الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مجموع الفتاوى/المجلد العاشر»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
أنشأ الصفحة ب'{{رأسية | عنوان = مجموع فتاوى ابن تيمية | مؤلف = ابن تيمية | باب = المجلد العاشر - الآد…'
 
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
سطر 1:
مجموع فتاوى ابن تيمية – 10 – المجلد العاشر
{{رأسية
| عنوان = [[مجموع فتاوى ابن تيمية]]
| مؤلف = ابن تيمية
| باب = المجلد العاشر - الآداب والتصوف
| سابق = → [[../المجلد التاسع|المجلد التاسع]]
| لاحق = [[../المجلد الحادي عشر|المجلد الحادي عشر]] ←
| ملاحظات =
}}
 
«الآداب والتصوف»
 
===كلمات في أعمال القلوب===
{{مجموع الفتاوى/10}}
قَالَ شَيخ الإِسْلام أَحْمَدُ بنُ تَيمية قدس الله روحه:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
[[تصنيف:مجموع الفتاوى|10]]
 
الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
 
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
أما بعد:
 
فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب التي قد تسمى المقامات والأحوال وهي من أصول الإيمان، وقواعد الدين، مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك. اقتضى ذلك بعض من أوجب الله حقه من أهل الإيمان، واستكتبها وكل منا عجلان.
 
فأقول: هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق المأمورين في الأصل باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات.
 
فالظالم لنفسه: العاصي بترك مأمور أو فعل محظور.
 
والمقتصد: المؤدي الواجبات والتارك المحرمات.
 
والسابق بالخيرات: المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه. وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه: إما بتوبة والله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك. وكل من الصنفين: المقتصدين والسابقين من أولياء الله الذين ذكرهم في كتابه بقوله: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 62، 63]</ref>. فحد أولياء الله: هم المؤمنون المتقون، ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم: المقتصدون، وخاص وهم: السابقون، وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين.
 
وقد ذكر النبي {{صل}} القسمين في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يقول الله: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه».
 
وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان، فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
 
===القائلون بتخليد العصاة===
وأما القائلون بالتخليد، كالخوارج والمعتزلة القائلين: إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب، ومن عوقب لم يثب. ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه، وقد بسطناه في مواضعه.
 
وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا كان يسمى حمارًا وكان يضحك النبي {{صل}}. وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي {{صل}}، فأتى به مرة فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي {{صل}}. فقال له النبي {{صل}}: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله».
 
فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا لله ورسوله، وحب الله ورسوله أوثق عرى الإيمان، كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند الله ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ذكر الخوارج فقال: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد».
 
وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول الله {{صل}} مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي {{صل}}. وقال النبي {{صل}} فيهم في الحديث الصحيح: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق».
 
ولهذا قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها. ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله. فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب.
 
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } <ref>[محمد: 17]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } <ref>[النساء: 66 68]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[الحديد: 28]</ref>، وقال تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } <ref>[البقرة: 257]</ref>، وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[المائدة: 15، 16]</ref>. وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة.
 
وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } <ref>[الصف: 5]</ref>، وقال تعالى: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } <ref>[البقرة: 10]</ref>، وقال تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } <ref>[الأنعام: 109، 110]</ref>. وهذا استفهام نفي وإنكار، أي: وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنا نقلب أفئدتَهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ "إنها" بالكسر تكون جزمًا بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها.
 
وقد ثبت في الصحيحين عن [[ابن مسعود]] رضي الله عنه عن النبي {{صل}} أنه قال: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذَّابًا»، فأخبر النبي {{صل}} أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور.
 
وقد قال تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } <ref>[الانفطار: 13، 14]</ref> ؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب ألا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلام مشائخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولوا: قل لمن لا يصدق: لا يتبعني. ويقولون: الصدق سيف الله في الأَرْض، وما وضع على شيء إلا قطعه، ويقول يوسف بن أسباط وغيره: ما صدق الله عبدٌ إلا صنع له. وأمثال هذا كثير.
 
والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن المظهرين للإسلام ينقسمون إلى: مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر الله حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى: { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا }إلى قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } <ref>[الحجرات: 14، 15]</ref>، وقال تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } <ref>[الحشر: 8]</ref>.
 
فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } <ref>[آل عمران: 81]</ref>، قال [[ابن عباس]]: ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
 
وقال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } <ref>[الحديد: 25]</ref>، فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم الله من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا. والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من الله، كما قال تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } <ref>[الزمر: 1]</ref>، وقال تعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } <ref>[هود: 1]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } <ref>[النمل: 6]</ref>، والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها.
 
وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }إلى قوله: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } <ref>[البقرة: 177]</ref>، وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } <ref>[البقرة: 10]</ref>، وقوله تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } <ref>[المنافقون: 1]</ref>، وقوله تعالى: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } <ref>[التوبة: 77]</ref>. ونحو ذلك في القرآن كثير.
 
ومما ينبغي أن يعرف: أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال، كقول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه». ويقال: حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك. ولهذا يريدون بالصادق: الصادق في إرادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله، ويريدون الصادق في خبره وكلامه، والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله. قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } الآيتين <ref>[النساء: 142، 143]</ref>.
 
وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو: الاستسلام لله لا لغيره، كما قال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } الآية <ref>[الزمر: 29]</ref>. فمن لم يستسلم لله فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر. ويستعمل لازمًا ومتعديًا كما قال تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } <ref>[البقرة: 131]</ref>، وقال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } <ref>[البقرة: 112]</ref>. وأمثال ذلك في القرآن كثير.
 
ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا سواه، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[آل عمران: 85]</ref>، وقال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } <ref>[آل عمران: 18، 19]</ref>.
 
وهذا الذي ذكرناه، مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة: هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها. كما قال النبي {{صل}} في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: «الإسلام عَلانية، والإيمان في القلب»؛ ولهذا قال النبي {{صل}} في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي {{صل}}: «الحلال بَيِّن، والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»، وعن أبي هريرة قال: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
 
===فصل في الأعمال الباطنة===
وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة الله والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد، وإن ارتقى مقامه.
 
وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } <ref>[آل عمران: 139]</ref>، وقوله: { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } <ref>[النحل: 127]</ref>، وقوله: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } <ref>[التوبة: 40]</ref>، وقوله: { وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } <ref>[يونس: 56]</ref>، وقوله: { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } <ref>[الحديد: 23]</ref>. وأمثال ذلك كثير.
 
وذلك ؛لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به، نعم! لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن على المصائب، كما قال النبي {{صل}}: «إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم» وأشار بيده إلى لسانه، وقال {{صل}}: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى الرب»، ومنه قوله تعالى: { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } <ref>[يوسف: 84]</ref>.
 
وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا. فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن.
 
وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به، كان مذمومًا عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودًا من جهة أخرى.
 
وأما المحبة لله، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ومن قال: إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق. وقد تكلم بعضهم في ذلك بكلام، بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلام مبسوط وليس هذا موضعه.
 
ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى: خصوص وعموم، فللخاصة خاصها، وللعامة عامها. مثال ذلك أن هؤلاء قالوا: إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت، والخاص لا يناضل عن نفسه. وقالوا: المتوكل يطلب بتوكله أمرًا من الأمور، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئًا. فيقال: أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه؛ ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، كما في قوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، وقوله: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } <ref>[هود: 88، الشورى: 10]</ref>، وقوله: { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } <ref>[الرعد: 30]</ref>.
 
فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
 
وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال: «يقول الله سبحانه: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل» قال رسول الله {{صل}}: «يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي. يقول العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى على عبدي. يقول العبد: مالك يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي. يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. يقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يقول الله: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل». فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب. وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه، وما للعبد، فإياك نعبد للرب، وإياك نستعين للعبد.
 
وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال: كنت رديفًا للنبي {{صل}} على حمار فقال: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على اللهّ إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حقهم عليه ألا يعذبهم». والعبادة هي الغاية التي خلق الله لها العباد من جهة أمر الله ومحبته ورضاه كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } <ref>[الذاريات: 56]</ref>، وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته، وكمال الذل لله ونهايته، فالحب الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين؛ولهذا كانت العبادة لاتصلح إلا لله، وهي وإن كانت منفعتها للعبد والله غني عن العالمين، فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا كان الله أشد فرحًا بتوبة العبد من الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آيسًا منها ثم استيقظ فوجدها، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته، وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في غير هذا الموضع.
 
والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة، فالاستعانة كالدعاء والمسألة. وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي {{صل}} قال: »يقول الله عز وجل: يا بن آدم، إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي. فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك».
 
وكون هذا لله وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء، فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائمًا له، والله تعالى يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه، ويحب الوسيلة تبعًا لذلك، وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد، وكل ذلك يحبه الله ويرضاه، وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم.
 
وأيضا، التوكل من الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها، والزاهد فيها زاهد فيما يحبه الله ويأمر به ويرضاه.
 
والزهد المشروع هو: ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله، كما أن الورع المشروع هو: ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لايستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها، كالواجبات. فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة، فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } <ref>[المائدة: 87]</ref>، كما أن الاشتغال بفضول المباحات، هو ضد الزهد المشروع، فإن اشتغل بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصيًا، وإلا كان منقوصًا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين.
 
وأيضا، فإن التوكل هو محبوب لله مرضي له مأمور به دائمًا، وما كان محبوبًا لله مرضيًا له مأمورًا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين، فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم: المتوكل يطلب حظوظه.
 
وأما قولهم: إن الأمور قد فرغ منها، فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه؛ لأن المطلوب إن كان مقدرًا فلا حاجة إليه، وإن لم يكن مقدرًا لم ينفع الدعاء، وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا.
 
وكذلك قول من قال: التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة، وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض، وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضا، وكذلك قول من قال: إن الدعاء إنما هو عبادة محضة.
 
فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد: وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة أيضا تكون من العبد، ولم يعلموا أن الله سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد، وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية.
 
وقد سئل النبي {{صل}} عن هذا الأصل مرات، فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: قيل لرسول الله {{صل}}: يا رسول الله، أعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: «نعم». قالوا: ففيم العمل؟ قال: «كل ميسر لما خلق له». وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال: كنا في جنازة فيها رسول الله {{صل}} فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه وقال: «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة». قال: فقال رجل من القوم: يا نبي الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة. قال: »اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة»، ثم قال نبي الله {{صل}}: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }» <ref>[الليل: 5 10]</ref>، أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد.
 
وروى [[الترمذي]] أن النبي {{صل}} سئل فقيل: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي من قدر الله».
 
وقد جاء هذا المعنى عن النبي {{صل}} في عدة أحاديث.
 
فبين {{صل}} أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة، وشقاوة هذا بالأعمال السيئة، فإنه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة، والشقي يشقى بالأعمال السيئة، فمن كان سعيدًا ييسر للأعمال الصالحة التي تقتضي السعادة، ومن كان شقيًا ييسر للأعمال السيئة التي تقتضى الشقاوة، وكلاهما ميسر لما خلق له، وهو ما يصير إليه من مشيئة الله العامة الكونية التي ذكرها الله سبحانه في كتابه في قوله تعالى: { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } <ref>[هود: 118، 119]</ref>.
 
وأما ما خلقوا له من محبة الله ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>.
 
والله سبحانه قد بين في كتابه في كل واحدة: من الكلمات والأمر والإرادة والإذن والكتاب والحكم والقضاء والتحريم ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة الله ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية.
 
مثال ذلك أنه قال في الأمر الديني: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } <ref>[النحل: 90]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } <ref>[النساء: 58]</ref>، ونحو ذلك. وقال في الكوني: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } <ref>[يس: 82]</ref>، وكذلك قوله: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } <ref>[الإسراء: 16]</ref> على إحدى الأقوال في هذه الآية.
 
وقال في الإرادة الدينية: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>، { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } <ref>[النساء: 26]</ref>، { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } <ref>[المائدة: 6]</ref>، وقال في الإرادة الكونية: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } <ref>[البقرة: 253]</ref>، وقال: { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } <ref>[الأنعام: 125]</ref>، وقال نوح عليه السلام: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } <ref>[هود: 34]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } <ref>[يس: 28]</ref>.
 
وقال تعالى في الإذن الديني: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } <ref>[الحشر: 5]</ref>، وقال تعالى في الكوني: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } <ref>[البقرة: 102]</ref>.
 
وقال تعالى في القضاء الديني: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } <ref>[الإسراء: 23]</ref> أي: أمر، وقال تعالى في الكوني: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } <ref>[فصلت: 12]</ref>.
 
وقال تعالى في الحكم الديني: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } <ref>[المائدة: 1]</ref>، وقال تعالى: { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } <ref>[الممتحنة: 10]</ref>، وقال تعالى في الكوني عن ابن يعقوب: { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } <ref>[يوسف: 80]</ref>، وقال تعالى: { قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } <ref>[الأنبياء: 112]</ref>.
 
وقال تعالى في التحريم الديني: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ } <ref>[المائدة: 3]</ref>، { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الآية <ref>[النساء: 23]</ref>. وقال تعالى في التحريم الكوني: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } <ref>[المائدة: 26]</ref>.
 
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } <ref>[المعارج: 24، 25]</ref>، وقال تعالى في الكلمات الدينية: { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } <ref>[البقرة: 124]</ref>، وقال تعالى في الكونية: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } <ref>[الأعراف: 137]</ref>، ومنه قوله {{صل}} المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر». ومن المعلوم أن هذا هو الكوني الذي لا يخرج منه شيء، عن مشيئته وتكوينه. وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته.
 
والمقصود هنا أنه {{صل}} بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالأعمال التي يصيرون بها إلى ذلك، كما أن سائر المخلوقات كذلك، فهو سبحانه يخلق الولد وسائر الحيوان في الأرحام بما يقدره من اجتماع الأبوين على النكاح، واجتماع المائين في الرحم، فلو قال الإنسان: أنا أتوكل ولا أطأ زوجتي، فإن كان قد قضى لي بولد وجد وإلا لم يوجد ولا حاجة إلى وطء، كان أحمق بخلاف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء الله، إذ قد يسبق الماء بغير اختياره.
 
ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول الله {{صل}} في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علىنا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول الله {{صل}}: «فقال ما علىكم ألا تفعلوا، فإن الله قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة»، وفي صحيح مسلم عن جابر: أن رجلًا أتى النبي {{صل}} فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل، فقال: «اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها».
 
وهذا مع أن الله سبحانه قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كما خلق آدم، ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير، ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم عليه السلام، لكن خلق ذلك بأسباب أخرى غير معتادة.
 
وهذا الموضع، وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع، فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر غير محقق لما أمر به ونهى عنه، ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل، والجري مع الحقيقة القدرية، ويحسب أن قول القائل: ينبغي للعبد أن يكون مع الله كالميت بين يدي الغاسل يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به، ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به بين ما أمر الله به وأحبه ورضيه، وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق الله بينه كما قال تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } <ref>[الجاثية: 21]</ref>، وقال تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } <ref>[القلم: 35، 36]</ref> وقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } <ref>[ص: 28]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } <ref>[الزمر: 9]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } <ref>[فاطر: 19-22]</ref>، وأمثال ذلك.
 
حتى يفضي الأمر بغلاتهم إلى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوي الإلهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبين ما يكون في الوجود من الأحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار، فيشهدون وجه الجمع من جهة كون الجميع بقضاء الله وقدره وربوبيته وإرادته العامة، وأنه داخل في ملكه، ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه وأعدائه، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكافرين، وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني، وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر، ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الأشياخ، أو ببعض غلطات بعضهم.
 
وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الاعتناء به على أهل طريق الله، السالكين سبيل الإرادة ؛ إرادة الذين يريدون وجهه، فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما لا يعلمه إلا الله، حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الأرض من أهل الظلم والعلو، كالذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو في الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك من أولياء الله فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحًا، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدًا، فالأحوال يكون تأثيرها محبوبًا لله تارة، ومكروهًا لله أخرى، وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من الله له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إهانة، وأن الكرامة لزوم الاستقامة، وأن الله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } <ref>[يونس: 62]</ref>.
 
فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين، وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين، مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبًا، وأما ما يبتلى الله به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها، أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك، وقد يشقى بها قوم إذا عصوه في ذلك.
 
قال الله تعالى: { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي. كَلَّا } <ref>[الفجر: 15-17]</ref> ؛ ولهذا كان الناس في هذه الأمور على ثلاثة أقسام:
 
قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة الله.
 
وقوم يتعرضون بها لعذاب الله إذا استعملوها في معصية الله كبلعام وغيره.
 
وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات.
 
والقسم الأول: هم المؤمنون حقًا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين الله، أو لحاجة يستعين بها على طاعة الله. ولكثرة الغلط في هذا الأصل نهى رسول الله {{صل}} عن الاسترسال مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله {{صل}}: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
 
وفي [[سنن أبي داود]]: إن رجلين اختصما إلى النبي {{صل}}، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله {{صل}}: «إن الله يلوم على العجز، ولكن علىك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل». فأمر النبي {{صل}} المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن يستعين بالله، وهذا مطابق لقوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>. فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة الله وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة الله ولا شيء أنفع له من ذلك، وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح.
 
قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح لسعد: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك»، فأخبر النبي {{صل}} أن الله يلوم على العجز الذي هو ضد الكيس، وهو التفريط فيما يؤمر بفعله، فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل. وإن كان لا ينافى القدرة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي.
 
فإن الاستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له، ولا تصلح إلا لمقدورها، كما ذكرها الله تعالى في قوله: { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } <ref>[هود: 20]</ref>، وفي قوله: { وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } <ref>[الكهف: 101]</ref>. وأما الاستطاعة التي يتعلق بها الأمر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد لا يقترن كما في قوله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>، وقول النبي {{صل}} لعمران بن حصين: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب».
 
فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام:
 
قوم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي والعبادة والطاعة شاهدين لإلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات الله ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه الأمور.
 
ولهذا قال بعض السلف: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله {{صل}} صفته في التوراة: «إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا صُمّا وقلوبًا غُلْفًا بأن يقولوا لا إله إلا الله».
 
ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}}: «إنها كنز من كنوز الجنة». قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } <ref>[الطلاق: 3]</ref>، وقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } إلى قوله: { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } <ref>[آل عمران: 173-175]</ref>، وفي [[صحيح البخاري]] عن [[ابن عباس]] رضي الله عنه في قوله: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد {{صل}} حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم».
 
وقسم ثان: يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم، غير ناظرين إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته، وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا ما يعملون على الأحوال التي يتصرفون بها في الوجود، ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه، وكثيرًا ما يغلطون، فيظنون أن معصيته هي مرضاته، فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي ويسمون هذا حقيقة، ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا.
 
وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر الله ونهيه فليس من المتقين، فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، والله تعالى لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } <ref>[الأعراف: 28]</ref>، وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه الله، وأن شرعوا ما لم يشرعه الله، وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } <ref>[الأنعام: 148]</ref>، ونظيرها في النحل ويس والزخرف. وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا.
 
وأما القسم الثالث: وهو من أعرض عن عبادة الله واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام.
 
والقسم الرابع: هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref> فاستعانوا به على طاعته. وشهدوا أنه إلههم الذي لايجوز أن يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله، وإنه ربهم الذي { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } <ref>[الأنعام: 51]</ref>، وأنه { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } <ref>[فاطر: 2]</ref>، { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } <ref>[يونس: 107]</ref>، { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } <ref>[الزمر: 38]</ref>.
 
ولهذا قال طائفة من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع.
 
فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشائخ كصاحب علل المقامات وهو من أجل المشائخ، وأخذ ذلك عنه صاحب محاسن المجالس وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط، وظنه أنه لا فائدة له في تحصيل المقصود، وهذه حال من جعل الدعاء كذلك، وذلك بمنزلة من جعل الأعمال المأمور بها كذلك، كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من الأسباب التي هي عبادة وطاعة مأمور بها، فإن غلط هذا في ترك الأسباب المأمور بها التي هي داخلة في قوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } كغلط الأول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>.
 
لكن يقال: من كان توكله على الله ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص لله ورسوله، بل خارج عن حقيقة الإيمان، فكيف يكون هذا المقام للخاصة، قال الله تعالى: { وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } <ref>[يونس: 84]</ref>، وقال تعالى: { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } <ref>[آل عمران: 160]</ref>، وقال تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } <ref>[إبراهيم: 11]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ }إلى قوله: { قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } <ref>[الزمر: 38]</ref>.
 
وقد ذكر الله هذه الكلمة { حَسْبِي اللَّهُ } في جلب المنفعة تارة، وفي دفع المضرة أخرى. فالأولى في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } الآية <ref>[التوبة: 59]</ref>. والثانية في قوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } <ref>[آل عمران: 173]</ref>، وفي قوله تعالى: { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } <ref>[الأنفال: 26]</ref>، وقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ }، يتضمن بالرضا والتوكل.
 
والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي {{صل}} يقول في الصلاة: «اللهم، بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم، إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللهم، إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين» رواه أحمد و[[النسائي]] من حديث عمار بن ياسر.
 
وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لاحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } <ref>[آل عمران: 143]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } <ref>[الصف: 2-4]</ref> نزلت هذه الآية لما قالوا: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله سبحانه وتعالى آية الجهاد، فكرهه من كرهه.
 
ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلاء، بأن يوجب على نفسه ما لا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون. كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي {{صل}} أنه نهى عن النذر، وقال: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل»، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد الرحمن بن سَمُرَة: «لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِلْتَ إلىها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعِنْت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك». وثبت عنه في الصحيحين أنه قال في الطاعون: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم عليه أشياء فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد الله عهودًا على أمور، وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود.
 
ويقتضي أن الإنسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات. ولابد في جميع ذلك من الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات، وترك المحظورات. ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى الله عنه.
 
وقد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } <ref>[البقرة: 45]</ref>، { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } <ref>[البقرة: 153]</ref>، وقوله: { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ }إلى قوله: { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[هود: 114، 115]</ref> { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } <ref>[طه: 130]</ref>، { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ }الآية <ref>[غافر: 55]</ref>.
 
وجَعلَ الإمَامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } <ref>[السجدة: 24]</ref>، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لابد فيه من الصبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر. كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: علىكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعلىمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد، يرفع الله بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم، وينتهون إلى رأيهم.
 
فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولابد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا قال تعالى: { وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } <ref>[سورة العصر]</ref>، وقال تعالى: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } <ref>[ص: 45]</ref>.
 
فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى. قال تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } <ref>[النجم: 1، 2]</ref>، فلا ينال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر، ولهذا قال على: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا انقطع الرأس بان الجسد ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له.
 
وأما الرضا، فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء: هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين: فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين. قال عمر بن عبد العزيز: الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روى عن النبي {{صل}} أنه قال لابن عباس: " إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا".
 
ولهذا لم يجئ في القرآن إلا مدح الراضين لا إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب، كالمرض والفقر والزلزال، كما قال تعالى: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } <ref>[البقرة: 177]</ref>، وقال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } <ref>[البقرة: 214]</ref>، فالبأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزال في القلوب.
 
وأما الرضا بما أمر الله به، فأصله واجب، وهو من الإيمان كما قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا»، وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء الله تعالى قال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } <ref>[النساء: 65]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } الآية <ref>[التوبة: 59]</ref>، وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } <ref>[محمد: 28]</ref>، وقال تعالى: { مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } <ref>[التوبة: 54]</ref>.
 
ومن النوع الأول: ما رواه أحمد و[[الترمذي]] وغيرهما عن سعد عن النبي {{صل}} أنه قال: _من سعادة ابن آدم استخارته لله، ورضاه بما قسم الله له، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته لله، وسخطه بما يقسم الله له».
 
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان، فأكثر العلماء يقولون: لا يشرع الرضا بها، كما لا تشرع محبتها، فإن الله سبحانه لا يرضاها ولا يحبها، وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } <ref>[البقرة: 205]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } <ref>[الزمر: 7]</ref>، وقال تعالى: { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } <ref>[النساء: 108]</ref>، بل يسخطها كما قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } <ref>[محمد: 28]</ref>.
 
وقالت طائفة: ترضى من جهة كونها مضافة إلى الله خلقًا، وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلًا وكسبًا. وهذا القول لا ينافي الذي قبله، بل هما يعودان إلى أصل واحد. وهو سبحانه إنما قدر الأشياء لحكمة، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية، وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشيء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من أحدهما ويكره من الآخر، كما في الحديث الصحيح: «ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه».
 
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف الله وفعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله، فهو خروج منه عن مقصود الكلام، فإن الكلام ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب تعالى من صفاته وأفعاله، وإنما الكلام في الرضا بمفعولاته. والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع.
 
والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد الله على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه، وفي الحديث: «أول من يدعى إلى الجنة: الحمادون الذين يحمدون الله في السراء والضراء»، وروى عن النبي {{صل}} أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات»، وإذا أتاه الأمر الذي يسوؤه قال: «الحمد لله على كل حال». وفي مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري عن النبي {{صل}} قال: «إذا قبض ولد العبد يقول الله لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد»، ونبينا محمد {{صل}} هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء. والحمد على الضراء يوجبه مشهدان:
 
أحدهما: علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، فإنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العلىم الحكيم، الخبير الرحيم.
 
والثاني: علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه، وغيره عن النبي {{صل}} أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».
 
فأخبر النبي {{صل}} أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له. قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } <ref>[إبراهيم: 5، لقمان: 31، سبأ: 19، الشورى: 33]</ref> وذكرهما في أربعة مواضع من كتابه.
 
فأما من لا يصبر على البلاء، ولا يشكر على الرخاء، فلا يلزم أن يكون القضاء خيرًا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين:
 
أحدهما: أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد، كما في قوله تعالى: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ } أي: من سراء، { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } <ref>[النساء: 79]</ref> أي: من ضراء، وكقوله تعالى: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } <ref>[الأعراف: 168]</ref> أي: بالسراء والضراء، كما قال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } <ref>[الأنبياء: 35]</ref>، وقال تعالى: { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } <ref>[آل عمران: 120]</ref>، فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار، ويراد بها الطاعات والمعاصي.
 
والجواب الثاني: أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور. والذنوب تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه الله، وقد ترتفع درجته بالتوبة. قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة. وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر الله ويتوب إلىه منها. وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «الأعمال بالخواتيم». والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:
 
أن يتوب فيتوب الله عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو يستغفر فيغفر له، أو يعمل حسنات تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به، أو يشفع فيه نبيه محمد {{صل}}، أو يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفر عنه، أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه، أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه، أو يرحمه أرحم الراحمين.
 
فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله {{صل}}: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
 
فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صبارًا شكورًا، أو كان قد استخار الله وعلم أن من سعادة ابن آدم استخارته لله ورضاه بما قسم الله له، كان قد رضى بما هو خيرله، وفي الحديث الصحيح عن على رضي الله عنه قال: «إن الله يقضي بالقضاء، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط». ففي هذا الحديث الرضا والاستخارة، فالرضا بعد القضاء والاستخارة قبل القضاء، وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا، وفي هذا الصبر.
 
ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرًا له، فكيف مع الرضا؟ ولهذا جاء في الحديث: «المصاب من حرم الثواب» في الأثر الذي رواه الشافعي في مسنده: أن النبي {{صل}} لما مات سمعوا قائلًا يقول: يا آل بيت رسول الله {{صل}} إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون فيه مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه الله.
 
لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافى الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي {{صل}} لما بكى على الميت وقال: «إن هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه على فضحك وقال: رأيت أن الله قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الله به، حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع. وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد الله تعالى كحال النبي {{صل}} فهذا أكمل. كما قال تعالى: { ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } <ref>[البلد: 17]</ref>، فذكر سبحانه التواصي بالصبر والمرحمة.
 
والناس أربعة أقسام: منهم من يكون فيه صبر بقسوة. ومنهم من يكون فيه رحمة بجزع. ومنهم من يكون فيه القسوة والجزع. والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس.
 
وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن الله من توابع المحبة له، وهذا إنما يتوجه على المأخذ الأول وهو الرضا عنه لاستحقاقه ذلك بنفسه، مع قطع العبد النظر عن حظه، بخلاف المأخذ الثاني وهو: الرضا لعلمه بأن المقضي خير له، ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه، لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه. إن المحبة لله نوعان: محبة له نفسه، ومحبة له لما فيه من الإحسان، وكذلك الحمد له نوعان: حمد له على ما يستحقه نفسه، وحمد على إحسانه إلى عبده، فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة.
 
وأما الرضا به وبدينه وبرسوله، فذلك من حظ المحبة، ولهذا ذكر النبي {{صل}} ذوق طعم الإيمان، كما ذكر في المحبة وجود حلاوة الإيمان. وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق الإيماني الشرعي، دون الضلالي البدعي. ففي [[صحيح مسلم]] عن النبي {{صل}} أنه قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا»، وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار». وهذا مما يبين من الكلام على المحبة فنقول:
 
===فصل في محبة الله ورسوله===
محبة الله؛ بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة: إما عن محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة، كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد الكبار.
 
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة. وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند الله لا يكون عملًا صالحًا، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك»، وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي.
 
بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه.
 
قال تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } <ref>[الزمر: 13]</ref>، والسورة كلها عامتها في هذا المعنى، كقوله: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } <ref>[الزمر: 11، 12]</ref> إلى قوله: { قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } <ref>[الزمر: 14]</ref>، إلى قوله: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } <ref>[الزمر: 36]</ref> إلى قوله: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الآية <ref>[الزمر: 38]</ref> إلى قوله: { أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } <ref>[الزمر: 43 45]</ref> إلى قوله: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } <ref>[الزمر: 64]</ref> إلى قوله: { بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ } <ref>[الزمر: 66]</ref>.
 
وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قال: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[ص: 82، 83]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } <ref>[الحجر: 42]</ref>، وقال: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } <ref>[النحل: 99، 100]</ref>، فبين أن سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسف: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 24]</ref>، وأتباع الشيطان هم أصحاب النار، كما قال تعالى: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } <ref>[ص: 85]</ref>.
 
وقد قال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } <ref>[النساء: 48]</ref> وهذه الآية في حق من لم يتب؛ ولهذا خصص الشرك، وقيد ما سواه بالمشيئة، فأخبر أنه لا يغفر الشرك لمن لم يتب منه، وما دونه يغفره لمن يشاء. وأما قوله: { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } <ref>[الزمر: 53]</ref> فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق، وسياق الآية يبين ذلك مع سبب نزولها.
 
وقد أخبر سبحانه أن الأولين والآخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي {{صل}} على أُبَيِّ لما أمره الله تعالى أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال: { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ. وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ }الآية <ref>[البينة: 4، 5]</ref>.
 
وهذا حقيقة قول لا إله إلا الله، وبذلك بعث جميع الرسل. قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } <ref>[الأنبياء: 25]</ref>، وقال: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } <ref>[الزخرف: 45]</ref>، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } <ref>[النحل: 36]</ref>.
وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال نوح عليه السلام: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } <ref>[الأعراف: 59]</ref>، وكذلك هود وصالح وشعيب عليهم السلام وغيرهم كل يقول: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }لا سيما أفضل الرسل الذين اتخذ الله كلاهما خليلًا: إبراهيم ومحمدا عليهما السلام فإن هذا الأصل بينه الله بهما وأيدهما فيه ونشره بهما، فإبراهيم هو الإمام الذي قال الله فيه: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } <ref>[البقرة: 124]</ref>، وفي ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل، فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك الله عليهم، قال سبحانه: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } <ref>[الزخرف: 26 - 28]</ref>.
 
فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص لله وهي البراءة من كل معبود إلا من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس: { وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي. إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } <ref>[يس: 2224]</ref>، وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من اتخذ بعض الكواكب ربًا يعبده من دون الله، قال: { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إلى قوله: { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } <ref>[الأنعام: 78-81]</ref>، وقال إبراهيم الخليل عليه السلام: { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } <ref>[الشعراء: 75-81]</ref>، وقال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } الآية <ref>[الممتحنة: 4]</ref>.
 
ونبينا {{صل}} هو الذي أقام الله به الدين الخالص لله دين التوحيد، وقمع به المشركين من كان مشركًا في الأصل، ومن الذين كفروا من أهل الكتب، وقال {{صل}} فيما رواه الإمام أحمد وغيره: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»، وقد تقدم بعض ما أنزل الله عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد.
 
وقال تعالى أيضا: { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } إلى قوله: { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } إلى قوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ. بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ } إلى ما ذكره من قصص الأنبياء في التوحيد وإخلاص الدين لله، إلى قوله: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[الصافات: 159 160]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 145، 146]</ref>.
 
وفي الجملة فهذا الأصل في سورة الأنعام، والأعراف، والنور، وآل طسم، وآل حم، وآل الر، وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر، فهو أصل الأصول وقاعدة الدين حتى في سورتي الكافرون والإخلاص: { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وهاتان السورتان كان النبي {{صل}} يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف، وسنة الفجر، وهما متضمنتان للتوحيد.
 
فأما { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ }: فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة، وهو الذي يتكلم به مشائخ التصوف غالبًا، وأما سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }: فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين عن [[عائشة]] أن رجلًا كان يقرأ: قل هو الله أحد في صلاته، فقال النبي {{صل}}: «سلوه لم يفعل ذلك؟» فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال: «أخبروه أن الله يحبه».
 
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف الله سبحانه وتعالى الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع. وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد، كما جاء تفسيره عن النبي {{صل}} والصحابة والتابعين، وما دل على ذلك من الدلائل.
 
لكن المقصود هنا هو: التوحيد العملي، وهو إخلاص الدين لله وإن كان أحد النوعين مرتبطًا بالآخر. فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين الله وبين خلقه، أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي لا تستلزم مدحًا ولا ثبوت كمال، أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص، وكما يسوون إذا أثبتوا هم ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم، ويجعلون له أندادًا ويسوون المخلوقات برب العالمين.
 
واليهود كثيرًا ما يعدلون الخالق بالمخلوق، ويمثلونه به حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه، والنصارى كثيرًا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية، وصفات الإلهية، ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
 
والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غيرالمغضوب عليهم ولا الضالين. وقد قال النبي {{صل}}: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون». وفي هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبي {{صل}}: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القُذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه»، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» والحديث في الصحيحين.
 
فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>، وقوله: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } <ref>[البقرة: 21]</ref> وأمثال هذا، والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودًا، والمعظم الذي لا يحب، لا يكون معبودًا؛ ولهذا قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref> فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادًا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشد حبًا لله منهم لله ولأوثانهم، لأن المؤمنين أعلم بالله، والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل. قال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } <ref>[الزمر: 29]</ref>.
 
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك. فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى.
 
ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها، فإن النبي {{صل}} قال: « رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله». فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه. وقد قال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } إلى قوله: { أَجْرٌ عَظِيمٌ } <ref>[التوبة: 1922]</ref>، والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة.
 
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة. قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } الآية <ref>[التوبة: 24]</ref>، وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } <ref>[المائدة: 54]</ref> فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وإنهم يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.
 
فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك. وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له، كما قال النبي {{صل}} لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال: «لعلك أغضبتهم لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك». فقال لهم: يا إخوتي، هل أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا: ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها، فقال لهم أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي {{صل}} فقال له ما تقدم؛ لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا لله؛ لكمال ما عندهم من الموالاة لله ورسوله، والمعاداة لأعداء الله ورسوله.
 
ولهذا قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه: «لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه» فبين سبحانه أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: «وأنا أكره مساءته»، وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت. فسمى ذلك ترددا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك.
 
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه. وقد يقال له: اتحاد نوعي وصفي، وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع، والقائل به كافر، وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم، وهو الاتحاد المقيد في شيء بعينه.
 
وأما الاتحاد المطلق الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق فهذا تعطيل للصانع وجحود له، وهو جامع لكل شرك، فكما أن الاتحاد نوعان، فكذلك الحلول نوعان: قوم يقولون: بالحلول المقيد في بعض الأشخاص، وقوم يقولون: بحلوله في كل شيء، وهم الجهمية الذين يقولون: إن ذات الله في كل مكان.
 
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه، ويغيب بمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، وبموجوده عن وجوده، حتى لا يشهد إلا محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه. كما قيل: إن محبوبًا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك؟ فقال، غبت بك عني، فظننت أنك أني، فلا ريب أن هذا خطأ وضلال.
 
لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورًا في زوال عقله، فلا يكون مؤاخذًا بما يصدر منه من الكلام في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور، كما قيل في عقلاء المجانين: إنهم قوم آتاهم الله عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
 
وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا، وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين، كما لا يقع طلاقه في أصح القولين، وإن كان النزاع في الحكم مشهورًا. وقد بسطنا الكلام في هذا، وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم في قاعدة ذلك.
 
وبكل حال، فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص، وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد {{صل}} وهو أفضل الرسل، وإن كان لهؤلاء في صعق موسى نوع تعلق، وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الإلهية على بعض التابعين ومن بعدهم، وإن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، فمن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } <ref>[الصف: 4]</ref>.
 
والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة، كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير. وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وبهذا يحصل الفرق بين الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك.
 
===فصل في محبة الله ورسوله===
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه. والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب. قال تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }الآية <ref>[الإسراء: 57]</ref>، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } <ref>[البقرة: 218]</ref>.
 
ورحمته اسم جامع لكل خير. وعذابه اسم جامع لكل شر. ودار الرحمة الخالصة هي الجنة، ودار العذاب الخالص هي النار، وأما الدنيا فدار امتزاج، فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم، وأعلاه النظر إلى وجه الله، كما في [[صحيح مسلم]] عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي {{صل}} قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار؟» قال: «فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه» وهو الزيادة.
 
ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قال: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك، فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة لايدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الله من الجهمية، أو من يقربها ويزعم أنه لا تمتع بنفس رؤية الله، كما يقوله طائفة من المتفقهة. فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة لا يدخل فيه إلا التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } <ref>[آل عمران: 152]</ref> قال فأين من يريد الله، وقال آخر في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } <ref>[التوبة: 111]</ref> قال: إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه، وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخل فيها النظر.
 
والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الله، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة، كما أخبرت به النصوص. وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم، ويدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفًا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق نارًا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق.
 
وأما عمل الحي بغير حب ولا إرادة أصلا، فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك، وظن أن كمال العبد ألا تبقى له إرادة أصلا؛ فذاك لأنه تكلم في حال الفناء والفاني الذي يشتغل بمحبوبه له إرادة ومحبة ولكن لا يشعر بها، فوجود المحبة شيء، والإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر. فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط، فالعبد لا يتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي {{صل}}: «أصدق الأسماء حارث وهمام». فكل إنسان له حرث وهو العمل، وله هم وهو أصل الإرادة، ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة الله ما يدعوه إلى طاعته، ومن إجلاله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته، كما قال عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه أي: هو لم يعصه ولو لم يخفه، فكيف إذا خافه، فإن إجلاله وإكرامه لله يمنعه من معصيته.
 
فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه، والتنعم بتجليه له، فمعلوم أن هذا من توابع محبته له، فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الاحتجاب، وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به، فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الله المستلزمة محبته، ثم إذا وجد حلاوة محبة الله وجدها أحلى من كل محبة؛ ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء، كما في الحديث: «إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النَّفَس» وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته. فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة الله التي هي الأصل.
 
وهذا كله ينبني على أصل المحبة، فيقال: قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين، كما في قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، وقوله تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } <ref>[المائدة: 54]</ref>، وقوله تعالى: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } <ref>[التوبة: 24]</ref> وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار».
 
بل محبة رسول الله {{صل}} وجبت لمحبة الله كما في قوله تعالى: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }، وكما في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»، وفي [[صحيح البخاري]] عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلىَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: «لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال: والله لأنت أحب إلىَّ من نفسي، قال: «الآن يا عمر».
 
وكذلك محبة صحابته وقرابته، كما في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»، وقال: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر»، وقال على رضي الله عنه: إنه لعهد النبي الأمي إلىَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق. وفي السنن أنه قال للعباس: «والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي» يعني: بني هاشم، وقد روى حديث عن [[ابن عباس]] مرفوعًا أنه قال: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي لأجلي».
 
وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى: { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } <ref>[النساء: 125]</ref>، وقال تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } <ref>[المائدة: 54]</ref>، وقال تعالى: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[البقرة: 195]</ref>، { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } <ref>[الحجرات: 9]</ref>، { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } <ref>[التوبة: 4]</ref>، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } <ref>[التوبة: 7]</ref>، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } <ref>[الصف: 4]</ref>، { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } <ref>[آل عمران: 76]</ref>.
 
وأما الأعمال التي يحبها الله من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة، وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء الله المتقون.
 
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف إن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref> وكذلك هو سبحانه يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية.
 
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين، زعمًا منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط. خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس، ضَحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه، وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك.
 
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلًا، وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها، وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلًا، وموسى كليما، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل:
 
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبذا سمى الخليل خليلًا
 
ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي {{صل}} أنه قال: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله» يعني: نفسه، وفي رواية: «إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا»، وفي رواية: «إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا»، فبين {{صل}} أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلًا، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه. مع أنه {{صل}} قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصًا كما قال لمعاذ: «والله إني لأحبك» وكذلك قوله للأنصار. وكان زيد بن حارثة حب رسول الله {{صل}}، وكذلك ابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك. وقال له عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». قال: فمن الرجال؟ قال: «أبوها»، وقال لفاطمة ابنته رضي الله عنها: «ألا تحبين ما أحب؟» قالت: بلى، قال: «فأحبي عائشة». وقال للحسن: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه» وأمثال هذا كثير.
 
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال: «إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا»، فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوبًا لذاته لا لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب.
 
فالخلة تنافى المزاحمة، وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبًا لذاته محبة لا يزاحمه فيها غيره، وهذه محبة لا تصلح إلا لله، فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة، وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره إذا كان محبوبًا بحق فإنما يحب لأجله، وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله تعالى. وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون الله محبوبًا لذاته ينكر مخاللته. وكذلك أيضا إن أنكر محبته لأحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلًا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد.
 
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعال، فكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم، فهذا حقيقة قولهم. { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } <ref>[البقرة: 118]</ref>.
 
لكن لما كان الإسلام ظاهرًا والقرآن متلوا، لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام، أخذوا يلحدون في أسماء الله ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه، وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه، فمن لا يحب الشيء لا يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة، ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود، فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود بالوسيلة.
 
وكذلك العبادة والطاعة، إذا قيل في المطاع المعبود: إن هذا يحب طاعته وعبادته، فإن محبته ذلك تبع لمحبته، وإلا فمن لا يحب لا يحب طاعته وعبادته، ومن كان لا يعمل لغيره إلا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضًا له أو مفتديًا منه لا يكون محبًا له. ولا يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته، فإن محبة المقصود وإن استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة، فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين: محبة العوض والسلامة عن محبة العمل. أما محبة الله فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض، ألا ترى أن من استأجر أجيرًا بعوض لا يقال: إن الأجير يحبه بمجرد ذلك. بل قد يستأجر الرجل من لا يحبه بحال بل من يبغضه، وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال: إنه يحبه بل يكون مبغضًا له. فعلم أن ما وصف الله به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع ألا يكون معناه إلا مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الأغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصلا.
 
وأيضا، فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات:
 
أحدها: العلاقة: وهو تعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة: وهو انصباب القلب إليه، ثم الغرام: وهو الحب اللازم، ثم العشق وآخر المراتب هو التتيم: وهو التعبد للمحبوب، والمتيم المعبود، وتيم الله عبد الله فإن المحب يبقى ذاكرًا معبدًا مذللًا لمحبوبه.
 
وأيضا، فاسم الإنابة إليه يقتضى المحبة أيضا، وما أشبه ذلك من الأسماء، كما تقدم.
 
وأيضا، فلو كان هذا الذي قالوه حقًا من كون ذلك مجازًا لما فيه من الحذف والإضمار، فالمجاز لا يطلق إلا بقرينة تبين المراد. ومعلوم أن ليس في كتاب الله وسنة رسوله ما ينفي أن يكون الله محبوبًا، وألا يكون المحبوب إلا الأعمال لا في الدلالة المتصلة ولا المنفصلة بل ولا في العقل أيضا. وأيضا: فمن علامات المجاز صحة إطلاق نفيه، فيجب أن يصح إطلاق القول بأن الله لا يُحِبّ ولا يُحَبّ، كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين، فعلم دلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازًا، بل هي حقيقة.
 
وأيضا، فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالى: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } <ref>[التوبة: 24]</ref>، كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فلو كان المراد بمحبته ليس إلا محبة العمل لكان هذا تكريرًا، أو من باب عطف الخاص على العام، وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام الذي لا يجوز المصير إليه إلا بدلالة تبين المراد. وكما أن محبته لا يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله، فكذلك لا يجوز تفسيرها بمجرد محبة العمل له، وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له.
 
وأيضا، فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازًا، فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضا. وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه لا يجوز أن يكون غير الله محبوبًا مرادًا لذاته كما لا يجوز أن يكون غير الله موجودًا بذاته، بل لا رب إلا الله، ولا إله إلا هو المعبود، الذي يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته، كمال المحبة والتعظيم.
 
وكل مولود يولد على الفطرة فإنه سبحانه فطر القلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه وتنتهى إليه إلا الله وحده، وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه أن قلبه يطلب شيئًا سواه، ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الأجناس؛ ولهذا قال الله تعالى في كتابه: { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } <ref>[الرعد: 28]</ref>، وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي {{صل}} عن الله تعالى قال: «إني خلقت عبادي حنفاءَ فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا»، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»، ثم يقول [[أبو هريرة]]: اقرؤوا إن شئتم: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } <ref>[الروم: 30]</ref>.
 
وأيضا، فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالله هو المستحق له على الكمال، وكل ما في غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى فهو المستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال. وإنكار محبة العبد لربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلهًا معبودًا، كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه ربًا خالقًا فصار إنكارها مستلزمًا لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين. وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود.
 
ولهذا اتفقت الأمتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى صلوات الله عليهما وسلامه أن أعظم الوصايا أن تحب الله بكل قلبك وعقلك وقصدك، وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة والإنجيل والقرآن، وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل، ومن وافقهم على ذلك من متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلاء، وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من الإسماعيلية؛ ولهذا قال الخليل إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } <ref>[الشعراء: 7577]</ref>، وقال أيضا: { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } <ref>[الأنعام: 76]</ref>، وقال تعالى: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } <ref>[الشعراء: 88، 89]</ref> وهو السليم من الشرك.
 
وأما قولهم: إنه لا مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه. فهذا الكلام مجمل، فإن أرادوا بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق، وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول أو نحو ذلك فهذا أيضا حق، وإن أرادوا أنه لا مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبًا عابدًا والآخر معبودًا محبوبًا فهذا هو رأس المسألة، فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب، ويكفي في ذلك المنع.
 
ثم يقال: بل لا مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إلا المناسبة التي بين المخلوق والخالق، الذي لا إله غيره، الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، وله المثل الأعلى في السموات والأرض. وحقيقة قول هؤلاء جحد كون الله معبودًا في الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون الله محبًا في الحقيقة، فأقروا بكونه محبوبًا ومنعوا كونه محبًا؛ لأنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة، فأخذوا عن الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه، وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكارًا. ومنكروها قسمان:
 
قسم يتأولونها بنفس المفعولات التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه.
 
وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولات. وقد بسطنا الكلام في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها.
 
ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على أن الله يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب ومستحب، وإن لم يكن ذلك موجودًا، وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من الأعيان والأفعال كالفسق والكفر، وقد قال الله تعالى: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } <ref>[البقرة: 205]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } <ref>[الزمر: 7]</ref>.
 
والمقصود هنا إنما هو ذكر محبة العباد لإلههم.
 
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال الإيمان، ولم يتبين بين أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع في ذلك، وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع الله أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية، كالعرفان الإيماني والسماع الفرقاني، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ }إلى آخر السورة <ref>[الشورى: 52، 53]</ref>.
 
ثم إنه لما طال الأمد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة.
 
وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير، وسماع المكاء والتصدية، فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والإخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن، ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والإمكان والخلان، وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان، ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي، بل إلى أنواع من الفسوق، بل خرج فيه طوائف إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد، مما هو من أعظم أنواع الفساد، وينتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه، كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها.
 
والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد رحمه الله: من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به، ومعنى ذلك أنه لا يشرع الاجتماع لهذا السماع المحدث، ولا يؤمر به، ولا يتخذ ذلك دينًا، وقربة، فإن القرب والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله. قال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } <ref>[الشورى: 21]</ref> ؛ ولهذا قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، فجعل محبتهم لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الله لهم، قال [[أبي بن كعب]] رضي الله عنه: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتت عنه خطاياه، كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
 
فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب، لكان ذلك مما دلت الأدلة الشرعية عليه. ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي {{صل}}: «خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في العراق، ولا في مصر، ولا في خُرَاسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلاح القلوب؛ ولهذا كرهه الأئمة كالإمام أحمد وغيره، حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال: خلفت ببغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن.
 
وأما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع، فلا يترتب عليه لا نهي ولا ذم باتفاق الأئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا على السماع، فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة لا يثاب على ذلك؛إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملاهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك، فلو سمع السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه، وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها الله ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله، كالذي اجتاز بيتًا فسمع قائلًا يقول:
 
كل يوم تتلون ** غير هذا بك أجمل
 
فأخذ منه إشارة تناسب حاله، فإن الإشارات من باب القياس والاعتبار وضرب الأمثال.
 
ومسألة السماع كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع الإيماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين. قال الله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ }إلى قوله: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } <ref>[مريم: 58]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى قوله: { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } <ref>[الإسراء: 107 109]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ } <ref>[المائدة: 83]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } <ref>[الأنفال: 2]</ref>، وقال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } الآية <ref>[الزمر: 23]</ref>.
 
وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قوله: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } إلى قوله: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } <ref>[لقمان: 6، 7]</ref>، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } <ref>[الفرقان: 73]</ref>، وقال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } <ref>[المدثر: 49 51]</ref>.
 
وقال تعالى: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } الآية <ref>[الأنفال: 22، 23]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } <ref>[فصلت: 26]</ref>، وقال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } <ref>[المدثر: 49 51]</ref> ومثل هذا كثير في القرآن.
 
وهذا كان سماع سلف الأمة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وأمثال هؤلاء.
 
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون. وكان أصحاب محمد {{صل}} إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون، وقد ثبت في الصحيح: أن النبي {{صل}} مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته وقال: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود»، وقال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك»، فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، أي: لحسنته لك تحسينًا، وقال {{صل}}: «زينوا القرآن بأصواتكم»، وقال: «لله أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» أذنا أي: استماعًا كقوله: { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } <ref>[الانشقاق: 2]</ref> أي: استمعت، وقال {{صل}}: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به»، وقال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».
 
ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة ما لا يتسع له خطاب، ولا يحويه كتاب، كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان ما لا يحيط به بيان.
 
ومما ينبغي التفطن له أن الله سبحانه قال في كتابه: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، قال طائفة من السلف: ادعي قوم على عهد النبي {{صل}} أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } الآية، فبين سبحانه أن محبته توجب اتباع الرسول، وأن اتباع الرسول يوجب محبة الله للعبد، وهذه محبة امتحن الله بها أهل دعوى محبة الله، فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والاشتباه؛ ولهذا يروي عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده فقال: اسكتوا عن هذه المسألة لئلا تسمعها النفوس فتدعيها.
 
وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، وذلك؛ لأن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها، إذا لم يزعها وازع الخشية لله حتى قالت اليهود والنصارى: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } <ref>[المائدة: 18]</ref>، ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله: { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } <ref>[ق: 3234]</ref>.
 
وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة، وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد، والأعمال أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية، حتى صار المنحرفون صنفين:
 
صنف يقر بحقها وباطلها.
 
وصنف ينكر حقها وباطلها، كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه.
 
والصواب إنما هو الإقرار بما فيها، وفي غيرها من موافقة الكتاب، والسنة، والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة.
 
وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }، فاتباع سنة رسوله {{صل}} وشريعته باطنًا وظاهرًا هي موجب محبة الله، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه هو حقيقتها، كما في الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله»، وفي الحديث: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان».
 
وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة لله ليس فيه غيره، ولا غضب لله، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور، يقول الله تعالى يوم القيامة: «أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»، فقوله: أين المتحابون بجلال الله تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه مع التحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم، وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث: «حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في»، والأحاديث في المتحابين في الله كثيرة.
 
وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا وتفرقا عليه. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين».
 
وأصل المحبة: هو معرفة الله سبحانه وتعالى ولها أصلان:
 
أحدهما: وهو الذي يقال له: محبة العامة؛ لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، والله سبحانه هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة، فإنه المتفضل بجميع النعم، وإن جرت بواسطة، إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب الأسباب، ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الله نفسه، فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسه، وكذلك كل من أحب شيئًا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه. وهذا ليس بمذموم بل محمود.
 
وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله {{صل}}: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهلي بحبي»، والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الله ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه، وهذا كما قالوا: إن الحمد لله على نوعين:
 
حمد هو شكر، وذلك لا يكون إلا على نعمته.
 
وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه سبحانه فكذلك الحب، فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحب لأجله، وما من وجه من الوجوه التي يعرف الله بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال، ويستحق أن يحمد على السراء، والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حب الخاصة.
 
وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون، وهم السابقون كما في [[صحيح مسلم]] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي {{صل}} بجبل يقال له: جمدان، فقال: «سيروا هذا جمدان، سبق المفردون»، قالوا: يا رسول الله، من المفردون؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»، وفي رواية أخرى قال: «المستهترون بذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون الله يوم القيامة خفافًا» والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه.
 
وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن [[ابن عباس]] رضي الله عنهما قال: قال موسى: يا رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، قال أي عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه. فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير.
 
ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجوز أن يظن في باب محبة الله تعالى ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس التجني، والهجر، والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك، مما قد يغلط فيه طوائف من الناس، حتى يتمثلون في حبه بجنس ما يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب، أو يبعد من يتقرب إليه، وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على الله، بل لله الحجة البالغة.
 
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال: «يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة». وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: «أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، وإن تابوا فأنا حبيبهم لأن الله يحب التوابين وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب».
 
وقد قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } <ref>[طه: 112]</ref>، قالوا: الظلم: أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسنات نفسه. وقال تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } <ref>[النحل: 118]</ref>، وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي {{صل}} قال: «يقول الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه».
 
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله {{صل}}: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا الله أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات في يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة».
 
فالعبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار.
 
ولهذا كان سيد ولد آدم، وإمام المتقين محمد {{صل}} يستغفر في جميع الأحوال. وقال {{صل}} في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: «أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، وفي [[صحيح مسلم]] أنه قال: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»، وقال عبد الله بن عمر: كنا نعد لرسول الله {{صل}} في المجلس الواحد يقول: «رب اغفر لي وتب على، إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة».
 
ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال. قال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } <ref>[آل عمران: 17]</ref>، وقال بعضهم: أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر، أمروا بالاستغفار، وفي الصحيح أن النبي {{صل}} كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام»، وقال تعالى: { فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } إلى قوله: { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[البقرة: 198، 199]</ref>، وقد أمر الله نبيه بعد أن بلغ الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده، وأتى بما أمر الله به مما لم يصل إليه أحد غيره، فقال تعالى: { جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } <ref>[سورة النصر]</ref>.
 
ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار، كما قال الله تعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } الآية <ref>[هود: 13]</ref>، وقال تعالى: { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } <ref>[فصلت: 6]</ref>، وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[محمد: 19]</ref>.
 
ولهذا جاء في الحديث: «يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار» وقد قال يونس: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>، وكان النبي {{صل}} إذا ركب دابته يحمد الله ثم يكبر ثلاثا ويقول: «لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي»، وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك». والله أعلم، وصلى الله على محمد وسلم.
 
وقال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى:
 
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ور سوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
 
===فصل في مرض القلوب وشفائها===
في مَرَضِ القلُوبِ وَشِفَائِهَا
 
قال الله تعالى عن المنافقين: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } <ref>[البقرة: 10]</ref>، وقال تعالى: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } <ref>[الحج: 53]</ref>، وقال: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } <ref>[الأحزاب: 60]</ref>، وقال: { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } <ref>[المدثر: 31]</ref>، وقال تعالى: { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } <ref>[يونس: 57]</ref>، وقال: { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }، <ref>[الإسراء: 82]</ref>، وقال: { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } <ref>[التوبة: 14، 15]</ref>.
 
ومرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإدراكه إما أن يذهب كالعمى والصمم، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًا، وكما يخيل إليه أشياء لا حقيقة لها في الخارج.
 
وأما فساد حركته الطبيعية، فمثل أن تضعف قوته عن الهضم، أو مثل أن يبغض الأغذية التي يحتاج إليها، ويحب الأشياء التي تضره، ويحصل له من الآلام بحسب ذلك، ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك، بل فيه نوع قوة على إدراك الحركة الإرادية في الجملة، فيتولد من ذلك ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية، أو الكيفية.
 
فالأول: إما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء، وإما بسبب زيادتها، فيحتاج إلى استفراغ.
 
والثاني: كقوة في الحرارة والبرودة خارج عن الاعتدال، فيداوى.
 
===فصل مرض القلب نوع فساد===
وكذلك مرض القلب، هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره، وإرادته، فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته بحيث يبغض الحق النافع، ويحب الباطل الضار، فلهذا يفسر المرض تارة بالشك والريب. كما فسر مجاهد وقتادة قوله: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } <ref>[البقرة: 10]</ref> أي: شك، وتارة يفسر بشهوة الزنا كما فسر به قوله: { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } <ref>[الأحزاب: 32]</ref>.
 
ولهذا صنف الخرائطي كتاب اعتلال القلوب أي مرضها، وأراد به مرضها بالشهوة، والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك، من الأمور التي لا يقوى عليها لضعفه بالمرض.
 
والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه القوي، والصحة تحفظ بالمثل، وتزال بالضد، والمرض يقوى بمثل سببه، ويزول بضده، فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه، وزاد ضعف قوته، حتى ربما يهلك، وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض، كان بالعكس.
 
ومرض القلب ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب. قال الله تعالى: { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } <ref>[التوبة: 14، 15]</ref>، فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم، ويقال: فلان شفى غيظه، وفي القود استشفاء أولياء المقتول، ونحو ذلك. فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن، وكل هذه آلام تحصل في النفس.
 
وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب، قال النبي {{صل}}: «هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال». والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه، حتى يحصل له العلم واليقين، ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق: قد شفاني بالجواب.
 
والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فله موت ومرض، وحياة وشفاء، وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه. قال تعالى: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } <ref>[الحج: 53]</ref> ؛ لأن ذلك أورث شبهة عندهم، والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم ضعيفة بالمرض، فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم، وهؤلاء كانت قلوبهم قاسية عن الإيمان، فصار فتنة لهم.
 
وقال: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } <ref>[الأحزاب: 60]</ref>، كما قال: { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } <ref>[المدثر: 31]</ref>، لم تمت قلوبهم كموت الكفار والمنافقين، وليست صحيحة صالحة كصالح قلوب المؤمنين، بل فيها مرض شبهة وشهوات، وكذلك { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } <ref>[الأحزاب: 32]</ref>، وهو مرض الشهوة، فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض.
 
والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات، والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم، والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره، فيبقى القلب محبًا للرشاد مبغضًا للغي، بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد.
 
فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويغتذى القلب من الإيمان، والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذى البدن بما ينميه ويقومه، فإن زكاة القلب مثل نماء البدن.
 
والزكاة في اللغة: النماء والزيادة في الصلاح، يقال: زكا الشيء: إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولابد مع ذلك من منع ما يضره، فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا.
 
والصدقة لما كانت تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، صار القلب يزكو بها، وزكاته معنى زائد على طهارته من الذنب. قال الله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } <ref>[التوبة: 103]</ref>.
 
وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب.
 
وكذلك ترك المعاصي، فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، ومثل الدغلّ <ref>[الدَّغلُ: دَخَلٌ في الأمر مُفْسِدٌ، ]</ref> والشجر الكثير الملتف في الزرع، فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن، وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب كان استفراغا من تخليطاته، حيث خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه.
 
فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل.
 
قال تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } <ref>[النور: 21]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } <ref>[النور: 28]</ref>، وقال: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } <ref>[النور: 30]</ref>، وقال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } <ref>[الأعلى: 14، 15]</ref>، وقال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } <ref>[الشمس: 9، 10]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } <ref>[عبس: 3]</ref>، وقال تعالى: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } <ref>[النازعات: 18، 19]</ref>، فالتزكية وإن كان أصلها النماء، والبركة وزيادة الخير، فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا.
 
وقال: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } <ref>[فصلت: 6، 7]</ref>، وهي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وإثبات إلهية الحق في القلب، وهو حقيقة لا إله إلا الله. وهذا أصل ما تزكو به القلوب.
 
والتزكية: جعل الشيء زكيًا، إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر، كما يقال: عدلته إذا جعلته عدلا في نفسه، أو في اعتقاد الناس، قال تعالى: { فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } <ref>[النجم: 32]</ref>، أي: تخبروا بزكاتها، وهذا غير قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } <ref>[الشمس: 9]</ref> ؛ ولهذا قال: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } <ref>[النجم: 32]</ref>، وكان اسم زينب برة، فقيل تزكى نفسها، فسماها رسول الله {{صل}} زينب.
 
وأما قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } <ref>[النساء: 49]</ref>، أي: يجعله زاكيًا، ويخبر بزكاته كما يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم.
 
والعدل هو: الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده؛ ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالمًا لنفسه، والظلم خلاف العدل، فلم يعدل على نفسه، بل ظلمها، فصلاح القلب في العدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر. قال تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } <ref>[البقرة: 286]</ref>.
 
والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلاح قبل أثره في الخارج، فصلاحها عدل لها وفسادها ظلم لها. قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } <ref>[فصلت: 46]</ref>، وقال تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } <ref>[الإسراء: 7]</ref>، قال بعض السلف: إن للحسنة لنورًا في القلب، وقوة في البدن، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق.
 
وقال تعالى: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } <ref>[الطور: 21]</ref>، وقال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } <ref>[المدثر: 38]</ref>، وقال: { وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا } <ref>[الأنعام: 70]</ref>، وتبسل أي: ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه، والمرض إنما هو بإخراج المزاج، مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه، لكن الأمثل، فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والانحراف، والعدل المحض في كل شيء متعذر علمًا وعملًا، ولكن الأمثل فالأمثل؛ ولهذا يقال: هذا أمثل، ويقال للطريقة السلفية: الطريقة المثلى، وقال تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } <ref>[ النساء: 129]</ref>، وقال تعالى: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } <ref>[الأنعام: 152]</ref>.
 
والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس.
 
والظلم ثلاثة أنواع، والظلم كله من أمراض القلوب، والعدل صحتها وصلاحها. قال أحمد بن حنبل لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحدًا، أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك، كمرض الشرك والذنوب.
 
وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته، قال تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } <ref>[الأنعام: 122]</ref>.
 
لذلك ذكر الله حياة القلوب، ونورها، وموتها، وظلمتها في غير موضع كقوله: { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } <ref>[يس: 70]</ref>، وقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }، ثم قال: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } <ref>[الأنفال: 24]</ref>، وقال تعالى: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ } <ref>[الروم: 19]</ref>، ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وفي الحديث الصحيح: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت»، وفي الصحيح أيضا: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا».
 
وقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } <ref>[الأنعام: 39]</ref>، وذكر سبحانه آية النور وآية الظلمة، فقال: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ } <ref>[النور: 35]</ref>، فهذا مثل نور الإيمان في قلوب المؤمنين، ثم قال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } <ref>[النور: 39، 40]</ref>.
 
فالأول: مثل الاعتقادات الفاسدة، والأعمال التابعة لها، يحسبها صاحبها شيئًا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيئًا ينفعه، فوفاه الله حسابه على تلك الأعمال.
 
والثاني: مثل للجهل البسيط، وعدم الإيمان والعلم، فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض لا يبصر شيئًا، فإن البصر إنما هو بنور الإيمان والعلم.
 
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } <ref>[الأعراف: 201]</ref>، وقال تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } <ref>[يوسف: 24]</ref>، وهو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه، فصرف الله به ما كان هم به، وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب عليه خطيئة إذا فعل خيرًا، ولم يفعل سيئة. وقال تعالى: { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } <ref>[إبراهيم: 1]</ref>، وقال: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } <ref>[البقرة: 257]</ref>، وقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } <ref>[الحديد: 28]</ref>.
 
ولهذا ضرب الله للإيمان مثلين، مثلًا بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد، ومثلًا بالنار التي بها النور وما يقترن بما يوقد عليه من الزبد.
 
وكذلك ضرب الله للنفاق مثلين قال تعالى: { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } <ref>[الرعد: 17]</ref>، وقال تعالى في المنافقين: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ. يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } <ref>[البقرة: 1720]</ref>.
 
فضرب لهم مثلًا كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأها الله، والمثل المائي كالمثل النازل من السماء، وفيه ظلمات ورعد وبرق يرى. ولبسط الكلام في هذه الأمثال موضع آخر.
 
وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها، وفي الدعاء المأثور: «اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا»، والربيع: هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات، قال النبي {{صل}}: «إن مما ينبت الربيع ما يَقْتل حَبَطًا أو يُلِمُّ». والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع، لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه، وغيرهم يسمى الربيع الفصل الذي يلي الشتاء، فإن فيه تخرج الأزهار التي تخلق منها الثمار، وتنبت الأوراق على الأشجار.
 
والقلب الحي المنور؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل، والقلب الميت فإنه لا يسمع ولا يبصر. قال تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } <ref>[البقرة: 171]</ref>، وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } <ref>[يونس: 42، 43]</ref>، وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } الآيات <ref>[الأنعام: 25]</ref>.
 
فأخبر أنهم لا يفقهون بقلوبهم ولا يسمعون بآذانهم ولا يؤمنون بما رأوه من النار، كما أخبر عنهم حيث قالوا: { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } <ref>[فصلت: 5]</ref>. فذكروا الموانع على القلوب والسمع والأبصار، وأبدانهم حية تسمع الأصوات وترى الأشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم، لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح، ولهذا قال تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً }.
 
فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي لا تسمع إلا نداء، كما قال في الآية الأخرى: { أّمً تّحًسّبٍ أّنَّ أّكًثّرّهٍمً يّسًمّعٍونّ أّوً يّعًقٌلٍونّ إنً هٍمً إلاَّ كّالأّنًعّامٌ بّلً هٍمً أّضّلٍَ سّبٌيلاْ } <ref>[الفرقان: 44]</ref>، وقال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } <ref>[الأعراف: 179]</ref>.
 
فطائفة من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها كقوله: { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } <ref>[يونس: 12]</ref>، وأمثالها مما ذكر الله في عيوب الإنسان وذمها، فيقول هؤلاء: هذه الآية في الكفار، والمراد بالإنسان هنا الكافر، فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيب، بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرًا للشرك من العرب، أو إلى من يعرفهم من مظهري الكفر، كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند، ونحو ذلك، فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها الله ليهتدي بها عباده.
 
فيقال: أولًا: المظهرون للإسلام فيهم مؤمن ومنافق، والمنافقون كثيرون في كل زمان، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
 
ويقال: ثانيًا: الإنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر، وإن كان معه إيمان، كما قال النبي {{صل}} في الحديث المتفق عليه: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». فأخبر أنه من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق.
 
وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه: «إنك امرؤ فيك جاهلية». وأبو ذر رضي الله عنه من أصدق الناس إيمانًا، وقال في الحديث الصحيح: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم»، وقال في الحديث الصحيح: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: اليهود والنصارى؟ ! قال: «فمن؟». وقال أيضا في الحديث الصحيح: "لتأخذن أمتي ما أخذت الأمم قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع" قالوا: فارس والروم؟ قال: «ومن الناس إلا هؤلاء».
 
وقال ابن أبي مُلَيْكَة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد {{صل}} كلهم يخاف النفاق على نفسه، وعن علي أو حذيفة رضي الله عنهما قال: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذاك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذاك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان: مادة تمده الإيمان، ومادة تمده النفاق، فأولئك قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا.
 
وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر، وهذا كما يقول بعضهم في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }. فيقولون: المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم، فأي فائدة في طلب الهدى؟ ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم: نم حتى آتيك، أو يقول بعضهم: ألزم قلوبنا الهدى، فحذف الملزوم، ويقول بعضهم: زدني هدى، وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه، فإن المراد به العمل بما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور.
 
والإنسان وإن كان أقر بأن محمدا رسول الله، وأن القرآن حق على سبيل الإجمال، فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره، وما أمر به، وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفه، وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه، ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة، فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكلية، لا يمكن غير ذلك لا تذكر ما يخص به كل عبد؛ ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم.
 
والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله، يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلًا، ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات، ويتناول إلهام العمل بعلمه، فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه، ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } <ref>[الفتح: 1، 2]</ref>، وقال في حق موسى وهارون: { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ. وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } <ref>[الصافات: 117، 118]</ref>.
 
والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدا حق، والقرآن حق، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا، ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه، فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال؛ لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهو عنه، والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة، مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائمًا في أن يهديهم الصراط المستقيم.
 
فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين. قال سهل بن عبد الله التستري: ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار، وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول: ثبتنا واهدنا لزوم الصراط.
 
وقول من قال: زدنا هدى، يتناول ما تقدم، لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم، فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد، ولا يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم، وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب، وإن حصل فقد لا يحصل العمل، فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة، فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه، وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة، والله أعلم.
 
واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الإرادية، أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة من النظار في علم الله وقدرته، كأبي الحسين البصري، قالوا: إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر، بل الحياة صفة قائمة بالموصوف، وهي شرط في العلم والإرادة والقدرة على الأفعال الاختيارية، وهي أيضا مستلزمة لذلك، فكل حي له شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة، وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي.
 
والحياء مشتق من الحياة، فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح، فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي {{صل}}: «الحياء من الإيمان»، وقال: «الحياء والعي شعبتان من الإيمان. والبذاء والبيان شعبتان من النفاق».
 
فإن الحي يدفع ما يؤذيه، بخلاف الميت الذي لا حياة فيه فإنه يسمى وقحًا، والوقاحة الصلابة وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة، فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه، وامتناعه من القبح كالأرض اليابسة لا يؤثر فيها وطء الأقدام، بخلاف الأرض الخضرة.
 
ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح، وله إرادة تمنعه عن فعل القبح، بخلاف الوقح الذي ليس بحي فلا حياء معه ولا إيمان يزجره عن ذلك. فالقلب إذا كان حيًا فمات الإنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن، ليست هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها.
 
ولهذا قال تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } <ref>[البقرة: 154]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } <ref>[آل عمران: 169]</ref> مع أنهم موتى دخلون في قوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } <ref>[آل عمران: 185]</ref>، وفي قوله: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } <ref>[الزمر: 30]</ref>، وقوله: { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } <ref>[الحج: 66]</ref>، فالموت المثبت غير الموت المنفي. المثبت: هو فراق الروح البدن، والمنفي: زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن.
 
