الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
 
سطر 1:
{{رأسية
مجموع فتاوى ابن تيمية – 18 – المجلد الثامن عشر
| عنوان = [[مجموع فتاوى ابن تيمية]]
 
| مؤلف = ابن تيمية
«الحديث»
| باب = المجلد الثامن عشر - الحديث
 
| سابق = → [[../المجلد السابع عشر|المجلد االسابع عشر]]
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
| لاحق = [[../المجلد التاسع عشر|المجلد التاسع عشر]] ←
| ملاحظات =
}}
 
 
السطر 10 ⟵ 13:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل ما حد الحديث النبوي|سئل ما حد الحديث النبوي]]
سؤال وَرَدَ على الشَّيخ رَحمَه الله.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل تعريف الحديث الواحد|فصل تعريف الحديث الواحد]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا|فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا]]
قال السائل:
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف|فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع|فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع]]
الحمد لله رب العالمين.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/أن يسمع من لفظ المحدث|أن يسمع من لفظ المحدث]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/أن يقرأ على المحدث فيقر به|أن يقرأ على المحدث فيقر به]]
يا متقنا علم الحديث ومن روى ** أصبحت في الإسلام طَوْدًا راسخًا
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/المناولة والمكاتبة|المناولة والمكاتبة]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/الإجازة|الإجازة]]
هذي مسائل أشكلت فتصدقوا ** فالمستعان على الأمور بأهلها
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب|معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/شرط البخاري ومسلم|شرط البخاري ومسلم]]
ولكم كأجر العاملين بسنته ** سنن النبي المصطفى المختار
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح|قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/الخبر ينقسم ثلاثة أقسام|الخبر ينقسم ثلاثة أقسام]]
يهدي به وعددت في الأحبار** ببيانها يا ناقلي الأخبار !
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا|فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/أسباب تعمد الكذب|أسباب تعمد الكذب]]
إن أشكلت قد جاء في الآثار ** حين سئلتمو يا أولي الأبصار
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا|فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان|فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان]]
الأولى: ما حَدُّ الحديث النبوي؟ أهو ما قاله في عمره، أو بعد البعثة أو تشريعًا؟
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين|فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة|فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة]]
الثانية: ما حد الحديث الواحد؟ وهل هو كالسورة، أو كالآية، أو كالجملة؟
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد|فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث|سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث]]
الثالثة: إذا صح الحديث، هل يلزم أن يكون صدقا، أم لا؟
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم|كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن|وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن]]
الرابعة: تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف تسمية صحيحة، أو متداخلة؟
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه|أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/بعض الأخبار الموضوعة|بعض الأخبار الموضوعة]]
الخامسة: ما الحديث المكرر المعاد بغير لفظه ومعناه من غير زيادة ولا نقص؟ وهل هو كالقصص المكررة في القرآن العظيم؟
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن|وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي|سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي]]
السادسة: كم في [[صحيح البخاري]] حديث بالمكرر؟ وكم دونه؟ وكم في مسلم حديث به، ودونه؟ وعلى كم حديث اتفقا؟ وبكم انفرد كل واحد منهما عن الآخر؟
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا|فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته|فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته]]
فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله:
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته|فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار|فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار]]
الحمد لله رب العالمين، الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حُدِّث به عنه بعد النبوة: من قوله وفعله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة. فما قاله إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا أو إباحة وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله - عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقًا، وهذا معني النبوة، وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني|فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم|فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم]]
ولهذا كان كل رسول نبيًا، وليس كل نبي رسولا، وإن كان قد يوصف بالإرسال المقيد في مثل قوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عليمٌ حَكِيمٌ } <ref>[الحج: 52]</ref>، وقد اتفق المسلمون على أنه لا يستقر فيما بلغه باطل، سواء قيل: إنه لم يجر على لسانه من هذا الإلقاء ما ينسخه الله، أو قيل: إنه جري ما ينسخه الله، فعلى التقديرين قد نسخ الله ما ألقاه الشيطان وأحكم الله آياته والله عليم حكيم؛ ولهذا كان كل ما يقوله فهو حق.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم|فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين|فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين]]
وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي {{صل}}، فقال له بعض الناس: إن رسول الله {{صل}} يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي {{صل}} عن ذلك فقال: «اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج من بينهما إلا حق» يعني: شفتيه الكريمتين.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/شرح حديث إنما الأعمال بالنيات|شرح حديث إنما الأعمال بالنيات]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها|فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها]]
وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله {{صل}} أحفظ مني إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده، ويَعِي بقلبه، وكنت أعي بقلبي ولا أكتب بيدي، وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي {{صل}}. وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب، عن جده، وقالوا: هي نسخة وشعيب هو: شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وقالوا عن جده الأدني محمد: فهو مرسل؛ فإنه لم يدرك النبي {{صل}}، وإن عني جده الأعلى فهو منقطع؛ فإن شعيبًا لم يدركه.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في قوله وجلت قلوبهم|فصل في قوله وجلت قلوبهم]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في معنى حديث خطبة الحاجة|فصل في معنى حديث خطبة الحاجة]]
وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء، فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إذا صح النقل إليه، مثل: مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل: الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، قالوا: الجد هو عبد الله؛ فإنه يجيء مسمي ومحمد أدركه، قالوا: وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي {{صل}} كان هذا أَوْكد لها وأدل على صحتها؛ ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ|فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث|فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث]]
والمقصود أن حديث الرسول {{صل}} إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة، وذكر ما فعله؛ فإن أفعاله التي أقر عليها حجة، لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقوله: «لتأخذوا عني مناسككم»، وكذلك ما أحله الله له فهو حلال للأمة مالم يقم دليل التخصيص؛ ولهذا قال: { فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ على الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } <ref>[الأحزاب: 37]</ref>، ولما أحل له الموهوبة قال: { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[الأحزاب: 50]</ref>.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء|حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل حديث أعطيت جوامع الكلم|فصل حديث أعطيت جوامع الكلم]]
ولهذا كان النبي {{صل}} إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله؛ ليبين للسائل أنه مباح، وكان إذا قيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: «إني أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده».
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/حديث الكرب اللهم إني عبدك|حديث الكرب اللهم إني عبدك]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل حديث المرء مع من أحب|فصل حديث المرء مع من أحب]]
ومما يدخل في مسمي حديثه: ما كان يُقِرُّهم عليه، مثل: إقراره على المضاربة التي كانوا يعتادونها، وإقراره لعائشة على اللعب بالبنات، وإقراره في الأعياد على مثل غناء الجاريتين، ومثل لعب الحبشة بالحِرَاب في المسجد ونحو ذلك، وإقراره لهم على أكل الضب على مائدته، وإن كان قد صح عنه أنه ليس بحرام. إلى أمثال ذلك، فهذا كله يدخل في مسمي الحديث، وهو المقصود بعلم الحديث؛ فإنه إنما يطلب ما يستدل به على الدين، وذلك إنما يكون بقوله أو فعله أو إقراره.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا|وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل حديث من يستغن يغنه الله|فصل حديث من يستغن يغنه الله]]
وقد يدخل فيها بعض أخباره قبل النبوة وبعض سيرته قبل النبوة، مثل: تَحنُّثِه بغار حراء، ومثل: حسن سيرته؛ لأن الحال يستفاد منه ما كان عليه قبل النبوة: من كرائم الأخلاق ومحاسن الأفعال، كقول خديجة له: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقْرِي الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ومثل: المعرفة، فإنه كان أميًا لا يكتب ولا يقرأ، وأنه لم يجمع متعلم مثله وإن كان معروفا بالصدق والأمانة، وأمثال ذلك مما يستدل به على أحواله التي تنفع في المعرفة بنبوته وصدقه، فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل النبوة كثيرًا. ولهذا يذكر مثل ذلك من كتب سيرته، كما يذكر فيها نسبه وأقاربه وغير ذلك بما يعلم أحواله. وهذا أيضا قد يدخل في مسمي الحديث.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر|فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات|فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات]]
والكتب التي فيها أخباره منها كتب التفسير، ومنها كتب السيرة والمغازي، ومنها كتب الحديث. وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص، وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة، فإن تلك لا تذكر لتؤخذ وتشرع فعله قبل النبوة، بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض على عباده الإيمان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عن أحاديث هل هي صحيحة|سئل عن أحاديث هل هي صحيحة]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عن بعض الأحاديث|سئل عن بعض الأحاديث]]
ولهذا كان عندهم من ترك الجمعة والجماعة، وتخلي في الغِيرَان والجبال، حيث لا جمعة ولا جماعة، وزعم أنه يقتدي بالنبي {{صل}} لكونه كان متحنثًا في غار حراء قبل النبوة في ترك ما شرع له من العبادات الشرعية التي أمر الله بها رسوله، واقتدي بما كان يفعل قبل النبوة كان مخطئًا؛ فإن النبي {{صل}} بعد أن أكرمه الله بالنبوة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح، وفي عمرة الجعرانة، ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده لم يكن أحد منهم يأتي غار حراء، ولا يتخلون عن الجمعة والجماعة في الأماكن المنقطعة، ولا عمل أحد منهم خلوة أربعينية كما يفعله بعض المتأخرين، بل كانوا يعبدون الله بالعبادات الشرعية التي شرعها لهم النبي {{صل}}، الذي فرض الله عليهم الإيمان به واتباعه؛ مثل: الصلوات الخمس وغيرها من الصلوات، ومثل: الصيام والاعتكاف في المساجد، ومثل: أنواع الأذكار والأدعية والقراءة، ومثل: الجهاد.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا|سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/وسئل عن قصة إبليس|وسئل عن قصة إبليس]]
وقول السائل: ماقاله في عمره أو بعد النبوة أو تشريعًا، فكل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار|بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/سئل عن أحاديث يرويها قصاص|سئل عن أحاديث يرويها قصاص]]
والتحقيق أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ماهو مباح؛ ومنه ماهو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار، فقد يحصل أحيانًا للإنسان إذا اسْتَحَرَّ المرض ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف، وكاستخراج الدم أحيانًا.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد|قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد]]
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/معنى حديث على كل مسلم صدقة|معنى حديث على كل مسلم صدقة]]
والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع، وهو {{صل}} لما رآهم يلقِّحُون النخل قال لهم: «ما أري هذا يعني شيئا » ثم قال لهم: «إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله»، وقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي» وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ } و { الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } <ref>[البقرة: 187]</ref>، هو الحبل الأبيض والأسود.
*[[مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/وسئل عن أحاديث يرويها القصاص|وسئل عن أحاديث يرويها القصاص]]
 
===فصل تعريف الحديث الواحد===
وأما الحديث الواحد، فيراد به ما رواه الصاحب من الكلام المتصل بعضه ببعض ولو كان جملا كثيرة، مثل: حديث توبة كعب بن مالك، وحديث بدء الوحي، وحديث الإفك، ونحو ذلك من الأحاديث الطوال؛ فإن الواحد منها يسمي حديثا، وما رواه الصاحب أيضا من جملة واحدة أو جملتين أو أكثر من ذلك، متصلا بعضه ببعض؛ فإنه يسمي حديثا، كقوله: «لا صلاة إلا بأم القرآن»«الجار أحق بسَقَبِه»، «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»، وقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوي» إلى آخره، فإنه يمسي حديثا.
 
وكذلك قوله: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا»، وقوله في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتَتُه»، وقد أكمل من أجناس مختلفة، لكن في الأمر العام تكون مشتركة في معني عام، كقوله: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يَبِع على بيع أخيه، ولا يَسْتَام على سَوْمِ أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ مافي صَحْفتها ولتنكح، فإن لها ما قدر لها» فإن هذا يتضمن النهي عن مزاحمة المسلم في البيع والنكاح، وفي البيع لا يستام على سومه، ولا يبيع على بيعه، وإذا نهاه عن السوم فنهيه المشتري على شرائه عليه حرام بطريق الأولي، ونهاه أن يخطب على خطبته. وهذا نهي عن إخراج امرأته من ملكه بطريق الأولي، ونهي المرأة أن تسأل طلاق أختها لتنفرد هي بالزوج، فهذه وإن تعلقت بالبيع والنكاح فقد اشتركت في معني عام.
 
وكذلك قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر»، فهؤلاء الثلاثة اشتركوا في هذا الوعيد، واشتركوا في فعل هذه الذنوب مع ضعف دواعيهم؛ فإن داعية الزنا في الشيخ ضعيفة، وكذلك داعية الكذب في الملك ضعيفة؛ لاستغنائه عنه، وكذلك داعية الكِبْر في الفقير، فإذا أتوا بهذه الذنوب مع ضعف الداعي دل على أن في نفوسهم من الشر الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم.
 
وقَلَّ أن يشتمل الحديث الواحد على جمل إلا لتناسب بينهما، وإن كان قد يخفي التناسب في بعضها على بعض الناس، فالكلام المتصل بعضه ببعض يسمي حديثا واحدًا.
 
وأما إذا روي الصاحب كلاما فرغ منه، ثم روي كلامًا آخر وفصل بينهما بأن قال: وقال رسول الله {{صل}}، أو بأن طال الفصل بينهما، فهذان حديثان، وهذا بمنزلة ما يتصل بالكلام في الإنسان والإقرارات والشهادات، كما يتصل بعقد النكاح والبيع والإقرار والوقف. فإذا اتصل به الاتصال المعتاد كان شيئًا واحدًا يرتبط بعضه بعض، وانقضي كلامه، ثم بعد طول الفصل أنشأ كلامًا آخر بغير حكم الأول، كان كلامًا ثانيًا، فالحديث الواحد ليس كالجملة الواحدة؛ إذ قد يكون جملا، ولا كالسورة الواحدة؛ فإن السورة قد يكون بعضها نزل قبل بعض أو بعد بعض، ويكون أجنبيًا منه، بل يشبه الآية الواحدة أو الآيات المتصل بعضها ببعض، كما أنزل في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين؛ وكما في قوله: { إِنَّا أَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا } <ref>[النساء: 105]</ref>، فإن هذا يتصل بعضه ببعض، وهو نزل بسبب قصة بني أبيرق إلى تمام الكلام.
 
وقد يسمي الحديث واحدًا، وإن اشتمل على قصص متعددة، إذا حَدَّث به الصحابي متصلًا بعضه ببعض، فيكون واحدًا باعتبار اتصاله في كلام الصحابي، مثل حديث جابر الطويل الذي يقول فيه: «كنا مع رسول الله {{صل}}» وذكر فيه ما يتعلق بمعجزاته، وما يتعلق بالصلاة، وبغير ذلك، فهذا يسمي حديثا بهذا الاعتبار، وقد يكون الحديث طويلا، وأخذ يفرقه بعض الرواة فجعله أحاديث، كما فعل البخاري في كتاب أبي بكر في الصدقة، وهذا يجوز إذا لم يكن في ذلك تغيير المعني.
 
===فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا===
وأما قول السائل: إذا صح الحديث هل يكون صدقا؟
 
فجوابه: أن الصحيح أنواع، وكونه صدقا يعني به شيئان: فمن الصحيح ما تواتر لفظه؛ كقوله: «من كذب على متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار». ومنه ما تواتر معناه؛ كأحاديث الشفاعة، وأحاديث الرؤية، وأحاديث الحوض، وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك. فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق؛ لأنه متواتر؛ إما لفظًا وإما معنى.
 
ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به، كما عملوا بحديث الغرة في الجنين، وكما عملوا بأحاديث الشفعة، وأحاديث سجود السهو، ونحو ذلك. فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقًا وعملًا بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة. فلو كان في نفس الأمر كذبًا لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل به، وهذا لا يجوز عليها.
 
ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث؛ كجمهور أحاديث البخاري ومسلم؛ فان جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تَبَعٌ لهم في معرفة الحديث، فإجماع أهل العلم بالحديث على أن هذا الخبر صدق كإجماع الفقهاء على أن هذا الفعل حلال أو حرام أو واجب، وإذا أجمع أهل العلم على شيء فسائر الأمة تبع لهم؛ فإجماعهم معصوم لا يجوز أن يجمعوا على خطأ.
 
ومما قد يسمي صحيحًا ما يصححه بعض علماء الحديث، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه، فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه، ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل، مثل: حديث ابن وعلة عن [[ابن عباس]] أن رسول الله {{صل}} قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فإن هذا انفرد به مسلم عن البخاري، وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره، وقد رواه مسلم، ومثل ما روي مسلم أن النبي {{صل}} صلى الكسوف ثلاث ركوعات وأربع ركوعات، انفرد بذلك عن البخاري، فإن هذا ضَعَّفه حُذَّاقُ أهل العلم، وقالوا: إن النبي {{صل}} لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، وفي نفس هذه الأحاديث التي فيها الصلاة بثلاث ركوعات وأربع ركوعات، أنه إنما صلى ذلك يوم مات إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم لم يمت مرتين ولا كان له إبراهيمان، وقد تواتر عنه أنه صلى الكسوف يومئذ ركوعين في كل ركعة، كما روي ذلك عنه [[عائشة]] وابن عباس وابن عمرو وغيرهم؛ فلهذا لم يَرْوِ البخاري إلا هذه الأحاديث وهو أحذق من مسلم؛ ولهذا ضعف الشافعي وغيره أحاديث الثلاثة والأربعة ولم يستحبوا ذلك، وهذا أصح الروايتين عن أحمد، وروي عنه أنه كان يجوز ذلك قبل أن يتبين له ضعف هذه الأحاديث.
 
ومثله حديث مسلم: «إن الله خلق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة»، فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل: يحيي بن معين ومثل البخاري وغيرهما، وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار، وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن الأنباري وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهما، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد، وهكذا هو عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام، وهذا هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر. ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهو خلاف ما أخبر به القرآن، مع أن حذاق أهل الحديث يثبتون علة هذا الحديث من غير هذه الجهة، وأن رواية فلان غلط فيه لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمي معرفة علل الحديث بكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا، ولكن عرف من طريق آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف، أو أسنده وهو مرسل، أو دخل عليه حديث في حديث، وهذا فن شريف، وكان يحيي بن سعيد الأنصاري ثم صاحبه على بن المديني ثم البخاري من أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد وأبو حاتم وكذلك [[النسائي]] و[[الدارقطني]] وغيرهم. وفيه مصنفات معروفة.
 
وفي البخاري نفسه ثلاثة أحاديث نازعه بعض الناس في صحتها مثل: حديث أبي بكرة عن النبي {{صل}} أنه قال عن الحسن: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، فقد نازعه طائفة منهم أبو الوليد الباجي، وزعموا أن الحسن لم يسمعه من أبي بكرة، لكن الصواب مع البخاري وأن الحسن سمعه من أبي بكرة، كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع، وقد ثبت ذلك في غير هذا الموضع.
 
والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم؛ ولهذا لا يتفقان على حديث إلا يكون صحيحا لا ريب فيه قد اتفق أهل العلم على صحته ثم ينفرد مسلم فيه بألفاظ يعرض عنها البخاري، ويقول بعض أهل الحديث إنها ضعيفة، ثم قد يكون الصواب مع من ضعفها، كمثل صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع، وقد يكون الصواب مع مسلم، وهذا أكثر، مثل قوله في حديث أبي موسى: «إنما جعل الإمام لِيُؤتَمَّ به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» فإن هذه الزيادة صحَّحها مسلم، وقبله أحمد بن حنبل وغيره، وضعفها البخاري وهذه الزيادة مطابقة للقرآن، فلو لم يرد بها حديث صحيح لوجب العمل بالقرآن، فإن في قوله: { وَإِذَا قُرِيءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } <ref>[الأعراف: 204]</ref>، أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة، وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص.
 
ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت، لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها، وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وجمهور أصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من محققي أصحابه وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
 
وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام، لا بالفاتحة ولا غيرها، لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام، كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد، وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام، وهذا مروي عن الليث والأوزاعي، وهو اختيار جدي أبي البركات.
 
ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام، وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين، وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعًا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه، فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام، وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها، وهذا خلاف إذا لم يسمع، فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرًا من كونه ساكتًا بلا فائدة، بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه، فقراءة يثاب عليها خير من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
 
والمقصود هنا التمثيل بالحديث الذي يروي في الصحيح وينازع فيه بعض العلماء، وأنه قد يكون الراجح تارة، وتارة المرجوح، ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام، وأما ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء في الأحكام، وهذا لا يكون إلا صدقا، وجمهور متون الصحيح من هذا الضرب، وعامة هذه المتون تكون مروية عن النبي {{صل}} من عدة وجوه، رواها هذا الصاحب وهذا الصاحب، من غير أن يتواطآ، ومثل هذا يوجب العلم القطعي؛ فإن المحدث إذا روي حديثا طويلا سمعه ورواه آخر ذكر أنه سمعه وقد علم أنهما لم يتواطآ على وضعه، علم أنه صدق؛ لأنه لو لم يكن صدقا لكان كذبا إما عمدًا وإما خطأ؛ فإن المحدث إذا حدث بخلاف الصدق إما أن يكون متعمدا للكذب، وإما أن يكون مخطئا غالطا. فإذا قدر أنه لم يتعمد الكذب ولم يغلط، لم يكن حديثه إلا صدقًا، والقصة الطويلة يمتنع في العادة أن يتفق الاثنان على وضعها من غير مواطأة منهما، وهذا يوجد كثيرًا في الحديث يرويه أبو هريرة وأبو سعيد، أو [[أبو هريرة]] و[[عائشة]]، أو أبو هريرة و[[ابن عمر]]، أو [[ابن عباس]]، وقد علم أن أحدهما لم يأخذه من الآخر، مثل حديث التجلي يوم القيامة الطويل؛ حدث به أبوهريرة وأبو سعيد ساكت لا ينكر منه حرفا، بل وافق أبا هريرة عليه جميعه إلا على لفظ واحد في آخره.
 
وقد يكون النبي {{صل}} حدث به في مجلس وسمعه كل واحد منهما في مجلس، فقال هذا ما سمعه منه في مجلس، وهذا ما سمعه منه في الآخر، وجميعه في حديث الزيادة، والله أعلم.
 
===فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف===
وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسي [[الترمذي]]، ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسي مراده بذلك، فذكر أن الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذا، وهو دون الصحيح الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم. وقال: الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ؛ فإنه إذا رواه المجهول خِيفَ أن يكون كاذبا أو سيئ الحفظ. فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه، واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعًا، وقد يكون بعيدًا، ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنًا نزل عن درجة الصحيح.
 
وقد أنكر بعض الناس على الترمذي هذه القسمة وقالوا: إنه يقول: حسن غريب. والغريب الذي انفرد به الواحد، والحديث قد يكون صحيحًا غريبًا كحديث «إنما الأعمال بالنيات» وحديث «نهي عن بيع الولاء وهبته» وحديث «دخل مكة وعلى رأسه المغفر» فإن هذه صحيحة متلقاة بالقبول، والأول: لا يعرف ثابتًا عن غير عمر، والثاني: لا يعرف عن غير ابنه عبد الله، والثالث: لا يعرف إلا من حديث الزهري عن أنس، ولكن هؤلاء - الذين طعنوا على الترمذي- لم يفهموا مراده في كثير مما قاله؛ فإن أهل الحديث قد يقولون: هذا الحديث غريب، أي: من هذا الوجه، وقد يصرحون بذلك فيقولون: غريب من هذا الوجه، فيكون الحديث عندهم صحيحًا معروفًا من طريق واحد، فإذا روي من طريق آخر كان غريبًا من ذلك الوجه، وإن كان المتن صحيحًا معروفًا، فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق؛ ولكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن.
 
وبعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثا ويصححه البخاري؛ كحديث [[ابن مسعود]] لما قال له النبي {{صل}}: «ابغني أحجارًا أسْتَنْفِضُ بهن» قال: فأتيته بحجرين ورَوْثَة، قال: فأخذ الحجرين وترك الرَّوْثة وقال: «إنها رجس» فإن هذا قد اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، وأما البخاري فصححه من طريق أخري؛ لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن [[سعيد بن المسيب]]، وتارة عن أبي سلمة، وتارة يجمعهما، فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط، وكلاهما صحيح. وهذا باب يطول وصفه.
 
وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي، لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نوعان:
 
ضعيف ضعفا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي.
 
وضعيف ضعفًا يوجب تركه، وهو الواهي، وهذا بمنزلة مرض المريض، قد يكون قاطعًا بصاحبه فيجعل التبرع من الثلث، وقد لا يكون قاطعًا بصاحبه، وهذا موجود في كلام الإمام أحمد وغيره؛ ولهذا يقولون: هذا فيه لين، فيه ضعف، وهذا عندهم موجود في الحديث.
 
ومن العلماء المحدثين أهل الإتقان مثل: شعبة ومالك والثوري ويحيي بن سعيد القَطَّان وعبد الرحمن بن مهدي، هم في غاية الإتقان والحفظ، بخلاف من هو دون هؤلاء، وقد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه إذًا الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به؛ فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضًا، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجارًا فساقًا، فكيف إذا كانوا علماء عدولا ولكن كثر في حديثهم الغلط؟
 
ومثل هذا عبد الله بن لَهِيعَة، فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه، فصار يحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلط كثير، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به، مثل: ابن لَهِيعة.
 
وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب، فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره، لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد.
 
ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب، ويقول: إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهي عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف، ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه بقرائن لا يمكن ضبطها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، أو تقترن به القرائن تدل على أنه كذب.
 
===فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع===
وَقَال الشّيخ رَحمَه الله:
 
فصل في أنواع الرواية وأسماء الأنواع
 
مثل: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت، وقرأت، والمشافهة والمناولة، والمكاتبة، والإجازة، والوجادة، ونحو ذلك، فنقول: الكلام في شيئين:
 
أحدهما: مما تصح الرواية به، ويثبت به الاتصال.
 
والثاني: في التعبير عن ذلك، وذلك أنواع:
 
===أن يسمع من لفظ المحدث===
أحدها: أن يسمع من لفظ المحدث سواء رآه أو لم يره، كما سمع الصحابة القرآن من رسول الله {{صل}} والحديث أيضا؛ وكما كان يقرؤه عليهم، وقرأ على أبي سورة لم يكن فإن هذا لم يفرق الناس بينهما كما فرق بعض الفقهاء في الشهادة، ثم ذلك القائل؛ تارة يقصد التحديث لذلك الشخص وحده، أو لأقوام معينين هو أحدهم، وتارة يقصد التحديث المطلق لكل من سمعه منه فيكون هو أحد السامعين، وتارة يقصد تحديث غيره فيسمع هو، ففي جميع هذه المواضع إذا قال: سمعت فلانًا يقول فقد أصاب، وإن قال: حدثنا أو حدثني - وكان المحدث قد قصد التحديث له معينًا أو مطلقًا - فقد أصاب، كما يقول الشاهد فيما أشهد عليه من الحكم والإقرار والشهادات: أشهدني وأشهدنا، وإن كان قد قصد تحديث غيره فسمع هو، فهو كما لو استرعي الشهادة غيره فسمعها، فإنه تصح الشهادة، لكن لفظ أشهدني وحدثنا فيه نظر، بل لو قال: حدث وأنا أسمع كان حسنًا، وإن لم يكن يحدث أحدًا وإنما سمعه يتكلم بالحديث، فهو يشبه الشهادة من غير استرعاء، ويشبه الشهادة على الإقرار من غير إشهاد والشهادة على الحكم، بخلاف الشهادة على الإثبات كالسمع ونحوه، فإنها تصح بدون التحميل بالاتفاق.
 
وأما الشهادة على الإخبارات؛ كالشهادات والإقرارات، ففيها نزاع ليس هذا موضعه، وباب الرواية أوسع، لكن ليس من قصد تحديث غيره بمنزلة من تكلم لنفسه؛ فإن الرجل يتكلم مع نفسه بأشياء ويسترسل في الحديث، فإذا عرف أن الغير يتحمل ذلك تحفظ؛ ولهذا كانوا لا يروون أحاديث المذاكرة بذاك.
 
وكان الإمام أحمد يذاكر بأشياء من حفظه، فإذا طلب المستمع الرواية أخرج كتابه فحدث من الكتاب. فهنا ثلاث مراتب:
 
أن يقصد استرعاءه الحديث وتحميله ليرويه عنه، وأن يقصد محادثته به لا ليرويه عنه، وألا يقصد إلا التكلم به مع نفسه.
 
===أن يقرأ على المحدث فيقر به===
والنوع الثاني: أن يقرأ على المحدث فيقر به، كما يقرأ المتعلم القرآن على المعلم، ويسميه الحجازيون العرض؛ لأن المتحمل يعرض الحديث على المحمل كعرض القراءة، وعرض ما يشهد به من الإقرار، والحكم والعقود، والشهادة على المشهود عليه: من الحاكم، والشاهد، والمقر والعاقد، وعرض ضمام بن ثعلبة على النبي {{صل}} ما جاء به رسوله فيقول نعم! وهذا عند مالك وأحمد وجمهور السلف كاللفظ.
 
ولهذا قلنا: إذا قال الخاطب للولي: أزوجت؟ فقال: نعم. وللزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. انعقد النكاح وكان ذلك صريحًا؛ فإن نعم تقوم مقام التكلم بالجملة المستفهم عنها، فإنه إذا قيل لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ والله أمركم بذلك؟ وأحدثك فلان بكذا؟ وأزوجت فلانًا بكذا؟ فقال: نعم فهو بمنزلة قوله: وجدت ما وعدني ربي، والله أمرني بكذا وكذا، وحدثني فلان بكذا وكذا، وزوجت فلانًا كذا، لكن هذا جواب الاستفهام وذاك خبر مبتدأ، ونعم كلمة مختصرة تغني عن التفصيل.
 
وقد يقول العارض: حدثك بلا استفهام بل إخبار، فيقول: نعم. ثم من أهل المدينة وغيرهم من يرجح هذا العرض؛ لما فيه من كون المتحمل ضبط الحديث، وأن المحمل يرد عليه ويصححه له، ويذكر هذا عن مالك وغيره. ومنهم من يرجح السماع. وهو يشبه قول أبي حنيفة والشافعي. ومنهم من يجيز فيه أخبرنا وحدثنا، كقول الحجازيين. ومنهم من لا يقول فيه إلا أخبرنا، كقول جماعات، وعن أحمد روايتان. ثم منهم من قال: لا فرق في اللغة وإنما فرق من فرق اصطلاحًا؛ ولهذا يقال في الشهادة المعروضة من الحكم والإقرار والعقود أشهدني بكذا، وقد يقال: الخبر في الأصل عن الأمور الباطنة، ومنه الخبرة بالأشياء، وهو العلم ببواطنها، وفلان من أهل الخبرة بكذا، والخبير بالأمور المطلع على بواطنها، ومنه الخبير. وهو الفلاح الذي يجعل باطن الأرض ظاهرًا، والأرض الخَبَارُ اللينة التي تنقلب، والمخابرة من ذلك.
 
فقول المبلغ: نعم، لم يدل بمجرد ظاهر لفظه على الكلام المعروف وإنما دل بباطن معناه، وهو أن لفظها يدل على موافقة السائل والمخبر، فإذا قال: أحدثك؟ وأنكحت؟ فقال: نعم فهو موافق لقوله: حدثني وأنكحت، وهذه الدلالة حصلت من مجموع لفظ نعم وسؤال السائل، كما أن أسماء الإشارة والمضمرات إنما تعين المشار إليه والظاهر بلفظها، ولما اقترن بذلك من الدلالة على المشار إليه والظاهر المفسر للمضمر.
 
وأحسن من ذلك أن قوله: حدثني أن فلانًا قال وأخبرني أن فلانًا قال في العرض أحسن من أن يقول: أخبرنا فلان قال: أخبرنا وحدثنا فلان قال: حدثنا، كما أن هذا هو الذي يقال في الشهادة، فيقول: أشهد أن فلان ابن فلان أقر وأنه حكم وأنه وقف، كما فرق طائفة من الحفاظ بين الإجازة وغيرها، فيقولون فيها: أنا فلان أن فلانًا حدثهم، بخلاف السماع.
 
وقد اعتقد طائفة أنه لا فرق بينهما، بل ربما رجحوا أن ؛ لأنهم زعموا فيها توكيدًا، وليس كما توهموا، فإن أن المفتوحة وما في خبرها بمنزلة المصدر، فإذا قال: حدثني أنه قال فهو في التقدير حدثني بقوله؛ ولهذا اتفق النحاة على أن إن المكسورة تكون في موضع الجمل، والمفتوحة في موضع المفردات، فقوله: { فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصلي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ } <ref>[آل عمران: 39]</ref> على قراءة الفتح في تقدير قوله: فنادته ببشارته، وهو ذكر لمعني ما نادته به وليس فيه ذكر اللفظ. ومن قرأ إن الله فقد حكي لفظه، وكذلك الفرق بين قوله أول ما أقول: أحمد الله، وأول ما أقول: إني أحمد الله.
 
وإذا كان مع الفتح هو مصدر فقولك: حدثني بقوله وبخبره لم تذكر فيه لفظ القول والخبر، وإنما عبرت عن جملة لفظه؛ فإنه قول وخبر، فهو مثل قولك: سمعت كلام فلان وخطبة فلان، لم تحك لفظها. وأما إذا قلت: قال: كذا فهو إخبار عن عين قوله؛ ولهذا لا ينبغي أن يوجب اللفظ في هذا أحد، بخلاف الأول فإنه إنما يسوغ على مذهب من يجوز الرواية بالمعني، فإذا سمعت لفظه وقلت: حدثني فلان، قال: حدثني فلان بكذا وكذا فقد أتيت باللفظ، فإنك سمعته يقول: حدثني فلان بكذا، وإذا عرضت عليه فقلت: حدثك فلان بكذا؟ فقال: نعم وقلت: حدثني أن فلانًا حدثه بكذا، فأنت صادق على المذهبين؛ لأنك ذكرت أنه حدثك بتحديث فلان إياه بكذا، والتحديث لفظ مجمل ينتظم لذلك، كما أن قوله: نعم لفظ مجمل ينتظم لذلك، فقوله: نعم تحديث لك بأنه حدثه.
 
وأما إذا قلت: حدثني قال: حدثني فأنت لم تسمعه يقول: حدثني وإنما سمعته يقول: نعم وهي معناها، لكن هذا من المعاني المتداولة. وهذا العرض إذا كان المحمل يدري ما يقرأه عليه العارض، كما يدري المقرئ، فأما إذا كان لا يدري فالسماع أجود بلا ريب، كما اتفق عليه المتأخرون؛ لغلبة الفعل على القارئ للحديث دون المقروء عليه، والتفصيل في العرض بين أن يقصد المحمل الإخبار أو لا يقصد، كما تقدم في التحديث والسماع.
 
===المناولة والمكاتبة===
النوع الثالث: المناولة، والمكاتبة: وكلاهما إنما أعطاه كتابا لا خطابا، لكن المناولة مباشرة والمكاتبة بواسطة. فالمناولة أرجح إذا اتفقا من غير هذه الجهة، مثل أن يناوله أحاديث معينة يعرفها المناول أو يكتب إليه بها، والمناولة عرض العرض فإن قوله لما معه.
 
فإما إذا كتب إليه بأحاديث معينة وناوله كتابا مجملا ترجحت المكاتبة.
 
ثم المكاتبة يكفي فيها العلم بأنه خطه، ولم ينازع في هذا من نازع في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة بالكتابة، فإنه هناك اختلف الفقهاء هل يفتقر إلى الشهادة على الكتاب؟ وإذا افتقر فهل يفتقر إلى الشهادة على نفس مافي الكتاب؟ أو تكفي الشهادة على الكتاب؟ ومن اشترط الشهادة جعل الاعتماد على الشهود الشاهدين على الحاكم الكاتب، حتى يعمل بالكتاب غير الحاكم المكتوب إليه.
 
ثم المكاتبة هي مع قصد الإخبار بما في الكتاب، ثم إن كان للمكتوب إليه، فقد صَحَّ قوله: كتب إلى أو أراني كتابه، وإن كتب إلى غيره فقرأ هو الكتاب، فهو بمنزلة أن يحدث غيره فيسمع الخطاب، ولو لم يكاتب أحدًا بل كتب بخطه، فقراءة الخط كسماع اللفظ، وهو الذي يسمونه وجادة. وقد تقدم أن المحدث لم يحدث بهذا ولم يرده، وإن كان قد قاله وكتبه، فليس كل ما يقوله المرء ويكتبه يري أن يحدث به ويخبر به غيره، أو أنه يؤخذ عنه.
 
===الإجازة===
الرابع: الإجازة: فإذا كانت لشيء معين قد عرفه المجيز، فهي كالمناولة وهي: عرض العرض؛ فإن العارض تكلم بالمعروض مفصلا، فقال الشيخ: نعم! والمستجيز قال: أجزت لي أن أحدث بما في هذا الكتاب فقال المجيز: نعم فالفرق بينهما من جهة كونه في العرض سمع الحديث كله، وهنا سمع لفظًا يدل عليه، وقد علم مضمون اللفظ برؤية مافي الكتاب ونحو ذلك، وهذه الإجازة تحديث وإخبار، وما روي عن بعض السلف المدنيين وغيرهم من أنهم كانوا يقولون: الإجازة كالسماع، وأنهم قالوا: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحد، فإنما أرادوا والله أعلم هذه الإجازة، مثل من جاء إلى مالك فقال: هذا الموطأ أجزه لي، فأجازه له.
 
فأما المطلقة في المجاز فهي شبه المطلقة في المجاز له؛ فإنه إذا قال: أجزت لك ما صح عندك من أحاديثي، صارت الرواية بذلك موقوفة على أن يعلم أن ذلك من حديثه، فإن علم ذلك من جهته استغني عن الإجازة، وإن عرف ذلك من جهة غيره، فذلك الغير هو الذي حدثه به عنه، والإجازة لم تعرفه الحديث وتفيده علمه كما عرفه ذلك السماع منه والعرض عليه؛ ولهذا لا يوجد مثل هذه في الشهادات.
 
وأما نظير المكاتبة والمناولة، فقد اختلف الفقهاء في جوازها في الشهادات، لكن قد ذكرت في غير هذا الموضع أن الرواية لها مقصودان: العلم، والسلسلة، فأما العلم فلا يحصل بالإجازة، وأما السلسلة فتحصل بها، كما أن الرجل إذا قرأ القرآن اليوم على شيخ، فهو في العلم بمنزلة من قرأه من خمسمائة سنة، وأما في السلسلة فقراءته على المقرئ القريب إلى النبي {{صل}} أعلى في السلسلة، وكذلك الأحاديث التي قد تواترت عن مالك، والثوري، وابن علية، كتواتر الموطأ عن مالك، و[[سنن أبي داود]] عنه، و[[صحيح البخاري]] عنه، لا فرق في العلم والمعرفة بين أن يكون بين البخاري وبين الإنسان واحد أو اثنان؛ لأن الكتاب متواتر عنه، فأما السلسلة فالعلو أشرف من النزول، ففائدة الإجازة المطلقة من جنس فائدة الإسناد العالي بالنسبة إلى النازل إذا لم يفد زيادة في العلم.
 
وهل هذا المقصود دين مستحب؟ هذا يتلقي من الأدلة الشرعية، وقد قال أحمد: طلب الإسناد العالي سُنَّة عمن مضى، كان أصحاب عبد الله يرحلون من الكوفة إلى المدينة ليشافهوا الصحابة، فنقول: كلما قَرُبَ الإسناد كان أيسر مؤونة وأقل كلفة وأسهل في الرواية، وإذا كان الحديث قد علمت صحته، وأن فلانا رواه، وأن ما يروي عنه لاتصال الرواية فالقرب فيها خير من البعد، فهذا فائدة الإجازة.
 
ومناط الأمر أن يفرق بين الإسناد المفيد للصحة والرواية المحصلة للعلم، وبين الإسناد المفيد للرواية والرواية المفيدة للإسناد.
 
والله أعلم.
 
===معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب===
وسئل عن معني قولهم: حديث حسن أو مرسل أو غريب، وجمع [[الترمذي]] بين الغريب والصحيح في حديث واحد؟ وهل في الحديث متواتر لفظا ومعنى؟ وهل جمهور أحاديث الصحيح تفيد اليقين أو الظن؟ وما هو شرط البخاري ومسلم، فإنهم فرقوا بين شرط البخاري ومسلم فقالوا: على شرط البخاري ومسلم؟
 
فأجاب:
 
أما المرسل من الحديث: أن يرويه من دون الصحابة ولا يذكر عمن أخذه من الصحابة ويحتمل أنه أخذه من غيرهم.
 
ثم من الناس من لا يسمي مرسلا إلا ما أرسله التابعي، ومنهم من يعد ما أرسله غير التابعي مرسلًا.
 
وكذلك ما يسقط من إسناده رجل، فمنهم من يخصه باسم المنقطع، ومنهم من يدرجه في اسم المرسل، كما أن فيهم من يسمي كل مرسل منقطعًا، وهذا كله سائغ في اللغة.
 
وأما الغريب: فهو الذي لا يعرف إلا من طريق واحد، ثم قد يكون صحيحًا كحديث: «إنما الأعمال بالنيات»، و«نهيه عن بيع الولاء وهبته»، وحديث «أنه دخل مكة وعلى رأسه المغفر»، فهذه صحاح في البخاري ومسلم، وهي غريبة عند أهل الحديث، فالأول إنما ثبت عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب، والثاني إنما يعرف من حديث عبد الله بن دينار، عن [[ابن عمر]]، والثالث إنما يعرف من رواية مالك، عن الزهري، عن أنس، ولكن أكثر الغرائب ضعيفة.
 
وأما الحسن في اصطلاح الترمذي فهو: ماروي من وجهين، وليس في رواته من هو متهم بالكذب، ولا هو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة. فهذه الشروط هي التي شرطها الترمذي في الحسن، لكن من الناس من يقول: قد سمي حسنا ماليس كذلك، مثل حديث يقول فيه: حسن غريب؛ فإنه لم يرو إلا من وجه واحد وقد سماه حسنًا، وقد أجيب عنه بأنه قد يكون غريبًا، لم يرو إلا عن تابعي واحد، لكن روي عنه من وجهين فصار حسنًا؛ لتعدد طرقه عن ذلك الشخص، وهو في أصله غريب.
 
وكذلك الصحيح الحسن الغريب قد يكون؛ لأنه روي بإسناد صحيح غريب، ثم روي عن الراوي الأصلي بطريق صحيح وطريق آخر، فيصير بذلك حسنًا مع أنه صحيح غريب؛ لأن الحسن ما تعددت طرقه وليس فيها متهم، فإن كان صحيحًا من الطريقين فهذا صحيح محض، وإن كان أحد الطريقين لم تعلم صحته فهذا حسن. وقد يكون غريب الإسناد، فلا يعرف بذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه، وهو حسن المتن؛ لأن المتن روي من وجهين؛ ولهذا يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، فيكون لمعناه شواهد تبين أن متنه حسن وإن كان إسناده غريبًا. وإذا قال مع ذلك: إنه صحيح، فيكون قد ثبت من طريق صحيح وروي من طريق حسن، فاجتمع فيه الصحة والحسن، وقد يكون غريبًا من ذلك الوجه، لا يعرف بذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه. وإن كان هو صحيحًا من ذلك الوجه فقد يكون صحيحًا غريبًا، وهذا لا شبهة فيه، وإنما الشبهة في اجتماع الحسن والغريب. وقد تقدم أنه قد يكون غريبا حسنًا، ثم صار حسنًا، وقد يكون حسنًا غريبًا كما ذكر من المعنيين.
 
وأما المتواتر: فالصواب الذي عليه الجمهور: أن المتواتر ليس له عدد محصور، بل إذا حصل العلم عن إخبار المخبرين كان الخبر متواترًا، وكذلك الذي عليه الجمهور أن العلم يختلف باختلاف حال المخبرين به، فرب عدد قليل أفاد خبرهم العلم بما يوجب صدقهم، وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم؛ ولهذا كان الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم.
 
وعلى هذا، فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث، وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم علماء الحديث علما قطعيًا أن النبي {{صل}} قاله، تارة لتواتره عندهم، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول.
 
وخبر الواحد المتلقي بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري؛ كالإسفرائيني وابن فُورَك؛ فإنه، وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن، لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد، فإن ذلك الحكم يصير قطعيًا عند الجمهور وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي؛ لأن الإجماع معصوم، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال، كذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق. وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تَحْتَفُّ بالأخبار توجب لهم العلم، ومن علم ما علموه حصل له من العلم ماحصل لهم.
 
===شرط البخاري ومسلم===
فصل
 
وأما شرط البخاري ومسلم فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، ولهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، وهما مشتركان في رجال آخرين. وهؤلاء الذين اتفقا عليهم عليهم مدار الحديث المتفق عليه. وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل، وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره ولا يروي ما انفرد به، وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح وليس الأمر كذلك؛ فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن؛ كيحيي ابن سعيد القَطَّان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري صاحب الصحيح، و[[الدارقطني]]، وغيرهم. وهذه علوم يعرفها أصحابها، والله أعلم.
 
===قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح===
وسئل:
 
ما معني قول بعض العلماء: هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح؟ وإذا كان في المسألة روايتان أو وجهان، فهل يباح للإنسان أن يقلد أحدهما؟ أم كيف الاعتماد في ذلك؟
 
فأجاب:
 
العالم قد يقول: ليس بصحيح، أي: هذا القول ضعيف في الدليل، وإن كان قد قال به بعض العلماء، والحديث الضعيف مثل الذي رواه من ليس بثقة؛ إما لسوء حفظه، وإما لعدم عدالته، وإذا كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين.
 
===الخبر ينقسم ثلاثة أقسام===
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
 
الخبر إما أن يعلم صدقه أو كذبه أو لا:
 
الأول: ما علم صدقه، وهو في غالب الأمر بانضمام القرائن إليه؛ إما رواية من لا يقتضي العقل تعمدهم وتواطؤهم على الكذب، أو احتفاف قرائن به، وهو على ضربين: أحدهما: ضروري ليس للنفس في حصوله كسب...، ومنه ما تلقته الأمة بالقبول وأجمعوا على العمل به، أو استندوا إليه في العمل؛ لأنه لو كان باطلًا اجتماعهم على الخطأ وهو ولا يضره كونه بنفسه لا يفيد العلم كالحكم المجمع عليه المستند إلى قياس واجتهاد ورأي المختلف هو في نفسه ظني فكيف ينقلب قطعيًا، ولم يعلم أن الظن والقطع من عوارض اعتقاد الناظر بحسب ما يظهر له من الأدلة، والخبر في نفسه لم يكتسب صفة.
 
الثاني: ما يعلم كذبه أو بتكذيب العقل الصريح أو الكتاب أو السنة أو الإجماع أو غير ذلك عند أقسام تلك التأويلات وهو كثير، أو بقرائن. والقرائن في البابين لا تحصل محققة إلا لذي دراية بهذا الشأن، وإلا فغيرهم جهلة به.
 
