عَينيه من الغُؤور قَلتان أو حَوْجَلتا قارُورِ صَيّرتا بالنَّضح والتِّصْيير صلاصلَ الزَّيت إلى الشّطورِ الحوجلتان‏:‏ القارورتان‏.‏
جعل الزَجاجَ ينضح ويَرشح‏.‏
ومما أدرك على رؤبة قوله‏:‏ كُنتم كمن أدخل في جُحرٍ يدا فأخطأ الأفعى ولاقَى الأسودا جعل الأفعى دون الأسود وهي فوقه في المضرّة‏.‏
وأخذ عليه في وصف الظَّليم قوله‏:‏ وكُلُّ زَجّاج سُخَامُ الخَمْل تَبْري له في زعلاتٍ خطْل فجعل للظليم عدّة إناث كما يكون للحَمار وليس للظليم إلا أنثى واحدة‏.‏
وأُخذ عليه قولُه يصف الرَّامي‏:‏ لا يَلتوي من عاطس ولا نَغَق إنما هو النَّغيق والنُّغاق وإنما يصف الرامي‏.‏
وأدرك عليه قولُ‏:‏ أقفرت الوعثاء والعثاعِث من أهلها والبُرَق البَرَارِثُ إنما هي البراث‏:‏ جمع بَرْث‏.‏
وهي الأرض اللينة‏.‏
وأدرك عليه قولُه‏:‏ يا ليتنا والدهر جري السُّمّةِ إنما يقال‏:‏ ذهب السّهمي أي في الباطل وأخذ عليه قوله أو فِضّة أو ذهبٌ كِبْريتُ قال‏:‏ سَمع بالكِبْريت أنه أحمر فظن أنه ذَهب‏.‏
مما يَستقبح من تشبيهه قولُه في النساء‏:‏ يَلْبسن من لين الثيابِ نِيما والنِّيم‏:‏ الفرو المُغشىَّ‏.‏
وأخذ عليه قولُه في قوائم الفَرس‏:‏ يَردبن شتَّى وَبقَعْن وَفْقَا وأنشده مُسلم بنِ قُتَيبة فقال له‏:‏ أخطأت يا أبا الجَحِّاف‏.‏
جعلتَه مُقيداً‏.‏
قال له رؤبة‏:‏ أدْنني من ذنب البعير‏.‏
ومما أُدرك على أبي نُخيلة الراجز قولهُ في وصف المرأة‏:‏ مُرَية لم تَلْبس المرقّقا ولم تذُق من البُقول الفُستُقا فجعل الفُستق من البقول وإنما هو شَجر‏.‏
ومما أُدرك على أبي النجم قولُه في وصف الفرس‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ إذا كان كذلك فحِمار الكسَّاحِ أسرع منه لأن اضطراب مؤخره قَبيح‏.‏
وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السُّلمي‏:‏ مرّ كَلمع البَرق سام ناظرُه يَسْبَح أُولاه ويَطفُو آخرُه فما يَمسّ الأرضَ منه حافرُه وأخذ عليه في الوُرود قولُه‏:‏ جاءت تَسامى في الرَّعيل الأول والظِّل عن أَخفافها لم يَفْضل فوصف أنها وردت في الهاجرة‏.‏
وإنما خَير الورود غَلساً والماء بارد‏.‏
كما قال الآخر‏:‏ فوردت قبل الصباح الفاتِقِ وكقول لبَيد بن ربيعة العامريّ‏:‏ إنّ من وِرْدي لتغْلِيس النَهل وقال آخر‏:‏ فوردْنَ قبل تَبينُّ الألوان وأنشد بشَّار الأعمى قوِلَ كُثيّر عزة‏:‏ ألا إنَّما ليلَى عصا خيْزُرانة إذا غَمزوها بالأكُفّ تَلِينُ فقال‏:‏ لله أبو صخر‏!‏ جعلها عصا خَيْزرانة‏.‏
فوالله لو جعلها عصا زيْد لَهَجّنها بالعَصَا ألا قال كما قلتُ‏:‏ وبيضاء المَحاجر من معَدٍّ كأن حديثَها قِطَع الجُمانِ إذا قامتْ لحاجتها تَثَنَّت كأنّ عِظامَها من خَيزران ودخل العتابيّ على الرشيد فأَنشده في وصف الفَرس‏:‏ كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا قادمةً أو قلماً مُحرّفَا فعلم الناس أنه لحن ولم يهتدِ أحدٌ منهم إلى إصلاح البيت غير الرشيد فإنه قال‏:‏ قُل‏:‏ تخال أذْنيه إذا تَشَوَّفا والراجز وإن كان لَحن فإنه أصاب التَّشبيه‏.‏
حدّث أبو عبد الله بن محمد بن عُرْفَة بواسط قال‏:‏ حدّثني أحمد بن محمد أبن يحيى عن الزُّبير بن بكّار عن سُليمان بن عياش السَّمديّ عن السائب راوية كُثير عَزة قال‏:‏ قال لي كُثير عَزة يوماً‏:‏ قُم بنا ابنِ أبي عَتيق نتحدّث عنده‏.‏
قال‏:‏ فجئنا فوجدنا عنده ابنَ مُعاذ المُغنّي‏.‏
فلما رأى كُثيّراَ قال لابن أبي عتيق‏:‏ ألا أُغنيك بشعر كُثير عزة قال‏:‏ بلى فغنّاه‏:‏ أبائنة سُعدى نعم ستَبِين كما انبت من حَبل القَرين قرينُ كأنك لم تَسمع ولم تَر َقبلها تفرُّق أُلاف لهنّ حَنِين فأخلفن مِيعادي وخُنّ أمانتي وليس لمن خانَ الأمانة دِينُ فالتفت ابنُ أبي عَتيق إلى كُثيّر فقال‏:‏ أوللدِّين صحبتهن يا بن أبي جُمعة ذلك والله أشبهُ بهنّ وأدعى للقلوب إليهنّ وإنما يُوصفن بالبُخل والامتناع وليس بالوفاء والأمانة‏.‏
وذو الرقيات أشعر منك حيث يقول‏:‏ حَبّذا الإدلال والغَنَجُ والتي في طَرفها دَعَجُ وِالتي إن حدّثت كَذبت والتي في ثَغرها فَلج خبروني هل على رجُل عاشِقٍ في قُبلة حَرَج فقال كُثيّر‏:‏ قُم بنا من عند هذا ومَضى‏.‏
عُمارة بن عَقيل بن بِلال بن جَرير قال‏:‏ إنّي بباب المأمون إذ خرج عبد الله ابن أبي السِّمط فقال لي‏:‏ علمتُ أنّ أمير المؤمنين على كماله لا يعرف الشِّعر‏.‏
قلت له‏:‏ وبِم علمتَ ذلك قال‏:‏ أسمعتُه الساعَة بيتاً لو شاطرني مُلكه عليه لكان قليلاً‏.‏
فنظر إلي نَظراً شَزراً كاد يَصطلمني‏.‏
قلت له‏:‏ وما البيت فأنشد‏:‏ أضحى إمامُ الهُدى المأمون مُشتغلاً بالدّين والناسُ بالدنيا مَشاغيلُ قلت له‏:‏ والله لقد حَلم عليك إذ لم يؤدّبك عليه‏.‏
ويلك‏!‏ وإذا لم يشتغل هو بالدنيا فمن يدبّر أمرها ألا قلت كما قالَ جَدّي في عبد العزيز بن مروان‏:‏ فلا هو في الدُّنيا مُضِيع نصيبه ولا عَرَضُ الدُّنيا عن الدّين شاعلُ فقال‏:‏ الآن علمتُ أنني أخطأت‏.‏
الهيثم بن عَدِيّ قال‏:‏ دخل رجل من أصحاب الوليد بن عبد الملك عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد رأيتُ ببابك جماعةً من الشعراء لا أحسبُهم اجتمعوا بباب أحد من الخلفاء فلو أذنتَ لهم حتى يُنشدوكَ فأذن لهم فأَنشدوه وكان فيهم الفرزدق وجرير والأخطل والأشهب بن رُميلة‏.‏
وترك البَعِيث فلم يأذن له‏.‏
فقال الرجل المُستأذن لهم‏:‏ لو أذنتَ للبَعِيث يا أمير المؤمنين إنه لشاعر‏.‏
فقال‏:‏ إنه ليس كهؤلاء إنما قال من الشعر يسيراً‏.‏
قال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إنه لشاعر‏.‏
فأَذِن له فلما مَثَل بين يديه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن هؤلاء ومَن ببابك قد ظَنّوا أنك إنما أذنتَ لهم دوني لفَضل لهم عليّ‏.‏
قال‏:‏ أولستَ تعلم ذلك قال‏:‏ لا والله ولا علّمه الله لي‏.‏
قال‏:‏ فأنشِدْني من شعرك‏.‏
قال‏:‏ أمَا والله حتى أنشدك من شعر كُل رجل منهم ما يَفضحه فأقبل على الفرزدق فقال‏:‏ قال هذا للشيخُ الأحمق لعبد بني كُليب‏:‏ بأيّ رِشاءٍ يا جريرُ وماتحٍ تدلّيت في حَوْمات تلك القَماقِم فجعله يتدلّى عليه وعلى قومه من عَلُ وإنما يأتيه من تحته لو كان يَعقلُ‏.‏
وقد قال هذا كَلبُ بني كُليب‏:‏ لَقومِيَ أحَمى للحقيقة منكُم وأضربُ للجَبَّار والنقعُ ساطع وأوثقُ عند المُرْدفات عشيّة لَحَاقاً إذا ما جَرَّد السيفَ لامِع فجعل نساءه لا يثقْنَ بلَحاقه إلا عشيَّة وقد نُكحن وفُضحن‏.‏
وقال هذا النصراني ومدح رجلاً يسمى قَيناً فهجاه ولم يشعر فقال‏:‏ قد كُنت أحسبه قيناً وأُنبؤه فالآن طُيّر عن أثوابه الشَّررُ وقال ابن رُميلة ودَفع أخاه إلى مالك بن رِبْعيّ بن سَلْميّ فقُتل فقال‏:‏ مَدَدنا وكان ضَلَّة من حلومنا بَثَدْيٍ إلى أولاد ضَمرة أقْطَعا فمن يرجو خيرَه وقد فعل بأخيه ما فَعل‏.‏
فجعل الوليدُ يُعْجب من حفظه لمثالب القوم وقُوة قلبه وقال له‏:‏ قد كشفتَ عن مساوئ القوم فأنشدني من شعرك‏.‏
فأنشده فاستحسن قولَه ووصَله وأجزل له‏.‏
ومما عِيب على الحسن بن هانئ قولُه في بعض بني العبًاس‏:‏ كيف لا يدينك من أمل مَنْ رسولُ الله من نَفره فقالوا‏:‏ إنّ حَق الرسول {{صل}} أن يُضاف إليه ولا يُضاف هو إلى غيره‏.‏
ولو اتسع فأجازه لكان له مجاز حسن‏.‏
وذلك أن يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قُريش‏:‏ منّا رسول الله {{صل}}‏.‏
يريد أنه من القبيلة التي نحن منها كما قال حسّان بن ثابت‏:‏ وما زال في الإسلام من آل هاشم دعائمُ عِزٍّ لا تُرام ومَفْخَرُ بَهاليلُ منهم جَعفرٌ وابنُ أمه عليّ ومنهم أحمدُ المتخير فقال‏:‏ منهم كما قال هذا‏:‏ من نفر‏.‏
ومما أُدرك عليه قولُه في البَعير‏:‏ أَخْنس في مثل الكِظَام مَخْطِمُه والأخنس‏:‏ القصير المَشافر وهو عَيب له وإنما تُوصف المَشافر بالسبوطة‏.‏
ومما أُدرك على أبي ذُؤيب قوِلُه في وصف الدُّرّة‏:‏ فجاء بها ما شئت مِن لطميّة يدُور الفُرات فوقَها وَتمُوجُ قالوا‏:‏ والدُّرة لا تكون في الماء الفُرات إنما تكون في الماء المالح‏.‏
واجتمع جريرُ بن الخَطَفي وعُمَر بن لَجَأ التَّيمي عند المُهاجر بن عبد الله والي اليمامة فانشده عُمر بن لَجأ أرجوزَته التي يقول فيها‏:‏ حتى انتهى إلى قوله‏:‏ تُجَرّ بالأهونِ من إدْنائها جَرّ العَجوز الثنْيَ من خِفَائها فقال جرير‏:‏ ألا قلت‏:‏ جرّ الفتاة طَرَفَيْ رِدائها فقال‏:‏ والله ما أَردتُ إلا ضَعْف العجوز‏.‏
وقد قلتَ أنت أعجبُ من هذا وهو قولُك‏:‏ وأوثق عند المُرْدفات عَشيّةً لَحاقاً إذا ما جَرّد السَّيفَ لامعُ والله لئن لم يُلْحقن إلا عشيّة ما لُحقن حتى نكحن وأحبلن‏.‏
ووقع الشَّرُّ بينهما‏.‏
وقَدم عمرُ بن أبي ربيعة المدينةَ فأقبل إليه الأحوصُ ونُصيب فجعلوا يتحدثون‏.‏