وهذا كما أن النوم أخو الموت، فيسمى وفاة ويسمى موتًا، وإن كانت الحياة موجودة فيهما. قال الله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } <ref>[الزمر: 42]</ref>. وكان النبي {{صل}} إذا استيقظ من منامه يقول: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، وفي حديث آخر: «الحمد لله الذي رد على روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا»، وإذا أوى إلى فراشه يقول: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها، إن أمسكتها فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»، ويقول: «باسمك اللهم أموت وأحيا».
 
===فصل الحسد من أمراض القلوب===
ومن أمراض القلوب الحسد، كما قال بعضهم في حده: إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأغنياء، فلا يجوز أن يكون الفاضل حسودًا؛ لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل، وقد قال طائفة من الناس: إنه تمنى زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، بخلاف الغبطة: فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط.
 
والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان:
 
أحدهما: كراهة للنعمة عليه مطلقًا، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضًا في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه، ولكن ذلك الألم لم يزل إلا بمباشرة منه، وهو راحة، وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه والمرض باق؛ فإن بغضه لنعمة الله على عبده مرض. فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها، وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود.
 
والحاسد ليس له غرض في شيء معين، لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع؛ ولهذا قال من قال: إنه تمنى زوال النعمة، فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه.
 
والنوع الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه، فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة، وقد سماه النبي {{صل}} حسدًا في الحديث المتفق عليه من حديث [[ابن مسعود]] و[[ابن عمر]] رضي الله عنهما أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق» هذا لفظ ابن مسعود، ولفظ ابن عمر: «رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار» رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه: «لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه الليل والنهار، فسمعه رجل فقال: ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا، فعملت فيه مثل ما يعمل هذا، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق. فقال رجل: ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا». فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي {{صل}} إلا في موضعين هو الذي سماه أولئك الغبطة، وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه.
 
فإن قيل: إذًا لم سمي حسدًا وإنما أحب أن ينعم الله عليه؟ قيل: مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته أن يتفضل عليه، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا؛ لأنه كراهة تتبعها محبة، وأما من أحب أن ينعم الله عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس، فهذا ليس عنده من الحسد شيء.
 
ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني، وقد تسمى المنافسة، فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب، كلاهما يطلب أن يأخذه، وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر، كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر، والتنافس ليس مذمومًا مطلقًا، بل هو محمود في الخير، قال تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } <ref>[المطففين: 22 26]</ref>.
 
فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم، لا ينافس في نعيم الدنيا الزائل، وهذا موافق لحديث النبي {{صل}} فإنه نهى عن الحسد إلا فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه، ومن أوتي المال فهو ينفقه، فأما من أوتي علمًا ولم يعمل به ولم يعلمه، أو أوتي مالا ولم ينفقه في طاعة الله فهذا لا يحسد ولا يتمنى مثل حاله، فإنه ليس في خير يرغب فيه، بل هو معرض للعذاب، ومن ولي ولاية فيأتيها بعلم وعدل، أدى الأمانات إلى أهلها، وحكم بين الناس بالكتاب والسنة، فهذا درجته عظيمة، لكن هذا في جهاد عظيم، كذلك المجاهد في سبيل الله.
 
والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم؛ فلهذا لم يذكره، وإن كان المجاهد في سبيل الله أفضل من الذي ينفق المال، بخلاف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج، فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه، فذلك أفضل لدرجتهما، وكذلك لم يذكر النبي {{صل}} المصلي والصائم والحاج؛ لأن هذه الأعمال لا يحصل منها في العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص، ويسودونه ما يحصل بالتعليم والإنفاق.
 
والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة، وإلا فالعامل لا يحسد في العادة، ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره، بخلاف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرًا؛ ولهذا يوجد بين أهل العلم الذين لهم أتباع من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله، فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان، والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا.
 
ولهذا ضرب الله سبحانه مثلين: مثلًا بهذا، ومثلًا بهذا فقال: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[النحل: 75، 76]</ref>.
 
والمثلان ضربهما الله سبحانه لنفسه المقدسة، ولما يعبد من دونه، فإن الأوثان لا تقدر لا على عمل ينفع، ولا على كلام ينفع، فإذا قدر عبد مملوك لا يقدر على شيء، وآخر قد رزقه الله رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا هل يستوى هذا المملوك العاجز عن الإحسان وهذا القادر على الإحسان المحسن إلى الناس سرًا وجهرًا. وهو سبحانه قادر على الإحسان إلى عباده، وهو محسن إليهم دائما، فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي لا يقدر على شيء حتى يشرك به معه، وهذا مثل الذي أعطاه الله مالًا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار.
 
والمثل الثاني إذا قدر شخصان أحدهما أبكم لا يعقل ولا يتكلم ولا يقدر على شيء، وهو مع هذا كَلُّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، فليس فيه من نفع قط، بل هو كَلّ على من يتولى أمره، وآخر عالم عادل يأمر بالعدل، ويعمل بالعدل، فهو على صراط مستقيم، وهذا نظير الذي أعطاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها الناس.
 
وقد ضرب ذلك مثلًا لنفسه، فإنه سبحانه عالم عادل قادر يأمر بالعدل، وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم. كما قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } <ref>[آل عمران: 18]</ref>، وقال هود: { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[هود: 56]</ref>.
 
ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس، كان عبد الله يعلم الناس وأخوه يطعم الناس، فكانوا يعظمون على ذلك، ورأى معاوية الناس يسألون [[ابن عمر]] عن المناسك وهو يفتيهم فقال: هذا والله الشرف، أو نحو ذلك.
 
هذا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نافس أبا بكر رضي الله عنه الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله {{صل}} أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته يومًا. قال فجئت بنصف مالي، قال: فقال لي رسول الله {{صل}}: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله {{صل}}: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
 
فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه وهو أنه خال من المنافسة مطلقًا لا ينظر إلى حال غيره.
 
وكذلك موسى {{صل}} في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي {{صل}} حتى بكى لما تجاوزه النبي {{صل}} فقيل له: ما يبكيك: فقال: «أبكي، لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي»، أخرجاه في الصحيحين، وروى في بعض الألفاظ المروية غير الصحيح: «مررنا على رجل وهو يقول ويرفع صوته: أكرمته وفضلته، قال: فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلام، فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد، قال: مرحبًا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، قال: ثم اندفعنا فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا موسى بن عمران، قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك، قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إن الله عز وجل قد عرف صدقه».
 
وعمر رضي الله عنه كان مشبهًا بموسى، ونبينا حاله أفضل من حال موسى، فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك.
 
وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه، كانوا سالمين من جميع هذه الأمور، فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة، وإن كان ذلك مباحًا؛ ولهذا استحق أبو عبيدة رضي الله عنه أن يكون أمين هذه الأمة، فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه، كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان، ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى، ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه، وإذا أؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على الغنم، فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه.
 
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: كنا يومًا جلوسًا عند رسول الله {{صل}} فقال: «يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة»، قال: فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوء، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال النبي {{صل}} مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي {{صل}} مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما قام النبي {{صل}}: اتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: إني لاحيت أبى، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت. قال: نعم، قال أنس رضي الله عنه: فكان عبد الله يحدث أنه بات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم إلى صلاة الفجر، فقال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما فرغنا من الثلاث وكدت أن أحقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله {{صل}} يقول ثلاث مرات: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة»، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوى إليك لأنظر ما عملك، فأقتدى بذلك، فلم أرَك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله {{صل}}؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًا ولا حسدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق. فقول عبد الله ابن عمرو له: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق، يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد.
 
وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار فقال: { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } <ref>[الحشر: 9]</ref>، أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم، فهم لا يجدون حاجة مما أتوا من المال ولا من الجاه، والحسد يقع على هذا.
 
وكان بين الأوس والخزرج منافسة على الدين، فكان هؤلاء إذا فعلوا ما يفضلون به عند الله ورسوله أحب الآخرون أن يفعلوا نظير ذلك، فهو منافسة فيما يقربهم إلى الله كما قال: { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } <ref>[المطففين: 26]</ref>.
 
وأما الحسد المذموم كله، فقد قال تعالى في حق اليهود: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ } <ref>[البقرة: 109]</ref>، يودون: أي: يتمنون ارتدادكم حسدًا، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لأنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل، بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم، وكذلك في الآية الأخرى: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } <ref>[النساء: 54، 55]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } <ref>[ سورة الفلق ]</ref>.
 
وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي {{صل}} حتى سحروه: سحره لبَيِد بن الأعصم اليهودي، فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم الله عليه بها ظالم معتد، والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهى عن ذلك إلا فيما يقربه إلى الله، فإذا أحب أن يعطي مثل ما أعطى مما يقربه إلى الله فهذا لا بأس به، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل.
 
ثم هذا الحسد، إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالمًا معتديًا مستحقًا للعقوبة إلا أن يتوب، وكان المحسود مظلومًا مأمورًا بالصبر والتقوى، فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه، كما قال تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } <ref>[البقرة: 109]</ref>، وقد ابتلى يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا: { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } <ref>[يوسف: 8]</ref>، فحسدوهما على تفضيل الأب لهما؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف: { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } <ref>[يوسف: 5]</ref>.
 
ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقًا لمن ذهب به إلى بلاد الكفر فصار مملوكًا لقوم كفار، ثم إن يوسف ابتلى بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها، ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم، واختار السجن على الفاحشة، وآثر عذاب الدنيا على سخط الله، فكان مظلومًا من جهة من أحبه لهواه، وغرضه الفاسد.
 
فهذه المحبة أحبته لهوي محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها، وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير ملقى في الجب، ثم أسيرًا مملوكًا بغير اختياره، فأولئك أخرجوه من إطلاق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره، وهذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوسًا مسجونًا باختياره، فكانت هذه أعظم في محنته، وكان صبره هنا صبرًا اختياريًا اقترن به التقوى، بخلاف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر عليها صبر الكرام سلا سلو البهائم، والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.
 
وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، وإن لم يفعل أوذي وعوقب، فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه: إما الحبس، وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين، حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون.
 
وقد أوذي النبي {{صل}} بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبرًا اختياريًا، فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره، وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لأن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل بالحبس، والنبي {{صل}} وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه. وأهون ما عوقب به الحبس، فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة، ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه، فلما بايعت الأنصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إلا سرًا، إلا عمر بن الخطاب ونحوه، فكانوا قد ألجؤوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن ذلك وحبسوه.
 
فكان ما حصل للمؤمنين من الأذى والمصائب هو باختيارهم طاعة لله ورسوله، لم يكن من المصائب السماوية التي تجرى بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف، لا من جنس التفريق بينه وبين أبيه، وهذا أشرف النوعين، وأهلها أعظم درجة وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه فإن هذا أصيب وأوذي باختياره طاعة لله يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح، قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[التوبة: 120]</ref>.
 
بخلاف المصائب التي تجرى بلا اختيار العبد، كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله، فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها لا على نفس ما يحدث من المصيبة، لكن المصيبة يكفر بها خطاياه، فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية، وما يتولد عنها.
 
والذين يؤذون على الإيمان، وطاعة الله ورسوله، ويحدث لهم بسبب ذلك حرج، أو مرض، أو حبس، أو فراق وطن وذهاب مال وأهل، أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك علي طريقة الأنبياء وأتباعهم كالمهاجرين الأولين، فهؤلاء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح، كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار، وإن كانت هذه الآثار ليست عملًا فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله الاختياري، وهي التي يقال لها متولدة.
 
وقد اختلف الناس: هل يقال: إنها فعل لفاعل السبب، أو لله أو لا فاعل لها، والصحيح أنها مشتركة بين فاعل السبب، وسائر الأسباب؛ولهذا كتب له بها عمل صالح.
 
والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس؛ ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه، وقد قيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك! ولكن عمه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدًا ولسانًا.
 
فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر، فيكره ذلك من نفسه، وكثير من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود، فلا يعينون من ظلمه، ولكنهم أيضا لا يقومون بما يجب من حقه، بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده، وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا، وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك، لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضا في مواضع، ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب.
 
ومن اتقى الله وصبر فلم يدخل في الظالمين، نفعه الله بتقواه؛ كما جرى لزينب بنت جحش رضي الله عنها فإنها كانت هي التي تسامى [[عائشة]] من أزواج النبي {{صل}} وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب، لا سيما المتزوجات بزوج واحد، فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه، فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها.
 
وهكذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسة أو مال، إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك وفات الآخر، ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه، كحسد إخوة يوسف، وكحسد ابني آدم أحدهما لأخيه، فإنه حسده لكون أن الله تقبل قربانه، ولم يتقبل قربان هذا، فحسده على ما فضله الله من الإيمان والتقوى كحسد اليهود للمسلمين وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل: أول ذنب عصى الله به ثلاثة: الحرص، والكبر، والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل.
 
وفي الحديث: «ثلاث لا ينجو منهن أحد: الحسد، والظن، والطِّيرة، وسأحدثكم بما يخرج من ذلك: إذا حسدت فلا تبغض، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض» رواه [[ابن أبي الدنيا]] من حديث أبي هريرة.
 
وفي السنن عن النبي {{صل}}: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء وهي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» فسماه داء، كما سمى البخل داء في قوله: «وأي داء أدوأ من البخل؟» فعلم أن هذا مرض، وقد جاء في حديث آخر: «أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء، والأدواء» فعطف الأدواء على الأخلاق والأهواء.
 
فإن الخلق ما صار عادة للنفس، وسَجِيَّة، قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } <ref>[القلم: 4]</ref>، قال [[ابن عباس]]، وابن عيينة، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم على دين عظيم، وفي لفظ عن ابن عباس: على دين الإسلام، وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. وكذلك قال الحسن البصري: أدب القرآن هو الخلق العظيم.
 
وأما الهوى، فقد يكون عارضًا، والداء هو المرض، وهو تألم القلب والفساد فيه، وقرن في الحديث الأول الحسد بالبغضاء؛ لأن الحاسد يكره أولًا فضل الله على ذلك الغير، ثم ينتقل إلى بغضه، فإن بغض اللازم يقتضى بغض الملزوم، فإن نعمة الله إذا كانت لازمة وهو يحب زوالها، وهي لا تزول إلا بزواله أبغضه وأحب عدمه، والحسد يوجب البغي، كما أخبر الله تعالى عمن قبلنا: أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، فلم يكن اختلافهم لعدم العلم، بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض، كما يبغى الحاسد على المحسود.
 
وفي الصحيحين عن [[أنس بن مالك]] رضي الله عنه أن النبي {{صل}} قال: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصدّ هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، وقد قال {{صل}} في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضا: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
 
وقد قال تعالى: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 72، 73]</ref>.
 
فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم، بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم، وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها، بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ، فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم، أو شر دنيوي ينصرف عنهم، إذا كانوا لا يحبون الله ورسوله والدار الآخرة، ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم، وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة، ومن لم يسره ما يسر المؤمنين، ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس منهم.
 
ففي الصحيحين عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول: سمعت رسول الله {{صل}} يقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر»، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله {{صل}}: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه.
 
والشح مرض، والبخل مرض، والحسد شر من البخل، كما في الحديث الذي رواه [[أبو داود]] عن النبي {{صل}} أنه قال: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» وذلك أن البخيل يمنع نفسه، والحسود يكره نعمة الله على عباده، وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد لنظرائه، وقد يكون فيه بخل بلا حسد لغيره والشح أصل ذلك.
 
وقال تعالى: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[ الحشر: 9]</ref>، وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»، وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول: اللهم قني شح نفسي، فقال له رجل: ما أكثر ما تدعو بهذا. فقال: إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة. والحسد يوجب الظلم.
 
===فصل أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب===
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها، بل وحبها لما يضرها؛ ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب، وأما مرض الشهوة، والعشق فهو حب النفس لما يضرها، وقد يقترن به بغضها لما ينفعها، والعشق مرض نفساني، وإذا قوى أثر في البدن فصار مرضًا في الجسم، إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه: هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا، وأما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك.
 
والمقصود هنا مرض القلب؛ فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهى ما يضره. وإذا لم يطعم ذلك تألم، وإن أطعم ذلك قوى به المرض وزاد.
 
كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملامسة وسماعًا، بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك، فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب، وإن أعطى مشتهاه قوي مرضه، وكان سببًا لزيادة الألم.
 
وفي الحديث: «إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب»، وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهب التي رواها الإمام أحمد في كتاب الزهد يقول الله تعالى: «إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا ولم يطفئه الهوى». وإنما شفاء المريض بزوال مرضه، بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه.
 
والناس في العشق على قولين:
 
قيل: إنه من باب الإرادات، وهذا هو المشهور.
 
وقيل: من باب التصورات، وإنه فساد في التخييل، حيث يتصور المعشوق على ما هو به، قال هؤلاء: ولهذا لا يوصف الله بالعشق، ولا أنه يعشق؛ لأنه منزه عن ذلك، ولا يحمد من يتخيل فيه خيالًا فاسدًا.
 
وأما الأولون فمنهم من قال: يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة، والله يحب ويحب، وروى في أثر عن عبد الواحد بن زيد أنه قال: لا يزال عبدي يتقرب إليَ يعشقني وأعشقه. وهذا قول بعض الصوفية.
 
والجمهور لا يطلقون هذا اللفظ في حق الله؛ لأن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي، والله تعالى محبته لا نهاية لها، فليست تنتهي إلى حد لا تنبغي مجاوزته.
 
قال هؤلاء: والعشق مذموم مطلقًا لا يمدح لا في محبة الخالق، ولا المخلوق؛ لأنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود، وأيضا فإن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة الإنسان لامرأة أو صبي، لا يستعمل في محبة كمحبة الأهل والمال والوطن والجاه، ومحبة الأنبياء والصالحين، وهو مقرون كثيرًا بالفعل المحرم: إما بمحبة امرأة أجنبية أو صبي، يقترن به النظر المحرم، واللمس المحرم، وغير ذلك من الأفعال المحرمة.
 
وأما محبة الرجل لامرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لأجلها ما لا يحل، ويترك ما يجب، كما هو الواقع كثيرًا، حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة، لمحبته الجديدة، وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه ودنياه، مثل أن يخصها بميراث لا تستحقه، أو يعطي أهلها من الولاية والمال ما يتعدى به حدود الله، أو يسرف في الإنفاق عليها، أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه، وهذا في عشق من يباح له وطؤها.
 
فكيف عشق الأجنبية والذُّكران من العالمين؟ ففيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو من الأمراض التي تفسد دين صاحبها وعرضه، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه، قال تعالى: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } <ref>[الأحزاب: 32]</ref>.
 
ومن في قلبه مرض الشهوة، وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض، والطمع الذي يقوى الإرادة والطلب، ويقوي المرض بذلك، بخلاف ما إذا كان آيسًا من المطلوب، فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب، فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه، فلا يكون مع الإرادة عمل أصلًا، بل يكون حديث نفس إلا أن يقترن بذلك كلام أو نظر، ونحو ذلك فيأثم بذلك.
 
فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر، فإنه يثاب على تقواه لله، وقد روى في الحديث: «أن من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات كان شهيدًا» وهومعروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا، وفيه نظر ولا يحتج بهذا.
 
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولًا وعملًا، وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم، إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق، وصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق، كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة، فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.
 
وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس، وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه الله فينهاها خشية من الله كان ممن دخل في قوله: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } <ref>[النازعات: 40، 41]</ref>.
 
فالنفس إذا أحبت شيئًا سعت في حصوله بما يمكن، حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية، فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضًا مذمومًا وفعل ذلك كان آثمًا، مثل أن يبغض شخصًا لحسده له فيؤذي من له به تعلق، إما بمنع حقوقهم، أو بعدوان عليهم. أو لمحبة له لهواه معه فيفعل لأجله ما هو محرم، أو ما هو مأمور به لله فيفعله لأجل هواه لا لله، وهذه أمراض كثيرة في النفوس، والإنسان قد يبغض شيئًا فيبغض لأجله أمورًا كثيرة بمجرد الوهم والخيال.
 
وكذلك يحب شيئًا فيحب لأجله أمورًا كثيرة، لأجل الوهم والخيال، كما قال شاعرهم:
 
أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلاب
 
فقد أحب سوداء، فأحب جنس السواد، حتى في الكلاب، وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته.
 
فنسأل الله تعالى أن يعافى قلوبنا من كل داء، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء.
 
والقلب إنما خلق لأجل حب الله تعالى وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده كما قال النبي {{صل}}: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول [[أبو هريرة]] رضي الله عنه أقرؤوا إن شئتم: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } <ref>[الروم: 30]</ref>، أخرجه البخاري ومسلم.
 
فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده، فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفًا بالله محبًا له عابدًا له وحده، لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها، وإن كانت بقضاء الله وقدره كما يغير البدن بالجدع ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الله تعالى لها من يسعى في إعادتها إلى الفطرة.
 
والرسل صلى الله عليهم وسلم بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها لا لتغيير الفطرة وتحويلها، وإذا كان القلب محبًا لله وحده مخلصًا له الدين، لم يبتل بحب غيره أصلا، فضلًا أن يبتلى بالعشق، وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته لله وحده.
 
ولهذا لما كان يوسف محبًا لله مخلصًا له الدين لم يبتل بذلك، بل قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 24]</ref>. وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها؛ فلهذا ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق:
 
أحدهما: إنابته إلى الله؛ ومحبته له، فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء، فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوق تزاحمه.
 
والثاني: خوفه من الله، فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه، وكل من أحب شيئًا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه، إذا كان يزاحمه، وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحب، فإذا كان الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأخوف عنده من كل شيء، لم يحصل معه عشق ولا مزاحمة إلا عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف، بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما فعل العبد الطاعة محبة لله وخوفًا منه وترك المعصية حبًا له وخوفًا منه قوى حبه له وخوفه منه، فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره.
 
وهكذا أمراض الأبدان: فإن الصحة تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد، فصحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل، وهو ما يورث القلب إيمانًا من العلم النافع والعمل الصالح، فتلك أغذية له، كما في حديث [[ابن مسعود]] مرفوعًا وموقوفًا: «إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن». والآدب: المضيف فهو ضيافة الله لعباده...<ref>[بياض بالأصل]</ref>.
 
مثل آخر: الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده، وفي أدبار الصلوات، ويضم إلى ذلك الاستغفار، فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى.
 
وليتخذ وردًا من الأذكار في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه. ويكتب الإيمان في قلبه.
 
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنة وظاهرة فإنها عمود الدين، وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال.
 
ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي، وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، ولم ينل أحد شيئًا من ختم الخير نبي فمن دونه إلا بالصبر.
 
والحمد لله رب العالمين، وله الحمد والمنة على الإسلام والسنة، حمدًا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
 
===فصل في مرض القلوب وشفائها===
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أيضا:
 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.
 
في مرض القلوب وشفائها
 
قد ذكرنا في غير موضع: أن صلاح حال الإنسان في العدل، كما أن فساده في الظلم. وأن الله سبحانه عدله وسواه لما خلقه، وصحة جسمه وعافيته من اعتدال أخلاطه وأعضائه ومرض ذلك الانحراف والميل.
 
وكذلك استقامة القلب، واعتداله، واقتصاده، وصحته، وعافيته، وصلاحه متلازمة.
 
وقد ذكر الله مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله {{صل}}، كقوله تعالى عن المنافقين: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } <ref>[البقرة: 10]</ref>، وقال: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم } <ref>[المائدة: 52]</ref>، وقال تعالى: { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } <ref>[التوبة: 14، 15]</ref>، وقال: { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } <ref>[يونس: 57]</ref>، وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } <ref>[الإسراء: 82]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } <ref>[فصلت: 44]</ref>، وقال تعالى: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } <ref>[الأحزاب: 32]</ref>، وقال: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } <ref>[الأحزاب: 60]</ref>، وقال: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } <ref>[الأحزاب: 12]</ref>.
 
وقال النبي {{صل}}: «هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال»، وقال الرشيد: الآن شفيتني يا مالك، وفي [[صحيح البخاري]] عن [[ابن مسعود]]: أن أحدًا لا يزال بخير ما اتقى الله، وإذا شك في تفسير شيء سأل رجلًا فشفاه، وأوشك ألا يجده والذي لا إله إلا هو.
 
وما ذكر الله من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها وبكمها وعماها.
 
لكن المقصود معرفة مرض القلب فنقول: المرض نوعان:
 
فساد الحس.
 
وفساد الحركة الطبيعية وما يتصل بها من الإرادية.
 
وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب، فكما أنه مع صحة الحس والحركة الإرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة، فكذلك بفسادها يحصل الألم والعذاب؛ ولهذا كانت النعمة من النعيم، وهو ما ينعم الله به على عباده، مما يكون فيه لذة ونعيم، وقال: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } <ref>[التكاثر: 8]</ref>، أي: عن شكره.
 
فسبب اللذة إحساس الملائم، وسبب الألم إحساس المنافي، ليس اللذة والألم نفس الإحساس والإدراك، وإنما هو نتيجته وثمرته ومقصوده وغايته، فالمرض فيه ألم لابد منه وإن كان قد يسكن أحيانًا لمعارض راجح، فالمقتضى له قائم يهيج بأدنى سبب، فلابد في المرض من وجود سبب الألم، وإنما يزول الألم بوجود المعارض الراجح.
 
ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه، أعني ألمه ولذته النفسانيتان، وإن كان قد يحصل فيه من الألم من جنس ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم، فذلك شيء آخر.
 
فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه، أعظم من مرض الجسم وشفائه، فتارة يكون من جملة الشبهات. كما قال: { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ }، وكما صنف الخرائطي كتاب اعتلال القلوب بالأهواء ففي قلوب المنافقين: المرض من هذا الوجه، ومن هذا الوجه: من جهة فساد الاعتقادات، وفساد الإرادات.
 
والمظلوم في قلبه مرض وهو الألم الحاصل بسبب ظلم الغير له، فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه. كما قال تعالى: { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } <ref>[التوبة: 14، 15]</ref>، فإن غيظ القلب إنما هو لدفع الأذي والألم عنه، فإذا اندفع عنه الأذى واستوفى حقه زال غيظه.
 
فكما أن للإنسان إذا صار لا يسمع بأذنه ولايبصر بعينه ولا ينطق بلسانه كان ذلك مرضًا مؤلمًا له يفوته من المصالح ويحصل له من المضار، فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل، ولم يميز بين الخير والشر، والغي والرشاد، كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه، وكما أنه إذا اشتهى ما يضره مثل الطعام الكثير في الشهوة الكلية، ومثل أكل الطين ونحوه كان ذلك مرضًا، فإنه يتألم حتى يزول ألمه بهذا الأكل الذي يوجد ألمًا أكثر من الأول، فهو يتألم إن أكل، ويتألم إن لم يأكل.
 
فكذلك إذا بلي بحب من لا ينفعه العشق، ونحوه سواء كان لصورة أو لرئاسة أو لمال ونحو ذلك، فإن لم يحصل محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم، وإن حصل محبوبه فهو أشد مرضًا وألمًا وسقمًا، ولذلك كما أن المريض إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب، كان ذلك الألم حاصلًا، وكان دوامه على ذلك يوجب من الألم أكثر من ذلك حتى يقتله، حتى يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه، فهو متألم في الحال، وتألمه فيما بعد إن لم يعافهِ الله أعظم وأكبر.
 
فبغض الحاسد لنعمة الله على المحسود، كبغض المريض لأكل الأصحاء لأطعمتهم وأشربتهم، حتى لا يقدر أن يراهم يأكلون، ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب، فالحب والبغض الخارج عن الاعتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارج عن الاعتدال والصحة في الجسم، وعمى القلب وبكمه أن يبصر الحقائق ويميز ما ينفعه ويضره، كعمى الجسم، وخرسه عن أن يبصر الأمور المرتبة، ويتكلم بها ويميز بين ما ينفعه ويضره.
 
وكما أن الضرير إذا أبصر وجد أن الراحة والعافية والسرور أمرًا عظيمًا. فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين بصر الرأس من التفاوت ما لا يحصيه إلا الله، وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالآخر، فطب الأديان يحتذى حذو طب الأبدان.
 
وقد كتب سليمان إلى أبي الدرداء: أما بعد: فقد بلغني أنك قعدت طبيبًا، فإياك أن تقتل، والله أنزل كتابه شفاء لما في الصدور. وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } <ref>[الإسراء: 82]</ref>، ذلك أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء، وهم المؤمنون وضعوا دواء القرآن على داء قلوبهم.
 
فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة، والنفرة الطبيعية عن الاعتدال، أما شهوة ما لا يحصل أو يفقد الشهوة النافعة وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر، ويكون بضعف قوة الإدراك والحركة، كذلك مرض القلب يكون بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال، وهي الأهواء التي قال الله فيها: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>، وقال: { بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } <ref>[الروم: 29]</ref>.
 
كما يكون الجسد خارجًا عن الاعتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بلا قول الطبيب، ويكون لضعف إدراك القلب وقوته حتى لا يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له، وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون، فلا يحتمون ولا يصبرون على الأدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة، ولكن ذلك يعقبهم من الآلام ما يعظم قدره، أو يعجل الهلاك.
 
فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم، يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه، مما هو لا يصلح له، فيعقبهم ذلك من الألم والعقوبات، إما في الدنيا وإما في الآخرة ما فيه عظم العذاب والهلاك الأعظم.
 
والتقوى: هي الاحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه، فإن الاحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع، وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضا استعمالًا لضار، فلا يكون صاحبه من المتقين.
 
وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا لا يكون؛ فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذيًا بما معه من المواد التي تضره حتى يهلك؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى، وللمتقين؛ لأنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم الإسلام والكرامة، وإن وجدوا ألمًا في الابتداء لتناول الدواء والاحتماء، كفعل الأعمال الصالحة المكروهة. كما قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } <ref>[البقرة: 216]</ref>.
 
ولكثرة الأعمال الباطلة المشتهاة، كما قال تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } <ref>[النازعات: 40، 41]</ref>. وكما قال: { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } <ref>[الأنفال: 7]</ref>، فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب لضرره في العاقبة، ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط، فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول الأشياء سرًا، فإن الحمية التامة بلا اغتذاء تمرض، فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات.
 
وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات، كما أن جنس الاغتذاء من جنس الاحتماء، وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالانضمام إلى غيره، وكما أن الواجب الاحتماء عن سبب المرض قبل حصوله، وإزالته بعد حصوله، فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها بأن عرض له المرض دوامًا، والصحة تحفظ بالمثل، والمرض يزول بالضد، فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما فيها، أو هو ما يقوي العلم والإيمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة، وتزول بالضد، فتزال الشبهات بالبينات، وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق.
 
ولهذا قال يحيى بن عمار: العلوم خمسة: فعلم هو حياة الدنيا، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها، كما قال [[ابن مسعود]]: وعلم هو داء الدين وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه.
 
فحفظ الصحة بالمثل، وإزالة المرض بالضد، في مرض الجسم الطبيعي، ومرض القلب النفساني الديني الشرعي. قال النبي {{صل}}: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرَانه أو يُمَجِّسَانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول [[أبو هريرة]]: اقرؤوا إن شئتم: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } <ref>[الروم: 30]</ref>، أخرجاه في الصحيحين. قال الله تعالى: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلى قوله: { بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } إلى قوله: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } <ref>[الروم: 2630]</ref>.
 
فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب، وتركها ظلم عظيم اتبع أهله أهواءهم بغير علم، ولابد لهذه الفطرة والخلقة وهي صحة الخلقة من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملًا؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة، وهي مأدبة الله كما قال النبي {{صل}} في حديث ابن مسعود: «إن كل آدب يحب أن تؤتي مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن»، ومثله كماء أنزله الله من السماء، كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة. والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته، هم ممرضون القلوب مسقمون لها، وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور.
 
وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب هي بمنزلة ما تصيب الجسم من الألم، يصح بها الجسم وتزول أخلاطه الفاسدة. كما قال النبي {{صل}}: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها خطاياه»، وذلك تحقيق لقوله: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } <ref>[النساء: 123]</ref>.
 
ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه الأمراض فيؤب صحيحًا، وإلا احتاج أن يطهر منها في الآخرة فيعذبه الله. كالذي اجتمعت فيه أخلاطه، ولم يستعمل الأدوية لتخفيفها عنه فتجتمع حتى يكون هلاكه بها؛ ولهذا جاء في الأثر: «إذا قالوا للمريض: اللهم ارحمه، يقول الله: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟»، وقال النبي {{صل}}: «المرض حطة، يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها».
 
وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات الإنسان منه كان شهيدًا. كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجَنْب، وكذلك الميت بغرق، أو حرق، أو هدم، فمن أمراض النفس، ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدًا، كالجبان الذي يتقى الله ويصبر للقتال حتى يقتل، فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له الألم، وإن عصاه تألم كأمراض الجسم.
 
وكذلك العشق، فقد روى: «من عشق فعف وكتم وصبر، ثم مات مات شهيدًا» فإنه مرض في النفس، يدعو إلى ما يضر النفس، كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر. فإن أطاع هواه عظم عذابه في الأخرة وفي الدنيا أيضا، وإن عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من الألم والسقم ما فيها، فإذا مات من ذلك المرض كان شهيدًا، هذا يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها.
 
فهذه الأمراض إذا كان معها إيمان وتقوى كانت كما قال النبي {{صل}}: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سراء فشكر، كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له».
 
===سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها===
سُئلَ الشيخ رَحمَهُ اللَّهُ عن قوله عز وجل: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } <ref>[البقرة: 21]</ref>، فما العبادة وفروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء من المقامات؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك.
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.
 
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله.
 
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } <ref>[المؤمنون: 23]</ref>، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
 
وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } <ref>[النحل: 36]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } <ref>[الأنبياء: 25]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } <ref>[الأنبياء: 92]</ref>، كما قال في الآية الأخرى: { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } <ref>[المؤمنون: 51]</ref>. وجعل ذلك لازما لرسوله إلى الموت كما قال: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref>.
 
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَّ } <ref>[الأنبياء: 19، 20]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } <ref>[الأعراف: 206]</ref>، وذم المستكبرين عنها بقوله: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } <ref>[غافر: 60]</ref>.
 
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } <ref>[الإنسان: 6]</ref>، وقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الآيات <ref>[الفرقان: 63]</ref>، ولما قال الشيطان: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[الحجر: 39، 40]</ref>، قال الله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } <ref>[الحجر: 42]</ref>.
 
وقال في وصف الملائكة بذلك: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله: { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } <ref>[الأنبياء: 26 28]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } <ref>[مريم: 88 95]</ref>.
 
وقال تعالى عن المسيح الذي أدعيت فيه الأُلوهية والنبوة: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } <ref>[الزخرف: 59]</ref> ؛ ولهذا قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله».
 
وقد نعته الله بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } <ref>[الإسراء: 1]</ref>، وقال في الإيحاء: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } <ref>[النجم: 10]</ref>، وقال في الدعوة: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } <ref>[الجن: 19]</ref>، وقال في التحدي: { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } <ref>[البقرة: 23]</ref>، فالدين كله داخل في العبادة.
 
وقد ثبت في الصحيح: أن جبريل لما جاء إلى النبي {{صل}} في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا». قال: فما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدرخيره وشره». قال: فما الإحسان؟ قال «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك«. ثم قال: في آخر الحديث: »هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم» فجعل هذا كله من الدين.
 
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل. يقال: دنته فدان، أي: ذللته فذل، ويقال: يدين الله، ويدين لله أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له.
 
والعبادة أصل معناها: الذل أيضا يقال: طريق معبد إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام.
 
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب، ثم العشق وآخرها التتيم يقال: تيم الله، أي: عبد الله، فالمتيم المعبد لمحبوبه.
 
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب ولده وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله.
 
وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا، قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } <ref>[التوبة: 24]</ref>، فجنس المحبة تكون لله ورسوله، كالطاعة، فإن الطاعة لله ورسوله والإرضاء لله ورسوله: { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } <ref>[التوبة: 62]</ref>، والإيتاء لله ورسوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } <ref>[التوبة: 59]</ref>.
 
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل، والخوف، ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده، كما قال تعالى: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } <ref>[آل عمران: 64 ]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } <ref>[التوبة: 59]</ref>، فالإيتاء لله والرسول كقوله: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } <ref>[الحشر: 7]</ref>، وأما الحسب وهو الكافي فهو الله وحده، كما قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } <ref>[آل عمران: 173]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[الأنفال: 64]</ref>، أي: حسبك وحسب من اتبعك الله.
 
ومن ظن أن المعنى حسبك الله والمؤمنون معه، فقد غلط غلطًا فاحشا، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } <ref>[الزمر: 36]</ref>.
 
وتحرير ذلك: أن العبد يراد به المعبد الذي عبده الله فذلله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد الله، من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا. وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال تعالى: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } <ref>[آل عمران: 83]</ref>.
 
فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، بخلاف من كان جاهلا بذلك، أو جاحدا له مستكبرا على ربه لا يقر ولا يخضع له، مع علمه بأن الله ربه وخالقه.
 
فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذابا على صاحبه، كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } <ref>[النمل: 14]</ref>، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } <ref>[البقرة: 146]</ref>، وقال تعالى: { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } <ref>[الأنعام: 33]</ref>.
 
فإن اعترف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله، وهذا العبد يسأل ربه، فيتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره، وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام.
 
ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة والنار، ولايصير بها الرجل مؤمنا. كما قال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } <ref>[يوسف: 106]</ref>، فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره، قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } <ref>[لقمان: 25، الزمر: 38]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }إلى قوله: { قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } <ref>[المؤمنون: 84 89]</ref>.
 
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها، يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية، التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة، وأهل النار. قال إبليس: { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } <ref>[الحجر: 36]</ref>، وقال: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } <ref>[الحجر: 39]</ref>، وقال: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } <ref>[ص: 82]</ref>، وقال: { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } <ref>[الإسراء: 62]</ref>، وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار قالوا: { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } <ref>[المؤمنون: 106]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } <ref>[الأنعام: 30]</ref>.
 
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته، وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله، وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان، كان من أشر أهل الكفر والإلحاد.
 
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله. حتى يدخل في النوع الثاني، من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابدا لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين، ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا الله بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهًا آخر، فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده، وبها بعث رسله.
 
وأما العبد، بمعنى المعبد، سواء أقر بذلك أو أنكره، فتلك يشترك فيها المؤمن والكافر. وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي، التي يحبها ويرضاها، ويوالى أهلها، ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر التي من اكتفى بها، ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته لله، بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.
 
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق، والتوحيد، والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان، وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذكر عنه، فبين أن كثيرا من الرجال، إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعا للقدر، لا من يكون موافقا للقدر.
 
والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله، لكن كثيرا من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة الله، وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به، ونحو ذلك، دينا وطريقا وعبادة، فيضاهون المشركين الذين قالوا: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } <ref>[الأنعام: 148]</ref>، وقالوا: { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } <ref>[يس: 47]</ref>، وقالوا: { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } <ref>[الزخرف: 20]</ref>.
 
ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب، التي تصيبنا، كالفقر والمرض والخوف، قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } <ref>[التغابن: 11]</ref>. وقال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وقال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } <ref>[الحديد: 22، 23]</ref>.
 
وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوبا علي قبل أن أخلق؟قال: نعم. قال: فحج آدم موسى».
 
وآدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر، ظنًا أن المذنب يحتج بالقدر، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذرا لكان عذرا لإبليس، وقوم نوح، وقوم هود، وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضا؛ لأجل الذنب، فإن آدم قد تاب إلى ربه، فاجتباه وهدى، ولكن لامه؛ لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبًا قبل أن أخلق، فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدرا، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربا.
 
وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب، فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب. قال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } <ref>[غافر: 55]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } <ref>[آل عمران: 120]</ref>، وقال: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } <ref>[آل عمران: 186]</ref>، وقال يوسف: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.
 
وكذلك ذنوب العباد، يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بحسب قدرته ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء الله، ويعادي أعداء الله، ويحب في الله، ويبغض في الله. كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } <ref>[الممتحنة: 1 4]</ref>، وقال تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } <ref>[المجادلة: 22]</ref>، وقال تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } <ref>[القلم: 53]</ref>، وقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } <ref>[ص: 28]</ref>، وقال تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } <ref>[الجاثية: 21]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } <ref>[فاطر: 1922]</ref>، وقال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } <ref>[الزمر: 29]</ref>، وقال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله: { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[النحل: 75، 76]</ref>، وقال تعالى: { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } <ref>[الحشر: 20]</ref>.
 
ونظائر ذلك، مما يفرق الله فيه بين أهل الحق، والباطل، وأهل الطاعة، وأهل المعصية، وأهل البر، وأهل الفجور، وأهل الهدى، والضلال، وأهل الغي، والرشاد، وأهل الصدق والكذب.
 
فمن شهد الحقيقة الكونية، دون الدينية سوى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرق الله بينها غاية التفريق، حتى يؤول به الأمر إلى أن يسوى الله بالأصنام، كما قال تعالى عنهم: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } <ref>[الشعراء: 97، 98]</ref> بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد.
 
وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد لا بمعنى أنهم معبدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب الفصوص، وأمثاله من الملحدين المفترين، كابن سبعين وأمثاله، ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود الحقيقة، لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم، وممدوح نعتًا للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا، هو وجود هذا عندهم.
 
وأما المؤمنون بالله ورسوله، عوامهم وخواصهم، الذين هم أهل الكتاب، كما قال النبي {{صل}}: «إن لله أهلين من الناس» قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته». فهؤلاء يعلمون أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأن الخالق سبحانه مباين للمخلوق، ليس هو حالا فيه ولا متحدا به ولا وجوده وجوده.
 
والنصارى، كفرهم الله بأن قالوا بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عامًا في كل مخلوق؟.
 
ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته، وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن على الخلق أن يعبدوه، فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك، كما قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
 
ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بحسب الإمكان والجهاد في سبيله، لأهل الكفر والنفاق. فيجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك، إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه. كما قالوا للنبي {{صل}}: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي من قدر الله». وفي الحديث: «إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض». فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة.
 
وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية، وهي ربوبيته تعالى لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعا من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال.
 
فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عاما، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } <ref>[الأنعام: 148]</ref>، وقالوا: { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } <ref>[الزخرف: 20]</ref>.
 
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضا، بل كل من احتج بالقدر، فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل، فلابد إذا ظلمه ظالم، أو ظلم الناس ظالم، وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله. فيقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: حجة. وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لايطردون هذا القول ولا يلتزمونه، وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
 
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة، فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلا، وأثبت له صنعا، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن الله هو المتصرف فيه، كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد.
 
وقد يقولون: من شهد الإرادة، سقط عنه التكليف، ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه يدبر جميع الكائنات، وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علما، وبين من يراه شهودا، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن عمن يشهده، فلا يرى لنفسه فعلا أصلا، وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعا من التكليف على هذا الوجه.
 
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد.
 
وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم، عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه، كما ضاق نطاق المعتزلة، ونحوهم من القدرية عن ذلك. ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة الله العامة وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر، ونفوا الأمر والنهي، في حق من شهد القدر، إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقًا. وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي، وصار من الخاصة.
 
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref>، وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة، وقول هؤلاء كفر صريح. وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا إلى أن يموت، لا يسقط عنه الأمر والنهي، لا بشهوده القدر، ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عرفه، وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل. وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين.
 
وأما المستقدمون من هذه الأمة، فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم.
 
وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول، وطريق أولياء الله المحققين، فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه؛ لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له؛ لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له؛ لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب، ونحو ذلك.
 
ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله. فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين، إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين. كما قال تعالى عن المشركين: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } <ref>[ الأعراف: 28 ]</ref>، وكما قال تعالى عنهم: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } <ref>[ الأنعام: 148]</ref>.
 
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى: { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلى آخر السورة <ref>[الأنعام: 138-165]</ref>، وكذلك في سورة الأعراف في قوله: { يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } إلى قوله: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ }إلى قوله: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلى قوله: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } إلى قوله: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 2733]</ref>.
 
وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة. وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده، ونحو ذلك. وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقًا، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها، دون اتباع أمر الله ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية، وغيرهم، الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها، دون ما دلت عليه السمعيات. ثم الكتاب والسنة، إما أن يحرفوه عن مواضعه، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون: نفوض معناه إلى الله، مع اعتقادهم نقيض مدلوله. وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة، وجدت جهليات واعتقادات فاسدة.
 
وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الله، المخالفة للكتاب والسنة، وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه.
 
وأصل ضلال من ضل، هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، واختياره الهوي على اتباع أمر الله، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك، هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق، ووجد بحسب محبته. فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي {{صل}} بقوله في الحديث الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار». وقال {{صل}} في الحديث الصحيح: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا».
 
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات، فكل بحسبه، قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيت قوله تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } <ref>[البقرة: 93]</ref>؟، أو نحو هذا من الكلام. فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، وقال: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>، وقال: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } <ref>[النجم: 23]</ref> ؛ ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة، التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان. وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم، ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة.
 
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته، وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين، شرعه الله، كما قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } إلى قوله: { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } <ref>[ الجاثية: 17، 18]</ref>، بل يكون متبعا لهواه بغير هدى من الله، قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } <ref>[الشورى: 21]</ref>، وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله، وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة، كما أخبر الله به عن المشركين، كما تقدم.
 
ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدرا، وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا غلط عظيم. فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي {{صل}}: «إن الله خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون»، وكما قال النبي {{صل}} لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير فقالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: «لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة».
 
فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، وفي قوله: { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } <ref>[الرعد: 30]</ref>، وقول شعيب عليه السلام: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } <ref>[هود: 88]</ref>.
 
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات، فتنقص بقدر ذلك.
 
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة، ونحو ذلك، فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة، والشكر، ونحو ذلك.
 
فهذه الأمور ونحوها كثيرا ما تعرض لأهل السلوك والتوجه، وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت. كما قال الزهري: كان من مضى من سلفنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. وذلك أن السنة كما قال مالك رحمه الله مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
 
والعبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد، ولها أصلان:
 
أحدهما: ألا يعبد إلا الله.
 
والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع. قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>، وقال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } <ref>[البقرة: 112]</ref>، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } <ref>[النساء: 125]</ref>، فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات. والحسنات، هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إىجاب، أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة، فإن الله لايحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات، ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لايجوز كالفواحش، والظلم ليس من الحسنات، ولا من العمل الصالح.
 
وأما قوله: { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وقوله: { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ }، فهو إخلاص الدين لله وحده، وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
 
وقال الفضيل بن عياض في قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } <ref>[هود: 7، الملك: 2]</ref>، قال: أخلصه، وأصوبه. قالوا: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
 
فإن قيل: فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلا في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها، كقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، وقال نوح: { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } <ref>[نوح: 3]</ref>، وكذلك قول غيره من الرسل. قيل: هذا له نظائر، كما في قوله: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } <ref>[العنكبوت: 45]</ref>، والفحشاء من المنكر، وكذلك قوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } <ref>[النحل: 90]</ref>، وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } <ref>[الأعراف: 170]</ref>، وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } <ref>[الأنبياء: 90]</ref>، ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير.
 
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصًا له بالذكر ؛ لكونه مطلوبا بالمعنى العام، والمعنى الخاص، وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران، فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير، والمسكين لما أفرد أحدهما في مثل قوله: { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } <ref>[البقرة: 273]</ref>، وقوله: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } <ref>[المائدة: 89]</ref>، دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } <ref>[التوبة: 60]</ref> صارا نوعين.
 
وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لايدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب. والتحقيق أن هذا ليس لازما، قال تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } <ref>[البقرة: 98]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } <ref>[الأحزاب: 7]</ref>.
 
وذكر الخاص مع العام يكون، لأسباب متنوعة، تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وتارة؛ لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم، كما في قوله: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } <ref>[البقرة: 24]</ref>، فقوله: يؤمنون بالغيب يتناول الغيب الذي يجب الإيمان به، لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب، ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك. وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب، وبالإخبار بالغيب، وهو ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك.
 
ومن هذا الباب قوله تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } <ref>[العنكبوت: 45]</ref>، وقوله: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } <ref>[الأعراف: 170]</ref>، وتلاوة الكتاب، هي اتباعه، كما قال [[ابن مسعود]] في قوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } <ref>[البقرة: 121]</ref>، قال: يحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه، فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها، لكن خصها بالذكر لمزيتها. وكذلك قوله لموسى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } <ref>[طه: 14]</ref>، وإقامة الصلاة لذكره من أجل عبادته، وكذلك قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } <ref>[الأحزاب: 70]</ref>، وقوله: { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } <ref>[المائدة: 35]</ref>، وقوله: { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } <ref>[التوبة: 119]</ref>، فإن هذه الأمور هي أيضا من تمام تقوى الله، وكذلك قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، فإن التوكل والاستعانة هي من عبادة الله، لكن خصت بالذكر، ليقصدها المتعبد بخصوصها، فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة إذ هو سبحانه لا يعبد إلا بمعونته.
 
إذا تبين هذا، فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه. أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم. قال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله: { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } <ref>[الأنبياء: 26 28]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } إلى قوله: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } <ref>[مريم: 88 95]</ref>، وقال تعالى في المسيح: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } <ref>[الزخرف: 59]</ref>، وقال تعالى: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } <ref>[الأنبياء: 19، 20]</ref>، وقال تعالى: { لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } إلى قوله: { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } <ref>[النساء: 172، 173]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } <ref>[غافر: 60]</ref>، وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } <ref>[فصلت: 37، 38]</ref>، وقال تعالى: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } إلى قوله: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } <ref>[الأعراف: 205، 206]</ref>.
 
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة، وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن، وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك. فقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } <ref>[الأنبياء: 25]</ref>، وقال: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } <ref>[النحل: 36]</ref>، وقال تعالى لبني إسرائيل: { يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي } <ref>[العنكبوت: 56]</ref>، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي } <ref>[البقرة: 41]</ref>، وقال: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } <ref>[البقرة: 21]</ref>، وقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } <ref>[الذاريات: 56]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } <ref>[الزمر: 11 15]</ref>.
 
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله، كقول نوح ومن بعده عليهم السلام: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } <ref>[المؤمنون: 23]</ref>، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي {{صل}} أنه قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري».
 
وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات، قال الشيطان: { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ّ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[الحجر: 39، 40]</ref>، قال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } <ref>[الحجر: 42]</ref>، وقال: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[ص: 82، 83]</ref>، وقال في حق يوسف: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 24]</ref>، وقال: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[الصافات: 159، 160]</ref>، وقال: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } <ref>[ النحل: 99، 100]</ref>، وبها نعت كل من اصطفي من خلقه، كقوله: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } <ref>[ص: 4547]</ref>، وقوله: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } <ref>[ص: 17]</ref>، وقال عن سليمان: { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } <ref>[ص: 30]</ref>، وعن أيوب: { نِعْمَ الْعَبْدُ } <ref>[ص: 44]</ref>، وقال: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } <ref>[ص: 41]</ref>، وقال عن نوح عليه السلام: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } <ref>[الإسراء: 3]</ref>، وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } <ref>[الإسراء: 1]</ref>، وقال { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } <ref>[الجن: 19]</ref>، وقال: { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } <ref>[البقرة: 23]</ref>، وقال: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } <ref>[النجم: 10]</ref>، وقال: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } <ref>[الإنسان: 6]</ref>، وقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } <ref>[الفرقان: 63]</ref>، ومثل هذا كثير متعدد في القرآن.
 
===فصل التفاضل في حقيقة الإيمان===
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه، إلى عام، وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «تَعِسَ عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضي، وإن منع سخط».
 
فسماه النبي {{صل}} عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة. وذكر ما فيه دعاء وخبر، وهو قوله: "تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"، والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه «إذا أعطى رضى، وإذا منع سخط»، كما قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } <ref>[التوبة: 58]</ref>، فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب، واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:
 
العبد حر ما قنع ** والحر عبد ما طمع
 
وقال القائل:
 
أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حرًا
 
ويقال: الطمع غل في العنق، قيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل. ويروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر، واليأس غني، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه. وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيرًا إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور، ورجاه تعلق قلبه به، فصار فقيرًا إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه، والصور وغير ذلك. قال الخليل {{صل}}: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } <ref>[العنكبوت17]</ref>.
 
فالعبد لابد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدًا لله، فقيرًا إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه.
 
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة. وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد. كقوله {{صل}}: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعَة لحم»، وقوله: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خُدوشًا أو خُموشًا، أو كدوحًا في وجهه»، وقوله: «لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع»، هذا المعنى في الصحيح. وفيه أيضا: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أو منعوه»، وقال: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل، ولا مشرف فخذه، وما لا فلاتتبعه نفسك» فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح: «من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر» وأوصى خواص أصحابه ألا يسألوا الناس شيئًا وفي المسند: إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا. وفي [[صحيح مسلم]] وغيره، عن عوف ابن مالك: أن النبي {{صل}} بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية: «ألا تسألوا الناس شيئًا»، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد: ناولني إياه.
 
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع. كقوله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب } <ref>[الشرح: 7، 8]</ref>، وقول النبي {{صل}} لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»، ومنه قول الخليل: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } <ref>[العنكبوت: 17]</ref>، ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند الله. وقد قال تعالى: { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } <ref>[النساء: 32]</ref>، والإنسان لابد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فله أن يسأل الله، وإليه يشتكي، كما قال يعقوب عليه السلام: { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } <ref>[يوسف: 86]</ref>.
 
والله تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل.
 
وقد قيل: إن الهجر الجميل، هو هجر بلا أذى. والصفح الجميل صفح بلا معاتبة. والصبر الجميل، صبر بغير شكوى إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسًا كان يكره أنين المريض، ويقول: إنه شكوى فما أنَّ أحمد حتى مات.
 
وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافى الصبر الجميل، فإن يعقوب قال: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } <ref>[يوسف: 83]</ref>، وقال: { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه }، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في الفجر بسورة يونس، ويوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، ومن دعاء موسى: «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك». وفي الدعاء الذي دعا به النبي {{صل}} ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي. اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل على غضبك، لك العتبى حتى ترضى، فلا حول ولا قوة إلا بك وفي بعض الروايات ولا حول ولا قوة إلا بك».
 
وكلما قوى طمع العبد في فضل الله ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه، وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت. قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } <ref>[الفرقان: 58]</ref>.
 
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرًا لها، تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها. وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي، إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا مستعبدًا، متيمًا لغير الله فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب.
 
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغيرحق لم يضره ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق، إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه، فصار عبدًا لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
 
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي {{صل}}: «ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس»، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة، امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه. وهؤلاء من أعظم الناس عذابًا وأقلهم ثوابًا، فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقًا بها، مستعبدًا لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررًا عليه، ممن يفعل ذنبًا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين. كما قيل:
 
سكران سكر هوى وسكر مدامة ** ومتى إفاقة من به سكران
 
وقيل:
 
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانين
 
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ** وإنما يصرع المجنون في الحين
 
ومن أعظم أسباب هذا البلاء: إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
 
قال تعالى في حق يوسف: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 42]</ref>. فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
 
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى في قلبه انقهر له هواه بلا علاج. قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } <ref>[العنكبوت: 45]</ref>، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها. وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التبع.
 
والقلب خلق يحب الحق، ويريده، ويطلبه. فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب، كما يفسد الزرع، بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } <ref>[الشمس: 9، 10]</ref>، وقال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } <ref>[الأعلى: 14، 15]</ref>، وقال: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } <ref>[النور: 30]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } <ref>[النور: 21]</ref>، فجعل سبحانه غض البصر، وحفظ الفرج هو أزكى للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك.
 
وكذلك طالب الرئاسة، والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه، ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق، كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر.
 
وهكذا أيضا طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان:
 
منها: ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه، ونحو ذلك. فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا.
 
ومنها: ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها، وربما صار معتمدًا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله {{صل}}: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة»، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله تعالى وهذا هو الذي استكمل الإيمان. كما في الحديث: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» وقال: «أوثق عُرَى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله».
 
وفي الصحيح عنه {{صل}}: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار» فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء الله، وأولياء الله؛ لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم لله لا لغيره، وقد قال تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } <ref>[المائدة: 54]</ref>.
 
ولهذا قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، فإن الرسول يأمر بما يحب الله، وينهى عما يبغضه الله، ويفعل ما يحبه الله، ويخبر بما يحب الله التصديق به، فمن كان محبًا لله لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا، فقد فعل ما يحبه الله. فيحبه الله، فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله.
 
وذلك؛ لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان، والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان. وقد قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلى قوله: { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } <ref>[التوبة: 24]</ref>، فتوعد من كان أهله وماله، أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد. بل قد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه، من ولده، ووالده، والناس أجمعين»، وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له: يا رسول الله!، والله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال: «لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك». فقال: فوالله، لأنت أحب إلى من نفسي، فقال: «الآن يا عمر».
 
فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان. ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات. فإذا كان العبد قادرًا عليها حصلها. وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي {{صل}}: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا». وقال: «إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم». قالوا: وهم بالمدينة. قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر».
 
والجهاد، هو بذل الوسع، وهو القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد، كان دليلًا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور، لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم لله إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل.
 
ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبًا لله. كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقًا لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل! كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررًا، ولا تحصل لهم مطلوبًا، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه.
 
وإذا تبين هذا، فكلما ازداد القلب حبًا لله إزداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلىة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولايسر، ولا يطيب، ولايسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
 
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، لايقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادته لله بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئًا لذاته إلا الله، فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة، لا إله إلا الله، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
 
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعينًا بالله متوكلًا عليه مفتقرًا إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه.
 
ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله، لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبدًا لما أحبه، وعبدًا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه. وإذا لم يحب لذاته إلا الله، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئًا إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها كان مشاهدًا أن الله هو الذي خلقها وقدرها، وأن كل ما في السموات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه، وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك.
 
والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصى طرفيها إلا الله.
 
فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى الله، وأقواهم، وأهداهم، أتمهم عبودية لله من هذا الوجه.
 
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}}: «أن الجنة لايدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما أن النار لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان»، فجعل الكبر مقابلًا للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «يقول الله العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته» فالعظمة، والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار.
 
ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد، هو التكبير، وكان مستحبًا في الأمكنة العالية، كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفًا أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان. قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } <ref>[غافر: 60]</ref>.
 
وكل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «أصدق الأسماء حارث وهمام» فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائمًا، وكل إرادة، فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه، وإرادته بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهًا من دون الله، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء، والصالحين، أو من الملائكة، والأنبياء الذين يتخذهم أربابًا، أو غير ذلك مما عبد من دون الله.
 
وإذا كان عبدًا لغير الله يكون مشركًا، وكل مستكبر، فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن عبادة الله، وكان مشركًا. قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ }، إلى قوله: { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } إلى قوله: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } <ref>[غافر: 2335]</ref>، وقال تعالى: { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } <ref>[العنكبوت: 39]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ }إلى قوله: { إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } <ref>[القصص: 4]</ref>.
 
ومثل هذا في القرآن كثير.
 
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } <ref>[الأعراف: 127]</ref>.
 
بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله، ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود، مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركًا بما استعبده من ذلك.
 
ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا الله، ولايبغض شيئًا إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله. فكلما قوى إخلاص دينه لله كملت عبوديته، واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك.
 
والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال تعالى في النصارى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } <ref>[التوبة: 31]</ref>، وقال في اليهود: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } <ref>[البقرة: 87]</ref>، وقال تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } <ref>[الأعراف: 146]</ref>.
 
ولما كان الكبر مستلزمًا للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 48]</ref>، وقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } <ref>[النساء: 116]</ref>، كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين. قال نوح: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } <ref>[يونس: 72]</ref>، وقال في حق إبراهيم: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله: { فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } <ref>[البقرة: 130-132]</ref>، وقال يوسف: { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } <ref>[يوسف: 101]</ref>، وقال موسى: { يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } <ref>[يونس: 84، 85]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } <ref>[المائدة: 44]</ref>، وقالت بلقيس: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } <ref>[النمل: 44]</ref>، وقال: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } <ref>[المائدة: 111]</ref>، وقال: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } <ref>[آل عمران: 19]</ref>، وقال: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } <ref>[آل عمران: 85]</ref>.
 
وقال تعالى: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } <ref>[آل عمران: 83]</ref>، فذكر إسلام الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعًا وكرهًا، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبد، مقهور، وهو الواحد القهار، الخالق البارئ المصور.
 
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه، ويمانعه.
 
وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه. قال تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } <ref>[الزمر: 38]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } <ref>[الأنعام: 17]</ref>، وقال تعالى عن الخليل: { يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } إلى قوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } <ref>[الأنعام: 78-82]</ref>.
 
وفي الصحيحين عن [[ابن مسعود]] رضي الله عنه: إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي {{صل}} وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: «إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }» <ref>[لقمان: 13]</ref>.
 
وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين، حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال الله تعالى: { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } <ref>[البقرة: 124]</ref>، فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر الله سبحانه أن يكون الظالم إمامًا، وأعظم الظلم الشرك.
 
وقال تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } <ref>[النحل: 120]</ref>، والأمة: هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن القدوة الذي يقتدى به.
 
والله تعالى جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } <ref>[النحل: 123]</ref>، وقال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[آل عمران: 68]</ref>، وقال تعالى: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } <ref>[آل عمران: 67]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } إلى قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } <ref>[البقرة: 135، 136]</ref>.
 
وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}}: إن إبراهيم خير البرية، فهو أفضل الأنبياء بعد النبي {{صل}} وهو خليل الله تعالى. وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} من غير وجه أنه قال: «إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلا»، وقال: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» يعني نفسه وقال: «لا يبقين في المسجد خَوْخَة إلا سُدَّتْ إلا خَوْخَة أبي بكر»، وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وكل هذا في الصحيح. وفيه أنه قال: ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته.
 
فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته لله، التي أصلها محبة الله تعالى للعبد، ومحبة العبد لله خلافًا للجهمية.
 
وفي ذلك تحقيق توحيد الله، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين.
 
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر.
 
والخلة: هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبدًا للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتيم الله عبده، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل، إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى:
 
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبذا سمى الخليل خليلًا
 
بخلاف أصل الحب، فإنه {{صل}} قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة: «اللهم إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما»، وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». قال: فمن الرجال؟ قال: «أبوها»، وقال لعلى رضي الله عنه: «لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» وأمثال ذلك كثير.
 
وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وقال: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } <ref>[المائدة: 54]</ref>، فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، ومحبة المؤمنين له، حتى قال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>.
 
وأما الخلة فخاصة. وقول بعض الناس: إن محمدا حبيب الله، وإبراهيم خليل الله، وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمدا أيضا خليل الله كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروي: «إن العباس يحشر بين حبيب وخليل» وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها.
 
وقد قدمنا أن من محبة الله تعالى محبة ما أحب، كما في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار. أخبر النبي {{صل}} أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئًا أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى.
 
ومن قال: إن اللذة إدراك الملائم، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء، فقد غلط في ذلك غلطًا بينًا، فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلًا يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذ، فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء ؛بل تحصل عقيب رؤيته، وقال تعالى: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } <ref>[الزخرف: 71]</ref>، وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات، والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك، يحصل بالشعور بالمحبوب، أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن. فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان، تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها.
 
فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم.
 
وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
 
ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار، فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله، وكان رسول الله {{صل}} يحب المؤمنين الذين يحبهم الله؛ لأنه أكمل الناس محبة لله، وأحقهم بأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، والخلة ليس لغير الله فيها نصيب، بل قال: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا» علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة.
 
والمقصود هو أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إدلال لا تحتمله الربوبية؛ ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة. فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها. وكره من كره من أهل المعرفة، والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة، والدعوى التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين أو يطلبون من الله، ما لا يصلح بكل وجه إلا لله لا يصلح للأنبياء والمرسلين. وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ.
 
وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } قال الله تعالى: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } <ref>[المائدة: 18]</ref>، فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون.
 
فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها، ولم يتب منها، فإن الله يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يفعله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب، لا تضره؛ لكون الله يحبه مع إصراره عليها، كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
 
ولو تدبر الأحمق ما قص الله في كتابه من قصص أنبيائه، وما جرى لهم من التوبة والاستغفار، وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم، وتطهير بحسب أحوالهم، علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها، ولو كان أرفع الناس مقامًا، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفًا بمصلحته ولا مريدًا لها، بل يعمل بمقتضى الحب وإن كان جهلًا وظلمًا كان ذلك سببًا لبغض المحبوب له ونفوره عنه، بل لعقوبته.
 
===مخالفات السالكين في دعوى حب الله===
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعًا من أمور الجهل بالدين، إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدًا فأنا منه برىء، فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدًا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء، فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار، والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار. ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم، ومثل هذا قد يصدر في حال سكر، وغلبة، وفناء يسقط فيها تمييز الإنسان، أو يضعف حتى لا يدري ما قال، والسكر هو لذة مع عدم تمييز؛ ولهذا كان بين هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام.
 
والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب، والشوق، واللوم، والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم. ولهذا أنزل الله للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، فلا يكون محبًا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية.
 
وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته، ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول، وسنته، وطاعته، بل قد جعل محبة الله ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه؛ ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } <ref>[المائدة: 54]</ref>.
 
ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد {{صل}}، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل، فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟
 
وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب، وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء، حتى الكفر والفسوق، والعصيان، ولا يمكن أحدًا أن يحب كل موجود، بل يحب ما يلائمه وينفعه، ويبغض ما ينافيه ويضره، ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور، والرئاسة وفضول المال، والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال.
 
وأصل ضلالهم: أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الله تعالى الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله، وهذا معنى صحيح، فإن من تمام الحب ألا يحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة، وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهي عنه، فإن لم أوافقه في بغضه، وكراهته، وسخطه لم أكن محبًا له، بل محبًا لما يبغضه. فاتباع الشريعة، والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعي محبة الله ناظرًا إلى عموم ربوبيته، أو متبعًا لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله، بل قد تكون دعوى هؤلاء شرًا من دعوى اليهود والنصارى، لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرًا من دعواهم، إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم، وفي التوراة والإنجيل من محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس.
 
ففي الإنجيل أن المسيح قال أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك، والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وإن ما هم فيه من الزهد، والعبادة هو من ذلك، وهم برآء من محبة الله، إذا لم يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم، والله يبغض الكافرين ويمقتهم، ويلعنهم، وهو سبحانه يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محبًا لله، والله تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له، وإن كان جزاء الله لعبده أعظم، كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله تعالى أنه قال: «من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».
 
وقد أخبر سبحانه أنه يحب المتقين، والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب، كما في الحديث الصحيح: «لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» الحديث.
 
وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخًا في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى، من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته، وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الله، بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه، والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصومًا، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم، ورهبانهم شارعين لهم دينًا، ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح، ويثبتون للخاصة من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه، إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع.
 
وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله، كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع، فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين، أن يكون لله، وأن يكون موافقًا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب، كما قال: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>.
 
فلابد من العمل الصالح، وهو الواجب، والمستحب، ولابد أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، كما قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } <ref>[البقرة: 112]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقال النبي {{صل}}: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
 
وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول، وعليه جاهد، وبه أمر، وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه.
 
والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث: «وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل»، وفي حديث آخر: قال أبو بكر: يا رسول الله، كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال النبي {{صل}} لأبي بكر: «ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم». وكان عمر يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
 
===معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله===
 
وكثيرًا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟قال: حب الرئاسة، وعن كعب بن مالك عن النبي {{صل}} أنه قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه» قال [[الترمذي]]: حديث حسن صحيح.
 
فبين {{صل}} أن الحرص على المال، والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله، ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 42]</ref>.
 
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب لا أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبًا إلى الله خائفًا منه راغبًا راهبًا، كما قال تعالى: { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } <ref>[ق: 33]</ref>، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبه إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } <ref>[الإسراء: 57]</ref>.
 
وإذا كان العبد مخلصًا له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص لله، فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله. فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيرًا عبدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له، لكان ذلك عيبًا ونقصًا وذمًا. وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق، وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من الله.
 
ومن لم يكن خالصًا لله عبدًا له قد صار قلبه معبدًا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلًا له خاضعًا وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفًا مقبلًا على الله معرضًا عما سواه وإلا كان مشركًا، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إلى قوله: { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } <ref>[الروم: 3032]</ref>.
 
وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة الله وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم. قال تعالى في إبراهيم: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } <ref>[الأنبياء: 72، 73]</ref>، وقال في فرعون وقومه: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ. وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ } <ref>[القصص: 41، 42]</ref>.
 
ولهذا يصير أتباع فرعون أولًا إلى ألا يميزوا بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدر الله وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا، ويقول محققوهم: الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية، وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي.
 
وأما إبراهيم، وآل إبراهيم الحنفاء، والأنبياء فهم يعلمون أنه لابد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولابد من الفرق بين الطاعة والمعصية. وأن العبد كلما ازداد تحقيقًا ازدادت محبته لله وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره. وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه. والخليل يقول: { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } <ref>[الشعراء: 75-77]</ref>، ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشائخ كما فعلت النصارى.
 
مثال ذلك اسم الفناء، فإن الفناء ثلاثة أنواع: نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء، ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين، ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين.
 
فأما الأول: فهو الفناء عن إرادة ما سوى الله، بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال: أريد ألا أريد إلا ما يريد. أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين. وهذا معنى قولهم في قوله: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } <ref>[الشعراء: 89]</ref> قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم، هو أول الإسلام وآخره. وباطن الدين وظاهره.
 
وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير الله، بل ولايشعرون، كما قيل في قوله: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } <ref>[القصص: 10]</ref>، قالوا: فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف. وإما رجاء يبقى قلبه منصرفًا عن كل شيء إلا عما قد أحبه، أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره.
 
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها. وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر: أن رجلًا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني.
 
وهذا الموضع زل فيه أقوام، وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر، ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا. ويبغض هذا ما يبغض هذا، ويرضى ما يرضى، ويسخط ما يسخط، ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، وهذا الفناء كله فيه نقص.
 
===أكابر الأولياء لم يقعوا في الفناء===
وأكابر الأولياء، كأبي بكر وعمر، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة. وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز، لما يرد على القلب من أحوال الإيمان، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم. أو يحصل لهم غشى، أو صعق، أو سكر، أو فناء، أو وَلَهٌ، أو جنون. وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن. ومنهم من يموت: كأبي جهير الضرير. وزرارة بن أوفى قاضي البصرة.
 
وكذلك صار في شيوخ الصوفية، من يعرض له من الفناء والسكر، ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك، عن مثل أبى يزيد، وأبي الحسين النوري، وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.
 
بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والفضيل بن عياض، بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم، ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة الله وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر الله مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدا، وممدًا لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له.
 
وهذه الحقيقة، التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان. ونبينا {{صل}} إمام هؤلاء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات، وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولاظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
 
وأما النوع الثالث: مماقد يسمى فناء فهو أن يشهد أن لا موجود إلا الله، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد.
 
والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم: ما أرى غير الله، أولا أنظر إلى غير الله، ونحو ذلك، فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره، ولا خالقًا غيره، ولا مدبرًا غيره، ولا إلها غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له، أو خوفًا منه، أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئًا، أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له، ولا رجاء له، ولا خوف منه، ولا بغض له، ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وإن رآه اتفاقًا، رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطًا، ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به.
 