الثالث: المحتمل، وينقسم إلى مستفيض وغيره، وله درجات، فالخبر الذي رواه الصديق والفاروق لا يساوي ما رواه غيرهما من أصاغر الصحابة وقليل الصحبة.
 
===فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا===
الخطأ في الخبر يقع من الراوي؛ إما عمدًا أو سهوًا؛ ولهذا اشترط في الراوي العدالة لنأمن من تعمد الكذب، والحفظ والتيقظ لنأمن من السهو.
 
والسهو له أسباب:
 
أحدها: الاشتغال عن هذا الشأن بغيره فلا ينضبط له، ككثير من أهل الزهد والعبادة.
 
وثانيها: الخلو عن معرفة هذا الشأن.
 
وثالثها: التحديث من الحفظ، فليس كل أحد يضبط ذلك.
 
ورابعها: أن يدخل في حديثه ما ليس منه، ويزور عليه.
 
وخامسها: أن يركن إلى الطلبة، فيحدث بما يظن أنه من حديثه.
 
وسادسها: الإرسال، وربما كان الراوي له غير مرضٍ.
 
وسابعها: التحديث من كتاب؛ لإمكان اختلافه.
 
فلهذه الأسباب وغيرها، اشترط أن يكون الراوي حافظًا ضابطًا، معه من الشرائط ما يؤمن معه كذبه من حيث لا يشعر، وربما كان لا يسهو، ثم وقع له السهو في الآخر من حديثه، فسبحان من لا يزل ولا يسهو، وذلك يعرفه أرباب هذا الشأن برواية النُّظَراء والأقران، وربما كان مغفلًا واقترن بحديثه ما يصححه، كقرائن تبين أنه حفظ ما حدث به وأنه لم يخلط في الجميع.
 
===أسباب تعمد الكذب===
وتعمد الكذب له أسباب:
 
أحدها: الزندقة والإلحاد في دين الله { وَيَأْبَي اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } <ref>[التوبة: 32]</ref>
 
وثانيها: نصرة المذاهب والأهواء، وهو كثير في الأصول والفروع والوسائط.
 
وثالثها: الترغيب والترهيب لمن يظن جواز ذلك.
 
ورابعها: الأغراض الدنيوية لجمع الحطام.
 
وخامسها: حب الرياسة بالحديث الغريب.
 
===فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا===
الراوي إما أن تقبل روايته مطلقًا، أو مقيدًا، فأما المقبول إطلاقًا فلابد أن يكون مأمون الكذب بالمظنة، وشرط ذلك العدالة وخلوه عن الأغراض والعقائد الفاسدة التي يظن معها جواز الوضع، وأن يكون مأمون السهو بالحفظ والضبط والإتقان، وأما المقيد فيختلف باختلاف القرائن، ولكل حديث ذوق، ويختص بنظر ليس للآخر.
===فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان===
كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان. فرب زيادة لفظة تحيل المعنى ونقص أخرى كذلك، ومن مارس هذا الفن لم يكد يخفى عليه مواقع ذلك، ولتصحيح الحديث وتضعيفه أبواب تُدخل، وطرق تُسْلك، ومسالك تُطْرق.
 
===فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين===
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
 
وأما عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين فلفظ المتواتر يراد به معان؛ إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم، لكن من الناس من لا يسمي متواترًا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلًا بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية، وهذا قول ضعيف.
 
والصحيح ما عليه الأكثرون: أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة، وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر، يحصل العلم بمجموع ذلك، وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة.
 
وأيضا، فالخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقًا له أو عملًا بموجبه، يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معني المتواتر، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض، ويقسمون الخبر إلى: متواتر، ومشهور، وخبر واحد، وإذا كان كذلك، فأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة، تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق، وأجمعوا على صحتها، وإجماعهم معصوم من الخطأ، كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ، ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة، وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم، فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم، وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ، لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ.
 
ثم هذه الأحاديث التي أجمعوا على صحتها قد تتواتر وتستفيض عند بعضهم دون بعض، وقد يحصل العلم بصدقها لبعضهم؛ لعلمه بصفات المخبرين، وما اقترن بالخبر من القرائن التي تفيد العلم، كمن سمع خبرًا من الصديق أو الفاروق يرويه بين المهاجرين والأنصار، وقد كانوا شهدوا منه ما شهد، وهم مصدقون له في ذلك، وهم مُقِرُّون له على ذلك، وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» هو مما تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، وليس هو في أصله متواترًا، بل هو من غرائب الصحيح، لكن لما تلقوه بالقبول والتصديق صار مقطوعًا بصحته.
 
وفي السنن أحاديث تلقوها بالقبول والتصديق، كقوله {{صل}}: «لا وصية لوارث» فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول والعمل بموجبه، وهو في السنن ليس في الصحيح.
 
وأما عدد ما يحصل به التواتر، فمن الناس من جعل له عددًا محصورًا، ثم يفرق هؤلاء، فقيل: أكثر من أربعة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون، وقيل: سبعون، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل: غير ذلك. وكل هذه الأقوال باطلة؛ لتكافئها في الدعوي.
 
والصحيح الذي عليه الجمهور أن التواتر ليس له عدد محصور، والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة، كما يحصل الشبع عقيب الأكل والرِّي عند الشرب، وليس لما يشبع كل واحد ويرويه قدر معين، بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم، وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح، أو غضب، أو حزن، ونحو ذلك.
 
كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر، تارة يكون لكثرة المخبرين، وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم، وإن كانوا كفارًا. وتارة يكون لدينهم وضبطهم. فرب رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين، لا يوثق بدينهم وضبطهم، وتارة قد يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر، مع العلم بأنهما لم يتواطآ، وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك، مثل من يروي حديثا طويلًا فيه فصول ويرويه آخر لم يلقه. وتارة يحصل العلم بالخبر لمن عنده الفطنة والذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به ما ليس لمن له مثل ذلك. وتارة يحصل العلم بالخبر؛ لكونه روي بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم، ولم يكذبه أحد منهم؛ فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان، كما يمتنع تواطؤهم على الكذب.
 
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد علم أن من قيد العلم بعدد معين، وسوي بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطًا عظيمًا؛ ولهذا كان التواتر ينقسم إلى: عام، وخاص، فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة؛ كسجود السهو، ووجوب الشفعة، وحمل العاقلة العقل، ورجم الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك.
 
وإذا كان الخبر قد تواتر عند قوم دون قوم، وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم، فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه، كما يجب ذلك في نظائره، ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع، الذين أجمعوا على صحته، كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم؛ فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم؛ إذ غير العالم لا يكون له قول، وإنما القول للعالم، فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله فمن لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله، بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم.
 
وقال أيضا:
 
في الرد على بعض أئمة أهل الكلام لما تكلموا في المتأخرين من أهل الحديث وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم، ودقة علومهم فيها، فقال رحمه الله تعالى:
 
لا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول، وآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وقد رأيت من هذا عجائب، لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم، وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها، تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر، وما أحسن قول الإمام أحمد: ضعيف الحديث خير من الرأي.
 
وقد أمر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحرًا في الفنون الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلامًا، وأمثلهم اعتقادًا، ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة - سواء كانت حقًا أو باطلًا؛ إيمانًا أو كفرًا - لا تدرك إلا بذكاء وفطنة؛ فلذلك يستجهلون من لم يشركهم في عملهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان منه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } الآيات <ref>[المطففين: 29، 30]</ref>. فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم، منها ما يستفيد به الإيمان الواجب فيكون كافرًا زنديقًا، منافقًا، جاهلًا، ضالًا، مضلًا، ظلومًا، كفورًا، ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقي الملة، من الذين قال الله فيهم: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ } <ref>[الفرقان: 31]</ref>.
 
وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق ويكون مرتدًا؛ إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه، إما ردة نفاق وإما ردة كفر، وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال.
 
وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل إليهود والنصاري والمشركون يعلمون أن محمدا {{صل}} بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوي الله؛ من الملائكة والنبيين، وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة إليهود والنصاري والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك.
 
ثم تجد كثيرًا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون؛ كرؤوس القبائل مثل: الأقرع وعيينة، ونحوهم، ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليها ولكن مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قَلَّ أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة.
 
وقد ذكر [[ابن قتيبة]] عن ذلك طرفًا في أول [[مختلف الحديث]]، وقد حكى أهل المقالات بعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبو عبد الله الشهرستاني، وغيرهم.
 
وأبلغ من ذلك، أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام؛ كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، وجميع ما يأمرون به من العلوم والأعمال والأخلاق لا يكفي في النجاة من عذاب الله، فضلًا أن يكون موصلًا لنعيم الآخرة، قال الله تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي على اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } الآيتين <ref>[الأعراف: 37]</ref>، وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } إلى آخر السورة <ref>[غافر: 83: 85]</ref>، فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف، وأن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل لما رأوا بأس الله وَحَّدوا الله وتركوا الشرك فلم ينفعهم ذلك، وكذلك أخبر عن فرعون وهو كافر بالتوحيد والرسالة أنه لما أدركه الغرق: { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ } الآية <ref>[يونس: 90]</ref>. وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } الآيتين <ref>[الأعراف: 172]</ref>.
 
وهذا في القرآن في مواضع يبين أن الرسل أمروا بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شيء من المخلوقات سواه، وأن أهل السعادة هم أهل التوحيد، وأن المشركين هم أهل الشقاوة، ويبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسل مشركون، فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان، وكذلك الإيمان باليوم الآخر، فالثلاثة متلازمة؛ ولهذا يجمع بينهما في مثل قوله: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } <ref>[الأنعام: 150]</ref>
 
وأخبر في غير موضع أن الرسالة عمت جميع بني آدم، فهذه الأصول الثلاثة: توحيد الله والإيمان برسله، وباليوم الآخر أمور متلازمة؛ ولهذا قال سبحانه: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } إلى قوله: { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } <ref>[الأنعام: 112، 113]</ref>، فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين المحسن يغرون به، والغرور: التلبيس والتمويه، وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين، ثم قال: { وَلِتَصْغَى إليه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } <ref>[الأنعام: 113]</ref>، فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة أصغي إلى زخرف أعدائهم فخالف الرسل، كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فصلنَاهُ على عِلْمٍ } إلى قوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } <ref>[الأعراف: 52، 53]</ref> فأخبر أن الذين تركوا الكتاب وهو الرسالة يقولون إذا جاء تأويله وهو ما أخبر به: جاءت رسل ربنا بالحق.
 
وهذا كما قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } الآيتين <ref>[طه: 124]</ref>، أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ما ذكر. فقد تبين أن أصل السعادة والنجاة من العذاب هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح. وهذه الأمور ليست في حكمتهم، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك، والفاعلون له. ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا.
 
فتدبر هذا فإنه نافع جدًا. وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة؛ أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه.
 
والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك؛ فلو كانوا موحدين بالقول والكلام، وهو: أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لابد أن يعبدوا الله وحده، ويتخذوه إلهًا دون ما سواه، وهذا معنى قول: لا إله إلا الله فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون؟ فإذا كان ما تحصل به السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلًا كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات كما قال تعالى: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } <ref>[الروم: 7]</ref>، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
 
والقوم، وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق، فهذا القول لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة، وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن والإرادة، فالذي يؤتي فضائل علمية وإرادية - بدون هذه الأصول - بمنزلة من يؤتي قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول، وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة، وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئًا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤمن برسله واليوم الآخر.
 
ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل، وقد يتابعونهم ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فذكر فرعون، والذي حاج إبراهيم لما آتاه الله الملك، والملأ من قوم نوح وعاد، وغيرهم، وذكر قول علمائهم كقوله: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } <ref>[غافر: 83]</ref>، وقال: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } <ref>[غافر: 4]</ref>، إلى قوله: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } <ref>[غافر: 5]</ref>، إلى قوله: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ } الآية <ref>[غافر: 35]</ref> والسلطان: هو الوحي المنزل من عند الله. وقد ذكر في هذه السورة <ref>[حم غافر]</ref> من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء ومجادلتهم ما فيه عبرة، مثل قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } <ref>[غافر: 56]</ref>، ومثل قوله: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّي يُصْرَفُونَ } <ref>[غافر: 69]</ref>، إلى قوله: { ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } <ref>[غافر: 75]</ref>.
 
وكذلك في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور المكية وطائفة من السور المدنية، فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب المقاييس والأمثال لهم، وذكر قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم؛ ولهذا قال سبحانه: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } الآية <ref>[الأحقاف: 26]</ref>. فأخبر بما مكنوا فيه من أصناف الإدراكات والحركات، وأخبر أن ذلك لم يغن عنهم شيئًا حيث جحدوا بآيات الله والرسالة؛ ولهذا حدثني ابن الشيخ الفقيه الخضري عن والده شيخ الحنفية في زمنه قال: كان فقهاء بخاري يقولون في ابن سينا: { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } الآية <ref>[غافر: 21]</ref>، والقوة تَعُمُّ قوة الإدراك النظرية، وقوة الحركة العملية، وقال في الآية الأخري: { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } <ref>[غافر: 82]</ref> فأخبر بفضلهم في الكم والكيف، وأنهم أشد في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض.
 
وقد قال - سبحانه - عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } إلى قوله: { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } <ref>[الأحزاب: 66: 68]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ } <ref>[غافر: 47]</ref>، ومثل هذا في القرآن كثير، يذكر فيه قول أعداء الرسل وأفعالهم، وما أوتوه من قوي الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لما خالفوا الرسل.
 
وقد ذكر الله سبحانه ما في المنتسبين إلى اتباع الرسل من العلماء والعباد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } الآية <ref>[التوبة: 43]</ref>، و { وَيَصُدُّونَ } يستعمل لازمًا، يقال: صَدَّ صدودًا أعرض، كقوله: { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } <ref>[النساء: 61]</ref>، ويقال: صد غيره يصده، والوصفان يجتمعان فيهم. ومثل قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } الآية <ref>[النساء: 51]</ref>.
 
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي {{صل}}: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأَتْرُجَّة، طعمها طيب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها»، فبين أن في الذين يقرؤون القرآن مؤمنين ومنافقين، وإذا كان سعادة الأولين والآخرين هي اتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك، فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، والرسل عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين.
 
وخاتم الرسل {{صل}} أنزل إليه كتابًا مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، فهو الأمين على جميع الكتب، وقد بلغ أَبْيَنَ البلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، بلغ الرسالة وأدي الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، وعَبَدَ الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق وأعظمهم نعيمًا وأعلاهم درجة، أعظمهم اتباعًا له وموافقة علمًا وعملًا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
 
===فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة===
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
 
في أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء على أشياء وهي باطلة
 
منها: قولهم: أنه «نهى عن بيع وشرط» فإن هذا حديث باطل ليس في شيء من كتب المسلمين، وإنما يروي في حكاية منقطعة.
 
ومنها: قولهم: «نهى عن قَفِيزِ الطّحَّان» وهذا أيضا باطل.
 
ومنها: حديث محلل السباق إذا أدخل فرس بين فرسين، فإن هذا معروف عن [[سعيد بن المسيب]] من قوله: هكذا رواه الثقات من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن سعيد، وغلط سفيان بن حسين فرواه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعًا، وأهل العلم بالحديث يعرفون أن هذا ليس من قول النبي {{صل}}، وقد ذكر ذلك [[أبو داود]] السجستاني وغيره من أهل العلم.
 
وهم متفقون على أن سفيان بن حسين هذا يغلط فيما يرويه عن الزهري، وأنه لا يحتج بما ينفرد به، ومحلل السباق لا أصل له في الشريعة، ولم يأمر النبي {{صل}} أمته بمحلل السباق. وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح وغيره: أنهم كانوا يتسابقون بجعل ولا يدخلون بينهم محللا، والذين قالوا هذا من الفقهاء ظنوا أنه يكون قمارًا، ثم منهم من قال بالمحلل يخرج عن شبه القمار وليس الأمر كما قالوه، بل بالمحلل من... المخاطرة وفي المحلل ظلم لأنه إذا سبق أخذ؛ وإذا سبق لم يعط، وغيره إذا سبق أعطي، فدخول المحلل ظلم لا تأتي به الشريعة. والكلام على هذا مبسوط في مواضع أخر، والله أعلم.
 
===فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد===
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
 
قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملًا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم؛ ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع.
 
وإنما مرادهم بذلك: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع؛ كتلاوة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والصدقة، والعتق، والإحسان إلى الناس، وكراهة الكذب والخيانة، ونحو ذلك، فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها - فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعني: أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحًا كثيرًا، فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره، ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات، والمنامات، وكلمات السلف والعلماء، ووقائع العلماء، ونحو ذلك، مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي، لا استحباب ولا غيره، ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب، والترجية والتخويف.
 
فما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإن ذلك ينفع ولا يضر، وسواء كان في نفس الأمر حقًا أو باطلًا، فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه؛ فإن الكذب لا يفيد شيئًا، وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام، وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه، وأحمد إنما قال: إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، ومعناه: أنا نروي في ذلك بالأسانيد، وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم. وكذلك قول من قال: يعمل بها في فضائل الأعمال، إنما العمل بها العمل بما فيها من الأعمال الصالحة، مثل: التلاوة والذكر والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة.
 
ونظير هذا قول النبي {{صل}} في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو: «بَلِّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» مع قوله {{صل}} في الحديث الصحيح: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»، فإنه رَخَّصَ في الحديث عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم، فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به، ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم، فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع.
 
فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرًا وتحديدًا مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة لم يجز ذلك؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي، بخلاف ما لو روي فيه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله كان له كذا وكذا! فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين كما جاء في الحديث المعروف: «ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس».
 
فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته، وفي مثله جاء الحديث الذي رواه [[الترمذي]]: «من بَلَغه عن الله شيء فيه فضل فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك».
 
فالحاصل أن هذا الباب يروي ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب، ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي.
 
===سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث===
وسئل عن قوم اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ ومنهم من يقول: لم يثبت عن النبي {{صل}} حديث واحد بالتواتر؛ إذ التواتر نقل الجَمِّ الغفير عن الجم الغفير؟
 
فأجاب:
 
أما من أنكر تواتر حديث واحد فيقال له: التواتر نوعان: تواتر عن العامة، وتواتر عن الخاصة، وهم أهل علم الحديث. وهو أيضا قسمان: ما تواتر لفظه، وما تواتر معناه. فأحاديث الشفاعة والصراط والميزان والرؤية وفضائل الصحابة، ونحو ذلك متواتر عند أهل العلم، وهي متواترة المعني، وإن لم يتواتر لفظ بعينه، وكذلك معجزات النبي {{صل}} الخارجة من القرآن متواترة أيضا، وكذلك سجود السهو متواتر أيضا عند العلماء، وكذلك القضاء بالشفعة ونحو ذلك.
 
وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم؛ لكونهم سمعوا ما لم يسمع غيرهم، وعلموا من أحوال النبي {{صل}} ما لم يعلم غيرهم، والتواتر لا يشترط له عدد معين، بل من العلماء من ادعي أن له عددًا يحصل له به العلم من كل ما أخبر به كل مخبر. ونفوا ذلك عن الأربعة وتوقفوا فيما زاد عليها، وهذا غلط فالعلم يحصل تارة بالكثرة، وتارة بصفات المخبرين، وتارة بقرائن تقترن بأخبارهم وبأمور أخر.
 
وأيضا، فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والاثنان، إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء، ومن الناس من يسمي هذا: المستفيض. والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطأ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف؛ من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية والأشعرية، وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام كما قد بسط في موضعه.
 
===كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم===
وسئل شيخ الإسلام عن رجل سمع كتب الحديث والتفسير وإذا قرئ عليه كتاب الحلية لم يسمعه، فقيل له: لِمَ لا تسمع أخبار السلف؟ فقال: لا أسمع من كتاب أبي نعيم شيئًا. فقيل: هو إمام ثقة، شيخ المحدثين في وقته، فلِمَ لا تسمع ولا تثق بنقله؟ فقيل له: بيننا وبينك عالم الزمان وشيخ الإسلام ابن تيمية في حال أبي نعيم؟ فقال: أنا أسمع ما يقول شيخ الإسلام وأرجع إليه. فأرسل هذا السؤال من دمشق.
 
فأجاب فيه الشيخ:
 
الحمد لله رب العالمين، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني صاحب كتاب حلية الأولياء، وتاريخ أصبهان والمستخرج على البخاري ومسلم، وكتاب الطب وعمل اليوم والليلة، وفضائل الصحابة، ودلائل النبوة، وصفة الجنة، ومحجة الواثقين وغير ذلك من المصنفات من أكبر حفاظ الحديث، ومن أكثرهم تصنيفات، وممن انتفع الناس بتصانيفه، وهو أجل من أن يقال له: ثقة؛ فإن درجته فوق ذلك وكتابه كتاب الحلية من أجود الكتب المصنفة في أخبار الزهاد، والمنقول فيه أصح من المنقول في رسالة القشَيْري ومصنفات أبي عبد الرحمن السلمي شيخه، ومناقب الأبرار لابن خميس وغير ذلك، فإن أبا نعيم أعلم بالحديث وأكثر حديثا وأثبت رواية ونقلًا من هؤلاء، ولكن كتاب الزهد للإمام أحمد، و[[الزهد لابن المبارك]]، وأمثالهما أصح نقلًا من الحلية.
 
وهذه الكتب وغيرها لابد فيها من أحاديث ضعيفة وحكايات ضعيفة، بل باطلة، وفي الحلية من ذلك قطع، ولكن الذي في غيرها من هذه الكتب أكثر مما فيها؛ فإن في مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي ورسالة القشيري ومناقب الأبرار، ونحو ذلك من الحكايات الباطلة، بل ومن الأحاديث الباطلة ما لا يوجد مثله في مصنفات أبي نعيم، ولكن صفوة الصفوة لأبي الفرج [[ابن الجوزي]] نقلها من جنس نقل الحلية، والغالب على الكتابين الصحة، ومع هذا ففيهما أحاديث وحكايات باطلة، وأما الزهد للإمام أحمد، ونحوه فليس فيه من الأحاديث والحكايات الموضوعة مثل ما في هذه؛ فإنه لا يذكر في مصنفاته عمن هو معروف بالوضع، بل قد يقع فيها ما هو ضعيف بسوء حفظ ناقله، وكذلك الأحاديث المرفوعة ليس فيها ما يعرف أنه موضوع قصد الكذب فيه، كما ليس ذلك في مسنده. لكن فيه ما يعرف أنه غلط. غلط فيه رواته، ومثل هذا يوجد في غالب كتب الإسلام، فلا يسلم كتاب من الغلط إلا القرآن.
 
وأجل ما يوجد في الصحة كتاب البخاري وما فيه متن يعرف أنه غلط على الصاحب، لكن في بعض ألفاظ الحديث ما هو غلط، وقد بين البخاري في نفس صحيحه ما بين غلط ذلك الراوي، كما بين اختلاف الرواة في ثمن بعير جابر، وفيه عن بعض الصحابة ما يقال: إنه غلط، كما فيه عن [[ابن عباس]] أن رسول الله {{صل}} تزوج ميمونة وهو محرم. والمشهور عند أكثر الناس أنه تزوجها حلالًا. وفيه عن أسامة أن النبي {{صل}} لم يصل في البيت. وفيه عن بلال: أنه صلى فيه، وهذا أصح عند العلماء.
 