ثم سألهما عمرُ عن كُثيّر عَزّة فقالوا‏:‏ هو هاهنا قَريب‏.‏
قال‏:‏ فلو أرسلنا إليه قالا‏:‏ هو أشدّ بَأْوا من ذلك‏.‏
قال‏:‏ فاذهبا بنا إليه‏.‏
فقاموا نحوَه فألفَوْه جالساً في خَيمة له‏.‏
فوالله ما قام للقُرشيّ ولا وَسّع له‏.‏
فجعلوا يتحدّثون ساعة‏.‏
فالتفت إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له‏:‏ إنك لشاعر لولا أنك تُشبِّب بالمرأة ثم تَدعها وتُشبِّب بنفسك‏.‏
أَخبرني عن قولك‏:‏ ثم اسبَطَرت تَشتدِّ في أَثَري تسأل أهلَ الطَّوافِ عن عُمر والله لو وصفتَ بهذا هِرّة أهلِك لكان كثيراً‏!‏ ألا قلت كما قال هذا يعني الأحوص‏:‏ وما كنتُ زَوّاراً ولكنّ ذا الهَوى وإن لم يَزر لا بُدّ أن سيزور قال‏:‏ فانكسرت نَخوةُ عمر بن أبي ربيعة ودخلت الأحوصَ زَهوةٌ ثم ألتفت إلى الأحوص فقالت‏:‏ أخبرني عن قولك‏:‏ فإنّ تَصِلي أصِلْك وإن تَبِيني بهَجْرك بعد وَصْلك ما أبالِي أمَا والله لو كنتَ حُرَّاً لبالَيتَ ولو كُسر أنفُك‏.‏
ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب‏:‏ بزينَب اْلمِم قبلَ أن يَرحل الرَّكْبُ وقُلْ إن تَملِّينا فما ملكِ القَلْبُ قال‏:‏ فانكسر الأحوص ودخلت نصيْباً زهوة‏.‏
ثم التفت إلى نُصيب فقال له‏:‏ أخبرني عن قولك‏:‏ أهيم بدَعد ما حييتُ فإن أمت فواكبدِي مَن ذا يهيم بها بَعدِي أهمّك ويحك مَن يفعل بها بعدك‏.‏
فقال القوم‏:‏ الله أكبر استوت الفِرَق قُوموا بنا من عند هذا‏.‏
ودخل كُثير عزة على سُكينة بنت الحُسين عليه السلام فقالت له‏:‏ يا بن أبي جُمعة أخبرني عن قولك في عَزّة‏:‏ وما رَوْضة بالحزن طَيِّبة الثَّرى يَمُج النَدى جَثْجاثُها وعَرارُها بأطيَبَ من أرْدَانِ عَزّة مَوْهِناً وقد أوقدت بالمندل الرَّطب نارُها طاب ريحُها‏.‏
ألا قلت كما قال عَمّك امرؤ القيس‏:‏ ألم تَريَاني كُلما جِئْتُ طارقاً وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيّبِ سمر عبدُ الملك بنُ مَروان ذاتَ ليلة وعنده كُثيّر عَزّة فقال له‏:‏ أنشدني بعضَ ما قلتَ في عَزّة‏.‏
فأنشده حتى إذا أتى على هذا البيت‏:‏ هممتُ وهَمّت ثم هابتْ وَهِبْتُها حياءً ومِثْلي بالحَيَاء حَقِيقُ قال له عبدُ الملك‏:‏ أما والله لولا بيت أنشدتَنيه قبل هذا لحرمتُك جائزتك‏.‏
قال‏:‏ لمَ يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لأنك شركتُها معك في الهَيبة ثم استأثرت بالحياء دونها‏.‏
قال‏:‏ فأي بيت عفوتَ به يا أمير المؤمنين قال قولك‏:‏ دعُوني لا أريد بها سِواها دعُوني هائماً فيمن يَهيمُ ومما أدرك على الحسن بن هانئ قولُه في وصفِ الأسد حيث يقول‏:‏ كأنما عينُه إذا التفتت بارزةَ الجفن عينُ مَخْنُوقِ وإنما يُوصف الأسد بغؤور العَينين كما قال العجّاج‏:‏ كأن عَينيه من الغُؤور قَلتان أو حَوْجلتا قارورِ وقال أبو زُبيد‏:‏ ومن قولنا في وصف الأسد ما هو أشبه به من هذا‏:‏ ولرُبّ خافقة الذَوائب قد غَدتْ مَعْقودةً بلوائه المَنْصور يَرْمِي بها الآفاق كُل شَرَ نْبَث كفّاه غيرُ مُقلَّم الأظْفورِ لَيثٌ تَطِير له القُلوبُ مخافةً مِن بين همهمة له وزَئير وكأنما يُومي إليك بطَرفة عن جَمْرتين بجَلْمد مَنْقُور
===باب من أخبار الشعراء===
حَدّث دِعْبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشِّيص وأبو نُواس في مجلس فقال لهم أبو نُواس‏:‏ إنّ مجلسنا هذا قد شُهر باجتماعنا فيه ولهذا اليوم ما بعده فليأت كُل واحد منكم بأحسن ما قال فَلْينشده‏.‏
فأنشد أبو الشِّيص فقال‏:‏ وَقف الهَوى بي حيثُ أنتِ فليس لي متأخر عنه ولا مُتقدَّمُ أجدُ الملامةَ في هَواكِ لذيذةً حُبّاً لذِكْرك فَلْيلمني اللُّوم وأهنتِني فأهنت نفسيصاغراً ما مَن يهون عليك ممَن أُكْرِم أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبّهم إذ كان حَظِّي منك حظِّي منهمُ قال‏:‏ فجعل أبو نواس يعجب من حُسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عَجبُه‏.‏
ثم أنشد مسلم أبياتاً من شعره الذي يقول فيه‏:‏ فاقسم أنْسىَ الداعياتِ إلى الصِّبا وقد فاجأتْها العينُ والسِّترُ واقعُ فغطّت بأيديها ثمارَ نُحورها كأيدي الأسرى أثقلتها الجَوَامع قال دِعبل‏:‏ فقال لي أبو نُواس‏:‏ هاتِ أبا عليّ وكأنّي بك قد جئتنا بأم القِلادة‏.‏
فقلتُ‏:‏ يا أين الشَّبابُ وأيَّة سَلَكا أَمْ أَين يُطلب ضلَّ أم هَلَكا يا ليتَ شعري كيف صَبْرُكما يا صاحِبَيَّ إذا دَمِي سُفِكا لا تطلُبا بظُلامتي أحداً قَلبي وطَرْفي لا دَمِي اشتركا ثم سَألناه أن ينشد‏.‏
فأنشد أبو نُواس‏:‏ لا تَبْك هِنداً ولا تَطْرب إلى دَعْدِ واشرب على الوَرْد من حَمراء كالوَرْدِ كأساً إذا انحدرتْ في حَلْق شاربها وجدتَ حُمرتها في العيْن والخَدّ فالخَمر ياقوتة والكأس لُؤلؤة في كَفّ جاريِة مَمشوقةَ القَدّ تَسْقيك من عَينها خَمْراً ومن يَدها خَمراً فما لكَ من سُكْرَين من بُدّ لي نَشْوتان وللندْمان واحدة شيء خُصصتُ به من بينهم وَحْدي فقاموا كلهم فسجدوا له‏.‏
فقال‏:‏ أفعلتموها أعجميَّة لا كلمتُكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً‏.‏
ثم قال‏:‏ تسعة أيام في هَجر الإخوان كثير وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعُقوبة على الهَفوة‏.‏
ثم التفت إلينا فقال‏:‏ أعلمتم أنّ حكيماً عَتب على حكيم فكتب المعتوبُ عليه إلى العاتب‏:‏ يا أخي إنّ أيام العمر أقلُّ من أن تَحتمل الهجر محمد بن الحسن المَدِينيّ قال‏:‏ أَخبرني الزبيرُ بن أبي بكرة قال‏:‏ دخلت على المُعتز بالله أمير المؤمنين فسَلمتُ عليه فقال‏:‏ يا أبا عبد الله إني قد قلتُ في ليلتي هذه أبياتاً وقد أعيا عليّ إجازةُ بعضها‏.‏
قلت‏:‏ أنشدني‏.‏
فأنشدني وكان مَحموماً‏:‏ إنّي عرفتُ عِلاجَ القَلْب من وَجَع وما عرفتُ عِلاجَ الحُبّ والخُدَع جَزعتُ للحبِّ والحمَى صَبرتُ لها إني لأعجبُ من صَبري ومن جزعي مَن كان يَشغلُه عن حُبه وَجَعٌ فليس يَشغلني عن حُبكم وَجَعي قال أبو عبد الله‏:‏ فقلت‏:‏ وما أملُّ حَبيبي ليلةً أبداً مع الحَبيب ويا ليتَ الحبيبَ معِي فأمر لي على البيت بألف دِينار‏.‏
اجتمع الحسنُ بن هانئ وصريعُ الغواني وأبو العتاهية في مجلس بالكوفة فقيل لأبِي العتاهية‏:‏ أنشدنا‏.‏
فأنشد‏:‏ أسيَّدتي هاتي فديتُك ما جُرْمي فانزِلَ فيما تَشْتهين من الحُكْم كفاكِ بحَقّ الله ما قد ظَلَمْتِني فهذَا مقامُ المُسْتجير من الظُّلم وقيل لصريع الغواني‏:‏ أنشدنا‏.‏
فأنشأ يقول‏:‏ قد اطّلعتَ على سِرِّي وإعْلاني فاذهبْ لشانِكَ ليس الجَهْلُ من شَانِي ثم قيل للحسن بن هانئ‏:‏ أنشدنا فأنشد‏:‏ يا بنة الشَيخ اصْبَحينا ما الذي تَنتظرِينَا قد جَرى في عُوده الما ءُ فأجْرِي الخمر فِينا قيل‏:‏ هذَا الهزل فهاتِ الجدّ‏.‏
فأنشأ‏:‏ لمِن طَلل عارِي المَحلّ دفينُ عفا عهدُه إلا روائمُ جُونُ كما افترقت عند المَبيت حمائمٌ غَريباتُ مُمْسىً ما لهن وُكون ديارُ التي أمّا جَنَى رَشَفاتها فحُلو وأما مسها فيَلين وما أَنْصفت أما الشُّحوبفظاهرٌ بوَجهي وأمّا وجهها فَمَصُون فقام صريعُ الغواني يجرّ ذيلَه وخرج وهو يقول‏:‏ إن هذا مجلس ما جلستُه أبداً‏.‏
هشام بن عبد الملك الخُزاعيّ قال‏:‏ كُنا بالرقة مع هارون الرشيد فكتب إليه صاحبُ الخَبر بموت الكِسائي وإبراهيم المَوصلي والعبَّاس ابن الأحنف في وقت واحد‏.‏
فقال لابنه المأمون‏:‏ اخرج فصلّ عليهم‏.‏
فخرج المأمون في وُجوه قُوّاده وأهل خاصّته وقد صُفُّوا له‏.‏
فقالوا له‏:‏ مَن ترى أن يُقدَّم قال‏:‏ الذي يقول‏:‏ يا بَعِيدَ الدار عن وَطنه هائماً يَبْكي على شَجَنِهْ قيل له‏:‏ هذا وأشاروا إلى العباس بن الأحنف‏.‏
فقال‏:‏ قَدّموه فقُدِّم عليهم‏.‏
أبو عمرو بن العلاء قال‏:‏ نزل جرير وهو مُقبل من عند هشام بن عبد الملك فبات عندي إلى الصبح فلمّا أَصْبح شَخص وخرجتُ معه أشيعه‏.‏
فلما خرجنا عن أَطناب البيوت التفتَ إليّ فقال‏:‏ أنشدني من قول مَجنون بني عامر قيس ابن المُلوّح فأنشدتُه‏:‏ وأدنْيتِني حتى إذا ما سَبَيْتني بقَول يُحلّ العُصْمَ سَهلَ الأباطحَ تجافيتِ عنِّي حين لا ليَ حيلة وغادرتِ ما غادرتِ بين الجَوانح فقال‏:‏ والله لولا أنه لا يَحسن لشيخ مثلي الصُّراخ لصرخت صرخة يسمعها هشامٌ على سريره‏.‏
وهذا من أرق الشِّعر كُله وألطفه لولا التضمين الذي فيه‏.‏
والتضمين أن يكون البيت معلّقاً بالبيت الثاني لا يتم معناه إلا به‏.‏
وإنما يُحمد البيت إذا كان قائماً بنفسه‏.‏
وقال العبّاسُ بن الأحنف نظير قول المجنون بلا تضمين وهو قولُه‏:‏ أشكو الذين أذاقُوني مودَتهم حتى إذا أيقظوني بالهَوى رقدُوا وقال الأصمعيّ‏:‏ دخلتُ على هارون الرشيد فوجدتُه منغمساً في الفراش فقال‏:‏ ما أبطأ بك يا أصمعيّ قلت‏:‏ احتجمت يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ فما أكلتَ عليها قلت‏:‏ سِكباجة وطَباهَجة قال‏:‏ رميتَها بحَجرها‏.‏