والمشائخ الصالحون رضي الله عنهم يذكرون شيئًا من تجريد التوحيد، وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتًا إلى غير الله ولا ناظرًا إلى ما سواه: لاحبًا له، ولا خوفًا منه، ولا رجاء له بل يكون القلب فارغًا من المخلوقات خاليًا منها لا ينظر إليها إلا بنور الله، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه الله، ويبغض منها ما يبغضه الله، ويوالي منها ما والاه الله، ويعادي منها ما عاداه الله، ويخاف الله فيها، ولا يخافها في الله، ويرجو الله فيها، ولا يرجوها في الله، فهذا هو القلب السليم، الحنيف، الموحد، المسلم، المؤمن، العارف، المحقق، الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم.
 
وأما النوع الثالث: وهو الفناء في الموجود، فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.
 
وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء هو الفناء المحمود، الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الله عليهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين.
 
وليس مراد المشائخ، والصالحين، بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات، هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل، وإما فساد الاعتقاد. فهو متردد بين الجنون والإلحاد.
 
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق. وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا. وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات، فيظنه خالق الأرض والسموات، لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس، فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء.
 
وهم قد يتكلمون في الفرق، والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقًا بها، متشتتًا ناظرًا إليها متعلقًا بها، إما محبة، وإما خوفًا، وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى الله بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق. فقد يكون مجتمعًا على الحق معرضًا عن الخلق نظرًا وقصدًا وهو نظير النوع الثاني من الفناء.
 
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالله، مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأنه سبحانه رب المصنوعات، وإلهها وخالقها، ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على الله إخلاصًا له ومحبة وخوفًا ورجاء واستعانة وتوكلا على الله وموالاة فيه، ومعاداة فيه وأمثال ذلك ناظرًا إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزًا بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات، وكثرتها مع شهادته أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأنه هو الله لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب، في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، في حال القلب، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته.
 
وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافيًا لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتًا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقًا في علمه وقصده في شهادته، وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا بالله تعالى ذاكرًا له عارفًا به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محبًا لله، معظمًا له، عابدًا له، راجيًا له خائفًا منه، مواليًا فيه، معاديًا فيه، مستعينًا به، متوكلًا عليه، ممتنعًا عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى.
 
وإقراره بألوهية الله تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، فحينئذ يكون موحدًا لله.
 
ويبين ذلك أن أفضل الذكر: لا إله إلا الله، كما رواه [[الترمذي]] و[[ابن أبي الدنيا]]، وغيرهما مرفوعًا إلى النبي {{صل}} أنه قال: «أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله»، وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كثير أن النبي {{صل}} قال: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».
 
ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة، هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون. واحتجاج بعضهم على ذلك، بقوله: { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } <ref>[الأنعام: 91]</ref>، من أبين غلط هؤلاء، فإن الاسم هومذكور في الأمر بجواب الاستفهام. وهو قوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } <ref>[الأنعام: 91]</ref> أي: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فالاسم مبتدأ، وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك تقول: من جاره، فيقول زيد.
 
وأما الاسم المفرد، مظهرًا، أو مضمرًا، فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان، ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول الله {{صل}}، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالًا نافعًا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة. والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره.
 
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
 
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات. حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به. إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي {{صل}} أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله، وقال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.
 
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو، أو: هو هو. ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إِلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل، وقد صنف صاحب الفصوص كتابًا سماه كتاب الهو وزعم بعضهم أن قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } <ref>[آل عمران: 7]</ref>، معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو، وقيل: هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت: وما يعلم تأويل هو منفصلة.
 
ثم كثيرًا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: الله بقوله: { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول: الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله: { قٍلٌ بلَّهٍ } معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهو جواب لقوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } <ref>[الأنعام: 91]</ref>، أي: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال: { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } ثم قال: { قُلْ اللَّهُ } أنزله { ثُمَّ ذَرْهُمْ }هؤلاء المكذبين { فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }.
 
ومما يبين ما تقدم: ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلامًا، لا يحكون به ما كان قولًا، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، والله تعالى لا يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسمًا مفردًا مجردًا، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات.
 
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟
 
وما في القرآن من قوله: { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا } <ref>[المزمل: 8]</ref>، وقوله: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } <ref>[الأعلى: 1]</ref>، وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } <ref>[الأعلى: 14، 15]</ref>، وقوله: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } <ref>[الواقعة: 96]</ref>، ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردًا، بل في السنن أنه لما نزل قوله: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } <ref>[الواقعة: 96]</ref>، قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزل قوله: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال: «اجعلوها في سجودكم». فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم» وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى» وهذا هو معنى قوله: «اجعلوها في ركوعكم» و«سجودكم» باتفاق المسلمين.
 
فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه، ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد، كما في الصحيح عنه {{صل}} أنه قال: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، وفي الصحيح عنه {{صل}} أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، وفي الصحيحين عنه {{صل}} أنه قال: «من قال في يومه مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه. ومن قال في يومه مائة مرة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»، وفي الموطأ وغيره عن النبي {{صل}} أنه قال: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». وفي سنن [[ابن ماجه]] وغيره عنه {{صل}} أنه قال: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله».
 
ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء.
 
وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } <ref>[الأنعام: 121]</ref>، وقوله: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } <ref>[المائدة: 4]</ref>، إنما هو قوله: بسم الله. وهذا جملة تامة إما اسمية، على أظهر قولي النحاة، أو فعلىة، والتقدير ذبحي باسم الله، أو أذبح باسم الله، وكذلك قول القارئ: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فتقديره: قراءتي بسم الله، أو أقرأ بسم الله.
 
ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم الله، أو ابتدأت بسم الله. والأول أحسن؛ لأن الفعل كله مفعول بسم الله، ليس مجرد ابتدائه، كما أظهر المضمر في قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } <ref>[العلق: 1]</ref>، وفي قوله: { بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } <ref>[هود: 41]</ref>، وفي قول النبي {{صل}}: «من كان ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى. ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الله». ومن هذا الباب قول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة: «بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» فالمراد أن يقول بسم الله. ليس المراد أن يذكر الاسم مجردًا. وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل»، وكذلك قوله {{صل}}: «إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الله عند دخوله، وعند خروجه. وعند طعامه، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء» وأمثال ذلك كثير.
 
وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وأذانهم، وحجهم وأعيادهم من ذكر الله تعالى إنما هو بالجملة التامة. كقول المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، وقول المصلي: الله أكبر، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، التحيات لله، وقول الملبي: لبيك اللهم لبيك، وأمثال ذلك، فجميع ما شرعه الله من الذكر إنما هو كلام تام، لا اسم مفرد لا مظهر ولا مضمر، وهذا هو الذي يسمى في اللغة كلمة، كقوله: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم»، وقوله: «أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ماخلا الله باطل»، ومنه قوله تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } الآية <ref>[الكهف: 5]</ref>، وقوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } <ref>[الأنعام: 115]</ref>، وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة، بل وسائر كلام العرب فإنما يراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون: هذا حرف غريب. أي: لفظ الاسم غريب.
 
وقسم سيبويه الكلام إلى اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، ليس باسم وفعل، وكل من هذه الأقسام يسمى حرفًا، لكن خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء، ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها، كما قال النبي {{صل}}: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات: أما أني لا أقول: { الم } حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»، وقد سأل الخليل أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا: زاي، فقال: جئتم بالاسم، وإنما الحرف ز.
 
ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة، وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، كحروف الجر ونحوها، وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف، ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب، ومنهم من يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظًا مشتركًا بين الاسم مثلا وبين الجملة، ولا يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إلا الجملة التامة.
 
والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الّله سبحانه هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقرب إلى الله ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له. فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد، وأهل الاتحاد، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.
 
وجماع الدين أصلان: ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>، وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله. ففي الأولى: ألا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه، فعلىنا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } <ref>[البقرة: 112]</ref>.
 
كما أنا مأمورون ألا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله، ولا نرغب إلا إلى الله، ولا نستعين إلا بالله، وألا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } <ref>[التوبة: 59]</ref>، فجعل الإيتاء لله والرسول، كما قال: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } <ref>[الحشر: 7]</ref>، وجعل التوكل على الله وحده بقوله: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } ولم يقل ورسوله، كما قال في الآية الأخرى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } <ref>[آل عمران: 173]</ref>، ومثله قوله: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِين } <ref>[الأنفال: 64]</ref>، أي: حسبك وحسب المؤمنين كما قال: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } <ref>[الزمر: 36]</ref>.
 
ثم قال: { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ }، فجعل الإيتاء لله والرسول، وقدم ذكر الفضل، لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين، وقال: { إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فجعل الرغبة إلى الله وحده كما في قوله: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } <ref>[الشرح: 7، 8]</ref>، وقال النبي {{صل}} لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله». والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع.
 
فجعل العبادة والخشية والتقوى لله، وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله، كما في قول نوح عليه السلام: { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } <ref>[نوح: 3]</ref>، وقوله: { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } <ref>[النور: 52]</ref>، وأمثال ذلك.
 
فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه، والطاعة لهم، فأضل الشيطان النصارى، وأشباههم فأشركوا بالله، وعصوا الرسول، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم، مع معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسنتهم، وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه، فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين، فأخلصوا دينهم لله، وأسلموا وجوههم لله، وأنابوا إلى ربهم، وأحبوه ورجوه وخافوه، وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه، وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم، واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم.
 
وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا إلا إياه، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين.
 
فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه، ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين.
 
===سئل شيخ الإسلام عن دعوة ذي النون===
سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام ابن تيمية قدس الله روحه عن قول النبي {{صل}}: «دعوة أخي ذي النون: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>. ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته» ما معنى هذه الدعوة؟ ولم كانت كاشفة للكرب؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها. حتى يوجب كشف ضره؟ وما مناسبة ذكره: { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ }، مع أن التوحيد يوجب كشف الضر؟ وهل يكفيه اعترافه، أم لابد من التوبة والعزم في المستقبل؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين، والتعلق بهم بالكلية، وتعلقه بالله تعالى ورجائه وانصرافه إليه بالكلية، وما السبب المعين على ذلك؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
 
قال الله تعالى: { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ } <ref>[الشعراء: 213]</ref>، وقال تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } <ref>[المؤمنون: 117]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } <ref>[القصص: 88]</ref>، وقال: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } <ref>[الجن: 19]</ref>، وقال: { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا } <ref>[النساء: 117]</ref>، وقال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } <ref>[الرعد: 14]</ref>، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } <ref>[الفرقان: 68]</ref>، وقال في آخر السورة: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } <ref>[الفرقان: 77]</ref>.
 
قيل: لولا دعاؤكم إياه، وقيل: لولا دعاؤه إياكم. فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول تارة، ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى؛ لأنه لابد له من فاعل؛ فلهذا كان هذا أقوى القولين أي: ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه، وتسألونه: { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } <ref>[الفرقان: 77]</ref> أي: عذاب لازم للمكذبين.
 
ولفظ الصلاة في اللغة: أصله الدعاء، وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء، وهو العبادة والمسألة.
 
وقد فسر قوله تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } <ref>[غافر: 60]</ref>، بالوجهين، قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم. كما قال تعالى: { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } <ref>[الشورى: 26]</ref> أي: يستجيب لهم، وهو معروف في اللغة، يقال: استجابه واستجاب له، كما قال الشاعر:
 
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
 
وقيل: سلوني أعطكم.
 
وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» فذكر أولًا لفظ الدعاء، ثم ذكر السؤال والاستغفار. والمستغفر سائل كما أن السائل داع، لكن ذكر السائل؛ لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير، وذكرهما جميعًا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما، فهو من باب عطف الخاص على العام.
 
قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي } <ref>[البقرة: 186]</ref>.
 
وكل سائل راغب راهب، فهو عابد للمسؤول، وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد. فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما: فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال.
 
والعابد الذي يريد وجه الله، والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب: يرغب في حصول مراده، ويرهب من فواته، قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } <ref>[الأنبياء: 90]</ref>، وقال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } <ref>[السجدة: 16]</ref>، ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب، من الخوف والطمع.
 
وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة، فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون وجه الله، فيقصدون التلذذ بالنظر إليه، وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به، وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب، ويخافون حرمانه، فلم يخلوا عن الخوف والرجاء، لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم.
 
ومن قال من هؤلاء: لم أعبدك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك، فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات، والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة، بل كل ما أعده الله لأوليائه، فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة؛ ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال: إني أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال: «حولها ندندن».
 
وقد أنكر على من قال هذا الكلام يعني: أسألك لذة النظر إلى وجهك فريق من أهل الكلام، ظنوا أن الله لا يتلذذ بالنظر إليه، وأنه لا نعيم إلا بمخلوق. فغلط هؤلاء في معنى الجنة كما غلط أولئك، لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب، وهؤلاء أنكروا ذلك.
 
وأما التألم بالنار، فهو أمر ضروري، ومن قال: لو أدخلني النار لكنت راضيًا، فهو عزم منه على الرضا. والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق، ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال:
 
وليس لي في سواك حظ ** فكيف ما شئت فامتحني
 
فابتلى بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب، قال تعالى: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } <ref>[آل عمران: 143]</ref>.
 
وبعض من تكلم في علل المقامات، جعل الحب والرضا والخوف والرجاء، من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر، وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فنى من لم يكن، وبقى من لم يزل، يخرج عن هذه الأمور، وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعًا.
 
أما الحقيقة، فإن الحي لا يتصور ألا يكون حساسًا محبًا لما يلائمه، مبغضًا لما ينافره، ومن قال إن الحي يستوى عنده جميع المقدورات، فهو أحد رجلين، إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل، وإما أنه مكابر معاند، ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله سواء سمي اصطلامًا، أو محوا، أو فناء، أو غشيًا، أو ضعفًا فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية، بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره، وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء، فإنه لم يسقط بجميعها.
 
فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع، والفناء، فلا يشهد فرقًا فإنه غالط، بل لابد من الفرق، فإنه أمر ضروري.
 
لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقى في الفرق الطبيعي، فيبقى متبعًا لهواه لا مطيعًا لمولاه.
 
ولهذا لما وقعت هذه المسألة، بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني، وهو: أن يفرق بين المأمور والمحظور، وبين ما يحبه الله وما يكرهه، مع شهوده للقدر الجامع، فيشهد الفرق في القدر الجامع. ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور، خرج عن دين الإسلام.
 
وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية، وإن خرجوا عنه كانوا كفارًا من شر الكفار، وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم، ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود، فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد، بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الله ورسوله تارة، ويعصون الله ورسوله تارة، كالعصاة من أهل القبلة. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء، يتناول هذا وهذا، قال الله تعالى: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } <ref>[يونس: 10]</ref>، وفي الحديث: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله» رواه [[ابن ماجه]] و[[ابن أبي الدنيا]]. وقال النبي {{صل}} في الحديث الذي رواه [[الترمذي]] وغيره: «دعوة أخي ذي النون: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>، ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته»، سماها دعوة، لأنها تتضمن نوعي الدعاء. فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية. وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق؛ لأن يدعي دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو.
 
وقوله: { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسؤول، وإما بوصف الحالين. كقول نوح عليه السلام: { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[هود: 47]</ref> فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر.
 
ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة، وكذلك قول آدم عليه السلام: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[الأعراف: 23]</ref>، هو من هذا الباب، ومن ذلك قول موسى عليه السلام: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } <ref>[القصص: 24]</ref>، فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه.
 
وقد روى الترمذي، وغيره عن النبي {{صل}} أنه قال: «من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، ورواه مالك بن الحويرث وقال: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، وأظن البيهقي رواه مرفوعًا بهذا اللفظ.
 
وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله: «أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جُدْعَان:
 
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك أن شيمتك الحباء
 
إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضه الثناء
 
قال: فهذا مخلوق يخاطب مخلوقًا، فكيف بالخالق تعالى.
 
ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام: «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان» فهذا خبر يتضمن السؤال.
 
ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام: { أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 83]</ref>، فوصف نفسه، ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره، وهي صيغة خبر تضمنت السؤال. وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء، فقول القائل لمن يعظمه، ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض، حسن أدب في السؤال. وإن كان في قوله: أطعمني، وداوني، ونحو ذلك، مما هو بصيغة الطلب، طلب جازم من المسؤول، فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب.
 
وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر: إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب، فأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل، وافتقار، وإظهار الحال.
 
ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان.
 
وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده، فيطلبه ويسأله، فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول. وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول، فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين، فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة كقول النبي {{صل}} لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفرلي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». أخرجاه في الصحيحين.
 
فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب، أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضى للإجابة، وهو وصف الرب بالمغفرة، والرحمة، فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب.
 
وكثير من الأدعية يتضمن بعض ذلك، كقول موسى عليه السلام: { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } <ref>[الأعراف: 155]</ref>، فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة. وقوله: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } <ref>[القصص: 16]</ref>، فيه وصف حال النفس والطلب، وقوله: { إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } <ref>[القصص: 24]</ref>، فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال، فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة.
 
يبقى أن يقال: فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟
 
فيقال: لأن المقام مقام اعتراف، بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي، فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر، والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة؛ لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني، بخلاف كشف الكرب، فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول، إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها، زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته، وأبلغ ما ينال به رفع سببه، فجاء بما يحصل مقصوده.
 
وهذا يتبين بالكلام على قوله: { سُبْحَانَك } فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه، والمقام يقتضى تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب، يقول: أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب؛ بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي، قال تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } <ref>[النحل: 118]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } <ref>[هود: 101]</ref>، وقال: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الزخرف: 76]</ref>، وقال آدم عليه السلام: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } <ref>[الأعراف: 23]</ref>.
 
وكذلك قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفرلي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، وفي [[صحيح البخاري]]: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة».
 
فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه، فإنه لا يظلم الناس شيئًا، فلا يعاقب أحدًا إلا بذنبه، وهو يحسن إليهم، فكل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل.
 
فقوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل.
 
وقوله: { سُبْحَانَكَ } يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم، وغيره من النقائص، فإن التسبيح، وإن كان يقال: يتضمن نفي النقائص، وقد روى في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي {{صل}} في قول العبد: سبحان الله: «إنها براءة الله من السوء. فالنفي لا يكون مدحًا إلا إذا تضمن ثبوتا، وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه، ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله، ولله الأسماء الحسنى.
 
وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله، كقوله تعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } <ref>[البقرة: 255]</ref>. فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته، وقوله: { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } <ref>[ق: 38]</ref>، يتضمن كمال قدرته، ونحو ذلك. فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء، ونفي النقص عنه يتضمن تعظيمه. ففي قوله: { سُبْحَانَكَ } تبرئته من الظلم، وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم، فإن الظالم إنما يظلم ؛ لحاجته إلى الظلم أو لجهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة.
 
وأيضا ففي هذا الدعاء التهليل، والتسبيح، فقوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } تهليل. وقوله: { سُبْحَانَكَ } تسبيح. وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: « أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».
 
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له، والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له، وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه سئل، أي الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده»، وفي الصحيحين عن النبي {{صل}}، أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، وفي القرآن { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } <ref>[الحجر: 98]</ref>، وقالت الملائكة: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } <ref>[البقرة: 30]</ref>.
 
وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد، والأخرى بالتعظيم، فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص، المتضمن إثبات المحاسن والكمال، والحمد إنما يكون على المحاسن، وقرن بين الحمد والتعظيم، كما قرن بين الجلال والإكرام؛ إذ ليس كل معظم محبوبًا محمودًا، ولا كل محبوب محمودًا معظما، وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد، وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم، ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن، وفيها الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه. ففيها إجلاله وإكرامه. وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام، فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام.
 
ومن الناس من يحسب أن الجلال هو الصفات السلبية، والإكرام الصفات الثبوتية، كما ذكر ذلك الرازي ونحوه. والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية، وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص، لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يحب وما يستحق أن يعظم، كقوله: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } <ref>[ لقمان: 26]</ref>، وقول سليمان عليه السلام: { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } <ref>[ النمل: 40]</ref>، وكذلك قوله: { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } <ref>[ التغابن: 1]</ref>، فإن كثيرًا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودًا بل مذمومًا، إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة، فيتضمن إخبارًا بمحاسن المحبوب محبة له.
 
وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك. فالأول يهاب ويخاف ولا يحب، وهذا يحب ويحمد، ولا يهاب ولا يخاف، والكمال اجتماع الوصفين، كما ورد في الأثر: «إن المؤمن رزق حلاوة ومهابة» وفي نعت النبي {{صل}}: كان من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه.
 
فقرن التسبيح بالتحميد، وقرن التهليل بالتكبير، كما في كلمات الأذان. ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد، فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم، ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية، فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبًا، بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو. والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يحب، فالإلهية تتضمن كمال الحمد؛ ولهذا كان الحمد لله مفتاح الخطاب، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وسبحان الله فيها إثبات عظمته كما قدمناه؛ ولهذا قال: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } <ref>[الواقعة: 96]</ref>، وقد قال النبي {{صل}}: «اجعلوها في ركوعكم» رواه أهل السنن، وقال: «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم» رواه مسلم. فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم.
 
ففي قوله: «سبحان الله وبحمده» إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده. وأما قوله: «لا إله إلا الله والله أكبر» ففي لا إله إلا الله إثبات محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته، وفي قوله: «الله أكبر» إثبات عظمته، فإن الكبرياء تتضمن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل.
 
ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: «الله أكبر»، فإن ذلك أكمل من قول: الله أعظم، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته»، فجعل العظمة كالإزار، والكبرياء كالرداء، ومعلوم أن الرداء أشرف، فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه، وتضمن ذلك التعظيم، وفي قوله: سبحان الله، صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم، فصار كل من الكلمتين متضمنًا معنى الكلمتين الأخريين إذا أفردتا، وعند الاقتران تعطى كل كلمة خاصيتها.
 
وهذا كما أن كل اسم من أسماء الله، فإنه يستلزم معنى الآخر، فإنه يدل على الذات، والذات تستلزم معنى الاسم الآخر، لكن هذا باللزوم، وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة، ودلالتها على أحدهما بالتضمن.
 
فقول الداعي: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref> يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن. وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، ففيها كمال المدح.
 
وقوله: { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } فيه اعتراف بحقيقة حاله، وليس لأحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف، لا سيما في مقام مناجاته لربه. وقد ثبت في الصحاح عن النبي {{صل}} أنه قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتَّى». وقال: «من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» فمن ظن أنه خير من يونس، بحيث يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب؛ ولهذا كان سادات الخلائق، لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام، بل يقولون: كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد {{صل}}.
 
===فصل الضر لا يكشفه إلا الله===
وأما قول السائل: لم كانت موجبة لكشف الضر؟ فذلك لأن الضر لا يكشفه إلا الله. كما قال تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } <ref>[يونس: 107]</ref>، والذنوب سبب للضر، والاستغفار يزيل أسبابه، كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } <ref>[الأنفال: 33]</ref>، فأخبر أنه سبحانه لا يعذب مستغفرًا. وفي الحديث: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»، وقال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } <ref>[الشورى: 30]</ref>.
 
فقوله: { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>، اعتراف بالذنب وهو استغفار، فإن هذا الاعتراف متضمن طلب المغفرة.
 
وقوله: { أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>، تحقيق لتوحيد الإلهية، فإن الخير لا موجب له إلا مشيئة الله، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والمعوق له من العبد هو ذنوبه، وما كان خارجًا عن قدرة العبد، فهو من الله، وإن كانت أفعال العباد بقدر الله تعالى، لكن الله جعل فعل المأمور وترك المحظور سببًا للنجاة، والسعادة، فشهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار من الذنوب يغلق باب الشر.
 
ولهذا ينبغي للعبد ألا يعلق رجاءه إلا بالله، ولا يخاف من الله أن يظلمه، فإن الله لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، بل يخاف أن يجزيه بذنوبه، وهذا معنى ما روى عن على رضي الله عنه أنه قال: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه.
 
وفي الحديث المرفوع إلى النبي {{صل}}: أنه دخل على مريض فقال: «كيف تجدك؟» فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: «ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف».
 
فالرجاء ينبغي أن يتعلق بالله، ولا يتعلق بمخلوق، ولا بقوة العبد، ولا عمله؛ فإن تعلىق الرجاء بغير الله إشراك، وإن كان الله قد جعل لها أسبابًا، فالسبب لا يستقل بنفسه، بل لابد له من معاون، ولابد أن يمنع المعارض المعوق له، وهو لا يحصل، ويبقى إلا بمشيئة الله تعالى.
 
ولهذا قيل: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ ولهذا قال الله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } <ref>[الشرح: 7، 8]</ref>، فأمر بأن تكون الرغبة إليه وحده، وقال: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } <ref>[المائدة: 23]</ref>، فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه، فمن رجا قوته، أو عمله، أو علمه، أو حاله، أو صديقه، أو قرابته، أو شيخه، أو ملكه، أو ماله، غير ناظر إلى الله كان فيه نوع توكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } <ref>[الحج: 31]</ref>، وكذلك المشرك يخاف المخلوقين، ويرجوهم، فيحصل له رعب، كما قال تعالى: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } <ref>[ آل عمران: 151]</ref>.
 
والخالص من الشرك يحصل له الأمن، كما قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } <ref>[الأنعام: 82]</ref>، وقد فسر النبي {{صل}} الظلم هنا بالشرك. ففي الصحيح عن [[ابن مسعود]] أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي {{صل}} وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي {{صل}}: «إنما هذا الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }؟» <ref>[لقمان: 13]</ref>، وقال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } <ref>[البقرة: 165167]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } <ref>[الإسراء: 56، 57]</ref> ؛ ولهذا يذكر الله الأسباب، ويأمر بأن لا يعتمد عليها، ولا يرجى إلا الله، قال تعالى لما أنزل الملائكة: { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } <ref>[آل عمران: 126]</ref>، وقال: { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } <ref>[آل عمران: 160]</ref>.
 
وقد قدمنا أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
 
وكلاهما لا يصلح إلا لله، فمن جعل مع الله إلهًا آخر قعد مذمومًا مخذولًا، والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلا الله، ولايسأل غيره؛ ولهذا قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مُشْرِف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك». فالمشرف الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه، وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: أصابتنا فاقة فجئت رسول الله {{صل}} لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول: «أيها الناس، والله مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم، وإنه من يَسْتَغْنِ يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يَتَصَبَّرْ يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر».
 
والاستغناء ألا يرجو بقلبه أحدًا فيستشرف إليه، والاستعفاف ألا يسأل بلسانه أحدًا؛ ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل، فقال: قطع الاستشراف إلى الخلق، أي: لا يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشيء، فقيل له: فما الحجة في ذلك؟ فقال: قول الخليل لما قال له جبرائيل: هل لك من حاجة؟ فقال: «أما إليك فلا».
 
فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، لا يوجه قلبه إلا إلى الله؛ فلهذا قال المكروب: { لاَّ إلّهّ إلاَّ أّنتّ }، ومثل هذا ما في الصحيحين عن [[ابن عباس]]، أن النبي {{صل}} كان يقول: عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم». فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد، وتأله العبد ربه، وتعلق رجائه به وحده لا شريك له، وهي لفظ خبر يتضمن الطلب.
 
والناس، وإن كانوا يقولون بألسنتهم: لا إله إلا الله، فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى، وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله. قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } <ref>[الفرقان: 43، 44]</ref>، فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه، فقد اتخذ إلهه هواه، أي: جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه، فهم يتخذون أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله؛ ولهذا قال الخليل: { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } <ref>[الأنعام: 76]</ref>.
 
فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعًا له كالشمس والقمر والكواكب، والخليل بين أن الآفل يغيب عن عابده، وتحجبه عنه الحواجب، فلا يرى عابده ولا يسمع كلامه، ولا يعلم حاله، ولا ينفعه، ولا يضره بسبب ولا غيره، فأي وجه لعبادة من يأفل؟
 
وكلما حقق العبد الإخلاص في قول: لا إله إلا الله، خرج من قلبه تأله ما يهواه، وتصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 24]</ref>، فلعل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين، وهؤلاء هم الذين قال فيهم: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } <ref>[الحجر: 42]</ref>، وقال الشيطان: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[ص: 82، 83]</ref>، وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}}، أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه، حرمه الله على النار».
 
فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار، فمن دخل النار من القائلين لا إله إلا الله لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل؛ ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلاة أن يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، والشيطان يأمر بالشرك والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله؛ إما خوفًا منه، وإما رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرًا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك. وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي {{صل}} أنه قال: «يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا».
 
فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الله، له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه، فصار فيه شرك منعه من الاستغفار، وأما من حقق التوحيد والاستغفار، فلابد أن يرفع عنه الشر؛فلهذا قال ذو النون: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>.
 
ولهذا يقرن الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[محمد: 19]</ref>، وقوله: { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } <ref>[هود: 2، 3]</ref>، وقوله: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } إلى قوله: { وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } <ref>[هود: 50 52]</ref>، وقوله: { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } <ref>[فصلت: 6]</ref>.
 
وخاتمة المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» إن كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه، وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له، وقد روى أيضا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين».
 
وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار، فإن صدره الشهادتان اللتان هما أصلا الدين وجماعه، فإن جميع الدين داخل في الشهادتين؛ إذ مضمونهما ألا نعبد إلا الله، وأن نطيع رسوله، والدين كله داخل في هذا في عبادة الله بطاعة الله، وطاعة رسوله، وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة الله ورسوله.
 
وقد روى أنه يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» وهذا كفارة المجلس، فقد شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء، وكذلك كان النبي {{صل}} يختم الصلاة، كما في الحديث الصحيح أنه كان يقول في آخر صلاته: «اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد؛ لأن الدعاء مأمور به في آخر الصلاة، وختم بالتوحيد ليختم الصلاة بأفضل الأمرين وهو التوحيد، بخلاف ما لم يقصد في هذا فإن تقديم التوحيد أفضل.
 
فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب، وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص، بسبب وبأشياء أخر، كما أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر الذي هو ثناء، والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال، ومع هذا فالمفضول له أمكنة، وأزمنة، وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل، لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد، وإخلاص الدين كله لله هو تحقيق قول لا إله إلا الله.
 
فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها، فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلًا لا نقدر أن نضبطه، حتى إن كثيرًا منهم يظنون أن التوحيد المفروض: هو الإقرار والتصديق بأن الله خالق كل شيء وربه، ولا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية، الذي أقر به مشركو العرب، وبين توحيد الإلهية، الذي دعاهم إليه رسول الله {{صل}}، ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي.
 
فإن المشركين ما كانوا يقولون: إن العالم خلقه اثنان، ولا أن مع الله ربًا ينفرد دونه بخلق شيء، بل كانوا كما قال الله عنهم: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } <ref>[ لقمان: 25]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } <ref>[يوسف: 106]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ّ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } <ref>[المؤمنون: 84 89]</ref>.
 
وكانوا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة أخرى، يجعلونهم شفعاء لهم إليه، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويحبونهم كحب الله.
 
والإشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال، غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار. كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، فمن أحب مخلوقًا كما يحب الخالق فهو مشرك به، قد اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله. وإن كان مقرًا بأن الله خالقه.
 
ولهذا فرق الله ورسوله بين من أحب مخلوقًا لله، وبين من أحب مخلوقًا مع الله، فالأول يكون الله هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهى حبه وعبادته لا يحب معه غيره، لكنه لما علم أن الله يحب أنبياءه وعباده الصالحين، أحبهم لأجله، وكذلك لما علم أن الله يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك، فكان حبه لما يحبه تابعًا لمحبة الله، وفرعًا عليه وداخلًا فيه.
 
بخلاف من أحب مع الله فجعله ندًا لله يرجوه ويخافه، أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة لله، ويتخذه شفيعًا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه، قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } <ref>[يونس: 81]</ref>، وقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } <ref>[التوبة: 31]</ref>، وقد قال عَدِيّ بن حاتم للنبي {{صل}}: ما عبدوهم، قال: «أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم». قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } <ref>[الشورى: 21]</ref>، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا } <ref>[الفرقان: 27 29]</ref>.
 
فالرسول وجبت طاعته؛ لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ومن سوى الرسول من العلماء، والمشايخ، والأمراء، والملوك إنما تجب طاعتهم، إذا كانت طاعتهم طاعة لله، وهم إذا أمر الله ورسوله بطاعتهم، فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } <ref>[النساء: 59]</ref>.
 
فلم يقل: وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم، بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول، وطاعة الرسول طاعة لله، وأعاد الفعل في طاعة الرسول، دون طاعة أولي الأمر، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر الله به أم لا، بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله، فليس كل من أطاعهم مطيعًا لله، بل لابد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لله، وينظر هل أمر الله به أم لا، سواء كان أولى الأمر من العلماء أو الأمراء، ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك؛وبهذا يكون الدين كله لله، قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } <ref>[ الأنفال: 39]</ref>، وقال النبي {{صل}} لما قيل له: يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
 
ثم إن كثيرًا من الناس يحب خليفة أو عالمًا أو شيخًا أو أميرًا، فيجعله ندًا لله، وإن كان قد يقول: إنه يحبه لله.
 
فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به، وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله، فقد جعله ندًا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به، وينهى عنه، ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>.
 
===التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله===
فالتوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب، ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب. أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق، فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله، وإذا أفرد لفظ التوحيد، فهو يتضمن قول القلب وعمله، والتوكل من تمام التوحيد.
 
وهذا كلفظ الإيمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وقيل: الإيمان قول وعمل، أي: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارج، ومنه قول النبي {{صل}} في الحديث المتفق عليه: «الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، ومنه قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } <ref>[الحجرات: 15]</ref>، وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } <ref>[الأنفال: 24]</ref> وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } <ref>[النور: 62]</ref>.
 
والإيمان المطلق يدخل فيه الإسلام كما في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم»؛ ولهذا قال من قال من السلف: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.
 
وأما إذا قرن لفظ الإيمان بالعمل أو بالإسلام، فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } <ref>[البينة: 7]</ref>، وهو في القرآن كثير، وكما في قول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». قال: فما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: فما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ففرق في هذا النص بين الإسلام والإيمان لما قرن بين الاسمين، وفي ذلك النص أدخل الإسلام في الإيمان لما أفرده بالذكر.
 
وكذلك لفظ العمل فإن الإسلام المذكور هو من العمل، والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة، وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله، وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته، لم يكن قد آمن قلبه.
 
والإيمان وإن تضمن التصديق، فليس هو مرادفًا له، فلا يقال لكل مصدق بشيء: أنه مؤمن به. فلو قال: أنا أصدق بأن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا، ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه، لم يقل لهذا: أنه مؤمن بذلك، بل لا يستعمل إلا فيمن أخبر بشيء من الأمور الغائبة كقول إخوة يوسف: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } <ref>[يوسف: 17]</ref>، فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالأول: يقال للمخبر، والثاني: يقال للمخبر به كما قال إخوة يوسف: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا }، وقال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } <ref>[يونس: 83]</ref>.
 
وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } <ref>[التوبة: 61]</ref>، ففرق بين إيمانه بالله وإيمانه للمؤمنين، لأن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه، وأما إيمانه بالله فهو من باب الإقرار به.
 
ومنه قوله تعالى عن فرعون وملئه: { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } <ref>[المؤمنون: 47]</ref>، أي: نقر لهما ونصدقهما. ومنه قوله: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } <ref>[البقرة: 75]</ref>، ومنه قوله تعالى: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } <ref>[العنكبوت: 26]</ref>، ومن المعني الآخر قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } <ref>[البقرة: 3]</ref>، وقوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } <ref>[البقرة: 285]</ref>، وقوله: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } <ref>[البقرة: 177]</ref>، أي: أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير.
 
والمقصود هنا أن لفظ الإيمان إنما يستعمل في بعض الأخبار، وهو مأخوذ من الأمن، كما أن الإقرار مأخوذ من قر، فالمؤمن صاحب أمن، كما أن المقر صاحب إقرار، فلابد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه، فإذا كان عالمًا بأن محمدا رسول الله، ولم يقترن بذلك حبه، وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه، فإن هذا ليس بمؤمن به، بل كافر به.
 
ومن هذا الباب: كفر إبليس، وفرعون، وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلاء، فإن إبليس لم يكذب خبرًا ولا مخبرًا، بل استكبر عن أمر ربه. وفرعون وقومه قال الله فيهم: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } <ref>[النمل: 14]</ref>، وقال له موسى: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } <ref>[الإسراء: 102]</ref>، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } <ref>[البقرة: 146]</ref>.
 
فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له لم ينفع صاحبه، بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وقد كان النبي {{صل}} يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع».
 
ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو الإيمان، وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن، فإن ذلك يدل على عدم علم قلبه، وهذا من أعظم الجهل شرعًا وعقلًا، وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلق وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الأئمة كفرهم بذلك، فإنه من المعلوم أن الإنسان يكون عالمًا بالحق ويبغضه لغرض آخر، فليس كل من كان مستكبرًا عن الحق، يكون غيرعالم به، وحينئذ فالإيمان لابد فيه من تصديق القلب وعمله، وهذا معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل.
 
ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة، فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعًا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري، فإذا أقر القلب إقرارًا تامًا، بأن محمدا رسول الله وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك ألا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزًا لخرس، ونحوه أو لخوف، ونحوه لم يكن قادرًا على النطق بهما.
 
===محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة===
وأبو طالب، وإن كان عالمًا بأن محمدا رسول الله، وهو محب له، فلم تكن محبته له لمحبته لله، بل كان يحبه؛ لأنه ابن أخيه فيحبه للقرابة، وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة، فأصل محبوبه هو الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالإقرار بهما زوال دينه الذي يحبه، فكان دينه أحب إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما فلو كان يحبه لأنه رسول الله كما كان يحبه أبو بكر الذي قال الله فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَلَسَوْفَ يَرْضَى } <ref>[الليل: 17 21]</ref>، وكما كان يحبه سائر المؤمنين به، كعمر وعثمان وعلى، وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعا فكان حبه حبا مع الله لا حبًا لله ؛ ولهذا لم يقبل الله ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لأنه لم يعمله لله، والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، بخلاف الذي فعل، ما فعل ابتغاء وجه ربه الأعلى.
 
وهذا مما يحقق أن الإيمان والتوحيد لابد فيهما من عمل القلب، كحب القلب، فلابد من إخلاص الدين لله، والدين لا يكون دينًا إلا بعمل، فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة، وقد أنزل الله عز وجل سورتي الإخلاص: { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }. إحداهما في توحيد القول والعلم، والثانية في توحيد العمل والإرادة، فقال في الأول: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } <ref>[سورة الإخلاص]</ref> فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في الثاني: { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } <ref>[ سورة الكافرون ]</ref> فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله.
 
والعبادة أصلها القصد والإرادة، والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها، كما ذكرناه في لفظ الإيمان، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } <ref>[البقرة: 21]</ref>، فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات، والتوكل من ذلك، وقد قال في موضع آخر: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقال: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>.
 
ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دلالة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران، كلفظ المعروف والمنكر فإنه قد قال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } <ref>[ آل عمران: 110]</ref>، وقال: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } <ref>[التوبة: 71]</ref>، وقال: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ } <ref>[الأعراف: 157]</ref>، فالمنكر يدخل فيه ما كرهه الله، كما يدخل في المعروف ما يحبه الله.
 
وقد قال في موضع آخر: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } <ref>[العنكبوت: 45]</ref>، فعطف المنكر على الفحشاء، ودخل في المنكر هنا البغي، وقال في موضع آخر: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } <ref>[النحل: 90]</ref>، فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي.
 
ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا قرن أحدهما بالآخر صار بينهما فرق، لكن هناك أحد الاسمين أعم من الآخر، وهنا بينهما عموم وخصوص، فمحبة الله وحده والتوكل عليه وحده، وخشية الله وحده، ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد الله تعالى، قال تعالى في المحبة: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } <ref>[التوبة: 24]</ref>، وقال تعالى: { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } <ref>[النور: 52]</ref>، فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } <ref>[التوبة: 59]</ref>، وقال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } <ref>[الشرح: 7، 8]</ref> فجعل التحسب والرغبة إلى الله وحده.
 
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا أن قول القائل: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فيه إفراد الإلهية لله وحده وذلك يتضمن التصديق لله قولًا وعملًا، فالمشركون كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء، لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى، فلا يخصونه بالإلهية، وتخصيصه بالإلهية يوجب ألا يعبد إلا إياه، وألا يسأل غيره، كما في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإن الإنسان قد يقصد سؤال الله وحده والتوكل عليه، لكن في أمور لا يحبها الله، بل يكرهها وينهى عنها، فهذا وإن كان مخلصًا له في سؤاله، والتوكل عليه، لكن ليس هو مخلصًا في عبادته وطاعته، وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب الكشوفات، والتصرفات المخالفة لأمر الله ورسوله، فإنهم يعانون على هذه الأمور.
 
وكثير منهم يستعين الله عليها، لكن لما لم تكن موافقة لأمرالله ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة، وكانت عاقبتهم عاقبة سيئة، قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } <ref>[الإسراء: 67]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } <ref>[يونس: 12]</ref>.
 
وطَائفة أخرى قد يقصدون طاعة الله ورسوله، لكن لا يحققون التوكل عليه والاستعانة به، فهؤلاء يثابون على حسن نيتهم، وعلى طاعتهم، لكنهم مخذولون فيما يقصدونه، إذ لم يحققوا الاستعانة بالله والتوكل عليه، ولهذا يبتلى الواحد من هؤلاء بالضعف والجزع تارة، وبالإعجاب أخرى، فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه، وربما حصل له جزع، فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب، وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل، قال تعالى: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } إلى قوله: { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[التوبة: 2527]</ref>.
 
وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله: { إيَّاكَ نَعْبٍُد }، والمعجب لا يحقق قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، فمن حقق قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } خرج عن الرياء، ومن حقق قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خرج عن الإعجاب، وفي الحديث المعروف: «ثلاث مهلكات: شُحٌّ مُطَاعٌ، وهوى مُتَّبَعٌ، وإعجاب المرء بنفسه».
 
وشر من هؤلاء وهؤلاء من لا تكون عبادته لله، ولا استعانته بالله، بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلاء المشركون من الوجهين.
 
ومن هؤلاء من يكون شركه بالشياطين، كأصحاب الأحوال الشيطانية، فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب والفجور، ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين، ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين، مما فيها إشراك بالله، كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع أخر، وهؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الأولياء. وإنما هو من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الأحوال الإيمانية القرآنية، والأحوال النفسانية، والأحوال الشيطانية.
 
وأما القسم الرابع: فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم لله، فلم يعبدوا إلا إياه، ولم يتوكلوا إلا عليه.
 
وقول المكروب: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الآخر فمن أتم الله عليه النعمة استحضر التوحيد في النوعين، فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه، فقد يقول: لا إله إلا الله مستشعرًا أنه لا يكشف الضر غيرك، ولا يأتي بالنعمة إلا أنت، فهذا مستحضر توحيد الربوبية، ومستحضر توحيد السؤال والطلب، والتوكل عليه، معرض عن توحيد الإلهية الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به وهو ألا يعبد إلا إياه، ولا يعبده إلا بطاعته، وطاعة رسوله، فمن استشعر هذا في قوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } كان عابدًا لله متوكلًا عليه وكان ممتثلًا قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، وقوله: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } <ref>[الشورى: 10]</ref>، وقوله: { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } <ref>[المزَّمل: 8، 9]</ref>.
 
ثم إن كان مطلوبه محرمًا أثم، وإن قضيت حاجته، وإن كان طالبًا مباحًا لغير قصد الاستعانة به على طاعة الله وعبادته لم يكن آثمًا، ولا مثابًا، وإن كان طالبًا ما يعينه على طاعة الله وعبادته لقصد الاستعانة به على ذلك، كان مثابًا مأجورًا.
 
وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه، وبين النبي الملك، فإن نبينا محمدا {{صل}} خير بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا، فإن العبد الرسول هو الذي لا يفعل إلا ما أمر به، ففعله كله عبادة لله، فهو عبد محض منفذ أمر مرسله، كما ثبت عنه في [[صحيح البخاري]] أنه قال: «إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت»، وهو لم يرد بقوله: «لا أعطي أحدًا ولا أمنع» إفراد الله بذلك قدرًا وكونًا، فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا، فلا يعطي أحدًا ولا يمنع إلا بقضاء الله وقدره، وإنما أراد إفراد الله بذلك شرعًا ودينًا، أي لا أعطي إلا من أمرت بإعطائه، ولا أمنع إلا من أمرت بمنعه، فأنا مطيع لله في إعطائي ومنعى، فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لأن الله أمره بهذه القسمة.
 
ولهذا كان المال حيث أضيف إلى الله ورسوله، فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة الله ورسوله، ليس المراد به أنه ملك للرسول، كما ظنه طائفة من الفقهاء، ولا المراد به كونه مملوكًا لله خلقًا وقدرًا، فإن جميع الأموال بهذه المثابة، وهذا كقوله: { قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } <ref>[الأنفال: 1]</ref>، وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية <ref>[الأنفال: 41]</ref>، وقوله: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } إلى قوله: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الآية <ref>[الحشر: 6، 7]</ref>، فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس.
 
فظن طائفة من الفقهاء أن الإضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه، كما يملك الناس أملاكهم. ثم قال بعضهم: إن غنائم بدر كانت ملكًا للرسول، وقال بعضهم: إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكًا للرسول، وقال بعضهم: إن الرسول إنما كان يستحق من الخمس خمسه، وقال بعض هؤلاء: وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه، وهذه الأقوال توجد في كلام طوائف من أصحاب الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وهذا غلط من وجوه:
 
منها: أن الرسول لم يكن يملك هذه الأموال كما يملك الناس أموالهم، ولا كما يتصرف الملوك في ملكهم، فإن هؤلاء وهؤلاء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات، فإما إن يكون مالكًا له، فيصرفه في أغراضه الخاصة، وإما أن يكون ملكًا له، فيصرفه في مصلحة ملكه، وهذه حال النبي الملك، كداود وسليمان، قال تعالى: { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } <ref>[ص: 39]</ref>، أي: أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، ونبينا كان عبدًا رسولًا لا يعطي إلا من أمر بإعطائه، ولا يمنع إلا من أمر بمنعه، فلم يكن يصرف الأموال إلا في عبادة الله وطاعة له.
 
ومنها: أن النبي لا يورث ولو كان ملكًا، فإن الأنبياء لايورثون، فإذا كان ملوك الأنبياء لم يكونوا ملاكا، كما يملك الناس أموالهم، فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكًا.
 
ومنها: أن النبي {{صل}} كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة، ويصرف سائر المال في طاعة الله لا يستفضله، وليست هذه حال الملاك، بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال الله ورسوله، بمعنى أن الله أمر رسوله أن يصرف ذلك المال في طاعته، فتجب طاعته في قسمه، كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وهو في ذلك مبلغ عن الله، والأموال التي كان يقسمها النبي {{صل}} على وجهين:
منها: ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث.
 
ومنها: ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه، فإن ما أمر الله به، منه ما هو محدود بالشرع، كالصلوات الخمس، وطواف الأسبوع بالبيت، ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور، فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها الله.
 
فمن هذا ما اتفق عليه الناس، ومنه ما تنازعوا فيه، كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات: هل هي مقدرة بالشرع؟ أم يرجع فيها إلى العرف، فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس؟ وجمهور الفقهاء على القول الثاني، وهو الصواب لقول النبي {{صل}} لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»، وقال أيضا في خطبته المعروفة: «للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف».
 
وكذلك تنازعوا أيضا فيما يجب من الكفارات: هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف؟
 
فما أضيف إلى الله والرسل من الأموال، كان المرجع في قسمته إلى أمر النبي {{صل}}، بخلاف ما سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي {{صل}} عام حنين: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» أي: ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس؛ ولهذا قال: «وهو مردود عليكم» بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة.
 
ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين، والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين، الذين خلفوا رسول الله {{صل}} في أمته، فيقسمونها بأمرهم، فأما أربعة الأخماس، فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم الله ورسوله كما يستفتى المستفتى، وكما كانوا في الحدود لمعرفة الأمر الشرعي، والنبي {{صل}} أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم، فقيل: إن ذلك كان من الخمس، وقيل: إنه كان من أصل الغنيمة، وعلى هذا القول فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من الأنصار بما أزال عتبه، وأراد تعويضهم عن ذلك.
 
ومن الناس من يقول: الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون، وإن للإمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
 
فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه، فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد، لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران، كما في قوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ } <ref>[الناس: 1-3]</ref>، وفي قوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، فجمع بين الاسمين: اسم الإله واسم الرب. فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده فيدبره.
 
ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه الله، والسؤال متعلقًا باسمه الرب، فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق. والإلهية هي الغاية، والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم، والمصلي إذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية، فالعبادة غاية مقصودة، والاستعانة وسيلة إليها: تلك حكمة وهذا سبب، والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال: أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك. فالعلة الغائية متقدمة في التصور والإرادة وهي متأخرة في الوجود. فالمؤمن يقصد عبادة الله ابتداء وهو يعلم أن ذلك لا يحصل إلا بإعانته فيقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
 
ولما كانت العبادة متعلقة باسمه الله تعالى جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم مثل كلمات الأذان: الله أكبر، الله أكبر. ومثل الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله. ومثل التشهد: التحيات لله، ومثل التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
 
وأما السؤال فكثيرًا ما يجيء باسم الرب، كقول آدم وحواء: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[الأعراف: 23]</ref>، وقول نوح: { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } <ref>[هود: 47]</ref>، وقول موسى: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } <ref>[القصص: 16]</ref>، وقول الخليل: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } الآية <ref>[إبراهيم: 37]</ref>، وقوله مع إسماعيل: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } <ref>[البقرة: 127]</ref>، وكذلك قول الذين قالوا: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } <ref>[البقرة: 201]</ref> ومثل هذا كثير.
 
وقد نقل عن مالك أنه قال: أكره للرجل أن يقول في دعائه: يا سيدي، يا سيدي، يا حنان، يا حنان، ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء، ربنا، ربنا. نقله عنه العتبي في العتبية. وقال تعالى عن أولى الألباب: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } <ref>[آل عمران: 191]</ref> الآيات.
 
فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال، ناسب أن يسأله باسمه الرب، وإن سأله باسمه الله؛ لتضمنه اسم الرب، كان حسنًا، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة، فاسم الله أولى بذلك، إذا بدأ بالثناء ذكر اسم الله، وإذا قصد الدعاء دعا باسم الرب؛ ولهذا قال يونس: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>، وقال آدم: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[الأعراف: 23]</ref>، فإن يونس عليه السلام ذهب مغاضبًا، وقال تعالى: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } <ref>[القلم: 48]</ref>، وقال تعالى: { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } <ref>[الصافات: 142]</ref>، ففعل ما يلام عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه، والاعتراف بأنه لا إله إلا هو، فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره فلا يطاع الهوى، فإن اتباع الهوى يضعف عبادة الله وحده، وقد روى أن يونس عليه السلام ندم على ارتفاع العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب. وفعل ما اقتضى الكلام الذي ذكره الله تعالى وأن يقال: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } وهذا الكلام يتضمن براءة ما سوى الله من الإلهية، سواء صدر ذلك عن هوى النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قال: { سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ }.
 
والعبد يقول مثل هذا الكلام فيما يظنه وهو غير مطابق، وفيما يريده وهو غير حسن.
 
وأما آدم عليه السلام فإنه اعترف أولًا بذنبه، فقال: { ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } ولم يكن عند آدم من ينازعه الإرادة لما أمر الله به، مما يزاحم الإلهية بل ظن صدق الشيطان الذي { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } <ref>[الأعراف: 21، 22]</ref>، فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره، وما أظهر من نصحه حالهما مناسبًا لقولهما: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } لما حصل من التفريط، لا لأجل هوى وحظ يزاحم الإلهية، وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية تكمل علمهما وقصدهما، حتى لا يغترا بمثل ذلك، فهما يشهدان حاجتهما إلى الله ربهما الذي لا يقضي حاجتهما غيره.
 
وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق الإلهية بما حصل من المغاضبة، وكراهة إنجاء أولئك، ففي ذلك من المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته لله، وتألهه له وأن يقول: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فإن قول العبد: لا إله إلا أنت، يمحو أن يتخذ إلهه هواه. وقد روى: «ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع». فكمل يونس صلوات الله عليه تحقيق إلهيته لله، ومحو الهوى الذي يتخذ إلهًا من دونه، فلم يبق له صلوات الله عليه وسلامه عند تحقيق قوله لا إله إلا أنت إرادة تزاحم إلهية الحق، بل كان مخلصًا لله الدين؛ إذ كان من أفضل عباد الله المخلصين.
 
وأيضا، فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له، فيبقى فيه نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره، ووساوس في حكمته ورحمته، فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين: الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة، والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعًا لما أمر الله به، فلا يكون له مع أمر الله وحكمه هوى يخالف ذلك، قال الله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } <ref>[النساء: 65]</ref>، وقد روى عنه {{صل}} أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلىّ من نفسي. قال: «الآن يا عمر»، وفي الصحيح عنه {{صل}} أنه قال: «لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين»، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } <ref>[التوبة: 24]</ref>.
 
فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله، ويسلم له، ويكون هواه تبعًا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدمًا على حب الإنسان نفسه، وماله، وأهله، فكيف في تحكيمه الله تعالى والتسليم له؟ فمن رأى قومًا يستحقون العذاب في ظنه، وقد غفر الله لهم ورحمهم، وكره هو ذلك، فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم الله، وإما عن ظن يخالف علم الله، والله علىم حكيم. وإذا علمت أنه علىم، وأنه حكيم، لم يبق لكراهية ما فعله وجه، وهذا يكون فيما أمر به، وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه، ونغضب عليه.
 
فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر، والفسوق، والعصيان، فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلاف توبته على عباده وإنجائه إياهم من العذاب، فإن هذا من مفعولاته التي لم يأمرنا أن نكرهها، بل هي مما يحبها، فإنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين. فكراهة هذا من نوع اتباع الإرادة المزاحمة للإلهية، فعلى صاحبها أن يحقق توحيد الإلهية فيقول: لا إله إلا أنت.
 
فعلىنا أن نحب ما يحب، ونرضي ما يرضى، ونأمر بما يأمر، وننهي عما ينهي، فإذا كان { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } و { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فعلىنا أن نحبهم، ولا نأله مراداتنا المخالفة لمحابه.
 
والكلام في هذا المقام مبني على أصل، وهو: أن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة؛ ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما قال تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } <ref>[البقرة: 136، 137]</ref>، وقال: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } <ref>[البقرة: 177]</ref>، وقال: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } <ref>[البقرة: 285]</ref>.
 
بخلاف غير الأنبياء، فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء، ولو كانوا أولياء لله، ولهذا من سب نبيًا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء، ومن سب غيرهم لم يقتل.
 
وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة، فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.
 
ولكن هل يصدر ما يستدركه الله، فينسخ ما يلقي الشيطان، ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك، والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» وقالوا: إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول {{صل}}، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا، وقالوا في قوله: { إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } <ref>[الحج: 52]</ref> هو حديث النفس.
 
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا هذا منقول نقلًا ثابتًا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[ الحج: 52 54 ]</ref>، فقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث، والقرآن يوافق ذلك، فإن نسخ الله لما يلقى الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل، حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرًا يسمعه الناس، لا باطنًا في النفس. والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ.
 
وهذا النوع أدل على صدق الرسول {{صل}}، وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله، وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله، وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله، ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق، وقوله الحق، وهذا كما قالت [[عائشة]] رضي الله عنها لو كان محمد كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } <ref>[الأحزاب: 37]</ref>، ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله، ولو كان خطأ، فبيان الرسول {{صل}} أن الله أحكم آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبرائته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق {{صل}} تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه كفرًا محضًا بلا ريب.
 
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا؟ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
 
والقول الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف: إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقًا، والرد على من يقول: إنه يجوز إقرارهم عليها، وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول.
 
وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع، وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبًا، ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه، ورجعوا عنه، كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورًا به ولا منهيًا عنه، فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه.
 
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله، يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه، كما قال بعض السلف: كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة. وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة: «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلًا»... إلخ.
 
وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } <ref>[البقرة: 222]</ref>، وقال تعالى: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } <ref>[الفرقان: 70]</ref>، وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها، وهو مشفق من كبارها أن تظهر، فيقول الله له: «إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: أي رب، إن لي سيئات لم أرها» إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقًا منها أن تظهر، ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل، أعظم من حاله لو لم تقع السيئات، ولا التبديل.
 
وقال طائفة من السلف، منهم سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار، ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة، وقد قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } <ref>[الأحزاب: 72، 73]</ref>، فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الله عليهم.
 
وفي الكتاب والسنة الصحيحة، والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه.
 
والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية، والقدرية، والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة، وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم.
 
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع، وهي العصمة في التبليغ، لم ينتفعوا بها، إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه، أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، والعصمة التي كانوا ادعوها، لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم، فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به، فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم، وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة، قال تعالى:
 
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } الآية <ref>[النور: 54]</ref>.
 
والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئًا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونًا بالتوبة والاستغفار، كقول آدم وزوجته: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[الأعراف: 23]</ref>، وقول نوح: { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[هود: 47]</ref>، وقول الخليل عليه السلام: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } <ref>[إبراهيم: 41]</ref>، وقوله: { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين } <ref>[الشعراء: 82]</ref>، وقول موسى: { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } <ref>[الأعراف: 155، 156]</ref>، وقوله: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } <ref>[القصص: 16]</ref>، وقوله: { فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[الأعراف: 143]</ref>، وقوله تعالى عن داود: { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } <ref>[ص: 24، 25]</ref>، وقوله تعالى عن سليمان: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } <ref>[ص: 35]</ref>.
 
وأما يوسف الصديق، فلم يذكر الله عنه ذنبًا؛ فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 24]</ref>، فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء.
 
وأما قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } <ref>[يوسف: 24]</ref>، فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد: الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}}: «إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتبت عليه، وإذا تركها لله كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة» وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف {{صل}} هم هما تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله.
 
فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } <ref>[الأعراف: 201]</ref>.
 
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًا على يده، وأمثال ذلك، فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا على الأنبياء وقدحًا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا {{صل}} حرفًا واحدًا.
 
وقوله: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } <ref>[يوسف: 53]</ref> فمن كلام امرأة العزيز، كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن، حيث قال تعالى: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ. ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[يوسف: 50 53]</ref>.
 
فهذا كله كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن، لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه، ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أي: لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته فحينئذ: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } <ref>[يوسف: 54]</ref>، وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا من كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه، وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا أن ما تضمنته قصة ذي النون مما يلام عليه كله مغفور بدله الله به حسنات، ورفع درجاته، وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع، قال تعالى: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ } <ref>[القلم: 4850]</ref>، وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال: { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } <ref>[الصافات: 241]</ref>، فأخبر أنه في تلك الحال مليم، والمليم الذي فعل ما يلام عليه، فالملام في تلك الحال لا في حال نبذه بالعراء وهو سقيم، فكانت حاله بعد قوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref> أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان، والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية، والأعمال بخواتيمها.
 
والله تعالى خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال، فلا يجوز أن يعتبر قدر الإنسان بما وقع منه قبل حال الكمال، بل الاعتبار بحال كماله، ويونس {{صل}} وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال.
 
===غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين===
ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصالحين بعد دخول الجنان، ورضا الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } <ref>[الرعد: 23، 24]</ref> فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من المخلوقين وإلا فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب.
 
ولو اعتبر ذلك لاعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم حين نفخت فيه الروح، ثم هو وليد، ثم رضيع ثم فطيم، إلى أحوال أخر، فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل، وتفضيله بها على كل صنف وجيل، وإنما فضله باعتبار المآل، عند حصول الكمال.
 
وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على الإسلام فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرًا فأسلم ليس بصواب، بل الاعتبار بالعاقبة، وأيهما كان أتقى لله في عاقبته كان أفضل. فإنه من المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على الإسلام من أولادهم وغير أولادهم، بل من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما، بل من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما ألا ينكره كما أنكره الذي عرفه.
 
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره.
 
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك؛ ولهذا يقال:
 
والضد يظهر حسنه الضد**
 
ويقال:
 
وبضدها تتبين الأشياء**
 
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لست بخب ولا يخدعني الخب، فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به.
 
وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقًا، فإن هذا ليس بمطرد، بل قد يكون الطبيب أعلم بالأمراض من المرضى، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطباء الأديان فهم أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها، وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس.
 
ولكن المراد: أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به، والنفور عنه، والمحبة للخير إذا ذاقه ما لا يحصل لبعض الناس، مثل من كان مشركًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والأقوال الفاسدة والظلمة والشر، ثم شرح الله صدره للإسلام، وعرفه محاسن الإسلام، فإنه قد يكون أرغب فيه، وأكره للكفر من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والإسلام، بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا، أو مقلد في مدح هذا وذم هذا.
 
ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده، أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده، أو ذاق الخوف ثم ذاق الأمن بعده، فإن محبة هذا ورغبته في العافية والأمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته.
وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور، ثم بين الله له الحق وتاب عليه توبة نصوحًا، ورزقه الجهاد في سبيل الله، فقد يكون بيانه لحالهم، وهجره لمساويهم، وجهاده لهم أعظم من غيره، قال نعيم بن حماد الخزاعي وكان شديدًا على الجهمية: أنا شديد عليهم، لأني كنت منهم. وقد قال الله تعالى: { لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[النحل: 110]</ref> نزلت هذه الآية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب الله عليهم، فهاجروا إلى الله ورسوله، وجاهدوا وصبروا.
 
وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما من أشد الناس على الإسلام فلما أسلما تقدما على من سبقهما إلى الإسلام، وكان بعض من سبقهما دونهما في الإيمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد للكفار والنصر لله ورسوله، وكان عمر لكونه أكمل إيمانًا وإخلاصًا وصدقًا ومعرفة وفراسة ونورًا أبعد عن هوى النفس وأعلى همة في إقامة دين الله، مقدما على سائر المسلمين، غير أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
 
وهذا وغيره مما يبين أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.
 
وما يذكر في الإسرائيليات: «أن الله قال لداود: أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود" فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعًا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا، فإن دين محمد {{صل}} في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله؛ ولهذا قال: " أنا نبي الرحمة، وأنا نبي التوبة»، وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا.
 
وقد قال تعالى في كتابه: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } <ref>[البقرة: 222]</ref> وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس. فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته، كيف يقال: إنه لا يعود لمودته { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } <ref>[البروج: 14 - 16]</ref> ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة، فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، وإن كان أنقص كان الأمر أنقص، فإن الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد.
 
وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: « يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه». ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبة ومودة، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم.
 
وقد قال تعالى: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[الممتحنة: 7]</ref>، نزلت في المشركين الذين عادوا الله ورسوله مثل أهل الأحزاب كأبي سفيان بن حرب، وأبي سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل ابن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم. فإنهم بعد معاداتهم لله ورسوله جعل الله بينهم وبين الرسول والمؤمنين مودة، وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه. وقد ثبت في الصحيح: أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت: والله يا رسول الله، ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك، وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي {{صل}} لها نحو ذلك.
 
ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لله تعالى فإن أوثق عُرَى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله. فالحب لله من كمال التوحيد، والحب مع الله شرك. قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة لله ومحبة لله ومن أحب الله أحبه الله، ومن ودَّ الله ودَّه الله، فعلم أن الله أحبهم وودهم بعد التوبة، كما أحبوه وودوه، فكيف يقال: إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة؟
 
وإن قال قائل: أولئك كانوا كفارًا، لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم، بل كانوا جهالًا، بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه.
 
قيل: الجواب من وجهين:
 
أحدهما: أنه ليس الأمر كذلك، بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدا رسول الله، ويعادونه حسدًا وكبرًا، وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي {{صل}} ما لم يسمع غيره، كما سمع من أمية بن أبي الصلت، وما سمعه من هرقل ملك الروم، وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنًا أن أمر النبي {{صل}} سيظهر حتى أدخل الله عليه الإسلام، وهو كاره له، وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلامه ومحبته لله ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة.
 
وقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } <ref>[ الفرقان: 6870]</ref> فإذا كان الله يبدل سيئاتهم حسنات، فالحسنات توجب مودة الله لهم، وتبديل السيئات حسنات ليس مختصًا بمن كان كافرًا، وقد قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } <ref>[النساء: 17]</ref> قال أبو العالية: سألت أصحاب رسول الله {{صل}} عن هذه الآية فقالوا لي: كل من عصي الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.
 
الوجه الثاني: أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة الله تعالى للتائبين فرق لا أصل له، بل الكتاب والسنة يدل على أن الله يحب التوابين، ويفرح بتوبة التائبين، سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك.
 
ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلابد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود، فإذا كان يبغض الحق فلابد أن يحبه، وإذا كان يحب الباطل فلابد أن يبغضه، فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به، ومن بغض الباطل واجتنابه هو من الأمور التي يحبها الله تعالى ويرضاها، ومحبة الله كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه، فكل من كان أعظم فعلًا لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له، وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل، وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق، فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه، بل يبدل الله سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الله سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل. وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الله منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت مودة الله له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال: الود لا يعود.
 
وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول: إن الله لا يبعث نبيًا إلا من كان معصومًا قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال: إنه لا يبعث نبيًا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصًا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم. فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصًا فهو غالط غلطًا عظيمًا، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلًا، لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله.
 
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها، لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنًا قليلًا كفر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون {{صل}}، هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا.
 
===التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها===
والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر الله عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى، وقد قال تعالى: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } <ref>[العنكبوت: 26]</ref>. فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام ثم أرسله الله تعالى إلى قوم لوط. وقد قال تعالى في قصة شعيب: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ. قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } <ref>[الأعراف: 88، 89]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } <ref>[إبراهيم: 13، 14]</ref>.
 
وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولابد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين. كما قال تعالى: { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } <ref>[الأحزاب: 73]</ref>.
 
وقد أخبر الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد {{صل}} وآخر ما نزل عليه أو من آخر ما نزل عليه قوله تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. ففَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } <ref>[سورة النصر]</ref>، وفي الصحيحين عن [[عائشة]] رضي الله عنها أن النبي {{صل}} كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن».
 
وقد أنزل الله عليه قبل ذلك: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } <ref>[التوبة: 117]</ref>، وفي [[صحيح البخاري]] عن النبي {{صل}} أنه كان يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، وفي [[صحيح مسلم]] عن الأغر المزني عن النبي {{صل}} أنه قال: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»، وفي السنن عن [[ابن عمر]] أنه قال: كنا نعد لرسول الله {{صل}} في المجلس الواحد يقول: «رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور» مائة مرة.
 
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي {{صل}} أنه كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير»، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: «أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد».
 
وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع، وفي صحيح مسلم عن على رضى الله عنه عن النبي {{صل}} أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت»، وفي صحيح مسلم عن النبي {{صل}} أنه كان يقول في سجوده: «اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره».
 
وفي السنن عن على، أن النبي {{صل}} أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد الله وقال: « { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }» <ref>[الزخرف: 13، 14]</ref> ثم كبره وحمده ثم قال: «سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، ثم ضحك ! وقال: «إن الرب يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا».
 
وقد قال تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[محمد: 19]</ref>، وقال: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } <ref>[الفتح: 1، 2]</ref>، وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة: «أن المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، وفي الصحيح أن النبي {{صل}} كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورا».
 
ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة.
 
لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب. وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه. كتأويلهم قوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } <ref>[الفتح: 2]</ref> المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه:
 
أحدها: أن آدم قد تاب الله عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلًا عن عام الحديبية الذي أنزل الله فيه هذه السورة، قال تعالى: { ِوَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } <ref>[طه: 121، 122]</ref>، وقال: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } <ref>[البقرة: 37]</ref>، وقد ذكر أنه قال: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[الأعراف: 23]</ref>.
 
والثاني: أن يقال: فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضا، ومن قال: إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما.
 
الوجه الثالث: أن الله لا يجعل الذنب ذنبًا لمن لم يفعله فإنه هو القائل: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } <ref>[ الإسراء: 15]</ref>. فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد {{صل}} ذنب آدم {{صل}} أو أمته أو غيرهما. وقد قال تعالى: { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } <ref>[النور: 54]</ref> وقال تعالى: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } <ref>[النساء: 84]</ref>، ولو جاز هذا لجاز أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم، ويقال: إن قوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } <ref>[الفتح: 2]</ref> المراد: ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك، فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم، وهو سيد ولد آدم، وقال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة. أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا» وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد، بل تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبًا له. فإن قال: إن الله لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل: وهو أيضا لم يغفر ذنوب جميع أمته.
 
الوجه الرابع: أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[محمد: 19]</ref> فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبًا له.
 
الوجه الخامس: أنه ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الله هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } <ref>[الفتح: 4]</ref> فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مختص به دون أمته.
 
الوجه السادس: أن الله لم يغفر ذنوب جميع أمته، بل قد ثبت أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وقد قال الله تعالى: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } <ref>[النساء: 123]</ref> والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل. فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول، لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب.
 
===فصل في موجبات المغفرة===
وأما قول السائل: هل الاعتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها، أم يحتاج إلى شيء آخر؟
 
فجوابه: أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها، فإن الشرك لا يغفره الله إلا بتوبة، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } <ref>[النساء: 48، 116]</ref> في موضعين من القرآن، وما دون الشرك فهو مع التوبة مغفور، وبدون التوبة معلق بالمشيئة كما قال تعالى: { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } <ref>[الزمر: 53]</ref> فهذا في حق التائبين؛ ولهذا عمم وأطلق، وحتم أنه يغفر الذنوب جميعًا، وقال في تلك الآية: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك لا يغفر إلا بتوبة، وأما ما دونه فيغفره الله للتائب، وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء.
 
فالاعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنًا للتوبة أوجب المغفرة، وإذا غفر الذنب زالت عقوبته، فإن المغفرة هي وقاية شر الذنب.
 
ومن الناس من يقول: الغفر الستر، ويقول: إنما سمي المغفرة والغفار؛ لما فيه من معنى الستر، وتفسير اسم الله الغفار بأنه الستار. وهذا تقصير في معنى الغفر، فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث لا يعاقب على الذنب، فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه. وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن، ومن عوقب على الذنب باطنًا أو ظاهرًا فلم يغفر له، وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب.
 
وأما إذا ابتلى مع ذلك بما يكون سببًا في حقه لزيادة أجره فهذا لا ينافى المغفرة.
 
وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها، فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة، وقد يظن الظان أنه تائب ولا يكون تائبًا بل يكون تاركًا، والتارك غير التائب، فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى لعجزه عنه، أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني، وهذا ليس بتوبة، بل لابد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي الله عنه ويدعه لله تعالى، لا لرغبة مخلوق ولا لرهبة مخلوق، فإن التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها يشترك فيها الإخلاص لله وموافقة أمره، كما قال الفضيل بن عياض في قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } <ref>[الملك: 2]</ref> قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
 
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
 
وبسط الكلام في التوبة له موضع آخر.
 
وأما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع لله من غير إقلاع عنه فهذا في نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه، وهو كالذي يسأل الله تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه، وهذا يأس من رحمة الله، ولا يقطع بالمغفرة له فإنه داع دعوة مجردة. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها». قالوا: يا رسول الله، إذًا نكثر قال: «الله أكثر». فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة، وإذا لم تحصل فلابد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر، فهو نافع كما ينفع كل دعاء.
 
وقول من قال من العلماء: الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين، فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو يدعي أن استغفاره توبة، وأنه تائب بهذا الاستغفار فلا ريب أنه مع الإصرار لا يكون تائبًا، فإن التوبة والإصرار ضدان: الإصرار يضاد التوبة، لكن لا يضاد الاستغفار بدون التوبة.
 
===هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة===
وقول القائل: هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لابد من استحضار جميع الذنوب؟
 
فجواب هذا مبني على أصول:
 
أحدها: أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضى للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضى للتوبة من الآخر، أو كان المانع من أحدهما أشد، وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف.
 
وذهب طائفة من أهل الكلام كأبي هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على الآخر، قالوا: لأن الباعث على التوبة إن لم يكن من خشية الله لم يكن توبة صحيحة، والخشية مانعة من جميع الذنوب لا من بعضها، وحكى القاضي أبو يعلى وابن عقيل هذا رواية عن أحمد؛ لأن المروزي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال: لو مرضت لم أعد لكن لا يدع النظر، فقال أحمد: أي توبة هذه؟ قال جرير بن عبد الله: سألت رسول الله {{صل}} عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك».
 
والمعروف عن أحمد وسائر الأئمة هو القول بصحة التوبة، وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة يحصل بسببها من التائبين توبة مطلقًا، لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر، فإن نصوصه المتواترة عنه وأقواله الثابتة تنافي ذلك، وحمل كلام الإمام على ما يصدق بعضه بعضًا أولى من حمله على التناقض، لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعًا لم يعرف عن أحد من السلف، وأحمد يقول: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكان في المحنة يقول: كيف أقول ما لم يُقَل؟ واتباع أحمد للسنة والآثار وقوة رغبته في ذلك، وكراهته لخلافه من الأمور المتواترة عنه يعرفها من يعرف حاله من الخاصة والعامة.
 
وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم. فجوابه أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الآخر، وإنما يتوب مما يعلم قبحه.
 
وأيضا، فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الآخر فيتوب من هذا دون ذاك، كمن أدى بعض الواجبات دون بعض، فإن ذلك يقبل منه.
 
ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في الاسم، فقالوا: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها، وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه الله ثم يثيبه؛ ولهذا يقولون بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة.
 
وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة، فعلى أن أهل الكبائر يخرجون من النار ويشفع فيهم، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات، ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك، وإن كان مستحقًا للعقوبة على كبيرته.
 
وكتاب الله عز وجل يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضًا، وبين حكم الكفار في الأسماء، والأحكام. والسنة المتواترة عن النبي {{صل}} وإجماع الصحابة يدل على ذلك، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
 
وعلى هذا تنازع الناس في قوله: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } <ref>[المائدة: 27]</ref> فعلى قول الخوارج والمعتزلة لا تقبل حسنة إلا ممن اتقاه مطلقًا فلم يأت كبيرة، وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك، فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم المتقين وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصًا لله موافقًا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه، وإن كان عاصيًا في غيره. ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعًا في غيره.
 
والتوبة من بعض الذنوب دون بعض، كفعل بعض الحسنات المأمور بها دون بعض، إذا لم يكن المتروك شرطًا في صحة المفعول، كالإيمان المشروط في غيره من الأعمال، كما قال الله تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } <ref>[الإسراء: 19]</ref>، وقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } <ref>[النحل: 79]</ref>، وقال: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } <ref>[البقرة: 217]</ref>.
 
الأصل الثاني: أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضى مغفرة ما تاب منه، أما ما لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب، لا على حكم من تاب، وما علمت في هذا نزاعًا إلا في الكافر إذا أسلم، فإن إسلامه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه، وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام؟ هذا فيه قولان معروفان:
 
أحدهما: يغفر له الجميع، لإطلاق قوله {{صل}}: «الإسلام يهدم ما كان قبله» رواه مسلم. مع قوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } <ref>[الأنفال: 38]</ref>.
 
والقول الثاني: أنه لا يستحق أن يغفر له بالإسلام إلا ما تاب منه، فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأصول والنصوص، فإن في الصحيحين أن النبي {{صل}} قال له حكيم بن حزام: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: «من أحسن منكم في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» فقد دل هذا النص على أنه إنما ترفع المؤاخذة بالأعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن لا عمن لا يحسن، وإن لم يحسن أخذ بالأول والآخر، ومن لم يتب منها فلم يحسن.
 
وقوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } <ref>[الأنفال: 38]</ref> يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما قد سلف منه، لا يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما سلف من غيره؛ وذلك لأن قول القائل لغيره: إن انتهيت غفرت لك ما تقدم، ونحو ذلك يفهم منه عند الإطلاق أنك إن انتهيت عن هذا الأمر غفر لك ما تقدم منه، وإذا انتهيت عن شيء غفر لك ما تقدم منه، كما يفهم مثل ذلك في قوله: «إن تبت»، لا يفهم منه أنك بالانتهاء عن ذنب يغفر لك ما تقدم من غيره.
 
وأما قول النبي {{صل}}: «الإسلام يهدم ما قبله» وفي رواية: «يجب ما كان قبله» فهذا قاله لما أسلم عمرو بن العاص وطلب أن يغفر له ما تقدم من ذنبه. فقال له: «يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها». ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه، لا توجب التوبة غفران جميع الذنوب.
 
الأصل الثالث: أن الإنسان قد يستحضر ذنوبًا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه، لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبًا؛ لأن التوبة العامة تتضمن عزمًا عامًا بفعل المأمور وترك المحظور، وكذلك تتضمن ندمًا عامًا على كل محظور.
 
والندم سواء قيل: إنه من باب الاعتقادات، أو من باب الإرادات، أو قيل: إنه من باب الآلام التي تلحق النفس بسبب فعل ما يضرها، فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره، حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات، وهذا من باب الاعتقادات، وكراهية لما كان فعله، وهو من جنس الإرادات، وحصل له أذى وغم لما كان فعله، وهذا من باب الآلام، كالغموم والأحزان، كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب الاعتقادات والإرادات.
 
ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم: إن اللذة هي إدراك الملائم من حيث هو ملائم، وأن الألم هو إدراك المنافر من حيث هو منافر فقد غلط في ذلك. فإن اللذة والألم حالان يتعقبان إدراك الملائم والمنافر فإن الحب لما يلائمه، كالطعام المشتهى مثلًا له ثلاثة أحوال:
 
أحدها: الحب، كالشهوة للطعام.
 
والثاني: إدراك المحبوب، كأكل الطعام.
 
والثالث: اللذة الحاصلة بذلك، واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي، بل هي حاصلة لذوق المشتهي، ليست نفس ذوق المشتهي.
 
وكذلك المكروه، كالضرب مثلا. فإن كراهته شيء، وحصوله شيء آخر، والألم الحاصل به ثالث.
 
وكذلك ما للعارفين أهل محبة الله من النعيم والسرور بذلك، فإن حبهم لله شيء، ثم ما يحصل من ذكر المحبوب شيء، ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث، ولا ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب، كما أن الشهوة مشروطة بشعور المشتهي، لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة، فهذا الثاني يسمى إدراكًا وذوقًا ونيلًا ووجدًا ووصالا، ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب، سواء كان بالباطن أو الظاهر، ثم هذا الذوق يستلزم اللذة، واللذة أمر يحسه الحي باطنًا وظاهرًا.
 
وقد قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد {{صل}} نبيًا»، وفي الصحيحين عنه {{صل}} أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إلىه من سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار».
 
فبين {{صل}} أن ذَوْقَ طعم الإيمان لمن رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وأن وَجْدَ حلاوة الإيمان حاصل لمن كان حبه لله ورسوله أشد من حبه لغيرهما، ومن كان يحب شخصًا لله لا لغيره، ومن كان يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يلقي في النار، فهذا الحب للإيمان، والكراهية للكفر استلزم حلاوة الإيمان، كما استلزم الرضا المتقدم ذوق طعم الإيمان، وهذا هو اللذة، وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب، ولا نفس الحب الحاصل في القلب، بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولازم له، وهي أمور متلازمة، فلا توجد اللذة إلا بحب وذوق، وإلا فمن أحب شيئًا ولم يذق منه شيئًا لم يجد لذة، كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيئًا، ولو ذاق ما لا يحبه لم يجد لذة، كمن ذاق ما لا يريده، فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك.
 
وإن حصل بغضه وذوق البغيض حصل الألم، فالذي يبغض الذنب ولا يفعله لا يندم، والذي لا يبغضه لا يندم على فعله، فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه. وفي المسند عن [[ابن مسعود]] عن النبي {{صل}} أنه قال: «الندم توبة».
 
إذا تبين هذا، فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه؛ لقوة إرادته إياه أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح، فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة، وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته.
 
وأما التوبة المطلقة، وهي أن يتوب توبة مجملة، ولا تستلزم التوبة من كل ذنب، فهذه لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق، لكن هذه تصلح أن تكون سببًا لغفرانه المعين، كما تصلح أن تكون سببًا لغفران الجميع، بخلاف العامة فإنها مقتضية للغفران العام، كما تناولت الذنوب تناولا عامًا.
 
وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها، أو بعض الظلم باللسان أو اليد، وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب لله عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضررًا عليه مما فعله من بعض الفواحش، فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقًا أعظم نفعًا من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة، كحب الله ورسوله، فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح أنه كان على عهد النبي {{صل}} رجل يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي {{صل}} جلده الحد، فلما كثر ذلك منه أتى به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي {{صل}}: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله».
 
فنهي عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه {{صل}} لعن في الخمرعشرة: «لعن الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها».
 
ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له.
 
وكذلك التكفير المطلق، والوعيد المطلق. ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط وانتفاء موانع، فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته، ولا يلحق المشفوع له، والمغفور له، فإن الذنوب تزول عقوبتها التي هي جهنم بأسباب التوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة لكنها من عقوبات الدنيا وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة، وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة، وتزول أيضا بدعاء المؤمنين: كالصلاة عليه وشفاعة الشفيع المطاع، كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد {{صل}} تسليمًا.
 
وحينئذ، فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه، وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها، فالشدة إذا حصلت بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه، بخلاف ما لم يتب منه، بخلاف صاحب التوبة العامة.
 
والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك، فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال، لأنه دائمًا يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور؛ فعليه أن يتوب دائمًا، والله أعلم.
 
===ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق===
وأما قول السائل: ما السبب في أن الفَرَجَ يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عن التعلق بهم وتعلقه بالله؟
 
فيقال: سبب هذا تحقيق التوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية.
 
فتوحيد الربوبية: أنه لا خالق إلا الله، فلا يستقل شيء سواه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما سواه إذا قدر سببًا فلابد له من شريك معاون وضد معوق، فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من الأمور طلب منه ما لا يستقل به ولا يقدر وحده عليه، حتى ما يطلب من العبد من الأفعال الاختيارية لا يفعلها إلا بإعانة الله له، كأن يجعله فاعلًا لها بما يخلقه فيه من الإرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة، وعند وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المقدور.
 
فمشيئة الله وحده مستلزمة لكل ما يريده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما سواه لا تستلزم إرادته شيئًا، بل ما أراده لا يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده، ونفس إرادته لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى. كما قال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } <ref>[التكوير: 28، 29]</ref>، وقال تعالى: { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } <ref>[الإنسان: 2931]</ref>، وقال: { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } <ref>[المدثر: 55، 56]</ref>.
 
والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه، ثم هذا من الشرك الذي لا يغفره الله، فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد، ثم إن وحَّدَه العبد توحيد الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة.
 
وإن كان ممن قيل فيه: { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } <ref>[يونس: 12]</ref>، وفي قوله: { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } <ref>[الإسراء: 67]</ref> كان ما حصل له من وحدانيته حجة عليه.
 
كما احتج سبحانه على المشركين الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون ولا يعبدونه وحده لا شريك له، قال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } <ref>[المؤمنون: 84 89]</ref>، وقال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ } <ref>[العنكبوت: 61]</ref> وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع.
 
فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن.
 
وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: يا بن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك. وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضى انصرفت. وفي بعض الإسرائيليات يا بن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك.
 
وهذا المعنى كثير، وهو موجود مذوق محسوس بالحس الباطن للمؤمن، وما من مؤمن إلا وقد وجد من ذلك ما يعرف به ما ذكرناه، فإن ذلك من باب الذوق والحس لا يعرفه إلا من كان له ذوق وحس بذلك.
 
ولفظ الذوق وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص بذوق اللسان، فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك مستعمل في الإحساس بالملائم والمنافر، كما أن لفظ الإحساس في عرف الاستعمال عام فيما يحس بالحواس الخمس، بل وبالباطن.
 
وأما في اللغة فأصله الرؤية كما قال: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } <ref>[مريم: 98]</ref>.
 
والمقصود لفظ الذوق قال تعالى: { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } <ref>[النحل: 112]</ref> فجعل الخوف والجوع مذوقًا، وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللابس، بخلاف من كان الألم لا يستوعب مشاعره بل يختص ببعض المواضع، وقال تعالى: { إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ } <ref>[الصافات: 38]</ref>، وقال تعالى: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } <ref>[الدخان: 49 ]</ref>، وقال تعالى: { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } <ref>[القمر: 48]</ref>، وقال: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ } <ref>[الدخان: 56]</ref>، وقال تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا. إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } <ref>[النبأ: 24، 25]</ref>، وقال: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } <ref>[السجدة: 21]</ref>، وقد قال النبي {{صل}}: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا».
 
فاستعمال لفظ الذوق في إدراك الملائم والمنافر كثير. وقال النبي {{صل}}: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان» كما تقدم ذكر الحديث. فوجود المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه وذوق طعم الإيمان أمر يعرفه من حصل له هذا الوجد.
 
وهذا الذوق، أصحابه فيه يتفاوتون، فالذي يحصل لأهل الإيمان عند تجريد توحيد قلوبهم إلى الله وإقبالهم عليه دون ما سواه بحيث يكونون حنفاء له مخلصين له الدين، لا يحبون شيئًا إلا له، ولا يتوكلون إلا عليه، ولا يوالون إلا فيه، ولا يعادون إلا له، ولا يسألون إلا إياه، ولا يرجون إلا إياه، ولا يخافون إلا إياه، يعبدونه ويستعينون له وبه، بحيث يكونون عند الحق بلا خلق، وعند الخلق بلا هوى، قد فنيت عنهم إرادة ما سواه بإرادته، ومحبة ما سواه بمحبته، وخوف ما سواه بخوفه، ورجاء ما سواه برجائه، ودعاء ما سواه بدعائه، هو أمر لا يعرفه بالذوق والوجد إلا من له نصيب، وما من مؤمن إلا له منه نصيب.
 
وهذا هو حقيقة الإسلام الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه. والله سبحانه أعلم.
 
قال شيخُ الإِسْلام رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
 
===فصل في تفسير الفناء الصوفي===
الفناء الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور:
 
أحدها: فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب، والتوكل عليه وعبادته، وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو في الحقيقة عبادة القلب، وتوكله، واستعانته، وتألهه وإنابته، وتوجهه إلى الله وحده لا شريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال. وليس لأحد خروج عن هذا.
 
وهذا هو القلب السليم الذي قال الله فيه: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } <ref>[الشعراء: 89]</ref> وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة، وما يتبع ذلك.
 
وهذا الفناء لا ينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيًا عن إرادة ما سواه، وإن كان شاعرًا بالله وبالسوى، وترجمته قول: لا إله إلا الله، وكان النبي {{صل}} يقول: »لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن» وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره.
 
الأمر الثاني: فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهادة، ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرًا العبادة، آمرًا بشرائعه، أكمل من شهود وجوده، أو صفة من صفاته، أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك.
 
ولهذا كان الصحابة أكمل شهودًا من أن ينقصهم شهود للحق مجملًا عن شهوده مفصلًا، ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة. كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح والاضطراب، وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه، وعن شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، حتى اختلفوا في إمكان ذلك، وكثير منهم يرى أنه لا يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو الأمر اشتغل عن الخالق الآمر. وإذا عورض بالنبي {{صل}} وخلفائه ادعى الاختصاص، أو أعرض عن الجواب أو تحير في الأمر.
 
وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلاء: إنه لا يمكن حين تجلى الحق سماع كلامه، ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع الأمرين. قال: نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات، والصواب مع شهاب الدين. فإنه كان صحيح الاعتقاد في امتياز الرب عن العبد. وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على الممكنات، ومعلوم أن شهود هذا لا يقع فيه خطاب، وإنما الخطاب في مقام العقل.
 
وفي هذا الفناء قد يقول: أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، إذا فنى بمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه. كما يحكون أن رجلًا كان مستغرقًا في محبة آخر، فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني.
 
وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود حلاوة الإيمان، كما يحصل بسكر الخمر، وسكر عشيق الصور. وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء، كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ، كقول بعضهم: أنصب خيمتي على جهنم، ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع، وقد يكون صاحبها غير مأثوم، وإن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو ومن يعين كافرًا أو ظالمًا بحال ويزعم أنه مغلوب عليه. ويحكم على هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة بخلاف ما إذا كان سبب زوال العقل والغلبة أمرًا محرمًا.
 
وهذا كما قلنا في عقلاء المجانين والمولهين، الذين صار ذلك لهم مقامًا دائمًا، كما أنه يعرض لهؤلاء في بعض الأوقات، كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيئًا من الواجبات: إن كان زواله بسبب غير محرم مثل الإغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيئًا يزيل عقله فلا إثم عليه، وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الأحوال المحرمة أثم بترك الواجب، وكذلك الأمر في فعل المحرم.
 
وكما أنه لا جناح عليهم فلا يجوز الاقتداء بهم ولا حمل كلامهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل والمجنون في التكاليف الظاهرة، وقال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولًا وأحوالًا فسلب عقولهم وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب.
 
ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك، وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق، كما قال الله تعالى فيما روى عنه رسوله: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي" وفي رواية: "وبي ينطق، وبي يعقل». فإذا سمع بالحق ورأى به سمع الأمر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه.
 
وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ الإسلام ومن قبله من الفناء هو هذا، مع أنه قد يغلط بعضهم في بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع.
 
وفي الجملة، فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية، وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛ ولهذا يقع كثير من هؤلاء في نوع ضلال؛ لأن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود. وهو وصف نقص لا وصف كمال، وإنما يمدح من جهة عدم إرادة ما سواه؛ لأن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به.
 
ولهذا غالب عباد العيسوية في عدم العلم بالسوي، وإرادته والفتنة به، ويوصفون بسلامة القلوب. وغالب علماء الموسوية في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به، ويوصفون بالعلم، لكن الأولون موصوفون بالجهل والعدل. والآخرون موصوفون بالظلم... وكلاهما صحيح.
 
فأما العلم بالحق والخلق، وإرادة الله وحده لا شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والإرادة، وسلامة القلب المحمودة، هي سلامة... إذ الجهل لا يكون بنفسه صفة مدح. إلا أنه قد يمدح لسلامته به عن الشرور، فإن أكثر النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها.
 
الثالث: فناء عن وجود السوى: بمعنى أنه يرى أن الله هو الوجود، وأنه لا وجود لسواه، لا به ولا بغيره، وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين الموجودات وحقيقة الكائنات، وأنه لا وجود لغيره، لا بمعنى أن قيام الأشياء به ووجودها به، كما قال النبي {{صل}}: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
 
ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
 
وكما قيل في قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } <ref>[القصص: 88]</ref> فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح، لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات، فهذا كفر وضلال. ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلام بعض المشايخ، كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح، ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد. فتدبر هذا التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم.
 
===فصل في تفسير الفناء الصوفي===
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلام قدس الله روحه:
 
الأمر والنهي، الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائمًا والصوم، وغير ذلك على من يعجز عنه.
 
سواء قيل: يجوز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فإنه لا خلاف أن تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في الشريعة، بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم، والقدرة تخفيفًا عنه، وضبطًا لمناط التكليف، وإن كان تكليفه ممكنًا، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه، ولأن العقل يظهر في الناس شيئًا فشيئًا، وهم يختلفون فيه، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ.
 
وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زادًا وراحلة عند جمهور العلماء، مع إمكان المشي لما فيه من المشقة، وكما لا يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفًا عليه، وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض وتأخر البرء، وإن كان فعلها ممكنًا.
 
لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع، فقد يوجب الله في شريعة ما يشق، ويحرم ما يشق تحريمه، كالآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وقد يخفف في شريعة أخرى، كما قال المؤمنون: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } <ref>[البقرة: 286]</ref>، وكما قال الله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>، وقال: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } <ref>[المائدة: 6]</ref>، وقال: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } <ref>[الحج: 78]</ref>، وقال: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } <ref>[النساء: 28]</ref>.
 
وقال النبي {{صل}} لأصحابه في قصة الأعرابي: «إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»، وقال لمعاذ وأبي موسى: «يسرا ولا تعسرا»، وقال: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، وقال: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن أقوامًا شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم»، وقال: «لا رهبانية في الإسلام»، وقال: «لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، وقال: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته»، وروى عنه أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة».
 
وأما كون الإنسان مريدًا لما أمر به، أو كارهًا له، فهذا لا تلتفت إليه الشرائع، بل ولا أمر عاقل، بل الإنسان مأمور بمخالفة هواه.
 
والإرادة: هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار، كما قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } <ref>[الإسراء: 18، 19]</ref>، وقال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } <ref>[القصص: 83]</ref>، وقال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } الآية <ref>[هود: 15]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } <ref>[الأنعام: 52]</ref>، ونظائره كثيرة.
 
فإن هذه الأصول ممهدة في الكتاب والسنة، وكلام العلماء والعارفين، وليس الغرض هنا تقريرها.
 
وإنما الغرض شيء آخر، وهو أنه إذا كان التكليف مشروطًا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل، وبالقدرة على الفعل فنقول: كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة، وبأسباب غير محظورة، فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج ونحوهما لم يزل عنه بذلك، أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات، إذا كان السكر يقتضي ذلك، بخلاف ما إذا زال بسبب غير محرم، كالإغماء لمرض، أو خوف، أو سكر بشرب غير محرم، مثل أن يجرع الخمر مكرهًا، فإن هذا لا إثم عليه.
 
وأما قضاء الصلاة عليه عند أحمد، وعند من يقول: يقضي صلاة يوم وليلة، فذاك نظير وجوب قضائها على النائم والناسي، ولا إثم عليهما، كما قال النبي {{صل}}: «ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط في اليقظة»، وقال: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك».
 
وكذلك قدرة العبد، فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه، حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته، وكذلك في استحلال المحرمات، قال الله تعالى: { فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } <ref>[البقرة: 173]</ref>. فالضرورة بسبب محظور لا تستباح بها المحرمات، بخلاف الضرورة التي هي بسبب غير محظور.
 
وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي، وأحمد أنه لا يترخص.
 
فالأحوال التي ترد على العباد، وأهل المعرفة والزهاد، ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه، حتى تجعله كالمجنون والموله والسكران والنائم، أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز، أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه القول والفعل بغير إرادته واختياره، فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات، وقد يوجب وقوعه في محرمات.
 
فهؤلاء يقال فيهم: إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم، فلا حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات، ويفعلونه من المحرمات، ولا يجوز أيضا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم، ولا نذمهم على ذلك، بل قد يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من الأقوال والأعمال، ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع، كما يقال في المجتهد المخطئ سواء، بل المجتهد المخطئ نوع من هذا الجنس، حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم.
 
وإن كان زوال ذلك بسبب محرم، استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم.
 
مثال الأول: من يسمع القرآن على الوجه المشروع، فهاج له وجد يحبه، أو مخافة أو رجاء، فضعف عن حمله حتى مات، أو صعق، أو صاح صياحًا عظيمًا، أو اضطرب اضطرابًا كثيرًا، فتولد عن ذلك ترك صلاة واجبة، أو تعدي على بعض الناس، فإن هذا معذور في ذلك، فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلاء المجانين المولهين، الذين حصل لهم الجنون، مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة، إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم، وإما لضعف قلوبهم عن حمله، وإما لانحراف أمزجتهم وقوة الخلط، وإما لعارض من الجن، فإن هؤلاء كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي، حيث سئل عنهم، فقال: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
 
ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجودًا في التابعين ومن بعدهم، لا سيما في عباد البصريين، فإن فيهم من مات من سماع القرآن، كزرارة بن أوفى، وأبي جهير الضرير وغيرهما.
 
وأما الصحابة، فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق، ومن هؤلاء أيضا من غلب عليه الذكر لله، والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه، كما يحصل لبعض العاشقين في غيبته بمعشوقه عما سواه، فيقول أحدهم في هذه الحال. أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله. ومنهم من غلب عليه حال الرجاء والرحمة، حتى قال: أبسط سجادتي على جهنم. فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون كالسكران أو الموله، وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعًا: فلا إثم عليه.
 
ومثال الثاني: ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع، فإنه قد ينشد أشعارًا فيها ما يخالف الشرع بأصوات مخالفة للشرع، ويكون الإنسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلاطًا، وزوال عقل، حتى يقتل بعضهم بعضًا، إما ظاهرًا وإما باطنًا بالهمة والقلوب، ويوجب أيضا من ترك واجبات الشريعة، ومن الاعتداء على المؤمنين في الدين والدنيا ما الله به عليم.
 
وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في الاعتقادات والأعمال فتورثه تلك العبادات والأعمال أحوالًا قوية قاهرة، يترك بها الواجبات، ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار، إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس والأموال.
 
وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه، وعقله قال: كنت مغلوبًا، وورد علي وارد فعل بي هذا، والحكم للوارد، وهذه حال كثير من خفراء العدو، وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة، ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الأحوال، ويقول: إنه مغلوب في ذلك، وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك، وأنه خوطب بذلك الفعل.
 
فيقال: أما زوال عقلك حتى صرت لا تفهم أمر الله ونهيه، وزوال قدرتك حتى صرت مضطرًا إلى تلك الأفعال، وإن كنت صادقًا في ذلك، فسببه تفريطك وعدوانك أولًا، حتى صرت في حال المجانين والسكارى، فأنت بمنزلة شارب الخمر الذي سكر منها، والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الأفاعيل؛ إذ لا فرق بين سكر الأصوات والصور والشراب، فإن هذا سكر الأجسام، وهذا سكر النفوس، وهذا سكر الأرواح، فإذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا في دين الإسلام.
 
ولهذا إنما تقع هذه الأحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر، كما يفعله النصارى في الشراب والأصوات والصور؛ ولهذا كان هؤلاء في عالم الضلال.
 
وأما قولك: إنك خوطبت بذلك، وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟
 
فالأولى مثل قوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } <ref>[النحل: 90]</ref> وقوله: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ } <ref>[الجمعة: 2]</ref>، وقوله: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } <ref>[الحديد: 25]</ref>.
 
والثانية مثل قوله: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } <ref>[الإسراء: 16]</ref>، وقوله: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } <ref>[الإسراء: 5]</ref>، وقوله: { أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ } <ref>[مريم: 83]</ref> فإن ذكرت أنه من الجهة الأولى، فباطل، بخلاف الكتاب والسنة.
 
وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح، لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود، وسائر من أطاع الأوامر الكونية، وتبع الإرادة القدرية، وأعرض عن الأوامر الشرعية، ولم يقف عند الإرادة الدينية.
 
فتدبر هذا الأصل فإنه عظيم نافع جدا، فتنكشف به الأحوال المخالفة للشرع، وانقسام أهلها إلى معذور وموزور، كانقسامها إلى مسطور على صاحبه، ومغفور، بمنزلة الأحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من العقل والصحو، ومن الإغماء والسكر والجنون ومن الاضطرار والاختيار، فإن أحوال الملوك والأمراء وأحوال الهداة والعلماء، وأحوال المشايخ والفقراء، تشترك في هذه القاعدة الشريفة، وتحكم الشريعة فيها بالفرقان.
 
وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الأحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولاية الله، بل ولا للصلاح، بل ولا للإيمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر، ومنافق، وفاسق، وعاصي، وإنما أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
 
ففرق بين ولاية الله وبين الأحوال، كما فرق بين خلافة النبوة وبين جنس الملك، وفرق بين العلم الذي ورثته الأنبياء، وبين جنس الكلام، فبين هذين النوعين خصوص وعموم، فقد يكون الرجل وليا لله له حال تأثير وكشف، وقد يكون وليا ليس له تلك الحال بكمالها، وقد يكون له شيء من هذه الأحوال، وليس وليا لله، كما قد يكون خليفة نبي مطاعا، وقد يكون خليفة نبي مستضعفا، وقد يكون جبارا مطاعا ليس من النبوة في شيء، وقد يكون عالما ليس متكلما بما يخالف كلام الأنبياء، وقد يكون عالما متكلما بكلام الأنبياء.
 
===فصل في وقوع البدع في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين===
واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره، إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي {{صل}} حيث قال: «من يعش منكم بعدي فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي».
 
ومعلوم أنه إذا استقام ولاة الأمور الذين يحكمون في النفوس والأموال استقام عامة الناس، كما قال أبو بكر الصديق فيما رواه البخاري في صحيحه للمرأة الأحمسية لما سألته فقالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم، وفي الأثر: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء أهل الكتاب وأهل الحديد، كما دل عليه قوله: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا } الآية <ref>[الحديد: 25]</ref>.
 
وهم أولو الأمر، في قوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } <ref>[النساء: 59]</ref>.
 
وكذلك من جهتهم يقع الفساد، كما جاء في الحديث مرفوعًا، وعن جماعة من الصحابة «إن أخوف ما أخاف عليكم: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون». فالأئمة المضلون هم الأمراء، والعالم والمجادل هم العلماء، لكن أحدهما صحيح الاعتقاد يزل، وهو العالم، كما يقع من أئمة الفقهاء أهل السنة والجماعة.
 
والثاني، كالمتفلسفة والمتكلمين الذين يجادلون بشبهات القرآن مع أنهم في الحقيقة منسلخون من آيات الله، وإنما احتجاجهم به دفعًا للخصم، لا اهتداء به واعتمادًا عليه؛ ولهذا قال: »جدال منافق بالقرآن« فإن السنة والإجماع تدفع شبهته.
 
والدين القائم بالقلب من الإيمان علمًا وحالًا هو الأصل، والأعمال الظاهرة هي الفروع، وهي كمال الإيمان.
 
فالدين أول ما يبنى من أصوله ويكمل بفروعه، كما أنزل الله بمكة أصوله من التوحيد والأمثال التي هي المقاييس العقلية، والقصص، والوعد، والوعيد، ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعه الظاهرة من الجمعة والجماعة، والأذان والإقامة، والجهاد، والصيام، وتحريم الخمر والزنا، والميسر وغير ذلك من واجباته ومحرماته.
 
فأصوله تمد فروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها، فإذا وقع فيه نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة فروعه؛ ولهذا قال {{صل}}: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة»، وروى عنه أنه قال: «أول ما يرفع الحكم بالأمانة». والحكم هو عمل الأمراء، وولاة الأمور، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } <ref>[النساء: 58]</ref>، وأما الصلاة فهي أول فرض، وهي من أصول الدين والإيمان، مقرونة بالشهادتين، فلا تذهب إلا في الآخر، كما قال {{صل}}: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبي للغرباء» فأخبر أن عوده كبدئه.
 
فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكًا ظهر النقص في الأمراء، فلابد أن يظهر أيضا في أهل العلم والدين، فحدث في آخر خلافة علي بدعتا الخوارج والرافضة، إذ هي متعلقة بالإمامة والخلافة، وتوابع ذلك من الأعمال، والأحكام الشرعية.
 
وكان ملك معاوية ملكًا ورحمة، فلما ذهب معاوية رحمة الله عليه وجاءت إمارة يزيد، وجرت فيها فتنة قتل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة، وحصروا مكة، لما قام عبد الله بن الزبير.
 
ثم مات يزيد وتفرقت الأمة، ابن الزبير بالحجاز، وبنو الحكم بالشام، ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق. وذلك في أواخر عصر الصحابة، وقد بقى فيهم مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، حدثت بدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة كابن عباس، و[[ابن عمر]]، وجابر، وواثلة بن الأسقع وغيرهم رضي الله عنهم مع ما كانوا يردونه هم، وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض.
 
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه، أعمال العباد، كما يتكلم فيها المرجئة، فصار كلامهم في الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق ونحو ذلك من مسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، ولم يتكلموا بعد في ربهم ولا في صفاته إلا في أواخر عصر صغار التابعين، من حين أواخر الدولة الأموية حين شرع القرن الثالث تابعوا التابعين ينقرض أكثرهم فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقى من أهل بدر، إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان، انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية وصار في ولاة الأمور كثير من الأعاجم، وخرج كثير من الأمر عن ولاية العرب وعربت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم، وظهر ما قاله النبي {{صل}}: «ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل، ولا يستشهد، ويحلف، ولا يستحلف»، حدث ثلاثة أشياء:
 
الرأي والكلام والتصوف.
 
وحدث التجهم: وهو نفي الصفات. وبإزائه التمثيل.
 
فكان جمهور الرأي من الكوفة، إذ هو غالب على أهلها، مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش، وكثرة الكذب في الرواية، مع أن في خيار أهلها من العلم، والصدق، والسنة والفقه، والعبادة أمر عظيم، لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة الكذب في الرواية. وكثرة الآراء في الفقه، والتشيع في الأصول، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة.
 
فإنه بعد موت الحسن، وابن سيرين بقليل، ظهر عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ومن اتبعهما من أهل الكلام والاعتزال.
 
وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي الذي صحب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد صحب الحسن البصري، ومن اتبعه من المتصوفة، وبنى دويرة للصوفية، هي أول ما بني في الإسلام، وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم الفقرية، وكانوا يجتمعون في دويرة لهم.
 
وصار لهؤلاء من الكلام المحدث، طريق يتدينون به، مع تمسكهم بغالب الدين.
 
ولهؤلاء من التعبد المحدث، طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع، وصار لهؤلاء حال من السماع، والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه.
 
ولهؤلاء حال في الكلام والحروف، حتى خرجوا به إلى تفكير أوقعهم في تحير.
 
وهؤلاء أصل أمرهم الكلام.
 
وهؤلاء أصل أمرهم الإرادة.
 
وهؤلاء يقصدون بالكلام التوحيد، ويسمون نفوسهم الموحدين.
 
وهؤلاء يقصدون بالإرادة، التوحيد ويسمون نفوسهم أهل التوحيد، والتجريد.
 
وقد كتبت قبل هذا في القواعد، ما في طريقي أهل الكلام، والنظر وأهل الإرادة والعمل من الانحراف، إذا لم يقترن بمتابعة الرسول. كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم، والهدى، والدين هو: الإيمان بالله ورسوله، واستصحاب ذلك في جميع الأقوال والأحوال.
 
وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء، وهؤلاء في القول والعمل، إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين والبصريين، هوى ورواية، ورأيا، وكلامًا، وسماعًا، وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكن هم أقرب.
 
وأما الشاميون، فكان غالبهم مجاهدين، وأهل أعمال قلبية، أقرب إلى الحال المشروع، من صوفية البصريين إذ ذاك.
 
ولهذا تجد كتب الكلام، والتصوف، إنما خرجت في الأصل من البصرة، فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون، مثل أبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، وأبي عبد الله...، وأبي الحسين البصري، وكذلك متكلمة الكلابية والأشعرية، كعبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري وصاحبه أبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيرهم.
 
وكذلك كتب المتصوفة ومن خلط التصوف بالحديث والكلام، ككتب الحارث بن أسد المحاسبي، وأبي الحسن بن سالم، وأبي سعيد الأعرابي وأبي طالب المكي.
 
وقد شرك هؤلاء من البغداديين، والخراسانيين، والشاميين خلق.
 
لكن الغرض أن الأصول من ثم.
كما أن علم النبوة، من الإيمان والقرآن، وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب، إنما خرجت من الأمصار التي يسكنها جمهور أصحاب رسول الله {{صل}}، وهي الحرمان والعراقان والشام: المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام، وسائر الأمصار تبع.
 
فالقراء السبعة من هذه الأمصار، وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة، وأهل البصرة، كالزهري ومالك، وكقتادة وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي.
 
وأهل الكوفة فيهم الصادق، والكاذب.
 
وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب، ولا أئمة كبار في القراءة والحديث. وكذلك أئمة الفقهاء، فمالك عالم أهل المدينة، والثوري وأبو حنيفة وغيرهما من أهل الكوفة. وابن جريج وغيره من أهل مكة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد من أهل البصرة، والأوزاعي وطبقته بالشام، وقد قيل إن مالكًا إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة، وقيل: إن كتاب ابن جريج قبل ذلك.
 
ثم الشافعي، وإن كان أصله مكيًا، فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره.
 
وكذلك الإمام أحمد، وإن كان أجداده بصريين، فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين، ولا غيرهم. كما أن عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغيرهم من الخراسانيين، وكذلك أئمة الزهاد والعباد من هذه الأمصار، كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في صفوة الصفوة.
 
فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله {{صل}}، وأما ما جاء عمن بعدهم، فلا ينبغي أن يجعل أصلًا، وإن كان صاحبه معذورًا، بل مأجورًا، لاجتهاد أو تقليد.
 
فمن بنى الكلام في العلم: الأصول، والفروع على الكتاب والسنة، والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية، والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد، {{صل}}، وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى.
 
تجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة، قال: هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله {{صل}}.
 
وكَتَبَ كُتُبَ التفسير المأثور عن النبي {{صل}} والصحابة والتابعين. وكتب الحديث والآثار المأثورة عن النبي {{صل}} والصحابة والتابعين، وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه، حتى قال في رسالته إلى خليفة وقته المتوكل: لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله {{صل}}، أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود.
 
وكذلك في الزهد والرقاق والأحوال، فإنه اعتمد في كتاب الزهد على المأثور عن الأنبياء، صلوات الله عليهم من آدم إلى محمد، ثم على طريق الصحابة والتابعين، ولم يذكر من بعدهم، وكذلك وصفه لآخذ العلم أن يكتب ما جاء عن النبي {{صل}}، ثم عن الصحابة، ثم عن التابعين. وفي رواية أخرى ثم أنت في التابعين مخير.
 
وله كلام في الكلام الكلامي. والرأي الفقهي وفي الكتب الصوفية، والسماع الصوفي ليس هذا موضعه. يحتاج تحريره إلى تفصيل، وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال.
 
فإنه ينبني على الأصل، الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة، أو غير مغفورة، وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة، إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا وعملًا. فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف. وإلا بقى الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة. إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية، إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة.
 
وإنما قررت هذه القاعدة؛ ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه، ويعرف أن العدول عن كمال خلافة النبوة المأمور به شرعًا، تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علمًا وعملًا، وتارة بعدوان بفعل السيئات علمًا وعملًا، وكل من الأمرين قد يكون عن غلبة، وقد يكون مع قدرة.
 
فالأول، قد يكون؛ لعجز وقصور، وقد يكون مع قدرة وإمكان.
 
والثاني: قد يكون مع حاجة وضرورة، وقد يكون مع غنى وسعة، وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات، والمضطر إلى بعض السيئات معذور، فإن الله يقول: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } <ref>[التغابن: 16]</ref>، وقال: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } <ref>[البقرة: 286]</ref> في البقرة والطلاق وقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } <ref>[الأعراف: 42]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وقال سبحانه: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } <ref>[الحج: 78]</ref>، وقال: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } <ref>[المائدة: 6]</ref>، وقال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>، وقال: { فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } <ref>[البقرة: 173]</ref>، وقال: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } <ref>[الأحزاب: 5]</ref>.
 
وهذا أصل عظيم وهو: أن تعرف الحسنة في نفسها علمًا وعملًا، سواء كانت واجبة أو مستحبة، وتعرف السيئة في نفسها علمًا وقولًا وعملًا، محظورة كانت، أو غير محظورة إن سميت غير المحظورة سيئة وإن الدين تحصيل الحسنات والمصالح، وتعطيل السيئات والمفاسد.
 
وإنه كثيرًا ما يجتمع في الفعل الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران، فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية.
 
فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان.
 
===فصل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلامهم بأصول الكتاب والسنة===
ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلام والتصوف، وغير ذلك: كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب والسنة والآثار؛ إذ العهد قريب، وأنوار الآثار النبوية بعد فيها ظهور، ولها برهان عظيم، وإن كان عند بعض الناس قد اختلط نورها بظلمة غيرها.
 
فأما المتأخرون، فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون، مثل من صنف في الكلام من المتأخرين، فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة، وجعلهما إما فرعين، أو آمن بهما مجملًا، أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة، ومتقدمو المتكلمين خيرمن متأخريهم.
 
وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، وأعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ماجاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه، ككثير من أتباع أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
 
وكذلك من صنف في التصوف والزهد، جعل الأصل ما روى عن متأخري الزهاد وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين، كما فعل صاحب الرسالة أبوالقاسم القشيري، وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، وابن خميس الموصلي في مناقب الأبرار، وأبو عبد الرحمن السلمي في تاريخ الصوفية، لكن أبوعبد الرحمن صنف أيضا سير السلف من الأولياء والصالحين. وسير الصالحين من السلف، كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم، من ذكرهم لأخبار أهل الزهد والأحوال، من بعد القرون الثلاثة، من عند إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ومن بعدهم، وإعراضهم عن حال الصحابة، والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة بمدحهم، والثناء عليهم، والرضوان عنهم.
 
وكان أحسن من هذا أن يفعلوا، كما فعله أبو نعيم الأصبهاني في الحلية من ذكره للمتقدمين والمتأخرين. وكذلك أبو الفرج بن الجوزي في صفوة الصفوة وكذلك أبو القاسم التيمي في سير السلف...، وكذلك ابن أسد بن موسى، إن لم يصعدوا إلى طريقة عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وهناد بن السرى وغيرهم في كتبهم في الزهد، فهذا هذا. والله أعلم وأحكم.
 
فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها. ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعًا. إذ المرء ما لم يحط علمًا بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها، يبقى في قلبه حسكة.
 
وكان للزهاد، عدة أسماء: يسمون بالشام الجوعية، ويسمون بالبصرة الفقرية، والفكرية، ويسمون بخراسان المغاربة، ويسمون أيضا الصوفية والفقراء.
 
===أصل النسبة في الصوفية===
والنسبة في الصوفية، إلى الصوف؛ لأنه غالب لباس الزهاد، وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت. وأما من قال: هم نسبة إلى الصفة، فقد قيل: كان حقه أن يقال: صفية، وكذلك من قال: نسبة إلى الصفا، قيل له: كان حقه أن يقال: صفائية، ولو كان مقصورًا لقيل صفوية، وإن نسب إلى الصفوة قيل: صفوية. ومن قال: نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله. قيل له: كان حقه أن يقال: صفية، ولا ريب أن هذا يوجب النسبة والإضافة، إذا أعطى الاسم حقه من جهة العربية.
 
لكن التحقيق، أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الاشتقاق الأكبر والأوسط، دون الاشتقاق الأصغر، كما قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العمى، فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب، وهو الاشتقاق الأوسط، أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر.
 
وعلى الأوسط قول نحاة الكوفيين الاسم، مشتق من السمة.
 
وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا، وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف، فهو على الأكبر.
 
وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وغيره، وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره، وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية، وكذلك مالك فيما أظن وقد خاطب به أحمد لأبي حمزة الخراساني، وليوسف بن الحسين الرازي، ولبدر ابن أبي بدر المغازلي، وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم، ومن العباد أيضا من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأهل الحديث، والعباد، ومدحه آخرون.
 
والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم، كغيره من الطريق، وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا، وقد لا يكون، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة، والقاعدة التي قدمتها تجمع ذلك كله، وفي المتسمين بذلك من أولياء الله وصفوته، وخيار عباده ما لا يحصى عده. كما في أهل الرأي من أهل العلم والإيمان من لا يحصى عدده إلا الله. والله سبحانه أعلم.
 
وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين، وإن كانت في الأصل مذمومة، كما دل عليه الكتاب والسنة، سواء في ذلك البدع القولية والفعلية. وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي {{صل}}: «كل بدعة ضلالة» متعين، وإنه يجب العمل بعمومه، وإن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى ألا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة والمتصوفة، والمتعبدة، إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا ألا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة.
 
وما سمي بدعة، وثبت حسنه بأدلة الشرع، فأحد الأمرين، فيه لازم:
 
إما أن يقال: ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة. كما قال عمر: نعمت البدعة هذه.
 
وإما أن يقال: هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح، كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم، وفي قاعدة السنة والبدعة، وغيره.
 
وإنما المقصود هنا، أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص، فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع، وقررته أيضا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد.
 
فإن نصوص الوعيد، التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير، والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول، والفروع. هذا في عذاب الآخرة، فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة، خالد في النار، أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق، يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية، أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالأعمال.
 
فأما أحكام الدنيا، فكذلك أيضا، فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقًا بدعوتهم، إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة.
 
وَهُنا قَاعِدةٌ شريفَة ينبغي التفطن لها وهى:
 
أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه، فعقوبتنا له في الدنيا أكبر، وأما ما عاد من الذنوب بمضرة الإنسان في نفسه، فقد تكون عقوبته في الآخرة أشد، وإن كنا نحن لا نعاقبه في الدنيا.
 
وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس، فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان:
 
أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط.
 
والثاني: فعل ما يضر به وهو العدوان. فالتفريط في حقوق العباد...
 
ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع، بما لا يعاقب به الساكت، ويعاقب من أظهر المنكر بما لا يعاقب به من استخفى به، ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين، وإن كان في الدرك الأسفل من النار.
 
وهذا لأن الأصل، أن تكون العقوبة من فعل الله تعالى فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الآخرة، وقد يجزيهم أيضا في الدنيا. وأما نحن، فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات، وترك المحرمات بحسب إمكاننا، كما قال {{صل}}: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» وقال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } <ref>[الأنفال: 39]</ref>، وقال: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ } <ref>[البقرة: 217]</ref>.
 
ولهذا من تاب من الكفار، والمحاربين، وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق الله، فإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه، وأهله، وماله، وكذلك قاطع الطريق، والزاني والسارق، والشارب إذا تابوا قبل القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الحدود وحصول الفساد؛ ولأن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلامه؛ لأنه أسلم قبل القدرة عليه، بخلاف من أسلم بعد الأسر، فإنه لا يمنع استرقاقه وإن عصم دمه.
 
ويبنى على هذه القاعدة: أنه قد يقر من الكفار والمنافقين، بلا عقوبة من يكون عذابه في الآخرة أشد، إذا لم يتعد ضرره إلى غيره، كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون، والذين أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ظاهرًا مع نفاقهم؛ لأن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين، ويعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوا من الكفر والنفاق، وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلمًا فاسقًا، أو عاصيًا، أو عدلًا مجتهدًا مخطئًا، بل صالحًا أو عالمًا سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع.
 
مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وشهادة الزور، وقطع الطريق، وغير ذلك لما فيه من العدوان على النفوس والأموال والأبضاع، وإن كان مع هذا حال الفاسق في الآخرة خيرًا من حال أهل العهد الكفار، ومن حال المنافقين، إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والإجماع.
 
وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم، وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد.
 
وكذلك يجوز قتال البغاة: وهم الخارجون على الإمام، أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولًا، ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غيرذلك. إذ الصحابة لا خلاف في بقائهم على العدالة، وذلك أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ. وأما القتال: فليؤدوا ما تركوه من الواجب، وينتهوا عما ارتكبوه من المحرم، وإن كانوا متأولين.
 
وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه، وإن كانوا قومًا صالحين، فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب، أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا، وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا، كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وإن كان قد تاب توبة نصوحًا، وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره، وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم، فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة، وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم: القاتل مجاهد والمقتول شهيد.
 
وعلى هذا، فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر، فلا يستشهد ولا يروي عنه، ولا يستفتى ولا يصلي خلفه، قد يكون من هذا الباب، فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبًا أو معذورًا، إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله، فأما هجره بترك... في غير هذا الموضع.
 
ومن هذا الباب: هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد، ولمن تاب بعد الإجابة، ولمن فعل بدعة ما، مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة، فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم، كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي {{صل}} المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق. حتى قد قيل أن اثنين منهما شهدا بدرًا، وقد قال الله لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي {{صل}} وأحد أهل العقبة، فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلًا، أو رجلًا صالحًا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة، وبين عقوبة الآخرة، والله سبحانه أعلم.
 
===فصل في قولهم فلان يسلم إليه حاله===
ومما يناسب هذا الباب قولهم: فلان يسلم إليه حاله، أو لا يسلم إليه حاله، فإن هذا كثيرًا ما يقع فيه النزاع فيما قد يصدر عن بعض المشائخ، والفقراء، والصوفية، من أمور يقال: إنها تخالف الشريعة، فمن يرى أنها منكرة وإن إنكار المنكر من الدين، ينكر تلك الأمور، وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه، ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلاح وعبادة، كزهد وأحوال، وورع، وعلم لا ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو يعرض عن ذلك.
 
وقد يغلو كل واحد من هذين، حتى يخرج بالأول، إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الاجتهاد، متبعًا لظاهر من أدلة الشريعة، ويخرج بالثاني إقراره إلى الإقرار بما يخالف دين الإسلام مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بخلافه، اتباعًا في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر، والأول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية.
 
والأول: كثيرًا ما يقع في ذوي العلم، لكن مقرونًا بقسوة وهوى.
 
والثاني: كثيرًا ما يقع في ذوي الرحمة، لكن مقرونًا بضلال وجهل.
 
فأما الأمة الوسط: فلهم العلم والرحمة، كما أخبر عن نفسه بقوله: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } <ref>[غافر: 7]</ref>، وقال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } <ref>[الأعراف: 156]</ref>، وقال: { إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } <ref>[طه: 98]</ref>، وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } <ref>[الكهف: 65]</ref>.
 
والعدل في هذا الباب قولًا وفعلًا، أن تسليم الحال له معنيان:
 
أحدهما: رفع اللوم عنه بحيث لا يكون مذمومًا ولا مأثومًا...
 
والثاني: تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محمودًا مأجورًا. فالأول عدم الذم والعقاب. والثاني: وجود الحمد والثواب. الأول: عدم سخط الله وعقابه، والثاني: وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا تجد المنكرين غالبًا في إثبات السخط والذم والعقاب، والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب، وكلاهما قد يكون مخطئًا ويكون الصواب في أمر ثالث وسط، وهو أنه لا حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب.
 
وبيان ذلك: أن ذلك الأمر الصادر عنه سواء كان قولًا أو فعلًا، إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة، بحيث يكون قولًا باطلًا، أو عملًا محرمًا فإنه يعذر في موضعين:
 
أحدهما: عدم تمكنه من العلم به.
 
والثاني: عدم قدرته على الحق المشروع.
 
مثال الأول: أن يكون صاحب الحال مولها مجنونًا، قد سقط عنه القلم، فهذا إذا قيل فيه: يسلم له حاله، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب، لا بمعنى تصويبه فيه، كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح.
 
وإن عنى به أن ذلك القول صواب فهذا خطأ.
 
وكذلك إذا كان ذلك الحال صادرًا عنه باجتهاد، كمسائل الاجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين. فإن هذا إذا قيل: يسلم إليه حاله، كما يقال: يقر على اجتهاده، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب فهو صحيح.
 
وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب، أو صحيح، فلابد من دليل على تصويبه، وإلا فمجرد القول، أو الفعل الصادر من غير الرسول، ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل، فإذا علم أن ذلك الاجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني رفع الذم عنه، لا بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره، أنه يقر على حكمه، فلا ينقض، أو على فتياه، فلا تنكر أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه، بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده، واتباعه من العلماء والمشايخ، فيما لم يظهر لهم أنه خطأ، لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني، الذي لم يعلم مخالفته للشريعة.
 
وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور، أو عرف أنه صادق في طريقه، وإن هذا الأمر قد يكون اجتهادًا منه، فهذه ثلاثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم، وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به.
 
ومثال الثاني: عدم قدرته أن يرد عليه من الأحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه، أو يلطم وجهه، أو يصيح صياحًا منكرًا، أو يضطرب اضطرابًا شديدًا. فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرمًا، وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله، وإن شك هل هو مغلوب، أو متصنع، فإن عرف منه الصدق، قيل: هذا يسلم إليه حاله، وإن عرف كذبه أنكر عليه، وإن شك فيه توقف في التسليم والإنكار، حتى يتبين أمره، كما يفعل بمن شهد شهادة، أو اتهم بسرقة. فإن ظهر صدقه وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم، وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة، وعوقب على السرقة، وإن اشتبه الأمر توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين، هكذا قال الحسن البصري.
 
وكذلك إذا ترك الواجبات مظهرًا أنه مغلوب لا يقدر على فعلها، مثل أن يترك الصلاة مظهرًا أنه بمنزلة المغمى عليه، والنائم الذي لا يتمكن من فعلها. كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف الله، أو محبته، أو نحو ذلك بحيث يسقط تمييزه، فلا يمكنه الصلاة، فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات، فتسليم الحال بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور، وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم.
 
هذا فيما يعلم من الأقوال والأفعال أنه مخالف للشرع بلا ريب، كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ، كقول ابن هود: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه المارستان مرتين، وما يحكى عن بعضهم أنه قال: إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به، وكترك آخر صلاة الجمعة خلف إمام صالح، لكونه دعًا لسلطان وقته وسماه العادل، وترك آخر الصلاة خلف إمام؛ لما كوشف به من حديث نفسه، وما يحكي عن عقلاء المجانين الذين قيل فيهم: إن الله أعطاهم عقولًا وأحوالا فسلب عقولهم وترك أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
 
فجماع هذا: أن هذه الأمور تعطى حقها من الكتاب والسنة. فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر، والأمر والنهي وجب اتباعه، ولم يلتفت إلى من خالفه كائنًا من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائنًا من كان، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من اتباع الرسول وطاعته، وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة بأن يكون مسلوب العقل، أو ساقط التمييز أو مجتهدًا مخطئًا اجتهادًا قوليًا أو عمليًا، أو مغلوبًا على ذلك الفعل أو الترك بحيث لا يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بلا ذنب فعله، ولا يمكنه أداء ذلك الواجب بلا ذنب فعله، ويكون هذا الباب نوعه محفوظًا بحيث لا يتبع ما خالف الكتاب والسنة ولا يجعل ذلك شرعة ولا منهاجًا، بل لا سبيل إلى الله ولا شرعة إلا ما جاء به محمد رسول الله {{صل}}.
 
وأما الأشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون، ولا يذمون، ولا يعاقبون. فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله {{صل}}. وما من الأئمة إلا من له أقوال، وأفعال لا يتبع عليها، مع أنه لا يذم عليها، وأما الأقوال والأفعال التي لم يعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها؛ لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم، فيلتحق من وجه بالقسم الأول. ومن وجه بالقسم الثاني.
 
وقد تكون اجتهادية عنده أيضا، فهذه تسلم لكل مجتهد، ومن قلده طريقهم تسليمًا نوعيا، بحيث لا ينكر ذلك عليهم، كما سلم في القسم الأول تسليمًا شخصيًا.
 
وأما الذي لا يسلم إليه حاله: فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم، ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي، واليونسية فيما يأتونه من المحرمات، ويتركونه من الواجبات، أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليظن به خيرًا، ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه أن الحق قد تبين له، وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية، وأنه قد يتفوه بما يخالفها، وأن من الرجال من قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه، أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين، كما يحكى بعض الكذابين الضالين: أن أهل الصفة قاتلوا النبي {{صل}} مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا: نحن مع الله، من غلب كنا معه، وأنه صبيحة الإسراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة وأنه تواجد في السماء، حتى وقع الرداء عنه، وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر، أو يسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته، كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى، فإنه لم يكن مبعوثًا إليه كما بعث محمد إلى الناس كافة. فهؤلاء ونحوهم ممن يخالف الشريعة، ويبين له الحق فيعرض عنه، يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب.
 
وكذلك أيضا ينكر علي من اتبع الأولين المعذورين في أقوالهم، وأفعالهم المخالفة للشرع، فإن العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه.
 
ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو: توقف فيه، فإن الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة، لكن لا يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة، فإن النبي {{صل}} قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد». فلا يسوغ الخروج عن موجب العموم والإطلاق في الكتاب والسنة بالشبهات، ولا يسوغ الذم والعقوبة بالشبهات، ولا يسوغ جعل الشيء حقًا، أو باطلًا أو صوابًا، أو خطأ بالشبهات، والله يهدينا الصراط المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
 
وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالبًا، وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال، أمر مخالف للشرع في الظاهر، ويجوز أن يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًا. مثل وجد خرج فيه عن الشرع، لا يدري أهو صادق فيه أم متصنع، وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر، مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به، فهذا إن قيل: ينكر عليه جاز أن يكون معذورًا، وإن قيل: لا ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر، فالواجب في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أولا برفق، ويقال له: هذا في الظاهر منكر، وأما في الباطن، فأنت أمين الله على نفسك، فأخبرنا بحالك فيه أولا تظهره حيث يكون إظهاره فتنة، وتسلك في ذلك طريقة لا تفضي إلى إقرار المنكرات، ولا لوم البرآء.
 
والضابط أن من عرف من عادته الصدق، والأمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام، ومن عرف منه الكذب أو الخيانة، لم يقر على المجهول، وأما المجهول فيتوقف فيه.
 
وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام، العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأسكنه فسيح الجنان:
 
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
 
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله مخلصًا حتى أتاه اليقين من ربه، {{صل}} تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
 
===فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها===
فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها
 
فإن هذا باب كثر فيه الاضطراب، كما كثر في باب الحلال والحرام، فإن أقوامًا استحلوا بعض ما حرمه الله، وأقوامًا حرموا بعض ما أحل الله تعالى وكذلك أقوامًا أحدثوا عبادات لم يشرعها الله، بل نهى عنها.
 
وأصل الدين: أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله. قال الله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } <ref>[الأنعام: 153]</ref>.
 
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي {{صل}} أنه خط خطًا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }.
 
وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى كالبحيرة، والسائبة ؛ واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم، وشرعوا دينا لم يأذن به الله، فقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } <ref>[الشورى: 21]</ref>، ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات، كالشرك والفواحش، مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك.
 
والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخر.
 
والمقصود هنا العبادات فنقول:
 
العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى منها ما كان محبوبًا لله ورسوله مرضيًا لله ورسوله، إما واجب وإما مستحب، كما في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: «ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه».
 
ومعلوم أن الصلاة منها فرض، وهي الصلوات الخمس، ومنها نافلة، كقيام الليل، وكذلك الصيام فيه فرض، وهو صوم شهر رمضان، ومنه نافلة كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى المسجدين الآخرين مسجد النبي {{صل}} وبيت المقدس مستحب.
 
وكذلك الصدقة، منها ما هو فرض، ومنها ما هو مستحب، وهو العفو، كما قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } <ref>[البقرة: 219]</ref>.
 
وفي الحديث الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «يابن آدم، إنك إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»، والفرق بين الواجب، والمستحب له موضع آخر غير هذا، والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع، سواء كان واجبًا، أو مستحبًا، وما ليس بمشروع.
 
فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى وهو سبيل الله، وهو البر والطاعة والحسنات، والخير، والمعروف، وهو طريق السالكين، ومنهاج القاصدين، والعابدين، وهو الذي يسلكه كل من أراد الله هدايته، وسلك طريق الزهد والعبادة، وما يسمى بالفقر والتصوف، ونحو ذلك.
 
ولا ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة، واجبها، ومستحبها، ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع، وقراءة القرآن على الوجه المشروع، والأذكار والدعوات الشرعية، وما كان من ذلك موقتًا بوقت كطرفي النهار، وما كان متعلقًا بسبب، كتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وما ورد من الأذكار، والأدعية الشرعية في ذلك. وهذا يدخل فيه أمور كثيرة، وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه، وكذلك يدخل فيه الصيام الشرعي، كصيام نصف الدهر، وثلثه أو ثلثيه، أو عشره، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويدخل فيه السفر الشرعي، كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الآخرين، ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه، وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
 
===أصول العبادات الدينية===
والعبادات الدينية أصولها: الصلاة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، لما أتاه النبي {{صل}}، وقال: «ألم أحدث أنك قلت: لأصومن النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن في ثلاث؟» قال: بلى! قال: «فلا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هَجَمَتْ له العين، ونَفِهَتْ له النفس»، ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال: «لا أفضل من ذلك»، وقال: «أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى، وأفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع».
 
ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة، قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة» فذكر اجتهادهم بالصلاة والصيام والقراءة، وأنهم يغلون في ذلك، حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء.
 
وهؤلاء غلوا في العبادات بلا فقه، فآل الأمر بهم إلى البدعة، فقال: «ىمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة». فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين، وكفروا من خالفهم، وجاءت فيهم الأحاديث الصحيحة، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها.
 
ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة، ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها، وله صنف كتاب الاقتصاد في العبادة. وقال [[أبي بن كعب]]، وغيره: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة.
 
والكلام في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين، وأيام التشريق، وقيام جميع الليل، هل هو مستحب؟ كما ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء، والصوفية والعباد، أو هو مكروه كما دلت عليه السنة وإن كان جائزًا؟ لكن صوم يوم وفطر يوم أفضل، وقيام ثلث الليل أفضل، ولبسطه موضع آخر.
 
إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة، حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالاعتكاف الشرعي، والاعتكاف الشرعي في المساجد، كما كان النبي {{صل}} يفعله هو وأصحابه، من العبادات الشرعية.
 
وأما الخلوات، فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ، فإن ما فعله {{صل}} قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة، فنحن مأمورون باتباعه فيه، وإلا فلا. وهو من حين نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون. وقد أقام صلوات الله عليه بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ودخل مكة في عمرة القضاء، وعام الفتح أقام بها قريبًا من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع، وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه، ولم يقصده.
 
وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية، ويقال: إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه؛ لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ، بل قال له الملك عليه السلام: اقرأ. قال صلوات الله عليه وسلامه: «فقلت: لست بقارئ» ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة! ولهذا لما صلاها النبي {{صل}} نهاه عنها من نهاه من المشركين، كأبي جهل، قال الله تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى. عَبْدًا إِذَا صَلَّى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى. كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نَادِيَه. سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ. كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } <ref>[العلق: 9 19]</ref>.
 
وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يومًا، ويعظمون أمر الأربعينية، ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر. وقد روى أن موسى عليه السلام صامها وصام المسيح أيضا أربعين لله تعالى وخوطب بعدها. فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل، كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي.
 
وهذا أيضا غلط، فإن هذه ليست من شريعة محمد {{صل}} بل شرعت لموسى عليه السلام كما شرع له السبت والمسلمون لا يسبتون، وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد {{صل}}. فهذا تمسك بشرع منسوخ، وذاك تمسك بما كان قبل النبوة.
 
وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عددًا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل، فنزلت عليهم الشياطين؛ لأنهم خرجوا عن شريعة النبي {{صل}} التي أمروا بها. قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } <ref>[الجاثية: 18، 19]</ref>.
 
وكثير منهم لا يحد للخلوة مكانًا، ولا زمانًا، بل يأمر الإنسان أن يخلو في الجملة.
 
ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية، الصلاة والصيام، والقراءة والذكر. وأكثرهم يخرجون إلى أجناس غير مشروعة، فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة ألا يزيد على الفرض، لا قراءة ولا نظرًا في حديث نبوي، ولا غير ذلك، بل قد يأمرونه بالذكر، ثم قد يقولون ما يقوله أبو حامد: ذكر العامة: لا إله إلا الله، وذكر الخاصة: الله، الله، وذكر خاصة الخاصة: هو، هو.
 
والذكر بالاسم المفرد مظهرًا، ومضمرًا بدعة في الشرع، وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلامًا لا إيمانًا ولا كفرًا.
 
وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر». وفي حديث آخر: «أفضل الذكر لا إله إلا الله»، وقال: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير». والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة.
 
وأما ذكر الاسم المفرد، فبدعة لم يشرع، وليس هو بكلام يعقل ولا فيه إيمان؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين يبين أنه ليس قصدنا ذكر الله تعالى ولكن جمع القلب على شيء معين حتي تستعد النفس لما يرد عليها، فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات، فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالًا شيطانيًا، فيلبسه الشيطان، ويخيل إليه أنه قد صار في الملأ الأعلى، وأنه أعطى ما لم يعطه محمد {{صل}} ليلة المعراج، ولا موسى عليه السلام يوم الطور، وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا.
 
وأبلغ من ذلك من يقول: ليس مقصودنا إلا جمع النفس بأي شيء كان، حتي يقول: لا فرق بين قولك: يا حي ! وقولك: يا جحش! وهذا مما قاله لي شخص منهم، وأنكرت ذلك عليه، ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها الشيطان.
 
ومنهم من يقول: إذا كان قصد وقاصد، ومقصود، فاجعل الجميع واحدًا، فيدخله في أول الأمر في وحدة الوجود.
 
وأما أبو حامد، وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة، فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر لكن ينبغي أن يعرف أن البدع بريد الكفر، ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء، حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي رأسه ويقول: الله، الله. وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب، بل قد يقولون: إنه يحصل له من جنس ما يحصل للأنبياء.
 
ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للأنبياء، وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في الإحياء وغيره، كما أنه يبالغ في مدح الزهد، وهذا من بقايا الفلسفة عليه. فإن المتفلسفة، كابن سينا، وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل في القلوب من العلم للأنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال؛ ولهذا يقولون: النبوة مكتسبة، فإذا تفرغ صفى قلبه عندهم وفاض على قلبه من جنس ما فاض على الأنبياء. وعندهم أن موسى بن عمران {{صل}} كلم من سماء عقله، لم يسمع الكلام من خارج؛ فلهذا يقولون: إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى، وأعظم مما حصل لموسى.
 
وأبو حامد يقول: إنه سمع الخطاب، كما سمعه موسى عليه السلام وإن لم يقصد هو بالخطاب، وهذا كله ؛ لنقص إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض، وهذا الذي قالوه باطل من وجوه:
 
أحدها: أن هذا الذي يسمونه: العقل الفعال، باطل لا حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر.
 
الثاني: أن ما يجعله الله في القلوب يكون تارة بواسطة الملائكة إن كان حقًا، وتارة بواسطة الشياطين، إذا كان باطلًا. والملائكة، والشياطين أحياء ناطقون، كما قد دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من جهة الأنبياء، وكما يدعي ذلك من باشره من أهل الحقائق. وهم يزعمون أن الملائكة، والشياطين صفات لنفس الإنسان فقط. وهذا ضلال عظيم.
 
الثالث: أن الأنبياء جاءتهم الملائكة من ربهم بالوحي، ومنهم من كلمه الله تعالى فقربه وناداه، كما كلم موسى عليه السلام لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض، كما يزعمه هؤلاء.
 
الرابع: أن الإنسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر. فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق؟ هذا إما أن يعلم بعقل، أو سمع، وكلاهما لم يدل على ذلك.
 
الخامس: أن الذي قد علم بالسمع والعقل، أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين، ثم تنزلت عليه الشياطين، كما كانت تتنزل على الكهان، فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر الله، الذي أرسل به رسله، فإذا خلا من ذلك تولاه الشيطان، قال الله تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } <ref>[الزخرف: 36، 37]</ref>، وقال الشيطان، فيما أخبر الله عنه: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[ص: 82، 83]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } <ref>[الحجر: 42]</ref>، والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا، وإنما يعبد الله بما أمر به على ألسنة رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين.
 
وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين، واشتبهت عليهم الأحوال الرحمانية بالأحوال الشيطانية، وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة، وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء الله المتقين، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
 
السادس: أن هذه الطريقة لو كانت حقًا، فإنما تكون في حق من لم يأته رسول، فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك طريق، فمن خالفه ضل، وخاتم الرسل {{صل}}، قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلاة، وذكر، ودعاء، وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر، وانتظار ما ينزل.
 
فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض الأنبياء، لكانت منسوخة بشرع محمد {{صل}}، فكيف وهي طريقة جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله تعالى في قلب العبد إلهامًا ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق.
 
ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله تعالى وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله. وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، لا ينقاضه وينافيه، كما قال جندب و[[ابن عمر]]: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا.
 
وأما الاقتصار على الذكر المجرد الشرعي، مثل قول: لا إله إلا الله، فهذا قد ينتفع به الإنسان أحيانًا، لكن ليس هذا الذكر وحده هو الطريق إلى الله تعالى دون ما دعاه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر، ثم الدعاء، والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل، كالتسبيح في الركوع، والسجود، فإنه أفضل من القراءة، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة أفضل من القراءة، ثم قد يفتح على الإنسان في العمل المفضول، ما لا يفتح عليه في العمل الفاضل. وقد ييسر عليه هذا دون هذا، فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الأفضل، كالجائع إذا وجد الخبز المفضول متيسرًا عليه، والفاضل متعسرًا عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول، وشبعه واغتذاؤه به حينئذ أولى به.
 
السابع: أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط، وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما صقله هؤلاء، وهذا قياس فاسد؛ لأن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية، كما حصل لهذا الحائط من هذا الحائط. بل هو يقول إن: العلم منقوش في النفس الفلكية، ويسمى ذلك اللوح المحفوظ تبعًا لابن سينا.
 
وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله ورسوله ليس هو النفس الفلكية، وابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع، فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، وكسوه لحاء الشريعة.
 
وهذا كلفظ المُلْكِ، والملكوت، والجبروت، واللوح المحفوظ، والملك، والشيطان، والحدوث، والقدم وغير ذلك.
 
وقد ذكرنا من ذلك طرفًا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلام أبي حامد، ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يحرفون كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت طائفة القرامطة الباطنية.
 
والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية، كما يزعم هؤلاء، فلا فرق في ذلك بين الناظر والمستدل والمفرغ قلبه، فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل.
 
ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين، ولهم تنزلات معروفة، وقد بسط الكلام عليها ابن عربي الطائي ومن سلك سبيله، كالتلمساني، وهي تنزلات شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة، لكن ليس هذا موضع بسطها، وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس.
 
ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بلا حدود شرعية، بل سهر مطلق، وجوع مطلق، وصمت مطلق مع الخلوة، كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره، وهي تولد لهم أحوالًا شيطانية، وأبو طالب قد ذكر بعض ذلك، لكن أبو طالب أكثر اعتصامًا بالكتاب والسنة من هؤلاء. ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة. من جنس أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي {{صل}}، وهو كذب محض، وإن كان ليس فيه إلا قراءة قرآن، ويذكر أحيانًا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو، وأبو حامد وغيرهما، وذكروا أنه يزن الخبز بخشب رطب، كلما جف نقص الأكل.
 
وذكروا صلوات الأيام والليالي، وكلها كذب موضوعة؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئًا من الخيالات الفاسدة، وليس هذا موضع بسط ذلك.
 
وإنما الغرض التنبيه بهذا علي جنس من العبادات البدعية، وهي: الخلوات البدعية سواء قدرت بزمان، أو لم تقدر؛ لما فيها من العبادات البدعية، أما التي جنسها مشروع، ولكن غير مقدرة وأما ما كان جنسه غير مشروع، فأما الخلوة، والعزلة، والانفراد المشروع، فهو ما كان مأمورًا به أمر إيجاب، أو استحباب:
 
فالأول: كاعتزال الأمور المحرمة، ومجانبتها، كما قال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } <ref>[الأنعام: 68]</ref>، ومنه قوله تعالى عن الخليل: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } <ref>[مريم: 49]</ref>، وقوله عن أهل الكهف: { وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } <ref>[ الكهف: 16]</ref>، فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة، ولا من يأمر بشرع نبي ؛ فلهذا أووا إلى الكهف، وقد قال موسى: { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي } <ref>[الدخان: 21]</ref>.
 
وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع، وذلك بالزهد فيه، فهو مستحب، وقد قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره، وسمعه.
 
وإذا أراد الإنسان تحقيق علم، أو عمل، فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة، فهذا حق كما في الصحيحين، أن النبي {{صل}} سئل: أي الناس أفضل؟ قال: «رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويدع الناس إلا من خير».
 