وأما مسلم ففيه ألفاظ عرف أنها غلط، كما فيه: «خلق الله التربة يوم السبت». وقد بَيَّنَ البخاري أن هذا غلط، وأن هذا من كلام كعب، وفيه أن النبي {{صل}} صلى الكسوف بثلاث ركعات في كل ركعة، والصواب: أنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة، وفيه أن أبا سفيان سأله التزوج بأم حبيبة، وهذا غلط.
 
وهذا من أجل فنون العلم بالحديث، يسمي: علم علل الحديث وأما كتاب حلية الأولياء فمن أجود مصنفات المتأخرين في أخبار الزهاد، وفيه من الحكايات ما لم يكن به حاجة إليه، والأحاديث المروية في أوائلها أحاديث كثيرة ضعيفة، بل موضوعة.
 
===وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن===
وسئل عمن نسخ بيده [[صحيح البخاري]] ومسلم والقرآن، وهو ناوٍ كتابة الحديث وغيره، وإذا نسخ لنفسه أو للبيع هل يؤجر؟... إلخ.
 
فأجاب:
 
وأما كتب الحديث المعروفة مثل: البخاري ومسلم، فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن، وما جمع بينهما مثل الجمع بين الصحيحين للحميدي ولعبد الحق الأشبيلي، وبعد ذلك كتب السنن، كسنن أبي داود، و[[النسائي]]، وجامع [[الترمذي]]، والمساند؛ كمسند الشافعي، ومسند الإمام أحمد.
 
وموطأ مالك فيه الأحاديث والآثار وغير ذلك، وهو من أجل الكتب، حتى قال الشافعي: ليس تحت أديم السماء بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، يعني بذلك ما صنف على طريقته، فإن المتقدمين كانوا يجمعون في الباب بين المأثور عن النبي {{صل}} والصحابة والتابعين، ولم تكن وضعت كتب الرأي التي تسمي كتب الفقه وبعد هذا جمع الحديث المسند في جمع الصحيح للبخاري ومسلم والكتب التي تحب، ويؤجر الإنسان على كتابتها، سواء كتبها لنفسه أو كتبها ليبيعها، كما قال النبي {{صل}}: «إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه، والرامي به، والممد به». فالكتابة كذلك: لينتفع به أو لينفع به غيره، كلاهما يثاب عليه.
 
===أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه===
بسم الله الرحمن الرحيم
 
رب أعن
 
أخبرنا الزين أبو محمد عبد الرحمن بن العماد أبي بكر بن زُرَيْق الحنبلي في كتابه إلى غير مرة، أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الحميد المقدسي، سماعًا في يوم السبت 24 صفر سنة 797 وكتب إلى الأشياخ الثلاثة: أبو إسحاق الحرملي، وأبو محمد البقري، وأبو العباس الرَّسلاني، قالوا: أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان [[الذهبي]] إذنًا مطلقًا، قالا: أخبرنا الشيخ الإمام العالم العلامة البارع الأوحد القدوة الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية. قال الذهبي: بقراءتي عليه في جمادى الآخرة سنة 721. قال:
 
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
 
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
_الحديث الأول_
 
أخبرنا الإمام زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة بن أحمد المقدسي، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 667، أخبرنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن كُلَيْب، قراءة عليه، أخبرنا أبو القاسم على بن أحمد بن محمد بن بَيَان الرَّزَّاز، قراءة عليه، أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البَزَّاز، أخبرنا أبو على إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصَّفَّار، حدثنا الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي، حدثني أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب، قال:
 
خرج رسول الله {{صل}} وأصحابه، فأحرمنا بالحج. قال: فلما قدمنا مكة قال: «اجعلوا حَجَّكم عمرةً»، قال: فقال الناس: يا رسول الله، قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: فقال رسول الله {{صل}}: «انظروا الذي آمركم به فافعلوا»، قال: فردوا عليه القول، فغضب، ثم انطلق حتى دخل على [[عائشة]] رضي الله عنها غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله. قال: «وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أُتَّبَعُ».
 
رواه [[النسائي]] و[[ابن ماجه]] من حديث أبي بكر بن عياش.
 
مولده في صفر سنة 575. وتوفي يوم الاثنين ثامن رجب سنة 668.
 
_الحديث الثاني_
 
أخبرنا الشيخ المسند كمال الدين أبو نصر عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر بن شِبْل ابن عبد الحارثي، قراءة عليه وأنا أسمع في يوم الجمعة سادس شعبان سنة 669 بجامع دمشق، أخبرنا الحافظ أبو محمد القاسم بن الحافظ أبي القاسم على بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر، قراءة عليه في ربيع الآخر سنة 569؟؟، أخبرنا أبو الفضائل ناصر بن محمود بن على القدسي الصائغ. وأبو القاسم نصر بن أحمد بن مقاتل السوسي، قراءة عليهما، قالا: أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن زهير المالكي، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد ابن شجاع الربعي المالكي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله القَطَّان، حدثنا خَيْثَمة، حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا عقبة بن علقمة، حدثنا سعيد بن عبدالعزيز، عن عطية بن قيس، عن عبد الله بن عمرو، قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «إني رأيت عمود الكتاب انْتُزِعَ من تحت وسادتي، فنظرت فإذا هو نور ساطع، عُمِدَ به إلى الشام. ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام».
 
مولده سنة 589. وتوفي في شعبان سنة 672.
 
_الحديث الثالث_
 
أخبر الإمام تقي الدين أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسْر التَّنُّوخِي قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 669، أخبرنا أبو طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي قراءة عليه، أخبرنا أبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي، أخبرنا أبو الحسين طاهر بن أحمد بن على بن محمود المحمودي العاني، أخبرنا أبو الفضل منصور بن نصر بن عبدالرحيم بن بنت الكَاغِدي، حدثنا أبو عمرو الحسن بن على بن الحسن العطار، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بَكِير بن الحارث القَيْسي، حدثنا وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «يدعي نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعي قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فذلك قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } <ref>[البقرة: 143]</ref>. قال: الوسط العدل».
 
مولده سنة 589. توفي في صفر سنة 672.
 
_الحديث الرابع_
 
أخبرنا الفقيه سيف الدين أبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الحنبلي قراءة عليه وأنا أسمع في يوم الجمعة عاشر شوال سنة 669، وأبو عبد الله محمد ابن عبد المنعم بن القواس، والمؤَمَّل بن محمد البالسي، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر العامري في التاريخ، وأبو العباس أحمد بن شيبان، وأبو بكر بن محمد الهروي. وأبو زكريا يحيى بن أبي منصور بن الصيرفي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن سليمان البغدادي والشمس بن الزين، والكمال عبد الرحيم، وابن العسقلاني، وزينب بنت مكي، وست العرب.
 
قال الأل وابن شيبان وزينب: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد طبرزذ.
 
وقال الباقون وابن شيبان: أخبرنا زيد بن الحسن الكندي، زاد ابن الصيرفي فقال: وأبو محمد عبد العزيز بن معالي بن غنيمة بن منينا، قراءة عليه، قالوا: أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر ابن أحمد البَرْمَكِي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي، حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي. حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني حميد عن أنس:
 
أن الرُّبيِّعَ بنت النضر عمته لَطَمَتْ جارية فكسرت سنها، فعرضوا عليهم الأرْشَ فأبوا. فطلبوا العفو فَأَبَوْا، فأتوا النبي {{صل}} فأمرهم بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله، أتكسر سن الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها -قال-: «يا أنس، كتاب الله القصاص»، فعفا القوم، فقال رسول الله {{صل}}: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأَبَّره».
 
أخرجه البخاري عن الأنصاري.
 
مولده سنة 592. وتوفي في شوال سنة 672.
 
_الحديث الخامس_
 
أخبرنا الحاج المسند أبو محمد أبو بكر بن محمد بن أبي بكر بن عبد الواسع الهروي، في رابع ربيع الأول سنة 668 والمذكورون بسندهم إلى الأنصاري، قال: حدثني حميد، عن أنس، قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا» قال: قلت: يا رسول الله، أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: «تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه»
 
أخرجه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة عن هشيم. وأخرجه [[الترمذي]] عن محمد بن حاتم عن الأنصاري كما أخرجناه وقال: حسن صحيح.
 
وأخبرنا به الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، قراءة عليه، أخبرنا أبو اليمن الكندي »فذكره«.
 
مولده سنة 594. وتوفي في رجب سنة 673.
 
_الحديث السادس_
 
أخبرنا الشيخ المسند زين الدين أبو العباس المؤمل بن محمد بن على بن محمد بن على ابن منصور بن المؤمل البالسي، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 669، والمذكورون بسندهم إلى الأنصاري، قال: حدثني سليمان التيمي، عن [[أنس بن مالك]]، قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «من كَذَبَ على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
 
رواه البخاري ومسلم بمعناه من رواية عبد العزيز بن صُهَيْب، عن أنس.
 
مولده سنة 602 وقيل ثلاث. وتوفي في رجب سنة 677.
 
_الحديث السابع_
 
أخبرنا الشيخ العدل رشيد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان العامري، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 669، والمذكورون بسندهم إلى الأنصاري، حدثني التيمي، حدثنا أنس بن مالك، قال:
 
عطَس عند النبي {{صل}} رجلان فَشَمَّتَ -أو فَسَمَّتَ - أحدهما ولم يشمت الآخر - أو فسمته ولم يسمت الآخر - فقيل: يا رسول، عطس عندك رجلان فشمت أحدهما ولم تشمت الآخر؟ - أو فسمته ولم تسمت الآخر - فقال: «إن هذا حَمِدَ الله فشمته، وإن هذا لم يحمد الله فلم أشمته».
 
رواه البخاري، عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري. ورواه مسلم، عن محمد بن عبد الله بن نُمَير، عن حفص بن غياث. كلاهما عن التيمي.
 
توفي في ذي الحجة سنة 682.
 
_الحديث الثامن_
 
أخبرنا الإمام العالم الزاهد كمال الدين أبو زكريا يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح بن رافع بن على الحراني ابن الصَّيْرَفي، قراءة عليه في شوال سنة 668 أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن بركة بن الديبقي، قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الواحد بن الحسن القزاز قراءة عليه في حادي عشرين جمادي الأولى سنة 534، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن المسلم المعدل، إملاء من لفظه باستملاء شيخنا أبي بكر الخطيب في صفر سنة 463، أخبرنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري، أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن ابن المستفاض الفِرْيابي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله {{صل}} قال:
 
«آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤْتُمِن خَانَ».
 
_الحديث التاسع_
 
أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام العالم البارع جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن سليمان بن سعيد بن سليمان البغدادي، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 668، أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، قراءة عليه، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن على بن أحمد بن المقري، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن النقور، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص سنة 390، حدثنا يحيى، حدثنا يونس، حدثنا أبو الأحْوَص، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن محمد بن عمير، عن أبي هريرة، قال:
 
«نهى رسول الله {{صل}} عن بيعتين وعن لُبستين: أن يلبس الرجل الثوب الواحد ويشتمل به يطرح أحد جانبيه على منكبه، ويحتبي في الثوب الواحد، وأن يقول: انبذ إلى ثوبك وأنبذ إليك ثوبي من غير أن يقلبا»
 
مولده سنة 585 بحران. وتوفي في شعبان سنة 670 بدمشق.
 
_الحديث العاشر_
 
أخبرنا شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن غدير بن القواس الطائي، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 675، وأبو الحسن بن البخاري، قالا: أخبرنا أبو العباس الخضر بن كامل بن سالم السروجي، قراءة عليه، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن على بن أحمد المقري.
 
وقال الفخر البخاري: أخبرنا أبو اليمن الكندي أيضا، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي، قالا: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ابن النقور، أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن هارون ابن أخي ميميي الدقاق، حدثنا عبد الله، حدثنا داود، حدثنا الوليد بن مسلم، عن أبي غسان محمد ابن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن على بن الحسين، عن سعيد بن مرجانة، عن أبي هريرة، عن النبي {{صل}} قال:
 
«من أَعْتَق رقبة أعتق الله - عز وجل- بكل عُضْوٍ منها عضوًا منه من النار، حتي فرجه بفرجه».
 
رواه البخاري، عن محمد بن عبد الرحيم، عن داود بن رشيد، ورواه مسلم، عن داود نفسه. ورواه [[الترمذي]]، عن قتيبة، عن الليث عن ابن الهاد، عن عمر بن على بن الحسين، عن سعيد بن مرجانة.
 
ولد سنة 602. وتوفي في ربيع الآخر سنة 682.
 
_الحديث الحادي عشر_
 
أخبرنا المشايخ الصلحاء المسندون أبو عبد الله محمد بن بدر بن محمد بن يعيش الجزري، وأبو العباس أحمد بن شيبان، وأبو الفضل إسماعيل بن أبي عبد الله بن العسقلاني، وزينب بنت أحمد بن كامل، قراءة عليهم، وأنا أسمع في شعبان سنة 675 بقاسيون، قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزد البغدادي، قراءة عليه، ونحن نسمع، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف، وأبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز، وأبو الفتح عبد الله بن محمد بن محمد البيضاوي، قراءة عليهم وأنا أسمع، قالوا: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن المسلم المعدل، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص، أخبرنا أبوالقاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثني عبد الله بن مطيع، حدثنا إسماعيل بن جعفر.
 
قال البغوي: وحدثني صالح بن مالك، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله. قال البغوي: وحدثني جدي، حدثنا يزيد بن هارون، كلهم عن حميد. عن أنس:
 
أن النبي {{صل}} قال: «دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت: لمن هذا القصر؟» فقالوا لشاب من قريش، فظننت أني أنا هو. فقلت: ومن هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب».
 
واللفظ لابن مطيع.
 
توفي في شعبان سنة 675.
 
_الحديث الثاني عشر_
 
أخبرنا الفقيه الإمام العالم العامل زين الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج ابن أبي طاهر بن محمد بن نصر عرف بابن السديد الأنصاري الحنفي، قراءة عليه في رجب سنة 675. أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي، قراءة عليه. وأخبرتنا زينب بنت مكي، قالت: أخبرنا أبو حفص بن طبرزذ، قالا: أخبرنا القاضي أبو بكر محمد ابن عبد الباقي بن محمد بن الأنصاري، أخبرنا أبو الحسن على بن إبراهيم بن عيسي الباقلاني، حدثنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا محمد بن موسى القرشي، حدثنا عون بن عمارة، حدثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار».
 
توفي في جمادي الأولى سنة 776، وله ثلاث وسبعون سنة.
 
_الحديث الثالث عشر_
 
أخبرنا الشيخ الإمام المقرئ الرئيس الفاضل كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن فارس التميمي السعدي، قراءة عليه وأنا أسمع في رمضان سنة 674. أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي، أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن حسنون النرسي سنة 455، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا شريح بن يونس، ومحمد بن يزيد الأدمي، وابن البزار، وهارون بن عبد الله، قالوا: حدثنا معن، عن معاوية بن صالح، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عقبة بن عامر الجهني، قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «المُسِرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة، والجَاهِرُ بالقرآن كالجاهر بالصدقة».
 
أخبرناه عاليا بدرجة، ويوافقه أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا ابن كليب، أخبرنا ابن بيان، حدثنا ابن مخلد، أخبرنا الصَّفَّار، حدثنا ابن عرفة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن بحير »فذكره«.
 
مولده سنة 596. وتوفي في صفر سنة 676.
 
_الحديث الرابع عشر_
 
أخبرنا الإمام المسند زين الدين أبو العباس أحمد بن أبي الخير سلامة بن إبراهيم بن سلامة بن الحداد الدمشقي، بقراءتي عليه، وأنا أسمع في ربيع الأول سنة 675، قلت له: أخبرك أبو سعيد خليل بن أبي الرجاء بن أبي الفتح الراراني، إجازةً، وقرئ على والدي وأنا أسمع بحران سنة 666، أخبرك يوسف بن خليل أخبرنا الراراني، أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا حميد، عن أنس قال:
 
رأي رسول الله {{صل}} حَبْلا ممدودًا بين ساريتين من سواري المسجد. قال: «ما هذا الحبل؟» قالوا: يا رسول الله فلانة تصلي ما عَقَلَتْ، فإذا غلبت أخذت به. قال: «فلتصل ما عقلت، فإذا غلبت فَلْتَنمْ».
 
مولده في ربيع الأول سنة 609، وتوفي في يوم عاشوراء سنة 678.
 
_الحديث الخامس عشر_
 
أخبرنا العدل المسند أمين الدين أبو محمد القاسم بن أبي بكر بن قاسم بن غنيمة الإربلي، وأبو بكر بن عمر بن يونس المزي الحنفي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن سليمان العامري، قراءة عليهم وأنا أسمع سنة 677.
 
قال الأول: أخبرنا أبو الحسن المؤيد، عن محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي. وقال الآخران: أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن الحرستاني، قراءة عليه، أخبرنا الفراوي إجازة، أخبرنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي، أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسي بن عمرويه الجلودي، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم ابن الحجاج القشيري، حدثنا خلف بن هشام، وأبو الربيع الزهراني، وقتيبة بن سعيد، كلهم عن حماد. قال خلف: حدثنا حماد بن زيد، عن محمد بن زياد، حدثنا [[أبو هريرة]] قال: قال محمد {{صل}} «أما يخشي الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمارٍ؟».
 
ولد الإربلي في سنة 595 أو قبلها بإربل، وتوفي في جمادي الأولى سنة 680، وولد المزي سنة 539، وتوفي في شعبان سنة 680.
 
_الحديث السادس عشر_
 
أخبرنا الشيخ الإمام العالم قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عطاء بن حسن الحنفي، قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 676، وأبو العباس بن علان، وأبوالعباس بن شيبان، قالوا: أخبرنا أبو على حنبل بن عبد الله بن الفرج الرصافي، قراءة عليه، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني، أخبرنا أبوعلي الحسن بن على بن محمد بن المذهب التميمي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أبي عبد الله أحمد ابن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه حدثني أبي أحمد بن محمد، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار سمعت [[ابن عمر]] يقول:
 
قال رسول الله {{صل}}: «مَن اقْتَنَي كلبًا إلا كلب ماشية أو كلب قَنَصٍ نقص من أجره كل يوم قيراطان».
 
مولده سنة 595 وتوفي في جمادي الأولى سنة 673.
 
_الحديث السابع عشر_
 
أخبرنا الشيخ الإمام العالم العلامة الزاهد قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، قراءة عليه وأنا أسمع في شعبان سنة 667 بقَاسْيُون، وابن شيبان وابن العسقلاني، وابن الحموي، قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين، أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، حدثنا محمد بن سلمة الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
 
كنا مع رسول الله {{صل}}، وكان القوم يصعدون عقبة أو ثَنِيَّة، فإذا صعد الرجل قال: لا إله إلا الله والله أكبر قال: أحسبه قال بأعلى صوته ورسول الله {{صل}} على بغلته يعرضها في الجبل، فقال النبي {{صل}}: «يا أبا موسى، إنكم لا تنادون أصَمَّ ولا غائبًا». ثم قال: «يا عبد الله بن قيس أو يا أبا موسى ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة!». قال: قلت: بلي يا رسول الله. قال: «قل: لا حول ولا قوة إلا بالله».
 
مولده سنة 597. وتوفي في سنة 682.
 
_الحديث الثامن عشر_
 
أخبرنا المسند الأصيل العدل مجد الدين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن عثمان بن المظفر بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، قراءة عليه، وأنا أسمع في شعبان سنة 667، أخبرنا الحافظ أبو محمد القاسم بن على بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، قراءة عليه، أخبرنا أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي التاجر مولي ابن البخاري، قراءة عليه، وأخبرتنا زينب بنت مكي، وإسماعيل بن العسقلاني، قالا: أخبرنا ابن طبرزذ، أخبرنا القاضي أبوبكر الأنصاري، وأبو بكر أحمد بن الأشقر الدلال، وأبو غالب محمد بن أحمد بن قريش، وأبو بكر أحمد بن دحروج. قالوا جميعهم: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد ابن عبد الله بن هزار مرد الصريفيني، قراءة عليه، حدثنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن ابن العباس المخلص، إملاء في شعبان سنة 393، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن البغوي، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، عن أنس، قال:
 
كان رسول الله {{صل}} يخطب يوم الجمعة إلى جانب خشبة مسندًا ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: «ابنوا لي منبرًا له عتبتان» فلما قام على المنبر يخطب حَنَّتِ الخشبة إلى رسول الله {{صل}}. قال أنس: «وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة تحِنُّ حنين الوَالِهِ، فما زالت تحن حتي نزل إليها فاحْتَضَنَهَا فسكتت».
 
وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكي، ثم قال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله شوقًا إليه لمكانه من الله عز وجل فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
 
مولده سنة 587. وتوفي في ذي القعدة سنة 699.
 
_الحديث التاسع عشر_
 
أخبرنا الشيخ الإمام الصدر الرئيس شمس الدين أبو الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم ابن علان القيسي، قراءة عليه، وأنا أسمع في سنة 680، وأبو الحسن بن البخاري، قالا: أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي، قراءة عليه، أخبرنا القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري، حدثنا أبو محمد الحسن بن على بن محمد بن الحسن الجوهري، إملاء، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «قال الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جُنَّةٌ، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقي الله عز وجل ولَخُلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
 
ولد سنة 594. وتوفي في سادس ذي الحجة سنة 680.
 
_الحديث العشرون_
 
أخبرنا الرئيس عماد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الصعر بن السيد بن الصانع الأنصاري قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 676، وأبو العز يوسف بن يعقوب بن المجاور، والمسلم بن علان، قالوا: أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي، قراءة عليه، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن زريق القزاز الشيباني، قراءة عليه، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادي، أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي، حدثنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا أبو موسى محمد بن المثني، حدثنا ابن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن [[عائشة]] - رضي الله عنها:
 
أن النبي {{صل}} لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها.
 
رواه البخاري ومسلم و[[أبو داود]] و[[الترمذي]] والنسائي عن أبي موسى.
 
توفي في رمضان سنة 679.
 
_الحديث الحادي والعشرون_
 
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن علوي بن الحسين الدرجي القرشي، قراءة عليه، وأنا أسمع في رجب سنة 680، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر بن أبي الفتح الصيدلاني، إجازة، أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الحافظ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: حدثنا عاصم، عن زر، قال:
 
أتيت صفوان بن عَسَّال المرادي، فقال لي: ما جاء بك؟ قلت: جئت ابتغاء العلم. قال: فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم؛ رضًَا بما يطلب. قلت: حَكَّ في نفسي أو صدري مسحًا على الخفين بعد الغائط والبول، فهل سمعت من رسول الله {{صل}} في ذلك شيئًا؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرًا أو مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام وليإليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط أو بول أو نوم. قلت: هل سمعته يذكر الهدي؟ قال: نعم؛ بَيْنَا نحن معه في مسير إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري فقال: يا محمد؛ فأجابه على نحو من كلامه: »هاؤم« قال: أرأيت رجلا يحب قومًا ولم يلحق بهم؟ قال: «المرء مع من أحب». ثم لم يزل يحدثنا أن من قبل المغرب بابا يفتح الله عز وجل للتوبة مسيرة عرضه أربعون سنة، ولا يُغلق حتي تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله: { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } <ref>[الأنعام: 185]</ref>
 
ولد سنة 599. وتوفي في صفر سنة 671.
 