أتشرب فقلت‏:‏ نعم وقلت‏:‏ قال‏:‏ يا مسرور أي شيء معك قال‏:‏ ألف درهم‏.‏
قال‏:‏ ادفعها للأصمعيّ‏.‏
وكان يصحب عليَّ بن داود الهاشمي يَهوديّ ظَريف مؤنس أديب شاعر أريب فلما أراد الحَج أراد أن يَستصحبه فكتب إليه اليهودأي يقول‏:‏ إنّي أعوذ بداودٍ وحُفْرته من أن أحُج بكُره يا بن داوُدِ نُبِّئتُ أنْ طريقَ الحَج مُصردة عن النَّبيذ وما عَيْشي بِتَصريدِ والله ما فيَّ من أَجر فتَطلبَه فيما علمت ولا دِيني بمَحْمود أما أبوك فذاك الجُود يعَرِفُه وأنت أشبهُ خَلق الله بالجُود كأنّ ديباجَتَيْ خَدّيه من ذهب إذا تَعصّب في أثوابه السّود حَدّث أبو إسحاق يحيى بن محمد الحَواريّ قال‏:‏ سمعتُ شيخاً من أهل البَصرة يقول‏:‏ قال إبراهيم السَّويقي مولى المَهالبة‏:‏ تتابعتْ عليّ سنون ضيّقة وألحِّ عليَّ العُسر وكثرةُ العِيال وقلّة ذات اليد وكُنت مشتهراً بالشعر أقصد به الإخوان وأهلَ الأقدار وغيرَهم حَتى جفاني كُل صديق وملّني مَن كنت أقصده فأضرّني ذلك جدّاً‏.‏
فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد إذ قالت‏:‏ يا هذا قد طال علينا الفَقر وأضرّ بنا الجهد وقد بقيتَ في بيتي كأنك زَمِن هذا مع كَثرة الولد فاخرُج عنّي واكفِني نفسك ودَعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مَرّة وأقعد بهم أخرى‏.‏
وألَحّتْ عليّ في الخصومة وقالت لي‏:‏ يا مشؤوم تعلمتَ صناعة لا تُجدي عليك شيئاً‏.‏
فضجرتُ منها ومِن قولها وخرجتُ على وجهي في ذلك البرد والرِّيح وليس عليَّ إلا فَرْو خَلَق ليس فوقه دِثار ولا تحته شِعار وعلى عُنقي إزار ثم جاءت ريحٌ شديدة فذهبت به عن بدني وتفرّقت أجزاؤه عني من بِلاه وكثرة رقاعه‏.‏
وعلى عنقي طَيْلسان ليس عليّ منه إلا رسمه‏.‏
فخرجت والله متحيَّراً لا أدري أين أقصد ولا حيث أذهب‏.‏
فبينما أنا أجِيل الفكرة إذ اخذتني سماء بقطر متدارك‏.‏
فدفعت إلى دارٍ على بابها روشن مطل ودكّان نظيف وليس عليه أحد فقلت‏:‏ أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر‏.‏
فقصدت قصدَ الدار‏.‏
فاذا بجارية قاعدة قد لزمتْ باب الدار كالحافظة عليه فقالت لي‏:‏ إليك يا شيخ عن بابنا‏.‏
فقلت لها‏:‏ ويحك لستُ بسائل ولا أنا ممن تُتخوف ناحيته‏.‏
فجلست على الدّكان‏.‏
فلما سكنت نفسي سمعتُ نغمة رخيمة من وراء الباب تدلّ على نغمة امرأة‏.‏
فأصغيت فإذا بكلام يدل على عِتاب‏.‏
ثم سمعت نغمةً أخرى مثل ذلك وهي تقول‏:‏ فعلتِ وفعلتِ‏.‏
والأخرى تقول‏:‏ بل أنت فعلتِ وفعلتِ‏.‏
إلى أن قالت إحداهما‏:‏ أنا جُعلت فداك إن كنتُ أسأتُ فاغفري واحفظي عنه أشعار ظريفة‏.‏
فأنشدتْها تقول‏:‏ هبيني يا مُعذِّبتي أسأتُ وبالهِجْران قَبلكُم بدأت فقالت‏:‏ تها‏.‏
ثم قالت‏:‏ يا أبا إسحاق ما لي أراك بهذه الهَيئة الرثّة والبزّة الخَلقة فقلت‏:‏ يا مولاتي تعدَّى عليّ الدهرُ ولم يُنصفني الزمان وجفاني الإخوان وكَسدت بضاعتي‏.‏
فقالت‏:‏ عَزّ عليّ ذلك‏.‏
وأومأت إلى الأخرى فضربت بيدها علىِ كمُها‏.‏
فسلّت دملُجا من ساعدها ثم ثَنَّت باليد الأخرى فسلّت منها دملجاً آخر‏.‏
فقالت‏:‏ يا أبا إسحاق خُذ هذا واقعد على الباب مكانَك وانتظر الجاريةَ تأتيك‏.‏
ثم قالت‏:‏ يا جارية سَكَن المطر قالت‏:‏ نعم‏.‏
فقامتا وخرجتا وقعدتُ مكاني‏.‏
فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسةُ أثواب وصرّة فيها ألفُ دِرهم وقالت لي‏:‏ تقول مولاتي‏:‏ أنفق هذه فإن احتجتَ فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله‏.‏
فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي‏:‏ إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي قالت‏:‏ هذا لِبَناتي وكابرتني عليهما‏.‏
فدخلت السّوقَ فبعتُهما بخمسين ديناراً وأقبلتُ‏.‏
فلما فتحت الباب صاحب امرأتي وقالت‏:‏ قد جئتَ أيضاً بشُؤمك‏!‏ فطرحتُ الدنانيرَ والدراهم بين يديها والثياب فقالت‏:‏ من أين هذا قلت‏:‏ مِن الذي تشاءمت به وزعمتِ بضاعتي التي لا تُجدي‏.‏
فقالت‏:‏ قد كانت عندي في غاية الشؤم وهي اليوم في غاية البركة‏.‏
نوادر من الشعر وقال المأمون لمحمد بن الجَهم‏:‏ أَنشدني بيتاً أوّله ذَمّ وآخره مَدْح أولك له كُورة فأنشده‏:‏ قَبحتْ مناظرُهم فحين خبرتُهم حَسُنت مناظرُهم لحسن المَخْبَر أرادوا ليُخفوا قبرَه عن عدوّه فطيبُ تُراب القَبر دلَّ على القبر فولاه الدِّينور‏.‏
وقال هارون الرشيد للمُفَضّل الضَّبِّي‏:‏ أنشدنا بيتاً أوله أعرابي في شَملته هَبَّ من نَومته وآخره مَدنيّ رقيق غُذِّي بماء العَقيق‏.‏
قال المُفضل‏:‏ هَوَّلتَ عليَّ يا أمير المؤمنين فليت شعري بأيّ مَهر تُفتضّ عَروس هذا الخدْر قال هارون‏:‏ هو بيتُ جَميل حيث يقول‏:‏ ألا أيها النّوام ويحكُم هُبُّوا أُسائلكم هل يَقتل الرجلَ الحبُّ فقال له المفضل‏:‏ فأخبرني يا أمير المؤمنين عن بيت أوله أكثمُ بن صَيفيّ في إصابة الرأي وآخره بُقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء قال له هارون‏:‏ ما هو قال‏:‏ هو بيتُ الحسن بن هانئ حيث يقول‏:‏ دع عنكَ لَومي فإنّ اللومَ إغراء وداوني بالَّتي كانت هي الدواء قال‏:‏ صدقت‏.‏
وقال الرَّبيع‏:‏ خرجنا مع المنصور مُنصَرفنا من الحَجّ فنزلنا الرَّضمة ثم راح المنصور ورُحنا معه في يوم شديد الحَرّ وقد قابلْته الشمس وعليه جُبة وَشيْ‏.‏
فالتفت إلينا وقال‏:‏ إنّي أقول بيتاً من الشعر فمَن أجازه منكم فله جُبتي هذه قلنا‏:‏ يقول أمير المؤمنين‏.‏
فقال‏:‏ وهاجرة نصبت لها جَبيني يُقطِّع حرُّها ظَهرَ العِظَايه فبَدره بشّار الأعمى فقال‏:‏ وقفتُ بها القلوصَ ففاض دَمعي على خَدِّي وأَسعد واعظَايه فخرج له من الجُبة‏.‏
فلقيته بعد ذلك فقلت له‏:‏ ما فعلتَ بالجُبة قال‏:‏ بعتُها بأربعة آلاف درهم‏.‏
خرج رسول عائشة بنت المَهديّ وكانت شاعرةً إلى الشعراء وفيهم صرَيع الغواني فقال‏:‏ تُقرئكم سيدتي السلامَ وتقول لكم‏:‏ من أجاز هذا البيتَ فله مائة دينار‏.‏
فقالوا‏:‏ هاته‏.‏
فأنشدهم‏:‏ أنيلي نَوَلاً وجُودي لنَا فقد بلغتْ نَفسيَ التَرْقوه فقالِ صَريع‏:‏ وإني كالدلْو في حُبكم هَوِيتُ إذا انقطعتْ عَرْقوه قال الحسن‏:‏ صدقتَ‏.‏
ثم أقبل إليه رجلٌ آخر فقال‏:‏ يا أبا سَعيد ما تقول في الرجلِ يشك في الشَّخص يبدو له فيقول‏:‏ والله هذا فلان ثم لا يكون هو ما ترى في يمينه فقال الفرزدق‏:‏ وقد ولستَ بمأخوذ بقَول تقولُه إذا لم تُعِنْه عاقداتُ العزائِم قال الحسن‏:‏ صدقتَ‏.‏
فأخذ المائة الدِّينار‏.‏
وكان الفرزدق يجلس إلى الحَسن البَصريّ وجرير يجلس إلى ابن سِيرين لتباعد ما بين الرَّجلين وكان موتُهما في عام واحد وذلك سنة عشر ومائة‏.‏
فبينما الفرزدق جالس عند الحَسن إذ جاءه رجل فقال‏:‏ يا أبا سَعيد‏:‏ إنّا نكون في هذه البُعوث والسرَّ أيا فنُصيب المرأة من العدوّ وهي ذاتُ زَوْج أفتحلّ لنا من غير أن يُطلّقها زوجُها قالت الفرزدق‏:‏ قد قلتُ أنا في مثل هذا في شعري‏.‏
قال له الحسن‏:‏ وما قلت قال‏:‏ قلتُ‏:‏ وذات حَلِيل أَنكحْتها رماحُنا حَلالاً لمن يبني بها لم تُطلَقِ واستعدت امرأةٌ على زَوجها عبّادَ بن منصور وزعمت أنه لا يُنفق عليها‏.‏
فقال لرؤبة‏:‏ احكُم بينهما‏.‏
فقال‏:‏ فطَلّق إذا ما كنتَ لستَ بمُنفقٍ فما الناسُ إلا مُنفِقٌ أو مطلق وكان رجل يدَّعي الشعرَ ويستبرده قومُه فقال لهم‏:‏ إنما تَستبردونني من طريق الحَسد‏.‏
قالوا‏:‏ فبيننا وبينك بشّار العقيلي‏.‏
فارتفعوا إليه‏.‏
فقال له‏:‏ أنشدني‏.‏
فأنشده فلما فرغ قال له بشّار‏:‏ إني لأظنك من أهل بيت النُّبوة قال له‏:‏ وما ذلك قال‏:‏ إن الله تعالى يقول‏:‏ وَما علّمْنَاهُ الشِّعْرَ أنا أبو دُلف المُبدِي بقافية جوابُها يهلك الداهي من الغَيظِ مَن زاد فيها له رَحْلي وراحلتي وخاتمي والمَدَى فيها إلى القَيظ فأجابه ابنُ عبد ربّه‏.‏
قد زدتُ فيها وإن أَضحى أبو دُلف والنفسُ قد أَشرفت منه على الفَيظِ سَمر الفرزدقُ والأخطلُ وجرير عند سليمان بن عبد الملك ليلةً فبينما هم حوله إذ خفَق‏.‏
فقالوا‏:‏ نَعس أمير المؤمنين وهمّوا بالقيام‏.‏
فقال لهم سليمان‏:‏ لا تقوموا حتى تقولوا في هذا شعراً‏.‏
فقال الأخطل‏:‏ رَماه الكَرى في رأسه فكأنّه صَرِيع تَروَّى بين أصحابه خَمْرا فقال له‏:‏ ويحك‏!‏ سكران جعلتَني ثم قال جرير بن الخَطَفي‏:‏ رماه الكَرى في رأسه فكأنما يرى في سواد الليل قُنبرةً حَمْرا فقال له‏:‏ ويحك‏!‏ أجعلتَني أَعمى‏.‏
ثم قال الفرزدق بعد هذا‏:‏ رماه الكَرى في رأسه فكأنما أَمِيمُ جَلاميدٍ تَركْن به وَقرا قال له‏:‏ ويحك‏!‏ جعلتني مَشْجوجاً‏.‏
ثم أذن لهم فانقلبوا فحيّاهم وأعطاهم‏.‏
كان عمرُ بن أبي ربيعةَ القُرشيّ غَزلاً مُشبِّباً بالنساء الحَوَاجّ رقيقَ الغزل وكان الأصمعي يقول في شعره‏:‏ الفُستق المقشَّرَ الذي لا يُشبع منه‏.‏