وقوله: «يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة» دليل على أن له مالا يزكيه، وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلاة فيهم، فقد قال صلوات الله عليه: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة جماعة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان» وقال: «عليكم بالجماعة، فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم».
 
===فصل في الخلوات===
وهذه الخلوات، قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان، ولا إقامة، ولا مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس، إما مساجد مهجورة، وإما غير مساجد، مثل الكهوف، والغيران التي في الجبال، ومثل المقابر لا سيما قبر من يحسن به الظن، ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي، أو رجل صالح؛ ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية، يظنون أنها كرامات رحمانية.
 
فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه، وقد مات من سنين كثيرة، ويقول: أنا فلان، وربما قال له: نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا، كما جرى للتونسي مع نعمان السلامي.
 
والشياطين كثيرًا ما يتصورون، بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف فتقول: أنا الشيخ فلان، أو العالم فلان، وربما قالت: أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام، وقال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها، وثم من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثم شيوخ لهم زهد، وعلم، وورع، ودين يصدقون بمثل هذا.
 
ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي، أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه. ومن هؤلاء من رأى في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ، قال: إنه إبراهيم الخليل، ومنهم من يظن أن النبي {{صل}} خرج من الحجرة وكلمه، وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه.
 
وبعضهم كان يحكي: أن ابن منده، كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل، فسأل النبي {{صل}} عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل في هؤلاء من سأل النبي {{صل}} بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي {{صل}} فأجابهم؟ وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه، فهلا سألته فأجابها؟
 
===فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم===
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه، وأن نقتدي بهم، وبهداهم. قال تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } <ref>[البقرة: 136]</ref>، وقال تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } <ref>[ الأنعام: 90]</ref> ومحمد {{صل}} خاتم النبيين لا نبي بعده، وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره، فلم يبق طريق إلى الله إلا باتباع محمد {{صل}} فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب، فهو مشروع، وكذلك ما رغب فيه، وذكر ثوابه، وفضله.
 
ولا يجوز أن يقال: إن هذا مستحب، أو مشروع، إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف، لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي، وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة، جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة، فإذا روى في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب، لم يجز أن يكذب به، وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل، وغيره يرخصون فيه، وفي روايات أحاديث الفضائل. وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف، فحاشا لله، كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب، فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبينوا أنه كذب لقول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
 
وما فعله النبي {{صل}} على وجه التعبد، فهو عبادة يشرع التأسي به فيه. فإذا خصص زمان أو مكان بعبادة، كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الأواخر بالاعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه، فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل؛ لأنه فعل.
 
وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد، فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك، كنا متبعين له، وكذلك إذا ضرب لإقامة حد، بخلاف من شاركه في السفر، وكان قصده غير قصده، أو شاركه في الضرب، وكان قصده غير قصده، فهذا ليس بمتابع له، ولو فعل فعلًا بحكم الاتفاق مثل نزوله في السفر بمكان، أو أن يفضل في إداوته ماء فيصبه في أصل شجرة، أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك، فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟ كان ابن عمر يحب أن يفعل مثل ذلك. وأما الخلفاء الراشدون، وجمهور الصحابة، فلم يستحبوا ذلك؛ لأن هذا ليس بمتابعة له، إذ المتابعة لابد فيها من القصد، فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل، بل حصل له بحكم الاتفاق كان في قصده غير متابع له، وابن عمر رضي الله عنه يقول: وإن لم يقصده، لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان، فأحب أن أفعل مثله، إما لأن ذلك زيادة في محبته، وإما لبركة مشابهته له.
 
ومن هذا الباب: إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته، وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك، ويرخص في مثل ما فعله ابن عمر، وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعًا لابن عمر، وعن أحمد في التمسح بالمنبر روايتان.
 
أشهرهما أنه مكروه، كقول الجمهور، وأما مالك وغيره من العلماء، فيكرهون هذه الأمور وإن فعلها ابن عمر، فإن أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، لم يفعلها. فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكانًا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول الله {{صل}}. فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته فيه الصلاة فليصل فيه وإلا فليمض.
 
وهكذا للناس قولان، فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط، أو مستحبة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، كما قد بسط ذلك في موضعه، ولم يكن ابن عمر، ولا غيره من الصحابة يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه، ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقط، وإن كان هو لم يقصد التعبد به، فأما الأمكنة نفسها، فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها، إلا ما عظمه الشارع.
 
===فصل في أهل العبادات البدعية===
وأهل العبادات البدعية، يزين لهم الشيطان تلك العبادات، ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث، فلا يحبون سماع القرآن والحديث، ولا ذكره، وقد يبغض إليهم حتى الكتاب، فلا يحبون كتابا، ولا من معه كتاب، ولو كان مصحفًا أو حديثا، كما حكى النصراباذي أنهم كانوا يقولون: يدع علم الخرق، ويأخذ علم الورق، قال: وكنت أستر الواحى منهم، فلما كبرت احتاجوا إلى علمي.
 
وكذلك حكى السري السقطي: أن واحدًا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلمًا خرج، ولم يقعد عنده، ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري: يا معشر الصوفية، لا تفارقوا السواد على البياض، فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق. وقال الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن.
 
وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع، أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب، وذلك؛ لأنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم، فصارت شياطينهم تهربهم من هذا، كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه، وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه، وقال الله تعالى عن المشركين: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } <ref>[فصلت: 26]</ref>، وقال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } <ref>[المدثر: 49 - 51]</ref>. وهم من أرغب الناس في السماع البدعي، سماع المعازف. ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله تعالى:
 
وكان مما زين لهم طريقهم، أن وجدوا كثيرًا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الله تعالى وسلوك سبيله، إما اشتغالًا بالدنيا، وإما بالمعاصي وإما جهلا وتكذيبًا بما يحصل لأهل التأله والعبادة، فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم، وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين، هؤلاء يقولون: ليس هؤلاء على شيء، وهؤلاء يقولون: ليس هؤلاء على شيء، وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في الكتب.
 
فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بلا تلقين، ويحكون أن شخصًا حصل له ذلك، وهذا كذب. نعم قد يكون سمع آيات الله، فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها. فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها، ويقول بعضهم أو يحكي أن بعضهم قال: أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وهذا يقع، لكن منهم من يظن أنَّ ما يلقي إليه من خطاب، أو خاطر هو من الله تعالى بلا واسطة، وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني، فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة، فما وافق الكتاب والسنة، فهو حق. وماخالف ذلك، فهو خطأ.
 
وقد قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } <ref>[الزخرف: 36-38]</ref>.
 
وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله، قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } <ref>[الأنبياء: 50]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } <ref>[ القلم: 52]</ref>، وقال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } <ref>[طه: 123-126]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } <ref>[الإسراء: 9، 10]</ref>، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } <ref>[الشورى: 52، 53]</ref>، وقال تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } <ref>[إبراهيم: 1]</ref>، وقال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[الأعراف: 157]</ref>.
 
ثم إن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة، صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول. يقول أحدهم: فلان عطيته على يد محمد، وأنا عطيتي من الله بلا واسطة، ويقول أيضا: فلان يأخذ عن الكتاب، وهذا الشيخ يأخذ عن الله، ومثل هذا.
 
وقول القائل: يأخذ عن الله، وأعطاني الله لفظ مجمل، فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني الخلقي أي: بمشيئة الله وقدرته حصل لي هذا، فهو حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وذلك الذي أخذ عن الكتاب، هو أيضا عن الله أخذ بهذا الاعتبار. والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضا هم كذلك، وإن أراد أن هذا الذي حصل له هو مما يحبه الله، ويرضاه، ويقرب إليه، وهذا الخطاب الذي يلقي إليه هو كلام الله تعالى. فهنا طريقان:
 
أحدهما: أن يقال له: من أين لك أن هذا إنما هو من الله، لا من الشيطان، وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم، كما أخبر الله تعالى بذلك في القرآن، وهذا موجود كثيرًا في عباد المشركين، وأهل الكتاب، وفي الكهان، والسحرة، ونحوهم، وفي أهل البدع بحسب بدعتهم. فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية، فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الله به محمدا {{صل}} فهو { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } <ref>[الفرقان: 1]</ref>، وهوالذي فرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين سبيل أولياء الرحمن وسبيل أولياء الشيطان، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا أنه يقال لهم: إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركًا بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق.
 
الطريق الثاني: أن يقال: بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث الله به محمدا {{صل}}، وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته، فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له: اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد، أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب، أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب، أو أن يدعو مخلوقًا، كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق ملكًا، أو نبيًا، أو شيخًا، فإذا دعاه كما يدعو الخالق، سبحانه، إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به، فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك، كما كان يحصل للمشركين.
 
وكانت الشياطين تتراءى لهم أحيانًا، وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة. أو يقضون لهم بعض الحوائج، فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم، وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر، قال الله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } <ref>[البقرة: 102]</ref>.
 
وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف، وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث، وإن رجلًا سأل امرأة، فقالت: لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن، فقال: لا أشرك بالله، فقالت: أو تقتل هذا الصبي؟ فقال: لا أقتل النفس التي حرم الله، فقالت: أو تشرب هذا القدح؟ فقال هذا أهون. فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة.
 
والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك، ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم، فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله، ويزنون.
 
وهذه الثلاثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف، سماع المكاء والتصدية، أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبوا شيخهم أو غيره، مثل ما يحبون الله ويتواجدون على حبه.
 
وأما الفواحش، فالغناء رقية الزنا، وهو من أعظم الأسباب، لوقوع الفواحش، ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره، فتنحل نفسه، وتسهل عليه الفاحشة، ويميل لها فاعلا، أو مفعولًا به أو كلاهما، كما يحصل بين شاربي الخمر، وأكثر.
 
وأما القتل، فإن قتل بعضهم بعضًا في السماع، كثير يقولون: قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته، وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الآخر. كالذين يشربون الخمر، ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر، وقد جرى مثل هذا لكثير منهم، ومنهم من يقتل إما شخصًا، وإما فرسًا، أو غير ذلك بحاله، ثم يقوم صاحب الثأر، ويستغيث بشيخه، فيقتل ذلك الشخص، وجماعة معه: إما عشرة، وإما أقل أو أكثر. كما جرى مثل هذا لغير واحد. وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات.
 
فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية، وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان عرف ذلك من بصره الله تعالى وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلاء.
 
وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة، فبتنا بمكان وأرادوا أن يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك، فجعلوا لي مكانا منفردًا قعدت فيه، فلما سمعوا وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده، ويقول: يا فلان قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ نصيبك، فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا: أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد الله، فإني لا آكل منه شيئًا، وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة، وعلم أنه كان معهم الشياطين، وكان فيهم من هو سكران بالخمر.
 
والذي قلته معناه: أن هذا النصيب، وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي، ليس هو طاعة لله ورسوله ولا شرعها الرسول فهو مثل من يقول: تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال، أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك هذه الولاية ونحو ذلك.
 
وقد يكون سببه نذرًا لغير الله سبحانه وتعالى مثل أن ينذر لصنم، أو كنيسة، أو قبر، أو نجم، أو شيخ، ونحو ذلك من النذور، التي فيها شرك، فإذا أشرك بالنذر، فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه، كما تقدم في السحر.
 
وهذا بخلاف النذر لله تعالى فإنه ثبت في الصحيحين عن [[ابن عمر]] عن النبي {{صل}}، أنه نهى عن النذر، وقال: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل» وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} نحوه، وفي رواية: «فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر» فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به، منهى عن عقده، ولكن إذا كان قد عقده فعليه، الوفاء به كما في [[صحيح البخاري]] عن النبي {{صل}} أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».
 
وإنما نهى عنه {{صل}} ؛لأنه لا فائدة فيه إلا التزام ما التزمه، وقد لا يرضى به، فيبقى آثمًا. وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيرًا له، والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم، فبين النبي {{صل}} أن النذر لا يأتي بخير، فليس النذر سببًا في حصول مطلوبهم، وذلك أن الناذر إذا قال: لله علي إن حفظني الله القرآن أن أصوم مثلًا ثلاثة أيام، أو إن عافاني الله من هذا المرض، أو إن دفع الله هذا العدو، أو إن قضي عني هذا الدين فعلت كذا، فقد جعل العبادة التي التزمها عوضًا عن ذلك المطلوب. والله سبحانه لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة، بل ينعم على عبده بذلك المطلوب؛ ليبتليه أيشكر أم يكفر؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه.
 
وأما تلك العبادة المنذورة، فلا تقوم بشكر تلك النعمة، ولا ينعم الله تلك النعمة؛ ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة، فصارت واجبة؛ لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء، بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيرًا من حقوق الله ثم بذل ذلك النذر؛ لأجل تلك النعمة، وتلك النعمة أجل من أن ينعم الله بها؛ لمجرد ذلك المبذول المحتقر.
 
وإن كان المبذول كثيرًا، والعبد مطيع لله، فهو أكرم على الله من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير، فليس النذر سببًا لحصول مطلوبه كالدعاء، فإن الدعاء من أعظم الأسباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الله تعالى أسبابا؛ لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء، وأما ما يفعله على وجه النذر، فإنه لا يجلب منفعة، ولا يدفع عنه مضرة، لكنه كان بخيلا فلما نذر، لزمه ذلك، فالله تعالى يستخرج بالنذر من البخيل، فيعطي على النذر مالم يكن يعطيه بدونه والله أعلم.
 
===سئل شيخ الإسلام ما عمل أهل الجنة وما عمل أهل النار===
سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
 
ما عمل أهل الجنة؟ وما عمل أهل النار؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، عمل أهل الجنة: الإيمان والتقوى، وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان، فأعمال أهل الجنة الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، والشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
 
ومن أعمال أهل الجنة: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم.
 
ومن أعمال أهل الجنة: الإخلاص لله، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية الله ورجاء رحمته، والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه.
 
ومن أعمال أهل الجنة: قراءة القرآن، وذكر الله، ودعاؤه، ومسألته، والرغبة إليه.
 
ومن أعمال أهل الجنة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين.
 
ومن أعمال أهل الجنة: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإن الله أعد الجنة للمتقين، الذين ينفقون في السراء، والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين.
 
ومن أعمال أهل الجنة: العدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وأمثال هذه الأعمال.
 
وأما عمل أهل النار، فمثل: الإشراك بالله، والتكذيب بالرسل، والكفر والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة.
 
ومن عمل أهل النار: السحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
 
وتفصيل الجملتين لا يمكن، لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة الله ورسوله، وأعمال أهل النار كلها تدخل في معصية الله ورسوله، { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } <ref>[النساء: 13، 14]</ref> والله أعلم.
 
===فصل في هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة===
قال الشيخ رحمه الله تعالى:
 
وأما قوله: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟
 
فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعًا كليًا وإما حاليًا، فحقيقة الأمر: أن الخلطة تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة. وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات، كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.
 
وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا، إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك.
 
ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته، كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته.
 
فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا، وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال، فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم.
 
وكذلك السبب وترك السبب، فمن كان قادرًا على السبب، ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به، مع التوكل على الله، وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال، وسبب مثل هذا عبادة الله، وهو مأمور أن يعبد الله ويتوكل عليه، فإن تسبب بغير نية صالحة، أو لم يتوكل على الله، فهو مطيع في هذا وهذا، وهذه طريق الأنبياء والصحابة.
 
وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، فهذا إما أن يكون عاجزًا عن الكسب، أو قادرًا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لله من الكسب، ففعل ما هو فيه أطوع هو المشروع في حقه، وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس.
 
وقد تقدم أن الأفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، وتارة يختلف باختلاف الأوقات، كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.
 
وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر، كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف، ففيها نزاع معروف.
 
وتارة باختلاف الأمكنة كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
 
وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة، فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
 
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل، وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتبعون أهواءهم.
 
فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له؛ ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه، يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك.
 
والله بعث محمدا بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهديًا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له، فعلى المسلم أن يكون ناصحًا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له.
 
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية كالصلاة والصيام أفضل له، والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي {{صل}} باطنا وظاهرًا.
 
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد {{صل}}.
 
والله سبحانه وتعالى أعلم.
 
===من مستلزمات العقل والبلوغ===
وقال الشيخ:
 
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله {{صل}} تسليمًا كثيرًا.
 
أما بعد:
 
اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من الإنس والجن، أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا. أرسله إلى جميع الخلق، إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وفرسهم وهندهم، وبربرهم ورومهم، وسائر أصناف العجم أسودهم، وأبيضهم، والمراد بالعجم من ليس بعربي على اختلاف ألسنتهم.
 
فمحمد {{صل}} أرسل إلى كل أحد، من الإنس والجن كتابيهم وغير كتابيهم، في كل ما يتعلق بدينه من الأمور الباطنة والظاهرة، في عقائده وحقائقه، وطرائقه وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يصل أحد من الخلق إلى الله، وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته، إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا في الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان وأعمال الجوارح.
 
وليس لله ولي إلا من اتبعه باطنًا، وظاهرًا، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات. فمن لم يكن له مصدقًا فيما أخبر ملتزمًا طاعته فيما أوجب، وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمنا فضلا عن أن يكون وليًا لله ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها إلا من أهل الأحوال الشيطانية، المبعدة لصاحبها عن الله، والمقربة إلى سخطه وعذابه.
 
لكن من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم، فلا يعاقبون وليس لهم من الإيمان بالله وتقواه باطنًا وظاهرًا ما يكونون به من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعًا لآبائهم، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } <ref>[الطور: 21]</ref>.
 
وهم مع عدم العقل لا يكونون ممن في قلوبهم حقائق الإيمان، ومعارف أهل ولاية الله وأحوال خواص الله؛ لأن هذه الأمور كلها مشروطة بالعقل، فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفة واليقين والهدى والثناء، وإنما يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، فالمجنون وإن كان الله لا يعاقبه ويرحمه في الآخرة فإنه لا يكون من أولياء الله المقربين والمقتصدين الذين يرفع الله درجاتهم.
 
ومن ظن أن أحدًا من هؤلاء الذين لا يؤدون الواجبات ولا يتركون المحرمات، سواء كان عاقلًا، أو مجنونًا، أو مولها، أو متولهًا، فمن اعتقد أن أحدًا من هؤلاء من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين وجنده الغالبين، السابقين، المقربين والمقتصدين الذين يرفع الله درجاتهم بالعلم والإيمان، مع كونه لا يؤدي الواجبات ولا يترك المحرمات، كان المعتقد لولاية مثل هذا كافرًا مرتدًا عن دين الإسلام، غير شاهد أن محمدا رسول الله {{صل}}، بل هو مكذب لمحمد {{صل}} فيما شهد به؛ لأن محمدا أخبر عن الله، أن أولياء الله هم المتقون المؤمنون، قال تعالى: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 62، 63]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } <ref>[الحجرات: 13]</ref>.
 
والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة الله، على نور من الله، يرجو رحمة الله، وأن يترك معصية الله، على نور من الله، يخاف عذاب الله، ولا يتقرب ولي الله إلا بأداء فرائضه، ثم بأداء نوافله. قال تعالى: «وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه» كما جاء في الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه البخاري.
 
===فصل في أحب الأعمال إلى الله===
ومن أحب الأعمال إلى الله، وأعظم الفرائض عنده: الصلوات الخمس في مواقيتها، وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة، وهي التي فرضها الله تعالى بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة، وهي عمود الإسلام الذي لا يقوم إلا به، وهي أهم أمر الدين، كما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة.
 
وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة» وقال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر». فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء، فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن الله يحبها ويثيب عليها، وصلى مع ذلك وقام الليل، وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ، فهو أيضا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل.
 
ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين، أو أن لله خواصًا لا تجب عليهم الصلاة، بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس، أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى، أو أن المقصود حضور القلب مع الرب، أو أن الصلاة فيها تفرقة، فإذا كان العبد في جمعيته مع الله فلا يحتاج إلى الصلاة، بل المقصود من الصلاة هي المعرفة، فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة، فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، أو ملء الأوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز، وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية. فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك.
 
أو أن لله رجالًا خواصًا لا يحتاجون إلى متابعة محمد {{صل}}، بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى، أو أن كل من كاشف وطار في الهواء، أو مشى على الماء، فهو ولي سواء صلى أو لم يصل.
 
أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة، أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والحانات والقمامين، وغير ذلك من البقاع، وهم لا يتوضؤون ولا يصلون الصلوات المفروضات، فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء الله فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام، ولو كان في نفسه زاهدًا عابدًا، فالرهبان أزهد وأعبد، وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول، وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ماجاء به، بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا. أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } <ref>[النساء: 150-152]</ref>.
 
ومن كان مسلوب العقل أو مجنونًا، فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه، فليس عليه عقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل. فمن لا عقل له لا يصح شيء من عبادته لا فرائضه ولا نوافله، ومن لا فريضة له ولا نافلة، ليس من أولياء الله؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى } <ref>[طه: 54]</ref> أي العقول، وقال تعالى: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } <ref>[الفجْر: 5]</ref> أي لذي عقل. وقال تعالى: { وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ } <ref>[البقرة: 197]</ref> وقال: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } <ref>[الأنفال: 22]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } <ref>[يوسف: 2]</ref>.
 
فإنما مدح الله وأثنى على من كان له عقل. فأما من لا يعقل فإن الله لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط، بل قال تعالى عن أهل النار: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } <ref>[الملك: 10]</ref>، وقال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } <ref>[الأعراف: 179]</ref> وقال: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } <ref>[الفرقان: 44]</ref>.
 
فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله، ومن كان يهوديًا أو نصرانيًا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه لا باطنًا ولا ظاهرًا. ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار. ومن كان مؤمنًا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في حال عقله، ومن ولد مجنونًا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر. وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلمًا تبعًا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
 
وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعًا لآبائهم، وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرًا تبعًا لأبويه أو لأهل الدار، كما يحكم بذلك للأطفال. لا لأجل إيمان قام به، فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم، وهذا الإسلام لا يوجب له مزية على غيره، ولا أن يصير به من أولياء الله المتقين الذين يتقربون إليه بالفرائض والنوافل. وقد قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } <ref>[النساء: 43]</ref> فنهى الله عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون.
 
وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالآية التي أنزلها الله في "سورة المائدة". وقد روى أنه كان سبب نزولها: أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة، فأنزل الله هذه الآية؛ فإذا كان قد حرم الله الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون، علم أن ذلك يوجب ألا يصلي أحد حتى يعلم ما يقول. فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة، وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال، فكيف بالمجنون؟.
 
وقد قال بعض المفسرين وهو يروي عن الضحاك: لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم. وهذا إذا قيل: إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب نزول الآية كان السكر من الخمر. واللفظ صريح في ذلك؛ والمعنى الآخر صحيح أيضا. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد، فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه وفي لفظ إذا قام يصلي فنعس فليرقد».
 
فقد نهى النبي {{صل}} عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس. وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة، أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة، والنبي {{صل}} إنما علل ذلك بقوله: «فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه» فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس. وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «لا يصلي أحدكم، وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام» لما في ذلك من شغل القلب. وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ.
 
فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون، وإن سمي مولها أو متولها، أولى ألا تجوز صلاته.
 
ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات، كما في الصحيحين عن [[ابن مسعود]] أنه قال: قلت للنبي {{صل}}: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين». قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد». قال: حدثني بهن رسول الله {{صل}}، ولو استزدته لزادني. وثبت أيضا في الصحيحين عنه: أنه جعل أفضل الأعمال إيمان بالله، وجهاد في سبيله، ثم الحج المبرور. ولا منافاة بينهما؛ فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان بالله، كما دخلت في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } <ref>[البقرة: 143]</ref>. قال البراء بن عازب وغيره من السلف: أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
 
ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال، فلا يصلي أحد عن أحد الفرض، لا لعذر ولا لغير عذر. كما لا يؤمن أحد عنه، ولا تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان، بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرًا، وهو متمكن من فعل بعض أفعالها. فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال، فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه؟ فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع.
 
فإذا كان كذلك، تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى الله من فرض ونفل، والولاية هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل، فقد حرم ما به يتقرب أولياء الله إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب، كما لا يعاقب الأطفال والبهائم؛ إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال. ثم إن كان مؤمنًا قبل حدوث الجنون به، وله أعمال صالحة، وكان يتقرب إلى الله بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم، وكان له من ولاية الله تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى، كما لا يسقط ذلك بالموت، بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام؛ فإن الردة تحبط الأعمال، وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته، كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالأعمال المسكرة والنوم؛ لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح، ولكن في الحديث الصحيح عن أبي موسى عن النبي {{صل}} أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم».
 
وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال في غزوة تبوك: «إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم» قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر»، فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلًا، بخلاف أولئك فإن لهم قصدًا صحيحًا يكتب لهم به الثواب.
 
وأما إن كان قبل جنونه كافرًا أو فاسقًا أو مذنبًا، لم يكن حدوث الجنون به مزيلًا؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورًا معهم، وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولهًا أو متولهًا، لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، ولا يكون زوال عقله سببًا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب زوال العقل، فيبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده ولا ينقصه، لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر.
 
وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم، كشرب الخمر، وأكل الحشيشة، أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله، أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله، أو يأكل بنجا يزيل عقله، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول. وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصًا عظيمًا حتى يغيب عقله، أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني، وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولهًا. فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم.
 
واختلف العلماء: هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم؟ والأصل "مسألة السكران" والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله. وقال كثير من العلماء ليس مكلفًا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أحمد: أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين. ولم يقل أحد من العلماء: إن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الله الموحدين المقربين وحزبه المفلحين. ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير، فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم.
 
ومن علامة هؤلاء: أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، لا بالكفر والبهتان، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك، ويهذي في زوال عقله بالكفر، فهذا إنما يكون كافرًا لا مسلمًا، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية، وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع، ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل أو بغير العربية فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع.
 
ومن قال: إن هؤلاء أعطاهم الله عقولًا وأحوالًا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب.
 
قيل: قولك وهب الله لهم أحوالًا، كلام مجمل، فإن الأحوال تنقسم إلى: حال رحماني، وحال شيطاني، وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب، فتارة يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان، وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان؛ فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية، وكانوا من المؤمنين المتقين، فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول، وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق، كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان والتقوى، كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل، غايته أن يسقط التكليف.
 
ورفع القلم لا يوجب حمدًا ولامدحًا ولا ثوابًا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الله، ولا كرامة من كرامات الصالحين، بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم، بل النائم أحسن حالًا من هؤلاء، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله، والنبي {{صل}} يجوز عليه النوم والإغماء، ولا يجوز عليه الجنون، وكان نبينا محمد {{صل}} تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد أغمى عليه في مرضه.
 
وأما الجنون فقد نزه الله أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص الإنسان؛ إذ كمال الإنسان بالعقل؛ ولهذا حرم الله إزالة العقل بكل طريق، وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل، كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل، فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببًا أو شرطًا أو مقربًا إلى ولاية الله كما يظنه كثير من أهل الضلال؟ حتى قال قائلهم في هؤلاء:
 
هم معشر حلوا النظام وخرقوا ** السياج فلا فرض لديهم ولا نفل
 
مجانين إلا أن سر جنونهم ** عزيز على أبوابه يسجد العقل
 
فهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للمجنون سرًا يسجد العقل على بابه، وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لله ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى؛ فإن كثيرًا من الكفار والمشركين فضلًا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء؛ لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لابد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان. ولابد في أعمالهم من فجور وطغيان، كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان، قال الله تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } <ref>[الشعراء: 221، 222]</ref>.
 
فكل من تنزلت عليه الشياطين لابد أن يكون فيه كذب وفجور، من أي قسم كان، والنبي {{صل}} قد أخبر أن أولياء الله هم الذين يتقربون إليه بالفرائض، وحزبه المفلحون، وجنده الغالبون، وعباده الصالحون. فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء الله المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك، فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين، وإذا قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله كان من الكاذبين الذين قيل فيهم: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } <ref>[المنافقون: 1-3]</ref>.
 
وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه»، فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر، فكيف بمن لا يصلي ظهرًا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة، ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى؟ فهذا لو كان قبل مؤمنًا، وكان قد طبع على قلبه كان كافرًا مرتدًا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض، وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرًا مرتدًا، فكيف يعتقد أنه من أولياء الله المتقين، وقد قال تعالى في صفة المنافقين: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } <ref>[المجادلة: 19]</ref> أي: استولى، يقال: حاذ الإبل حوذًا: إذا استاقها، فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر الله به ورسوله قال تعالى: { أَلَمْ تَرَى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } <ref>[مريم: 83]</ref> أي تزعجهم إزعاجًا، فهؤلاء { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ } <ref>[المجادلة: 19]</ref>.
 
وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي {{صل}} أنه قال: «ما من ثلاثة في قرية، لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان»، فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان الذين استحوذ عليهم، لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا عبادًا زهادًا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات، كأهل جبل لبنان، وأهل جبل الفتح الذي بآسون، وجبل ليسون، ومغارة الدم بجبل قاسيون، وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلال، ويفعلون فيها خلوات ورياضات من غير أن يؤذن، وتقام فيهم الصلاة الخمس، بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله ورسوله، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة، ولا قصد المتابعة لرسول الله الذي قال الله فيه: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } الآية <ref>[آل عمران: 31]</ref> فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن، فمن شهد لهم بولاية الله فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب.
 
ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول، وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله، فهو مرتد عن دين الإسلام وإما مكذب للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتاب، وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه، وكل من هؤلاء كافر.
 
وأما إن كان جاهلًا بما جاء به الرسول، وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة، وأنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته {{صل}}، لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان، لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته، لا لقصد مخالفته، ولا يرجو الهدى في غير متابعته فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب، فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي قبله وكان كافرًا مرتدًا، ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله، كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان، مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية، ومكاشفات شيطانية قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } <ref>[الكهف: 103، 104]</ref>.
 
قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات. وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات. وقال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } <ref>[الشعراء: 221، 222]</ref> فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال: { لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } <ref>[العلق: 15، 16]</ref>.
 
ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا وإن كان لا يتعمد الكذب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}}، لما قالت له سبيعة الأسلمية، وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع، فكانت حاملًا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين فقال النبي {{صل}}: «كذب أبو السنابل، بل حللت فانكحى»، وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع أنهم يقولون: إن عامرًا قتل نفسه وحبط عمله فقال: «كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد»، وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب، فإنه كان رجلًا صالحًا، وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير، لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي {{صل}}.
 
وقد قال أبوبكر و[[ابن مسعود]] وغيرهما من الصحابة فيما يفتون فيه باجتهادهم: إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين؟ فهذا خطؤه أيضا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كاذب آثم في ذلك، وإن كانت له حسنات في غير ذلك، فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له، ويطرد بحسب إخلاصه لله وطاعته له قال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } <ref>[الحجر: 42]</ref>.
 
وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات، وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن. قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } <ref>[يس: 60-62]</ref>.
 
والذين يعبدون الشيطان أكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم ويسجدون لهم فهم في الحقيقة، إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد الله الصالحين. قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } <ref>[سبأ: 40، 41]</ref>.
 
ولهذا نهى النبي {{صل}} عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غربها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له، وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان، وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبًا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور والتبركات ما يناسبه، كما ذكره صاحب السر المكتوم المشرقي، وصاحب الشعلة النورانية البوني المغربي وغيرهما؛ فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك روحانية الكواكب.
 
ومنه من يظن أنها ملائكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم، قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } <ref>[الزخرف: 36]</ref> وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال الله فيهما: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } <ref>[البقرة: 231]</ref>، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } <ref>[آل عمران: 164]</ref>، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } <ref>[الجمعة: 2]</ref>، وهو الذكر الذي قال الله فيه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } <ref>[الحجر: 9]</ref>، فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه.
 
وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من الإيمان وولاية الله بحسب ما والى فيه الرحمن، وكان فيه من عداوة الله والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان، كما قال حذيفة بن اليمان: القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن. وقلب أغلف فذلك قلب الكافر والأغلف: الذي يلف عليه غلاف. كما قال تعالى عن اليهود: { ٍوَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } <ref>[النساء: 155]</ref> وقد تقدم قوله {{صل}}: «من ترك ثلاث جمع طبع الله على قلبه» وقلب منكوس فذلك قلب المنافق. وقلب فيه مادتان: مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، فأيهما غلب كان الحكم له. وقد روى هذا في مسند الإمام أحمد مرفوعًا.
 
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي {{صل}} أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
 
فقد بين النبي {{صل}} أن القلب يكون فيه شعبة نفاق، وشعبة إيمان، فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة من ولايته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه بالله وتقواه تكون من كرامات الأولياء، وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا الله تعالى: أن نقول كل صلاة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }.
 
و«المغضوب عليهم» هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، و«الضالون» الذين يعبدون الله بغير علم. فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو من «المغضوب عليهم» وإن كان لا يعلم ذلك فهو من «الضالين».
 
نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
 
والحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين. وصلى الله على محمد.
 
===سئل عمن يقول الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق===
وَسُئِلَ عمَّن يَقُول:
 
الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق. هل قوله صحيح؟
 
فأجاب:
 
إن أراد بذلك الأعمال المشروعة الموافقة للكتاب والسنة، كالصلاة، والصدقة، والجهاد، والذكر، والقراءة وغير ذلك. فهذا صحيح.
 
وإن أراد إلى الله طريقًا مخالفًا للكتاب والسنة، فهو باطل. والله أعلم.
 
قَالَ شَيخ الإِسْلام عَلاَّمة الزَّمَان أبو العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:
 
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
 
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {{صل}} تسليما كثيرًا.
 
قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب فتوح الغيب: لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء:
 
أمر يمتثله.
 
ونهي يجتنبه.
 
وقدر يرضي به.
 
فأقل حالة لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يلزم بها قلبه، ويحدث بها نفسه، ويأخذ بها الجوارح في كل أحواله.
 
قلت: هذا كلام شريف، جامع يحتاج إليه كل أحد، وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد، وهي مطابقة لقوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>، ولقوله تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } <ref>[آل عمران: 120]</ref> ولقوله تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } <ref>[آل عمران: 186]</ref> ؛ فإن التقوى تتضمن: فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر يتضمن: الصبر على المقدور. فالثلاثة ترجع إلى هذين الأصلين، والثلاثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال الأمر، وهو طاعة الله ورسوله.
 
فحقيقة الأمر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة الله ورسوله، وهو: أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في ذلك الوقت وطاعة الله ورسوله هي: عبادة الله التي خلق لها الجن والإنس، كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>، وقال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } <ref>[البقرة: 21]</ref>.
والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئًا، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } <ref>[النحل: 36]</ref>، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } <ref>[الزخرف: 45]</ref>.
 
وإنما كانت الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر؛ لأنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض، كالصلوات الخمس والحج ونحو ذلك، يحتاج إلى فعل ذلك المأمور، وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى الامتناع والكراهة والإمساك عن ذلك، وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت، وأما من لم تخطر له المعصية ببال، فهذا لم يفعل شيئًا يؤجر عليه، ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلامته من عقوبة الذنب، والعدم المحض المستمر لا يؤمر به، وإنما يؤمر بأمر يقدر عليه العبد، وذاك لا يكون إلا حادثًا، سواء كان إحداث إيجاد أمر، أو إعدام أمر.
 
وأما القدر الذي يرضى به، فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف، فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب، ومأمور بالرضا، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولان، ونفس الصبر والرضا بالمصائب هو طاعة لله ورسوله، هو من امتثال الأمر وهو عبادة لله.
 
لكن هذه الثلاثة وإن دخلت في امتثال الأمر عند الإطلاق، فعند التفصيل والاقتران: إما أن تخص بالذكر، وإما أن يقال: يراد بهذا مالا يراد بهذا، كما في قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، وقوله: { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } <ref>[طه: 14]</ref>، فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة، وعند الاقتران إما أن يقال: ذكره عمومًا وخصوصًا، وإما أن يقال: ذكره خصوصًا يغني عن دخوله في العام.
 
ومثل هذا قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقوله: { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا. وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } <ref>[المزَّمل: 8-10]</ref>. وقد يقال: لفظ التبتيل لا يتناول هذه الأمور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة.
 
وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به الإنسان ابتداء، وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة، أو عند حب الشيء وبغضه.
 
وكلام الشيخ قدس الله روحه يدور على هذا القطب، وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويخلوا فيما سواهما عن إرادة؛ لئلا يكون له مراد غير فعل ما أمر الله به، وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بلا واسطة العبد، أو فعله بالعبد بلا هوى من العبد. فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به.
 
وسيأتي في كلام الشيخ ما يبين مراده، وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه. وأما إذا لم يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله، وهذه هي الحقيقة في كلام الشيخ وأمثاله. وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان:
 
أحدهما: أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب. إما بحب له وإعانة عليه. وإما ببغض له ودفع له.
 
والثاني: ألا يكون العبد مأمورًا بواحد منهما.
 
فالأول: مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره، فهو مأمور بحبه وإعانته عليه، كإعانة المجاهدين في سبيل الله على الجهاد، وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب الإمكان، وبمحبة ذلك والرضا به، وكذلك هو مأمور عند مصيبة الغير: إما بنصر مظلوم، وإما بتعزية مصاب، وإما بإغناء فقير ونحو ذلك.
 
وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه، فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان، فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه، وإنكاره بحسب الإمكان كما قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
 
وأما ما لا يؤمر العبد فيه بواحد منهما، فمثل ما يظهر له من فعل الإنسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها على طاعة ولا معصية. فهذه لا يؤمر بحبها، ولا ببغضها، وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الاستعانة بها على طاعة ولا معصية.
 
مع أن هذا نقص منه، فإن الذي ينبغي أنه لا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، ولم يزل أحدهم يتقرب إليه بذلك حتى أحبه، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وأما من فعل المباحات مع الغفلة، أو فعل فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب المحارم باطنًا وظاهرًا، فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين.
 
وبالجملة الأفعال التي يمكن دخولها تحت الأمر والنهي لا تكون مستوية من كل وجه، بل إن فعلت على الوجه المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد، وإلا كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها، ففضول المباح التي لا تعين على الطاعة عدمها خير من وجودها، إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة الله، فإنها تكون شاغلة له عن ذلك، وأما إذا قدر أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها، وإن شغلته عن معصية الله كانت رحمة في حقه، وإن كان اشتغاله بطاعة الله خيرًا له من هذا وهذا.
 
وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الاستعانة بها على الطاعة، كالنوم الذي يقصد به الاستعانة على العبادة؛ والأكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الاستعانة به على العبادة، إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد وفوات حسنة، وخير يحبه الله، ففي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال لسعد: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك»، وقال في الصحيح: «نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة».
 
فما لا يحتاج إليه من المباحات، أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة، فعدمه خير من وجوده، إذا كان مع عدمه يشتغل بما هو خير منه، وقد قال النبي {{صل}}: «في بضع أحدكم صدقة». قالوا: يارسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر. قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟» قالوا: بلى ! قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر، فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال؟».
 
وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه الله إلى ما أباحه الله، يقصد فعل المباح معتقدًا أن الله أباحه، «والله يحب أن يأخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته» كما رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره؛ ولهذا أحب القصر والفطر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبه الله إلى ما يحبه الله من الرخصة، هو من الحسنات التي يثيبه الله عليها، وإن فعل مباحًا لما اقترن به من الاعتقاد والقصد اللذين كلاهما طاعة لله ورسوله. فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
 
وأيضا، فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، هو مأمور بالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش؛ ولهذا يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها، ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد، كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، بل وهو مأمور بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقدر عليه، فقول النبي {{صل}}: «في بضع أحدكم صدقة» فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك، فإن قضاء حاجتها التي لا تنقضي إلا به بالوجه المباح صدقة.
 
والسلوك سلوكان:
 
سلوك الأبرار أهل اليمين، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا.
 
والثاني: سلوك المقربين السابقين، وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي {{صل}}: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
 
وكلام الشيوخ الكبار كالشيخ عبد القادر وغيره يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة، وبالعامة مسلك العامة، وطريق الخاصة طريق المقربين ألا يفعل العبد إلا ما أمر به، ولا يريد إلا ما أمر الله ورسوله بإرادته، وهو ما يحبه الله ويرضاه، ويريده إرادة دينية شرعية، وإلا فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا.
 
والوقوف مع الإرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلًا، ولا مأمور شرعًا؛ وذلك لأن من الحواث ما يجب دفعه ولا تجوز إرادته، كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله، أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على دفعه، أو أراد إضلال الخلق وإفساد دينهم ودنياهم، فهذه الأمور يجب دفعها وكراهتها؛ لا تجوز إرادتها.
 
وأما الامتناع عقلا، فلأن الإنسان مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافره، فهو عند الجوع يحب ما يغنيه كالطعام، ولا يحب ما لا يغنيه كالتراب فلا يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء.
 
وكذلك يحب الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعه، ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره، بل ويحب الله وعبادته وحده، ويبغض عبادة ما دونه، كما قال الخليل: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } <ref>[الشعراء: 75 - 77]</ref>، وقال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } <ref>[الممتحنة: 4]</ref>.
 
فقد أمرنا الله أن نتأسى بإبراهيم والذين معه، إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون الله، وقال الخليل: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي } <ref>[الزخرف: 26، 27]</ref>، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض وأصل الولاية الحب، وهذا لأن حقيقة التوحيد ألا يحب إلا الله، ويحب ما يحبه الله لله، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>.
 
والفرق ثابت بين الحب لله والحب مع الله، فأهل التوحيد والإخلاص يحبون غير الله لله، والمشركون يحبون غير الله مع الله، كحب المشركين لآلهتهم، وحب النصارى للمسيح، وحب أهل الأهواء رؤوسهم.
 
فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه، وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة وخلقًا، ولا هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث، بل قد أمره الله بإرادة أمور وكراهة أخرى.
 
===الرسل جميعا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها===
والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وقد قال النبي {{صل}}: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } <ref>[الروم: 30]</ref>، وفي الحديث الصحيح عن النبي {{صل}}: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا».
 
والحنيفية: هي الاستقامة بإخلاص الدين لله، وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له، لا يشرك به شيء، لا في الحب ولا في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، وذلك لا يستحقه إلا الله وحده، وكذلك الخشية والتقوى لله وحده، والتوكل على الله وحده.
 
والرسول يطاع ويحب، فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } <ref>[النور: 52]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } <ref>[التوبة: 59]</ref>.
 
وهذا حقيقة دين الإسلام.
 
والرسل بعثوا بذلك، كما قال تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } <ref>[الشورى: 13]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِي } <ref>[المؤمنون: 51، 52]</ref>.
 
فهذا هو الأصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به، فلا بد أن يكون مريدًا محبًا لما أمره الله بإرادته ومحبته. كارهًا مبغضًا لما أمره الله بكراهته وبغضه.
 
والناس في هذا الباب أربعة أنواع:
 
أكملهم الذين يحبون ما أحبه الله ورسوله، ويبغضون ما أبغضه الله ورسوله، فيريدون ما أمرهم الله ورسوله بإرادته، ويكرهون ما أمرهم الله ورسوله بكراهته، وليس عندهم حب ولا بغض لغير ذلك. فيأمرون بما أمر الله به ورسوله، ولا يأمرون بغير ذلك، وينهون عما نهى الله عنه ورسوله، ولا ينهون عن غيرذلك، وهذه حال الخليلين أفضل البرية: محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا» وقال {{صل}} في الحديث الصحيح: «إني والله لا أعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت».
 
وذكر: أن ربه خيره بين أن يكون نبيًا ملكًا؛ وبين أن يكون عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا. فإن النبي الملك مثل: داود وسليمان، قال تعالى: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } <ref>[ص: 39]</ref>، قالوا: معناه اعط من شئت، وامنع من شئت، لا نحاسبك.
 
فالنبي الملك: يعطي بإرادته لا يعاقب على ذلك، كالذي يفعل المباحات بإرادته، وأما العبد الرسول فلا يعطي ولا يمنع إلا بأمر ربه، وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية، والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول، والمقتصدون أهل اليمين أتباع النبي الملك، وقد يكون للإنسان حال هو فيها خال عن الإرادتين: وهو ألا تكون له إرادة في عطاء ولا منع، لا إرادة دينية هو مأمور بها، ولا إرادة نفسانية سواء كان منهيًا عنها أو غير منهي عنها، بل ما وقع كان مرادًا له، ومهما فعل به كان مرادًا له، من غير أن يفعل المأمور به شرعًا في ذلك.
 
فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين، لا إرادة شرعية ولا إرادة مذمومة، بل يعطي كل أحد. فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الإرادة الشرعية في تفصيل أفعاله، فإنه لايذم على ما فعل ولا يمدح مطلقًا، بل يمدح لعدم هواه، ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب. وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مباحًا له، وهو دون من يريد بأمر ربه لا بهواه، ولا بالقدر المحض.
 
فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلاثة أقسام:
 
قوم لا يتصرفون فيها إلا بحكم الأمر الشرعي. وهو حال نبينا {{صل}}. وهو حال العبد الرسول ومن اتبعه في ذلك.
 
وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة. وهذا حال النبي الملك. وهو حال الأبرار أهل اليمين.
 
وقوم لا يتصرفون بهذا ولا بهذا. أما الأول: فلعدم علمهم به. وأما الثاني: فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم القدر المحض، اتباعًا لإرادة الله الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الإرادة الشرعية الأمرية، وهذا كالترجيح بالقرعة إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم، وقد يتصرف هؤلاء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب.
 
وكلام الشيخ عبد القادر قدس الله روحه كثيرًا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها، حتى لا يتصرف بحكم الإرادة والنفس، وهذا رفع له عن حال الأبرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقًا، ومن حصل هذا وتصرف بالأمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق، لكن هذا قد يخفى عليه، فإن معرفة هذا على التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع ألا ترى أن النبي {{صل}} لما حكم سعد ابن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم، وبسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم. قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»، وذلك أن تخيير ولي الأمر بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء ليس تخيير شهوة، بل تخيير رأي ومصلحة، فعليه أن يختار الأصلح، فإن اختار ذلك فقد وافق حكم الله، وإلا فلا.
 
ولما كان هذا يخفي كثيرًا، قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ماحكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك»، والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده، فلما أمر سعد بما هو الأرضي لله، والأحب إليه، حكم بحكمه، ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده، وإن لم يكن ذلك هو حكم الله في الباطن.
 
ففي مثل هذه الحال التي لا يتبين الأمر الشرعي في الواقعة المعينة، يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ: تارة بالرجوع إلى الأمر الباطن والإلهام إن أمكن ذلك، وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر الأسباب المرجحة من جهة الشرع، كما يرجح الشارع بالقرعة. فهم يأمرون ألا يرجح بمجرد إرادته وهواه، فإن هذا إما محرم وإما مكروه، وإما منقص، فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات.
 
ثم إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به، وإلا رجحوا، إما بسبب باطن من الإلهام والذوق، وإما بالقضاء والقدر الذي لا يضاف إليهم. ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة الله، كما كان النبي {{صل}} يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، فقد أصاب.
 
وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد، وعند المقلد المستفتي، فإنه لا يرجح شيئًا، بل ما جرى به القدر أقروه، ولم ينكروه، وتارة يرجح أحدهم: إما بمنام، وإما برأي مشير ناصح، وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين.
 
وأما الترجيح بمجرد الاختيار، بحيث إذا تكافأت عنده الأدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره. فهذا ليس قول أحد من أئمة الإسلام، وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام، ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي: أنه يخير بين المفتين المختلفين. وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده الأمران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته، فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر، لا يقول به أحد من أئمة العلم والزهد. فأئمة الفقهاء والصوفية لا يقولون هذا.
 
ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته، فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته وذوقه.
 
لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي. وعلى هذا التقدير ليس من هذا، فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه الله، وبغض ما يكرهه الله، إذا لم يدر في الأمر المعين هل هو محبوب لله أو مكروه، ورأي قلبه يحبه أو يكرهه، كان هذا ترجيحًا عنده. كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه، فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي.
 
ففي الجملة، متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله، كان هذا ترجيحًا بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام طريقًا على الإطلاق أخطؤوا، كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًا على الإطلاق.
 
ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا، وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والأحاديث الضعيفة، والظواهر الضعيفة، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب، والخلاف وأصول الفقه.
 
وفي [[الترمذي]] عن أبي سعيد عن النبي {{صل}} أنه قال: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } <ref>[الحجر: 57]</ref>. وقال عمر بن الخطاب: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور صادقة. وقد ثبت في الصحيح قول الله تعالى: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي».
 
وأيضا فالله سبحانه وتعالى فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف، وبغض المنكر، فإذا لم تستحل الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان، منورة بنور القرآن، وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة، ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين، كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله، وذلك أن الله علم القرآن والإيمان. قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } الآية ثم قال: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } <ref>[الشورى: 51، 52]</ref>، وقال جندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا.
 
وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن الله أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة»، وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي {{صل}} أنه قال: «ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو من فوق الصراط. فالصراط المستقيم هو الإسلام، والستور حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله. فإذا أراد العبد أن يفتح بابًا من تلك الأبواب ناداه المنادي أو كما قال يا عبد الله لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن».
 
فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ، والواعظ الأمر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالآخر. كما قال تعالى: { نُورٌ عَلَى نُورٍ } <ref>[النور: 35]</ref>، قال بعض السلف في الآية: هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر. فإذا سمع بالأثر كان نورًا على نور. نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
 
وقد يؤتي العبد أحدهما ولا يؤتي الآخر، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي {{صل}} أنه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر».
 
والإلهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والاعتقاد، وتارة يكون من جنس العمل والحب والإرادة والطلب، فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب، وقد يميل قلبه إلى أحد الأمرين دون الآخر، وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر»، والمحدث الملهم المخاطب، وفي مثل هذا قول النبي {{صل}} في حديث وابصة: «البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك» وهو في السنن. وفي صحيح مسلم عن النواس عن النبي {{صل}} قال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس». وقال [[ابن مسعود]]: الإثم حزاز القلوب.
 
وأيضا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينًا أو ظنًا، فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى، فإنه إلى كشفها أحوج، لكن هذا في الغالب لابد أن يكون كشفًا بدليل، وقد يكون بدليل ينقدح في قلب المؤمن، ولا يمكنه التعبير عنه. وهذا أحد ما فسر به معنى الاستحسان.
 
وقد قال من طعن في ذلك كأبي حامد وأبي محمد: ما لا يعبر عنه فهو هوس، وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، وكثير من الناس يبينها بيانًا ناقصًا، وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام حرام، أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق، من غيردليل ظاهر، وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي لله أو أن هذا المال حلال.
 
وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية، لكن إن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة. فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعًا، فإن التسوية بينهما باطلة قطعًا. كما قلنا: إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل بأحدهما. والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لابد في كل حادثة من دليل شرعي، فلايجوز تكافؤ الأدلة في نفس الأمر، لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له، وأما من قال: إنه ليس في نفس الأمر حق معين، بل كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة، وليس لأحدهما على الأخر مزية في علم ولا عمل، فهؤلاء قد يجوزون أو بعضهم تكافؤ الأدلة، ويجعلون الواجب التخيير بين القولين، وهؤلاء يقولون ليس على الظن دليل في نفس الأمر؛ وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والإرادة، كترجيح النفس الغضبية للانتقام، والنفس الحليمة للعفو.
 
وهذا القول خطأ؛ فإنه لابد في نفس الأمر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى. كالكعبة في حق من اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلاة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى قول فعمل بموجبه كلاهما مطيع لله، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله وله أجر على ذلك، وليس مصيبًا بمعنى أنه علم الحق المعين؛ فإن ذلك لا يكون إلا واحدًا ومصيبه له أجران وهذا في كشف الأنواع التي يكون عليها دليل شرعي لكن قد يخفي على العبد، فإن الشارع بين الأحكام الكلية.
 
وأما الأحكام المعينات التي تسمى: تنقيح المناط، مثل كون الشخص المعين عدلًا أو فاسقًا أو مؤمنًا أو منافقًا أو وليًا لله أو عدوًا له، وكون هذا المعين عدوًا للمسلمين يستحق القتل، وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الإحسان إليه، وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم، فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله، فهذه الأمور لا يجب أن تعلم بالأدلة الشرعية العامة الكلية، بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها.
 
ومن طرق ذلك: الإلهام، فقد يلهم الله بعض عباده حال هذا المال المعين، وحال هذا الشخص المعين، وإن لم يكن هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره.
 
وقصة موسى مع الخضر هي من هذا الباب، ليس فيها مخالفة لشرع الله تعالى؛ فإنه لا يجوز قط لأحد لا نبي ولا ولي أن يخالف شرع الله، لكن فيها علم حال ذاك المعين بسبب باطن يوجب فيه الشرع ما فعله الخضر، كمن دخل إلى دار وأخذ ما فيها من المال لعلمه بأن صاحبها أذن له وغيره لم يعلم، ومثل من رأى ضالة أخذها ولم يعرفها، لعلمه بأنه أتى بها هدية له، ونحو ذلك. ومثل هذا كثير عند أهل الإلهام الصحيح.
 
والنوع الثاني: عكس هذا، وهو أنهم يتبعون هواهم، لا أمر الله، فهؤلاء لا يفعلون ولا يأمرون إلا بما يحبونه بهواهم، ولا يتركون وينهون إلا عما يكرهونه بهواهم، وهؤلاء شر الخلق. قال تعالى: { أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } <ref>[الفرقان: 43]</ref> قال الحسن: هو المنافق لا يهوي شيئًا إلا ركبه، وقال تعالى: { ْوَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>، وقال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته. وهو كما قال رضي الله عنه لأنه في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل لله.
 
ألا ترى أن أبا طالب نصر النبي {{صل}}، وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لأجل القرابة، لا لأجل الله تعالى، فلم يتقبل الله ذلك منه، ولم يثبه على ذلك؟ وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أعانه بنفسه وماله لله؛ فقال الله فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَلَسَوْفَ يَرْضَى } <ref>[الليل: 17-21]</ref>.
 
القسم الثالث: الذي يريد تارة إرادة يحبها الله؛ وتارة إرادة يبغضها الله. وهؤلاء أكثر المسلمين، فإنهم يطيعون الله تارة، ويريدون ما أحبه، ويعصونه تارة، ويريدون ما يهوونه، وإن كان يكرهه.
 
والقسم الرابع: أن يخلو عن الإرادتين، فلا يريد لله ولا لهواه، وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الأشياء، ويقع لكثير من الزهاد والنساك في كثير من الأمور.
 
وأما خلو الإنسان عن الإرادة مطلقًا فممتنع، فإنه مفطور على إرادة مالابد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه، والزاهد الناسك إذا كان مسلمًا فلا بد أن يريد أشياء يحبها الله: مثل أداء الفرائض وترك المحارم، بل وكذلك عموم المؤمنين لابد أن يريد أحدهم أشياء يحبها الله، وإلا فمن لم يحب الله، ولا أحب شيئًا لله، فلم يحب شيئًا من الطاعات، لا الشهادتين ولا غيرهما ولا يريد ذلك فإنه لا يكون مؤمنًا، فلابد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه الله؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ولا يحبه الله، فهذا لازم لكل من عصى الله، فإنه أراد المعصية والله لا يحبها ولا يرضاها. وأما الخلو عن الإرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين:
 
أحدهما: مع إعراض العبد عن عبادة الله تعالى وطاعته وإن علم بها، فإنه قد يعلم كثيرًا من الأمور أنه مأمور بها، وهو لا يريدها ولا يكره من غيره فعلها، وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدًا لانتصار هؤلاء الذي يحبه الله، ولا لانتصار هؤلاء الذي يبغضه الله.
 
والوجه الثاني: يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما يعلمون أن الله أمر به، المجتنبين لما يعلمون أن الله نهى عنه، وأمور أخرى لا يعلمون أنها مأمور بها ولا منهي عنها، فلا يريدونها ولا يكرهونها لعدم العلم، وقد يرضونها من جهة كونها مخلوقة مقدرة، وقد يعاونون عليها، ويرون هذا موافقة لله وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه. وهذا موضع يقع فيه الغلط، فإن ما أحبه الله ورسوله علينا أن نحب ما أحبه الله ورسوله. وما أبغضه الله ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه الله ورسوله، وأما ما لا يحبه الله ورسوله ولا يبغضه الله ورسوله كالأفعال التي لا تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون، فهذا إذا كان الله لا يحبها ويرضاها ولا يكرهها ويذمها، فالمؤمن أيضا لا ينبغي أن يحبها ويرضاها ولا يكرهها.
 
وأما كونها مقدورة ومخلوقة لله فذاك لا يختص بها، بل هو شامل لجميع المخلوقات. والله تعالى خلق ما خلقه لما شاء من حكمته، وقد أحسن كل شيء خلقه، والرضا بالقضاء ثلاثة أنواع:
 
أحدها: الرضا بالطاعات؛ فهذا طاعة مأمور بها.
 
والثاني: الرضا بالمصائب، فهذا مأمور به: إما مستحب، وإما واجب.
 
والثالث: الكفر والفسوق والعصيان، فهذا لا يؤمر بالرضا به، بل يؤمر ببغضه وسخطه، فإن الله لا يحبه ولا يرضاه، كما قال تعالى: { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } <ref>[النساء: 108]</ref>، وقال: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } <ref>[البقرة: 205]</ref>، وقال: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } <ref>[الزمر: 7]</ref>، وقال: { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } <ref>[آل عمران: 32]</ref>، وقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } <ref>[المائدة: 87]</ref>.
 
وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فلا يمتنع أن يخلق مالا يحبه لإفضائه إلى الحكمة التي يحبها، كما خلق الشياطين، فنحن راضون عن الله في أن يخلق ما يشاء، وهو محمود على ذلك.
 
وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله، فلا نرضى به ولا نحمده، وفرق بين ما يحب لنفسه، وما يراد لإفضائه إلى المحبوب، مع كونه مبغضًا من جهة أخرى؛ فإن الأمر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر، كالمريض الذي يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه، وهو مع هذا يريد استعماله لإفضائه إلى المحبوب، لا لأنه في نفسه محبوب.
 
وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: «وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه»، فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي يكره الموت، كان هذا مقتضيًا أن يكره إماتته، مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة سبحانه وتعالى فالأمور التي يبغضها الله تعالى وينهى عنها لا تحب ولا ترضى، لكن نرضى بما يرضى الله به حيث خلقها، لما له في ذلك من الحكمة، فكذلك الأفعال التي لا يحبها ولا يبغضها لا ينبغي أن تحب ولا ترضى، كما لا ينبغي أن تبغض.
 
والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «من رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، كان حقًا على الله أن يرضيه»، وأما بالنسبة إلى القدر فيرضى عن الله، إذ له الحمد على كل حال، ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لأجلها ما خلق وإن كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات، فحيث انتفي الأمر الشرعي أو خفي الأمر الشرعي لا يكون الامتثال والرضا والمحبة، كما يكون في الأمر الشرعي، وإن كان ذلك مقدورًا.
 
وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم، فضلًا عن عامتهم، ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم بالأمر الشرعي وطاعتهم له.
 
فمنهم من هو أعرف من غيره بالأمر الشرعي وأطوع له، فهذا تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة بالأمر الشرعي والطاعة له.
 
ومنهم من يبعد عن الأمر الشرعي، ويسترسل حتى ينسلخ من الإسلام بالكلية، ويبقى واقفًا مع هواه والقدر.
 
ومن هؤلاء من يموت كافرًا، ومنهم من يتوب الله عليه، ومنهم من يموت فاسقًا، ومنهم من يتوب الله عليه.
 
وهؤلاء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر الشرعي ولا بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير الأمر الشرعي، إما من أنفسهم وإما من غير الله ورسوله، إذ الاسترسال مع القدر مطلقًا ممتنع لذاته، لما تقدم من أن العبد مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء.
 
وقول من قال: إن العبد يكون مع الله كالميت مع الغاسل لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عن أحد من المسلمين، وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر الله عليه، وإلا فإذا علم ما أمر الله به وأحبه، فلابد أن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه.
 
===فصل في طريق العلم والعمل===
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الأدلة والأسباب هي الموجبة للعلم، كتدبر القرآن والحديث، فالطريقة العملية بصحة الإرادة والأسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك: المريد، كما يسميه أولئك: الطالب، والنظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم، وكذلك: الإرادة.
 
فكما أن طريق العلم لابد فيه من العلم النبوي الشرعي، بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية، ويكون علمك بها مطابقًا لما أخبرت به الرسل، وإلا فلا ينفعك أي معلوم علمته، ولا أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل، بل لابد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فكذلك الإرادة لابد فيها من تعيين المراد، وهو الله والطريق إليه، وهو ما أمرت به الرسل. فلا بد أن تعبد الله وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله، إذ لابد من تصديق الرسول فيما أخبر علمًا، ولابد من طاعته فيما أمر عملًا.
 
ولهذا كان الإيمان قولًا وعملًا مع موافقة السنة، فعلم الحق ما وافق علم الله، والإرادة الصالحة ما وافقت محبة الله ورضاه، وهو حكمه الشرعي، والله عليم حكيم.
 
فالأمور الخبرية لابد أن تطابق علم الله وخبره؛ والأمور العملية لابد أن تطابق حب الله وأمره، فهذا حكمه، وذاك علمه.
 
وأما من جعل حكمه مجرد القدر، كما فعل صاحب منازل السائرين وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع. فلا ينفع المريد القاصد أن يعبد أي معبود كان، ولا أن يعبد الله بأي عبادة كانت، بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله، كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير الله بغير أمر الله، وأما أهل الإسلام والسنة فهم يعبدون الله وحده، ويعبدونه بما شرع. لا يعبدونه بالبدع إلا ما يقع من أحدهم خطأ.
 
فالسالكون طريق الإرادة قد يغلطون تارة في المراد، وتارة في الطريق إليه، وتارة يألهون غير الله بالخوف منه والرجاء له، والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه، فهذا حقيقة الشرك المحرم، فإن حقيقة التوحيد ألا يعبد إلا الله.
 
والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال التعظيم، وكمال الرجاء، والخشية، والإجلال والإكرام. والفناء في هذا التوحيد فناء المرسلين واتباعهم، وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ماسواه، وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه.
 
وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون الله، لكن لا يتبعون الأمر الشرعي في إرادته، لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه يرضيه، ولا يكون كذلك، وتارة ينظرون القدر لكونه مراده، فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض، وأما الفناء المطلق فيه فممتنع. وهؤلاء يفني أحدهم متبعًا لذوقه ووجده المخالف للأمر الشرعي، أو ناظرًا إلى القدر. وهذا يبتلى به كثير من خواصهم.
 
والشيخ عبد القادر، ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية. فإن الخطأ في الإرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه الجهة؛ فهو يأمر السالك ألا تكون له إرادة من جهة هواه أصلًا، بل يريد ما يريده الرب عز وجل: إما إرادة شرعية أن تبين له ذلك، وإلا جرى مع الإرادة القدرية، فهو إما مع أمر الرب، وإما مع خلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر.
 
وهذه طريقة شرعية صحيحة، إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية لا يعلم أنها شرعية، أو من تقديم إرادة قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها، وقد يريد ضدها، فيكون ترك مأمورًا أو فعل محظورًا وهو لا يعلم. فإن طريقة الإرادة: يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل، والوقوع في الضلال، كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل، وضعف العلم الذي يقترن بالعمل، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها من هذا، وهذا. قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } <ref>[التغابن: 16]</ref>، فإذا تفقه السالك، وتعلم الأمر والنهي بحسب اجتهاده، وكان علمه وإرادته بحسب ذاك، فهذا مستطاعه. وإذا أدى الطالب ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وكان علمه مطابقًا لعمله، فهذا مستطاعه.
 
===فصل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله===
قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: «افن عن الخلق بحكم الله، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله، فحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم الله».
 
قلت: فحكمه يتناول خلقه وأمره، أي: افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة الله والتوكل عليه، فلا تطعهم في معصية الله تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعه ولا دفع مضرة. وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقًا للأمر الشرعي لا لهواه، وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الله لا لإرادة نفسه، فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات.
 
فالأول: يكون بالأمر، والثاني: لا تكون له إرادة. ولا بد في هذا أن يقيد بألا تكون له إرادة لم يؤمر بها، وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئًا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته، سواء كان موافقًا للقدر أم لا. وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين. والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور.
 
قال الشيخ: «فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم».
 
وهو كما قال.
 
فإذا كان القلب لا يرجوهم، ولا يخافهم، لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورًا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر الله به، ونهيهم عما نهاهم الله عنه، كذهاب الرسل، واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات الله، فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد. ليكون عابدًا لله متوكلًا عليه، وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل، أو مثله أو دونه، كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب، بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه.
 
قال الشيخ: «وعلامة فنائك عنك وعن هواك: ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر، فلا تتحرك فيك بك ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك، ولا تذب عنك، لكن تكل ذلك كله إلى من تولاه أولًا فيتولاه آخرًا. كما كان ذلك موكولًا إليه في حال كونك مغيبًا في الرحم، وكونك رضيعًا طفلا في مهدك».
 
قلت: وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها، فإذا فنى عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه الله وترك ما يبغضه الله فاعتاض بفعل محبوب الله عن محبوبه وبترك ما يبغضه الله عما يبغضه وحينئذ فالنفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فيكون في ذلك متوكلًا على الله.
 
والشيخ رحمه الله ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقًا، بل لابد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة لله وطاعة أمره بدون التوكل عليه، كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته، قال تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } <ref>[الطلاق: 2، 3]</ref>، وقال تعالى: { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } <ref>[المزمل: 8، 9]</ref>.
 
والمقصود أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون التوكل والاستعانة، ومن كان واثقًا بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره، وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول: إنه محتاج فيه إلى غيره.
 
قال الشيخ رضي الله عنه: وعلامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادًا قط، فلا يكن لك غرض، ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله، ساكن الجوارح مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها، تقلبك يد القدرة ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورًا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الأول، فتكون منكسرًا أبدًا.
 
فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة: كالإناء المتثلم الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر فتفنوا عن أخلاق البشرية، فلن يقبل باطنك ساكنًا غير إرادة الله، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم وهو فعل الله تبارك وتعالى حقًا في العلم فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية، وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية. كما قال النبي {{صل}}: «حبب إلى من دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا لما أشرت إليه وتقدم، قال الله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» وساق كلامه. وفيه: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل» الحديث.
 
قلت: هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر رضي الله عنه وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورًا بإرادته. فقوله: علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادًا قط. أي لا تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته، فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه، فإرادته إما واجب وإما مستحب، وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص.
 
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلًا، وإن قول أبي يزيد: أريد ألا أريد لما قيل له: ماذا تريد؟ نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشائخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقًا، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين، وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا، فإن هذا غلط ممن قاله، فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور.
 
فإن الحي لابد له من إرادة، فلا يمكن حيًا ألا تكون له إرادة، فإن الإرادة التي يحبها الله ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركًا لما هو خير له.
 
والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه الإرادة، فقال تعالى: { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } <ref>[الأنعام: 52]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } <ref>[الليل: 19، 20]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } <ref>[الإنسان: 9]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } <ref>[الأحزاب: 29]</ref>، وقال تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } <ref>[الإسراء: 19]</ref>، وقال تعالى: { فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ّ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } <ref>[الزمر: 2، 3]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } <ref>[الزمر: 14]</ref>، وقال تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } <ref>[النساء: 36]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>.
 
ولا عبادة إلا بإرادة الله، ولما أمر به، وقال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } <ref>[البقرة: 112]</ref>، أي أخلص قصده لله. وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } <ref>[البينة: 5]</ref>، وإخلاص الدين له هو إرادته وحده بالعبادة. وقال تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } <ref>[المائدة: 54]</ref>، وقال تعالى: { ِوَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، وكل محب فهو مريد، وقال الخليل عليه السلام: { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } <ref>[الأنعام: 76]</ref>، ثم قال: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } <ref>[الأنعام: 79]</ref>.
 
ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر الله بإرادته، وإرادة ما يأمر به، وينهى عن إرادة غيره، وإرادة ما نهى عنه، وقد قال النبي {{صل}}: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، فهما إرادتان: إرادة يحبها الله ويرضاها، وإرادة لا يحبها الله ولا يرضاها، بل إما نهي عنها، وإما لم يأمر بها، ولا ينهي عنها والناس في الإرادة ثلاثة أقسام:
 
قوم يريدون ما يهوونه، فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان.
 
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقًا، ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب، وإن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة، وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه شهد القيومية العامة، ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والاصطلام، ونحو ذلك. وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الموضع.
 
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو شهود القدر، وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق الأول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا، ورؤية فعل هذا وترك هذا، فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلًا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعًا لهواه فيما يريده، فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع، ثم شهد أنه خالق كل شيء، فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق، فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني، وهو بعد هذا الجمع، وهو الفرق الشرعي. ألا تري أنك تريد ما أمرت به، ولا تريد ما نهيت عنه؟ وتشهد أن الله يستحق العبادة دون ما سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله، فتفرق بين المأمور والمحظور، وبين أوليائه وأعدائه، وتشهد توحيد الألوهية، فنازعوه في هذا الفرق.
 
منهم من أنكره.
 
ومنهم من لم يفهمه.
 
ومنهم من ادعي أن المتكلم فيه لم يصل إليه.
 
ثم إنك تجد كثيرًا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع، وهو: توحيد الربوبية، والفناء فيه. كما في كلام صاحب منازل السائرين مع جلالة قدره، مع أنه قطعًا كان قائمًا بالأمر والنهي المعروفين، لكن قد يدعون أن هذا لأجل العامة.
 
ومنهم من يتناقض.
 
ومنهم من يقول: الوقوف مع الأمر لأجل مصلحة العامة، وقد يعبر عنهم بأهل المارستان.
 
ومنهم من يسمى ذلك مقام التلبيس.
 
ومنهم من يقول: التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، فيشهد بقلبه استواء المأمور والمحظور مع تفريقه بينهما.
 
ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك العارفين، وغاية منازل الأولياء الصديقين.
 
ومنهم من يظن أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهي يكون في السلوك والبداية، وأما في النهاية فلاتبقى إلا إرادة القدر. وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة، فإن العبادة لله والطاعة له ولرسوله إنما تكون في امتثال الأمر الشرعي لا في الجري مع المقدور، وإن كان كفرًا أو فسوقًا أو عصيانًا، ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان الكفار والفجار وخفرائهم، حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا الأمر والنهي الشرعيين.
 
ومن هؤلاء من يقول: من شهد القدر سقط عنه الملام، ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملام لما شهد القدر.
 
وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملكًا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف، فيظن ذلك كمالا في الولاية، وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية، وأهواء نفسانية، وإنما الكمال في الولاية أن يستعمل خرق العادات في إقامة الأمر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور، فإذاحصلت بغير الأسباب الشرعية فهي مذمومة، وإن حصلت بالأسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة، وإن توصل بها إلى مباح لا يستعان بها على طاعة كانت للأبرار دون المقربين.
 
وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل الأمر الشرعي، فهذه خوارق المقربين السابقين.
 
فلابد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها: من أين حصلت، وإلى ماذا أوصلت كما ينظر في الأموال في مستخرجها ومصروفها ومن استعملها أعني الخوارق في إرادته الطبيعية كان مذمومًا، ومن كان خاليًا عن الإرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه، لكونه لم يعرف الإرادة الشرعية.
 
وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذمومًا مستحقًا للعقاب إن لم يعف عنه، وهو يمدح بكون إرادته ليست بهواه، لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لأمر الله تعالى ورسوله، لا يكفيه أن تكون لا من هذا ولامن هذا، مع أنه لا يمكن خلوه عن الإرادة مطلقًا؛ بل لابد له من إرادة، فإن لم يرد ما يحبه الله ورسوله، أراد مالا يحبه الله ورسوله، لكن إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريدًا لما يظن أنه مأمور به، فيكون ضالًا.
 
فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى. وقد قال تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }، وقد قال النبي {{صل}}: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون».
 
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها. كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون. وهم يعرفون الحق ولا يعملون به، فلهم علم، لكن ليس لهم عمل بالعلم، وهم في الإرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الإرادة المحمودة المأمور بها، وهي إرادة ما يحبه الله ورسوله.
 
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلال، يعملون بغير علم، فلا يعرفون الإرادة التي يحبها الله ورسوله، بل غاية أحدهم تجريد نفسه عن الإرادات، فلا يبقى مريدًا لما أمر الله به ورسوله، كما لا يريد كثيرًا مما نهى الله عنه ورسوله، وهؤلاء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة الله ورسوله، ولهذا كانوا ملعونين: أي بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة الله عز وجل.
 
والعالم الفاجر يشبه اليهود. والعابد الجاهل يشبه النصارى. ومن أهل العلم من فيه شيء من الأول، ومن أهل العبادة من فيه شيء من الثاني.
 
وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم، وتباينوا تباينًا عظيمًا، لا يحيط به إلا الله. ففيهم من لم يخلق الله خلقًا أكرم عليه منه، وهو خير البرية. ومنهم من هو شر البرية، وأفضل الأحوال فيه حال الخليلين: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، وهو المعروج به إلى ما فوق الأنبياء كلهم إبراهيم وموسى وغيرهما.
 
وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي {{صل}}: «إن إبراهيم خير البرية»، وقد ثبت في [[صحيح مسلم]] عن جابر عن النبي {{صل}}: أنه كان يقول في خطبة الجمعة: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد {{صل}}». وكذلك كان عبد الله بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس، كما رواه البخاري في صحيحه.
 
وقد ثبت في الصحيحين عن [[عائشة]] رضي الله عنها أنها قالت: ما ضرب رسول الله {{صل}} خادمًا له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله.
 
وقال أنس: خدمت رسول الله {{صل}} عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟. وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال: «دعوه، فلو قضى شيء لكان».
 
ورسول الله {{صل}} هو أفضل الخلائق، وسيد ولد آدم، وله الوسيلة في المقامات كلها، ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئًا، ولاأنه يريد كل واقع، كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى، بل هو منزه عن هذا وهذا، قال الله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } <ref>[النجم: 3، 4]</ref>، وقال تعالى: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } <ref>[الجن: 19]</ref> وقال تعالى: { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } <ref>[البقرة: 23]</ref>، وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } <ref>[الإسراء: 1]</ref>. والمراد بعبده عابده المطيع لأمره، وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون.
 
وقد قال الله لنبيه: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref>. قال الحسن البصري: لم يجعل الله لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، وقد قال الله تعالى له: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } <ref>[القلم: 4]</ref>. قال [[ابن عباس]] ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن حنبل: على دين عظيم. والدين: فعل ما أمر به. وقالت عائشة: كان خلقه القرآن. رواه مسلم. وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه، ولا ينتقم لنفسه، لكن يعاقب لله وينتقم لله، وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه، وأما حدود الله فقد قال: «والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أخرجاه في الصحيحين.
 
وهذا هو كمال الإرادة؛ فإنه أراد ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان والعمل الصالح، وأمر بذلك وكره ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، ونهى عن ذلك، كما وصفه الله تعالى بقوله: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[الأعراف: 156، 157]</ref>.
 
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم، بل يستوفى حق ربه، ويعفو عن حظ نفسه، وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر، فيقول: «لو قضى شيء لكان»، وفي حق الله يقوم بالأمر فيفعل ما أمر الله به، ويجاهد في سبيل الله أكمل الجهاد الممكن، فجاهدهم أولًا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا. فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } <ref>[الفرقان: 51، 52]</ref>. ثم لما هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال، جاهدهم بيده.
 
وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، وهو معروف أيضا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي {{صل}} في حديث احتجاج آدم وموسى، لما لام موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب الذي فعله، فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبًا علىَّ قبل أن أخلق بمدة طويلة، قال النبي {{صل}}: «فحج آدم موسى».
 
وذلك لأن ملام موسى لآدم لم يكن لحق الله، وإنما كان لما لحقه وغيره من الآدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل، فذكر له آدم أن هذا كان أمرًا مقدرًا لابد من كونه، والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو الذي ينفعهم، وأما لومهم لمن كان سببًا فيها فلا فائدة لهم في ذلك، وكذلك ما فاتهم من الأمور التي تنفعهم يؤمرون في ذلك بالنظر إلى القدر، وأما التأسف والحزن فلا فائدة فيه، فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم، أو حصول مضرة لهم، فلينظروا في ذلك إلى القدر، وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي، والإصلاح في المستقبل. فإن هذا الأمر ينفعهم، وهو مقدور لهم بمعونة الله لهم.
 
وفي [[صحيح مسلم]] عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان».
 
أمر النبي {{صل}} بحرص العبد على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز، وأنفع ما للعبد طاعة الله ورسوله، وهي عبادة الله تعالى. وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. ونهاه عن العجز وهو الإضاعة والتفريط والتواني. كما قال في الحديث الآخر: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على الله الأماني» رواه [[الترمذي]].
 
وفي [[سنن أبي داود]]: أن رجلين تحاكما إلى النبي {{صل}} فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي {{صل}}: «إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل» فالكيس ضد العجز. وفي الحديث: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» رواه مسلم. وليس المراد بالعجز في كلام النبي {{صل}} ما يضاد القدرة؛ فإن من لا قدرة له بحال لا يلام، ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال.
 
ثم لما أمره بالاجتهاد والاستعانة بالله ونهاه عن العجز، أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول: قدر الله وما شاء فعل، ولا يتحسر ويتلهف ويحزن. ويقول: «لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
 
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى: الأمر أمران: أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه؛ فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه. وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين. كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره. فإنه لابد من فعل المأمور وترك المحظور، والرضا والصبر على المقدور. وقد قال تعالى حكاية عن يوسف: { أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.
 
فالتقوى: تتضمن فعل المأمور وترك المحظور. والصبر: يتضمن الصبر على المقدور. وقد قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلى قوله: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } <ref>[آل عمران: 118-120]</ref>، فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين، وقال تعالى: { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } <ref>[آل عمران: 125]</ref>، فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة، وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم.
 
وقال تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } <ref>[آل عمران: 186]</ref> فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لابد أن يؤذوهم بألسنتهم، وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم الأمور. فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة، المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم، وشر العدو المبطن للعداوة، وهم المنافقون. وهذا الذي كان خلق النبي {{صل}} وهديه هو أكمل الأمور.
 
فأما من أراد ما يحبه الله تارة وما لا يحبه تارة، أو لم يرد لا هذا ولا هذا، فكلاهما دون خلق رسول الله {{صل}}؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم، كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين، فهو وإن كان جائزًا لا إثم فيه، فخلق رسول الله {{صل}} أكمل منه.
 
وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب، ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام لله أرضى لله. كما هو أيضا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزًا لا إثم فيه فخلق رسول الله {{صل}} أكمل منه.
 
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع الله له.
 
لكن قد فضل الله بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الرسل على بعض، والشريعة التي بعث الله بها محمدا {{صل}} أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد {{صل}} أفضل الأنبياء والمرسلين، وأمته خير أمة أخرجت للناس. قال [[أبو هريرة]] في قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } <ref>[آل عمران: 110]</ref>: كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس، فهم خير الأمم للخلق. والخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وأما غير الأنبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لاتباعه لذلك النبي، وأما من كان من أهل شريعة محمد {{صل}} ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبًا عليه وما فعله محرمًا عليه كان مستحقًا للذم والعقاب، إلا أن يكون متأولًا مخطئًا فالله قد وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وذنب أحدهم قد يعفو الله عنه بأسباب متعددة.
 
ومن أسباب هذا الانحراف: أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه، فيزهد في موجب الشهوة والغضب، كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين، وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم، وهؤلاء يرون الجهاد نقصًا لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، ويرون أن الله لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لأنه جرى علي يديه سفك الدماء.
 
ومنهم من لا يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة، ومنهم من لا يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى الله بأنه لا يذبح حيوانًا ولا يأكل لحمه ولا ينكح النساء، ويقول مادحه: فلان ما نكح، ولا ذبح.
 
وقد أنكر النبي {{صل}} على هؤلاء كما في الصحيحين عن أنس: أن نفرا من أصحاب النبي {{صل}} سألوا أزواج النبي {{صل}} عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي {{صل}} فحمد الله وأثني عليه وقال: «ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني». وقد قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } <ref>[المائدة: 87]</ref> نزلت في عثمان ابن مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل، ونوع من الترهب. وفي الصحيحين عن سعد قال: رد رسول الله {{صل}} على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا.
 
والزهد النافع المشروع الذي يحبه الله ورسوله هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك، فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة الله وطاعته، والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر، أو زهد فيما لا ينفع، فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي {{صل}}: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن».
 
والنافع للعبد هو عبادة الله وطاعته وطاعة رسوله، وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع، ثم الأنفع له أن تكون كل أعماله عبادة لله وطاعة له، وإن أدى الفرائض وفعل مباحًا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره.
 
وكذلك الورع المشروع، هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله مثل محرم معين مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينًا تحريمه، أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة، كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو مطالب بها، وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها، ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة.
 
وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه.
 
وتمام الورع أن يعم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
 
وكذلك الزهد والرغبة، من لم يراع مايحبه الله ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك، وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل، أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده، أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم، حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك.
 
وقد قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ } <ref>[البقرة: 217]</ref>.
 
يقول سبحانه وتعالى: وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.
 
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلمًا له هو جاهل، فإن هذا الحيوان لابد أن يموت، فإذا قتل لمنفعة الآدميين وحاجتهم كان خيرًا من أن يموت موتًا لا ينتفع به أحد، والآدمي أكمل منه، ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك، لكن مالا يحتاج إليه من تعذيبه نهي الله عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك، وأوجب الله الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح. كما في [[صحيح مسلم]] عن شداد بن أوس عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته».
 
وهؤلاء الذين زهدوا في الإرادات حتى فيما يحبه الله ورسوله من الإرادات بإزائهم طائفتان:
 
طائفة رغبت فيما كره الله ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان.
 
وطائفة رغبت فيما أمر الله ورسوله، لكن لهواء أنفسهم لا لعبادة الله تعالى، وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات، كما في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قيل له: يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله». قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } <ref>[النساء: 142]</ref>.
 
وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة، فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم، وهم يشبهون اليهود، كما يشبه أولئك النصارى. قال تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } <ref>[آل عمران: 112]</ref>، وقال تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } <ref>[الأعراف: 146]</ref>، وقال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلى قوله: { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } <ref>[الأعراف: 175، 176]</ref>.
 
فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق، وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق. كما قال تعالى: { ِوَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } <ref>[المائدة: 77]</ref>.
 
وكلا الطائفتين تاركة ما أمر الله ورسوله به من الإرادات، والأعمال الصالحة، مرتكبة لما نهى الله ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة.
 
===فصل في شرح أمر الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس===
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الاستقامة رضي الله عنهم: بأنه لا يريد السالك مرادًا قط، وأنه لا يريد مع إرادة الله عز وجل سواها، بل يجرى فعله فيه، فيكون هو مراد الحق، إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر الله ورسوله فيه، فأما ما علم أن الله أمر به فعليه أن يريده ويعمل به، وقد صرحوا بذلك في غير موضع. وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد، فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره، أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر، فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع.
 
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد ابن محمد، وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف.
 
وهذا كثير في كلامهم: كقول الشيخ عبد القادر في كتاب فتوح الغي : اخرج من نفسك، وتنح عنها، وانعزل عن ملكك، وسلم الكل إلى الله تبارك وتعالى، وكن بوابه علي باب قلبك، وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك بإدخاله، وانته نهيه في صد من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، وإخراج الهوى من القلب بمخالفته وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته، فلا ترد إرادة غير إرادته تبارك وتعالى، وغير ذلك منك غير، وهو واد الحمقى، وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى، وحجابك عنه.
 
احفظ أبدا أمره، وانته أبدا نهيه، وسلم إليه أبدا مقدوره، ولا تشركه بشيء من خلقه، فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه، فلا ترد ولا تهوى ولا تشته لئلا يكون شركا. قال الله تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref> ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب؛ بل هو أيضا متابعتك لهواك، وأن تختار مع ربك شيئًا سواه من الدنيا وما فيها، والآخرة وما فيها، فما سواه تبارك وتعالى غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره، فاحذر ولا تركن، وخف ولا تأمن، وفتش ولا تغفل فتطمئن، ولا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولاتدع شيئًا من ذلك.
 
وقال الشيخ عبد القادر أيضا: » إنما هو الله ونفسك، وأنت المخاطب، والنفس ضد الله وعدوته، والأشياء كلها تابعة لله، فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك إلى أن قال:
 
فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك، قال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } <ref>[ص: 26]</ref> إلى أن قال:
 
والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى لما رأي رب العزة في المنام فقال له: كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال قال أبو يزيد: فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها.
 
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها، فإن كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من إجرام الخلق، وشبههم ومنتهم، والاتكال عليهم والثقة بهم، والخوف منهم؛ والرجاء لهم، والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا، فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية، أو الزكاة، أو الصدقة، أو الكفارة أو النذر، فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب، فاخرج من الخلق جدًا، واجعلهم كالباب يرد ويفتتح، وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل أخرى، كل ذلك بفعل فاعل، وتدبير مدبر، وهو الله تبارك وتعالى.
 
فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له تبارك وتعالى ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية، واعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون الله تبارك وتعالى لكيلا تعبدهم، وتنسى الله تعالى ولا تقبل فعلهم دون الله فتكفر، وتكون قدريًا. ولكن قل: هي لله خلقًا وللعباد كسبا. كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب، وامتثل أمر الله فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه، فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم، فلا تكن أنت الحاكم، وكونك معهم قدر، والقدر ظلمة، فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم كتاب الله وسنة رسوله {{صل}} لا تخرج عنهما.
 
فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة، فإن وجدت فيهما تحريم ذلك، مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك، واهجره ولاتقبله، ولاتعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين، وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضا ولا تقبله، واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها، وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها«
 
قلت: ومراده بهجر المباح، إذا لم يكن مأمورًا به، كما قد بين مراده في غير هذا الموضع، فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعمة الله عليه، وكان واجبًا عليه، وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين؛ لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين.
 
قال: »وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله، مثل أن يقال لك: ائت موضع كذا وكذا، الق فلانًا الصالح، ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح، لاستغنائك عنه بما أولاك الله تعالى من نعمه من العلم والمعرفة، فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه، فتقول: هل هذا إلهام إلا من الحق فأعمل به؟ بل أنتظر الخير في ذلك، وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام وتؤمر بالسعي، أو علامة تظهر لأهل العلم بالله تبارك وتعالى يفعلها العقلاء من أولياء الله، والمؤيدون من الأبدال.
 
وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه، وربما كان فيه فتنة وهلاك ومكر من الله وامتحان، فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك، فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولًا محفوظًا فيها؛ لأن الله تعالى لا يعاقبك على فعله، وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشيء«.
 
قلت: فقد أمر رضي الله عنه بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولابد، وما كان معلومًا أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضا، وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين، والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين، فإن جنس هذا العمل ليس محرمًا ولا كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله، وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه، فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل، لخلاف ما إذا فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا.
 
وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلاء خيف عليه. مثل قوله {{صل}} لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»، ومنه قوله: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا». وفي السنن: «من سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه، ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده وفي رواية وإن أكره عليه»، وفي الصحيحين أنه {{صل}} قال في الطاعون: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»، وعنه أنه {{صل}} نهى عن النذر. ومنه قوله: «ذروني ماتركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
 
===فصل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية===
قال الشيخ عبد القادر: وإن كنت في حال الحقيقة، وهي حال الولاية: فخالف هواك واتبع الأمر في الجملة، واتباع الأمر على قسمين:
 
أحدهما: أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس، وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن.
 
والقسم الثاني: ما كان بأمر باطن، وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه، وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكمًا في الشرع، على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب، بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره، فسمى مباحًا فلا يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فيصير جميع حركاته وسكناته بالله تعالى، مافي الشرع حكمه فبالشرع، وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن، فحينئذ يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم.
 
وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق، والفناء حالة الأبدال المنكسري القلوب؛ لأجل الحق، والموحدين العارفين أرباب العلوم والفعل، السادة الأمراء، السخي الخفراء للحق، خلفاء الرحمن وأجلائه وأعيانه وأحبابه عليهم السلام فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة، وألا تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة، دنيا وأخرى عبد المَلِك لاعبد المَلَك، وعبد الأمر لا عبد الهوى كالطفل مع الظئر، والميت الغسيل مع الغاسل، والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي.
 
وقال أيضا: اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك، إن كنت في حال التقوى التي هي القدم الأولى، واتبع الأمر في حالة الولاية ووجود الهوي ولا تتجاوزه، وهي القدم الثانية، وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية والصديقية، وهي المنتهى، تنح عن الطريق القذر، خل عن سبيله، رد نفسك وهواك، كف لسانك عن الشكوى، فإذا فعلت ذلك، إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا، وإن كان شرا حفظك في طاعته فيه، وأزال عنك الملامة وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله، كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف، ذلك النموذج عندك فاعتبر به. ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا، ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات، ولايقبل على شدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات، كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ، فالبلايا مكفرات. قال النبي {{صل}}: «حمى يوم كفارة سنة».
 
قلت: فقد بين الشيخ عبد القادر رضي الله عنه أن لزوم الأمر والنهي لابد منه في كل مقام، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها: حال صاحب التقوى، وحال الحقيقة، وحال حق الحق، وقد فسر مقصوده بأنه لابد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع، وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وهذا حق. فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين.
 
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائمًا الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم، وإن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر.
 
فإن قلت: فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟.
 
قيل: أما الذي بعده الذين سماهم: الأبدال، فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلًا فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره، ولهذا قال: فاتباع الأمر فيها مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة.
 
فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية، فيشهدون أن الله هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير، فلا يرون لأنفسهم حمدًا ولا منة على أحد، ويرون أن الله خالق أفعال العباد فلا يرون أحدًا مسيئًا إليهم، ولا يرون لهم حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وهم يعلمون أن العبادة لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على الله شيئًا، بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد، ولا يشرك به شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فيرون إنما قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك.
 
ويشهدون: أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وأما ما قام بالعباد من أذاهم، فهو خلقه وهو من عدله، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه، وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل. ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئًا، ولا يرى به شيئًا.
 
وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين لله، وأنه لا يفعل إلاما أمر به، فلايفعل إلا لله، لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به، وإن كمال هذا الشهود لا يبقى شيئًا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك. فكلاهما قائم بالأمر مطيع لله، لكن هذا يشهد أن الله هو الذي جعله مسلمًا مصليًا، وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا. وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن الله خالق أفعال العباد؛ لكن قد لا يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم.
 
وأيضا، بينهما فرق من جهة ثانية: وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها، فهو يميز في مراداته بين ما يؤمر به وما ينهى عنه، ومالا يؤمر به ولا ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب، إما أمرًا به فيمتثله هو بالله، وإما فعلا فيه فيفعله الله به، ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر، في غير الأمر والنهي.
 
وأما الأول: الذي هو في مقام التقوى العامة، فإن له شهوات للمحرمات، وله التفات إلى الخلق، وله رؤية نفسه، فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى، بأن يكف عن المحرمات، وعن تناول الشهوات بغير الأمر، فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله ومالا يفعله، وهو التقوى، وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط، فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع، وما كان مباحًا لم يفعل إلا ما أمر به.
 
وأما الثالث: فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا لله وبالله، فلا يفعل إلا ما أمر الله به لله، ويشهد أن الله هو الذي فعل ذلك في الحقيقة، ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير الله، ولا يفعل بنفسه ولا بغير الله تعالى.
 
والثلاثة مشتركون في الطريق، في أن كلًا منهم لا يفعل إلا الطاعة، لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة، وبصفاء النية والإرادة. والله أعلم.
 
فإن قيل: كلام الشيخ كله يدور على أنه يتبع الأمر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا، وما ليس فيه أمرًا باطنًا ولا ظاهرًا يكون فيه مسلمًا لفعل الرب، بحيث لا يكون له اختيار لا في هذا ولا في هذا بل إن عرف الأمر كان معه، وإن لم يعرفه كان مع القدر، فهو مع أمر الرب إن عرف وإلا فمع خلقه، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، وهذا يقتضي أن من الحوادث ماليس فيه أمر ولا نهي، فلا يكون لله فيه حكم لا باستحباب ولا كراهة، وقد صرح بذلك هو والشيخ حماد الدباس، وإن السالك يصل إلى أمور لا يكون فيها حكم شرعي بأمر ولا نهي، بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة، إذ ليس هنا حقيقة شرعية.
 
وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة، ويقولون: الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على عدمه، وهو الواجب والمستحب. وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده، وهو المحرم والمكروه، وإما أن يستوى الأمران وهو المباح، وهذا التقسيم بحسب الأمر المطلق.
 
ثم الفعل المعين الذي يقال: هو مباح، إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لاستعانته به على طاعته ولحسن نيته. فهذا يصير أيضا محبوبًا راجح الوجود بهذا الاعتبار، وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن مستحب، فهذا عدمه خير له.
 
والسالك المتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض لا يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين، فإنه إذا لم يستعن به على طاعته كان تركه، وفعل الطاعة مكانه خيرًا له، وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح مثله. فيقال: لا فرق بين هذا وهذا، فهذا يصلح للأبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى الله بالفرائض، كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ويشتغلون مع ذلك بمباحات. فهؤلاء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم، إذا كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر، ولا سبيل إلى أن تترك النفس فعلًا إن لم تشتغل بفعل آخر يضاد الأول؛ إذ لا تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات.
 
ومن هذا أنكر الكعبي: المباح في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير.
 
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار. فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه: كأبي الحسن الآمدي، وقواه طائفة، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي. ومنهم من قال: هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة، فأما ما ليست أضداده محصورة فلا يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما، كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير، فيقال في المخير: هو أمر بأحد الثلاثة، ويقال في المطلق: هو أمر بالقدر المشترك، وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا.
 
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر، وهو قد يقول: عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم، بل إما مباح وإما مستحب، وإما واجب.
 
وتحقيق الأمر أن قولنا: الأمر بالشيء نهى عن ضده وأضداده، والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا: الأمر بالشيء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، والنهي عن الشيء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به. فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، وإذا كان لا يعدم إلابضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده، فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن مقصوده الأمر. والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود.
 
فالأول: هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلاف الثاني، فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم، فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا.
 
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لابد من ترك أضداده، لكن ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك.
 
وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال: فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا: الواجب ما يذم تاركه، ويعاقب تاركه، أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب.
 
فقولنا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب. يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب الأول، والثاني. فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به، ويؤمر به أمرًا بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه.
 
ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي، فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما، بحيث إذا أكلهما جميعًا لم يعاقب عقوبة من أكل ميتتين، بل عقوبة من أكل ميتة واحدة، والأخرى وجب تركها وجوب الوسائل. فقول من قال: كلاهما محرم صحيح بهذا الاعتبار؛ وقول من قال: المحرم في نفس الأمر أحدهما صحيح أيضا بذلك الاعتبار وهذا نظير قول من قال: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب.
 
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا، ومن قال: المحرم أحدهما لا يناسب طريقة الفقهاء، وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي. فإن الوجوب والحرمة الثابتة لأحدهما ليست ثابتة للآخر، بل نوع آخر، حتى لو اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الأخرى، كان ولده من مملوكته ثابتًا نسبه بخلاف الأخرى، ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلًا، ثم تزوج الأخرى لم يحد حدين، مع أنه لاحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الأجنبية.
 
وبهذا تنحل شبهة الكعبي. فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.
 
ثم إن هذا يعتبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالًا ليشتغل به عن الطعام الحرام، فهذا يثاب على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي {{صل}} بقوله: «وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يارسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر، فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال؟»، ومنه قوله {{صل}}: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته» رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه.
 
وقد يقال: المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلًا، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد. فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك. فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري. وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.
 
والمقصود هنا أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح عن مباح آخر، فيكون كل من المباحين يستوى وجوده وعدمه في حقهم. أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة الله، وحينئذ فمباحاتهم طاعات، وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده، فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه، وإن لم يكن فيه إثم. والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها فهذا سؤال.
 
وسؤال ثان: وهو أنه إذا قدر أن من الأفعال ماليس فيه أمر ولا نهي، كما في حق الأبرار، فهذا الفعل لا يحمد ولا يذم، ولا يحب ولا يبغض، ولا ينظر فيه إلا وجود القدر وعدمه، بل إن فعلوه لم يحمدوا، وإن لم يفعلوه لم يحمدوا، فلا يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل، مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم وإرادتهم. إذ الكلام في ذلك.
 
وأما غيرالأفعال الاختيارية، وهو ما فعل بالإنسان كما يحمل الإنسان وهو لا يستطيع الامتناع، فهذا خارج عن التكليف، مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة، ويبغضه إن كان سيئة، ويخلو عنهما إن لم يكن حسنة ولا سيئة، فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية كالميت بين يدي الغاسل فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل.
 
وسؤال ثالث: وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط الأمر والنهي عن العبد في هذه الأحوال، مع كون أفعاله اختيارية، وهب أنه ليس له هوى، فليس كل مالا هوى فيه يسقط عنه فيه الأمر والنهي، بل عليه أن يحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله.
 
قيل: هذه الأسولة أسئلة صحيحة.
 
===احتمال خفاء الأمر والنهي على السالك===
وفصل الخطاب: أن السالك قد يخفي عليه الأمر والنهي، بحيث لا يدري هل ذلك الفعل مأمور به شرعًا أو منهي عنه شرعًا؛ فيبقى هواه لئلا يكون له هوى فيه، ثم يسلم فيه للقدر، وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب وأمره وحبه في ذلك الفعل.
 
وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد، وأئمة العلماء، فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال لا يعرفون حكم الله الشرعي فيها، بل قد تعارضت عندهم فيها الأدلة أو خفيت الأدلة بالكلية، فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم، وحكم الشرع إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من معرفته، وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فلا يطالب به، وإنما عليه أن يتقي الله ما استطاع. وهذا خطأ في العلم، وليس خطأ في العمل، وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده واجتهاده، وخطؤه مرفوع عنه.
 
فإن قيل: فإذا كان الأمر هكذا. فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به أو منهي عنه، وهو لا يريد أن يفعل شيئًا لا مدح فيه ولا ذم، فيقف لا يستسلم للقدر ويصير محلًا لما يستعمل فيه من الأفعال، اللهم إلا إذا فعل غيره فعلًا، فهو لا يمدحه ولا يذمه، ولا يرضاه ولا يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه.
 
فأما كونه هو من أفعاله الاختيارية يصير مستسلمًا لما يستعمله القدر فيه: كالطفل مع الظئر، والميت مع الغاسل، فهذا مما لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا محرم، وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لاجتهاده وحسن قصده، أما كونه يحمد على ذلك، ويجعل هذا أفضل المقامات فليس الأمر كذلك، وكونه مجردًا عن هواه ليس مسوغًا له أن يستسلم لكل مايفعل به.
 
ثم يقال: الأمور مع هذا نوعان:
 
أحدهما: أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل الإنسان ولا يمكنه الامتناع، وكما تضجع المرأة قهرًا وتوطأ، فهذا لا إثم فيه باتفاق العلماء، وأما أن يكره بالإكراه الشرعي حتى يفعل، فهذا أيضا معفو عنه في الأفعال عند الجمهور، وهو أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالى: { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[النور: 33]</ref>.
 
وأما إذا لم يكره الإكراه الشرعي فاستسلامه للفعل المطلق الذي لا يعرف أخير هو أم شر؟ ليس هو مأمورًا به، وإن جرى على يده خرق عادة أو لم يجر، فليس هو مأمورًا أن يفعل إلا ما هو خير عند الله ورسوله.
 
قيل: هذا السؤال صحيح، وحقيقة الأمر: أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم لربهم، وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الأصلح، إذا استعملوا في أمورهم لا يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن يكون خيرًا؛ لأن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم، والإنسان غير عالم في كل حال بما هو الأصلح له في دينه، وبما هو أرضى لله ورسوله، فيبقى حالهم حال المستخير لله فيما لم يعلم عاقبته، إذا قال: «اللهم، إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر؛ وتعلم ولا أعلم؛ وأنت علام الغيوب، اللهم، إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به».
 
فإذا استخار الله كان ما شرح له صدره وتيسر له من الأمور هو الذي اختاره الله له. إذ لم يكن معه دليل شرعي على أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال، فإن الأدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام، لا بعين كل فعل من كل فاعل، إذ كان هذا ممتنعًا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الأفراد المعينة داخلة تحت الأمر العام الكلي؛ لكن لا يقدر كل أحد على استحضار هذا، ولا على استحضار أنواع الخطاب.
 
ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم.
 
ثم القياس أيضا قد لا يحصل في كل واقعة، فقد يخفى على الأئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام، أو اعتبارها بنظير لها، فلا يعرف لها أصل، ولا نظير. هذا مع كثرة نظرهم في خطاب الشارع ومعرفة معانيه، ودلالته على الأحكام. فكيف من لم يكن كذلك؟
 
ثم السالك ليس قصده معرفة الحلال والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا، وهذا خير من هذا، وأيهما أحب إلى الله في حقه في تلك الحال، وهذا باب واسع لا يحيط به إلا الله ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيها بما ينهي عنه غيره، ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى.
 
فقالوا: نحن نفعل الخير بحسب الإمكان، وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به، ونترك أصل الشر وهو هوى النفس، ونلجأ إلى الله فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن أصبنا فلنا أجران، وإلا فلنا أجر، وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا.
 
وحينئذ، فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع لا يفعله ولا يقصد أحب الأمور إلى الله وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى، فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع بلا هوى. فهذا نقص في العلم، وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل، ولو كان المفعول واجبًا.
 
فيقال: إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه، وإن لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر رجلان من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا. فقال أحدهما لصاحبه: إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. وقال الآخر: أنت كالحمار يحمل أسفارًا؛ فهذا أحسن قصدًا وأقوى علمًا.
 
ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلاء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة، وأهل العلم يعيبون على أولئك نقص علمهم بالشرع، وعدولهم عن الأمر والنهي فهذا هذا.
 
والله تعالى المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
 
وقد قال بعض أهل الفقه والزهد: من الناس من سلك الشريعة، ومنهم من سلك الحقيقة. ولعله أراد هؤلاء وهؤلاء؛ فإن هؤلاء يرجحون بما ييسره الله مع حسن القصد واتباع الأمر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الأدلة الشرعية في ذلك المتيسر لهم، وهؤلاء يرجحون بالأدلة الشرعية من الظواهر والأقيسة، وأخبار الآحاد وأقوال العلماء مع خفاء الأمر المتيسر لهم.
 
وأيضا، فهؤلاء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من المصلحة والخير، فيرجحونه بحكم الإيمان وإن لم يعرفوا دليلًا من النص على حسنه، وأولئك إنما يرجحون من النصوص، وما استنبط منها، فهؤلاء لهم القرآن، وهؤلاء لهم الإيمان، وسبب هذا أن كلا من الطائفتين خفي عليه ما مع الأخرى من الحق، وكل من الطائفتين في طريقها حق وباطل.
 
فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة الأمر والنهي الشرعيين، فهم ضالون، كالذين يعرفون الأمر والنهي ولا يفعلون إلا ما يهوونه من الكبائر، فإنهم فساق. وهؤلاء الذين قيل فيهم: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية، وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل، والمؤول والمبدل.
 
والمقصود هنا ذكر أهل الاستقامة من الطائفتين والكلام على حال أهل العبادة والإرادة، الذين خرجوا عن الهوي وهو الفرق الطبعي، وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي.
 
وبقى قسم ثالث، ليس لهم فيه فرق طبعي ولا عندهم فيه فرق شرعي، فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر.
 
وأما من جري مع الفرق الطبعي، إما عالمًا بأنه عاص وهو العالم الفاجر، أو محتجًا بالقدر أو بذوقه ووجده معرضًا عن الكتاب والسنة، وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم.
 
وهذا مما بين حال كمال الصحابة رضي الله عنهم وأنهم خير قرون هذه الأمة، إذ كانوا في خلافة النبوة يقومون بالفروق الشرعية في جليل الأمور ودقيقها مع اتساع الأمر، والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق الشرعية فيما يخصه، كما أن الواحد من هؤلاء يتبع هواه في أمر قليل. فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من الأمر والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات، ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات، والكثير من المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس، أو يفوته القصد في كثير من الأعمال، حتي يتبع هواه فيما وضح له من الأمر والنهي.
 
فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
 
هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة، وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة، فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول، وخلط القصد الحسن باتباع الهوى، فهؤلاء وهؤلاء مخلطون في علمهم وعملهم، وتخليط هؤلاء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد، وتخليط هؤلاء في القصد سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم.
 
فإنه من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. وحسن القصد: من أعون الأشياء على نيل العلم ودركه. والعلم الشرعي: من أعون الأشياء على حسن القصد والعمل الصالح، فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون، فإن ونى قائدها لم تستقم لسائقها، وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها، فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك، فغايته أن يستطرح للقدر، وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه، فهذا حائر لا يدري أين يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به.
 
قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } <ref>[الصف: 5]</ref>. هذا جاهل وهذا ظالم، قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } <ref>[الأحزاب: 72]</ref>. مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل لا يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة له من العلم. قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } <ref>[النساء: 17]</ref>.
 
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.
 
وقد روى الخلال عن أبي حيان التيمي قال: العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله وبأمر الله.
 
فالعالم بالله الذي يخشاه، والعالم بأمر الله الذي يعرف أمره ونهيه.
 
قلت: والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } <ref>[النازعات: 40، 41]</ref>.
 
والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل {{صل}} الذي قال فيه: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } <ref>[النجم: 1-4]</ref>، فنفى عنه الضلال والغي ووصفه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي، فهذا كمال العلم وذاك كمال القصد {{صل}}.
 
ووصف أعداءه بضد هذين، فقال تعالى: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } <ref>[النجم: 23]</ref>، فالكمال المطلق للإنسان هو تكميل العبودية لله علمًا وقصدًا. قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>، وقال تعالى: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } <ref>[الجن: 19]</ref>، وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[ص: 82، 83]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } <ref>[الحجر: 42]</ref>، وقال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } <ref>[يوسف: 24]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } <ref>[النحل: 99، 100]</ref>.
 
وعبادته: طاعة أمره، وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه، فالكمال في كمال طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، ومن كان لم يعرف ما أمر الله به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورًا به، أو تعارضت عنده الأدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس الأمر، فهؤلاء مطيعون لله مثابون على ما أحسنوه من القصد لله، واستفرغوه من وسعهم في طاعة الله، وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم.
 
وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة، فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها. وقد أخطؤوا فتبلغ أقوامًا يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب، أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ، وهم أيضا مجتهدون مخطئون، فيكون هذا مجتهدًا مخطئًا في فعله، وهذا مجتهدًا مخطئًا في إنكاره، والكل مغفور لهم. وقد يكون أحدهما مذنبًا، كما قد يكونان جميعًا مذنبين.
 
وخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد {{صل}}، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
 
والواحد من هؤلاء قد يعطي طرفًا بالأمر والنهي، فيولي ويعزل ويعطي ويمنع، فيظن الظان أن هذا كمال، وإنما يكون كمالا إذا كان موافقًا للأمر، فيكون طاعة لله، وإلا فهو من جنس الملك، وأفعال الملك: إما ذنب، وإما عفو، وإما طاعة.
 
فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة، وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين.
 
وأما طريقة الملوك العادلين، فإما طاعة وإما عفو، وهي طريقة الأنبياء الملوك؛ وطريقة الأبرار أصحاب اليمين.
 
وأما طريقة الملوك الظالمين، فتتضمن المعاصي، وهي طريقة الظالمين لأنفسهم. قال تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } <ref>[فاطر: 32]</ref> فلا يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون من أحد هذه الأصناف: إما ظالم لنفسه وإما مقتصد، وإما سابق بالخيرات.
 
وخوارق العادات: إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق، وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة، وأصحابها لا يخرجون عن الأقسام الثلاثة.
 
===فصل في العبادة والاستعانة والطاعة والمعصية===
قالَ شيخُ الإِسْلاَم رَحِمَه اللَّه تَعَالَى:
 
حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارًا عن الحق تعالى: «من جاءنا تلقيناه من البعيد، ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد، ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد، ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد».
 
قلت: هذا من جهة الرب تبارك وتعالى:
 
فالأولتان: العبادة والاستعانة، والآخرتان: الطاعة والمعصية، فالذهاب إلى الله هي عبادته وحده كما قال تعالى: «من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلىّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».
 
والتقرب بحوله هو الاستعانة، والتوكل عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي الأثر: «من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله». وعن سعيد بن جبير: «التوكل جماع الإيمان»، وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } <ref>[الطلاق: 3]</ref>، وقال: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } <ref>[الأنفال: 9]</ref>، وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضا سبب لجلب المنافع ودفع المضار، فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا هو الغالب على ذوي الأحوال متشرعهم وغير متشرعهم، وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق الأمر، وتارة بما يخالفه.
 
وقوله: «ومن اتبع مرادنا» يعني: المراد الشرعي كقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>، وقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } <ref>[النساء: 28]</ref>، وقوله: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } <ref>[المائدة: 6]</ref> هذا هو طاعة أمره، وقد جاء في الحديث: «وأنت يا عمر لو أطعت الله لأطاعك»، وفي الحديث الصحيح: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، وقد قال تعالى: { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } <ref>[الشورى: 26]</ref>.
 
وقوله: «ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد». يعني: ترك ما كره الله من المحرم والمكروه لأجل الله: رجاء ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لأن هذا مقام الصبر، وقد قال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } <ref>[الزمر: 10]</ref>.
 
===سئل عن إحياء علوم الدين وقوت القلوب===
سُئِلَ عن إحياء علوم الدين وقوت القلوب... إلخ.
 
فأجاب:
 
أما كتاب قوت القلوب وكتاب الإحياء تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب: مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك. وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم، من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقًا، وأبعد عن البدعة مع أن في قوت القلوب أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة.
 
وأما ما في الإحياء من الكلام في المهلكات مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مقبول ومنه ماهو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه.
 
والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.
 
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه. وقالوا: مرضه الشفاء، يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة.
 
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة.
 
وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم.
 
وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه.
 
===فصل في ذكر الله ودعائه===
 
وَقَالَ شيْخُ الإِسْلام قدس الله روحه:
 
قد دل الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة على جنس المشروع المستحب في ذكر الله ودعائه كسائر العبادات، وبين النبي {{صل}} مراتب الأذكار، كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت» وفي صحيحه عن أبي ذر قال: سئل رسول الله {{صل}}: أي الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده».
 
وفي كتاب الذكر لابن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا إلى النبي {{صل}}: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله». وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد الله بن كريز عن النبي {{صل}}: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، وفي السنن حديث الذي قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا، فعلمني ما يجزئني في صلاتي فقال: «قل: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر». ولهذا قال الفقهاء: إن من عجز عن القراءة في الصلاة انتقل إلى هذه الكلمات الباقيات الصالحات. وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه.
 
وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته. كما قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } <ref>[الأعراف: 55]</ref>، وقال تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } <ref>[الأعراف: 180]</ref> فلا يدعي إلا بأسمائه الحسنى.
 
ومن المنهي عنه: ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. ومثل قول بعض الأعراب للنبي {{صل}}: إنا نستشفع بالله عليك. فقال النبي {{صل}}: «شأن الله أعظم من ذلك، إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه» ومثل ما كانوا يقولون في أول الإسلام: السلام على الله قبل عباده. فقال النبي {{صل}}: «إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات».
 
أشار بذلك إلى أن السلام إنما يطلب لمن يحتاج إليه، والله هو السلام، فالسلام يطلب منه لا يطلب له. بل يثنى عليه، فإنه له فيقال: التحيات لله والصلوات والطيبات. فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه، وأما المخلوق فيطلب له. فيقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } <ref>[الذاريات: 56، 57]</ref>، والرزق يعم كل ما ينتفع به المرتزق؛ فالإنسان يرزق الطعام والشراب واللباس، وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه، ويرزق ما ينتفع به باطنه من علم وإيمان، وفرح وسرور، وقوة ونور، وتأييد وغير ذلك، والله سبحانه ما يريد من الخلق من رزق، فإنهم لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، بل هو الغني وهم الفقراء. { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } <ref>[آل عمران: 181]</ref>، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
 
وكذلك الدعاء المكروه، مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل الأنبياء أو دعاء الأعرابي الذي قال: اللهم ما كنت معذبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، ومثل قوله {{صل}} للمصابين بميت لما صاحوا: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» وقد قال تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } <ref>[يونس: 11]</ref>، وقال تعالى: { وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا } <ref>[الإسراء: 11]</ref>، وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه. وإنما نبهنا على جنس المكروه.
 
وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلامًا تامًا مفيدًا مثل: لا إله إلا الله، ومثل: الله أكبر، ومثل سبحان الله والحمد لله، ومثل لا حول ولا قوة إلا بالله، ومثل { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } <ref>[الرحمن: 78]</ref>، { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } <ref>[الملك: 1]</ref>، { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } <ref>[الحديد: 1]</ref> { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } <ref>[الفرقان: 1]</ref>.
 
فأما« الاسم المفرد» مظهرًا مثل: الله، الله أو مضمرًا مثل: هو، هو. فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين.
 
وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه، مثلما يروي عن الشبلي أنه كان يقول: الله، الله. فقيل له: لم لا تقول: لا إله إلا الله؟ فقال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات. وهذه من زلات الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه، وقوة وجده، وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان، ويحلق لحيته. وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها؛ وإن كان معذورًا أو مأجورًا، فإن العبد لو أراد أن يقول: لا إله إلا الله ومات قبل كمالها لم يضره ذلك شيئًا؛ إذ الأعمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه.
 
وربما غلا بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة، وربما قال بعضهم: لا إله إلا الله للمؤمنين، والله للعارفين، وهو للمحققين، وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على الله، الله، الله. أو على هو أو يا هو أو لا هو إلا هو.
 
وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك. واستدل عليه تارة بوجد، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب، كما يروي بعضهم أن النبي {{صل}} لقن عليّا بن أبي طالب أن يقول: الله، الله، الله. فقالها النبي {{صل}} ثلاثًا. ثم أمر عليًا فقالها ثلاثا. وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
 
وإنما كان تلقين النبي {{صل}} للذكر المأثور عنه، ورأس الذكر: «لا إله إلا الله»، وهي الكلمة التي عرضها على عمه أبي طالب حين الموت. وقال: «ياعم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، وقال: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجد روحه لها روحًا»، وقال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، وقال: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول اللهّ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» والأحاديث كثيرة في هذا المعنى.
 
وقد كتبت فيما تقدم من القواعد بعض ما يتعلق بهاتين الكلمتين العظيمتين الجامعتين الفارقتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
 
فأما ذكر الاسم المفرد فلم يشرع بحال، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه.
وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } <ref>[الأنعام: 91]</ref>، ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية، فإنه سبحانه قال: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } <ref>[الأنعام: 91]</ref> أي: قل: الله أنزل الكتاب الذي جاء به موسى. فهذا كلام تام، وجملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر، حذف الخبر منها لدلالة السؤال على الجواب.
 
وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلام العرب كقوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ } الآية <ref>[الزمر: 38]</ref>، وقوله: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } <ref>[النمل: 60]</ref>، وكذلك ما بعدها وقوله: { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون الله } على قراءة أبي عمرو، وتقول في الكلام: من جاء؟ فتقول: زيد. ومن أكرمت؟ فتقول: زيدًا. وبمن مررت؟ فتقول: بزيد. فيذكرون الاسم الذي هو جواب من، ويحذفون المتصل به، لأنه قد ذكر في السؤال مرة، فيكرهون تكريره من غير فائدة بيان، لما في ذلك من التطويل والتكرير.
 
وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين في قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } <ref>[آل عمران: 7]</ref> قال المعنى: وما يعلم تأويل «هو» أي اسم هو الذي يقال فيه: هو، هو. وصنف ابن عربي كتابًا في الهو فقلت له وأنا إذ ذاك صغير جدًا: لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة«تأويل هو» ولم تكتب موصولة، وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار. وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلات الباطلة في الكتاب والسنة.
 
وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا، لكن لا يدل عليه الكلام وليس هو مراد المتكلم، وقد لا يكون صحيحًا. فيقع الغلط تارة في الحكم، وتارة في الدليل كقول بعضهم: { أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } <ref>[العلق: 7]</ref> أي: إن رأى ربه استغنى، والمعني أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى، وكقول بعضهم: «فإن لم تكن تراه»: يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك. وليس هذا معنى الحديث، فإنه لو أريد هذا لقيل: فإن لم تكن تره. وقد قيل: تراه ثم كيف يصنع بجواب الشرط؟ وهو قوله: فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة. فالتقدير: فإن لم تكن: أي لم تقع، ولم تحصل. وهذا تقدير محال فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم. ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للأغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا محال. ومتى كان المعنى صحيحًا والدلالة ليست مرادة فقد يسمى ذلك إشارة.
 
وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير من هذا قطعة.
 
وليس المقصود الآن الكلام في هذا فإنه باب آخر، وإنما الغرض بيان حكم ذكر الاسم وحده من غير كلام تام، وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنه غير مستحب.
 
وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية؛ فإن الاسم وحده لا يعطي إيمانًا ولا كفرًا، ولاهدى ولا ضلالًا، ولا علمًا ولا جهلًا، وقد يذكر الذاكر اسم نبي من الأنبياء، أو فرعون من الفراعنة، أو صنم من الأصنام، ولا يتعلق بمجرد اسمه حكم إلا أن يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات، أو حب أو بغض، وقد يذكر الموجود والمعدوم.
 
ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن الاسم وحده لا يحسن السكوت عليه، ولا هو جملة تامة، ولا كلامًا مفيدًا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: فعل ماذا؟ فإنه لما نصب الاسم صار صفة، والصفة من تمام الاسم الموصوف، فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن.
 
ولو كرر الإنسان اسم الله ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنًا، ولم يستحق ثواب الله ولا جنته؛ فإن الكفار من جميع الأمم يذكرون الاسم مفردًا، سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقوله: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } <ref>[المائدة: 4]</ref>، وقوله: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } <ref>[الأنعام: 121]</ref>، وقوله: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } <ref>[ الأعلى: 1]</ref>، وقوله: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } <ref>[الواقعة: 74، 96، الحاقة: 52]</ref> ونحو ذلك: كان ذكر اسمه بكلام تام مثل أن يقول: بسم الله، أو يقول: سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، ونحو ذلك. ولم يشرع ذكر الاسم المجرد قط، ولا يحصل بذلك امتثال أمر، ولا حل صيد ولا ذبيحة ولا غير ذلك.
 
فإن قيل: فالذاكر أو السامع للاسم المجرد قد يحصل له وجد محبة، وتعظيم لله، ونحو ذلك.
 
قلت: نعم، ويثاب على ذلك الوجد المشروع، والحال الإيماني، لا لأن مجرد الاسم مستحب، وإذا سمع ذلك حرك ساكن القلب، وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه، حتى قد يسمع المسلم من يشرك بالله، أو يسبه فيثور في قلبه حال وجد ومحبة لله بقوة نفرته وبغضه لما سمعه، وقد قال الصحابة للنبي {{صل}}: إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة، أو يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به. قال: «أو قد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان»، وفي رواية: قال: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
 
فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك الإيمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك، والاستعظام له، فكان ذلك صريح الإيمان، ولا يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأمورًا به.
 
والعبد أيضا قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيماناِ وتقوى، وليس السبب مأمورًا به؛ وقد قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ } الآية <ref>[آل عمران: 173، 174]</ref>، فهذا الإيمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو وليس ذلك مشروعًا بل العبد يفعل ذنبًا فيورثه ذلك توبة يحبه الله بها، ولا يكون الذنب مأمورًا به، وهذا باب واسع جدًا.
 
ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبًا للخير ومقتضيًا، وبين ألا يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل. فالمأمور به من الكلمات الطيبات والأعمال الصالحات، هي موجبة للخير والرحمة والثواب. وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده من حلاوة الإيمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة، وما ليس مأمورًا به. إما من فعل العبد: محرمه ومكروهه ومباحه. وإما من فعل غيره معه: من الإنس والجن، وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها الرب، إذا صادفت منه إيمانًا ويقينًا فحركت ذلك الإيمان واليقين، وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن تحب تلك الأسباب، أو تحمد أو يؤمر بها، إذا لم يكن كذلك، فإنها ليست مقتضية لذلك الخير، وإنما مقتضاها تحريك الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر.
 
ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق، والوجل المطلق، وما يتضمن ذلك من نظم ونثر، فإن هذا من المجمل أيضا: يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فلذلك لم يشرعها الله ورسوله، ولم يأمر بها فإن الله إنما يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب، فإن شعر المحبين مشترك بين محب الإيمان ومحب الأوثان، ومحب النسوان، ومحب المردان، ومحب الأوطان، ومحب الأخدان.
 
فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبًا، فضلًا عن أن يكون هو ذكر الخاصة.
 
وأبعد من ذلك ذكر الاسم المضمر وهو: هو. فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق. وقد يقول: لا هو إلا هو ويسرى قلبه في وحدة الوجود ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين بحيث يكون قوله: هو كقوله: وجوده. وقد يعني بقوله: لا هو إلا هو أي: أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلًا، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد. كما بينته من مذهب« الاتحادية» في غير هذا الموضع.
 
ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا {{صل}}. فإن البدع هي: مبادئ الكفر ومظان الكفر. كما أن السنن المشروعة هي: مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. كما أخبر الله عن زيادته في مثل قوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } <ref>[ آل عمران: 173]</ref>، وقوله: { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } <ref>[التوبة: 124]</ref>، وقوله: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } <ref>[الفتح: 4]</ref> وغير ذلك.
 
فإن قيل: إذا لم يكن هذا الذكر مشروعًا. فهل هو مكروه؟
 
قلت: أما في حق المغلوب فلا يوصف بكراهة؛ فإنه قد يعرض للقلب أحوال يتعسر عليه فيها نطق اللسان مع امتلاء القلب بأحوال الإيمان، وربما تيسر عليه ذكر الاسم المجرد دون الكلمة التامة وهؤلاء يأتون على ما في قلوبهم من أحوال الإيمان وما قدروا عليه من نطق اللسان، فإن الناس في الذكر أربع طبقات.
 
إحداها: الذكر بالقلب واللسان، وهو المأمور به.
 
الثاني: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للأفضل.
 
الثالث: الذكر باللسان فقط، وهو كون لسانه رطبًا بذكر الله، وفيه حكاية التي لم تجد الملائكة فيه خيرًا إلا حركة لسانه بذكر الله. ويقول الله تعالى: «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه».
 
الرابع: عدم الأمرين وهو حال الخاسرين.
 
وأما مع تيسر الكلمة التامة فالاقتصار على مجرد الاسم مكررًا بدعة، والأصل في البدع الكراهة.
 
وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم: من ذكر الاسم المجرد، فمحمول على أنهم مغلوبون، فإن أحوالهم تشهد بذلك، مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلاء وأكمل لم يذكروا إلا الكلمة التامة، وعند التنازع يجب الرد إلى الله والرسول، وليس فعل غير الرسول حجة على الإطلاق. والله أعلم.
 
===فصل في الصراط المستقيم===
وَقَالَ الشيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
 
فَصل
 
في الصراط المستقيم، في الزهد والعبادة والورع، في ترك المحرمات والشهوات، والاقتصاد، في العبادة. وإن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة، فإن أصحابها لابد أن يقعوا في الآصار والأغلال، وإن كانوا متأولين، فلابد لهم من اتباع الهوى، ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الأهواء، فإن طريق السنة علم وعدل وهدي، وفي البدعة جهل وظلم، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
 
والرسول، ما ضل وما غوى، والضلال: مقرون بالغي، فكل غاو ضال، والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال، وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع، كما كان السلف ينهون عنهما، قال تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } <ref>[مريم: 59]</ref>.
 
والغي في الأصل: مصدر غوي يغوي غيًا، كما يقال: لوى يلوي ليًا. وهو ضد الرشد، كما قال تعالى: { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } <ref>[الأعراف: 146]</ref>.
 
والرشد: العمل الذي ينفع صاحبه، والغي: العمل الذي يضر صاحبه، فعمل الخير رشد، وعمل الشر غي، ولهذا قالت الجن: { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } <ref>[الجن: 10]</ref>، فقابلوا بين الشر وبين الرشد، وقال في آخر السورة: { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } <ref>[الجن: 21]</ref>، ومنه الرشيد، الذي يسلم إليه ماله. وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر.
 
وقال الشيطان: { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[ص: 82، 83]</ref>، وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه، كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } <ref>[إبراهيم: 22]</ref>، وقال: { وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } إلى أن قال: { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } <ref>[الشعراء: 9195]</ref>، وقال: { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } <ref>[القصص: 63]</ref>، وقال: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } <ref>[النجم: 2]</ref>.
 
ثم إن الغي، إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه، فإن عاقبة العمل أيضا تسمى غيًا، كما أن عاقبة الخير تسمى رشدًا، كما يسمى عاقبة الشر شرًا، وعاقبة الخير خيرًا، وعاقبة الحسنات حسنات، وعاقبة السيئات سيئات.
 
فالحسنات والسيئات، في كتاب الله يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات، ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات. كذلك من عمل غيًا لقى غيًا، وترك الصلاة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا. فلهذا قال الزمخشري: كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد. كما قيل:
 
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا
 
وقال الزجاج: جزاؤه غي، لقوله: { يَلْقَ أَثَامًا } <ref>[الفرقان: 68]</ref>، أي مجازات آثام. وفي الحديث المأثور: إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها، وهذا تعبير عن ملاقات الشر، وقال سبحانه: { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } <ref>[مريم: 59]</ref>، فإن الصلاة فيها إرادة وجه الله. كما قال تعالى: { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } <ref>[الأنعام: 52]</ref>، أي يصلون صلاة الفجر والعصر. والداعي يقصد ربه ويريده، فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له.
 
واتباع الشهوات: هو اتباع ما تشتهيه النفس، فإن الشهوات، جمع شهوة، والشهوة هي في الأصل مصدر، ويسمي المشتهي شهوة. تسمية للمفعول باسم المصدر. قال تعالى: { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 27]</ref> فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات، فإنه يريد أن يتوب علينا، أي فالله يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به، { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } وهم الغاوون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولًا عظيمًا، فإن أصل الميل العدول، فلابد منه للذين يتبعون الشهوات، كما قال {{صل}}: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» رواه أحمد و[[ابن ماجه]] من حديث ثوبان.
 
فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا، وقال: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } <ref>[النساء: 129]</ref>، فقوله: كل الميل أي: يريد نهاية الميل، يريد الزيغ عن الطريق، والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر، بل إذا بليت بذلك فتوسط، وعد إلى الطريق بالتوبة.
 
كما في الحديث عن النبي {{صل}}: «ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته. كذلك المؤمن يحول ثم يرجع إلى ربه»، قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } إلى قوله: { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } <ref>[آل عمران: 133 136]</ref>، فلم يقل: لا يظلمون ولا يذنبون، بل قال: { إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } <ref>[آل عمران: 135]</ref>، أي بذنب آخر غير الفاحشة، فعطف العام على الخاص. كما قال موسى: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } <ref>[القصص: 16]</ref>، وقالت بلقيس: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } <ref>[النمل: 44]</ref>، وقال تعالى عمومًا عن أهل القرى المهلكة: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } <ref>[هود: 101]</ref>، فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه، وبعصيانهم لأنبيائهم، وبتركهم التوبة إلى ربهم.
 
وقوله تعالى: { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } <ref>[آل عمران: 135]</ref> ؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } <ref>[النساء: 27]</ref>، ثم قال: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } <ref>[النساء: 28]</ref>. قال مجاهد وغيره: يتبعون الشهوات الزنا، وقال ابن زيد: هم أهل الباطل. وقال السدي: هم اليهود والنصارى والجميع حق، فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر، وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية.
 
ثم ذكر أنه خلق الإنسان ضعيفًا، وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات. فلابد له من شهوة مباحة يستغنى بها عن المحرمة، ولهذا قال طاوس ومقاتل: ضعيف في قلة الصبر عن النساء، وقال الزجاج وابن كيسان: ضعيف العزم عن قهر الهوى. وقيل: ضعيف في أصل الخلقة، لأنه خلق من ماء مهين، يروي ذلك عن الحسن، لكن لابد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الآية، فإنه قال: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه. كما أباح نكاح الفتيات، وقد قال قبل ذلك: { لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[النساء: 25]</ref>.
 
فهو سبحانه مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول، وخشية العنت، قال: { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } <ref>[النساء: 25]</ref>، فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت، وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة، فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه.
 
وكذلك من أباح الاستمناء، عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل، فقد روي عن [[ابن عباس]]: أن نكاح الإماء خير منه، وهو خير من الزنا، فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل.
 
لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد. واختاره ابن عقيل في المفردات والمشهور عنه يعني عن أحمد أنه محرم إلا إذا خشي العنت. والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت. فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء: { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ففيه أولى. وذلك يدل على أن الصبر عن كلاهما ممكن.
 
فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه، فذلك لتسهيل التكليف، كما قال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا }.
 
والاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك. وكلام ابن عباس وما روى عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته.
 
وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها. فهذا كله محرم لا يقول به أحمد، ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات.
 
وأما الصبر عن المحرمات فواجب، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها. قال تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } <ref>[النور: 33]</ref>، والاستعفاف: هو ترك المنهي عنه. كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي {{صل}} أنه قال: «من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر».
 
فالمستغني، لا يستشرف بقلبه. والمستعف: هو الذي لا يسأل الناس بلسانه، والمتصبر: هو الذي لا يتكلف الصبر. فأخبر أنه من يتصبر يصبره الله. وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة، بأن يصبر على مرارة الحاجة، لا يجزع مما ابتلى به من الفقر، وهو الصبر في البأساء والضراء. قال تعالى: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } <ref>[البقرة: 177]</ref>.
 
والضراء: المرض. وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف. والصبر على ما ابتلى به باختياره، كالجهاد، فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره، ولذلك إذا ابتلى بالعنت في الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لأن هذا الصبر من تمام الجهاد. وكذلك لو ابتلى في الجهاد بفاقة، أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل. كما قد بسط هذا في مواضع.
 
وكذلك ما يؤذي الإنسان به في فعله للطاعات، كالصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم من المصائب، فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك، وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات: من رئاسة، وأخذ مال، وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك، فإن أعمال البر، كلما عظمت كان الصبر عليها أعظم مما دونهما.
 
فإن في العلم، والإمارة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة، والحج، والصوم، والزكاة، من الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها. ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور. فإذا كانت النفس غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه، كما تطمع مع القدرة، فإنها مع القدرة تطلب تلك الأمور المحرمة، بخلاف حالها بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد، بل هو من أفضل الجهاد. وأكمل من ثلاثة أوجه:
 
أحدها: أن الصبر عن المحرمات، أفضل من الصبر على المصائب.
 
الثاني: أن ترك المحرمات مع القدرة عليها، وطلب النفس لها، أفضل من تركها بدون ذلك.
 
الثالث: أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني كمن خرج لصلاة، أو طلب علم، أو جهاد، فابتلى بما يميل إليه من ذلك فإن صبره عن ذلك يتضمن فعل المأمور وترك المحظور، بخلاف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل صالح، ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلاث يقول: لا تدخل على سلطان، وإن قلت: آمره بطاعة الله. ولا تدخل علي امرأة: وإن قلت: أعلمها كتاب الله، ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعة، وإن قلت أرد عليه.
 
فأمره بالاحتراز من أسباب الفتنة، فإن الإنسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ولا يسلم.
 
فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره، وابتلى، فعليه أن يتقى الله ويصبر ويخلص ويجاهد. وصبره على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب، من أفضل الأعمال، كمن تولى ولاية وعدل فيها، أو رد على أصحاب البدع بالسنة المحضة، ولم يفتنوه، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة.
 
لكن الله إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله الله إلى نفسه. كما قال النبي {{صل}} لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها. وإن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها» وكذلك قال في الطاعون: «إذا وقع ببلد وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه» فمن فعل ما أمره الله به فعرضت له فتنة من غير اختياره، فإن الله يعينه عليها بخلاف من تعرض لها.
 
لكن باب التوبة مفتوح، فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب الله عليه ويعينه، إما على إقامة الواجب، وإما على الخلاص منها، وكذلك سائر الفتن. كماقال: { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } <ref>[الزمر: 53]</ref>، وهذه الأمور تحتاج إلى بسط لا يتسع له هذا الموضع.
 
والمقصود أن الله سبحانه يريد أن يبين لنا، ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } <ref>[الأنعام: 90]</ref>، وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلاء، وهو سبيل من أناب إليه، فذكر هنا ثلاثة أمور: البيان، والهداية، والتوبة.
 
وقيل: المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل، أي: يريد أن يبين لنا سنن هؤلاء وهؤلاء، فيهدي عباده المؤمنين إلى الحق، ويضل آخرين، فإن الهدى والضلال إنما يكون بعد البيان. كما قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } <ref>[إبراهيم: 4]</ref>، وقال: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } <ref>[التوبة: 115]</ref>.
 
فتكون { سُنَنَ } <ref>[النساء: 26]</ref>، متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل لا بيهدي، وأهل الحق متعلق بقوله: ويهديكم. وقال الزجاج: السنن الطرق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم. وهذا أولى، لأنه قد يقدم فعلين فلا يجعل الأول هوالعامل وحده، بل العامل إما الثاني وحده. وإما الاثنان، كقوله: { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } <ref>[الكهف: 96]</ref>.
 
أو إذا أريد هذا التقدير: يبين لكم سنن الذين من قبلكم، ويهديكم سننًا. فدل علي أنه يهدينا سننهم. والمراد بذلك سنن أهل الحق، بخلاف قوله: { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } فإنه قال بعدها: { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } <ref>[آل عمران: 137]</ref>، فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان، وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين من قبلنا، وهم الذين أنعم الله عليهم. وذكر ثلاثة أمور: التبيين، والهدى، والتوبة.
 
لأن الإنسان أولا يحتاج إلى معرفة الخير والشر، وما أمر به وما نهى عنه، ثم يحتاج بعد ذلك إلى أن يهدي، فيقصد الحق ويعمل به دون الباطل. وهو سنن الأنبياء والصالحين. ثم لابد له بعد ذلك من الذنوب، فيريد أن يتطهر منها بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به. وإلى التوبة مع ذلك. فلابد له من التقصير، أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه الله إليها. فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن. وهذه السنن: تدخل فيها الواجبات والمستحبات، فلابد للسالك فيها من تقصير وغفلة، فيستغفر الله، ويتوب إليه. فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم لله بالحق الذي أوجبه عليه، فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة.
 
وقد يقال: الهداية، هنا البيان والتعريف، أي: يعرفكم سنن الذين من قبلكم، من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، كما قال تعالى: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } <ref>[البلد: 10]</ref>، قال علي و[[ابن مسعود]]: سبيل الخير والشر. وعن [[ابن عباس]]: سبيل الهدى والضلال. وقال مجاهد: سبيل السعادة والشقاوة، أي فطرناه على ذلك، وعرفناه إياه، والجميع واحد. والنجدان الطريقان الواضحان، والنجد المرتفع من الأرض، فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له، كتبيين الطريقين العاليين، لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الآية يشترك فيه بنو آدم، ويعرفونه بعقولهم.
 
وأما طريق من تقدم من الأنبياء، فلا بد من إخبار الله تعالى عنها، كما قال: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } <ref>[هود: 49]</ref>، لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال: يريد الله ليبين لكم سنن الذين من قبلكم، ولم يحتج أن يذكر الهدى، إذا كان المعنى واحدًا، فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي، علم أن هذا غير هذا، فالتبيين: التعريف والتعليم، والهدى: هو الأمر والنهي، وهو الدعاء إلى الخير. كما قال تعالى: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } <ref>[الرعد: 7]</ref>، أي داع يدعوهم إلى الخير. كما قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[الشورى: 52]</ref>، أي تدعوهم إليه دعاء تعليم.
 
وهداه هنا يتعدى بنفسه، لأن التقدير: ويلزمكم سنن الذين من قبلكم، فلا تعدلوا عنها، وليس المراد هنا بالهدى الإلهام. كما في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لكونه لو أراد ذلك لوقع، ولم يكن فينا ضال، بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، ولهذا قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم، فعلق الإرادة بفعل نفسه. فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك، وليس كما ظن، بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه، فهو كقوله: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الآية <ref>[المائدة: 6]</ref>، وقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } <ref>[الأحزاب: 33]</ref>، ونحو ذلك.
 
فهذه إرادته لما أمر به، بمعنى أنه يحبه ويرضاه، ويثيب فاعله، لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه، فيكون كما قال: { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية <ref>[الأنعام: 125]</ref>.
 
وكما قال نوح: { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } <ref>[هود: 34]</ref>.
 
فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه. كما يقول المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات، كما يقول الناس لمن يفعل القبيح: يفعل شيئًا ما يريده الله، مع قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فإن هذه الإرادة نوعان. كما قد بسط في موضع آخر.
 
وقد يراد بالهدى الإلهام، ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين هداهم الله إلى طاعته، فإن الله تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم، فاهتدوا، ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا، كما قالوا: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } <ref>[الأعراف: 43]</ref>.
 
لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين، كالخطاب بآية الوضوء. والخطاب لأهل البيت بقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } <ref>[الأحزاب: 33]</ref> ؛ ولهذا يهدد من لم يطعه. وكما في الصيام: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>، فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد، لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابًا، إلا لمن أخذ باليسر، ولمن فعل ما أمر به، وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية، وليس كذلك. بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين، فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب، والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم، هدي الإلهام، والإعانة بأن جعلهم مهتدين. كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا، والمسلم مسلمًا.
 
ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل: { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 27]</ref>، فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء، بل وجودها وعدمها سواء. كما في قول نوح: { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } <ref>[هود: 34]</ref>، فإن ما شاء الله كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس.
 
والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات. والمعنى: إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم، وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم، كالشيطان الذي يريد أن يغويكم، وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني، بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد، وإياكم وطرق الغي والفساد. كما قال تعالى: { فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } الآيات <ref>[طه: 123]</ref>.
 
وقوله: { يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } <ref>[النساء: 27]</ref>، في الموضعين، فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى، كما قال تعالى: { أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>، وقال: { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } <ref>[ المؤمنون: 71 ]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } <ref>[المائدة: 77]</ref>، وقال تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } <ref>[محمد: 14]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } <ref>[الجاثية: 18]</ref>، وهذا في القرآن كثير.
 
والهوى: مصدر هوى يهوي هوى، ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى، فاتباعه كاتباع السبيل. كما قال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وكما في لفظ الشهوة، فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر، أي اتباع إرادته ومحبته التي هي هواه واتباع الإرادة: هو فعل ما تهواه النفس، كقوله تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } <ref>[لقمان: 15]</ref>، وقوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } <ref>[الأنعام: 153]</ref>، وقال: { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } <ref>[الأعراف: 3]</ref>، فلفظ الاتباع يكون للآمر الناهي، وللأمر والنهي، وللمأمور به والمنهي عنه، وهو الصراط المستقيم.
 
كذلك يكون للهوى أمر ونهي، وهو أمر النفس ونهيها، كما قال تعالى: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[يوسف: 53]</ref>، ولكن ما يأمر به من الأفعال المذمومة، فأحدها مستلزم للآخر، فاتباع الأمر هو فعل المأمور، واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه، فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات، واتباع الأهواء هو اتباع شهوة النفس، وهواها، وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه.
 
بل قد يقال: هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والأهواء، لأن الذي يشتهي ويهوى، إنما يصير موجودًا بعد أن يشتهي ويهوى، وإنما يذم الإنسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده، فهو حينئذ قد فعل، ولا ينهى عنه بعد وجوده، ولا يقال لصاحبه: لا تتبع هواك.
 
وأيضا فالفعل المراد المشتهى، الذي يهواه الإنسان: هو تابع لشهوته وهواه، فليست الشهوة والهوي تابعة له، فاتباع الشهوات هو اتباع شهوة النفس، وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الأصل يحتاج إلى أن يجعل في الخارج ما يشتهي، والإنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة، أو الطعام المطلوب، وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضا، كما في قوله {{صل}}: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» أي: يترك شهوته، وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام، لا أنه يدع طعامه بترك الشهوة الموجودة في نفسه، فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها، وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة.
 
وحقيقة الأمر، أنهما متلازمان، فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه، وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه اتبع ما يهواه، فإن ذلك من آثار الإرادة، واتباع الإرادة هو امتثال أمرها، وفعل ما تطلبه، كالمأمور الذي يتبع أمر أميره، ولابد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله. فيبقى ذلك المثال كالإمام مع المأموم يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر تبع لاتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له.
 
ولهذا يقال: العلة الغائية علة فاعلية، فإن الإنسان للعلة الغائية بهذا التصور والإرادة صار فاعلًا للفعل، وهذه الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلًا، فيكون الإنسان متبعًا لها، والشيطان يمده في الغي، فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها، وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب، والشيطان والنفس تحب ذلك، وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج، فإن أول الفكر آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك.
 
ولهذا يبقى الإنسان عند شهوته، وهواه أسيرًا لذلك، مقهورًا تحت سلطان الهوى، أعظم من قهر كل قاهر، فإن هذا القاهر الهوائي، القاهر للعبد، هو صفة قائمة بنفسه، لايمكنه مفارقته البتة، والصورة الذهنية تطلبها النفس، فإن المحبوب تطلب النفس أن تدركه، وتمثله لها في نفسها، فهو متبع للإرادة. وإن كانت الذهنية والتزين من الزين والمراد التصور في نفسه. والمشتهى الموجود في الخارج له محركان: التصور والمشتهى، هذا يحركه تحريك طلب وأمر، وهذا يأمره أن يتبع طلبه وأمره، فاتباع الشهوات والأهواء يتناول هذا كله، بخلاف كل قاهر ينفصل عن الإنسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها، وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه.
 
ولهذا قال النبي {{صل}}: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوي متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا».
 
وقوله في الحديث: هوي متبع، فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس. كقوله: في الشح المطاع، وجعل الشح مطاعًا، لأنه هو الآمر، وجعل الهوى متبعًا، لأن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ولا يكون آمرًا. وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «إياكم والشح. فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا». فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة، فالبخل، منع منفعة الناس بنفسه وماله، والظلم، هو الاعتداء عليهم.
 
فالأول هو التفريط فيما يجب، فيكون قد فرط فيما يجب، واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر إعظامًا لها؛ لأنها تدخل في الأمرين المتقدمين قبلها.
 