_الحديث الثاني والعشرون_
 
أخبرنا نجيب الدين أبو المرهف المقداد بن أبي القاسم هبة الله بن المقداد بن على القيسي، قراءة عليه، وأنا أسمع، أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن الأخضر، قراءة عليه، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري. أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، أخبرنا أبو محمد بن ماسي، حدثنا أبو مسلم الكجي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني سليمان التيمي، عن أنس بن مالك، قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام» أو قال: «ثلاث ليال».
 
_الحديث الثالث والعشرون_
 
أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن عامر بن أبي بكر الغسولي، بقراءتي عليه في سنة 682، أخبرنا أبو البركات داود بن أحمد بن محمد بن ملاعب، قراءة عليه، أخبرنا أبوالفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي، قراءة عليه، أخبرنا أبو الغنائم عبد الصمد ابن على بن محمد بن المأمون، أخبرنا أبو الحسن على بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا صالح بن حاتم بن وردان، حدثنا المعتمر بن سليمان، حدثني عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عامر ابن سعد، عن أبيه، قال:
 
قلت: يا رسول الله، أعطيت فلانًا وفلانًا ومنعت فلانًا وهو مؤمن. قال: «أو مسلم».
 
توفي في جمادي الآخرة سنة 684، وقد قارب الثمانين.
 
_الحديث الرابع والعشرون_
 
أخبرنا الشيخ فخر الدين أبو الحسن على بن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور بن البخاري المقدسي، قراءة عليه، وأنا أسمع سنة 681، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر سنة 667، أخبرنا أبو المحاسن محمد ابن كامل بن أحمد التنوخي، قراءة عليه، أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل بن بشر الإسفرائيني، أخبرنا أبو القاسم الحسين بن الحسن بن محمد بن إبراهيم الحنائي، حدثنا أبو الحسن عبد الوهاب بن الوليد بن موسى بن راشد بن خالد بن يزيد بن عبد الله الكلابي من لفظه، أخبرنا أبو بكر محمد بن خريم بن مروان العقيلي، قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو الوليد هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة السلمي، حدثنا مالك بن أنس، حدثنا إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك:
 
أن رسول الله {{صل}} قال: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».
 
رواه البخاري عن القَعْنَبِي عن مالك.
 
ولد في سَلْخ سنة 595. وتوفي في ربيع الآخر سنة 690.
 
_الحديث الخامس والعشرون_
 
أخبرنا أبو العباس أحمد بن شيبان بن تغلب بن حيدرة الشيباني، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 684، أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي، قراءة عليه، أخبرنا أبوغالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء، قراءة عليه ونحن نسمع، أخبرنا أبو محمد الحسن بن على بن محمد بن الحسن بن عبد الله الجوهري، قراءة عليه في رمضان سنة 452، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، قراءة عليه وأنا حاضر أسمع، حدثنا أبو على بشر بن موسى بن صالح الأسدي، حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة قال: قال عبد الله رضي الله عنه:
 
كنا إذا صلينا خلف النبي {{صل}} قلنا: السلام على الله دون عباد الله، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وعلى فلان. فالتفت إلينا النبي {{صل}} فقال: «الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله».
 
أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم، عن ابن المثني، عن غندر، عن شعبة، عن منصور، كلاهما عن شقيق.
 
مولده سنة 599. وتوفي في صفر سنة 685.
 
_الحديث السادس والعشرون_
 
أخبرنا أبو يحيى إسماعيل بن أبي عبد الله بن حماد بن عبد الكريم العسقلاني، بقراءتي عليه في سنة 681، وأبو العباس بن شيبان، والجمال أحمد بن أبي بكر الحموي، وأبو الحسن بن البخاري، وعلي بن محمود بن شهاب، قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد ابن طبرزذ البغدادي، قراءة عليه، أخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين الشيباني، أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، أخبرنا أبو الحسن على بن الحسن بن عبدويه الجرار، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد عن أنس، قال:
 
كان رسول الله {{صل}} في طريق، ومعه أناس من أصحابه، فعرضَتْ له امرأة فقالت: يا رسول الله، لي إليك حاجة. فقال: «يا أم فلان، اجلسي في أدني نواحي السِّكَكِ حتي أجلس إليك»، ففعلت، فجلس إليها حتي قَصَّتْ حاجتها.
 
رواه أحمد عن عبد الله بن بكر.
 
سمع ابن العسقلاني في الرابعة سنة 599 وتوفي في رمضان سنة 682، ومولد ابن شهاب في سنة 595 وتوفي في رمضان سنة 680.
 
_الحديث السابع والعشرون_
 
أخبرنا الشيخ الجليل الصالح كمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الملك بن يوسف ابن قدامة المقدسي، قراءة عليه وأنا أسمع في صفر سنة 680، وأبو العباس بن شيبان، أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي، قراءة عليه، أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزار، وأبو المواهب أحمد بن محمد بن عبد الملك بن ملوك الوراق، قالا: أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، أخبرنا محمد بن أحمد بن الغطريف، حدثنا أبو خليفة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن هشام، وشعبة، عن قتادة، عن [[سعيد بن المسيب]]، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله {{صل}}: «العَائِدُ في هبته كالعائد في قَيْئِه»، متفق عليه.
 
ولد في حدود سنة 598. وتوفي في جمادي الأولى سنة 680.
 
_الحديث الثامن والعشرون_
 
أخبرنا الشيخ الثقة زين الدين أبو بكر محمد بن أبي طاهر إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن الأنماطي، قراءة عليه وأنا أسمع في رجب سنة 668، وأبو حامد بن الصابوني، والرشيد محمد بن محمد العامري، قالوا: أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني، أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل بن بشر الإسفرائيني، أخبرنا أبو الحسين محمد بن بكر بن عثمان الأزدي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن زريق بانتقاء خلف الحافظ، حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الحجاج بن رشدين المهدي، قراءة عليه، حدثنا أبو عمرو الحارث بن مسكين، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري عن سالم، عن أبيه
 
أن رسول الله {{صل}} قال: «اقتلوا الحيات وذا الطُّفْيَتَيْنِ والأبتر؛ فإنهما يَلْتَمِسَان البصر، ويُسْقِطَان الحَبَلَ».
 
وكان ابن عمر يقتل كل حية، فرآه أبو لبابة - أو زيد بن الخطاب - وهو يطارد حية فقال له: قد نهى عن دواب البيوت.
 
أخبرنا به هبة الله بن محمد الحارثي، والشيخ شمس الدين ابن أبي عمر، وأحمد بن شيبان، قالوا: أخبرنا ابن ملاعب، أخبرنا الأرموي، أخبرنا أبو القاسم ابن البسري، أخبرنا أبو أحمد الفرضي، حدثنا أبو بكر المطيري، أخبرنا بشر بن مطر، حدثنا سفيان »فذكره«
 
ولد سنة 609، وتوفي في ذي الحجة سنة 684 بالقاهرة.
 
_الحديث التاسع والعشرون_
 
أخبرنا الإمام شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد الله بن سعد المقدسي سنة 681، وأبو العباس بن شيبان، وإسماعيل بن العسقلاني، قال الأولان: أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي، وقال الآخران: أخبرنا أبو حفص بن طبرزذ. قالا: أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري، أخبرنا أبو القاسم عمر بن الحسين بن إبراهيم بن محمد الخفاف، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 447، أخبرنا أبو الفضل عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري، قراءة عليه في سنة 373، حدثنا محمد بن هارون، حدثنا محمد بن سليمان بن حبيب، حدثنا سعيد ابن راشد، عن عطاء، عن [[ابن عمر]]:
 
عن النبي {{صل}} قال: «لا يقيم إلا من أذن».
 
مولده سنة 606. وتوفي في ذي القعدة سنة 689.
 
_الحديث الثلاثون_
 
أخبرنا الأصيل المسند نجم الدين أبو العز يوسف بن يعقوب بن محمد بن على المجاور الشيباني، قراءة عليه وأنا أسمع في المحرم سنة 680، والمسلم بن علان، قالا: أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي، قراءة عليه، أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن زريق القزاز الشيباني، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن المؤدب، حدثني على بن الحسن بن المثني العنبري بأستراباد، حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر بن سعيد الجوهري البغدادي بأرجان، حدثنا الحسن بن عرفة.
قال الخطيب: وأخبرنا أبو عمر بن مهدي، وجماعة، قالوا: أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن».
 
لفظ حديث الجوهري رواه [[الترمذي]] عن ابن عرفة، وابن حُجْر. ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار. كلهم عن إسماعيل.
 
وأخبرنا عاليا أحمد بن عبد الدائم، قراءة عليه، أخبرنا أبو الفرج بن كليب، أخبرنا أبو القاسم بن بيان، أخبرنا أبو الحسن بن مخلد، أخبرنا الصفار »فذكره«.
 
مولده في سنة 601. وتوفي في ذي القعدة سنة 690.
 
_الحديث الحادي والثلاثون_
 
أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ جمال الدين أبو حامد محمد بن على بن محمود بن أحمد ابن على بن الصابوني، قراءة عليه وأنا أسمع في رمضان سنة 668، أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني، قراءة عليه، أخبرنا جمال الإسلام أبو الحسن على بن المسلم بن محمد بن علي بن الفتح السلمي سنة 526، أخبرنا أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن أبي الحديد، أخبرنا أبو الحسن على بن موسى بن الحسين، أخبرنا أبو القاسم على بن يعقوب بن إبراهيم بن أبي الصَّعْب، حدثنا أبو زُرْعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان البصري، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: سألت الزهري عن التي استعاذت من رسول الله {{صل}}، فقال: أخبرني عروة، عن [[عائشة]]:
 
أن رسول الله {{صل}} لما أتي بابنة الجَوْن، فَدَنا منها، قالت: أعوذ بالله منك. قال: «الحْقِي بأهلك» تطليقة.
 
قال أبو زُرْعَة: لم يروه من الأئمة في الحديث غير الأوزاعي.
 
مولده سنة 604. وتوفي في ذي القعدة سنة 680.
 
_الحديث الثاني والثلاثون_
 
أخبرنا الجمال أحمد بن أبي بكر بن سليمان الواعظ ابن الحموي، بقراءتي عليه وأنا أسمع في رجب سنة 680، وقراءة عليه في سنة 681 أيضا، أخبرنا أبو محمد عبد الجليل بن أبي غالب بن أبي المعالي بن مندويه، قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 610، أخبرنا أبو المحاسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن النقور البزار، قراءة عليه، أخبرنا أبوالقاسم عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن بابة، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز البغوي في سنة 315، حدثنا أبو عثمان طالوت بن عباد الصيرفي من كتابه، حدثنا فضال بن جبير، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول:
 
سمعت رسول الله {{صل}} يقول: «اكْفُلُوا لي بستٍّ أكفل لكم بالجنة: إذا حَدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يَخُنْ، وإذا وعد فلا يخلف، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم».
 
ولد في حدود سنة ستمائة، وتوفي في ذي الحجة سنة 687.
 
_الحديث الثالث والثلاثون_
 
أخبرنا الشيخ الأمين الصدوق شمس الدين أبو غالب المظفر بن عبد الصمد بن خليل الأنصاري، قراءة عليه وأنا أسمع في جمادى الآخرة سنة 684، وأبو محمد عبد الرحمن ابن أحمد بن عباس الفاقوسي وأبو عبد الله محمد بن محمد بن سليمان العامري، أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن الحرستاني، أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل بن بشر بن أحمد الإسفرائيني، أخبرنا أبو الحسين محمد بن مكي بن عثمان ابن عبد الله الأزدي المصري، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن العباس الإخْمِيمي بانتقاء عبد الغني بن سعيد، حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة، حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني طلحة بن أبي سعيد، أن سعيدًا المقبري حدثه، عن أبي هريرة:
 
عن رسول الله {{صل}} قال: «من احتبس فرسًا في سبيل الله - عز وجل - إيمانًا بالله، وتصديق موعود الله، كان شَبَعه ورِيَّه ورَوْثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة».
 
توفي في جمادي الأولى سنة 688، وعمره اثنان وثمانون سنة.
 
وتوفي الفاقوسي في شعبان سنة 682، وله خمس وسبعون سنة.
 
_الحديث الرابع والثلاثون_
 
أخبرنا الشيخ الإمام محيي الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي عصرون التميمي، بقراءتي عليه وأنا أسمع سنة 682، وأبو حامد الصابوني. قالا: أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني، أخبرنا أبو محمد طاهر ابن سهل الإسفرائيني، أخبرنا أبو الحسين محمد بن مكي الأزدي، أخبرنا القاضي أبوالحسين على بن محمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي سنة 390، حدثنا أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد القاضي، حدثنا عبد الرحمن بن جابر الكلاعي، حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي، حدثنا العلاء بن سليمان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:
 
قال رسول الله {{صل}}: «إن الله لا يقْبِض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء. فإذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأَفْتَوْا بغير علم، فضلوا وأضلوا».
 
وأخبرناه عاليا أبو الحسن ابن البخاري، أخبرنا ابن طبرزذ، أخبرنا القاضي أبو بكر، أخبرنا على بن إبراهيم الباقلاني، حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق، إملاء، حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مالك بن أنس، وحفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو »فذكره«.
 
أخرجه البخاري ومسلم من حديث هشام.
 
مولده سنة 599. وتوفي في ثالث ذي القعدة سنة 682.
 
_الحديث الخامس والثلاثون_
 
أخبرنا أقضى القضاة نفيس الدين أبو القاسم هبة الله بن محمد بن على بن جرير الحارثي الشافعي، قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 679 والشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن أبي عمر، وأحمد بن شيبان: قالوا: أخبرنا أبو البركات داود بن أحمد بن ملاعب البغدادي، قراءة عليه، أخبرنا الإمام أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 546، أخبرنا أبو القاسم على بن أحمد بن محمد بن البسري سنة 546، أخبرنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد بن أبي مسلم الفرضي، حدثنا أبوبكر محمد بن جعفر بن أحمد المطيري سنة 333، أخبرنا أبو أحمد بشر بن مطر الواسطي، بسر من رأى. حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم. عن أبيه:
 
عن النبي {{صل}} قال: «لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار في حقه».
 
توفي في صفر سنة 680 وله ثلاث وسبعون سنة.
 
_الحديث السادس والثلاثون_
 
أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الكمال عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن، وشمس الدين عبد الرحمن بن الزين أحمد بن عبد الملك المقدسيان، قراءة عليهما وأنا أسمع في سنة 681. قالا: أخبرنا الشريف أبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن عمرون البكري، قراءة عليه، أخبرنا أبو الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد بن أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا جدي أخبرنا أبو الحسين الخفاف، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي {{صل}} قال:
 
«إن الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله».
 
ولد في سنة 607. وتوفي في جمادي الأولي سنة 688.
 
_الحديث السابع والثلاثون_
 
أخبرتنا الشيخة الصالحة أم الخير ست العرب بنت يحيى بن قايماز بن عبد الله التاجية الكندية، قراءة عليها وأنا أسمع في رمضان سنة 681، وأبو العباس بن شيبان، وابن العسقلاني، وأبو الحسن بن البخاري. قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ، قراءة عليه ونحن نسمع، أخبرنا أبو غالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء، قراءة عليه وأنا أسمع سنة 524، أخبرنا أبو محمد الحسن بن على بن محمد بن الحسن الجوهري، قراءة عليه، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا محمد بن يونس بن موسى، حدثنا أبو عاصم النبيل، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم، عن عائشة:
 
أن رسول الله {{صل}} كان يغتسل من جنابة، فيأخذ حَفْنَة لشق رأسه الأيمن، ثم يأخذ حفنة لشق رأسه الأيسر.
 
أخرجه البخاري ومسلم و[[أبو داود]] والنسائي، عن أبي موسى الزمن، عن أبي عاصم.
 
ولدت في سنة 599، وتوفيت سنة 684.
 
_الحديث الثامن والثلاثون_
 
أخبرتنا الشيخة الجليلة الأصيلة أم العرب فاطمة بنت أبي القاسم على بن أبي محمد القاسم بن أبي القاسم على بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر، قراءة عليها وأنا أسمع في رمضان سنة 681، وأبو العباس بن شيبان، وست العرب بنت يحيى ابن قايماز. قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ، قراءة عليه ونحن نسمع، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن الحصين الشيباني، قراءة عليه، أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان، قراءة عليه، أخبرنا أبوإسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي النيسابوري، قراءة عليه في سنة 354، أخبرنا أبو القاسم محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قال:
 
مُطِرْنا مع رسول الله {{صل}} فَحَسِر عن رأسه حتى أصابه المطر، فقلت له: لم صنعت هذا يا رسول الله؟ قال: «إنه حديث عهد بربه عز وجل».
 
ولدت سنة 598، وتوفيت في شعبان سنة 683.
 
_الحديث التاسع والثلاثون_
 
أخبرتنا الصالحة العابدة المجتهدة أم أحمد زينب بنت مكي بن على بن كامل الحراني، وأحمد بن شيبان، وإسماعيل بن العسقلاني، وفاطمة بنت علي بن عساكر، قراءة عليهم. قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي، أخبرنا أبو غالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن البناء، أخبرنا أبو محمد الحسن بن على بن محمد الجوهري، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، قراءة عليه، حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم البصري، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت، سمعت البراء قال:
 
لما مات إبراهيم ابن رسول الله {{صل}} قال رسول الله {{صل}}: «له مرضع في الجنة».
 
رواه البخاري عن سلمان بن حرب.
 
ولدت في سنة 598. وتوفيت في شوال سنة 688.
 
_الحديث الأربعون_
 
أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد زينب بنت أحمد بن عمر بن كامل المقدسية، قراءة عليها وأنا أسمع سنة 684، وأبو عبد الله بن بدر، وأبو العباس بن شيبان، وابن العسقلاني. قالوا: أخبرنا ابن طبرزذ، أخبرنا ابن البيضاوي، والقزاز، وابن يوسف، قالوا: أخبرنا ابن المسلمة، أخبرنا المخلص، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد، حدثنا الحسن ابن إسرائيل النهرتيري، حدثنا عيسي بن يونس، عن أسامة بن زيد، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي {{صل}}، قالت:
 
كان رسول الله {{صل}} يصبح جنبًا من غير احتلام ثم يتم صومه.
 
ولدت سنة 601، وتوفيت في شوال سنة 687.
 
===بعض الأخبار الموضوعة===
سُئِل شيخ الإسلام عما يروى عن النبي {{صل}} عن الله - عز وجل - قال: «ما وسعني لا سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن».
 
فأجاب:
 
الحمد لله، هذا ما ذكروه في الإسرائيليات ليس له إسناد معروف عن النبي {{صل}}، ومعناه: وسع قلبه محبتي ومعرفتي. وما يروى: القلب بيت الرب، هذا من جنس الأول، فإن القلب بيت الإيمان بالله تعالى ومعرفته ومحبته.
 
وما يروونه: كنت كنزًا لا أعرف! فأحببت أن أعرف، فخلقت خلقًا فعرفتهم بي، فبي عرفوني، هذا ليس من كلام النبي {{صل}} ولا أعرف له إسنادًا صحيحًا ولا ضعيفًا.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «إن الله خلق العقل، فقال له: أقبل. فأقبل، ثم قال له: أدبر. فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي» هذا الحديث باطل موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
 
وما يروونه: «حب الدنيا رأس كل خطيئة»، هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي {{صل}} فليس له إسناد معروف.
 
وما يروونه: «الدنيا حظوة رجل مؤمن» هذا لا يعرف عن النبي {{صل}} ولا غيره من سلف الأمة ولا أئمتها.
 
وما يروونه: «من بورك له في شيء فليلزمه، ومن ألزم نفسه شيئًا لزمه»، الأول: يؤثر عن بعض السلف، والثاني: باطل فإن من ألزم نفسه شيئًا قد يلزمه وقد لا يلزمه، بحسب ما يأمر به الله ورسوله.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «اتخذوا مع الفقراء أيادي فإن لهم في غد دولة وأي دولة؟»، «الفقر فخري وبه أفتخر» كلاهما كذب لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المعروفة.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» هذا الحديث ضعيف، بل موضوع عند أهل العلم بالحديث، ولكن قد رواه [[الترمذي]] وغيره، ورفع هذا وهو كذب.
 
وما يروونه: أنه يقعد الفقراء يوم القيامة ويقول: «وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنكم لهوانكم علي، ولكن أردت أن أرفع قدركم في هذا اليوم، انطلقوا إلى الموقف. فمن أحسن إليكم بكسرة، أو سقاكم شربة ماء، أو كساكم خرقة انطلقوا به إلى الجنة»، قال الشيخ: الثاني كذب لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، وهو باطل خلاف الكتاب والسنة والإجماع.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: لما قدم إلى المدينة خرجن بنات النجار بالدفوف وهن يقلن:
 
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
 
إلي آخر الشعر، فقال لهن رسول الله {{صل}}: «هُزُّوا غرابيلكم بارك الله فيكم» حديث النسوة وضرب الدف في الأفراح صحيح؛ فقد كان على عهد رسول الله {{صل}}. وأما قوله: «هزوا غرابيلكم» هذا لا يعرف عنه.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}} أنه قال: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فأسكني في أحب البقاع إليك»، هذا حديث باطل كذب، وقد رواه الترمذي وغيره، بل إنه قال لمكة: «إنك أحب بلاد الله إلي». وقال «إنك لأحب البلاد إلى الله».
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «مَنْ زارني وزار أبي إبراهيم في عام دخل الجنة»، هذا كذب موضوع، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث.
 
وما يروونه عن على رضي الله عنه: أن أعرابيًا صلى ونقر صلاته فقال علي: لا تنقر صلاتك. فقال الأعرابي: يا علي، لو نقرها أبوك ما دخل النار. هذا كذب.
 
وما يروونه عن عمر: أنه قتل أباه، هذا كذب. فإن أباه مات قبل مبعث النبي {{صل}}.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين». «وكنت وآدم لا ماء ولا طين»، هذا اللفظ كذب باطل.
 
وما يروونه: «العازب فراشه من نار، مسكين رجل بلا امرأة، ومسكينة امرأة بلا رجل»، هذا ليس من كلام النبي {{صل}}.
 
ولم يثبت عن إبراهيم الخليل عليه السلام لما بني البيت صلى في كل ركن ألف ركعة؛ فأوحي الله تعالى إليه: «يا إبراهيم، ما هذا سد جوعة أو ستر عورة»، هذا كذب ظاهر، ليس هو في شيء من كتب المسلمين.
 
وما يروونه: «لا تكرهوا الفتنة، فإن فيها حصاد المنافقين»، هذا ليس معروفًا عن النبي {{صل}}.
وما يروونه: «من علم أخاه آية من كتاب الله ملك رِقَّه»، هذا كذب ليس في شيء من كتب أهل العلم.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «اطلعت على ذنوب أمتي، فلم أجد أعظم ذنبًا ممن تعلم آية ثم نسيها». إذا صح هذا الحديث فهذا عني بالنسيان التلاوة. ولفظ الحديث أنه قال: «يوجد من سيئات أمتي الرجل يؤتيه الله آية من القرآن، فينام عنها حتى ينساها» والنسيان الذي هو بمعني الإعراض عن القرآن، وترك الإيمان والعمل به، وأما إهمال درسه حتى ينسي فهو من الذنوب.
 