وكان جرير يَستبرده ويقول‏:‏ شِعر حِجازِيّ لو أَنجد في تَمُوز لوُجد البرد فيه‏.‏
فلما أنشد‏:‏ فلما تلاقينا عرفت الذي بها كمثل الذي بي حذَوكَ النَّعل بالنَّعل فقال‏:‏ ما زال يَهْذي حتى قال الشعر‏.‏
وقالت العلماء‏:‏ ما عُصي الله بشعر ما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة‏.‏
ووُلد عمر بن أي ربيعة يوم مات عُمر بن الخطاب فسُمي باسمه فقالت العلماء‏.‏
أي خَير رُفع وأي شرّ وُضع‏.‏
ثم إنه تاب في آخر أيامه وتَنسك ونذر لله أن يُعتق رقبة بكل بيت يقوله وإنه حَجَ فبينما هو يطوف بالبيت إذ نَظر إلى فتى من نُمير يلاحظ جاريةً في الطواف فلما رأى ذلك منه مِراراً أتاه فقال له‏:‏ يا فتى أمَا رأيت ما تصنع فقال له الفتى‏:‏ يا أبا الخَطّاب لا تَعجل عَليّ فإنّ هذه ابنة عمّي وقد سُمّيت لي ولستُ أقدر على صَداقها ولا أظفر منها بأكثر مما ترى وأنا فلان بن فلان وهذه فلانة بنت فلان‏.‏
فعرفهما عُمر فقال له‏:‏ أقعد يا بن أخي عند هذه الجارية حتى يأتيكَ رسولي‏.‏
ثم ركب دابّته حتى أتى منزلَ عم الفتى فقَرع الباب فخرج إليه الرجل فقال‏:‏ ما جاء بك يا أبا الخطّاب في مثل هذه الساعة قال‏:‏ حاجة عَرضت قِبَلك في هذه الساعة‏.‏
قال‏:‏ هي مَقْضية‏.‏
قال عمر‏:‏ كائنة ما كانت قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فإني قد زوَّجت ابنتك فلانة من ابنِ أخيك فلان‏.‏
قبل‏:‏ فإني قد أجزتُ ذلك‏.‏
فنزل عُمر عن دابَّته ثم أرسل غلاماً إلى داره فأتاه بألف درهم فساقها عن الفتى ثم أرسل إلى الفتى فأتاه فقال لأبي الجارية‏:‏ أقسمتُ عليك إلا ما ابتني بها هذه الليلَة‏.‏
قال له‏:‏ نعم‏.‏
فلما أدخلت على الفتى انصرف عمر إلى داره مسروراً بما صنع فرمى بنفسه على فراشه وجعل يتململ ووليدة له عند رأسه فقالت له‏:‏ يا سيدي أرقت هذه الليلة أرقاً لا أدري ما دَهمك فأنشأ يقول‏:‏ تقول وليدتِي لمّا رأتْنيِ طَربتُ وكنتُ قد أقصرتُ حِيناً أراك اليوم قد أحدثتَ شَوقاً وهاج لك الهَوى داءً دفينا وكنتَ زعمْتَ وإن تَعزي مَشُوق حين يَلقي العاشِقينا ثم ذكر يمينَه فاستغفر الله وأعتق رقبةً لكل بيت‏.‏
دعا الأعورُ بنُ بنان التِّغلبي الأخطل الشاعر إلى منزله فأدخله بيتاً قد نجّد بالفُرش الشريفة والوِطاء العجيب وله امرأة تُسمى بَرَة في غاية الحسن والجمال فقال له‏:‏ أبا مالك إنك رجلِ تدخل على الملوك في مجالسهم فهل ترى في بيتي عَيباً فقال له ما أرى في بيتك عيباً غيرك‏.‏
فقال له‏:‏ إنما أعجب من نفسي أذ كنت أدخل مثلَك بيتي اخرج عليك لعنة الله‏.‏
فخرج الأخطل وهو يقول‏:‏ ويُلصق بَطْناً مُنتن الريح مُجْرِزاً إلى بَطْن خَوْد دائِم الخَفقَان
===باب من الشعر يخرج معناه في المدح والهجاء===
قال الشاعر في خيّاط أعور يسمَّى عَمْراً‏:‏ خاط لي عَمرو قَباءْ ليت عينيه سواء فاسأل الناس جميعاً أمديحٌ أم هجاء ومثله قولُ حبيب في مَرثية بني حُميد حيث يقول‏:‏ لو خَر سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ما كان إلا على هاماتهم يَقَعُ فلو هُجي بهذا رجل على أنه أنجس خَلق الله لجاز فيه ولو مُدح به على مذهب قول الشاعر‏:‏ وإنا لتَستحلي المَنايا نُفوسُنا ونترك أخرى مُرةً ما تَذُوقها وقول الآخر‏:‏ ونحن أناس ما نَرى القَتل سُبَّةً إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُولُ يُقَرِّب حبّ المَوت آجالَنا لنا وتَكرهه آجالهمُ فتَطُول وما مات منّا سيّد في فِراشه ولا طُلّ مِنّا حيثُ كان قَتِيل تسيل على حَدِّ السيوف دماؤنا وليس على غَير السُّيوف تَسِيل انظر فحيثُ تَرى السُيوفَ لوامعاً أبداً ففَوْقَ رؤوسهم تتألّقُ ما قالوه في تثنية الواحد وجمع الاثنين والواحد وإفراد الجمع والاثنين وقال الفرزدق في تثنية الواحد‏:‏ وعندي حُساماً سيفه وحمائلُه وقال جرير‏:‏ لما تَذكَّرت بالدَّيْرين أرقني صوتُ الدَجاج وقَرْعٌ بالنَّواقيس وإنما هو دَيْر الوليد مَعروف بالشام وأراد بالدجاج‏:‏ الدَيكة‏.‏
وقال قَيس بن الخَطيم في الدِّرع‏:‏ مُضاعفة يَغشى الأناملَ رَيْعُها كأنّ قتيريْها عُيون الجَنادبِ يريد‏:‏ قَتيرها‏.‏
وقال آخر‏:‏ وقال لبَوَّابَيْه لا تُدخِلنَّه وسُدَا خَصاصَ الباب عن كل مَنْظرِ وقال أهِلُ التفسير في قول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ ألْقِيَا في جَهَنَم كُلًّ كَفار عَنِيد ‏"‏ إنه إنما أراد واحداً فثنَّاه‏.‏
وكذلك قولُ معاوية للجِلْواز الذي كان وكلّه برَوْح بن زِنْباع لما اعتذر إليه رَوح واستعطفه‏:‏ خلِّيا عنه‏.‏
قولهم في جمع الاثنين والواحد قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ فإنْ كان له إخْوةٌ فلأمّه السُّدُس ‏"‏‏.‏
يريد أخوين فصاعدا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏ إنّ الذين يُنَادونَك مِنْ وَرَاء الحجُراتِ أكْثرُهم لا يعْقِلُون ‏"‏ وإنما ناداه رجلٌ من بني تَميم وقوله‏:‏ ‏"‏ وألْقَى الألْوَاحَ ‏"‏ وإنما هما لَوْحان‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ لَوْ الرجاء لأمرٍ ليس يَعْلمه خَلْق سِوَاك لما ذَلَت لكم عُنُقِي ومثل هذا كثير في الشعر القديم والمُحدث‏.‏
وأمّا قولهم في إفراد الجمع فهو أقل من هذا الذي ذكرنا‏.‏
وكذلك في إفراد الاثنين‏.‏
فمن ذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ثُم يُخرِجكُم طِفْلاً ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فما مِنكم مِنْ أحِدِ عَنهُ حَاجِزين ‏"‏ وقال جرير‏:‏ وقال آخر‏:‏ وكأنّ بالعينين حَبَّ قَرَنْفُل أو فُلفلٍ كحِلت به فانهلّتِ وِلم يقل‏:‏ فانهلّتا‏.‏
وقال مُسلم بن الوليد‏:‏ ألا أنِف الكَواعبُ عَن وِصالي غداةَ بدَا لها شيبُ القَذال وقال جرير‏:‏ وقُلنا للنِّساء به أقيمي قولهم في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر قال مالك بن أَسماء بن خارجة الفَزاريّ في شعره الذي أوله‏:‏ حَبَّذا ليلُنا بتلِّ بَوَناً ومَررنا بنِسْوة عطراتٍ وسَماع وقَرقَف فنزلْنَا ما لَهم لا يُبارك الله فيهم حين يُسألن مَنحنا ما فَعلنا وقال آخر‏:‏ وقد استشهد به سيبويه في كتابه‏.‏
فلا ديمة وَدقت وَدْقها ولا أرْضَ أَبقلَ إبقالهَا أنّ السماحةَ والمُروءة ضمنا قَبرًا بمَرْو على الطَّريق الوَاضح وقالت أعرابية‏:‏ قامتْ تُبكّيه على قَبرهِ مِن ليَ مِن بعدك يا عامر تركْتَني في الدار وحشيةً قد ذَلّ مَن ليس له ناصر وقال أبو نُواس‏:‏ كَمَن الشَّنآن فيه لَنا ككُمون النار في حِجرِهْ وإنما ذكرتُ هذا البابَ في كتاب الشعر لاحتياج الشاعر إليه في شعره واتساعه فيه
===باب ما غلط فيه على الشعراء===
وأكثر مَا أدرك على الشعراء له مجاز وتوجيه حسن ولكنّ أصحاب اللغة لا يُنصفونهم وربمَا غَلّطوا عليهم وتأوّلوا غير معانيهم التي ذهبوا إليها‏.‏
فمن ذلك قولُ سيبويه واستشهد ببيت في كتابه في إعراب الشيء على المعنى لا على اللفظ وأخطأ فيه‏:‏ مُعاوِي إننا بَشر فأسْجح فَلَسنَا بالجبال ولا الحَدِيدَا كذا رواه سيبويه على النَّصب وزعم أنّ إعرابه على معنى الخبر الذي في ليس‏.‏
وإنما قاله الشاعر على الخَفض والشعر كله مخفوض فما كان يضطره أن ينصب هذا البيت ويحتال على إعرابه بهذه الحِيلة الضعيفة وإنما الشعر‏:‏ مُعاوي إنّنا بَشر فأَسْجِحْ فلسنا بالجبال ولا الحَديدَ أكلتُم أرضنا فَجَردْتُمُوها فهل من قَائمٍ أو من حَصِيد أتطمع في الخُلود إذا هَلكنا وليس لنا ولا لك من خُلود فهَبْنا أمةً هلكتْ ضَياعاً يزيدُ أميرُها وأبو يَزيد ونظير هذا البيت ما ذكره في كتابه أيضاً واحتج به في باب النون الخفيفة‏:‏ وهذا البيت للنَّجاشيَّ‏.‏
وقد ذكره عمرو بن بحر الجاحظ في فخر قَحطان على عدنان‏.‏
في شعر كُله مخفوض وهو‏:‏ أيا راكباً إمّا عرضتَ فبلِّغن بني عامر عنّي يزيدَ بن صَعْصع نَبتم نَبات الخَيزرانيّ في الثرى حديثاً متى ما يأتك الخيرُ يَنفع ومثله‏:‏ قولُ محمد بن يزيدَ النحويّ المعروف بالمُبرّد في كتاب الروضة وأدركَ‏.‏
على الحسن بن هانئ قولَه‏:‏ وما لِبَكْرِ بن وائل عُصْم إلا بحمَقائها وكاذِبها فزعم أنه أراد بحَمقائها هَبنَّقة القَيسيّ‏.‏
ولا يقال في الرجل حَمقاء‏.‏
وإنما أراد دُغَة العِجليَّة وعِجْل في بكر وبها يُضرب المثل في الحُمق‏.‏
===باب من مقاطع الشعر ومخارجه===
اعلم بأنك متى ما نظرتَ بعين الإنصاف وقطعت بحجة العقل علمتَ أنّ لكل ذي فضل فضلَه‏.‏
ولا ينفع المتقدمَ تقدُّمُه ولا يضرّ المتأخرَ تأخره‏.‏
فأمّا مَن أساء النظمِ ولم يحسن التأليف فكثير كقول القائل‏:‏ شرَ يومَيْها وأغواه لها ركبتْ عَنْز بِحِدْج جَملاً شرّ يوميها نصب على المحلّ‏.‏
وإنما معناه ركبت عنز جَملاً بحِدْج في شر يوميها‏.‏