وقال المفسرون في قوله تعالى: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } <ref>[الحشر: 9]</ref>، هو ألا يأخذ شيئًا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئًا أمره الله بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمرالله ورسوله. فإن الله ينهى عن الظلم، ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم، وينهى عن الإحسان.
 
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت، وبالوقوف بعرفة أن يقول: اللهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك، فقال: إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة. وفي رواية عنه قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك؟ قال: أسمع الله يقول: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ }، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل.
 
وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد والإيثار في قوله: { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }، ثم قال: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[الحشر: 9]</ref>، فمن وقى شح نفسه لم يكن حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود.
 
والشح يكون في الرجل مع الحرص، وقوة الرغبة في المال، وبغض للغير وظلم له، كما قال تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } الآيات إلى قوله: { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } <ref>[الأحزاب: 18، 19]</ref>، فشحهم على المؤمنين، وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه، وقطيعته كالحسد، فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته، كابني آدم وإخوة يوسف.
 
فالحسد والشح، يتضمنان بغضًا وكراهية، فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص، فإن الفعل صدر فيه عن بغض، بخلاف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله، وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم لا ينفع. ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي، فأطيع أمره.
 
و[[ابن مسعود]] جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي {{صل}} جعل الشح يأمر بالبخل.
 
ومن الناس من يقول: الشح، والبخل سواء. كما قال ابن جرير: الشح في كلام العرب هو البخل، ومنع الفضل من المال. وليس كما قال: بل ما قاله النبي {{صل}} وابن مسعود أحق أن يتبع، فإن البخيل قد يبخل بالمال محبة لما يحصل له به من اللذة والتنعم، وقد لا يكون متلذذًا به ولا متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي يكون يكره، أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله، وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته. وقد لا يكون هناك لذة أصلا، بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير لا للمعطي ولا للمعطي، بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي، أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل قطعًا، ولكن كل بخل يكون عن شح، فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا.
 
قال [[الخطابي]]: الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل إنما هو من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة.
 
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يظن الإنسان بماله، والشح: أن يضن بماله ومعروفه، وقيل: الشح: أن يشح بمعروف غيره على غيره، والبخل: أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات، ويتبعون أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه، فاتبعوا محبتهم وإرادتهم من غير علم، فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو ضار.
 
ولهذا قال: { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } ثم قال: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>، واتباع الهوى درجات: فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون الله ما يستحسنون بلا علم، ولا برهان، كما قال: { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } <ref>[الجاثية: 23]</ref>، أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة، ولم يقل: إن هواه نفس إلهه فليس كل من يهوي شيئًا يعبده، فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه، فكانت عبادته تابعة لهوى نفسه في العبادة، فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد، ولا عبد العبادة التي أمر بها.
 
وهذه حال أهل البدع، فإنهم عبدوا غير الله، وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون الله بها، فهم إنما اتبعوا أهواءهم، فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
 
فلو اتبع العلم والكتاب المنير، لم يعبد إلا الله بما شاء، لا بالحوادث والبدع.
والمقصود أن الآلهة كثيرة، والعبادات لها متنوعة، وبالجملة فكل ما يريده الإنسان ويحبه لابد أن يتصوره في نفسه، فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب، فمن عبده عبد غير الله، وتمثلت له الشياطين في صورة من يعبده، وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير الله، فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها، واستوائها ليكون سجود من يعبدها له.
 
وقد كانت الشياطين، تتمثل في صورة من يعبد، كما كانت تكلمهم من الأصنام التي يعبدونها، وكذلك في وقتنا خلق كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الأحياء والأموات من المشايخ وغيرهم، فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته، فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ليغوى هذا المشرك.
 
والمبتلون بالعشق، لا يزال الشيطان يمثل لأحدهم صورة المعشوق، أو يتصور بصورته، فلا يزال يرى صورته، مع مغيبه عنه بعد موته، فإنما جلاه الشيطان على قلبه، ولهذا إذا ذكر العبد الله الذكر الذي يخنس منه الوسواس الخناس خنس هذا المثال الشيطاني، وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى لا يرى غيرها، ولا يسمع غير كلامها، فتبقى نفسه مشتغلة بها.
 
والذين يسلكون في محبة الله مسلكا ناقصًا، يحصل لأحدهم نوع من ذلك يسمى الاصطلام والفناء، يغيب بمحبوبه عن محبته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، حتى لا يشعر بشيء من أسماء الله وصفاته وكلامه وأمره ونهيه.
 
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى الاتحاد. فيقول: أنا هو، وهو أنا، وأنا الله، ويظن كثير من المسالكين، أن هذا هو غاية السالكين، وأن هذا هو التوحيد، الذي هو نهاية كل سالك، وهم غالطون في هذا، بل هذا من جنس قول النصارى، ولكن ضلوا لأنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر الله وأمره.
 
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
 
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس، يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيرًا ما يهواه، يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف: ما أنا على الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه.
 
وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة، ولم تنجذب إلى محبة الله وعبادته انجذابًا تامًا، ولا قام بها من خشية الله التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها. كما يستولى السبع على ما يفترسه، فالسبع يأخذ فريسته بالقهر، ولا تقدر الفريسة على الامتناع منه. كذلك ما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة، تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه، فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من استغراق الفريسة في جوف الأسد؛ لأن المحبوب المراد هو غاية النفس، له عليها سلطان قاهر.
 
والقلب يغرق فيما يستولى عليه، إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور، والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه، كما يغرق الغريق في الماء، فلابد أن يستولى عليها مايحيط بها من الأجسام، والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف، والمحبوبات والمكروهات، فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه، والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } <ref>[يونس: 107]</ref> { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } <ref>[النحل: 53]</ref>.
 
وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب، ودفع المرهوب، جعل له من الإيمان بالله، ومحبته، ومعرفته، وتوحيده، ورجائه، وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا، وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته ومايتبع ذلك، فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب. وهو الدعاء والمطلوب الذكر والشكر، وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك. وهذا لبسطه موضع آخر.
 
والمقصود أن القلب قد يغمره، فيستولى عليه ما يريده العبد، ويحبه، ومايخافه ويحذره، كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } <ref>[المؤمنون: 36]</ref>، فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر الله والدار الآخرة وما فيها من النعيم، والعذاب الأليم. قال الله تعالى: { فّذّرًهٍمً فٌي غّمًرّتٌهٌمً حّتَّى" حٌينُ } <ref>[المؤمنون: 54]</ref>، أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات، والأعمال الصالحة. وقال تعالى: { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } الآيات <ref>[الذاريات: 10، 11]</ref>، أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة، وما خلقوا له.
 
وهذا يشبه قوله: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } <ref>[الكهف: 28]</ref>، فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال: السهو: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه، وهذا جماع الشر الغفلة، والشهوة.
 
فالغفلة عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير، الذي هو الذكر واليقظة.
 
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه، غافلًا عن الله، رائدًا غير الله، ساهيًا عن ذكره، قد اشتغل بغير الله، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه، كما روى في [[صحيح البخاري]]، وغيره عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضى، وإن منع سخط».
 
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده، حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة: هي التي يجلس عليها، فهو خادمها، كما قال بعض السلف: البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة: هي التي يرتدي بها، وهذا من أقل المال. وإنما نبه به النبي {{صل}} على ما هو أعلي منه، فهو عبد لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون.
 
ولهذا قال: «إن أعطى رضي، وإن منع سخط». فما كان يرضى الإنسان حصوله ويسخطه فقده، فهو عبده، إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما. والمعبود الحق الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان، وتوحيد ومحبة، وذكر، وعبادة، فيرضى بذلك، وإذا منع من ذلك غضب.
 
وكذلك من أحب شيئًا، فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان.
 
قال الجنيد: لا يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى الله تعالى حرًا. وهذا مطابق لهذا الحديث، فإنه لا يكون عبدًا لله خالصًا مخلصًا دينه لله كله، حتى لا يكون عبدًا لما سواه، ولا فيه شعبة، ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى الله، فإذا كان يرضيه، ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة.
 
قال الفضيل بن عياض: والله ما صدق الله في عبوديته، من لأحد من المخلوقين عليه ربانية، وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
 
أربًا واحدًا، أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت الأمور؟
 
روى الإمام أحمد و[[الترمذي]]، والطبراني، من حديث أسماء بنت عميس، قالت: قال رسول الله {{صل}}: «بئس العبد عبد تخيل، واختال، ونسى الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سها ولها، ونسى المقابر والبلى، بئس العبد عبد بغى واعتدى، ونسى المبدأ والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله» قال الترمذي: غريب. وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه. والله أعلم.
 
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك. كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>.
 
وطالب الرئاسة ولو بالباطل ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلًا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقًا. والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن الله تعالى يحب الحق، والصدق، والعدل، ويبغض الكذب، والظلم.
 
فإذا قيل: الحق والصدق والعدل الذي يحبه الله أحبه، وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لأن هواه قد صار تبعًا لماجاء به الرسول. وإذا قيل: الظلم والكذب، فالله يبغضه، والمؤمن يبغضه، ولو وافق هواه.
 
وكذلك طالب المال ولو بالباطل كما قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } <ref>[التوبة: 58]</ref> وهؤلاء هم الذين قال فيهم: «تعس عبد الدينار» الحديث. فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادًا من الدرهم والدينار، من الشهوات والأهواء، والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته لله وعبادته؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات، كيف تدفع القلب، وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته؛ لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه، ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه، ويزيله، ويشغله عن عبادة الله تعالى.
 
ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده وغيره، أن النبي {{صل}} قال لأصحابه: «الفقر تخافون؟ لا أخاف عليكم الفقر، إنما أخاف عليكم الدنيا، حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ لا يزيغه إلا هي».
 
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه، فالذين يحبونه يجذبونه إليهم. فإذا لم تكن المحبة منهم له لله، كان ذلك مما يقطعه عن الله، والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن الله، ولو أحسن إليه أصدقاؤه الذين يحبونه، لغير الله أوجب إحسانهم إليه محبته لهم، وإنجذاب قلبه إليهم. ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم، فيقطعونه عن الله وعبادته.
 
فلا تزول الفتنة عن القلب، إلا إذا كان دين العبد كله لله عز وجل، فيكون حبه لله ولما يحبه الله، ويبغضه لله، ولما يبغضه الله، وكذلك موالاته ومعاداته، وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون هذا أقوى، وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى، لما في قلبه من خشية الله، ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات.
 
وأما حب الناس له، فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الله، وخشيته وإلا جذبوه وأخذوه إليهم، كحب امرأة العزيز ليوسف، فإن قوة ىوسف ومحبته لله وإخلاصه وخشيته، كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها، هذا إذا أحب أحدهم صورته، مع أن هنا الداعي قوي منه ومنهم، فهنا المعصوم من عصمه الله، وإلا فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين، أنه يقع بعض الشر بينهم.
 
ولهذا قال رسول الله {{صل}}: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
 
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم، إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون. وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم، إن لم يفعلها وإلا نقص الحب، أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدى إلى الانسلاخ من حبه، فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا، فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم، حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم، وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه لا يفكرون في ذلك. وقليل منهم الشكور.
 
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابدًا الله، متوكلًا عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا، وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة.
 
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم، وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن. قوم يوالون زيدًا، ويعادون عمرًا. وآخرون بالعكس؛ لأجل أغراضهم، فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيد انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو، كما هو الواقع بين أصناف الناس.
 
وكذلك الرأس، من الجانبين، يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن الموالاة لله أضر عليه من أولئك، فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذا كله ضرر دنيوي، لا يعتد به إذا سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لايعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم. فهم لا يبالون بذلك. وأما "دين العبد" الذي بينه وبين الله فهم لا يقدرون عليه.
 
وأما أولياءه الذين يوالونه للأغراض، فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء، فدخل بذلك عليه الأذى من جهتين:
 
من جهة مفارقتهم، ومن جهة عداوتهم.
 
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه. وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه. فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم، فتتضاعف العداوة.
 
وإن لم يحب مفارقتهم، احتاج إلى مداهنتهم، ومساعدتهم على ما يريدونه، وإن كان فيه فساد دينه. فإن ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضا أن يعاونهم على أغراضهم، ولو فاتت أغراضه الدنيوية. فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده ! فإن الإنسان ظالم جاهل، لا يطلب إلا هواه.
 
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم. ويصبر على أذاهم. ويقضى حوائجهم لله، وتكون استعانته عليهم بالله تامة، وتوكله على الله تام. وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس، ممن يطلب الرئاسة الدنيوية، فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة، ويحسن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد جرى ذلك مع غير واحد.
 
وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته، فإنه يخدمه، ويعظمه، ويعطيه ما يقدر عليه، ويطلب منه من المحرم ما يفسد دينه.
 
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة، يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل، وإلا عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار، وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لأجل الأتباع والمحبين، ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم.
فمن أحب غير الله، ووالى غيره، كره محب الله ووليه، ومن أحب أحدًا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه، فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة، وذهابها عنه، فأي صداقة هذه؟ ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه في أغراضهم، وفيما يحبونه، وكلاهما ضرر عليه.
 
قال تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ } <ref>[البقرة: 166]</ref>، قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير الله، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } <ref>[البقرة: 167]</ref>. فالأعمال التي أراهم الله حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم، مع بعض في الدنيا كانت، لغير الله، ومنها الموالاة، والصحبة، والمحبة، لغير الله. فالخير كله في أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
===فصل في جاذبية الحب===
ومما يحقق هذه الأمور أن المحب يجذب، والمحبوب يجذب. فمن أحب شيئًا جذبه إليه بحسب قوته، ومن أحب صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته. فإن المحب علته فاعلية، والمحبوب علته غائية، وكل منهما له تأثير في وجود المعلول، والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته التي يتمثلها، فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها، لا أنها هي في نفسها قصد وفعل، فإن في المحبوب من المعنى المناسب ما يقتضى انجذاب المحب إليه، كما ينجذب الإنسان إلى الطعام ليأكله، وإلى امرأة ليباشرها، وإلى صديقه ليعاشره، وكما تنجذب قلوب المحبين لله ورسوله إلى الله ورسوله، والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من الصفات التي يستحق؛ لأجلها أن يحب ويعبد.
 
بل لايجوز أن يحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره، لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } <ref>[الأنبياء: 22]</ref>، فإن محبة الشيء لذاته شرك، فلا يحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته، فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله، أو لما يحب لأجله فمحبته فاسدة.
 
والله تعالى خلق في النفوس حب الغذاء، وحب النساء، لما في ذلك من حفظ الأبدان وبقاء الإنسان، فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم، ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل، والمقصود بوجود ذلك: بقاء كل منهم ؛ليعبدوا الله وحده، ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.
 
وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته، فإن من تمام حبه حب ما يحبه، وهو يحب الأنبياء والصالحين، ويحب الأعمال الصالحة، فحبها لله هو من تمام حبه، وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الله، فالمخلوق إذا أحب لله كان حبه جاذبًا إلى حب الله، وإذا تحاب الرجلان في الله اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه، كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب الله، كما قال تعالى: «حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، وإن لله عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله، وهم قوم تحابوا بروح الله علي غير أموال يتباذلونها، ولا أرحام يتواصلون بها، إن لوجوههم لنورًا، وإنهم لعلى كراسي من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس».
 
فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته، فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك لله، كما إذا ذكرت النبي {{صل}}، والأنبياء قبله، والمرسلين وأصحابهم الصالحين، وتصورتهم في قلبك، فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم، وبهم إذا كنت تحبهم لله، فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله، والمحب لله، إذا أحب شخصًا لله، فإن الله هو محبوبه، فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى، وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله.
 
وهكذا إذا كان الحب لغير الله، كما إذا أحب كل من الشخصين الآخر بصورة: كالمرأة مع الرجل، فإن المحب يطلب المحبوب، والمحبوب يطلب المحب، بانجذاب المحبوب، فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبًا مجذوبًا من الوجهين، فيجب الاتصال، ولو كان الحب من أحد الجانبين ؛لكان المحب يجذب المحبوب، والمحبوب يجذبه، لكن المحبوب لا يقصد جذبه، والمحب يقصد جذبه وينجذب.
 
وهذا سبب التأثير في المحبوب، إما تمثل يحصل في قلبه، فينجذب، وإما أن ينجذب بلا محبة: كما يأكل الرجل الطعام، ويلبس الثوب، ويسكن الدار، ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها.
 
وأما الحيوان، فيحب بعضه بعضًا بكونه سببًا للإحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، لكن هذا في الحقيقة إنما هو محبة الإحسان، لا نفس المحسن، ولو قطع ذلك لاضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغضًا، فإنه ليس لله عز وجل.
 
فإن من أحب إنسانًا ؛لكونه يعطيه، فما أحب إلا العطاء، ومن قال: إنه يحب من يعطيه لله فهذا كذب، ومحال، وزور من القول، وكذلك من أحب إنسانًا لكونه ينصره إنما أحب النصر لا الناصر. وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس، فإنه لم يحب في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب منفعة، أو دفع مضرة، فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة وإنما أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه، وليس هذا حبًا لله ولا لذات المحبوب.
 
وعلى هذا تجرى عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، وهذا لا يثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم، بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة، فكانوا في الآخرة من الأخلاء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. وإنما ينفعهم في الآخرة الحب في الله ولله وحده، وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لله، فهذا من دسائس النفوس ونفاق الأقوال.
 
وإنما ينفع العبد الحب لله لما يحبه الله من خلقه، كالأنبياء والصالحين ؛لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم.
 
ونبينا كان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويدع آخرين هم أحب إليه من الذي يعطي؛ يكلهم إلى ما في قلوبهم من الإيمان، وإنما كان يعطي المؤلفة قلوبهم، لما في قلوبهم من الهلع والجزع؛ ليكون ما يعطيهم سببًا لجلب قلوبهم إلى أن يحبوا الإسلام فيحبوا الله، فكان مقصوده بذلك دعوة القلوب إلى حب الله عز وجل، وصرفها عن ضد ذلك؛ ولهذا كان يعطي أقوامًا خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار فمنعهم بذلك العطاء عما يكرهه منهم فكان يعطي لله ويمنع لله. وقد قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»، وفي [[صحيح البخاري]] عنه {{صل}} أنه قال: «إني والله إنما أنا قاسم لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، ولكن أضع حيث أمرت».
 
وصورة المحبوب المتمثلة في النفس يتحرك لها المحب، ويريد لها، ويحب ويبغض ويبتهج وينشرح عند ذكرها، من أي جنس كانت، فتبقى هي كالآمر الناهي له؛ ولهذا يجد في نفسه كأنها تخاطبه بأمر ونهي وغير ذلك، كما يرى كثير من الناس من يحبه، ويعظمه في منامه، وهو يأمره، وينهاه، ويخبره بأمور.
 
والمشركون تتمثل لهم الشياطين في صور من يعبدونه، تأمرهم وتنهاهم.
 
والقائلون بالشاهد والمنتسبون إلى السلوك يقول أحدهم: إنه يخاطب في باطنه على لسان الشاهد، فمنهم من يصلي بالليل وذاك بإزائه ليشاهده في الضوء، ومنهم من يشاهده في حال السماع في غيره، ويظنون أنهم يخاطبون ويجدون المريد في قلوبهم بذلك، وذلك لأنهم يتمثلونه في أنفسهم، وربما كان الشيطان يتمثل في صورته، فيجدون في نفوسهم خطابا من تلك الصورة، فيقولون: خوطبنا من جهته. وهذا وإن كان موجودًا في المخاطب فمن المخاطب له؟ فالفرقان هنا. فإنما ذلك المخاطب من وسواس الشيطان والنفس.
 
وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم، ولا يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛لئلا ينفرون منه، بل الشيطان يخاطب أحدهم بما يري أنه حق، والراهب إذا راض نفسه فمرة يرى في نفسه صورة التثليث، وربما خوطب منها؛لأنه كان قد يتمثلها قبل ذلك، فلما انصقلت نفسه بالرياضة ظهرت له، والمؤمن الذي يحب الله ورسوله يرى الرسول في منامه بحسب إيمانه، وكذلك يري الله تعالى في منامه بحسب إيمانه، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
 
ولهذا كثير من أهل الزهد والعبادة يكون من أعوان الكفار، ويزعم أنه مأمور بذلك، ويخاطب به ويظن أن الله هو الذي أمره بذلك، والله منزه عن ذلك، وإنما الآمر له بذلك النفس والشيطان ومافي نفسه من الشرك، إذ لو كان مخلصًا لله الدين، لما عرض له شيء من ذلك، فإن هذا لا يكون إلا لمن فيه شرك في عبادته، أو عنده بدعة، ولا يقع هذا لمخلص متمسك بالسنة البتة.
 
وإذا كانت الرؤيا، على ثلاثة أقسام:
 
رؤيا من الله.
 
ورؤيا من حديث النفس.
 
ورؤيا من الشيطان.
 
فكذلك ما يلقي في نفس الإنسان في حال يقظته ثلاثة أقسام.
 
ولهذا كانت الأحوال ثلاثة: رحماني، ونفساني، وشيطاني.
 
وما يحصل من نوع المكاشفة والتصرف ثلاثة أصناف: ملكي، ونفسي، وشيطاني، فإن الملك له قوة، والنفس لها قوة، والشيطان له قوة، وقلب المؤمن له قوة، فما كان من الملك ومن قلب المؤمن، فهو حق، وما كان من الشيطان ووسوسة النفس، فهو باطل.
 
وقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة، فلم يفرقوا بين أولياء الله وأعداء الله، بل صاروا يظنون في من هو من جنس المشركين والكفار أهل الكتاب من وجوه كثيرة أنه من أولياء الله المتقين. والكلام في هذا مبسوط في موضع آخر.
 
ولهذا في هؤلاء من يرى جواز قتال الأنبياء، ومنهم من يرى أنه أفضل من الأنبياء، إلى أنواع أخر. وذلك ؛لأنه حصل لهم من الأنواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الأولياء، فظنوا أنهم منهم، فكان الأمر بالعكس. وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبه النفس، وأما العبادة بما يحبه الله ويرضاه، فلا يحبونه ولا يريدونه وحده، ويرون أنهم إذا عبدوا الله بما أمر به ورسله حط لهم عن منصب الولاية، فيحدثون محبة قوية وتألهًا وعبادة وشوقًا وزهدًا، ولكن فيه شرك وبدعة.
 
ومحبة التوحيد: إنما تكون لله وحده على متابعة رسوله، كما قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } <ref>[آل عمران: 31]</ref> ؛ فلهذا يكون أهل الاتباع فيهم جهاد ونية في محبتهم، يحبون لله، ويبغضون له. وهم على ملة إبراهيم. والذين معه { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } <ref>[الممتحنة: 4]</ref>، وأولئك محبتهم فيها شرك، وليسوا متابعين للرسول، ولا مجاهدين في سبيل الله، فليست هي المحبة الإخلاصية، فإنها مقرونة بالتوحيد؛ ولهذا سمي أبو طالب المكي كتابه: قوت القلوب في معاملة المحبوب، ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، والله سبحانه أعلم.
 
===فصل في جماع الزهد والورع===
قَالَ شَيْخُ الإِسْلام رَحِمَهُ اللَّهُ أيضا:
 
قد كتبت في كراسة الحوادث فصلا في: جماع الزهد والورع.
 
وإن الزهد: هو عما لا ينفع، إما لانتفاء نفعه، أو لكونه مرجوحًا؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه. وأما المنافع الخالصة، أو الراجحة فالزهد فيها حمق
 
وأما الورع، فإنه الإمساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لأنها قد تضر. فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه.
 
وأما الورع، عما لا مضرة فيه، أو فيه مضرة مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة، أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهل وظلم. وذلك يتضمن: ثلاثة أقسام لا يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضلالة.
 
وأنا أذكر هنا تفصيل ذلك فأقول:
 
الزهد، خلاف الرغبة. يقال: فلان زاهد في كذا. وفلان راغب فيه. والرغبة: هي من جنس الإرادة. فالزهد في الشيء انتفاء الإرادة له، إما مع وجود كراهته، وإما مع عدم الإرادة والكراهة، بحيث لايكون لا مريدًا له، ولا كارهًا له، وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه.
 
وكما أن سبيل الله يحمد فيه الزهد، فيما زهد الله فيه من فضول الدنيا، فتحمد فيه الرغبة والإرادة لما حمد الله إرادته، والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الإرادة. كما قال تعالى: { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } <ref>[الأنعام: 52]</ref>، وقال تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } <ref>[الإسراء: 19]</ref>، ونظائره متعددة.
 
كما رغب في الزهد، وذم ضده في قوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّار }
 
<ref>[هود: 15، 16]</ref>، وقال تعالى: { أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرٍُ } السورة <ref>[ التكاثر ]</ref>، وقال تعالى: { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } <ref>[الفجر: 19، 20]</ref>، وقال: { إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } <ref>[العاديات: 6-8]</ref>، وقال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } الآية <ref>[الحديد: 20]</ref>، وهذا باب واسع.
 
وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي، من غيره، وهو الزهد المحمود، وتميز الرغبة الشرعية، من غيرها، وهي الرغبة المحمودة، فإنه كثيرًا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الأوامر الشرعية، وكثيرًا ما تشتبه الرغبة الشرعية بالحرص، والطمع، والعمل الذي ضل سعى صاحبه.
 
وأما الورع، فهو اجتناب الفعل واتقاؤه، والكف والإمساك عنه والحذر منه، وهو يعود إلى كراهة الأمر، والنفرة منه، والبغض له، وهو أمر وجودي أيضا وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي. هل هو عدم المنهى عنه، أو فعل ضده؟ وأكثر أهل الإثبات على الثاني فلا ريب أنه لايسمى ورعًا، ومتورعًا، ومتقيًا، إلا إذا وجد منه الامتناع والإمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه.
 
والتحقيق: أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه، وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك، ومع وجود الامتناع والاتقاء والاجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى، فيحصل له منفعة هذا العمل، من حمده وثوابه، وغير ذلك، فعدم المضرة لعدم السيئات، ووجود المنفعة لوجود الحسنات.
 
فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة، والإرادة في المزهود فيه. والورع من باب وجود النفرة، والكراهة للمتورع عنه، وانتفاء الإرادة، إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة، وأما وجود الكراهة، فإنما يصلح فيما فيه مضرة خالصة أو راجحة، فأما إذا فرض مالا منفعة فيه ولا مضرة، أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه، فهذا لا يصلح أن يراد، ولا يصلح أن يكره، فيصلح فيه الزهد، ولا يصلح فيه الورع، فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد، من غير عكس، وهذا بين، فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن لا يراد ولا يرغب فيه، فإن عدم الإرادة أولى من وجود الكراهة، ووجود الكراهة مستلزم عدم الإرادة من غير عكس، وليس كل ما صلح أن لا يراد يصلح أن يكره، بل قد يعرض من الأمور مالا تصلح إرادته ولا كراهته، ولا حبه ولا بغضه ولا الأمر به، ولا النهي عنه.
 
وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات، لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات، فيصلح فيها الزهد والورع. وأما المباحات، فيصلح فيها الزهد دون الورع، وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل.
 
وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل. هل هو مأمور به، أو منهي عنه، أو مباح؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما يجعله مأمورًا به، أو منهيًا عنه، أو اقترن بالمأمور به، مايجعله منهيًا عنه وبالعكس.
 
فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها، يحتاج إلى الفرقان.
 
===فصل في قول بعض الناس الثواب على قدر المشقة===
وَقَال:
 
قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات، والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي {{صل}}، حيث قال: «هلك المتنطعون»، وقال: «لو مد لي الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم»، مثل الجوع أو العطش المفرط، الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم، وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم فقال النبي {{صل}}: «مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه» رواه البخاري، وهذا باب واسع.
 
وأما الأجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة لله ورسوله في عمل ميسر، كما يسر الله على أهل الإسلام: الكلمتين، وهما أفضل الأعمال؛ ولذلك قال النبي {{صل}}: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» أخرجاه في الصحيحين.
 
ولو قيل: الأجر على قدر منفعة العمل، وفائدته ؛لكان صحيحًا اتصاف الأول باعتبار تعلقه بالأمر والثاني باعتبار صفته في نفسه. والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط، وتارة من جهة صفته في نفسه، وتارة من كلا الأمرين. فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية، وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة، والطاعة والمعصية اسم له من جهة الأمر، والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه... وإن كان كثير من الناس لا يثبت إلا الأول، كما تقوله الأشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم.
 
ومن الناس من لايثبت إلا الثاني، كما تقوله المعتزلة وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، والصواب إثبات الاعتبارين، كما تدل عليه نصوص الأئمة وكلام السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم.
 
فأما كونه مشقًا، فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر، يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي {{صل}} لعائشة في العمرة: «أجرك على قدر نصبك» لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر، وكذلك الجهاد، وقوله {{صل}}: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران».
 
فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، لكن ؛لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا، فقد تكون المشقة مطلوبة منهم. وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبًا مقربًا إلى الله؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم.
 
ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات، مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها، ولا منفعة إلا أن يكون شيئًا يسيرًا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه.
 
ونظير هذا الأصل الفاسد، مدح بعض الجهال بأن يقول: فلان ما نكح ولا ذبح. وهذا مدح الرهبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون، وأما الحنفاء فقد قال النبي {{صل}}: «لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
 
وهذه الأشياء هي من الدين الفاسد، وهو مذموم، كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم.
 
والناس أقسام:
 
أصحاب دنيا محضة: وهم المعرضون عن الآخرة.
 
وأصحاب دين فاسد: وهم الكفار، والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات، والزهادات.
 
والقسم الثالث وهم: أهل الدين الصحيح، أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب، والسنة والجماعة، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
 
===فصل في تزكية النفس===
وَقَالَ شَيخُ الإِسْلام أحمَد بن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ:
 
فَصْل في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات، قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } <ref>[الشمس: 9]</ref>، و { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } <ref>[الأعلى: 14]</ref>.
 
قال قتادة وابن عيينة وغيرهما: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال. وقال الفراء والزجاج: قد أفلحت نفس زكاها الله، وقد خابت نفس دساها الله. وكذلك ذكره الوالبي، عن ابن عباس وهو منقطع. وليس هو مراد من الآية؛ بل المراد بها الأول قطعًا لفظًا ومعنى.
 
أما اللفظ فقوله: من زكاها اسم موصول ولابد فيه من عائد على { مّن } فإذا قيل: قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان ضمير الشخص في زكاها يعود على { مّن }، هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال: قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه.
 
وأما إذا كان المعنى: قد أفلح من زكاه الله، لم يبق في الجملة ضمير يعود على { مّن } فإن الضميرعلى هذا يعود على الله، وليس هو { مّن } وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على { مّن } لا ضمير الفاعل، ولا المفعول. فتخلوا الصلة من عائد وهذا لا يجوز.
 
نعم، لو قيل: قد أفلح من زكى الله نفسه، أو من زكاها الله له، ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب. وهو لم يقل: قد أفلحت نفس زكاها. فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة، بل قال: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } <ref>[الشمس: 9]</ref>، فالجملة صلة ل { مّن } لا صفة لها.
 
ولا قال أيضا: قد أفلحت النفس التي زكاها، فإنه لو قيل ذلك، وجعل في { زّكَّاهّا } ضمير يعود على اسم الله صح، فإذا تكلفوا، وقالوا: التقدير { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } هي النفس التي زكاها، وقالوا: في زكى ضمير المفعول يعود على { مَنْ } وهي تصلح للمذكر والمؤنث والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي؛ ولهذا قيل: { قّدً أّفًلّح } ولم يقل: قد أفلحت، قيل لهم: هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة، فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن... على أن المراد لنا، وكذا قوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } <ref>[يونس: 42]</ref>، ونحو ذلك.
 
وأما هنا فليس في لفظ { مَنْ }، وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة، فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته، فإن مثل هذا مما يصان كلام الله عز وجل عنه، فلو قدر احتمال عود ضمير { زَكَّاهَا } إلى نفس وإلى { مَنْ }، مع أن لفظ { مَنْ } لا دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر، لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومن تكلف غير ذلك، فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزه عن ذلك، والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى مالا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني؟ فقد أخبر الله أنه يلهم التقوى والفجور. ولبسط هذا موضع آخر.
 
والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } <ref>[الأعلى: 14]</ref>، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي، ولا ترغيب ولا ترهيب. والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول: من جعله الله مؤمنًا، بل يقول: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } <ref>[المؤمنون: 1]</ref>، { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام الله؟ ألا ترى أنه في مقام الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد، والوعيد، والمدح، والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم، إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان، والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم. كقوله: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى } الآية <ref>[النور: 21]</ref>، فهذا مناسب. وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى }وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى.
 
والمقصود ذكر التزكية قال تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الآية <ref>[النور: 30]</ref>، وقال: { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } <ref>[النور: 28]</ref>، وقال: { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } <ref>[فصلت: 7]</ref>، وقال: { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } <ref>[عبس: 7]</ref>.
 
وأصل الزكاة الزيادة في الخير. ومنه يقال: زكا الزرع، وزكا المال إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها. قال الزجاج: { دّسَّاهّا } جعلها ذليلة حقيرة خسيسة، وقال الفراء: دساها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله، قال [[ابن قتيبة]]: أي أخفاها بالفجور والمعصية، فالفاجر دس نفسه، أي قمعها وخباها، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها، واللئام تنزل الأطراف والوديان.
 
فالبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه الله وشرح صدره، والفجور، والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق. وقد بين النبي {{صل}} ذلك في الحديث الصحيح، فقال: «مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما. فجعل المتصدق كلما هم بصدقة اتسعت وانبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت، وأخذت كل حلقة بمكانها، وأنا رأيت رسول الله {{صل}} يقول بأصبعه في جيبه، فلو رأيتها يوسعها فلا تتسع» أخرجاه.
 
وإخفاء المنزل وإظهاره تبعًا لذلك، قال تعالى: { يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } الآية <ref>[النحل: 59]</ref>. فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل، والنفس البرة التقية النقية، التي قد زكاها صاحبها فارتفعت، واتسعت، ومجدت، ونبلت فوقت الموت تخرج من البدن تسيل، كالقطرة من في السقاء، وكالشعرة من العجين. قال [[ابن عباس]]: إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق. قال تعالى: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الآية <ref>[الأعراف: 58]</ref>. وهذا مثل البخيل والمنفق. قال: { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الآية <ref>[الأنعام: 521]</ref>. وقال: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الآية <ref>[البقرة: 257]</ref>.
 
وقال له في سياق الرمي بالفاحشة، وذم من أحب إظهارها في المؤمنين، والمتكلم بما لا يعلم: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا }الآية <ref>[النور: 21]</ref>. فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية <ref>[النور: 30]</ref>. وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس، فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ومكروه فعلها، ويجاهد نفسه إذا دعته إليها، إن كان مصدقًا لكتاب ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه {{صل}}؛ ولهذا التصديق والإيمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة، فتزكو بذلك أيضا، بخلاف ما إذا عملت السيئات فإنها تتدنس وتندس، وتنقمع، كالزرع إذا نبت معه الدغل.
 
والثواب إنما يكون على عمل موجود، وكذلك العقاب. فأما العدم المحض، فلا ثواب فيه ولا عقاب، لكن فيه عدم الثواب والعقاب، والله سبحانه أمر بالخير، ونهى عن الشر، واتفق الناس على أن المطلوب بالأمر فعل موجود، واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي، أم عدمي؟ فقيل: وجودي، وهو الترك، وهذا قول الأكثر. وقيل: المطلوب عدم الشر، وهو ألا يفعله.
 
والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر، فلا بد ألا يقربه ويعزم على تركه، ويكره فعله، وهذا أمر وجودي بلا ريب، فلايتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه... وجودي، لكن قد لا يكون مريدًا له كما يكره أكل الميتة طبعًا، ومع ذلك، فلابد له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع، وهذا قدر زائد على كراهة الطبع، وهو أمر وجودي يثاب عليه، ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب المحرم، ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان. وقد غمر إيمانه حكم طبعه، فهذا أعلى الأقسام الثلاثة، وهذا صاحب النفس المطمئنة، وهو أرفع من صاحب اللوامة التي تفعل الذنب، وتلوم صاحبها عليه، وتتلوم وتتردد، هل تفعله أم لا؟
 
وأما من لم يخطر بباله أن الله حرمه، ولا هو مريد له، بل لم يفعله، فهذا لايعاقب ولا يثاب، إذ لم يحصل منه أمر وجودي يثاب عليه، أو يعاقب فمن قال: المطلوب ألا يفعل، إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب، فقد صدق، وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم، فليس كذلك، والكافر إذا لم يؤمن بالله ورسوله، فلا بد لنفسه من أعمال يشتغل بها عن الإيمان، وترك الأعمال كفر يعاقب عليها.
 
ولهذا لما ذكر الله عقوبة الكفار في النار، ذكر أمورًا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد والإيمان أعظم ما تزكو به النفس، وكان الشرك أعظم ما يدسيها، وتتزكى بالأعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف. قالوا: في { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } <ref>[الأعلى: 14]</ref>، تطهر من الشرك، ومن المعصية بالتوبة، وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة: صدقة الفطر. ولم يريدوا أن الآية لم تتناول إلا هي، بل مقصودهم: أن من أعطى صدقة الفطر، وصلى صلاة العيد فقد تناولته وما بعدها، ولهذا كان يزيد بن حبيب، كلما خرج إلى الصلاة خرج بصدقة، ويتصدق بها، قبل الصلاة، ولو لم يجد إلا بصلًا. قال الحسن: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } من كان عمله زاكيًا، وقال أبو الأحوص: زكاة الأمور كلها، وقال الزجاج: تزكى بطاعة الله عز وجل، ومعنى الزاكي: النامي الكثير.
 
وكذلك قالوا في قوله: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } <ref>[فصلت: 6، 7]</ref> قال ابن عباس: لايشهدون أن لا إله إلا الله، وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم أي ليست زاكية، وقيل لا يطهرونها بالإخلاص، كأنه أراد والله أعلم أهل الرياء، فإنه شرك. وعن الحسن: لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها. وعن الضحاك: لا يتصدقون، ولا ينفقون في الطاعة، وعن ابن السائب: لا يعطون زكاة أموالهم. قال: كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون.
 
والتحقيق أن الآية تتناول كل ما يتزكى به الإنسان من التوحيد والأعمال الصالحة. كقوله: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } <ref>[النازعات: 18]</ref>، وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } <ref>[الأعلى: 14]</ref>، والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها.
 
فإن قيل: { يؤتي } فعل متعد.
 
قيل: هذا كقوله: { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا } <ref>[الأحزاب: 14]</ref>، وتقدم قبلها أن الرسول دعاهم، وهو طلب منه، فكان هذا اللفظ متضمنًا قيام الحجة عليهم بالرسل، والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم.
 
ومما يليق: أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لأن معناها معنى الطهارة. قوله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } من الشر { وَتُزَكِّيهِمْ } <ref>[التوبة: 103]</ref> بالخير قال {{صل}}: «اللَّهم طهرني بالماء والبرد والثلج» كان يدعو به في الاستفتاح وفي الاعتدال من الركوع، والغسل.
 
فهذه الأمور توجب تبريد المغسول بها، والبرد يعطي قوة وصلابة، ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان دمع السرور باردًا، ودمع الحزن حارًا؛ لأن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها، وما يسرها يوجب فرحها وسرورها وذلك مما يبرد الباطن.
 
فسأل النبي {{صل}}: أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب.
 
وقوله: بالثلج والبرد والماء البارد: تمثيل بما فيه من هذا الجنس، وإلا فنفس الذنوب لا تغسل بذلك، كما يقال: أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك. ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال {{صل}}: «الآن برّدت جلدته»، ويقال: برد اليقين، وحرارة الشك، ويقال: هذا الأمر يثلج له الصدر، إذا كان حقًا يعرفه القلب ويفرح به، حتى يصير في مثل برد الثلج، ومرض النفس: إما شبهة وإما شهوة أو غضب، والثلاثة توجب السخونة، ويقال لمن نال مطلوبه: برد قلبه، فإن الطالب فيه حرارة الطلب.
 
وقوله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ }: دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة، فإنه قاله بعد قوله: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا }الآية <ref>[التوبة: 102]</ref>. فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا }الآيات <ref>[النور: 30]</ref> { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } الآية <ref>[النور: 31]</ref>. فأمرهم جميعًا بالتوبة في سياق ما ذكره؛ لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس. كما في الصحيح: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا» الحديث. وكذلك في الصحيح: إن قوله: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } <ref>[هود: 114]</ref> نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع، ثم ندم فنزلت.
 
ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف الله، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله، وعملًا صالحًا، وثبت عنه أنه قال: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله»، فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلي جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد. كما قال: «والمهاجر من هجر السيئات».
 
ثم هذا لا يكون محمودًا فيه، إلا إذا غلب، بخلاف الأول فإنه من { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 74]</ref>، ولهذا قال {{صل}}: «ليس الشديد بالصرعة... » إلخ؛ وذلك لأن الله أمر الإنسان أن ينهي النفس عن الهوى، وأن يخاف مقام ربه، فحصل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد، فإذا غلب كان لضعف إيمانه، فيكون مفرطًا بترك المأمور، بخلاف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى.
 
فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به، ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور، فإنهما ضدان. قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الآية <ref>[يوسف: 24]</ref>. وقال: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } <ref>[الحجر: 42، الإسراء: 65 ]</ref> فعباد الله المخلصون لا يغويهم الشيطان، والغي خلاف الرشد، وهو اتباع الهوى، فمن مالت نفسه إلى محرم، فليأت بعبادة الله كما أمر الله مخلصًا له الدين، فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء.... خشية ومحبة، والعبادة له وحده، وهذا يمنع من السيئات.
 
فإذا كان تائبًا، فإن كان ناقصًا، فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع، فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم، ويرفعه بعد حصوله، وكالغذاء من الطعام والشراب، وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع النفس عن طلب الحرام، فإذا حصل له طلب إزالته، وكالعلم الذي يمنع من الشك، ويرفعه بعد وقوعه، وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع المرض، وكذلك ما في القلب من الإيمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به.
 
وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه، ولا يحصل المرض إلا لنقص أسباب الصحة، كذلك القلب لا يمرض إلا لنقص إيمانه. وكذلك الإيمان والكفران متضادان، فكل ضدين: فأحدهما يمنع الآخر تارة، ويرفعه أخرى، كالسواد والبياض... حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاصلًا، كذلك الحسنات والسيئات والإحباط... والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى الإيمان، وإن من مات عليها لم يكن... الجبائي وابنه بالموازنة. لكن قالوا: من رجحت سيئاته خلد في النار، والموازنة بلا تخليد قول... الإحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر كما قال: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ }الآية <ref>[البقرة: 217]</ref>، وقوله: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الآية <ref>[المائدة: 5]</ref>، وقال: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } <ref>[الأنعام: 88]</ref>، وقال: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية <ref>[الزمر: 65]</ref>.
 
وما ادعته المعتزلة مخالف لأقوال السلف، فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره، ولم يجعلهم كفارًا حابطي الأعمال، ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين، والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم. والنبي {{صل}} أمر بالصلاة على الغال، وعلى قاتل نفسه، ولو كانوا كفارًا ومنافقين لم تجز الصلاة عليهم. فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله. وقال عمن شرب الخمر: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» وذلك الحب من أعظم شعب الإيمان. فعلم أن إدمانه لا يذهب الشعب كلها، وثبت من وجوه كثيرة: «يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان» ولو حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه. وقال تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ }الآية <ref>[فاطر: 32]</ref>. فجعل من المصطفين.
 
فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة. منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص، مثل قوله: { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } الآية <ref>[البقرة: 264]</ref>. دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي، وقالت عائشة: أبلغي زيدًا أن جهاده بطل. الحديث.
 
وأما قوله: { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } <ref>[الحجرات: 2]</ref>، وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع. وقال تعالى: { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } <ref>[محمد: 33]</ref> قال الحسن: بالمعاصي والكبائر، وعن عطاء: بالشرك والنفاق، وعن ابن السائب: بالرياء والسمعة، وعن مقاتل: بالمن. وذلك أن قومًا منوا بإسلامهم، فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط الأعمال.
 
فإن قيل: لم يرد إلا إبطالها بالكفر.
 
قيل: ذلك منهي عنه في نفسه، وموجب للخلود الدائم، فالنهي عنه لا يعبر عنه بهذا، بل يذكره على وجه التغليظ. كقوله: { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } <ref>[المائدة: 54]</ref> ونحوها. والله سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطالا، ولم يسمه إحباطًا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الآية <ref>[محمد: 34]</ref>.
 
فإن قيل: المراد إذا دخلتم فيها فأتموها، وبها احتج من قال: يلزم التطوع بالشروع فيه.
 
قيل: لو قدر أن الآية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل، فإبطاله كله أولى، بدخوله فيها فكيف وذلك قبل فراغه لا يسمى صلاة ولا صومًا؟
 
ثم يقال: الإبطال يوجد قبل الفراغ أو بعده، وما ذكروه أمر بالإتمام، والإبطال هو إبطال الثواب، ولا نسلم أن من لم يتم العبادة يبطل جميع ثوابه، بل يقال: إنه يثاب على ما فعل من ذلك. وفي الصحيح حديث المفلس «الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال».
 
===سئل شيخ الإسلام عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير في الأرض===
سُئِلَ شَيْخ الإِسْلام قدس الله روحه عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه، ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفًا من كسب الحرام والشبهات، وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله، وساح في أرض الله والبلدان، فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله وحده، الزهد المشروع هو ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة، وثقة القلب بما عند الله، كما في الحديث الذي في [[الترمذي]] «ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك» لأن الله تعالى يقول: { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } <ref>[الحديد: 23]</ref>. فهذا صفة القلب.
 
وأما في الظاهر، فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله من مطعم وملبس ومال وغير ذلك، كما قال الإمام أحمد: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام قلائل.
 
وجماع ذلك خلق رسول الله {{صل}}، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك، وكان القطن أحب إليه، وكان إذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد، أو العبادة على المشروع، ويقول: أينا مثل رسول الله {{صل}}؟ يغضب لذلك، ويقول: «والله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بحدود الله تعالى» وبلغه أن بعض أصحابه قال: أما أنا فأصوم فلا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم فلا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال {{صل}}: «لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
 
فأما الإعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو من دين الأنبياء؛ بل قد قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } <ref>[الرعد: 38]</ref> والإنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبًا تارة ومستحبًا أخرى، فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين.
 
وكذلك السياحة في البلاد لغير مقصود مشروع، كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه، قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين.
 
وأما السياحة المذكورة في القرآن من قوله: { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ } <ref>[التوبة: 112]</ref> ومن قوله: { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } <ref>[التحريم: 5]</ref> فليس المراد بها هذه السياحة المبتدعة؛ فإن الله قد وصف النساء اللاتي يتزوجهن رسوله بذلك، والمرأة المزوجة لا يشرع لها أن تسافر في البراري سائحة، بل المراد بالسياحة شيئان:
 
أحدهما: الصيام. كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي {{صل}} أنه قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرمن الناس، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب». متفق عليه.
 
لكن إذا ترك الإنسان الحرام، أو الشبهة، بترك واجب أو مستحب، وكان الإثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم من الإثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك، كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي، عن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عمن ترك ما لا شبهة فيه وعليه دين؟ فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فلا أقضيه؟ فقال له: أتدع... <ref>[بياض بالأصل]</ref>.
 
===سئل شيخ الإسلام عن مقامات اليقين===
سُئِلَ شَيْخُ الإسلام أَبُو الْعَبَّاس أحمد بن تيمية رحمه الله عن قوله تعالى: { حَقُّ الْيَقِينِ } <ref>[ الواقعة: 95]</ref> و { عَيْنَ الْيَقِينِ } <ref>[التكاثر: 7 ]</ref> و { عِلْمَ الْيَقِينِ } <ref>[التكاثر: 5]</ref> فما معنى كل مقام منها؟ وأي مقام أعلى؟.
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، للناس في هذه الأسماء مقالات معروفة.
 
منها: أن يقال: { عِلْمَ الْيَقِينِ }ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر، و { عَيْنَ الْيَقِينِ } ما شاهده وعاينه بالبصر، و { حَقُّ الْيَقِينِ } ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار.
 
فالأول: مثل من أخبر أن هناك عسلًا، وصدق المخبر. أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده.
 
والثاني: مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه، وهذا أعلى كما قال النبي {{صل}}: «ليس المخبر كالمعاين».
 
والثالث: مثل من ذاق العسل، ووجد طعمه وحلاوته، ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله؛ ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما عندهم من الذوق والوجد، كما قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار»، وقال {{صل}}: «ذاق طعم الإيمان: من رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا» فالناس فيما يجده أهل الإيمان ويذوقونه من حلاوة الإيمان وطعمه على ثلاث درجات:
 
الأولى: من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه، أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم، أو يجد من آثار أحوالهم ما يدل على ذلك.
 
والثانية: من شاهد ذلك وعاينه، مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم وأذواقهم، وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه، ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر، والمستدل بآثارهم.
 
والثالثة: أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان سمعه، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: إنه ليمر على القلب أوقات يرقص منها طربًا. وقال الآخر: لأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
 
والناس فيما أخبروا به من أمر الآخرة على ثلاث درجات:
 
إحداها: العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل، وما قام من الأدلة على وجود ذلك.
 
الثانية: إذا عاينوا ما وعدوا به من الثواب والعقاب والجنة والنار.
 
والثالثة: إذا باشروا ذلك؛ فدخل أهل الجنة الجنة، وذاقوا ما كانوا يوعدون، ودخل أهل النار النار، وذاقوا ما كانوا يوعدون، فالناس فيما يوجد في القلوب، وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلاث.
 
وكذلك في أمور الدنيا: فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به، فإن شاهده ولم يذقه كان له معاينة له، فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به، ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته، فإن العبارة إنما تفيد التمثيل والتقريب. وأما معرفة الحقيقة فلا تحصل بمجرد العبارة، إلا لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه، وعرفه وخبره؛ ولهذا يسمون أهل المعرفة؛ لأنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر، وفي الحديث الصحيح: «أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي {{صل}} قال: فهل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلب لا يسخطه أحد».
 
فالإيمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته لا يسخطه القلب، بل يحبه ويرضاه، فإن له من الحلاوة في القلب واللذة والسرور والبهجة ما لا يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه، والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له من البشاشة ما هو بحسبه، وإذا خالطت القلب لم يسخطه، قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } <ref>[يونس: 58]</ref>، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ } <ref>[الرعد: 36]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } <ref>[التوبة: 124]</ref> فأخبر سبحانه أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن، والاستبشار هو الفرح والسرور؛ وذلك لما يجدونه في قلوبهم من الحلاوة واللذة والبهجة بما أنزل الله.
 
واللذة أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيئًا ونال ما أحبه وجد اللّذة به؛ فالذوق هو إدراك المحبوب، اللذة الظاهرة كالأكل مثلًا: حال الإنسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه، ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلاوته، وكذلك النكاح وأمثال ذلك.
 
وليس للخلق محبة أعظم ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحب لأجل الله، ويطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله. كما قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، وفي الحديث: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي»، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلى قوله: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } <ref>[التوبة: 24]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وفي حديث [[الترمذي]] وغيره: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» وقال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، فالذين آمنوا أشد حبًا لله، من كل محب لمحبوبه، وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع متعددة.
 
والمقصود هنا أن أهل الإيمان يجدون بسبب محبتهم لله ولرسوله من حلاوة الإيمان ما يناسب هذه المحبة، ولهذا علق النبي {{صل}} ما يجدونه بالمحبة فقال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».
 
ومن ذلك ما يجدونه من ثمرة التوحيد والإخلاص، والتوكل والدعاء لله وحده، فإن الناس في هذا الباب على ثلاث درجات:
 
منهم: من علم ذلك سماعًا واستدلالًا.
 
ومنهم: من شاهد وعاين ما يحصل لهم.
 
ومنهم: من وجد حقيقة الإخلاص والتوكل على الله، والالتجاء إليه، والاستعانة به، وقطع التعلق بما سواه، وجرب من نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم، وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة، فإنه يخذل من جهتهم، ولا يحصل مقصوده، بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم، فلا ينفعونه: إما لعجزهم، وإما لانصراف قلوبهم عنه، وإذا توجه إلى الله بصدق الافتقار إليه، واستغاث به مخلصًا له الدين، أجاب دعاءه؛ وأزال ضرره، وفتح له أبواب الرحمة. فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء لله، ما لم يذق غيره. وكذلك من ذاق طعم إخلاص الدين لله وإرادة وجهه دون ما سواه؛ يجد من الأحوال والنتائج والفوائد مالا يجده من لم يكن كذلك.
 
بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو؛ وتعلقه بالصور الجميلة، أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان والآلام وضيق الصدر ما لا يعبر عنه، وربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى، ولا يحصل له ما يسره، بل هو في خوف وحزن دائمًا، إن كان طالبًا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل. فإذا أدركه كان خائفًا من زواله وفراقه.
 
وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإذا ذاق هذا أو غيره حلاوة الإخلاص لله، والعبادة له، وحلاوة ذكره ومناجاته، وفهم كتابه، وأسلم وجهه لله وهو محسن بحيث يكون عمله صالحًا، ويكون لوجه الله خالصًا، فإنه يجد من السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا. أو اندفع عنه ما يضره، فإن حلاوة ذلك هي بحسب ما حصل له من المنفعة، أو اندفع عنه من المضرة، ولا أنفع للقلب من التوحيد وإخلاص الدين لله، ولا أضر عليه من الإشراك.
 
فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي حقيقة { إيَّاكَ نَعْبُدُ } مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة { إيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، كان هذا فوق ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا. والله أعلم.
 
===سئل شيخ الإسلام أن يوصي وصية جامعة لأبي القاسم المغربي===
سؤال أبى القاسم المغربى يتفضل الشيخ الإمام بقية السلف، وقدوة الخلف، أعلم من لقيت ببلاد المشرق والمغرب، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية، بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار، والله تعالى يحفظه. والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته.
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، أما الوصية: فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها، قال تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ } <ref>[النساء: 131]</ref>.
 
ووصى النبي {{صل}} معاذًا لما بعثه إلى اليمن فقال: «يامعاذ، اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
 
وكان معاذ رضي الله عنه من النبي {{صل}} بمنزلة علية؛ فإنه قال له: «يامعاذ، والله، إني لأحبك» وكان يردفه وراءه. وروى فيه: «أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام» «وأنه يحشر إمام العلماء برتوة أي بخطوة». ومن فضله أنه بعثه النبي {{صل}} مبلغًا عنه داعيًا ومفقهًا ومفتيًا وحاكمًا إلى أهل اليمن.
 
وكان يشبهه بإبراهيم الخليل عليه السلام وإبراهيم إمام الناس. وكان [[ابن مسعود]] رضي الله عنه يقول: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين؛ تشبيهًا له بإبراهيم.
 
ثم إنه {{صل}} وصاه هذه الوصية، فعلم أنها جامعة وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير الوصية القرآنية.
 
أما بيان جمعها؛ فلأن العبد عليه حقان:
 
حق لله عز وجل، وحق لعباده. ثم الحق الذي عليه لابد أن يخل ببعضه أحيانًا: إما بترك مأمور به، أو فعل منهي عنه. فقال النبي {{صل}}: «اتق الله حيثما كنت» وهذه كلمة جامعة، وفي قوله: «حيثما كنت» تحقيق لحاجته إلى التقوى في السر والعلانية. ثم قال: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فإن الطبيب متى تناول المريض شيئًا مضرًا أمره بما يصلحه. والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. وإنما قدم في لفظ الحديث«السيئة» وإن كانت مفعولة، لأن المقصود هنا محوها لا فعل الحسنة، فصار كقوله في بول الأعرابي: «صبوا عليه ذنوبًا من ماء».
 
وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، فإنه أبلغ في المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء:
 
أحدها: التوبة.
 
والثاني: الاستغفار من غير توبة. فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب، فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال.
 
الثالث: الأعمال الصالحة المكفرة: إما الكفارات المقدرة، كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته، أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة، وهي أربعة أجناس: هدى وعتق وصدقة وصيام.
 
وإما الكفارات المطلقة، كما قال حذيفة لعمر: فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس، والجمعة والصيام، والحج وسائر الأعمال التي يقال فيها: من قال كذا وعمل كذا غفر له، أو غفر له ما تقدم من ذنبه، وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصًا ما صنف في فضائل الأعمال.
 
واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه؛ فإن الإنسان من حين يبلغ؛ خصوصًا في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه، فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء، فكيف بغير هذا؟.
 
وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» هذا خبر تصديقه في قوله تعالى: { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } <ref>[التوبة: 69]</ref>، ولهذا شواهد في الصحاح والحسان.
 
وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة، فإن كثيرًا من أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى العلم، وكثيرًا من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى الدين، كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا {{صل}}، ثم نزله على أحوال الناس.
 
وإذا كان الأمر كذلك فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، وكان ميتًا فأحياه الله وجعل له نورًا يمشي به في الناس، لابد أن يلاحظ أحوال الجاهلية وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، فيرى أن قد ابتلى ببعض ذلك.
 
فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو اتباع السيئات الحسنات. والحسنات ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات.
 
ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة، وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو غير ذلك، لكن ليس هذا من فعل العبد.
 
فلما قضى بهاتين الكلمتين حق الله: من عمل الصالح، وإصلاح الفاسد قال: «وخالق الناس بخلق حسن» وهو حق الناس.
 
وجماع الخلق الحسن مع الناس: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له والاستغفار والثناء عليه، والزيارة له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض. وبعض هذا واجب، وبعضه مستحب.
 
وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمدا {{صل}}، فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقًا، هكذا قال مجاهد وغيره، وهو تأويل القرآن، كما قالت [[عائشة]] رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن» وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر.
 
وأما بيان أن هذا كله في وصية الله، فهو: أن اسم تقوى الله يجمع فعل كل ما أمر الله به إيجابًا واستحبابًا، وما نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا، وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد. لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف عن المحارم، جاء مفسرًا في حديث معاذ، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنهما الذي رواه [[الترمذي]] وصححه: قيل: يارسول الله! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: «تقوى الله وحسن الخلق». قيل: وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: «الأجوفان: الفم والفرج».
 
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله {{صل}}: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقا» فجعل كمال الإيمان في كمال حسن الخلق. ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله.
 
وتفصيل أصول التقوى وفروعها لايحتمله هذا الموضع؛ فإنها الدين كله، لكن ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة، كما في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وفي قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } <ref>[هود: 123]</ref>، وفي قوله: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } <ref>[الشورى: 10]</ref>، وفي قوله: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } <ref>[العنكبوت: 17]</ref>، بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعًا بهم أو عملًا لأجلهم، ويجعل همته ربه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك، والعمل له بكل محبوب. ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك.
 
وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره: إن ملازمة ذكر الله دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة، وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم: «سبق المفردون»، قالوا: يارسول الله، ومن المفردون؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»، وفيما رواه [[أبو داود]] عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي {{صل}} أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى يارسول الله! قال: « ذكر الله».
 
والدلائل القرآنية والإيمانية بصرًا وخبرًا ونظرًا على ذلك كثيرة.
 
وأقل ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين {{صل}}، كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة مثل مايقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد إلى غير ذلك، وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة.
 
ثم ملازمة الذكر مطلقًا وأفضله لا إله إلا الله. وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: «سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» أفضل منه.
 
ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى الله، من تعلم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، فهو من ذكر الله. ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلسًا يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقها، فهذا أيضا من أفضل ذكر الله. وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف.
 
وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى، وليكثر من ذلك ومن الدعاء، فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحر الأوقات الفاضلة، كآخر الليل، وأدبار الصلوات، وعند الأذان، ووقت نزول المطر، ونحو ذلك.
 
وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به. وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه، كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه: «كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. ياعبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم» وفيما رواه [[الترمذي]] عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله {{صل}}: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر».
 
وقد قال الله تعالى في كتابه: { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } <ref>[النساء: 32]</ref>، وقال سبحانه: { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } <ref>[الجمعة: 10]</ref> وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات. ولهذا والله أعلم أمر النبي {{صل}} الذي يدخل المسجد أن يقول: «اللهم افتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج أن يقول: «اللهم إني أسألك من فضلك» وقد قال الخليل {{صل}}: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } <ref>[العنكبوت: 17]</ref> وهذا أمر، والأمر يقتضي الإيجاب فالاستعانة بالله واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم.
 
ثم ينبغى له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء. وفي الحديث المرفوع الذي رواه الترمذي وغيره: «من أصبح والدنيا أكبر همه، شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
 
وقال بعض السلف: أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظامًا، قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } <ref>[الذاريات: 56-58]</ref>.
 
فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك، فهذا يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئًا عامًا، لكن إذا عن للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير {{صل}}، فإن فيها من البركة مالا يحاط به. ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كراهة شرعية.
 
وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم، فهذا باب واسع، وهو أيضا يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه مالا يتيسر له في بلد آخر، لكن جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي {{صل}}، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما أن لا يكون علمًا، وإن سمى به، ولئن كان علمًا نافعًا فلا بد أن يكون في ميراث محمد {{صل}} ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه. ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه. فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولامع الناس، إذا أمكنه ذلك.
 
وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي {{صل}}. وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدع بمارواه مسلم في صحيحه عن [[عائشة]] رضي الله عنها أن رسول الله {{صل}} كان يقول إذا قام يصلي من الليل: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» فإن الله تعالى قد قال فيما رواه عنه رسوله: «ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».
 
وأما وصف الكتب والمصنفين، فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره الله سبحانه، وما في الكتب المصنفة المبوبة كتاب أنفع من صحيح محمد بن إسماعيل البخاري لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم. ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لابد من معرفة أحاديث أخر، وكلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء. وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعابًا، فمن نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالًا، كما قال النبي {{صل}} لأبي لبيد الأنصاري: «أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا تغني عنهم؟».
 
فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد، ويلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على أشرف المرسلين.
 
===سئل شيخ الإسلام عن الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل===
وَسُئل الشَّيخُ الإمَامُ، العَالِمُ العَامل الحبر الكامل، شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن «الصبرالجميل» و«الصفح الجميل» و«الهجر الجميل» وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس؟
 
فأجاب رحمه الله:
 
الحمد لله، أما بعد: فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، فالهجر الجميل: هجر بلا أذى، والصفح الجميل: صفح بلا عتاب، والصبر الجميل: صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } <ref>[يوسف: 86]</ref> مع قوله: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } <ref>[يوسف: 18]</ref> فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل، ويروي عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث وعليك التكلان» ومن دعاء النبي {{صل}}: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلي من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبي حتى ترضى».
 
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } <ref>[يوسف: 86]</ref> ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلاف الشكوي إلى المخلوق. قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووسًا كره أنين المريض، وقال: إنه شكوى. فما أن حتى مات. وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } <ref>[الشرح: 7، 8]</ref>، وقال {{صل}} لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله».
 
ولابد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور. فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر. قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلى قوله: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }، وقال تعالى: { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } <ref>[آل عمران: 118-125]</ref>، وقال تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } <ref>[آل عمران: 186]</ref> وقد قال يوسف: { أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.
 
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين: المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور، والصبر والرضا بالأمر المقدور، وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة؛ بل ومن السالكين، فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الله خالق كل شيء وربه، ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يسخطه ويبغضه، وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية، وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات سعيدها وشقيها مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، والملائكة المقربون والمردة الشياطين.
 
فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية، وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره. ولا يشهد الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه وأعدائه. وبين المؤمنين والكافرين، والأبرار والفجار، وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية، وهو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، وفعل ما يحبه ويرضاه، وهو ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان، فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء، ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس المشركين، وهو شر من اليهود والنصارى.
 
فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية. إذ هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } <ref>[الزمر: 38]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } <ref>[المؤمنون: 84-89]</ref>
 
ولهذا قال سبحانه: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } <ref>[يوسف: 106]</ref> قال بعض السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره.
 
فمن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤوا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض. كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا. أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا } <ref>[النساء: 150، 151]</ref>.
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية، وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ويسلك هذه الحقيقة، فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله، وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى. لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار، وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه.
 
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس.
 
ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا، فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه.
 
فهذا التقسيم في القول والاعتقاد.
 
وكذلك هم في الأحوال والأفعال. فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على مايصيبه من المقدور، فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك. كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
 
وإذا أذنب استغفر وتاب: لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات، بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات، ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها، كما قال بعضهم: أطعتك بفضلك، والمنة لك وعصيتك بعلمك، والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي، إلا غفرت لي. وفي الحديث الصحيح الإلهي: «ياعبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غيرذلك فلا يلومن إلا نفسه».
 
وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع.
 
وآخرون قد يشهدون الأمر فقط: فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة؛ لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر. وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر، ماليس عند أولئك؛ لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته، وملازمة ماجاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه؛ والمؤمن يعبده ويستعينه.
 
والقسم الرابع شر الأقسام، وهو من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية؛ ولا مع القدر الكوني. وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك؛ وما يكون بعده من صبر ورضا ونحوذلك، فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام.
 
أحدها: أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة.
 
والثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلاصبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه عظم جزعه، وظهر هلعه.
 
والثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون علي مايصيبهم في مثل أهوائهم، كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها. وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام. وهؤلاء هم الذين يريدون علوًا في الأرض أو فسادًا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان، والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب: كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.
 
وأما القسم الرابع، فهو شر الأقسام: لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال الله تعالى: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } <ref>[المعارج: 19-21]</ref> فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا. إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك، وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا. وأقلهم رحمة وإحسانًا وعفوًا، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد: مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم. وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم، فالاعتبار بالحقائق: «فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
 
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو مايظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية، وأبعد عن الأخلاق الإسلامية، من التتار.
 
وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه كان يقول في خطبته: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»، وإذا كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف، كان عن الكمال أبعد، وبالباطل أحق. والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبرًا على ماقدره وقضاه، كان أكمل وأفضل. وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك.
 
وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين، وعلى من ظلمه من المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى: { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } <ref>[ آل عمران: 125]</ref>، وقال الله تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } <ref>[آل عمران: 186]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. هَاأَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } <ref>[آل عمران: 118-120]</ref>، وقال إخوة يوسف له: { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.
 
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } <ref>[يونس: 109]</ref>.
 
وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها تصديقًا لخبر الله وطاعة لأمره وقال تعالى: { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[هود: 114، 115]</ref>، وقال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } <ref>[غافر: 55]</ref>، وقال تعالى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ } <ref>[طه: 130]</ref>، وقال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } <ref>[البقرة: 45]</ref>، وقال تعالى: { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } <ref>[البقرة: 153]</ref> فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر.
 
وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } <ref>[البلد: 17]</ref>. وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها؛ فإن القسمة أيضا رباعية، إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء، ومن يشبههن، ومنهم من لايصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع. والمحمود هو الذي يصبر ويرحم، كما قال الفقهاء في المتولي: ينبغي أن يكون قويًا من غير عنف، لينا من غير ضعف فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصر العبد؛ فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى. كما قال النبي {{صل}}: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، وقال: «من لا يرحم لا يرحم»، وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي»، وقال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». والله أعلم. انتهى.
 
===سئل شيخ الإسلام عما ذكر القشيري في باب الرضا===
وَسُئلَ شَيْخُ الإسلام رَحمَهُ اللَّهُ عما ذكر الأستاذ القشيري في « باب الرضا» عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: الرضا ألاّ يسأل الله الجنة، ولا يستعيذ من النار، فهل هذا الكلام صحيح؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، الكلام على هذا القول من وجهين:
 
أحدهما: من جهة ثبوته عن الشيخ.
 
والثاني: من جهة صحته في نفسه وفساده.
 
أما المقام الأول: فينبغي أن يعلم أن الأستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد، وإنما ذكره مرسلًا عنه، وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي {{صل}} والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم، تارة يذكره بإسناد، وتارة يذكره مرسلًا، وكثيرًا ما يقول: وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده صحيحًا، وتارة يكون ضعيفًا، بل موضوعًا. وما يذكره مرسلًا، ومحذوف القائل أولى، وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء، فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو موضوع.
 
فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة، فيها الصحيح، وفيها الضعيف، وفيها الموضوع. وهذا الأمر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا، بل نفس الكتب المصنفة في التفسير فيها هذا وهذا، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم؟
 
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث، ويروون هذا تارة؛ لأنهم لم يعلموا أنه كذب، وهو الغالب على أهل الدين، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب، وتارة يذكرونه وإن علموا أنه كذب؛ إذ قصدهم رواية ما روي في ذلك الباب، ورواية
 
الأحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبًا جائز. وأما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين». وقد فعل كثير من العلماء متأولين أنهم لم يكذبوا، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه لتعريف أنه روى؛ لا لأجل العمل به ولا الاعتماد عليه.
 
والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها: من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي {{صل}} وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع. فالصحيح: الذي قامت الدلالة على صدقه، والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه، والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه، إما لسوء حفظه وإما لاتهامه، ولكن يمكن أن يكون صادقًا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ.
 
وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة. ومن ذلك: باب الرضا، فإنه ذكر عن النبي {{صل}} أنه قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد {{صل}} نبيًا». وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان الأستاذ لم يذكر أن مسلمًا رواه لكنه رواه، بإسناد صحيح.
 
وذكر في أول هذا الباب حديثا ضعيفًا بل موضوعا وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر، فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب فإن أحاديث الفضل بن عيسى من أوهى الأحاديث وأسقطها، ولا نزاع بين الأئمة أنه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد الكذب، فإن كثيرًا من الفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب، وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني: لو ولد أخرس لكان خيرًا له، وقال سفيان بن عيينة: لا شيء، وقال الإمام أحمد و[[النسائي]]: هو ضعيف. وقال يحيى بن معين: رجل سوء. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: منكر الحديث.
 
وكذلك ما ذكره من الآثار؛ فإنه قد ذكر آثارًا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض، فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده، والشيخ أبو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشائخ وحكاياتهم، وصنف في الأسماء كتاب طبقات الصوفية وكتاب زهاد السلف وغير ذلك، وصنف في الأبواب كتاب مقامات الأولياء وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الأقسام الثلاثة.
 
وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال: سمعت النصر آبادي يقول: من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل الله رضاه فيه، فإن هذا الكلام في غاية الحسن، فإنه من لزم مايرضى الله من امتثال أوامره واجتناب نواهيه لا سيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن الله يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الله، كما قال في الحديث الصحيح الذي في البخاري: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته» الحديث. وذلك أن الرضا نوعان:
 
أحدهما: الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. ويتناول ما أباحه الله من غيرتعد إلى المحظور، كما قال: { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } <ref>[التوبة: 62]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } <ref>[التوبة: 59]</ref> وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } <ref>[التوبة: 58، 59]</ref>.
 
والنوع الثاني: الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء. وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر. كما قال الحسن: الرضا غريزة، ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روى في حديث [[ابن عباس]] أن النبي {{صل}} قال: «إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا».
 
وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان: فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن الله لا يرضاه كما قال: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } <ref>[الزمر: 7]</ref> وقال: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } <ref>[البقرة: 205]</ref>، وقال تعالى: { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } <ref>[التوبة: 96]</ref>، وقال تعالى: { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 93]</ref>، وقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } <ref>[محمد: 28]</ref>، وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } <ref>[التوبة: 68]</ref>، وقال تعالى: { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } <ref>[المائدة: 80]</ref>، وقال تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } <ref>[ الزخرف: 55]</ref> فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك، وهو يسخط عليهم، ويغضب عليهم، فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك وألا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه؟.
 