وما يروونه: «أن آية من القرآن خير من محمد وآل محمد». القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق، فلا يشبه بغيره. اللفظ المذكور غير مأثور.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «من علم علمًا نافعًا وأخفاه عن المسلمين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»، هذا معناه معروف في السنن عن النبي {{صل}}: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار».
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «إذا وصلتم إلى ما شجر بين أصحابي فأمسكوا، وإذا وصلتم إلى القضاء والقدر فأمسكوا» هذا مأثور بأسانيد منقطعة.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}} أنه قال لسلمان الفارسي وهو يأكل العنب: «دو، دو» يعني: عنبتين، عنبتين هذا ليس من كلام النبي {{صل}}، وهو باطل.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «مَنْ زَنَي بامرأة، فجاءت منه ببنت، فللزاني أن يتزوج
 
بابنته من الزنا» هذا يقوله من ليس من أصحاب الشافعي، وبعضهم ينقله عن الشافعي. ومن أصحاب الشافعي من أنكر ذلك عنه، وقال: إنه لم يصرح بتحليل ذلك، ولكن صرح بحل ذلك من الرضاعة إذا رضع من لبن المرأة الحامل من الزنا. وعامة العلماء؛ كأحمد وأبي حنيفة وغيرهما متفقون على تحريم ذلك. وهذا أظهر القولين في مذهب مالك.
 
وما يروونه: «أحق ما أخذتم عليه أجرة كتاب الله» نعم، ثبت ذلك أنه قال: «أحق ما أخذتم عليه أجرة كتاب الله» لكنه في حديث الرقية، وكان الجعل على عافية مريض القوم لا على التلاوة.
 
وهل يحرم اتخاذ أبراج الحمام إذا طارت من الأبراج تحط على زراعات الناس وتأكل الحب. فهل يحرم اتخاذ أبراج الحمام في القري والبلدان لهذا السبب؟ نعم، إذا كان يضر بالناس منع منه.
 
وما يروونه عن النبي {{صل}}: «من ظلم ذميًا كان الله خصمه يوم القيامة، أو كنت خصمه يوم القيامة» هذا ضعيف، لكن المعروف عنه أنه قال: «من قتل معاهدًا بغير حق لم يَرَحْ رائحةَ الجنة».
 
وما يروونه عنه: «من أسرج سراجًا في مسجد لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في المسجد ضَوْءُ ذلك السراج»، هذا لا أعرف له إسنادًا عن النبي {{صل}}.
 
===وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن===
وسئل شيخ الإسلام
 
عن قوله {{صل}} فيما يروي عن ربه عز وجل: «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» ما معنى تردد الله؟
 
فأجاب:
 
هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب. وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد.
 
والتحقيق أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس؛ وأجهلهم وأسوئهم أدبًا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله {{صل}} عن الظنون الباطلة؛ والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا. فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه، كما قيل:
 
الشيب كره وكره أن أفارقه ** فأعجب لشيء على البغضاء محبوب
 
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: «حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره» وقال تعالى: { كُتِبَ عليكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } الآية <ref>[البقرة: 216]</ref>
 
ومن هذا الباب، يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: «لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه» فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق، محبًا له، يتقرب إليه أولًا بالفرائض، وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتي بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين، بقصد اتفاق الإرادة، بحيث يحب ما يحبه محبوبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه.
 
والله سبحانه وتعالى قد قضي بالموت، فكل ما قضي به فهو يريده ولابد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده؛ وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحق من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته، كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته.
 
ثم قال بعد كلام سبق ذكره: ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان، فإن الله تعالى يبغض ذلك ويسخطه، ويكرهه وينهي عنه، وهو سبحانه قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته الكونية، وإن لم يرده بإرادة دينية، وهذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس، من أنه سبحانه هل يأمر بما لا يريده؟
 
فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات، ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده، وقالت القدرية والمعتزلة وغيرهم: إنه لا يأمر إلا بما يريده.
 
والتحقيق أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية، فالأول كقوله تعالى: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>، وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } <ref>[المائدة: 6]</ref>، وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } إلى قوله: { وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عليكم } <ref>[النساء: 26: 27]</ref>، فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا وهي الإرادة الدينية. وإليه الإشارة بقوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } <ref>[الذاريات: 56]</ref>.
 
وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى: { فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } <ref>[الأنعام: 125]</ref>، ومثل قول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والإشاءة لا يخرج عنها خير ولا شر، ولا عرف ولا نكر، وهذه الإرادة والإشاءة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي، وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لايختلفان، وهذا التقسيم الوارد في اسم الإرادة يرد مثله في اسم الأمر والكلمات، والحكم والقضاء، والكتاب والبعث، والإرسال ونحوه؛ فإن هذا كله ينقسم إلى: كوني قدري، وإلى ديني شرعي.
 
والكلمات الكونية هي: التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر، وهي التي استعان بها النبي {{صل}} في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» قال الله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } <ref>[يس: 82]</ref>.
 
وأما الدينية فهي: الكتب المنزلة التي قال فيها النبي {{صل}}: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وقال تعالى: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } <ref>[التحريم: 12]</ref>.
 
وكذلك الأمر الديني، كقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } <ref>[النساء: 58]</ref>، والكونية: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا } <ref>[يس: 82]</ref>.
 
والبعث الديني، كقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ } <ref>[الجمعة: 2]</ref>، والبعث الكوني: { بَعَثْنَا عليكم عِبَادًا لَّنَا } <ref>[الإسراء: 5]</ref>.
 
والإرسال الديني، كقوله: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } <ref>[الفتح: 28]</ref>، والكوني: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } <ref>[مريم: 83]</ref>.
 
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية، داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وهو -سبحانه- مع ذلك لم يردها إرادة دينية، ولا هي موافقة لكلماته الدينية، ولا يرضي لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، فصارت له من وجه مكروهة. ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن، فإن ذلك يكرهه؛ والكراهة مساءة المؤمن، وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه، وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به، فإنه قد ثبت في الصحيح: «أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».
 
وأما المنكرات، فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحمون بالتوبة، وإن كانت التوبة لابد أن تكون مسبوقة بمعصية؛ ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين:
 
أحدهما: أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب.
 
والثاني: أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرًا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح، وأما المعاصي التي لا يتاب منها فهي شر على صاحبها، والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من الحكمة، كما قال: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } <ref>[النمل: 88]</ref>، وقال تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } <ref>[السجدة: 7]</ref>، فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة.
 
ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع، والمقصود هنا التنبيه على أن الشيء المعين يكون محبوبًا من وجه، مكروهًا من وجه وأن هذا حقيقة التردد، وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص. والله أعلم.
 
===سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي===
سئل شيخ الإسلام عن معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله {{صل}} فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. ياعبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم. ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئًا. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله -عز وجل- ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أما قوله تعالى: «ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي» ففيه مسألتان كبيرتان، كل منهما ذات شعب وفروع:
 
إحداهما: في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفاه عن نفسه بقوله: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } <ref>[هود: 101]</ref>، وقوله: { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 49]</ref>، وقوله: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } <ref>[
 
فصلت: 46]</ref>، وقوله: { إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } <ref>[النساء: 40]</ref>، وقوله: { قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } <ref>[النساء: 77]</ref>، ونفي إرادته بقوله: { وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ } <ref>[آل عمران: 108]</ref>، وقوله: { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ } <ref>[غافر: 31]</ref>، ونفي خوف العباد له بقوله: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } <ref>[طه: 112]</ref>، فإن الناس تنازعوا في معنى هذا الظلم تنازعًا صاروا فيه بين طرفين متباعدين ووسط بينهما، وخيار الأمور أوساطها، وذلك بسبب البحث في القدر ومجامعته للشرع؛ إذ الخوض في ذلك بغير علم تام أوجب ضلال عامة الأمم؛ ولهذا نهى النبي {{صل}} أصحابه عن التنازع فيه.
 
فذهب المكذبون بالقدر القائلون: بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يرد أن يكون إلا ما أمر بأن يكون. وغلاتهم المكذبون بتقدم علم الله وكتابه بما سيكون من أفعال العباد من المعتزلة وغيرهم، إلى أن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه ومثلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثل الأعلى، بل أوجبوا عليه وحرموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم، بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا: إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالمًا له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالًا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا، إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلمًا.
 
وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرًا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خلقه لحكمة أخرى عامة أو خاصة.
 
وهذا الموضع زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المثبتين للقدر، فقالوا: ليس للظلم منه حقيقة يمكن وجودها، بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورًا ولا أن يقال: إنه هو تارك له باختياره ومشيئته. وإنما هو من باب الجمع بين الضدين، وجعل الجسم الواحد في مكانين، وقلب القديم محدثًا، والمحدث قديما، وإلا فمهما قدر في الذهن وكان وجوده ممكنًا والله قادر عليه فليس بظلم منه، سواء فعله أو لم يفعله.
 
وتلقي هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء وأهل الحديث، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن شراح الحديث ونحوهم، وفسروا هذا الحديث بما ينبني على هذا القول، وربما تعلقوا بظاهر من أقوال مأثورة، كما روينا عن إياس ابن معاوية أنه قال: ما ناظرت بعقلي كله أحدًا إلا القدرية، قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تتصرف فيما ليس لك. قلت: فلله كل شيء. وليس هذا من إياس إلا ليبين أن التصرفات الواقعة هي في ملكه، فلا يكون ظلمًا بموجب حدهم، وهذا مما لا نزاع بين أهل الإثبات فيه؛ فإنهم متفقون مع أهل الإيمان بالقدر على أن كل ما فعله الله فهو عدل.
 
وفي حديث الكرب الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله {{صل}}: «ما أصاب عبدًا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحًا». قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: «بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن»، فقد بين أن كل قضائه في عبده عدل؛ ولهذا يقال: كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. ويقال: أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك أو بعدلك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك على وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي.
 
وهذه المناظرة من إياس كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن لغيلان حين قال له غيلان: نشدتك الله! أتري الله يحب أن يعصي؟ فقال: نشدتك الله! أتري الله يعصي قسرًا؟ يعني: قهرًا. فكأنما ألقمه حجرًا فإن قوله: يحب أن يعصي لفظ فيه إجمال، وقد لا يتأتي في المناظرة تفسير المجملات خوفًا من لدد الخصم فيؤتي بالواضحات، فقال: أفتراه يعصي قسرًا؟ فإن هذا إلزام له بالعجز الذي هو لازم للقدرية، ولمن هو شر منهم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم.
 
وكذلك إياس رأي أن هذا الجواب المطابق لحدهم خاصم لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول.
 
وبالجملة، فقوله تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } <ref>[طه: 112]</ref>، قال أهل التفسير من السلف: لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم فينقص من حسناته، ولا يجوز أن يكون هذا الظلم هو شيء ممتنع غير مقدور عليه، فيكون التقدير: لا يخاف ما هو ممتنع لذاته، خارج عن الممكنات والمقدورات، فإن مثل هذا إذا لم يكن وجوده ممكنًا حتى يقولوا: إنه غير مقدور، ولو أراده كخلق المثل له فكيف يعقل وجوده؟ فضلًا أن يتصور خوفه حتى ينفي خوفه، ثم أي فائدة في نفي خوف هذا؟ وقد علم من سياق الكلام أن المقصود بيان أن هذا العامل المحسن لا يجزي على إحسانه بالظلم والهضم. فعلم أن الظلم والهضم المنفي يتعلق بالجزاء كما ذكره أهل التفسير، وأن الله لا يجزيه إلا بعمله؛ ولهذا كان الصواب الذي دلت عليه النصوص: أن الله لا يعذب في الآخرة إلا من أذنب؛ كما قال: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } <ref>[ص: 85]</ref>، فلو دخلها أحد من غير أتباعه لم تمتلئ منهم؛ ولهذا ثبت في الصحيحين في حديث تحاج الجنة والنار من حديث أبي هريرة وأنس: «أن النار لا تمتلئ ممن كان ألقي فيها حتى ينزوي بعضها إلى بعض، وتقول قط قط! بعد قولها: { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } <ref>[ق: 30]</ref> وأما الجنة فيبقي فيها فضل عمن يدخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها خلقًا آخر»..
 
ولهذا كان الصواب الذي عليه الأئمة فيمن لم يكلف في الدنيا من أطفال المشركين، ونحوهم ما صح به الحديث، وهو: أن الله أعلم بما كانوا عاملين، فلا نحكم لكل منهم بالجنة ولا لكل منهم بالنار، بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم إذا كلفوا يوم القيامة في العرصات كما جاءت بذلك الآثار.
 
وكذلك قوله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعليها وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } <ref>[فصلت: 46]</ref>، يدل الكلام على أنه لا يظلم محسنًا، فينقصه من إحسانه أو يجعله لغيره، ولا يظلم مسيئًا، فيجعل عليه سيئات غيره، بل لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. وهذا كقوله: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } <ref>[النجم: 36: 39]</ref>، فأخبر أنه ليس على أحد من وزر غيره شيء، وأنه لا يستحق إلا ما سعاه، وكلا القولين حق على ظاهره، وإن ظن بعض الناس أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ينافي الأول فليس كذلك؛ إذ ذلك النائح يعذب بنوحه لا يحمل الميت وزره، ولكن الميت يناله ألم من فعل هذا، كما يتألم الإنسان من أمور خارجة عن كسبه وإن لم يكن جزاء الكسب. والعذاب أعم من العقاب، كما قال {{صل}}: «السفر قطعة من العذاب».
 
وكذلك ظن قوم أن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحي ينافي قوله: { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } <ref>[النجم: 39]</ref>، فليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحي بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالعبادات المالية، ومن ادعي أن الآية تخالف أحدهما دون الآخر فقوله ظاهر الفساد، بل ذلك بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالدعاء والاستغفار والشفاعة، وقد بينا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلًا شرعيا يبين انتفاع الإنسان بسعي غيره؛ إذ الآية إنما نفت استحقاق السعي وملكه، وليس كل مالًا يستحقه الإنسان ولا يملكه لا يجوز أن يحسن إليه مالكه ومستحقه بما ينتفع به منه، فهذا نوع وهذا نوع، وكذلك ليس كل ما لا يملكه الإنسان لا يحصل له من جهته منفعة؛ فإن هذا كذب في الأمور الدينية والدنيوية.
 
وهذه النصوص النافية للظلم تثبت العدل في الجزاء، وأنه لا يبخس عامل عمله، وكذلك قوله فيمن عاقبهم: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ } <ref>[هود: 101]</ref>، وقوله: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } <ref>[الزخرف: 76]</ref>، بين أن عقاب المجرمين عدلًا لذنوبهم، لا لأنا ظلمناهم فعاقبناهم بغير ذنب. والحديث الذي في السنن: «لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم» يبين أن العذاب لو وقع؛ لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب.
 
وكذلك قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عليكم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ } <ref>[غافر: 30: 31]</ref>، يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلمًا؛ لاستحقاقهم ذلك، وأن الله لا يريد الظلم، والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعلم أن الله قادر على مانزه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله، وبذلك يصح قوله: «إني حرمت الظلم على نفسي»، وأن التحريم هو المنع، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته، فلا يصلح أن يقال: حرمت على نفسي أو منعت نفسي من خلق مثلي، أو جعل المخلوقات خالقة، ونحو ذلك من المحالات. وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه: إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورًا لا يكون مني. وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب، وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله، إذ هو مع كونه شبه التكرير وإيضاح الواضح ليس فيه مدح ولا ثناء، ولا ما يستفيده المستمع، فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله؛ لأنه حرمه على نفسه، وهو سبحانه منزه عن فعله مقدس عنه.
 
يبين ذلك أن ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك، كقول بعضهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كقولهم: من أشبه أباه فما ظلم. أي: فما وضع الشبه غير موضعه، ومعلوم أن الله سبحانه حكم عدل لا يضع الأشياء إلا مواضعها، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعًا لذاته، بل هو ممكن لكنه لا يفعله؛ لأنه لا يريده، بل يكرهه ويبغضه، إذ قد حرمه على نفسه.
 
وكذلك من قال: الظلم إضرار غير مستحق. فإن الله لا يعاقب أحدًا بغير حق. وكذلك من قال: هو نقص الحق وذكر أن أصله النقص كقوله: { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } <ref>[الكهف: 33]</ref>.
 
وأما من قال: هو التصرف في ملك الغير فهذا ليس بمطرد ولا منعكس، فقد يتصرف الإنسان في ملك غيره بحق ولا يكون ظالمًا، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالمًا، وظلم العبد نفسه كثير في القرآن. وكذلك من قال: فعل المأمور خلاف ما أمر به، ونحو ذلك إن سلم صحة مثل هذا الكلام فالله سبحانه قد كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، فهو لا يفعل خلاف ما كتب ولا يفعل ما حرم.
 
وليس هذا الجواب موضع بسط هذه الأمور التي نبهنا عليها فيه وإنما يشير إلى النكت، وبهذا يتبين القول المتوسط، وهو أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل: أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد والثناء؛ لأنه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه. وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب فهو - أيضا - منزه عن أفعال النقص والعيب.
 
وعلى قول الفريق الثاني ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلًا، والكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها يدل على خلاف ذلك، ولكن متكلمو أهل الإثبات لما ناظروا متكلمة النفي ألزموهم لوازم لم ينفصلوا عنها إلا بمقابلة الباطل بالباطل، وهذا مما عابه الأئمة وذموه، كما عاب الأوزاعي والزبيدي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم مقابلة القدرية بالغلو في الإثبات، وأمروا بالاعتصام بالكتاب والسنة، وكما عابوا أيضا على من قابل الجهمية نفاة الصفات بالغلو في الإثبات حتى دخل في تمثيل الخالق بالمخلوق. وقد بسطنا الكلام في هذا وهذا، وذكرنا كلام السلف والأئمة في هذا في غير هذا الموضع.
 
ولو قال قائل: هذا مبني على مسألة تحسين العقل وتقبيحه، فمن قال: العقل يعلم به حسن الأفعال وقبحها فإنه ينزه الرب عن بعض الأفعال، ومن قال: لا يعلم ذلك إلا بالسمع فإنه يجوز جميع الأفعال عليه لعدم النهي في حقه، قيل له: ليس بناء هذه على تلك بلازم، وبتقدير لزومها ففي تلك تفصيل وتحقيق قد بسطناه في موضعه، وذلك أنا فرضنا أنا نعلم بالعقل حسن بعض الأفعال وقبحها، لكن العقل لا يقول: إن الخالق كالمخلوق، حتى يكون ما جعله حسنًا لهذا أو قبيحًا له جعله حسنًا للآخر أو قبيحًا له، كما يفعل مثل ذلك القدرية؛ لما بين الرب والعبد من الفروق الكثيرة. وإن فرضنا أن حسن الأفعال وقبحها لا يعلم إلا بالشرع، فالشرع قد دل على أن الله قد نزه نفسه عن أفعال وأحكام - فلا يجوز أن يفعلها- تارة بخبره مثنيا على نفسه بأنه لا يفعلها، وتارة بخبره أنه حرمها على نفسه.
 
وهذا يبين المسألة الثانية. فنقول: الناس لهم في أفعال الله باعتبار ما يصلح منه ويجوز وما لا يجوز منه ثلاثة أقوال: طرفان ووسط.
 
فالطرف الواحد: طرف القدرية، وهم الذين حجروا عليه أن يفعل إلا ما ظنوا بعقلهم أنه الجائز له، حتى وضعوا له شريعة التعديل والتجويز، فأوجبوا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، وحرموا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، لا بمعنى أن العقل آمر له وناهٍ؛ فإن هذا لا يقوله عاقل. بل بمعنى أن تلك الأفعال مما علم بالعقل وجوبها وتحريمها، ولكن أدخلوا في ذلك المنكرات ما بنوه على بدعتهم في التكذيب بالقدر وتوابع ذلك.
 
والطرف الثاني: طرف الغلاة في الرد عليهم، وهم الذين قالوا: لا ينزه الرب عن فعل من الأفعال، ولا نعلم وجه امتناع الفعل منه إلا من جهة خبره أنه لا يفعله، المطابق لعلمه بأنه لا يفعله. وهؤلاء منعوا حقيقة ما أخبر به من أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، قال الله تعالى: { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } <ref>[ الأنعام: 54]</ref>.
 
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي {{صل}} قال: «إن الله لما قضي الخلق كتب على نفسه كتابا، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»، ولم يعلم هؤلاء أن الخبر المجرد المطابق للعلم لا يبين وجه فعله وتركه؛ إذ العلم يطابق المعلوم، فعلمه بأنه يفعل هذا وأنه لا يفعل هذا ليس فيه تعرض؛ لأنه كتب هذا على نفسه وحرم هذا على نفسه، كما لو أخبر عن كائن من كان أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا، لم يكن في هذا بيان؛ لكونه محمودًا ممدوحًا على فعل هذا وترك هذا، ولا في ذلك ما يبين قيام المقتضي لهذا والمانع من هذا؛ فإن الخبر المحض كاشف عن المخبر عنه، ليس فيه بيان ما يدعو إلى الفعل ولا إلى الترك، بخلاف قوله: { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } <ref>[الأنعام: 12]</ref>، «وحرم على نفسه الظلم» فإن التحريم مانع من الفعل، وكتابته على نفسه داعية إلى الفعل، وهذا بين واضح؛ إذ ليس المراد بذلك مجرد كتابته أنه يفعل، وهو كتابة التقدير، كما قد ثبت في الصحيح: «أنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»؛ فإنه قال: { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }، ولو أريد كتابة التقدير لكان قد كتب على نفسه الغضب، كما كتب على نفسه الرحمة؛ إذ كان المراد مجرد الخبر عما سيكون، ولكان قد حرم على نفسه كل ما لم يفعله من الإحسان كما حرم الظلم.
 
وكما أن الفرق ثابت في حقنا بين قوله: { كُتِبَ عليكم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } <ref>[البقرة: 178]</ref> وبين قوله: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } <ref>[القمر: 52]</ref>. وقوله: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } <ref>[الحديد: 22]</ref>. وقوله: «فيبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد». فهكذا الفرق أيضا ثابت في حق الله.
 
ونظير ما ذكره من كتابته على نفسه كما تقدم قوله تعالى: { وَكَانَ حَقًّا علينَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[الروم: 47]</ref>، وقول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «يامعاذ، أتدري ماحق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ماحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه ألا يعذبهم»، ومنه قوله في غير حديث: «كان حقًا على الله أن يفعل به كذا». فهذا الحق الذي عليه هو أحقه على نفسه بقوله.
 
ونظير تحريمه على نفسه وإيجابه على نفسه ما أخبر به من قسمه ليفعلن وكلمته السابقة، كقوله: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } <ref>[يونس: 19]</ref>، وقوله: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } <ref>[ص: 85]</ref>، و { لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } <ref>[إبراهيم: 13]</ref>، { فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } <ref>[آل عمران: 195]</ref>، { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهمْ } <ref>[الأعراف: 6]</ref>، ونحو ذلك من صِيَغ القسم المتضمنة معنى الإيجاب والمعني، بخلاف القسم المتضمن للخبر المحض.
 