وكقول الفرزدق‏:‏ وما مثْله في النّاس إلا مُملَّكاً أبو أمه حيٌ أَبوه يقاربُه معناه‏:‏ ما مِثل هذا الممدوح في الناس إلا الخَليفة الذي هو خاله فقال‏:‏ أبو أُمه حيّ أبوه يقاربه‏.‏
فبعد المَعنى القريب ووعّر الطريق السهل ولبَّس المعنى بتوعّر اللفظ وقُبح البِنية حتى ما يكاد يُفهم‏.‏
ومثل هذا إلاّ أنه أقرب منه إلى الفهم قولُ القائل‏:‏ بينما ظِل ظَلِيلٌ ناعم طلعتْ شمس عليه فاضمحلْ يريد‏:‏ حتى طلعت شمس عليه‏.‏
‏.‏
ومثلُه قولُ الآخر‏:‏ يريد‏:‏ على من يتكل عليه‏.‏
وللّه دَرّ الأعشى حيث قال في المخبأة‏:‏ لم تَمْش ميلاً ولم تَركب على جَملٍ ولم تَر الشمسَ إلا دونَها الكِلَلُ وأبين منه قولُ النابغة‏:‏ ليست من السود أعقاباً إذا انصرفتْ ولا تبيع بأعلى مكة البَرَمَا وقد حذا على مثال قول النابغة بعضُ المُبرزين من أهل العصر فقال‏:‏ ليست من الرمص أشفاراً إذا نَظرت ولا تَبيع بفَوق الصُخرة الرُّغُفا فقيل له‏:‏ ما معناك في هذا قال‏:‏ هو مثلُ قول النابغة وأنشد البيت وقال‏:‏ ما الفرق بين أن تَبيع البَرَم أو تَبيع الرغُف وبين أن تكون رمضاء العينين أو سوداء العَقِبين‏.‏
وانظر إلى سُهولة معنى الحسن بن هانئ وعُذوبة ألفاظه في قوله‏:‏ حذَر امرئ ضربت يداه على العدا كالدَّهر فيه شراسةٌ وليانُ وإلى خُشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول‏:‏ شَرسْتَ بل لِنْت بل قابلتَ ذاك بذا فأنتَ لا شك فيك السهلُ والجبلُ وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى كقول القائل‏:‏ الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ إنّ محلاً وإن مُرتحلا وإنّ في السفْر إذ مَضىَ مَهَلاَ وقال إبراهيم الشَيْبانيّ الكاتب‏:‏ قد تكون الكلمة إذا كانت مفردةً حُوشيّة بشعة حتى إذا وضعت في موضعها وقُرنت مع إخواتها حَسُنت كقول الحسن بن هانئ‏:‏ ذو حَصر أفلت من كَرّ القبَل والكر‏:‏ كلمة خسيسة ولاسيما في الرقيق والغزل والنسيب غير أنها لما وضعت في موضعها حَسُنت وكذلك الكلمة الرقيقة العَذْبة ربما عقبُتْ ونفرت إذا لم تُوضع في موضعها مثل قول الشاعر‏:‏ رأت رائحاً جَوْناً فقامت غَريرةً بمِسْحاتها جُنحَ الظلام تُبادِرُهْ فأوقع الجافي الجلْفُ هذه اللفظَة غير موضعها وبَخسها حقَّها حين جعلها في غير مكانها حقًّا لأنّ المسَاحي لا تَصلح للفرائز‏.‏
واعلم أنه لا يَصلح لك شيء من المنثور والمنظوم إلا أن يُجري منه على عِرق وأن يتمسّك منه بسبب فأما إن كان غيرَ مُناسب لطبيعتك وغير ملائم لقَريحتك‏.‏
فلا تُنض مطيَّتك في التماسه ولا تُتعب نفسَك في ابتغائه باستعارتك ألفاظَ الناسِ وكلامَهم فأنّ ذلك غيرُ مُثمر لك ولا مُجدٍ عليك ما لم تكن الصناعة ممازجةَ لذهنك ومَلتحمة بطبعك‏.‏
واعلم أنّ من كانَ مرجعُه اغتصابَ نظم من تقدمه واستضاءتَه بكوكب مَن سبقه وسَحْبَ ذيل حُلة غيره ولم تكن معه أداة تُولِّد له من بناتِ ذهنه ونتائج فكره الكلامَ الجَزْل والمعنى الحَفْل لم يكن من الصناعة في عِير ولا نفير ولا وِرد ولا صَدَر على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين وَدرْسَ رسائل المُتقدمين هو على كل حال ما يَفْتق اللسان ويُقوي البيان ويُحد الذهن ويَشحذ الطبع إن كانت فيه بقيّة وهناك خيية‏.‏
واعلم أنّ العلماء شبَهّت المعاني بالأرواحِ والألفاظَ بالأجساد واللُّباب‏.‏
فإِذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزلَ وكساه لفظاً حسناً وأعاره مَخرجاً سهلاً ومَنحه دَلاًّ مُونقاً كان في القلب أحلَى وللصدر أملاً‏.‏
ولكنه بقي عليه أن يُؤلفه مع شقائقه وقُرنائه ويجتمع بينه وبين أشباهه ونظائره وينَظمه في سِلْكه كالجوهر المنثور الذي إذا تولى نظمه الناظمُ الحاذقُ وتعاطى تأليفَه الجوهريُّ العالم اظهر له بإحكام الصَّنعة ولطيف الحِكمة حُسناً هو فيه وكشاه ومَنحه بهجة هي له‏.‏
وكذلك كلما احلولى الكلامُ وعذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع وأشدَ اتصالاً بالقلوب وأخفّ على الأفواه لا سيما إذا كان المعنى البديعُ مترجَماً بلفظ مُونق شريف لم يَسِمْه التكلفُ بِمِيسمه ولم يُفسده التعقيدُ باستهلاكه كقول ابن أبي كَريمة‏:‏ قَفاه وجهٌ والذي وجههُ مثلُ قَفاه يُشبه الشمسا حيث قال‏:‏ بأبي أنتَ مِن غزالٍ غَرير بزَّ حُسنَ الوُجوه حُسنُ قَفاكَا وكلاهما أخذه من حسَّان بن ثابت حيث يقول‏:‏ قفَاؤك أحسنُ من وجهه وأمُّك خير من المُنذِرِ ‏"‏ وقَد يأتي من الشعر في طريق المَدح ما الذمُ أولى به من المدح ولكنه يُحمل على مَحْمَل ما قبله وما بعده ومثله قولُ حبِيب‏:‏ لو خَرَّ سيفٌ من العَيُّوق مُنصلتاً ما كان إلا على هاماتِهم يَقَعُ وهذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح وإنما يجوز في الذم والنَّحس لأنك لو وصفت رجلاً بأنه أنحسُ الخَلق لم تَصِفه بأكثر من هذا‏.‏
وليس للشجاعة فيه وجْه لأنّ قوَلهم‏:‏ لو خَر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه هذا رأس كل نَحس‏.‏
قولهم في رقة التشبيب ومن الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رِقةً ويُؤدٌي عن الضمير إِبانة مثل قول العباس بن الأحنف‏:‏ ليلةَ جِئناها على مَوعدٍ نَسْرِي وداعِي الشوقِ مَتْبوع لما خَبت نيرانها وانكفأ الس امِر عنها وهو مصروع قامت تَثَنَّى وهي مَرْعوبةٌ تَودّ أنّ الشملَ مَجْموع حتى إذا ما حاولتْ خطوةً والصدرُ بالأرداف مَدْفوع بَكى وِشَاحاها على مَتْنها وإنما أبكاهما الجُوع فانتبه الهادُون مِن أهلها وصار للمَوْعود مَرْجوع يا ذا الذي نم علينا لَقَدْ قُلتَ ومنك القولُ مَسْموع لا تشغليني أبداً بعدها إلا ونَمامُك مَنْزوع ما بال خَلْخَالك ذا خَرْسة لسانُ خَلخالك مَقْطوع عاذِلتي في حُبها أَقْصري هذا لَعَمْري عنكِ مَوْضوع وفي معناه لبشارِ بن بُرد‏:‏ سَيّدي لا تأت في قمر لحديثٍ وارقب الدّرُعا الأصمعي قال‏:‏ سَمع كُثيّر عزة مُنْشداً يُنشد شعرَ جَميل بن معَمر الذي يقول فيه‏:‏ ما أنتِ والوعدَ الذي تَعدِيننيِ إلاّ كَبرْقِ سَحابةٍ لم تُمْطِرِ تُقضى الديونُ وليسَ يُقضىَ عاجلاً هذا الغريم ولستُ فيه بمعسِر يا ليتَني ألقَى المنيةَ بغتةً إن كان يومُ لقائكم لم يُقدَر يَهواك ما عشتُ الفؤادُ وإن أمت يَتْبع صَداي صداك بين الأقبُر فقال كُثَيّر‏:‏ هذا والله الشعرُ المَطبوع ما قال أحد مثلَ قول جميل وما كنتُ إلا راويةً لجميل ولقد أبقى للشعراء مثالاً يحتذى عليه‏.‏
وسمع الفرزدق رجلاً ينشد شعر عُمر بن أبي رَبيعة الذي يقول فيه‏:‏ فقالتْ وأرْخَت جَانبَ السِّتر إنما مَعِي فتحدَّثْ غيرَ ذِي رِقْبة أهْلي فقلتُ لها مالي بهم من تَرقُّب ولكنّ سري ليس يَحمله مِثْلي حتى انتهى إلى قولِه‏:‏ فلما تَواقَفنا عرفتُ الذي بها كمِثل الذي بي حذوَك النَّعل بالنَعل فقال الفرزدق‏:‏ هذا والله الذي أرادت الشعراء أن تقوله فأخطأتْه وبكتْ على الطّلول‏.‏
وإنما عارض بهذا الشعر جميلاً في شعره الذي يقول فيه‏:‏ فلم يصنع عمر مع جَميل شيئاً‏.‏
ومن قولنا في رقةّ النَسيب والشعر المَطبوع الذي ليس بدون ما تقدّم ذِكْرُه‏:‏ صحا القلبُ إلا خَطْرَةً تبْعث الأسىَ لها زَفرةٌ موصولة بحَنينِ بَلى رُبما حلَت عُرى عَزَماتِه سوالف آرام وأعْينُ عِين لواقطُ حَبّات القُلوب إذا رَنَت ثِمارُ صُدور لاَ ثِمارُ غُصون بُرُودٌ كأنوار الرَّبيع لِسنَها ثيابُ تَصاب في ثِياب مُجون قَرَيْن أديمَ اللَّيل عن نور أوْجُهٍ تُجَن بها الألبابُ أيّ جنون وجوهٌ جرى فيها النَّعيمُ فكلَلت بوَرْد خُدود يُجتَنى بعُيون سألبس للأيام دِرعاً من العَزَا وإن لم يَكُن عند اللَقا بحَصِين فكيف ولي قلبٌ إذا هَبّت الصَبا أهابَ بِشَوق في الضلوع دَفين ويهتاجُ منه كُلّ ما كان ساكناً دُعاءُ حَمامٍ لم يَبِت بوكون وإنّ ارتياحي من بُكاء حَمامةٍ كذِي شَجن داويتَه بشجون كأن حَمامَ ألأيك حِين تَجاوبت حزينٌ بكَى من رَحمة لِحَزين فيا حَزني أنّي أموت صبابةَ ولكنْ على من يحلُ له قَتْلَي فَدَيتُ التي صًدت وقالت لِترْبها دَعِيه الثريا منه أقربُ من وَصْلي فقلت على رويّه‏:‏ أتقتُلني ظُلماً وتَجْحدني قَتْلي وقد قام مِن عَيْنيك لي شاهدا عَدْل أطُلاّبَ ذَحْلي ليس بي غيرُ شادنٍ بعَيْنيه سِحْر فاطلُبوا عنده ذَحْلي أغار على قَلبي فلما أتيتُه أطالبه فيه أغار على عَقلِي بِنَفسي التي ضَنّت برد سَلامها ولو سألتْ قَتليِ وَهبتُ لها قَتلي إذا جئتُها صَدَّت حياءً بوَجهها فتهجُرني هَجراً ألذَ من الوَصْل وإن حكمتْ جارتْ عليّ بحُكْمها ولكنّ ذاك الجَورَ أشهى من العَدْل ‏.‏