وإنما ضل هنا فريقان من الناس:
 
قوم: من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته، وقد علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافًا للقدرية. وقالوا: هو أيضا محب لها مريد لها، ثم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقالوا: لا يحب الفساد، بمعنى لا يريد الفساد: أي لا يريده للمؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر: أي لا يريده لعباده المؤمنين. وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال: لا يحب الإيمان ولا يرضى لعباده الإيمان: أي لا يريده للكافرين، ولا يرضاه للكافرين، وقد اتفق أهل الإسلام على أن ما أمر الله به فإنه يكون مستحبًا يحبه. ثم قد يكون مع ذلك واجبًا، وقد يكون مستحبًا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل. والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
 
والفريق الثاني: من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين: فشهدوا أن الله رب الكائنات جميعها، وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه، وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم: المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب. قالوا: والكون كله مراد المحبوب. وضل هؤلاء ضلالًا عظيمًا، حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية، والإذن الكوني والديني، والأمر الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني. كما بسطناه في غير هذا الموضع.
 
وهؤلاء يؤول الأمر بهم إلى ألا يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء الله وأعدائه، والأنبياء والمتقين. ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويجعلون المتقين كالفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويعطلون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والشرائع وربما سموا هذا: حقيقة، ولعمري إنه حقيقة كونية، لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام، كما قال: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } <ref>[الزمر: 38]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الآيات <ref>[المؤمنون: 84، 85]</ref>.
 
فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام.
 
والمؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، واتباع ما يرضاه الله، ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، ولكن يرضى بما أصابه من المصائب، لا بما فعله من المعائب. فهو من الذنوب يستغفر. وعلى المصائب يصبر، فهو كما قال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } <ref>[غافر: 55]</ref> فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب. كما قال تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } <ref>[آل عمران: 120]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } <ref>[آل عمران: 186]</ref>، وقال يوسف: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.
 
والمقصود هنا: أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلام حيث قال: من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه، وكذلك قول الشيخ أبي سليمان: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم الله له من الرزق، وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته، كلام حسن. لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل.
 
وكذلك ما ذكره معلقًا قال: قال الشبلي بين يدي الجنيد: لاحول ولا قوة إلا بالله. فقال الجنيد: قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء. فإن هذا من أحسن الكلام. وكان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا كلمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعًا لا صبرًا. فالجنيد أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها، إذ كانت حالًا ينافى الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه.
 
وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقًا. قال: وقيل: قال موسى: «إلهي، دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. فقال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجدًا متضرعًا. فأوحى الله إليه: يابن عمران، رضائي في رضاك عني»، فهذه الحكاية الإسرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال: لا يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران. ومعلوم أن هذه الإسرائيليات ليس لها إسناد، ولا يقوم بها حجة في شيء من الدين، إلا إذا كانت منقولة لنا نقلًا صحيحًا، مثل ما ثبت عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل، ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم، وأكابر المسلمين؛ فكيف يقال: إنه لا يطيق أن يعمل ما يرضى الله به عنه؟ والله تعالى راض عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. أفلا يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن؟ وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } <ref>[البينة: 7، 8]</ref> ومعلوم أن موسى بن عمران عليه السلام من أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
 
ثم إن الله خص موسى بمزية فوق الرضا، حيث قال: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } <ref>[طه: 39]</ref>. ثم إن قوله له في الخطاب: يابن عمران، مخالف لماذكره الله من خطابه في القرآن حيث قال: يا موسى، وذلك الخطاب فيه نوع غض منه كما يظهر. ومثل ما ذكر أنه قيل: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أما بعد: فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر. فهذا الكلام كلام حسن. وإن لم يعلم إسناده.
 
وإذا تبين أن فيما ذكره مسندًا ومرسلًا ومعلقًا ما هو صحيح وغيره، فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إلا مرسلة. وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس؛ فإنه وإن قال بعض الناس: إن المرسل حجة، فهذا لم يعلم أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف. فأما إذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء. كمن علم أنه تارة يحفظ الإسناد وتارة يغلط فيه.
 
والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشائخ وكلامهم مثل كتاب "حلية الأولياء" لأبي نعيم، و"طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمن، وصفوة الصفوة لابن الجوزي. وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان. ألا ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال: قال لأحمد بن أبي الحواري: يا أحمد، لقد أوتيت من الرضا نصيبًا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا. فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن، بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه. فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان.
 
ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال: وسئل أبو عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي {{صل}}: «أسألك الرضا بعد القضاء»، فقال: لأن الرضا بعد القضاء هوالرضا. فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلام حسن سديد. ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: أرجو أن أكون قد عرفت طرفًا من الرضا. لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا.
 
فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا. وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء، وإن كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم. وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشائخ: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } <ref>[آل عمران: 143]</ref>، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } <ref>[الصف: 2-4]</ref> وفي [[الترمذي]] أن بعض الصحابة قالوا للنبي {{صل}}: لو علمنا أي العمل أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ }الآية <ref>[النساء: 77]</ref>. فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه، وأين ألم الجهاد من ألم النار؟ وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به، ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول:
 
وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني
 
فأخذه العسر من ساعته: أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
 
وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون: يارب، قد رضيت بكل ما تقضيه عليّ، فاحتبس بوله أربعة عشر يومًا، فكان يتلوى كما تتلوى الحية، يتلوى يمينًا وشمالًا، فلما أطلق بوله، قال: ربي قد تبت إليك. قال أبو نعيم: فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي، مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام مشهور، حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال: رأيت سمنونًا يتكلم على الناس في المسجد الحرام، فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده، ثم لم يزل يضرب بمنقاره الأرض حتى سقط منه دم؛ ومات الطائر. وقال: رأيته يومًا يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضًا.
 
وقد ذكر القشيري في «باب الرضا» عن رويم المقري رفيق سمنون حكاية تناسب هذا حيث قال: قال رويم: إن الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الله أن يحولها عن يساره، فهذا يشبه قول سمنون: فكيف ما شئت فامتحني. وإذا لم يطق الصبر على عسر البول، أفيطيق أن تكون النار عن يمينه؟
 
والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء وابتلى بعسر البول فغلبه الألم حتى قال: بحبي لك ألا فرجت عني؛ ففرج عنه.
 
ورويم وإن كان من رفقاء الجنيد فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية يقولون: إنه رجع إلى الدنيا وترك التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال: من أراد أن يستكتم سرًا فليفعل. كما فعل رويم. كتم حب الدنيا أربعين سنة فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال: ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما مودة أكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها، فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها. هذا مع أنه رحمه الله كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود.
 
وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلًا؛ ولكن قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة، ونحو ذلك، وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق، وما يقدر عليه من التقوى والصبر وما لا يقدر عليه من التقوى والصبر، والرسل صلوات الله عليهم أعلم بطريق سبيل الله وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا، وإن لم يكن عاصيًا أو فاسقًا أو كافرًا.
 
ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي {{صل}} وهو مريض كالفرخ فقال: «هل كنت تدعو الله بشيء، قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معذبني به في الآخرة فاجعله في الدنيا، فقال: سبحان الله لا تستطيعه ولا تطيقه، هلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» فهذا أيضا حمله خوفه من عذاب النار، ومحبته لسلامة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا، وكان مخطئا في ذلك غالطًا، والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدًا، فليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا من الخطأ والغلط؛ بل ولا من الذنوب، وأفضل أولياء الله بعد الرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد ثبت عن النبي {{صل}} أنه قال له لما عبر الرؤيا: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضا».
 
ويشبه والله أعلم أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة: لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال: الرضا ألا تسأل الله الجنة، ولا تستعيذه من النار. وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان، مع أنها لا تدل على رضاه بذلك، ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك، فنحن نعلم أن هذا العزم لا يستمر بل ينفسخ، وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة، كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛ فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا. فإن تلك الكلمة مضمونها: أن من سأل الله الجنة، واستعاذ من النار، لا يكون راضيًا.
 
وفرق بين من يقول: أنا إذا فعل كذا كنت راضيًا، وبين من يقول: لا يكون راضيًا إلا من لا يطلب خيرًا، ولا يهرب من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلام، فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشائخ، وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال: إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة. فمن لا يقبل نكت قلبه إلا بشاهدين، يقول هذا مثل الكلام؟ وقال الشيخ أبو سليمان أيضا: ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور؛ بل صاحبه أحمد بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة، فكيف أبو سليمان؟.
 
وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنًا من كان: الرضا ألا تسأل الله الجنة، ولا تستعيذه من النار.
 
ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب، وذلك أن قومًا كثيرًا من الناس، من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة، وغيرهم، ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك. ثم صاروا ضربين:
 
ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم. كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم.
 
ومنهم من أقر بالرؤية، إما الرؤية التي أخبر بها النبي {{صل}} كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم، أو جعلها بحاسة سادسة، ونحو ذلك
 
ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلام المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية، وإن كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية. والنزاع بينهم لفظي، ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء.
 
والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه، قالوا: لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالى الجويني في الرسالة النظامية، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه، ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك. فقال: يا هذا، هب أن له وجهًا، أله وجه يتلذذ بالنظر إليه؟ وذكر أبو المعالي أن الله يخلق لهم نعيمًا ببعض المخلوقات مقارنًا للرؤية، فأما النعيم بنفس الرؤية فأنكره، وجعل هذا من أسرار التوحيد.
 
وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومشائخ الطريق، كما في الحديث الذي في [[النسائي]] وغيره عن النبي {{صل}}: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين». وفي [[صحيح مسلم]] وغيره عن صهيب عن النبي {{صل}} قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه».
 
وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم، وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشائخ الطريق، كما روي عن الحسن البصري أنه قال: لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقًا إليه، وكلامهم في ذلك كثير.
 
ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى الله تعالى، تنازعوا في مسألة المحبة التي هي أصل ذلك؛ فذهب طوائف من... والفقهاء إلى أن الله لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا: هو أيضا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للإحسان إليهم وولايتهم. ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء.
 
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد الله القسري. وقال: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه.
 
والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق: أن الله يحب ويحب. ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من أهل الكلام: كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي، وأمثالهما. ونصر ذلك أبو حامد في «الإحياء» وغيره. وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في «الرسالة» على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى ب «قوت القلوب» وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية، استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نحو ذلك حيث قالوا: يعشق ويعشق.
 
وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه. وقد قال تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } <ref>[المائدة: 54]</ref>، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، وقال: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } <ref>[التوبة: 24]</ref>، وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار».
 
والمقصود هنا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم الذين ينكرون حقيقة المحبة يلزمهم أن ينكروا التلذذ بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إلا التنعم بالأكل والشرب، ونحو ذلك. وهذا القول باطل بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومشائخها، فهذا أحد الحزبين الغالطين.
 
والضرب الثاني: طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة: وافقوا هؤلاء على أن الجنة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية الله والتنعم بالنظر إليه، وأصابوا في ذلك وجعلوا يطلبون هذا النعيم، وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، أو خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك وإجلالًا لك، وأمثال هذه الكلمات. مقصودهم بذلك: هو أعلى من الأكل والشرب والتمتع بالمخلوق، لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة. وقد يغلطون أيضا في ظنهم أنهم يعبدون الله بلا حظ ولا إرادة، وإن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، وهو سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة.
 
وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه، حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه، وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده.
 
فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام، إذا عنوا به طلب رؤية الله تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطؤوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجًا عن الجنة، فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئًا يقرأ: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } <ref>[آل عمران: 152]</ref>. فصرخ وقال: أين مريد الله؟ فيحمد منه كونه أراد الله؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله؛ وهذه الآية في أصحاب النبي {{صل}} الذين كانوا معه بأحد، وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا الله، أفيريد الله من هو دونهم. كالشبلي، وأمثاله؟
 
ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } <ref>[التوبة: 111]</ref> قال: فإذا كانت الأنفس والأموال في ثمن الجنة، فالرؤية بم تنال؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال.
 
والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الله للأولياء من نعيم، بالنظر إليه وما سوى ذلك، هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار. وقد قال تعالى: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } <ref>[السجدة: 17]</ref>، وفي الحديث الصحيح عن النبي {{صل}}: «يقول الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بَلْهُ ما أطلعتهم عليه» وإذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة، كما قال: { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } <ref>[الإسراء: 21]</ref> وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة.
 
وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله، وجميع أوليائه السابقين المقربين، وأصحاب اليمين. كما في السنن أن النبي {{صل}} سأل بعض أصحابه: «كيف تقول في دعائك؟» قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال: «حولهما ندندن» فقد أخبر أنه هو {{صل}} ومعاذ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي {{صل}} إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله {{صل}} ومعاذ، ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار؟ ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة.
 
وأهل الجنة نوعان: سابقون مقربون، وأبرار أصحاب يمين. قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ. وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } <ref>[المطففين: 18-28]</ref> قال ابن عباس: تمزج لأصحاب اليمين مزجًا ويشربها المقربون صرفًا.
 
وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة، حلت عليه شفاعتي يوم القيامة»، فقد أخبر أن الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد الله ورجاء أن يكون هو ذلك العبد هي درجة في الجنة، فهل بقى بعد الوسيلة شيء أعلي منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟
 
وثبت في الصحيح أيضا في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال: «فيقولون للرب تبارك وتعالى: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك». قال: «فيقول: وما يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة». قال: «فيقول: وهل رأوها؟» قال: «فيقولون: لا»، قال: «فيقول: فكيف لو رأوها؟» قال: «فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا». قال: «ومم يستعيذون؟» قالوا: «يستعيذون من النار». قال: «فيقول: وهل رأوها؟» قال: «فيقولون: لا». قال: «فيقول: فكيف لو رأوها؟» قالوا: «لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة». قال: «فيقول: أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون، وأعذتهم مما يستعيذون» أو كما قال قال: «فيقولون: فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم»، قال: «فيقول: هم القوم لايشقى بهم جليسهم». فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة، ومهربهم من النار.
 
والنبي {{صل}} لمّا بايع الأنصار ليلة العقبة، وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشائخ كلهم، قالوا للنبي {{صل}}: اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال: «أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترط لأصحابي أن تواسوهم». قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «لكم الجنة». قالوا: مد يدك فوالله لا نقيلك، ولا نستقيلك. وقد قالوا له في أثناء البيعة: إن بيننا وبين القوم حبالًا وعهودًا وإنا ناقضوها.
 
فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق الله محبة لله ورسوله، وبذلًا لنفوسهم وأموالهم في رضا الله ورسوله، على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين، قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة، فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه، ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه، فإن الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور، فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا. كما قال تعالى: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } <ref>[ق: 35]</ref>، وقال: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } <ref>[الزخرف: 71]</ref> ففيها ما يشتهون، وفيها مزيد على ذلك، وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه. كماقال {{صل}}: «مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهذا باب واسع.
 
فإذا عرفت هذه المقدمة، فقول القائل: الرضا ألا تسأل الله الجنة، ولا تستعيذه من النار، إن أراد بذلك ألا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه، ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء، وإنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك، ولا من تعذيبك في النار. فهذا الكلام مع كونه مخالفًا لجميع الأنبياء والمرسلين، وسائر المؤمنين، فهو متناقض في نفسه، فاسد في صريح العقول، وذلك أن الرضا الذي لا يسأل، إنما لا يسأله لرضاه عن الله. ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به، ومحبته له، وإذا لم يبق معه رضا عن الله ولا محبة لله فكأنه قال: يرضى ألا يرضى وهذا جمع بين النقيضين. ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول، ولا عقله، يوضح ذلك أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره والآلام ما يجده من لذة الرضا وحلاوته، فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع أن يتحمل ألمًا ومرارة، فكيف يتصور أن يكون راضيًا، وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره؟ وإنما هذا من جنس كلام السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا، فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان، وهذا غلط عظيم منه: كغلط سمنون كما تقدم.
 
وإن أراد بذلك ألا يسأل التمتع بالمخلوق، بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين:
 
من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة.
 
ومن جهة أنه أيضا أثبت أنه طالب مع كونه راضيًا، فإذا كان الرضا لا ينافى هذا الطلب، فلا ينافي طلبًا آخر إذا كان محتاجًا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار، وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلبًا للوازمه التي منها النجاة من النار، فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه. ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر، فتبين تناقض قوله.
 
وأيضا فإذا لم يسأل الله الجنة، ولم يستعذ به من النار، فإما أن يطلب من الله ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب منفعة ودفع مضرة. وإما ألا يطلبه، فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى، واستعاذته من النار أولى. وإن كان الرضا ألا يطلب شيئًا قط، ولو كان مضطرًا إليه، ولا يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًا، فلا يخلو: إما أن يكون ملتفتًا بقلبه إلى الله في أن يفعل به ذلك، وإما أن يكون معرضًا عن ذلك، فإن التفت بقلبه إلى الله فهو طالب مستعيذ بحاله، ولا فرق بين الطلب بالحال والقال، وهو بهما أكمل وأتم فلا يعدل عنه.
 
وإن كان معرضًا عن جميع ذلك، فمن المعلوم أنه لا يحيا ويبقى إلا بما يقيم حياته، ويدفع مضاره بذلك، والذي به يحيا من المنافع ودفع المضار، إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد، أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده. فإن أحبه وطلبه وأراده من غير الله كان مشركًا مذمومًا، فضلا عن أن يكون محمودًا. وإن قال: لا أحبه وأطلبه وأريده لا من الله ولا من خلقه. قيل: هذا ممتنع في الحي، فإن الحي ممتنع عليه ألا يحب ما به يبقى، وهذا أمر معلوم بالحس، ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا، فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة، إذ الرضا مستلزم لذلك. فكيف يسلب عنه ذلك كله؟ فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام.
 
وأما في سبيل الله وطريقه ودينه فمن وجوه:
 
أحدها أن يقال: الراضي لابد أن يفعل ما يرضاه الله، وإلا فكيف يكون راضيًا عن الله من لا يفعل ما يرضاه الله؟ وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الله ويسخطه ويذمه، وينهي عنه.
 
وبيان هذا: أن الرضا المحمود إما أن يكون الله يحبه ويرضاه، وإما ألا يحبه ويرضاه، فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم يكن هذا الرضا مأمورًا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه. قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } <ref>[محمد: 28]</ref>، فمن اتبع ما أسخط الله برضاه وعمله فقد أسخط الله، وقال النبي {{صل}}: «إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها»، وقال {{صل}}: «سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك». وقال تعالى: { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } <ref>[التوبة: 96]</ref> فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الله ويرضاه، وهو لا يرضى عنهم. وقال تعالى: { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } <ref>[التوبة: 38]</ref> فهذا رضا قد ذمه الله. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } <ref>[يونس: 7]</ref> فهذا أيضا رضا مذموم، وسوى هذا، وهذا كثير.
 
فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعًا لرضا الله ولا هو مؤمن بالله. بل هو مسخط لربه، وربه غضبان عليه، لاعن له، ذام له، متوعد له بالعقاب.
 
وطريق الله التي يأمر بها المشائخ المهتدون: إنما هي الأمر بطاعة الله والنهي عن معصيته. فمن أمر أو استحب أو مدح الرضا الذي يكرهه الله ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو لله لا ولى لله وهو يصد عن سبيل الله وطريقه، ليس بسالك لطريقه وسبيله. وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه الله، ومنه ما يكرهه ويسخطه، ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا، كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك، كلها تنقسم إلى محبوب لله ومكروه لله مباح.
 
فإذا كان الأمر كذلك فالراضي الذي لا يسأل الله الجنة ولا يستعيذه من النار يقال له: سؤال الله الجنة واستعاذته من النار إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون مباحة، وإما أن تكون مكروهة، ولا يقول مسلم: إنها محرمة ولامكروهة، وليست أيضا مباحة مستوية الطرفين. ولو قيل: إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين لا ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي ألا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفعل أمثال هذه الأمور، فإذا كان ما يفعله من هذه الأمور لا ينافي رضاه، أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح؟ وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو مستحبا فمعلوم أن الله يرضى بفعل الواجبات والمستحبات، فكيف يكون الراضي الذي من أولياء الله لا يفعل ما يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء الله لا أولياء الله.
 
والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال: اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء الله الذي أمر بالرضا به، إذ ليس كل ماهو بقضائه يجوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به. كالمعاصي وفنون محن المسلمين. وهذا الذي قاله، قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء: كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وأمثالهما، لما احتج عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء الله مأمور به، فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكنا مأمورين بالرضا بها، والرضا بما نهى الله عنه لا يجوز فأجابهم أهل السنة عن ذلك بثلاثة أجوبة:
 
أحدها وهو جواب هؤلاء وجماهير الأئمة: أن هذا العموم ليس بصحيح، فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى وقدر، ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك، ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به، كطاعة الله ورسوله. وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم.
 
والجواب الثاني: أنهم قالوا: إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله. وفي هذا الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع.
 
الثالث: أنهم قالوا: هذه المعاصي لها وجهان: وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه، ووجه إلى الرب من حيث هو خلقها وقضاها وقدرها، فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الله، ولا يرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد، إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد. وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والأسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع، ولا يحتمله هذا المكان. فإن هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر، وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الأولين والآخرين وأدقها على عقول أكثر العالمين.
 
والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا، ومنه مالا يكون جائزًا فضلا عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين، وإن أبا القاسم ذكر ذلك في الرسالة أيضا.
 
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه أمر بين واضح، فمن أين غلط من قال: الرضا ألا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار؟ وغلط من يستحسن مثل هذا الكلام كائنا من كان؟.
 
قيل: غلطوا في ذلك لأنهم رأوا أن الراضي بأمر لا يطلب غير ذلك الأمر، فالعبد إذا كان في حال من الأحوال فمن رضاه ألا يطلب غير تلك الحال، ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة، وأقصى المكاره النار. فقالوا: ينبغي ألايطلب شيئًا ولو أنه الجنة ولا يكره ما يناله، ولو أنه النار، وهذا وجه غلطهم، ودخل عليهم الضلال من وجهين:
 
أحدهما: ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه الله ويرضاه وأن هذا من أعظم طرق أولياء الله، فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى الله، فضلوا ضلالًا مبينًا والطريق إلى الله إنما هي أن ترضيه بأن تفعل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل ما يحدث ويكون، فإنه هو لم يأمرك بذلك، ولا رضيه لك ولا أحبه؛ بل هو سبحانه يكره ويسخط ويبغض على أعيان أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو، وولاية الله موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنت عدوه لا وليّه، وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط الله قد نالك.
 
فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا الله.
 
الوجه الثاني: أنهم لا يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب، وأمر استحباب، وبين الدعاء الذي نهوا عنه، أو لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه، فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلاثة أنواع:
 
نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب: مثل قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }، ومثل دعائه في آخر الصلاة كالدعاء الذي كان النبي {{صل}} يأمر به أصحابه فقال: «إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال». فهذا دعاء أمرهم النبي {{صل}} أن يدعوا به في آخر صلاتهم. وقد اتفقت الأمة على أنه مشروع يحبه الله ورسوله ويرضاه، وتنازعوا في وجوبه. فأوجبه طاووس وطائفة، وهو قول في مذهب أحمد رضي الله عنه، والأكثرون قالوا: هذا مستحب، والأدعية التي كان النبي {{صل}} يدعو بها: لا تخرج عن أن تكون واجبة، أو مستحبة، وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه الله ويرضاه، ومن فعله رضي الله عنه وأرضاه فهل يكون من الرضا ترك ما يحبه ويرضاه؟
 
ونوع من الدعاء ينهي عنه: كالاعتداء مثل أن يسأل الرجل مالا يصلح من خصائص الأنبياء، وليس هو بنبي، وربما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى. مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد من عباده، أو يسأل الله تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا، أو على كل شيء قدير، وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب. وأمثال ذلك، أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل، ويذكر أنه إذا لم يفعله حصل له من الخلق ضير. وهذا ونحوه جهل بالله واعتداء في الدعاء. وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ. ومثل أن يقولوا: اللهم اغفر لي إن شئت، فيظن أن الله قد يفعل الشيء مكرها، وقد يفعل مختارًا، كالملوك، فيقول: اغفر لي إن شئت، وقد نهي النبي {{صل}} عن ذلك وقال: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له»، ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق، وأمثال ذلك فهذه الأدعية ونحوها منهي عنها.
 
ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لامعصية فيها.
 
والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمن ترك واجب ولا ترك مستحب، فالدعاء الذي هو واجب أو مستحب لا يكون تركه من الرضا، كما أن ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع، ولا فعل المحرمات من المشروع. فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع إيجابا، واستحبابا، والدعاء غير المشروع.
 
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبًا أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو مباح لا منفعة فيه في الدين.
 
ثم إنه لما أوقع هؤلاء في هذا الغلط أنهم وجدوا كثيرًا من الناس لا يسألون الله جلب المنافع، ودفع المضار، حتى طلب الجنة، والاستعاذة من النار، من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا، بل من جهة كون النفس تطلب ذلك، فرأوا أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريده، وألا يكون لأحدهم إرادة أصلا، بل يكون مطلوبه الجريان تحت القدر كائنًا من كان وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية، والخروج عن الشرعية، حتى تركوا من الأكل والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه، وما لا تتم مصلحة دينهم إلا به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه الأمور بحكم الطبع والهوى والعادة، ومعلوم أن الأفعال التي على هذا الوجه لا تكون عبادة ولا طاعة ولا قربة، فرأي أولئك الطريق إلي الله ترك هذه العبادات، والأفعال الطبعيات، فلازموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق، ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات، وفعل مكروهات ومحرمات.
 
وكلا الأمرين غير محمود، ولا مأمور به، ولا طريق إلى الله: طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الأفعال المحتاج إليها على غير وجه العبادة، والتقرب إلى الله، وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الأفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية التقرب إلى الله، وأن يشكر الله. قال الله تعالى: { كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } <ref>[المؤمنون: 51]</ref>، وقال تعالى: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 172]</ref>، فأمر بالأكل والشرب، فمن أكل ولم يشكر كان مذمومًا، ومن لم يأكل ولم يشكر كان مذمومًا، وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها»، وقال النبي {{صل}} لسعد: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك»، وفي الصحيح أيضا أنه قال: «نفقة المؤمن على أهله يحتسبها صدقة». فكذلك الأدعية هنا من الناس من يسأل الله جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه طبعًا وعادة لا شرعًا وعبادة، فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلقًا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شرعًا وعبادة.
 
ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه وآخرته؛ بخلاف الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط، كما قال تعالى: { فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } <ref>[البقرة: 200-202]</ref> وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة الآخرة فهو محمود.
 
ومما يبين الأمر في ذلك أن يرد قول هؤلاء: بأن العبد لا يفعل مأمورًا ولا يترك محظورًا. فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئًا من القربات، فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب. فإذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة، ولا دفع العقاب الذي هو النار، فلا يفعل مأمورًا، ولا يترك محظورًا، ويقول: أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول: أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه، وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم.
 
أما جهله وحمقه؛ فلأن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين.
 
وأما كفره؛ فلأنه مستلزم لتعطيل دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه.
 
ولا ريب أن ملاحظة القضاء والقدر، أوقعت كثيرًا من أهل الإرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين، وإما عاصين فاسقين، وإما كافرين، وقد رأيت من ذلك ألوانا. { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } <ref>[النور: 40]</ref>.
 
وهؤلاء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الأمر. وأولئك يلاحظون الأمر ويعرضون عن القدر والطائفتان تظن أن ملاحظة الأمر والقدر متعذر. كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا للحكمة والعدل. وهذه الأصناف الثلاثة هي: القدرية المجوسية، والقدرية المشركية؛ والقدرية الإبليسية؛ وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
 
وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الإرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية، فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وإنما المشروع العكس، وهو أن يكون عند الطاعة يستعين الله عليها قبل الفعل، ويشكره عليها بعد الفعل ويجتهد ألا يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار، كما في حديث سيد الاستغفار: «أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي»، وكما في الحديث الصحيح الإلهي: «ياعبادي، إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
 
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الإرادة في ترك الدعاء، وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة، وأمثال هذه الأغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلام هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة، حتى قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وقال الجنيد بن محمد: علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح أن يتكلم في علمنا، والله أعلم.
 
===سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم===
ما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم، كالزنا والسرقة، وشرب الخمر عزمًا جازمًا فعجز عن فعله: إما بموت، أو غيره. هل يأثم بمجرد العزم أم لا؟ وإن قلتم: يأثم، فما جواب من يحتج على عدم الإثم بقوله: «إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه« «1»وبقوله: » إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، مالم تعمل أو تتكلم» واحتج به من وجهين:
 
أحدهما: أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس، والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد. قاله ابن سيده.
 
الثاني: أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلام أوعمل، وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز، ويزعم ألا دلالة في قول النبي {{صل}}: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»؛ لأن الموجب لدخول المقتول في النار مواجهته أخيه، لأنه عمل لا مجرد قصد، وألا دلالة في قوله {{صل}} في الذي قال: «لو أن لي مالا لفعلت وفعلت، إنهما في الإثم سواء وفي الأجر سواء»؛ لأنه تكلم، والنبي {{صل}} قال: «ما لم تعمل به أو تتكلم» وهذا قد تكلم، وقد وقع في هذه المسألة كلام كثير. واحتيج إلى بيانها مطولًا مكشوفًا مستوفًا.
 
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:
 
الحمد لله، هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها، فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين:
 
أحدهما: عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها، التي هي مورد الكلام.
 
والثاني: عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها، ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب، حتى يجد الناظر في كلامهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر.
 
فينبغي أن يعلم أن كل واحد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله وآخره مالا يضبطه العباد: كالشك، ثم الظن، ثم العلم، ثم اليقين، ومراتبه؛ وكذلك الهم والإرادة والعزم وغير ذلك؛ ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة وهو ظاهر مذهب أحمد، وهو أصح الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان، بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي: كالألوان والطعوم والأرواح. فنقول أولًا: الإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها، إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم، ومتي وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة، وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من الأفعال، ولم يفعلوه، وإن كانت هذه الإرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتًا كثيرًا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد مع وجود القدرة التامة فليست الإرادة جازمة جزمًا تامًا.
 
وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لأنهم قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شيء من الفعل، وهذا لا يكون. وإنما يكون ذلك في العزم على أن يفعل، فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئا في الحال، والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل، بل لابد عند وجوده من حدوث تمام الإرادة المستلزمة للفعل، وهذه هي الإرادة الجازمة.
 
والإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام: له ثواب الفاعل التام، وعقاب الفاعل التام الذي فعل جميع الفعل المراد، حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته، مثل المشتركين والمتعاونين على أفعال البر، ومنها ما يتولد عن فعل الإنسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضلالة، والسّان سّنة حسنة، وسنة سيئة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص أوزارهم شيء»، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء».
 
فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة، هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه، لكن قدرته بالدعاء والأمر، وقدرة الفاعل بالاتباع والقبول؛ ولهذا قرن الله تعالى في كتابه بين الأفعال المباشرة والمتولدة فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } <ref>[التوبة: 120، 121]</ref>.
 
فذكر في الآية الأولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة، وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب، وما يحصل للكفار بهم من الغيظ، وما ينالونه من العدو. وقال: { كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ }، فأخبر أن هذه الأمور التي تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح، وذكر في الآية الثانية نفس أعمالهم المباشرة التي باشروها بأنفسهم: وهي الإنفاق، وقطع المسافة، فلهذا قال فيها: { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ } فإن هذه نفسها عمل صالح، وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فما حدث مع هذه الإرادة الجازمة من الأمور التي تعين فيها قدرتهم بعض الإعانة هي لهم عمل صالح.
 
وكذلك الداعي إلى الهدى والضلالة، لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي الأتباع وضلالهم، وأتى من الإعانة على ذلك بما يقدر عليه، كان بمنزلة العامل الكامل، فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه: للهادي مثل أجور المهتدين، وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري، فإن السان كامل الإرادة لكل ما يفعل من ذلك، وفعله بحسب قدرته.
 
ومن هذا: قوله في الحديث المتفق عليه عن [[ابن مسعود]] عن النبي {{صل}} أنه قال: «لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل»، فالكفل النصيب مثل نصيب القاتل. كما فسره الحديث الآخر، وهو كما استباح جنس قتل المعصوم، لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة، فصار شريكًا في قتل كل نفس، ومنه قوله تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } <ref>[المائدة: 32]</ref>.
 
ويشبه هذا أنه من كذب رسولًا معينًا كان كتكذيب جنس الرسل، كما قيل فيه: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } <ref>[الشعراء: 105]</ref> { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } <ref>[الشعراء: 123]</ref> ونحو ذلك.
 
ومن هذا الباب قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } <ref>[ العنكبوت: 12، 13]</ref> فأخبر أن أئمة الضلال لا يحملون من خطايا الأتباع شيئًا، وأخبر أنهم يحملون أثقالهم، وهي أوزار الأتباع، من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيء؛ لأن إرادتهم كانت جازمة بذلك، وفعلوا مقدورهم، فصار لهم جزاء كل عامل؛ لأن الجزاء على العمل يستحق مع الإرادة الجازمة، وفعل المقدور منه.
 
وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث [[ابن عباس]] عن أبي سفيان: أن النبي {{صل}} كتب إلى هرقل: «فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين»، فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الأريسيين، وهم الأتباع، وإن كان قد قيل: أن أصل هذه الكلمة من الفلاحين والأكرة، كلفظ الطاء بالتركي، فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما هو أعم من ذلك، ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة.
 
ومن هذا قوله تعالى: { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } <ref>[النحل: 22-25]</ref>.
 
فقوله: { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم } <ref>[النحل: 25]</ref> هي الأوزار الحاصلة لضلال الأتباع، وهي حاصلة من جهة الآمر، ومن جهة المأمور الممتثل، فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلال؛ فلهذا كان علي هذا بعضه، وعلى هذا بعضه، إلا أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل، كما دلت عليه سائر النصوص، مثل قوله: «من دعا إلى الضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
 
ومن هذا الباب قوله تعالى: { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 38]</ref>.
 
فأخبر سبحانه أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب، كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } <ref>[الأحزاب: 67، 68]</ref>. وأخبر سبحانه أن لكل من المتبعين والأتباع تضعيفًا من العذاب. ولكن لا يعلم الأتباع التضعيف.
 
ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لأئمة الهدى، وعظيم الذم واللعنة لأئمة الضلال، حتى روى في أثر لا يحضرني إسناده: «أنه ما من عذاب في النار إلا يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره، وما من نعيم في الجنة إلا يبدأ فيه بالنبي {{صل}} ثم ينتقل إلى غيره» فإنه هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم. كما قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر»، وهو شفيع الأولين والآخرين في الحساب بينهم ؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة، وذلك أن جميع الخلائق أخذ الله عليهم ميثاق الإيمان به كما أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن قبله من الأنبياء ؛ ويصدق بمن بعده، قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } الآية <ref>[آل عمران: 81]</ref>. فافتتح الكلام باللام الموطئة للقسم التي يؤتي بها إذا اشتمل الكلام على قسم وشرط؛ وأدخل اللام على ما الشرطية ليبين العموم، ويكون المعنى: مهما آتيكم من كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق الإيمان به ونصره. كما قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
 
والله تعالى قد نوه بذكره وأعلنه في الملأ الأعلى، ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه، كما في حديث ميسرة الفجر قال:، قلت: يا رسول الله! متى كنت نبيًا؟ وفي رواية متى كتبت نبيًا؟ فقال: «وآدم بين الروح والجسد» رواه أحمد. وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي {{صل}} أنه قال: «إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته» الحديث.
 
فكتب الله وقدر في ذلك الوقت، وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث [[ابن مسعود]].
 
فمن آمن به من الأولين والآخرين أثيب على ذلك، وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب من لم يأت إلا بالإيمان المجمل، على أنه إمام مطلق لجميع الذرية، وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين، كما أن كل ضلال وغواية في الجن والإنس لإبليس منه نصيب، فهذا يحقق الأثر المروي ويؤيد ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي {{صل}} مرسلًا إما من مراسيل الزهري، وإما من مراسيل من فوقه من التابعين قال: «بعثت داعيًا وليس إلى من الهداية شيء، وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضلالة شيء».
 
ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه: قوله في الحديث الذي في السنن: «وزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان».
 
فأما كون النبي {{صل}} راجحًا بالأمة فظاهر ؛ لأن له مثل أجر جميع الأمة مضافا إلى أجره. وأما أبو بكر وعمر؛ فلأن لهما معاونة مع الإرادة الجازمة في إيمان الأمة كلها، وأبو بكر كان في ذلك سابقًا لعمر وأقوى إرادة منه، فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي {{صل}} على إيمان الأمة في دقيق الأمور وجليلها؛ في محياه وبعد وفاته.
 
ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد: أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي: «لا تجيبوه». فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت ياعدو الله! إن الذي ذكرت لأحياء وقد بقى لك ما يسوؤك رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب، فأبو سفيان رأس الكفر حينئذ لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قادة المؤمنين. كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال: والله ما على وجه الأرض أحد أحب أن ألقي الله بعمله من هذا المسجي، والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي {{صل}} يقول: «دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر».
 
وأمثال هذه النصوص كثيرة، تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع الأمة، لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من القدرة على ذلك كله، بخلاف من أعان على بعض ذلك دون بعض، ووجدت منه إرادة في بعض ذلك دون بعض.
 
وأيضا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل، وإن لم يكن إمامًا وداعيًا، كما قال سبحانه: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } <ref>[النساء: 95، 96]</ref>.
 
فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز، بل يقال: دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه. ولفظ الآية صريح. استثنى أولو الضرر من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين، وإن لم يساووهم في الجميع، ويوافقه ما ثبت عن النبي {{صل}} أنه قال في غزوة تبوك: «إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم». قالوا: وهم بالمدينة. قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر»، فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة. ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته، فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر.
 
ومن هذا الباب: ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي {{صل}} أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم»، فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة، لا لضعف النية وفتورها، فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة، ما للعامل والمسافر وإن كان قادرًا مع مشقة كذلك بعض المرض، إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة، كما في قوله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>، وقوله: { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } <ref>[المجادلة: 4]</ref>، ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان، بل لابد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة، بل أو مكافية.
 
ومن هذا الباب ما ثبت عنه {{صل}} أنه قال: «من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا»، وقوله: «من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء»، فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، فإذا بذل هذا بدنه، وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهدًا بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته، وكذلك لابد للغازي من خليفة في الأهل، فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضا غاز، وكذلك الصيام لابد فيه من إمساك، ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم، وإلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم.
 
وكذلك قوله في الحديث الصحيح: «إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئًا» وكذلك قوله في حديث أبي موسى: «الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين» أخرجاه. وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرًا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر، وقد فعل مقدوره وهو الامتثال، فكان أحد المتصدقين.
 
ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد و[[ابن ماجه]] عن النبي {{صل}} قال: «إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة الله»، فقال رجل: لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله، فقال النبي {{صل}}: «فهما في الأجر سواء»، وقد رواه الترمذي مطولا، وقال: حديث حسن صحيح، فهذا التساوي مع «الأجر والوزر» هو في حكاية حال من قال ذلك، وكان صادقًا فيه، وعلم الله منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب.
 
وليس هذه الحال تحصل لكل من قال: «لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل» إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم، لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته، كعامة الخلق يعاهدون وينقضون، وليس كل من عزم على شيء عزمًا جازمًا قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } <ref>[آل عمران: 143]</ref>، وكما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } <ref>[الصف: 2]</ref>، وكما قال: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } <ref>[التوبة: 75، 76]</ref>.
 
وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات. وهو الحديث الذي رواه [[الترمذي]] وغيره عن عبد الله بن عمرو عن النبي {{صل}}: أن رجلًا من أمة النبي {{صل}} ينشر الله له يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مدى البصر، ويقال له: هل تنكر من هذا شيئًا؟ هل ظلمتك؟ فيقول: لا يارب. فيقال له: لا ظلم عليك اليوم، فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة». فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية، إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة، فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما.
 
ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر الله لها، فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة إذ ذاك، ومثله قوله {{صل}}: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ؛ يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة».
 
===فصل في الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل===
وبهذا تبين أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها، إنما هي فيما دون الإرادة الجازمة التي لابد أن يقترن بها الفعل، كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي {{صل}}، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها؛ كتبها الله عنده عشر حسنات، ومن هم بسيئة ولم يعملها؛ كتبها له الله حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها؛ كتبها الله له عنده سيئة واحدة» وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة.
 
فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال: «فعملها»، «فلم يعملها» ومن أمكنه الفعل فلم يفعل؛ لم تكن إرادته جازمة، فإن الإرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل، كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل، وموجب له، إذ لو توقف على شيء آخر؛ لم تكن الإرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل، ومن المعلوم المحسوس أن الأمر بخلاف ذلك، ولا ريب أن الهم والعزم والإرادة ونحو ذلك قد يكون جازمًا لا يتخلف عنه الفعل إلا للعجز، وقد لا يكون هذا على هذا الوجه من الجزم.
 
فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل، بل يفرق بين إرادة وإرادة، إذ الإرادة هي عمل القلب الذي هو ملك الجسد، كما قال [[أبو هريرة]]: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك؛ طابت جنوده، وإذا خبث الملك؛ خبثت جنوده. وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي {{صل}}: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب». فإذا هم بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة، وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة، فإن ذلك طاعة وخير، وكذلك هو في عرف الناس كما قيل:
 
لأشكرنك معروفًا هممت به ** إن اهتمامك بالمعروف معروف
 
ولا ألومك إن لم يمضه قدر ** فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
 
فإن عملها كتبها الله له عشر حسنات، لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، كما قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } <ref>[البقرة: 261]</ref>، وكما قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة» إلى أضعاف كثيرة. وقد روى عن أبي هريرة مرفوعًا: «أنه يعطى به ألف ألف حسنة».
 
وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها، فإن الله لا يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح، وسواء سمى همه إرادة أو عزمًا أو لم يسم، متى كان قادرًا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته جازمة، وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح حديث أبي هريرة عن النبي {{صل}}: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به». فإن ما هم به العبد من الأمور التي يقدر عليها من الكلام والعمل ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة، فتلك مما لم يكتبها الله عليه، كما شهد به قوله: «من هم بسيئة فلم يعملها»، ومن حكى الإجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا الاعتبار.
 
وهذا الهام بالسيئة، فإما أن يتركها لخشية الله وخوفه، أو يتركها لغير ذلك، فإن تركها لخشية الله؛ كتبها الله له عنده حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث، وكما قد جاء في الحديث الآخر: «اكتبوها له حسنة، فإنما تركها من أجلي»، أو قال: «من جرائي»، وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث الآخر: «فإن لم يعملها لم تكتب عليه». وبهذا تتفق معاني الأحاديث.
 
وإن عملها لم تكتب عليه إلا سيئة واحدة، فإن الله تعالى لا يضعف السيئات بغير عمل صاحبها، ولا يجزي الإنسان في الآخرة إلا بما عملت نفسه، ولا تمتلئ جهنم إلا من أتباع إبليس من الجنة والناس، كما قال تعالى: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } <ref>[ص: 85]</ref> ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس: «إن الجنة يبقى فيها فضل فينشئ الله لها أقوامًا في الآخرة، وأما النار فإنه ينزوي بعضها إلى بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلئ بمن دخلها من أتباع إبليس».
 
ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولاد المشركين، وأنه لا يجزم لمعين منهم بجنة ولا نار، بل يقال فيهم كما قال النبي {{صل}} في الحديثين الصحيحين: حديث أبي هريرة وابن عباس: «الله أعلم بما كانوا عاملين». فحديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث ابن عباس في البخاري، وفي حديث سمرة ابن جندب الذي رواه البخاري: «إن منهم من يدخل الجنة»، وثبت: «أن منهم من يدخل النار» كما في [[صحيح مسلم]] في قصة الغلام الذي قتله الخضر، وهذا يحقق ما روى من وجوه: أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الله فيهم، فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية، وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث واختاره.
 
وأما أئمة الضلال الذين عليهم أوزار من أضلوه ونحوهم، فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من الفعل؛ بقوله في حديث أبي كبشة: «فهما في الوزر سواء»، وقوله: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه»، فإذا وجدت الإرادة الجازمة، والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام، والهام بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة، وفاعل السيئة التي تمضي لا يجزي بها إلا سيئة واحدة، كما شهد به النص، وبهذا يظهر قول الأئمة حيث قال الإمام أحمد: «الهم» همان: هم خطرات، وهم إصرار. فهم الخطرات يكون من القادر، فإنه لو كان همه إصرارًا جازمًا وهو قادر لوقع الفعل.
 
ومن هذا الباب هم يوسف، حيث قال تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } الآية <ref>[يوسف: 24]</ref>. وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل: إنه كان هم إصرار؛ لأنها فعلت مقدورها، وكذلك ما ذكره عن المنافقين في قوله تعالى: { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } <ref>[التوبة: 74]</ref>، فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم، كما ذمهم الله عليه، ومثله يذم وإن لم يكن جازمًا، كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافى الإيمان، وبين مالا ينافيه، وكذلك الحريص على السيئات الجازم بإرادة فعلها، إذا لم يمنعه إلا مجرد العجز، فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل، لحديث أبي كبشة، ولما في الحديث الصحيح: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» وفي لفظ: «إنه أراد قتل صاحبه».
 
فهذه الإرادة هي الحرص، وهي الإرادة الجازمة، وقد وجد معها المقدور، وهو القتال لكن عجز عن القتل، وليس هذا من الهم الذي لا يكتب، ولا يقال: إنه استحق ذلك بمجرد قوله: لو أن لي ما لفلان لعملت مثل ما عمل، فإن تمنى الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم، بل لابد من أمر آخر، وهو لم يذكر أنه يعاقب على كلامه، وإنما ذكر أنهما في الوزر سواء.
 
وعلى هذا فقوله: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها مالم تكلم به أو تعمل» لا ينافي العقوبة على الإرادة الجازمة التي لابد أن يقترن بها الفعل، فإن الإرادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل، وإلا فمتى لم يقترن بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة، فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة عازمة فلابد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه، ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية، مثل تقرب السارق إلى مكان المال المسروق، ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به، وتكلمه معه، ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك، فلابد مع الإرادة الجازمة من شيء من مقدمات الفعل المقدور، بل مقدمات الفعل توجد بدون الإرادة الجازمة عليه، كما قال النبي {{صل}}، في الحديث المتفق عليه: «العينان تزنيان وزناهما النظر، واللسان يزني وزناه النطق، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»، وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». قيل: يارسول الّله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» وفي رواية في الصحيحين: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه».
 
فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره، منعه منها من قتل صاحبه العجز، وليست مجرد هم ولا مجرد عزم على فعل مستقبل، فاستحق حينئذ النار، كما قدمنا من أن الإرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها مجرى الفاعل التام.
 
والإرادة التامة قد ذكرنا أنه لابد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة، بل قد تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك، مع القدرة، مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا: من اللمس، والنظر والقبلة، ويمتنع عن الفاحشة الكبرى ؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح: «العين تزنى، والأذن تزني، واللسان يزني إلى أن قال: والقلب يتمنى ويشتهي» أي يتمنى الوطء ويشتهيه، ولم يقل: يريد، ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة، ولا يستلزم وجود الفعل، فلا يعاقب على ذلك، وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والإرادة الجازمة التي يصدقها الفرج.
 
ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن [[ابن مسعود]]: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله {{صل}} فذكر ذلك له، فأنزل الله تعالى: { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } الآية <ref>[هود: 114]</ref> فقال الرجل: ألى هذه؟ فقال: «لمن عمل بها من أمتي». فمثل هذا الرجل وأمثاله لابد في الغالب أن يهم بما هو أكبر من ذلك، كما قال: «والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه». لكن إرادته القلبية للقبلة كانت إرادة جازمة، فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة، وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة، وقد تكون جازمة، لكن لم يكن قادرا. والأشبه في الذي نزلت فيه الآية أنه كان متمكنًا لكنه لم يفعل.
 
فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الإصرار هو الذي عليه الجواب، فمن لم يمنعه من الفعل إلا العجز، فلابد أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته، وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر؛ ولهذا قال ابن المبارك: المصر الذي يشرب الخمر اليوم، ثم لا يشربها إلى شهر، وفي رواية إلى ثلاثين سنة، ومن نيته أنه إذا قدر على شربها «شربها». وقد يكون مصرًا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت، كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر رمضان دون غيره، فليس هذا بتائب مطلقا، ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان، ويثاب إذا كان ذلك الترك لله وتعظيم شعائر الله، واجتناب محارمه في ذلك الوقت، ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة، ولا هو مصر مطلقًا. وأما الذي وصفه ابن المبارك، فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها.
 
قلت: والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أيضا، لكن نيته أن يشربها إذا قدر عليها، غير النية مع وجود القدرة، فإذا قدر قد تبقى نيته وقد لا تبقى، ولكن متى كان مريدا إرادة جازمة لا يمنعه إلا العجز فهو معاقب على ذلك، كما تقدم.
 
وتقدم أن مثل هذا لابد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه، وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه حكى الإجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له، فهذا الإجماع صحيح مع القدرة، فإن الناوي للفعل القادر عليه ليس بمنزلة الفاعل، وأما الناوي الجازم الآتي بما يمكن، فإنه بمنزلة الفاعل التام، كما تقدم.
 
ومما يوضح هذا: أن الله سبحانه في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الإرادة، كقوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } <ref>[الإسراء: 18]</ref>، وقال: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ } <ref>[هود: 15، 16]</ref>، وقال: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } <ref>[الشورى: 20]</ref>.
 
فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة، ويريد الحياة الدنيا، ويريد حرث الدنيا، وقال في آية هود: { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } إلى أن قال: { وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } <ref>[هود: 15، 16]</ref>، فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت، وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها، وإن الإرادة هنا مستلزمة للعمل، ولما ذكر إرادة الآخرة، قال: { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } <ref>[الإسراء: 19]</ref>، وذلك لأن إرادة الآخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو على العمل المأمور به، لا كل سعي، ولابد مع ذلك من الإيمان.
 
ومنه قوله: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية <ref>[الأحزاب: 28]</ref>، { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } <ref>[الأحزاب: 29]</ref>، فهذا نظير تلك الآية التي في سورة هود، وهذا يطابق قوله: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما» إلا أنه قال: «فإنه أراد قتل صاحبه». أو: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»، فذكر الحرص والإرادة على القتل وهذا لابد أن يقترن به فعل، وليس هذا مما دخل في حديث العفو: «إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها».
 
===مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح===
ومما يبني على هذا مسألة معروفة بين أهل السنة وأكثر العلماء وبين بعض القدرية وهي توبة العاجز عن الفعل، كتوبة المجبوب عن الزنا، وتوبة الأقطع العاجز عن السرقة، ونحوه من العجز، فإنها توبة صحيحة عند جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم. وخالف في ذلك بعض القدرية؛ بناء على أن العاجز عن الفعل لا يصح أن يثاب على تركه الفعل، بل يعاقب على تركه وليس كذلك، بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا، وبينا أن الإرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام، فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه، كالتائب القادر عليها سواء، فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل، كإصرار العاجز عن كمال الفعل.
 
ومما يبني على هذا المسألة المشهورة في الطلاق، وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به، فإنه لا يقع به الطلاق عند جمهور العلماء. وعند مالك في إحدى الروايتين يقع، وقد استدل أحمد وغيره من الأئمة على ترك الوقوع بقوله: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها» فقال المنازع: هذا المتجاوز عنه، إنما هو حديث النفس، والجازم بذلك في النفس ليس من حديث النفس.
 
فقال المنازع لهم: قد قال: «ما لم تكلم به أو تعمل به»، فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي هي الكلام به والعمل به، كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلال بعض الناس وهو استدلال حسن، فإنه لو كان حديث النفس إذا صار عزمًا ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به ؛ لكان خلاف النص، لكن يقال: هذا في المأمور صاحب المقدرة التي يمكن فيها الكلام والعمل، إذا لم يتكلم ولم يعمل، وأما الإرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجرى مجرى التي أتى معها بكمال العمل، بدليل الأخرس لما كان عاجزا عن الكلام، وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين ونحوهما، لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الإشارة جرى ذلك مجرى الكلام من غيره، والأحكام والثواب والعقاب وغير ذلك.
 
وأما الوجه الآخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقًا فليس كذلك، بل إذا قيل: إن الإرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك، يصح ذلك، فإن المراد إن كان مقدورا مع الإرادة الجازمة؛ وجب وجوده، وإن كان ممتنعًا فلابد مع الإرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته، وحيث لم يوجد فعل أصلا فهو هم، وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الإرادة والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب، إذ كانت هذه الأعمال حيث وقع عليهم ذم وعقاب فلأنها تمت حتى صارت قولا وفعلا.
 
وحينئذ قوله {{صل}}: «إن الله تجاوز لأمتي» الحديث حق، والمؤاخذة بالإرادات المستلزمة لأعمال الجوارح حق، ولكن طائفة من الناس قالوا: إن الإرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول، ثم تنازعوا في العقاب عليها، فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج بن الجوزي يرون العقوبة على ذلك، وليس معهم دليل على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل.
 
والقاضي بناها على أصله في الإيمان الذي اتبع فيه جهمًا والصالحي، وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري، وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب، ولو كذب بلسانه، وسب الله ورسوله بلسانه، وإن سب الله ورسوله إنما هو كفر في الظاهر، وأن كلما كان كفرًا في نفس الأمر، فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب، وهذا أصل فاسد في الشرع والعقل، حتى أن الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في الإيمان بهذا القول، بخلاف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون: هو تصديق القلب واللسان، فإن هؤلاء لم يكفرهم أحد من الأئمة، وإنما بدعوهم.
 
وقد بسط الكلام في الإيمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع، وبين أن من الناس من يعتقد وجود الأشياء بدون لوازمها، فيقدر ما لا وجود له.
 
وأصل جهم في الإيمان تضمن غلطًا من وجوه:
 
منها: ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب، كحب الله وخشيته ونحو ذلك.
 
ومنها: ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من الأقوال والأعمال.
 
ومنها: ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار، فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق، وجزموا بأن إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك. وهذا كلامهم في الإرادة والكراهة والحب والبغض ونحو ذلك، فإن هذه الأمور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنه، وإذا صارت إرادة جازمة وحبًا وبغضًا؛ لزم وجود الفعل ووقوعه، وحينئذ فليس لأحد أن يقدر وجودها مجردة، ثم يقول: ليس فيها إثم، وبهذا يظهر الجواب عن حجة السائل.
 
فإن الأمة مجمعة على أن الله يثيب على محبته ومحبة رسوله، والحب فيه والبغض فيه، ويعاقب على بغضه وبغض رسوله، وبغض أوليائه، وعلى محبة الأنداد من دونه، وما يدخل في هذه المحبة من الإرادات والعزوم، فإن المحبة سواء كانت نوعًا من الإرادة أو نوعًا آخر مستلزمًا للإرادة، فلابد معها من إرادة وعزم، فلا يقال: هذا من حديث النفس المعفو عنه، بل كما جاء في الحديث الذي رواه [[الترمذي]]: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله»، وفي الصحيحين عن أنس عن النبي {{صل}} أنه قال: «والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»، وفي [[صحيح البخاري]] عن عبد الّله بن هشام قال: كنا مع رسول الله {{صل}} وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر: لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي. فقال النبي {{صل}}: «لا، والذي نفسي بيده ! حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال النبي {{صل}}: «الآن ياعمر!»، بل قد قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } <ref>[التوبة: 24]</ref>.
 
فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الله به من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فعلم أنه يجب أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان، وإلا لم يكن مؤمنًا حقًا، ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله {{صل}}: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» وهذا لفظ البخاري، فأخبر أنه لا يجد أحد حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبات الثلاث:
 
أحدها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما، وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنًا بدونها.
 
الثاني: أن يحب العبد لا يحبه إلا لله وهذا من لوازم الأول.
 
والثالث: أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر.
 
وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقه في التوبة هذه الخصال، محبة الله ورسوله، ومحبة المؤمنين فيه، وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا، فهي مستلزمة لذلك، فإن من كان الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله لابد أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة، مثل إرادته نصر الله ورسوله ودينه والتقريب إلى الله ورسوله، ومثل بغضه لمن يعادي الله ورسوله.
 
ومن هذا الباب: ما استفاض عنه {{صل}} في الصحاح من حديث [[ابن مسعود]] وأبي موسى وأنس أن النبي {{صل}} قال: «المرء مع من أحب»، وفي رواية: «الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم» أي ولما يعمل بأعمالهم، فقال: «المرء مع من أحب». قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب النبي {{صل}} وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يجعلني الله معهم، وإن لم أعمل عملهم، وهذا الحديث حق، فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك، وكونه معه هو على محبته إياه، فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك، وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك، والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه، إذا كان المحب قادرًا عليها، فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك، وإن كانت موجودة.
 
وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته، مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } <ref>[المجادلة: 22]</ref>، والموادة من أعمال القلوب.
 
فإن الإيمان بالله يستلزم مودته ومودة رسوله، وذلك يناقض موادة من حاد الله ورسوله، وما ناقض الإيمان فإنه يستلزم الذم والعقاب؛ لأجل عدم الإيمان. فإن ما ناقض الإيمان كالشك والإعراض وردة القلب، وبغض الله ورسوله يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر الله به رسوله، فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات إيمان القلب، فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب، بخلاف ما استحق الذم لكونه منهيًا عنه كالفواحش والظلم، فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده، إذا كان هذا لا يناقض أصل الإيمان، وإن كان يناقض كماله، بل نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي، ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات، ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصلاة تضمنت شيئين:
 
أحدهما: نهيها عن الذنوب.
 
والثاني: تضمنها ذكر الله، وهو أكبر الأمرين، فما فيها من ذكر الله أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ولبسط هذا موضع آخر.
 
والمقصود هنا أن المحبة التامة لله ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان»، فإنه إذا كان حبه لله، وبغضه لله، وهما عمل قلبه، وعطاؤه لله، ومنعه لله، وهما عمل بدنه؛ دل على كمال محبته لله، ودل ذلك على كمال الإيمان؛ وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله لله، وذلك عبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال الذل، والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية، ولابد لكل حي من حب وبغض، فإذا كانت محبته لمن يحبه الله، وبغضه لمن يبغضه الله؛ دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه، لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف، بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها، الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس، فإذا كان حبه لله، وعطاؤه لله، ومنعه لله؛ دل على كمال الإيمان باطنًا وظاهرًا.
 
وأصل الشرك في المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا إنما هو اتخاذ أنداد يحبونه كحب الله، كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، ومن كان حبه لله وبغضه لله، لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذه حال السابقين من أولياء الله كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} أنه قال: «يقول الله: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه». فهؤلاء الذين أحبوا الله محبة كاملة تقربوا بما يحبه من النوافل، بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض، أحبهم الله محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه، وصار أحدهم يدرك بالله، ويتحرك بالله، بحيث إن الله يجيب مسألته، ويعيذه مما استعاذ منه.
 
وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه، قال تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } <ref>[البقرة: 93]</ref>، وذم من اتخذ إلهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه، وهذا قد يكون فعل القلب فقط، وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع على المحبة والإرادة والبغض والسخط والفرح والغم، ونحو ذلك من أفعال القلوب كقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } <ref>[البقرة: 165]</ref>، وقوله: { كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ } <ref>[القيامة: 20، 21]</ref>، وقوله: { يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } <ref>[الإنسان: 27]</ref>.
 
وقوله: { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } <ref>[آل عمران: 120]</ref>، وقوله: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } <ref>[الزمر: 45]</ref>، وقوله: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } <ref>[الحج: 72]</ref>، وقوله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ } <ref>[البقرة: 109]</ref>، وقوله: { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } <ref>[البقرة: 105]</ref>، وقوله: { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } <ref>[الأنفال: 7]</ref>.
 
وقوله: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } <ref>[التوبة: 54]</ref>، وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } <ref>[محمد: 9]</ref>، وقوله: { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } الآية <ref>[التوبة: 124]</ref>، وقوله: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } <ref>[الرعد: 36]</ref>، وقوله: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } <ref>[يونس: 58]</ref>.
 
وقال: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } <ref>[ القصص: 76]</ref>، وقال: { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } <ref>[غافر: 75]</ref>، وقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } <ref>[لقمان: 18]</ref>، وقال: { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } <ref>[الشورى: 48]</ref>، وقال: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } <ref>[هود: 9-11]</ref>، وقال: { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } <ref>[الفجر: 20]</ref>، وقال: { إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } <ref>[العاديات: 6-8]</ref>، وقال: { وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ } <ref>[يوسف: 87]</ref>، وقال: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } <ref>[الحجر: 56]</ref>.
 
وقال: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } <ref>[فصلت: 23]</ref>، وقال: { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } <ref>[الفتح: 12]</ref>، وقال: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } <ref>[النساء: 54]</ref>، وقال: { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } <ref>[ الفلق: 5]</ref>، وقال: { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } <ref>[الحشر: 9]</ref>، وقال: { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. هَاأَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ } <ref>[آل عمران: 118، 119]</ref>، وقال: { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } <ref>[محمد: 37]</ref>، وقال: { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } <ref>[العاديات: 9، 10]</ref>، وقال: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } <ref>[البقرة: 10]</ref>، وقال: { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } <ref>[الأحزاب: 32]</ref>، وقال: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } <ref>[الأحزاب: 12]</ref>، وقال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } <ref>[المائدة: 41]</ref>، وقال: { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } <ref>[يونس: 57]</ref>.
 
ومثل هذا كثير في كتاب الله وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء الله من مساعي القلوب وأعمالها، مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا»، وقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه»، وقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، وقوله: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»، و«لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان»، وقوله: «لا تسموا العنب الكرم، وإنما الكرم قلب المؤمن» وأمثال هذا كثير.
 
بل قول القلب وعمله هو الأصل، مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه، من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب بدون فعل الجوارح الظاهرة، ومنه ما لا يقترن به ذلك إلا مع الفعل بالجوارح الظاهرة إذا كانت مقدورة، وأما ما ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل، فأقوال القلب وأفعاله ثلاثة أقسام:
 
أحدها: ما هو حسنة وسيئة بنفسه.
 
وثانيها: ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل، وهو السيئة المقدورة كما تقدم.
 
وثالثها: ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة، وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة، كما تقدم.
 
فالقسم الأول: هو ما يتعلق بأصول الإيمان من التصديق والتكذيب، والحب والبغض، وتوابع ذلك؛ فإن هذه الأمور يحصل فيها الثواب والعقاب، وعلو الدرجات، وأسفل الدركات، بما يكون في القلوب من هذه الأمور، وإن لم يظهر على الجوارح، بل المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة، وإنما عقابهم وكونهم في الدرك الأسفل من النار على ما في قلوبهم من الأمراض، وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانًا بغض القول والفعل، لكن ليست العقوبة مقصورة على ذلك البغض اليسير، وإنما ذلك البغض دلالة كما قال تعالى: { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } <ref>[محمد: 30]</ref>، فأخبر أنهم لابد أن يعرفوا في لحن القول.
 
وأما القسم الثاني، والثالث: فمظنة الأفعال التي لا تنافى أصول الإيمان، مثل المعاصي الطبعية، مثل الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، كما ثبت في الصحاح عن النبي {{صل}} أنه قال: «من مات يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق، وإن شرب الخمر»، وكما شهد النبي {{صل}} في الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر، وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل، فقال: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»، وفي رواية قال بعضهم: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر. فقال النبي {{صل}}: «لا تكونوا أعوانًا للشيطان على أخيكم» وهذا في [[صحيح البخاري]] من حديث أبي هريرة.
 
ولهذا قال: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به»، والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان، فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث؛لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من أمة محمد في الحقيقة، ويكون بمنزلة المنافقين، فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله، وهذا فرق بين يدل عليه الحديث، وبه تأتلف الأدلة الشرعية، وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، كما دل عليه الكتاب والسنة، فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان، وحديث النفس، كما يخرجون من النار، بخلاف من ليس معه الإيمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه؛ ولهذا جاء: «نية المؤمن خير من عمله» هذا الأثر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب الأمثال من مراسيل ثابت البناني، وقد ذكره ابن القيم في النية من طرق عن النبي {{صل}} ثم ضعفها، فالله أعلم.
 
فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها، وتجرى مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إلا العجز، ويمكنه ذلك في عامة أفعال الخير، وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة، وذلك لا يكون إلا قليلا؛ ولهذا قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في بدنه، وقوة المنافق في بدنه، وضعفه في قلبه.
 
وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } الآية <ref>[البقرة: 284]</ref>، وهذه الآية وإن كان قد قال طائفة من السلف: إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي {{صل}} وهو [[ابن عمر]] أنها نسخت، فالنسخ في لسان السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين، يريدون به رفع الدلالة مطلقا، وإن كان تخصيصًا للعام أو تقييدا للمطلق، وغير ذلك، كما هو معروف في عرفهم، وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك، وزعم قوم أن ذلك خبر، والخبر لا ينسخ، ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي، كالخبر الذي بمعنى الأمر والنهي.
 
والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } <ref>[البقرة: 286]</ref>، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الآية، فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الأحاديث، وهو ما هموا به وحدثوا به أنفسهم من الأمور المقدورة، ما لم يتكلموا به أو يعملوا به، ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. كما روى [[ابن ماجه]] وغيره بإسناد حسن: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
 
وحقيقة الأمر: أن قوله سبحانه: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } <ref>[البقرة: 284]</ref>، لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل على المحاسبة به، ولا يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قال: { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } لا يستلزم أنه قد يغفر ويعذب بلا سبب ولا ترتيب، ولا أنه يغفر كل شيء، أو يعذب على كل شيء، مع العلم بأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه لا يغفر أن يشرك به إلا مع التوبة، ونحو ذلك.
 
والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعًا لأصل الإيمان وما كان منافيًا له، ويفرق أيضا بين ما كان مقدورًا عليه فلم يفعل، وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه، فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة.
 
وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة إنما وقع لكونهم رأوا عزمًا جازمًا لا يقترن به فعل قط، وهذا لا يكون إلا إذا كان الفعل مقارنًا للعزم، وإن كان العجز مقارنًا للإرادة؛ امتنع وجود المراد، لكن لا تكون تلك إرادة جازمة، فإن الإرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضا، فمع الإرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه، وإن لم يوجد الفعل نفسه.
 
والإنسان يجد من نفسه: أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته، ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع، وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله على السواء، ولا عما يظهر على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، مثل بسط الوجه وتعبسه، وإقباله على الشيء والإعراض عنه، وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب، كما يترتب عليها الحمد والثواب.
 
وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط، وهذا لا يكون إلا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره، فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازمًا، ولا نزاع في إطلاق الألفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول: ما قارن الفعل فهو قصد، وما كان قبله فهو عزم. ومنهم من يجعل الجميع سواء، وقد تنازعوا: هل تسمى إرادة الله لما يفعله في المستقبل عزمًا؟ وهو نزاع لفظي؛ لكن ما عزم الإنسان عليه أن يفعله في المستقبل، فلابد حين فعله من تجدد إرادة، غير العزم المتقدم، وهي الإرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة، وتنازعوا أيضا: هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي؟ وقد ذكروا أيضا في ذلك قولان.
 
والأظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور، والإرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد.
 
والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلقًا على كل عزم على فعل مستقبل، وإن لم يقترن به فعل، وإرادة الآخر رفع العقاب مطلقًا عن كل ما في النفس من الإرادات الجازمة ونحوها، مع ظن الاثنين أن ذلك الواحد لم يظهر بقول ولا عمل، وكل من هذين انحراف عن الوسط.
 
فإذا عرف أن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة إلا لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في الثواب والعقاب. وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف لا يكون مرادًا إرادة جازمة، بل هو الهم الذي وقع العفو عنه، وبه ائتلفت النصوص والأصول.
 
ثم هنا مسائل كثيرة فيما يجتمع في القلب من الإرادات المتعارضة كالاعتقادات المتعارضة، وإرادة الشيء وضده، مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها، ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ منه، كما شكا أصحاب رسول الله {{صل}} إليه فقالوا: إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة، أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: «أو قد وجدتموه؟» فقالوا: نعم. قال: «ذلك صريح الإيمان» رواه مسلم من حديث [[ابن مسعود]]، وأبي هريرة، وفيه: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
 
وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان به على الجواب، فإن له موارد واسعة. فهنا لما اقترن بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة، كان هو صريح الإيمان، وهو خالصه ومحضه؛ لأن المنافق والكافر لا يجد هذا البغض، وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك، بل إن كان في الكفر البسيط، وهو الإعراض عما جاء به الرسول، وترك الإيمان به وإن لم يعتقد تكذيبه فهذا قد لا يوسوس له الشيطان بذلك، إذ الوسوسة بالمعارض المنافي للإيمان إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه، فإذا لم يكن معه ما يقتضي الإيمان لم يحتج إلى معارض يدفعه، وإن كان في الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة، وليس معه إيمان يكره به ذلك.
 
ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين، كما قال تعالى: { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ } الآيات <ref>[ الرعد: 17]</ref>. فضرب الله المثل لما ينزله من الإيمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الأرض، وجعل القلوب كالأودية، منها الكبير، ومنها الصغير كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي {{صل}} أنه قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وشربوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» فهذا أحد المثلين.
 
والمثل الآخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع، من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه، وأخبر أن السيل يحتمل زبدًا رابيًا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله، ثم قال: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ } <ref>[الرعد: 17]</ref>، الرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والإرادات الفاسدة كما شكاه الصحابة إلى النبي {{صل}}، قال تعالى: { فَيَذْهَبُ جُفَاءً } يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما يقذف الماء الزبد ويجفوه { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين والإيمان، كما قال تعالى: { مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } الآية، إلى قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } <ref>[إبراهيم: 24 27]</ref>.
 
فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيمانًا ويقينًا، كما أن كل من حدثته نفسه بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه لله ازداد صلاحًا وبرًا وتقوى.
 
وأما المنافق فإذا وقعت له الأهواء والآراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها، فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها، والقلوب يعرض لها الإيمان والنفاق، فتارة يغلب هذا، وتارة يغلب هذا.
 
وقوله {{صل}}: «إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها» كما في بعض ألفاظه في الصحيح، هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين، دون من كان مسلمًا في الظاهر، وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في المتظاهرين بالإسلام قديما وحديثا. وهم في هذه الأزمان المتأخرة في بعض الأماكن أكثر منهم في حال ظهور الإيمان في أول الأمر، فمن أظهر الإيمان وكان صادقًا مجتنبًا ما يضاده أويضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به والعمل به، دون ما ليس كذلك. كما دل عليه لفظ الحديث.
 
فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث، وكذلك قوله: «من هم بحسنة»، «من هم بسيئة» إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها؛ لأنه أخبر أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
 
وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات لله. كما قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } <ref>[البقرة: 261]</ref>، و { ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } <ref>[البقرة: 265]</ref>، و { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ } <ref>[الليل: 20]</ref> وهذا للمؤمنين؛ فإن الكافر وإن كان الله يطعمه بحسناته في الدنيا، وقد يخفف عنه بها في الآخرة، كما خفف عن أبي طالب لإحسانه إلى النبي {{صل}}، وبشفاعة النبي {{صل}}، فلم يوعد لكافر على حسناته بهذا التضعيف، وقد جاء ذلك مقيدًا في حديث آخر: إنه في المسلم الذي هو حسن الإسلام.
 
والله سبحانه أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
 
{{هامش}}