ولهذا قال الفقهاء: اليمين إما أن توجب حقًا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا. وإذا كان معقولا في الإنسان أنه يكون آمرًا مأمورًا كقوله: { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } <ref>[يوسف: 53]</ref>، وقوله: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } <ref>[النازعات: 40]</ref>، مع أن العبد له آمر وناهٍ فوقه، والرب الذي ليس فوقه أحد لأن يتصور أن يكون هو الآمر الكاتب على نفسه الرحمة، والناهي المحرم على نفسه الظلم أولي وأحري، وكتابته على نفسه ذلك تستلزم إرادته لذلك ومحبته له ورضاه بذلك، وتحريمه الظلم على نفسه يستلزم بغضه لذلك وكراهته له، وإرادته ومحبته للفعل توجب وقوعه منه، وبغضه له وكراهته لأن يفعله يمنع وقوعه منه. فأما ما يحبه ويبغضه من أفعال عباده فذلك نوع آخر، ففرق بين فعله هو وبين ماهو مفعول مخلوق له، وليس في مخلوقه ماهو ظلم منه وإن كان بالنسبة إلى فاعله الذي هو الإنسان هو ظلم، كما أن أفعال الإنسان هي بالنسبة إليه تكون سرقة وزنا وصلاة وصوما، والله تعالى خالقها بمشيئته، وليست بالنسبة إليه كذلك؛ إذ هذه الأحكام هي للفاعل الذي قام به هذا الفعل، كما أن الصفات هي صفات للموصوف الذي قامت به لا للخالق الذي خلقها وجعلها صفات، والله - تعالى - خلق كل صانع وصنعته كما جاء ذلك في الحديث، وهو خالق كل موصوف وصفته.
 
ثم صفات المخلوقات ليست صفات له؛ كالألوان والطعوم والروائح لعدم قيام ذلك به. وكذلك حركات المخلوقات ليست حركات له ولا أفعالا له بهذا الاعتبار؛ لكونها مفعولات هو خلقها. وبهذا الفرق تزول شبه كثيرة. والأمر الذي كتبه على نفسه يستحق عليه الحمد والثناء وهو مقدس عن ترك هذا الذي لو ترك لكان تركه نقصًا، وكذلك الأمر الذي حرمه على نفسه يستحق الحمد والثناء على تركه، وهو مقدس عن فعله الذي لو كان لأوجب نقصًا.
 
وهذا كله بين - ولله الحمد - عند الذين أوتوا العلم والإيمان، وهو أيضا مستقر في قلوب عموم المؤمنين، ولكن القدرية شبهوا على الناس بشبههم، فقابلهم من قابلهم بنوع من الباطل، كالكلام الذي كان السلف والأئمة يذمونه؛ وذلك أن المعتزلة قالوا: قد حصل الاتفاق على أن الله ليس بظالم، كما دل عليه الكتاب والسنة، والظالم من فعل الظلم، كما أن العادل من فعل العدل، هذا هو المعروف عند الناس من مسمي هذا الاسم سمعًا وعقلا، قالوا: ولو كان الله خالقًا لأفعال العباد التي هي الظلم لكان ظالمًا. فعارضهم هؤلاء بأن قالوا: ليس الظالم من فعل الظلم، بل الظالم من قام به الظلم. وقال بعضهم: الظالم من اكتسب الظلم وكان منهيًا عنه. وقال بعضهم: الظالم من فعل محرما عليه أو ما نهي عنه. ومنهم من قال: من فعل الظلم لنفسه. وهؤلاء يعنون: أن يكون الناهي له والمحرم عليه غيره الذي يجب عليه طاعته؛ ولهذا كان تصور الظلم منه ممتنعًا عندهم لذاته؛ كامتناع أن يكون فوقه آمر له وناه. ويمتنع عند الطائفتين أن يعود إلى الرب من أفعاله حكم لنفسه.
 
وهؤلاء لم يمكنهم أن ينازعوا أولئك في أن العادل من فعل العدل بل سلموا ذلك لهم، وإن نازعهم بعض الناس منازعة عنادية.
 
والذي يكشف تلبيس المعتزلة أن يقال لهم: الظالم والعادل الذي يعرفه الناس، وإن كان فاعلا للظلم والعدل فذلك يأثم به أيضا، ولا يعرف الناس من يسمي ظالمًا ولم يقم به الفعل الذي به صار ظالمًا، بل لا يعرفون ظالمًا إلا من قام به الفعل الذي فعله وبه صار ظالمًا، وإن كان فعله متعلقًا بغيره وله مفعول منفصل عنه. لكن لا يعرفون الظالم إلا بأن يكون قد قام به ذلك، فكونكم أخذتم في حد الظالم أنه من فعل الظلم وعنيتم بذلك من فعله في غيره - فهذا تلبيس وإفساد للشرع والعقل واللغة، كما فعلتم في مسمي المتكلم حيث قلتم: هو من فعل الكلام ولو في غيره. وجعلتم من أحدث كلاما منفصلا عنه قائمًا بغيره متكلما وإن لم يقم به هو كلام أصلا. وهذا من أعظم البهتان والقرمطة والسَّفْسَطة.
 
ولهذا ألزمهم السلف أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات، وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق وإنما قالت الجلود: { أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } <ref>[فصلت: 12]</ref>، ولم تقل: نطق الله بذلك؛ ولهذا قال من قال من السلف كسليمان بن داود الهاشمي وغيره ما معناه: إنه على هذا يكون الكلام الذي خلق في فرعون حتى قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } <ref>[النازعات: 24]</ref>، كالكلام الذي خلق في الشجرة حتى قالت: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } <ref>[طه: 14]</ref>، فإما أن يكون فرعون محقًا، أو تكون الشجرة كفرعون. وإلى هذا المعنى يَنْحُو الاتحادية من الجهمية وينشدون:
 
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علىنا نثره ونظامه
 
وهذا يستوعب أنواع الكفر؛ ولهذا كان من الأمر البين للخاصة والعامة أن مَنْ قال: المتكلم لا يقوم به كلام أصلا - فإن حقيقة قوله أنه ليس بمتكلم؛ إذ ليس المتكلم إلا هذا؛ ولهذا كان أولوهم يقولون: ليس بمتكلم. ثم قالوا: هو متكلم بطريق المجاز، وذلك لما استقر في الفطر أن المتكلم لابد أن يقوم به كلام وإن كان مع ذلك فاعلا له، كما يقوم بالإنسان كلامه وهو كاسب له. أما أن يجعل مجرد أحداث الكلام في غيره كلاما له - فهذا هو الباطل.
 
وهكذا القول في الظلم، فَهَبْ أن الظالم من فعل الظلم فليس هو من فعله في غيره، ولم يقم به فعل أصلا، بل لابد أن يكون قد قام به فعل، وإن كان متعديا إلى غيره، فهذا جواب. ثم يقال لهم: الظلم فيه نسبة وإضافة، فهو ظلم من الظالم، بمعنى أنه عدوان وبغي منه، وهو ظلم للمظلوم، بمعنى أنه بغي واعتداء عليه. وأما من لم يكن متعدي عليه به ولا هو منه عدوان على غيره فهو في حقه ليس بظلم، لا منه ولا له.
 
والله سبحانه إذا خلق أفعال العباد فذلك من جنس خلقه لصفاتهم فهم الموصوفون بذلك، فهو سبحانه إذا جعل بعض الأشياء أسود، وبعضها أبيض، أو طويلا، أو قصيرًا، أو متحركا، أو ساكنًا. أو عالمًا، أو جاهلا، أو قادرًا، أو عاجزًا، أو حيًا، أو ميتًا. أو مؤمنًا أو كافرًا، أو سعيدًا، أو شقيًا، أو ظالمًا. أو مظلومًا كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض والأسود، والطويل والقصير، والحي والميت، والظالم والمظلوم، ونحو ذلك. والله سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظلم من شخص وظلم لآخر بمنزلة إحداثه الأكل والشرب الذي هو أكل من شخص وأكل لآخر، وليس هو بذلك آكلا ولا مأكولا.
 
ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازمها ومتعديها حكم بالغة، كما له حكمة بالغة في خلق صفاتهم وسائر المخلوقات، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك. وقد ظهر بهذين الوجهين تَدْليس القدرية.
 
وأما تلك الحدود التي عورضوا بها فهي دعاوي ومخالفة أيضا للمعلوم من الشرع واللغة والعقل، أو مشتملة على نوع من الإجمال، فإن قول القائل: الظالم من قام به الظلم يقتضي أنه لابد أن يقوم به، لكن يقال له: وإن لم يكن فاعلا له آمرًا له لابد أن يكون فاعلا له مع ذلك، فإن أراد الأول كان اقتصاره على تفسير الظالم بمن قام به الظلم كاقتصار أولئك على تفسير الظالم في فعل الظلم، والذي يعرفه الناس عامهم وخاصهم أن الظالم فاعل للظلم وظلمه فعل قائم به، وكل من الفريقين جحد بعض الحق.
 
وأما قولهم: من فعل محرما عليه أو منهيًا عنه ونحو ذلك، فالإطلاق صحيح. لكن يقال: قد دل الكتاب والسنة على أن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين، وكان حقًا عليه أن يجزي المطيعين، وأنه حرم الظلم على نفسه، فهو سبحانه الذي حرم بنفسه على نفسه الظلم، كما أنه هو الذي كتب بنفسه على نفسه الرحمة لا يمكن أن يكون غيره محرما عليه أو موجبا عليه، فضلا عن أن يعلم ذلك بعقل أو غيره، وإذا كان كذلك فهذا الظلم الذي حرمه على نفسه هو ظلم بلا ريب، وهو أمر ممكن مقدور عليه، وهو سبحانه يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره؛ لأنه عادل ليس بظالم، كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين، وكما يترك أن يحمل البريء ذنوب المعتدين.
 
===فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا===
قوله: «وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا» ينبغي أن يعرف أن هذا الحديث شريف القدر، عظيم المنزلة؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام، وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جَثَا على ركبتيه. وراويه أبو ذر الذي ما أَظَلَّتِ الخضراء ولا أَقَلَّتِ الغبراء أصدق لهجة منه، وهو من الأحاديث الإلهية التي رواها الرسول {{صل}} عن ربه، وأخبر أنها من كلام الله تعالى وإن لم تكن قرآنًا.
 
وقد جمع في هذا الباب زاهر الشحامي وعبد الغني المقدسي وأبو عبد الله المقدسي وغيرهم.
 
وهذا الحديث قد تضمن من قواعد الدين العظيمة في العلوم والأعمال والأصول والفروع؛ فإن تلك الجملة الأولي وهي قوله: «حرمت الظلم على نفسي» يتضمن جل مسائل الصفات والقدر إذا أعطيت حقها من التفسير، وإنما ذكرنا فيها ما لابد من التنبيه عليه من أوائل النكت الجامعة.
 
وأما هذه الجملة الثانية وهي قوله: «وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا» فإنها تجمع الدين كله؛ فإن ما نهي الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل؛ ولهذا قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } <ref>[الحديد: 25]</ref> فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان؛ لأجل قيام الناس بالقسط. وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي والسيف ينصر، وكفي بربك هاديا ونصيرًا.
 
ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء والعلماء. وقالوا في قوله تعالى: { أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } <ref>[النساء: 59]</ref>، أقوالا تجمع العلماء والأمراء؛ ولهذا نص الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية؛ إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة الله، وكان نواب رسول الله {{صل}} في حياته؛ كعلي، ومعاذ، وأبي موسي، وعتاب بن أسيد، وعثمان بن أبي العاص، وأمثالهم، يجمعون الصنفين. وكذلك خلفاؤه من بعده؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ونوابهم.
 
ولهذا كانت السنة أن الذي يصلي بالناس صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحديد. إلى أن تفرق الأمر بعد ذلك، فإذا تفرق صار كل من قام بأمر الحرب من جهاد الكفار وعقوبات الفجار يجب أن يطاع فيما يأمر به من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام بجمع الأموال وقسمها يجب أن يطاع فيما يأمر به من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام بالكتاب بتبليغ أخباره وأوامره وبيانها يجب أن يصدق ويطاع فيما أخبر به من الصدق في ذلك، وفيما يأمر به من طاعة الله في ذلك.
 
والمقصود هنا أن المقصود بذلك كله هو أن يقوم الناس بالقسط؛ ولهذا لما كان المشركون يحرمون أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ويأمرون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، أنزل الله في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما يذمهم على ذلك، وذكر ما أمر به هو وما حرمه هو فقال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } <ref>[الأعراف: 29]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ على اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 33]</ref>.
 
وهذه الآية تجمع أنواع المحرمات كما قد بيناه في غير هذا الموضع. وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات كما بيناه أيضا، وقوله: { أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } <ref>[الأعراف: 29]</ref>، أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا أصل الدين، وضده هو الذنب الذي لا يغفر، قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } <ref>[النساء: 48]</ref>، وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل، وأرسلهم به إلى جميع الأمم، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } <ref>[الأنبياء: 25]</ref>، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } <ref>[الزخرف: 45]</ref> وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } <ref>[النحل: 36]</ref>، وقال تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } <ref>[الشورى: 13]</ref>، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } <ref>[المؤمنون: 51، 52]</ref>.
 
ولهذا ترجم البخاري في صحيحه باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد وذكر الحديث الصحيح في ذلك، وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين. قال نوح عليه السلام: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } <ref>[يونس: 72]</ref> وقال تعالى في قصة إبراهيم: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } <ref>[البقرة: 131، 132]</ref>، { وَقَالَ مُوسَي يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعليه تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } <ref>[يونس: 84]</ref>، وقال تعالى: { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } <ref>[آل عمران: 52]</ref>. وقال في قصة بلقيس: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } <ref>[النمل: 44]</ref>، وقال: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } <ref>[المائدة: 44]</ref>.
 
وهذا التوحيد - الذي هو أصل الدين-هو أعظم العدل، وضده وهو الشرك أعظم الظلم، كما أخرجا في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } <ref>[الأنعام: 82]</ref>، شق ذلك على أصحاب النبي {{صل}}، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال: «ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم»؟. وفي الصحيحين عن [[ابن مسعود]] قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدّا وهو خلقك» قلت: ثم أي؟ قال: «ثم أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَم معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تُزَاني بحليلة جارك». فأنزل الله تصديق ذلك: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } الآية <ref>[الفرقان: 68]</ref>.
 
وقد جاء عن غير واحد من السلف، وروي مرفوعًا «الظلم ثلاثة دواوين: فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا؛ فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا فهو الشرك؛ فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فهو ظلم العباد بعضهم بعضًا؛ فإن الله لابد أن ينصف المظلوم من الظالم. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه» أي: مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق؛ فإن شاء عذب هذا الظالم لنفسه وإن شاء غفر له.
 
وقد بسطنا الكلام في هذه الأبواب الشريفة والأصول الجامعة في القواعد، وبينا أنواع الظلم، وبينا كيف كان الشرك أعظم أنواع الظلم، ومسمي الشرك جليله ودقيقه؛ فقد جاء في الحديث: «الشرك في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل». وروي أن هذه الآية نزلت في أهل الرياء { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>، وكان شداد بن أوس يقول: يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قال [[أبو داود]] السجستاني صاحب السنن المشهورة: الخفية حب الرياسة. وذلك أن حب الرياسة هو أصل البغي والظلم، كما أن الرياء هو من جنس الشرك أو مبدأ الشرك.
 
والشرك أعظم الفساد كما أن التوحيد أعظم الصلاح؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } <ref>[القصص: 4]</ref>، إلى أن ختم السورة بقوله: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } <ref>[القصص: 83]</ref>، وقال: { وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } <ref>[الإسراء: 4]</ref>، وقال: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } <ref>[المائدة: 32]</ref>، وقالت الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } <ref>[البقرة: 30]</ref>.
 
فأصل الصلاح: التوحيد والإيمان، وأصل الفساد: الشرك والكفر. كما قال عن المنافقين: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } <ref>[البقرة: 11، 12]</ref>، وذلك أن صلاح كل شيء أن يكون بحيث يحصل له وبه المقصود الذي يراد منه؛ ولهذا يقول الفقهاء: العقد الصحيح ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده. والفاسد ما لم يترتب عليه أثره ولم يحصل به مقصود، والصحيح المقابل للفاسد في اصطلاحهم هو الصالح.
 
وكان يكثر في كلام السلف: هذا لا يصلح أو يصلح، كما كثر في كلام المتأخرين يصح ولا يصح، والله تعالى إنما خلق الإنسان لعبادته، وبدنه تَبَعٌُ لقلبه، كما قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد. وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب» وصلاح القلب: في أن يحصل له وبه المقصود الذي خلق له من معرفة الله ومحبته وتعظيمه، وفساده في ضد ذلك. فلا صلاح للقلوب بدون ذلك قط.
 
والقلب له قوتان: العلم، والقصد. كما أن للبدن الحس، والحركة الإرادية، فكما أنه متي خرجت قوي الحس والحركة عن الحال الفطري الطبيعي فَسَدت. فإذا خرج القلب عن الحال الفطرية التي يولد عليها كل مولود وهي أن يكون مقرًا لربه، مريدًا له، فيكون هو منتهي قصده وإرادته وذلك هي العبادة؛ إذ العبادة: كمال الحب بكمال الذل، فمتي لم تكن حركة القلب ووجهه وإرادته لله تعالى كان فاسدًا؛ إما بأن يكون معرضًا عن الله وعن ذكره غافلًا عن ذلك مع تكذيب أو بدون تكذيب، أو بأن يكون له ذكر وشعور، ولكن قصده وإرادته غيره؛ لكون الذكر ضعيفًا لم يجتذب القلب إلى إرادة الله ومحبته وعبادته. وإلا فمتي قوي علم القلب وذكره أوجب قصده وعلمه، قال تعالى: { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّي عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } <ref>[النجم: 29، 30]</ref>، فأمر نبيه بأن يعرض عمن كان معرضًا عن ذكر الله، ولم يكن له مراد إلا ما يكون في الدنيا.
 
وهذه حال من فسد قلبه، ولم يذكر ربه، ولم ينب إليه، فيريد وجهه ويخلص له الدين. ثم قال: { ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } <ref>[النجم: 30]</ref> فأخبر أنهم لم يحصل لهم علم فوق ما يكون في الدنيا، فهي أكبر همهم ومبلغ علمهم. وأما المؤمن فأكبر همه هو الله، وإليه انتهي علمه وذكره. وهذا الآن باب واسع عظيم قد تكلمنا عليه في مواضعه.
 
وإذا كان التوحيد أصل صلاح الناس، والإشراك أصل فسادهم، والقسط مقرون بالتوحيد؛ إذ التوحيد أصل العدل، وإرادة العلو مقرونة بالفساد؛ إذ هو أصل الظلم -فهذا مع هذا وهذا مع هذا كالملزوزين في قرن، فالتوحيد وما يتبعه من الحسنات هو صلاح وعدل؛ ولهذا كان الرجل الصالح هو القائم بالواجبات، وهو البر، وهو العدل. والذنوب التي فيها تفريط أو عدوان في حقوق الله تعالى وحقوق عباده هي فساد وظلم؛ ولهذا سمي قطاع الطريق مفسدين، وكانت عقوبتهم حقًا لله -تعالى- لاجتماع الوصفين، والذي يريد العلو على غيره من أبناء جنسه هو ظالم له باغ؛ إذ ليس كونك عاليا عليه بأولى من كونه عاليا عليك، وكلاكما من جنس واحد. فالقسط والعدل أن يكونوا إخوة كما وصف الله المؤمنين بذلك.
 
والتوحيد، وإن كان أصل الصلاح، فهو أعظم العدل؛ ولهذا قال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبابا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } <ref>[آل عمران: 64]</ref> ؛ ولهذا كان تخصيصه بالذكر في مثل قوله: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } <ref>[الأعراف: 29]</ref>، لا يمنع أن يكون داخلا في القسط، كما أن ذكر العمل الصالح بعد الإيمان لا يمنع أن يكون داخلا في الإيمان، كما في قوله: { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } <ref>[البقرة: 98]</ref>، و { مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ } <ref>[الأحزاب: 7]</ref>، هذا إذا قيل: إن اسم الإيمان يتناوله. سواء قيل: إنه في مثل هذا يكون داخلًا في الأول، فيكون مذكورًا مرتين، أو قيل: بل عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلًا فيه هنا وإن كان داخلًا فيه منفردًا، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين، وأمثال ذلك مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران. لكن المقصود أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل، وكل شر فهو داخل في الظلم.
 
ولهذا كان العدل أمرًا واجبًا في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرمًا في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا أو كان ظالمًا، بل الظلم إنما يباح، أو يجب فيه العدل عليه أيضا، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ } <ref>[المائدة: 8]</ref> أي: لا يحملنكم شنآن، أي: بغض قوم وهم الكفار على عدم العدل { قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي } <ref>[المائدة: 8]</ref>، وقال تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَي عليكُمْ فَاعْتَدُواْ عليه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عليكُمْ } <ref>[البقرة: 194]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } <ref>[النحل: 126]</ref>، وقال تعالى: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } <ref>[الشورى: 40]</ref>.
 
وقد دل على هذا قوله في الحديث: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» فإن هذا خطاب لجميع العباد ألا يظلم أحد أَحَدًا، وأمر العالم في الشريعة مَبنْي على هذا، وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب، والأعراض؛ ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك، ومقابلة العَادي بمثل فعله. لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرًا أو متعسرًا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان، ويقال: هذا أمثل، وهذا أشبه. وهذه الطريقة المثلي لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر إذ ذاك معجوز عنه؛ ولهذا قال تعالى: { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } <ref>[الأنعام: 152]</ref>، فذكر أنه لم يكلف نفسًا إلا وسعها حين أمر بِتَوْفِية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لابد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات، وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه، فقال تعالى: { لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } <ref>[الأنعام: 152]</ref>.
 
ولهذا كان القصاص مشروعًا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف، كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عَظْم. وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل، فإذا كان الجَنْفُ واقعًا في الاستيفاء عُدِل إلى بدله وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه، وهذه حجة من رأي من الفقهاء أنه لا قَوَدَ إلا بالسيف في العنق. قال: لأن القتل بغير السيف، وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة، بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط، ونحو ذلك أشد إيلاما. لكن الذين قالوا: يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل، فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل. وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
 
وأما إذا قطع يديه ورجليه، ثم وسطه، فقوبل ذلك بضرب عنقه بالسيف، أو رَضّ رأسه بين حجرين فضرب بالسيف، فهنا قد تيقنا عدم المعادلة والمماثلة. وكنا قد فعلنا ما تيقنا انتفاء المماثلة فيه، وأنه يتعذر معه وجودها، بخلاف الأول فإن المماثلة قد تقع؛ إذ التفاوت فيه غير متيقن.
 
وكذلك القصاص في الضربة واللطمة، ونحو ذلك، عدل عنه طائفة من الفقهاء إلى التعزير؛ لعدم إمكان المماثلة فيه. والذي عليه الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة، وهو مَنْصُوص أحمد: ما جاءت به سنة رسول الله {{صل}} من ثبوت القصاص به؛ لأن ذلك أقرب إلى العدل والمماثلة. فإنا إذا تحرينا أن نفعل به من جنس فعله ونقرب القدر من القدر كان هذا أمثل من أن نأتي بجنس من العقوبة تخالف عقوبته جنسًا وقدرًا وصفة.
 
وهذا النظر أيضا في ضمان الحيوان والعقار، ونحو ذلك بمثله تقريبًا أو بالقيمة، كما نص أحمد على ذلك في مواضع ضمان الحيوان وغيره. ونص عليه الشافعي فيمن خرب حائط غيره، أنه يبنيه كما كان. وبهذا قضي سليمان عليه السلام في حكومة الحَرْث التي حكم فيها هو وأبوه، كما قد بين ذلك في موضعه.
 
فجميع هذه الأبواب المقصود للشريعة فيها تحري العدل بحسب الإمكان، وهو مقصود العلماء، لكن أفهمهم من قال بما هو أشبه بالعدل في نفس الأمر، وإن كان كل منهم قد أوتي علمًا وحكمًا؛ لأنه هو الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل، وضده الظلم، كما قال سبحانه: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا».
 
ولما كان العدل لابد أن يتقدمه علم -إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل؟ والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه فصار عالمًا عادلًا- صار الناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف: العالم الجائر، والجاهل الظالم؛فهذان من أهل النار، كما قال النبي {{صل}}: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة: رجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار» فهذان القسمان كما قال: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار».
 