كتمتُ الهوى جَهدي فجرّده الأسى بماء البُكا هذا يَخُط وذا يُملي وأحببتُ فيها العذْلَ حُبًّا لذِكرها فلا شيء أشهى في فؤادي من العذْل أقول لقَلبي كلما ضَامَه الأسىَ إذا ما أبيتَ العِزّ فاصبر على الذُّل برأيكِ لا رَأيي تعرّضتُ للهَوى وأمرك لا أمري وفِعْلكِ لا فِعْلي فمن نَظر إلى سُهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طَبعه لمْ يَفْضُله شعرُ صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم ولا سيما إذا قرن قوله في هذا الشعر‏:‏ كتمتُ الذي ألقى من الحُبّ عاذِلي فلم يَدْر ما بي فاسترحتُ من العَذْل يقولي في هذا الشعر‏:‏ وأحببتُ فيها العذلَ حُباً لذكرها فلا شيَء أشهى في فؤادي من العَذْل كتمتُ الهَوى جهدي فجرّده الأسى بماء البكا هذا يخط وذا يُمْلي أقول لقلبي كلما ضامه الأسى إذا ما أبيت فاصبرْ على الذل ومن قولنا في رِقّة النسيب وحُسن التشبيب‏:‏ كم سَوسنٍ لَطُف الحياءُ بلوْنه فأصاره وَرْداً على وَجناتِه ومثله‏:‏ يا لؤلؤاً يَسْبِي العقولَ أنيقَاً وَرَشاً بتَقْطيع القلوب رَفيقَا ما إنْ رأيتُ ولا سمعتُ بمثله دُرًّا يَعود من الحَياء عَقِيقا ونظيرُ هذا من قولنا في رقة التشبيب وحُسن التشبيه البديع الذي لا نظير له والغريب الذي لم يُسبق إليه‏:‏ نَظرتْ إليّ بمقلتَيْ أدْمانة وتلفّتت بسَوالف اليَعْفور فكأنما غاض الأسى بجُفونها حتى أتاك بلؤلؤ مَنْثور ونظير هذا من قولنا‏:‏ أدعو إليك فلا دُعاءٌ يُسمَع يا مَن يَضرّ بناظرَيْه ويَنْفعُ للوَرْد حِينٌ ليس يطلُعُ دونَه والوردُ عندك كُلَّ حين يَطْلُع لم تَنصدع كَبِدي عليك لضَعْفها لكنّها ذابَتْ فما تَتَصدّع مَن لي بأحورَ ما يبين لسانُه خَجلاً وسيفُ جُفونه ما يَقطَع مَنع الكلامَ سوى إشارةِ مُقلةٍ فبها يُكلِّمني وعَنها يَسْمع ومثله‏:‏ جَمال يفوت الوَهْمَ في غاية الفِكْر وطَرْفٌ إذا ما فاه يَنْطق بالسِّحرِ ووجهٌ أعارَ البدرَ حُلة حاسدٍ فمنه الذي يَسْود في صَفحة البَدْر وقال بشّار بن بُرْد‏:‏ وَيْح قلبي في حُبّها ممّا يُجنّ ضاق من كِتْمانه حتّى عَلنْ كأنها روضة مُنوَرةٌ تنفستْ في أواخر السَّحَرِ ولبشّار وهو أشعر بيت قاله المولدون في الغزل‏:‏ أنا والله أشتهي سِحْر عَيَني ك وأخشى مَصارع العُشَاقِ وله‏:‏ حَوْراءُ إن نظرت إلي ك سَقَتْك بالعينين خَمْرا وكأنّها بَرْد الشرَا بِ صفا ووافق منك فِطْرا ولأبي نُواس‏:‏ وذات خَدّ مورّدْ قُوهيّة المُتجرّدْ تأمّل العينُ منها محاسناً ليس تَنْفَد فبعضه في انتهاء وبعضه يتولّد وكلما عدْت فيه يكون في العَوْد أحْمد وله أيضاً‏:‏ ضَعيفة كَرّ الطَّرف تَحسب أنّها قريبةُ عهد في الإفاقة من سُقْم قولهم في النحول قال عمر بن أبي ربيعة القُرشيّ يصف نُحولَ جِسْمه وشُحوبَ لونه في شِعره الذي يقول فيه‏:‏ رأتْ رجلاً أيْما إذا الشمسُ عارضَتْ فَيَضْحَى وأيما بالعشي فَيَخْصَرُ أخا سَفر جَوّابَ أرْض تقاذفتْ به فَلَواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ قليلاً على ظَهر المَطِيّة شَخصُه خلاَ ما نَفَى عنه الرداء المُحبّر وفي هذا الشعر يقول‏:‏ فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئتْ مصابيحُ شُبّت بالعِشاء وأَنؤرُ وغاب قمَير كنتُ أرجو غيوبَه ورَوَّح رُعْيان ونَوَم سُمَّر وخُفِّض فيّ الصوتُ أقبلتُ مِشية ال حُبابِ ورُكْني خِيفَة القوم أزور فحييتُ إذ فاجأتها فتلهّفتْ وكادت بمكتَوم التّحيّة تَجهر وقالت وعضت بالبَنان فضحتَني وأنت امرؤ مَيْسورُ أمرك أعْسر أريتَك إذ هُنّا عليك ألم تَخفْ رقيباً وحَولي من عدوّك حضر فوالله ما أدري أتعجيل حاجةٍ سَرتْ بك أم قد نام من كُنتَ تَحذر فيالك من ليلٍ تقاصَر طولُه وما كان ليلي قبل ذلك يَقْصُر ويا لك من مَلهىً هُناك ومجلس لنا لم يُكدِّره علينا مُكدِّر يَمج ذكيَّ المسك منها مُفلَّجٌ رقيقُ الحَواشي ذو غُروب مؤشر يَرفّ إذا تَفترُّ عنه كأنه حصىَ بَرَد أو أُقْحوان مَنوّر وتَرْنو بعَيْنيها إليَّ كما رَنا إلى رَبْرب وَسْط الخميلة جُؤْذُر فلمّا تقضىّ الليلُ إلا أقله وكادت توالي نَجْمِه تَتغوّر أشارت بأنّ الحَيّ قد حان منهمُ هُبوب ولكنْ موعدٌ لك عَزْور فما راعني إلا مُنادٍ برحْلة وقد لاح مَفْتوق من الصُّبح أشقر فلما رأتْ مَن قد تنوَّر منهمُ وأيقاظهم قالت أشِرْ كيف تأمُر فقلتُ أباديهم فإمَا أفوتُهم وإما يَنالُ السيفُ ثأراً فيثأر فقالت أتحقيقاً لما قال كاشح علينا وتصديقاً لما كان يُؤثر فإنْ كان ما لا بدَ منه فغيره من الأمر أدنى للخفاء وأسْتر فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا أقلي عليكِ اللومَ فالخَطْب أيْسر يقوم فَيَمشي بيننا مُتنكِّراً فلا سِرنا يَفْشو ولا هو يُبصرَ فكان مِجَنّي دون من كنتُ أتّقي ثلاثُ شخوص كاعبان ومُعْصر فلمَّا أجزنا ساحةَ الحيِّ قُلْن لي ألم تَتَّقِ الأعداءَ والليلُ مُقْمِر وقُلن أهذا دأبُك الدهرَ سادراً أما تَستحي أم تَرْعوي أم تُفكِّر ويُروى أن يزيدَ بن معاوية لما أراد تَوجيه مُسلم بن عُقبة إلى المدينة اعترض الناسَ فمرّ به رجل من أهل الشام معه تُرس قبيح فقال له‏:‏ يا أخا أهل الشام مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسَنَ من مِجَنك هذا - يريد قولَ عمر ابن أبي ربيعة‏:‏ فكان مجنّي دون من كنتُ أتّقي ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصر وقال أعرابيُّ في النحول ‏"‏ ولو أنّ ما أبقيتِ مني مُعلَّقٌ بعود ثُمام ما تأوّد عودُها وقال آخر‏:‏ إن تسألوني عن تباريح الهَوى فأنا الهَوى وأبو الهَوى وأخُوه فانظُر إلى رجل أضرّ به الأسىَ لولا تقلّب طَرفه دَفَنوه ألا إنما غادرتِ يا أم مالِكٍ صَدى أينما تذهب به الريحُ يَذْهبِ وللحسن بن هانئ‏:‏ كما لا يَنقضي الأرَبُ كذا لا يَفْتر الطلَبُ ولم يُبْق الهوى إلاّ أقلّي وهو مُحْتَسب وِسوَى أنَّي إلى الحَيوا ن بالحركات أنتسب وقال آخر وهو خالدٌ الكاتب‏:‏ هذا مُحبّك نِضْو لا حراكَ به لم يَبْقَ من جِسْمه إلا توهّمه ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ سبيلُ الحُبِّ أوَّله اغترار وآخِره هُمومٌ وادّكارُ وتَلْقى العاشِقين لهم جسوم بَراها الشوق لو نُفِخوا لطارُوا ومثلُه من قولنا‏:‏ لم يبقَ من جُثمانه إلا حُشاشةُ مُبْتئِسْ قد رَقّ حتى ما يُرى بلِ ذاب حتى ما يُحسّ وفي الشعوثة أرْبى فكان أشْهَى وأحلى أردت أن تَزديك الْ عيُونُ هَيهاتَ كَلا يا عاقد القَلْب منّيِ هلا تذكّرتَ حَلا تركتَ منّي قليلاً مِن القليل أقلا يَكاد لا يَتجزّا أقلّ في اللَّفْظ مِن لا ولأبي العتاهية‏:‏ تلاعبتِ بي يا عُتْبَ ثم حَمَلْتِني على مَرْكَب بي المَنيّة والسُّقْم ألا في سبيل الله جِسْمي وقوتي ألا مُسْعد حتى أنوح على جِسمي وله‏:‏ ولم تبقِ منّي إلا القليلَ وما أحسبها تترك الذي بَقِيا قولهم في التوديع قال لسَعيد بن حُميد الكاتب وكان على الخراج بالرقّة‏:‏ ودّعت جاريةً لي تُسمّى شفيع وأنا أضحك وهي تبكي وأقول لها‏:‏ إنما هي أيام قلائل‏.‏
قال‏:‏ إن كنت تقدر أن تُخلف مثل شفيع ودعتها والدمعُ يقطُر بَيننا وكذاك كُل مُلذَّع بفِراقِ شُغلتْ بتَغييض الدّموع شِمالُها ويَمينها مشغولة بعناقِي قال‏:‏ فكتبتْ إليّ في طومار كبير ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره‏:‏ يا كذاب - وسائر الكتاب أبيض‏.‏
قال‏:‏ فوجّهتُ الكتب إلى ذي الرياستين الفضل بن سَهل وكتبْت إليها كتاباً على نحو ما كتبتْ ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم وفي آخره أقول‏:‏ فودعتها يوم التّفرق ضاحكاً إليها ولم أعلم بأنْ لا تلاقيَا فلو كنتُ أدري أنه آخر اللقا بكيتُ وأبكيتُ الحبيبَ المُصافيا قال‏:‏ فكتبتْ إليّ كتاباً آخر ليس فيه إلا بسم الله الرحمن الرحيم في أوله وفي آخره‏:‏ أعيذك بالله أن يكون ذلك‏.‏
فوجهته إلى ذي الرياستين الفضل بن سهل فأشخصني إلى بغداد وصيّرني إلى ديوان الضياع‏.‏
محمد بن يزيد الرَّبعيّ عن الزّبير عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل قال‏:‏ إنه لما نفاه المتوكل إلى جزيرة أقريطش فطال مُقامه بها تمتّع بجارية رائعة الجمال بارعة الكمال فأَنسته ما كان فيه من رَونق الخلافة وتَدبيرها‏.‏
وكان قبل ذلك مُتيَّماً بجارية خلّفها بالعراق فسلا عنها‏.‏
فبينما هو مع الأقريطشيّة في سرور وحُبور يَحلف لها أنه لا يُفارق البلدَ ما عاش إذ قَدِم عليه كيف بَعدي لا ذُقْتمُ النومَ أنتمْ خَبِّروني مذ بِنْتُ عنكم وبِنْتُم بمراض الجُفون من خُردِ الع ين ووَرْدِ الخُدود بعدي فُتِنتم يَا أخلايِ إنّ قلبي وإن با ن من الشَّوق عندكم حيثُ كُنتم فإذا ما أبَى الإله اجتماعاً فالمَنايا عليّ وَحْدي وعِشْتم أخذَتْ هذا المعنى من قول حاتم‏:‏ إذا ما أتى يومٌ يُفرَق بيننا بمَوت فكُن أنتَ الذي تتأخَّرُ فلم يباشر لذةً بعد كتابها حتى رضي عنه المُتوكل وصَرفه إلى أحسن حالاته‏.‏
الزُّبيريّ قال‏:‏ حدّثني ابنُ رجاء الكاتب قالت‏:‏ أخذ مني الخليفة المُعتز جاريةً كنتُ أحبها وتُحبّني فشربا معاً في بعض اللَيالي فسكر قبلَها وبقيتْ وحدها ولم تَبرح من المجلس هيبةً له فذكرتْ ما كنّا فيه من أيامنا فأخذت العُود فغنّت عليها صوتاً حزيناً من قلب قريح وهي تقول‏:‏ لا كان يومُ الفِراق يوماً لم يُبقِ للمُقْلَتَيْن نَوْمَا شَتّتَ مني ومنك شَملاً فسَر قوماً وساء قَوما يا قوم مَن لي بوَجْد قَلب يسُومني في العذاب سَوْما ما لامني الناسُ فيه إلا بكيتُ كيما أزاد لَوْما فلما فرغت من صوتها رفع المُعتز رأسه إليها والدمعُ يجري على خدّيها كالفَريد انقطع سِلكَه فسألها عن الخبر وحَلف لها أن يُبلغها أملَها‏.‏
فأعلمتهُ القصة‏.‏
فردّها إليّ وأحسن إليها وألحقني في نُدمائه وخاصته‏.‏
وكان لأبي أحمد صاحب حَرب المعتمد جارية فكتبتْ إليه وهو مُقيم على العلويّ بالبصرة تقول‏:‏ لنا عبراتٌ بعدكم تَبعث الأسى وأنفاسُ حُزن جَمَّة وزَفِيرُ ألا ليتَ شِعْري بعدنا هل بَكيتُمُ فأمّا بُكائي بعدكم فكَثير قال أبو أحمد‏:‏ فلم يكُن لي هَمّ غيرها حتى قفلتُ من غَزاتي‏.‏
وكتب مروان بن محمد وهو مُنهزم نحو مصر إلى جارية له خلّفها بالرَّمْلة‏:‏ وما زال يَدعوِني إلى الصد ما أرى فأنأى وَيَثْنيني الذي لكِ في صَدْري وكان عزيزاً أنّ بيني وبينها حِجاباً فقد أمسيتُ منك على عَشر وأنكاهما والله للقَلب فاعلَمي إذا ازددتُ مثلَيْها فصرتُ على شَهْر وأعظم من هذينِ والله أنني أخافُ بألا نَلْتقي آخرَ الدهر سأبكيك لا مُسْتَبْقياً فيْضَ عَبْرةٍ ولا طالِباً بالصَّبر عاقبةَ الصبر الزبير بن بكار قال‏:‏ رأيتُ رجلاً بالثّغر وعليه ذلّة واستكانة وخضوع وكان يُكثر التنفّس ويُخفي الشَّكوى وحركاتُ الحُب لا تَخفى فسألتُه وقد خلوتُ به فقال وقد تحدّر دمعُه‏:‏ أنا في أمْرَيْ رَشادِ بين غَزْو وجِهادِ بَدني يَغزو الأعادي والهَوى يَغزُو فؤادي يا عليماً بالعِبادِ رُدّ إلْفي ورُقادِي وقال أعرابي يصف البَينْ‏:‏ أدْمت أناملَها عضّا على البَينْ لما انثنت فرأتْني مَعَ العين وردَّعتنيَ إيماء وما نَطقتَ إلا بسُبابة منها وعيَنين وَجْدِي كوَجدك بل أضعافُه فإذا عني تواريتِ قابَ الرّمح واحيَني وان سمعتِ بموتي فاطلُبي بدَمي هواكِ والبَيْن واستعدي على البَين وقال الآخر مالتْ تودّعني والدمعُ يَغْلِبها كما يَميل نسيم الرِّيح بالغُصْنِ ثم استمرّت وقالتْ وهي باكية يا ليتَ مَعْرفتي إياكَ لم تَكُن فكُلما أنَّ مِن شَوْق أجالَ يداً على فُؤاد له بالبَينْ مخْتلَسِ وقال آخر‏:‏ أمبتكر للبينْ أم أنتَ رائحُ وقلبُك مَلْهوفٌ ودمعُك سافحُ أالآنَ تبكي والنَّوى مُطمئنة فكيف إذا بارحتَ مَنْ لا تُبارح فإنّك لم تَبْرح ولا شطت النَّوى ولكنّ صَبْري عن فؤادِيَ نازح وقال آخر‏:‏ إذا انفتحتْ قُيود البَينْ عَنّيِ وقِيل أتِيح للنّائي سراحُ أبتْ حَلقَاتُه إلا انقفالاً ويأبَى الله والقدَر المُتَاح ومن لي بالبَقَاء وكُلّ يومٍ لِسَهْم البَينْ في كَبِدي جِرَاح وقالَ محمد بن أبي أُمية الكاتب‏:‏ يا غريباً يَبكي لكل غَريبِ لم يَذُق قَبْلها فِراقَ حَبِيبِ عَزّه البينُ فاستراح إلى الدّم ع وفي الدّمع راحةٌ للقلوب خَتلتْه حوادثُ الدَّهر حتَى أقصدتْه منها بسَهْم مُصيب أقول له يومَ ودَّعتُه وكُل بعَبْرته مُبْلِسُ لئن رجعتْ عنك أجسامُنا لقد سافرتْ معك الأنْفُس وقال أبو العتاهية‏:‏ أبِيت مُسَهداً قلِقاً وِسَادِي أروِّح بالدُموع عن الفُؤادِ فِراقُك كان آخرَ عَهْدِ نَوْمي وأوَّل عَهْد عَيْني بالسُّهاد فلم أرَ مثلَ ما سُلِيَتْه نَفسي وما رجعتْ به من سُوء زادي وقال محمد بن يزيد التُسْتريّ‏:‏ رَفعت جانباً إليكَ من الكِل لة قد قابلتْه طَرْفاً كَحِيلاَ نظرتْ نَظرَةَ الصًبابة لا تم لك للبَيْن دَمْعها أن يَجُولا ثم ولَّت وقد تَغيّر ذاك الصّب ح من خَدّها فعاد أصيلا وقال يزيدُ بن عثمان‏:‏ دمعَة كاللُّؤلؤ الرّط ب على الخدّ الأسيل وجُفون تنفث السح رمن الطَّرف الكَحِيل يا وحشتا للغريب في البَلد الن نازح ماذا بنَفْسه صَنَعا فارقَ أحبابَه فما انتفعُوا بالعَيْش من بعده وما انتفَعا يقولُ في نأيه وغُربته عَدْل مِن الله كلُّ ما صَنَعا وقال آخر‏:‏ بانُو فأضْحى الجِسمُ من بعدهم ما تُبصر العينُ له فَيَّا يا أسفي منهم ومن قولهم ما ضَرك الفقدُ لنا شَيّا بأيّ وَجْه أتلقّاهم إن وجَدوني بعدهم حَيَّا وقال آخر‏:‏ أترحل عن حَبيبك ثم تَبْكي عليه فمَنْ دَعاك إلى الفِرَاقِ وقال هُدْبة العذريّ‏:‏ ألا ليتَ الرِّياحَ مُسخَّرات بحاجتنا تُباكرُ أو تَؤُوبُ فتُخْبِرَنا الشًمالُ إذا أتَتْنا وتُخبرَ أهلَنا عنّا الجَنُوب عسىَ الكَرْبُ الذي أَمْسيتُ فيه يكون وراءه فَرَج قَرِيب لا باركَ الله في الفِراق ولا بارَك في الهَجْر ما أمرَّهُمَا لو ذُبِح الهَجْر والفِراق كماِ يُذْبح ظَبْي لمَا رَحِمْتُهما شربت كأس الفراق مُترَعةً فَطار عن مُقلتيّ نومُهُما يا سيّدي والذي أؤمّله ناشدتُك الله أن تَذُوقهما وقال حبيب الطائي‏:‏ الموتُ عِنْدي والفِرا قُ كلاهما ما لا يُطَاقُ يَتعاونان على النُّفو س فَذا الحِمام وذا السِّياق لو لم يكُن هذا كذا ما قِيل موت أو فِراق وقال آخر‏:‏ شتّان ما قُبْلةُ التَلاقِ وقُبلة ساعةَ الفِرَاقِ هذي حياة وتلك موت بينهما راحةُ العِنَاقِ وقال سعيد بن حُميد‏:‏ موقفُ البَن مأتَمُ العاشِقينا لا تَرى العينُ فيه إلا حَزِينَا ثم لي فَرْحة إذا قَدِم الن ناس لتَسْليمهم على القادِمينا وقال أعرابي‏:‏ ليلُ الشَّجِيِّ على الخَليّ قصيرُ وبَلا المُحِبّ على الحبيب يَسِيرُ بانَ الذين أحبُّهم فتَحمَّلوا وفراقُ مَن تَهْوى عليك عَسِير فلأبعثنْ نياحةً لفراقهم فيها تُلَطَّم أوجه وصُدور ولألبسنّ مَدارعاً مُسْودَة لُبْس الثَّواكل إذ دهاك مَسِير ولأذكرنّك بعد موتي خالياً في القَبْر عندي مُنْكَرٌ ونَكير ولأطلبنّك في القِيامة جاهداً بين الخَلائق والعِبادُ نشور فبِجَنّةٍ إن صرتَ صرتُ بجَنّة ولئن حواك سعيرُها فَسعِير والمُستهامُ بكُل ذاك جديد والذَّنب يُغفر والإله شَكُور ومن قولنا في البَينْ‏:‏ هَيّج البينُ دَواعِي سَقَمِيِ وكَسَا جسميَ ثَوْبَ الألَم أيّها البَين أقلني مَرّةَ فإذا عُدْت فقد حَلَّ دَمِي ومن قولنا في المعنى‏:‏ ودّعْتني بزَفْرة واعتناقِ ثم نادتْ متى يكون التَّلاقِ وتَصدَّت فأَشرقَ الصّبحُ منها بين تلك الجُيوب والأطْواق يا سقيمَ الجُفون من غير سُقم بين عَينيك مَصْرعُ العُشّاق إنّ يومَ الفِراق أفظع يوم ليتَني مِتّ قبل يوم الفِراق ومن قولنا فيه‏:‏ فررت من اللِّقاء إلى الفِراق فحَسْبي ما لَقِيتُ وما ألاقِي سَقاني البَيْنُ كأسَ الموت صِرْفاً وما ظَني أموتُ بكَفِّ ساقي فيا بردَ اللِّقاء على فُؤادي أجِرْني اليومَ من حَرِّ الفِراق وقال مجنون بني عامر‏:‏ وإني لمُفْنِ دمعِ عيني من البُكا حِذاراً لأمرٍ لم يكن وهو كائِن وقالوَا غداً أو بعد ذاك بليلةٍ فراقُ حبيب لم يَبِنْ وهو بائن وما كنتُ أخشى أن تكون مَنيّتي بكَفِّيَ إلاّ أنّ ما حان حائِن فواحزَني إنْ لم أودّعه غُدوة ويا أسفَاً إن كنتُ فيمن يُوَدَع فإن لم أودِّعه غداً مِتُّ بعده سريعاً وإنْ ودّعتُ فالمَوْتُ أسرَع أنا اليومَ أبكيه فكيف به غداً أنا في غدٍ والله أبكَى وأجزَع لقد سخُنت عينيِ وجلَّت مُصيبتي غداةَ غدٍ إن كان ما أتوقّع فيا يوم - لا أدبرت - هل لك مَحْبِس ويا غدُ - لا أقبلتَ - هل لك مَدْفع وقال بشّار بن بُرد‏:‏ نَبَت عيني عن التَغميض حتى كأنّ جفونَها عنها قِصارُ أقول وليلتي تَزداد طُولاً أمَا للَيل بعدكم نَهار وقال المُعتصم لما دخل مصر وذكر جاريةً له‏:‏ غريب في قُرى مِصر يُقاسي الهم والسقما لَلَيلٌ كان بالمَيْدَا نِ أقصرُ منه بالفَرَما وقال آخر‏:‏ وَداعكِ مِثلُ وداع الرَّبيعِ وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ قال أبو الحسن الأخفش‏:‏ قالت جَحْدر العُكْليّ وكان لصًا‏:‏ وقِدْماً هاجَني فازددتُ شوقاً بكاءُ حمامتَيْن تجاوبانِ تجاوبتَا بلَحَن أعجميٍّ على عُودين من غَرَب وبانِ فكان البانُ أن بانت سُليمى وفي الغَرَب اغترابٌ غيرُ دانِي وقال آخر‏:‏ وتفَرَّقوا بعد الجميع لأنه لا بُدّ أن يتفرّق الجيرانُ لا تَصبِر الإبلُ الجلادُ تفرّقت بعد الجَميع ويَصبر الإنسَانُ وقال آخر‏:‏ فهل ريبة في أن تَحِنّ نَجِيبة إلى إلْفها أو أنْ يَحن نَجِيبُ وإذا رجّعت الإبلُ الحَنِينَ كان ذلك أحسَنَ صوت يَهتاج له المفارقون كما يهتاجون لصوت الحَمام‏.‏
وقال عَوف بن مُحلم‏:‏ ألا يا حمامَ الأيك إلفك حاضر وغَصْنك مَيّاد ففِيم تنُوح وكل مُطوَّقة عند العرب حمامة كالدُّبسي والقُمري والوَرشان وما أشبه ذلك وجمعها حَمام ويقال حمامة للذكر والأثنى كما يقال بطة للذكر والأنثى‏.‏
ولا يقال حَمام إلا في الجمع‏.‏
والحمامة تبكي وتغني وتنوح وتُغرّد وتسجع وتُقرقر وتَترنّم وإنما لها أصوات سَجع لا تُفهم فيجعله الحزين بكاء ويجعله المسرور غناء‏.‏
وقال حُميد بن ثَور‏:‏ وما هاج هذا الشوقَ إلا حمامة دعت ساقَ حُرٍّ تَرْحةً وترنُّماً مُطوقة خَطْباء تَسْجِع كُلّما دَنا الصَّيْفُ وانزِاحَ الربيعُ فأنْجمَا تَغنَّت على غُصن عشاءً فلم تَدع لنائحةٍ في نوْحها مُتلوّما فلم أرَ مِثْلي شاقَه صوتُ مِثْلها ولا عَربيا شاقَه صوتُ أعْجما وقال مَجنون بني عامر في الحمام‏:‏ ألا يا حماماتِ اللَوى عُدْن عودةً فإنِّي إلى أصواتكنّ حَزينُ فعُدْن فلما عدْن كِدْن يُمتْننيِ وكِدْتُ بأشجاني لهنّ أبِين لم تَرَ عيْني مثلَهن بوَاكياً بكَينْ فَلَم تَذْرِف لهن عُيون وقال حَبيب في هذا المعنى‏:‏ هُنّ الحمامُ فإن كَسَرْتَ عِيافةً من حائهنّ فإنهن حِمامُ وقال‏:‏ كما كاد يُنْسى عهد ظَمياء باللِّوى ولكنْ أَمَلَّتهُ عليّ الحَمائمُ لها نَغَم ليست دُموعاً فإنْ علَتْ مَضَتْ حيث لا تَمضي الدموعُ السَّواحم ومن قولنا في الحمام‏:‏ فكيف ولي قَلْب إذا هَبّت الصبا أهاب بشَوق في الضُّلوع مَكِين ويهتاج منه كُلما كان ساكناً دُعاءُ حمامٍ لم تَبِت بوُكوَن وكان ارتياحي من بُكاء حمامةٍ كذي شَجَن داويتَه بشجون كأنّ حمامَ الأيك لمّا تجاوبتْ حزين بكَى من رَحمة لحزين ومن قولنا في المعنى‏:‏ ونائحٍ في غُصون الأيك أرَّقني وما عنيت بشيء ظَلّ يَعْنِيه مُطوَّقٍ بخِضابِ ما يُزايله حتى تُفارقَه إحدى تَراقِيه قد بات يبكي بشجْوٍ ما دَريت به وبِت أبكي بشَجو ليس يَدريه ومن قولنا فيه‏:‏ أناحتَ حماماتُ اللِّوىِ أم تغَنَّتِ فأبدتْ دواعِي قَلْبه ما أجنَّتِ فديتُ التي كانت ولا شيءَ غيرُها مُنَى النَّفس لو يُقْضىَ لها ما تَمنّت لكِ الويلُ كم هَيَّجت شجواً بلاَ جَوًى وشَكْوى بلا شَكوى وكَرْباً بلا كَرْب وأسكبتِ دمعاً من جُفونِ مُسَهِّدٍ وما رَقرقت منك المدامع بالسَّكب وقال ذو الرُمة‏:‏ رأيتُ غُراباً ناعباً فوق بانة من القضب لم يَنْبت لها ورقٌ نَضْرُ فقلت غرابِّ لاغتراب وبانةٌ لبَينْ النَّوى هذي العِيافة والزَّجر قولهم في طيب الحديث قال عديّ بن زَيد العِباديّ‏:‏ في سَماعٍ يأذَن الشيخُ له وحَديثٍ مثل ماذيّ مشَارْ وقال القُطامي‏:‏ فهنّ يَنْبِذْن من قَولٍ يُصِبْن به مواقعَ الماء من ذي الغُلَّة الصادِي وقال جِران العَود‏:‏ فَنِلْنا سِقاطاً من حديث كأنّه جَنَى النّحل أو أبكار كَرَمْ تقطف وقال آخر‏:‏ وإنا ليَجري بيننا حين نَلْتقي حديث له وشيٌ كَوشي المَطارِف وقال بشّار‏:‏ وكأنّ نَشر حديثها قِطَع الرِّياض كُسين زَهْرا وله‏:‏ لئن عشقت أُذني كلاماً سمعتُه رخيماً فقلبي إذاً لا شكّ باللحظِ أعشق وقال بَشّار أيضاً‏:‏ وبكر كَنُوَّارِ الرَّبيع حديثُها يَرُوق بوجهٍ واضحٍ وقوَام وقال آخر‏:‏ كأنّما عَسَل رُجعَانُ منطقها إن كان رَجْع كلام يُشْبه العَسَلاَ وقال آخر‏:‏ وحديثٍ كأنّه زهرَ الرّو ض وفيه الصَّفراءُ والحَمْراءُ قولهم في الرياض أنشد أحمدُ بن جِدار للمُعلَّى الطائيّ‏:‏ كأنّ عُيونَ الروض يَذْرِفن بالنَّدَى عُيون يُراسلنَ الدّموعَ على عَذْل وقال البُحتريّ‏:‏ شَقائق يَحْملن النِّدى فكِأنه دُموعُ التَّصابِي في خُدود الخَرائِدِ ومِن لُؤلؤ كالأقْحوان مُنضَدٍ على نُكَت مُصْفَرَّة كالفرائد وقال أيضاً‏:‏ وقد نَبّه النيروزُ في غَلَس الدُّجَى أوائلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمس نُوَّمَا يُفَتِّقها بَرْدُ الندى فكأنه يَنُثّ حديثاً كان قبلُ مكَتَّما ومن شَجرٍ ردَ الربيعُ لِباسَه عليه كما نَشَّرْتَ وَشْياً منَمْنما وقال أعشى بَكْر‏:‏ ما روضةٌ من رِياض الحَزْن مُعشِبة خَضْراءُ جاد عليها مُسْبِل هَطِلُ يضاحك الشمسَ منها كوكب شَرق مؤزَّر بعمِيم النَّبتِ مُكتهل وأنشد ابنُ أبي طاهر لنفسه‏:‏ فتقت جُيوبَ الرَّوض منها ديمة حَلَّت عَزاليها صباً وقَبول ولها عُيون كالعُيون نَواظر تَبْدُو فمنها أَمْرَه وكَحِيل وقال الأخطل الصغير‏:‏ خَلَع الرَّبيعُ على الثَّرى من وَشْيه حُلَلاً يَظَلّ بها الثرى يَتَخيَّلُ نَوْرٌ إذا مَرَت الصبا فيه الندى خِلْتَ الزَّبَرجد بالفَريد يُفصَل فكأنها طَوْراً عُيون كُحَّل وكأنها طَوْراً عُيون هُملُ وقال أبو نُواس‏:‏ يَوم تَقاصر واستتبِّ نَعِيمُه فِي ظِلّ مُلتفّ الحَدائق أخْضَرا وإذا الرِّياح تَنسّمت في رَوضة نثرت به مِسْكاً عليه وعَنْبرا وأنشد ابنُ مُسهر لابن أبي زُرعة الدِّمشقيّ يقول‏:‏ وقد لَبِستْ زُهْرُ الرِّياض حُليها وتجللت الأرضَ الفَضَاء الزخارفُ لجين وعِقْبان ودُرّ وجَوْهر تُؤلّفه أيدي الرَّبيع اللَطائفُ فكأنّ الحَوْذان والأقحوان ال غَضّ نَظْمان لُؤْلؤ وفَريد وأنشد ابن جدار للمُعلَّى‏:‏ ترى للنَّدى فيه مجالاً كأنِّما نَثَرتَ عليه لؤلؤ فَتبدَّدا وأنشد ابنُ الحارثيّ لنفسه‏:‏ وما رَوضة عُلْويةٌ أسديّة مُنَمنة زَهْراء ذاتُ ثَرىً جَعْدِ سَقاها النَّدى في عقْب جنح من الدُّجىِ فنُوَّارها يهتزّ بالكَوكب السَّعد بأحسنَ من حُرٍّ تَضمّن حاجةَ لحُرّ فأَوْفَى بالنّجاح مع الوَعْد وأنشد محمد بن عَمَّار للحَسن بن وَهْب يقول‏:‏ طلعتْ أوائلُ للرَّبيع فبشّرتْ نَوْرَ الرِّياض بجدَة وشَبابِ وغدا السحابُ مكلِّلاً جَوَّ الثّرى أَذيالَ أَسْحم حالكِ الجلْباب فترى السماء إذا أجَدّ رَبابُها فكأنما التحفَتْ جَناحَ غُراب وترى الغُصون إذا الرِّياح تناوحتْ ملتفةً كتعانُق الأحباب وقال حَبيب بن أوس الطائيّ‏:‏ وأنشد البُحتري في دمشق‏:‏ إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ مُستحسن وزَمانٍ يُشبه البَلَدا يمسي السحابُ على أجبالها فِرقاً ويُصبح النَبتُ في صحرائها بَدَدا فلستَ تُبصر إلا واكفاً خَضِلاً أو يانعاً خَضِراً أو طائراً غِردا كأنما القَيظَ ولّى بعدَ جَيئته أو الربيعُ دنا من بعد ما بَعُدا أنشد ابن أبي طاهر لأشْجع‏:‏ بين الكنائس والأرواح مُطَردٌ للعين يَلْعب فيه الطّرفُ والبَصِرُ في رُقعة من رقاع الأرض يَعْمرها قومٌ على أبوَيهم أجمعت مضر وأنشد عليّ بن الحمم لعليّ بن الخليل‏:‏ ورَوضة في ظلال دَسْكرةٍ جداولُ الماء في جوانبها تَسْتَنّ في رَوْضة مُنوَّرة يُغرِّد الطير في مَشاربها كأنّ فيها الحُليّ والحُلل ال يَمْنة تُهدى إلى مَرازبها وقال إبراهيم بن العبّاس الكاتب‏:‏ ومَسْحب نَوْر الرَّبي ع أنفاسهُ المِسكُ والعَنبر خِلالَ شقائِقه أصْفر وأضعافَ أصْفره أحمر والماء مُطّرد بينه يُصفق باديه والمصدر يُشارفه البرّ من جانب ومن جانب بحرُه الأخضر مَجالُ وحُوش ومَرفا سَفين فيا عُرف لَهْوٍ ويا مَنظر ويا حُسن دُنيَا ويا عِزّ مُل ك يسوسهما السائسُ الأكبر وِقال ابن أبي عُيينة في بُستانه‏:‏ يُذكرني الفِرْدوس طوراً فأنثني وطَوراً يُواتيني إلى القَصْف والفَتْك بغَرْس كأبكار العَذارَى وتُربة كأنَّ ثراها ماء وَرْد على مِسْك كأنّ قصورَ الأرض ينظُرن حولَه إلى مَلِك أوفَى على مِنْبر المُلك يُدِلّ عليها مُستطيلاً بحُسنه ويَضحك منها وهي مُطرقة تَبْكي وقال فيه أيضاً‏:‏ يا جَنّة فاقت الجنان فما تبلغها قيمة ولا ثَمَنُ فانظر وفكِّر فيما تَمُر به إن الأريبَ المُفكّرُ الفَطن من سُفنِ كالنَعام مقْبلةٍ ومِن نَعام كأنها سُفن وقال الخليلَ بن أحمد‏:‏ يا صاحبَ القَصر نِعْم القَصْرُ والوادِي بمَنْزلٍ حاضر إن شئتَ أو بادِي تَرْقى به السُفن والظّلمان واقفةٌ والنّون والضّبّ والمَلاح والحادِي وقال إسماعيل بن إبراهيم الحَمْدُوني‏:‏ برَوْضة صنعت أيدي الربيع لها بُرُودَها وكَسَتْها وَشْيها عَدَنُ عاجَت عليها مَطايا الغيث مسبلةَ لهنّ في ضَحِكاتٍ أدمُعٌ هُتُن كأنما البَيْن يُبْكيها ويُضحكها وَصْلٌ حَباها به من بعده سَكَن فولّدت صُفراً أثوابها خُضرا أحشاؤهُن لأحشاء الندى وَطن من كل عَسجدةٍ في خِدْرها اكْتتمتْ عَذْراءُ في بَطنها الياقوتُ مُكْتَمِن وأنشد عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ أين إخوانُنا على السرّاء أين أهلُ القِباب والدَهناءِ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ وَروضةٍ عقدتْ أيدي الرَّبيع بها نَورا بنَوْر وتَزْويجاً بتَزْويج بمُلقِح مُن سَواريها ومُلقحة وناتج من غَواديها ومَنتوج تَوشَحت بمُلاة غير مُلْحمة من نَورها ورداء غير مَنْسوج فأَلبست حُلل المَوشي زَهرتَها وجَللتها بأَنماط الدَّيابيج ومن قولنا‏:‏ ومَوْشيّةٍ يهدِي إليك نَسيمُها على مَفْرق الأرواح مِسكاً وَعنبراً سَداوتُها من ناصع اللَّون أَبيض ولُحمتُها من ناقع اللَون أَصْفرا تُلاحظ لَحظاً من عُيونٍ كأنَّها فصوص من الياقوت كُلَلن جوهرا ومثلُه قولُنا‏:‏ وما رَوضة بالحَزن حاك لها النَّدى برُوداً من المَوشيّ حُمرَ الشَقائق يُقيم الدُّجى أعناقَها وُيميلها شعاعُ الضَحى المُستَنّ في كُل شارق إذا ضاحكْتها الشمسُ تَبكي بأعين مُكلَلة الأَجْفان صُفْر الحَمالق