وكل من حكم بين اثنين فهو قاض، سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبًا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام. ولما كان الحكام مأمورين بالعدل والعلم، وكان المفروض إنما هو بما يبلغه جهد الرجل قال النبي {{صل}}: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
 
===فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته===
فلما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل وحرمه من الظلم على نفسه وعلى عباده- ذكر بعد ذلك إحسانه إلى عباده مع غناه عنهم وفقرهم إليه. وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم ولا دفع مضرة إلا أن يكون هو الميسر لذلك. وأمر العباد أن يسألوه ذلك، وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء، ويدفع عنهم من البلاء. وجلب المنفعة ودفع المضرة؛ إما أن يكون في الدين أو في الدنيا، فصارت أربعة أقسام: الهداية والمغفرة، وهما: جلب المنفعة ودفع المضرة في الدين. والطعام والكسوة، وهما: جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا. وإن شئت قلت: الهداية والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن، وهو الأصل في الأعمال الإرادية. والطعام والكسوة يتعلقان بالبدن؛ الطعام لجلب منفعته، واللباس لدفع مضرته.
 
وفتح الأمر بالهداية فإنها، وإن كانت الهداية النافعة، هي المتعلقة بالدين، فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم، كما قال سبحانه: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي } <ref>[الأعلى: 1: 3]</ref>، وقال موسى: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَي } <ref>[طه: 50]</ref>، وقال تعالى: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } <ref>[البلد: 10]</ref>، وقال: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } <ref>[الإنسان: 3]</ref>.
 
ولهذا قيل: الهدي أربعة أقسام:
 
أحدها: الهداية إلى مصالح الدنيا؛ فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم، وبين المؤمن والكافر.
 
والثاني: الهدي بمعني دعاء الخلق إلى ما ينفعهم وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب، فهذا أيضا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا أو كفروا، كما قال تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَي على الْهُدَي } <ref>[فصلت: 17]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } <ref>[الرعد: 7]</ref>، وقال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } <ref>[الشورى: 52]</ref>، فهذا مع قوله: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } <ref>[القصص: 65]</ref>، يبين أن الهدي الذي أثبته هو البيان والدعاء، والأمر والنهي، والتعليم وما يتبع ذلك، ليس هو الهدي الذي نفاه، وهو القسم الثالث الذي لا يقدر عليه إلا الله.
 
والقسم الثالث: الهدي الذي هو جعل الهدي في القلوب. وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام والإرشاد، وبعضهم يقول: هو خلق القدرة على الإيمان؛ كالتوفيق عندهم، ونحو ذلك، وهو بناء على أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل. فمن قال ذلك من أهل الإثبات جعل التوفيق والهدي، ونحو ذلك خلق القدرة على الطاعة.
 
وأما من قال: إنهما استطاعتان:
 
إحداهما: قبل الفعل، وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف، كما قال تعالى: { وَلِلّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سَبِيلًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>، وقال النبي {{صل}} لعمران بن حصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» وهذه الاستطاعة يقترن بها الفعل تارة، والترك أخري، وهي الاستطاعة التي لم تعرف القدرية غيرها، كما أن أولئك المخالفين لهم من أهل الإثبات لم يعرفوا إلا المقارنة. وأما الذي عليه المحققون من أئمة الفقه والحديث والكلام وغيرهم فإثبات النوعين جميعًا، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع؛ فإن الأدلة الشرعية والعقلية تثبت النوعين جميعًا.
 
والثانية: المقارنة للفعل، وهي الموجبة له، وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله: { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } <ref>[هود: 20]</ref>، وفي قوله: { لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } <ref>[الكهف: 101]</ref>. وهذا الهدي الذي يكثر ذكره في القرآن في مثل قوله: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }، وقوله: { فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } <ref>[الأنعام: 125]</ref>، وفي قوله: { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } <ref>[الكهف: 17]</ref>، وأمثال ذلك.
 
وهذا هو الذي تنكر القدرية أن يكون الله هو الفاعل له، ويزعمون أن العبد هو الذي يهدي نفسه. وهذا الحديث وأمثاله حجة عليهم، حيث قال: «يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم»، فأمر العباد بأن يسألوه الهداية، كما أمرهم بذلك في أم الكتاب في قوله: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }، وعند القدرية أن الله لا يقدر من الهدي إلا على ما فعله من إرسال الرسل، ونصب الأدلة، وإزاحة العلة، ولا مزية عندهم للمؤمن على الكافر في هداية الله -تعالى، ولا نعمة له على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر في باب الهدي.
 
وقد بين الاختصاص في هذه بعد عموم الدعوة في قوله: { وَاللهُ يَدْعُو إلى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } <ref>[يونس: 25]</ref>، فقد جمع الحديث تنزيهه عن الظلم الذي يجوزه عليه بعض المثبتة، وبيان أنه هو الذي يهدي عباده، ردًا على القدرية. فأخبر هناك بعدله الذي يذكره بعض المثبتة، وأخبر هنا بإحسانه وقدرته الذي تنكره القدرية، وإن كان كل منهما قصده تعظيمًا لا يعرف ما اشتمل عليه قوله.
 
والقسم الرابع: الهدي في الآخرة، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } <ref>[الحج: 23، 24]</ref>، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } <ref>[يونس: 9]</ref>، فقوله: { يّهًدٌيهٌمً رّبٍَهٍمً بٌإيمّانٌهٌمً } كقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } <ref>[الطور: 21]</ref>، على أحد القولين في الآية. وهذا الهدي ثواب الاهتداء في الدنيا، كما أن ضلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا، وكما أن قصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدي إلى طريق النار، كما قال تعالى: { \احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } <ref>[الصافات: 22، 23]</ref>.
 
وقال: { وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَي فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَي وَأَضَلُّ سَبِيلًا } <ref>[الإسراء: 72]</ref>، وقال: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًي فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَيوَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليوْمَ تُنسَي } <ref>[طه: 123: 126]</ref>، وقال: { وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أولياء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } الآية <ref>[الإسراء: 97]</ref>، فأخبر أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عميًا وبكما وصما، فإن الجزاء - أبدًا - من جنس العمل، كما قال {{صل}}: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، وقال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». وقال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار».
 
وقد قال تعالى: { وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } <ref>[النور: 22]</ref>، وقال: { إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } <ref>[النساء: 149]</ref>، وأمثال هذا كثير في الكتاب والسنة.
 
ولهذا -أيضا- يجزي الرجل في الدنيا على ما فعله من خير الهدي بما يفتح عليه من هدي آخر؛ ولهذا قيل: من عمل بما علم وَرَّثه الله علم ما لم يعلم. وقد قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } إلى قوله: { مُّسْتَقِيمًا } <ref>[النساء: 66: 68]</ref>، وقال: { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } <ref>[المائدة: 15، 16]</ref>. وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } <ref>[الحديد: 28]</ref>. وقال: { إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } <ref>[الأنفال: 29]</ref>، فسروه بالنصر والنجاة، كقوله: { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } <ref>[الأنفال: 41]</ref>. وقد قيل: نور يفرق به بين الحق والباطل. ومثله قوله: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } <ref>[الطلاق: 2، 3]</ref>، وعد المتقين بالمخارج من الضيق وبرزق المنافع.
 
ومن هذا الباب قوله: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًي وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } <ref>[محمد: 17]</ref>، وقوله: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي } <ref>[الكهف: 13]</ref>. ومنه قوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } <ref>[الفتح: 1: 3]</ref>.
 
وبإزاء ذلك أن الضلال والمعاصي تكون بسبب الذنوب المتقدمة، كما قال الله: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } <ref>[الصف: 5]</ref>، { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } <ref>[البقرة: 88]</ref>، { بَلْ طَبَعَ اللهُ عليها بِكُفْرِهِمْ } <ref>[النساء: 155]</ref>، وقال: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } <ref>[المائدة: 13]</ref>. وقال: { وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } إلى قوله: { لاَ يُؤْمِنُونَ } إلى قوله: { يَعْمَهُونَ } <ref>[الأنعام: 109، 110]</ref>. وهذا باب واسع.
 
ولهذا قال من قال من السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها. وقد شاع في لسان العامة أن قوله: { وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } <ref>[البقرة: 282]</ref>، من ال
 
باب الأول؛ حيث يستدلون بذلك على أن التقوي سبب تعليم الله، وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل؛ واتقوا الله ويعلمكم، ولا قال: فيعلمكم. وإنما أتي بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني، وقد يقال: العطف قد يتضمن معني الاقتران والتلازم، كما يقال: زرني وأزورك، وسلم علينا ونسلم عليك، ونحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين والتعاوض من الطرفين، كما لو قال لسيده: اعتقني ولك على ألف، أو قالت المرأة لزوجها: طلقني ولك ألف، أو اخلعني ولك ألف، فإن ذلك بمنزلة قولها: بألف أو على ألف.
 
وكذلك - أيضا - لو قال: أنت حر وعليك ألف، أو أنت طالق وعليك ألف، فإنه كقوله: على ألف أو بألف عند جمهور الفقهاء. والفرق بينهما قول شاذ. ويقول أحد المتعاوضين للآخر: أعطيك هذا وآخذ هذا، ونحو ذلك من العبارات، فيقول الآخر: نعم وإن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر دون العكس. فقوله: { وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } <ref>[البقرة: 282]</ref>، قد يكون من هذا الباب، فكل من تعليم الرب وتقوي العبد يقارن الآخر ويلازمه ويقتضيه، فمتي علمه الله العلم النافع اقترن به التقوي بحسب ذلك، ومتي اتقاه زاده من العلم، وهَلُمَّ جَرّا.
 
===فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته===
وأما قوله: «يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم» فيقتضي أصلين عظيمين:
 
أحدهما: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جَلْب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة. وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال: { وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } <ref>[البقرة: 233]</ref>، وقال: { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } <ref>[النساء: 5]</ref>، فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } <ref>[البلد: 14: 16]</ref>، وقوله: { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } <ref>[الحج: 36]</ref>، وقوله: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } <ref>[الحج: 28]</ref>، وقال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ } <ref>[يس: 47]</ref> فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر.
 
ومن هنا، يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
 
فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخَلَّ بواجب التوحيد؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب. فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال على - رضي الله عنه -: لا يرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه. وقد قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } <ref>[فاطر: 2]</ref>، وقال تعالى: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } <ref>[يونس: 107]</ref>، وقال: { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } <ref>[الزمر: 38]</ref>.
 
وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لما أمر به من الأسباب فهو أيضا جاهل ظالم، عاص لله بترك ما أمره، فإن فعل المأمور به عبادة لله. وقد قال تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } <ref>[هود: 123]</ref>، وقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقال: { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه مَتَابِ } <ref>[الرعد: 30]</ref>، وقال شعيب عليه السلام: { عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } <ref>[هود: 88]</ref>، وقال: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } <ref>[الشورى: 10]</ref>. وقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإليكَ أَنَبْنَا وَإليكَ الْمَصِيرُ } <ref>[الممتحنة: 4]</ref>، فليس من فعل شيئًا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما، مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب.
 
وقد روي [[أبو داود]] في سننه أن النبي {{صل}} قضي بين رجلين. فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي {{صل}}: «إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإن غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل».
 
وفي [[صحيح مسلم]] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي {{صل}} أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»، ففي قوله {{صل}}: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» أمر بالتسبب المأمور به، وهو الحرص على المنافع. وأمر مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفي بأحدهما فقد عصي أحد الأمرين، ونهي عن العجز الذي هو ضد الكيس. كما قال في الحديث الآخر: «إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس»، وكما في الحديث الشامي: «الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أَتْبَع نفسه هواها وتمني على الله»، فالعاجز في الحديث مقابل الكيس، ومن قال: العاجز هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه. ومنه الحديث: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس».
 
ومن ذلك ما روي البخاري في صحيحه عن [[ابن عباس]] قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقولون: نحن المتوكلون. فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي } <ref>[البقرة: 197]</ref>، فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجًا كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزْواد الحجيج، كَلًا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج، فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به.
 
وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف؛طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوي في إخلاد النفس إلى البطالة؛ ولهذا تجد عامة هذا الضرب - التاركين لما أمروا به من الأسباب يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح، أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم، أو نحوه.
 
وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء أيضا نقصًا وانقطاعًا عن الخاصة؛ ظنًا أن ملاحظة ما فرغ منه في القدر هو حال الخاصة.
 
وقد قال في هذا الحديث: «كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم» وقال: «فاستكسوني أكسكم» وفي الطبراني أو غيره عن النبي {{صل}} قال: «لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعُ نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر». وهذا قد يلزمه أن يجعل أيضا استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقًا، بل دفع المخلوق والمأمور، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به، كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة، بناء على أن القدر قد سبق بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبي {{صل}} عن هذا السؤال في حديث على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعْشُم، وغيرهم.
 
ومنه حديث [[الترمذي]]: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه. قال: سألت النبي {{صل}} فقلت: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي من قدر الله».
 
وطائفة تظن أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها، كالحب والرجاء والخوف والشكر، ونحو ذلك. وهذا ضلال مبين، بل جميع هذه الأمور فروض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، ومن تركها بالكلية فهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسنة طَافِحَة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور علمًا وعملًا بأقل لوما من التاركين لما أمروا به من أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها وفروعها التي لا تتم إلا بها.
 
===فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار===
وأما قوله: «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا» وفي رواية: «وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي» «فاستغفروني أغفر لكم» فالمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان:
 
أحدهما: المغفرة لمن تاب، كما في قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } إلى قوله: " { ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ } <ref>[الزمر: 53، 54]</ref>، فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين أن المعني لا ييأس مذنب من مغفرة الله، ولو كانت ذنوبه ما كانت، فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب. وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب، فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه، قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } إلى قوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } <ref>[التوبة: 5]</ref>، وقال في الآية الأخري: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } <ref>[التوبة: 11]</ref>، وقال: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } إلى قوله: { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[المائدة: 73، 74]</ref>.
 
وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه: «فكيف من أضللت».
 
وهذا غلط؛ فإن الله قد بين في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر، الذين هم أعظم من أئمة البدع. وقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } <ref>[البروج: 10]</ref>، قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم! عذبوا أولياءه وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة.
 
وكذلك توبة القاتل ونحوه، وحديث أبي سعيد، المتفق عليه، في الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا يدل على قبول توبته، وليس في الكتاب والسنة ما ينافي ذلك، ولا نصوص الوعيد فيه وفي غيره من الكبائر بمنافية لنصوص قبول التوبة، فليست آية الفرقان بمنسوخة بآية النساء؛ إذ لا منافاة بينهما، فإنه قد علم يقينًا أن كل ذنب فيه وعيد فإن لُحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة؛ إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص، كالوعيد في الشرك وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والسحر، وغير ذلك من الذنوب. ومن قال من العلماء: توبته غير مقبولة. فحقيقة قوله التي تلائم أصول الشريعة أن يراد بذلك أن التوبة المجردة تسقط حق الله من العقاب.
 
وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حق. ولا فرق في ذلك بين القاتل وسائر الظالمين. فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلابد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفي المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسًا. ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فلا راد لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء؛ ولهذا في حديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس شهرًا حتى شَافَهَهُ به، وقد رواه الإمام أحمد، وغيره، واستشهد به البخاري في صحيحه، وهو من جنس حديث [[الترمذي]] صِحَاحه أو حسانه، قال فيه: «إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر. ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا لأحد من أهل النار قِبَلَه مظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولا لأحد من أهل الجنة حتى أقصه منه». فبين في الحديث العدل والقصاص بين أهل الجنة وأهل النار.
 
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي سعيد: «أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة»، وقد قال سبحانه لما قال: { وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } <ref>[الحجرات: 12]</ref> والاغتياب من ظلم الأعراض قال: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } <ref>[الحجرات: 12]</ref>. فقد نبههم على التوبة من الاغتياب وهو من الظلم.
 
وفي الحديث الصحيح: «من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات. فإن كان له حسنات وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه، ثم يلقي في النار» أو كما قال. وهذا فيما علمه المظلوم من العِوَض، فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك فقد قيل: من شرط توبته إعلامه، وقيل: لا يشترط ذلك، وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد. لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات، كالدعاء له، والاستغفار، وعمل صالح يهدي إليه، يقوم مقام اغتيابه وقذفه. قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته.
 
وأما الذنوب التي يطلق الفقهاء فيها نفي قبول التوبة، مثل قول أكثرهم: لا تقبل توبة الزنديق وهو المنافق، وقولهم: إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حدود الله، وكذلك قول كثير منهم أو أكثرهم في سائر الجرائم، كما هو أحد قولي الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد، وقولهم في هؤلاء: إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تقبل توبتهم فهذا إنما يريدون به رفع العقوبة المشروعة عنهم، أي: لاتقبل توبتهم بحيث يخلي بلا عقوبة، بل يعاقب: إما لأن توبته غير معلومة الصحة، بل يظن به الكذب فيها، وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى انتهاك المحارم وسد باب العقوبة على الجرائم، ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة فإن الله لا يقبل توبته في الباطن؛ إذ ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء، بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عليهمْ وَكَانَ اللهُ علىمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } الآية <ref>[النساء: 17، 18]</ref>.
 
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد {{صل}} عن ذلك، فقالوا لي: كل من عصي الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله، فلما أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. قال الله: { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } <ref>[يونس: 91]</ref>، وهذا استفهام إنكار بَين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار؛ إما بمعني النفي إذا قابل الإخبار، وإما بمعني الذم والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا.
 
ومثله قوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } الآية <ref>[غافر: 83: 84]</ref>. بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده؛ كفرعون وغيره، وفي الحديث: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ»، وروي: «ما لم يعاين».
 
وقد ثبت في الصحيحين أنه {{صل}} عرض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه، وقد عاد يهوديًا كان يخدمه فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار»، ثم قال لأصحابه: «آووا أخاكم».
 
ومما يبين أن المغفرة العامة في الزمر هي للتائبين أنه قال في سورة النساء: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } <ref>[النساء: 116]</ref>، فقيد المغفرة بما دون الشرك وعلقها على المشيئة، وهناك أطلق وعمم، فدل هذا التقييد والتعليق على أن هذا في حق غير التائب؛ ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على جواز المغفرة لأهل الكبائر في الجملة، خلافًا لمن أوجب نفوذ الوعيد بهم من الخوارج والمعتزلة، وإن كان المخالفون لهم قد أسرف فريق منهم من المرجئة، حتى توقفوا في لحوق الوعيد بأحد من أهل القبلة، كما يذكر عن غلاتهم أنهم نفوه مطلقًا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسنة مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذب، وأنه لا يبقي في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
 
النوع الثاني: من المغفرة العامة التي دل عليها قوله: «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا» المغفرة بمعني تخفيف العذاب، أو بمعني تأخيره إلى أجل مسمي، وهذا عام مطلقًا؛ ولهذا شفع النبي {{صل}} في أبي طالب مع موته على الشرك فنقل من غمرة من نار، حتى جعل في ضَحْضَاحٍ من نار، في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه. قال: «ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»، وعلى هذا المعني دل قوله سبحانه: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } <ref>[فاطر: 45]</ref>، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عليها مِن دَآبَّةٍ } <ref>[النحل: 61]</ref>، { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } <ref>[الشورى: 30]</ref>.
 
===فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني===
وأما قوله عز وجل: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» فإنه هو بين بذلك أنه ليس هو فيما يحسن به إليهم من إجابة الدعوات، وغفران الزلات بالمستعيض بذلك منهم جلب منفعة أو دفع مضرة، كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعًا ليكافئه عليه بنفع، أو يدفع عنه ضررًا؛ ليتقي بذلك ضرره، فقال: «إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني»، فلست إذا أخصكم بهداية المستهدي وكفاية المستكفي المستطعم والمستكسي بالذي أطلب أن تنفعوني، ولا أنا إذا غفرت خطاياكم بالليل والنهار أتقي بذلك أن تضروني، فإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني؛ إذ هم عاجزون عن ذلك، بل ما يقدرون عليه من الفعل لا يقدرون عليه إلا بتقديره وتدبيره، فكيف بما لا يقدرون عليه؟ فكيف بالغني الصمد، الذي يمتنع عليه أن يستحق من غيره نفعًا أو ضرًا؟ وهذا الكلام كما بين أن ما يفعله بهم من جلب المنافع ودفع المضار فإنهم لن يبلغوا أن يفعلوا به مثل ذلك، فكذلك يتضمن أن ما يأمرهم به من الطاعات وما ينهاهم عنه من السيئات فإنه لا يتضمن استجلاب نفعهم، كأمر السيد لعبده، أو الوالد لولده، والأمير لرعيته، ونحو ذلك. ولا دفع مضرتهم، كنهي هؤلاء أو غيرهم لبعض الناس عن مضرتهم.
 
فإن المخلوقين يبلغ بعضهم نفع بعض ومضرة بعض، وكانوا في أمرهم ونهيهم قد يكونون كذلك، والخالق سبحانه مقدس عن ذلك، فبين تنزيهه عن لحوق نفعهم وضرهم في إحسانه إليهم بما يكون من أفعاله بهم وأوامره لهم، قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.
 
_فصل_
 
ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن برهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدني نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية. وإذا أعطي الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي لرجاء المنفعة وخوف المضرة. فقال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، إذ ملكه هو قدرته على التصرف. فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم، كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلة المطيعين لهم، فإن ملكه متعلق بنفسه، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
 
والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله. وبكلٍّ حال، فليس بر الأبرار وفجور الفجار موجبًا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء ألا يخلق مع بر الأبرار شيئًا مما خلقه لم يكن برهم محوجًا له إلى ذلك، ولا معينًا له كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين.
 
===فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم===
ثم ذكر حالهم في النوعين سؤال بره وطاعة أمره اللذين ذكرهما في الحديث، حيث ذكر الاستهداء والاستطعام والاستكساء، وذكر الغفران والبر والفجور، فقال: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر»، والخياط والمخيط: ما يخاط به، إذ الفعال والمفعل والمفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها، كالمسعر، والمخلاب، والمنشار. فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا وهم في مكان واحد وزمان واحد فأعطي كل إنسان منهم مسألته، لم ينقصه ذلك مما عنده إلا كما ينقص الخياط وهي الإبرة إذا غمس في البحر.
 
وقوله: «لم ينقص مما عندي» فيه قولان:
 
أحدهما: أنه يدل على أن عنده أمورًا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه، وعلى هذا فيقال: لفظ النقص على حاله؛ لأن الإعطاء من الكثير، وإن كان قليلا، فلابد أن ينقصه شيئًا ما. ومن رواه: «لم ينقص من ملكي» يحمل على ما عنده، كما في هذا اللفظ؛ فإن قوله: «مما عندي» فيه تخصيص ليس هو في قوله: «من ملكي». وقد يقال: المعطي؛ إما أن يكون أعيانًا قائمة بنفسها، أو صفات قائمة بغيرها. فأما الأعيان فقد تنقل من محل إلى محل، فيظهر النقص في المحل الأول. وأما الصفات فلا تنقل من محلها، وإن وجد نظيرها في محل آخر، كما يوجد نظير علم المعلم في قلب المتعلم من غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى الثاني. وعلى هذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئًا، وهي من المسؤول كالهدي.
 
وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات ألا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول؛ كاللون الذي ينقص، وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول، كما دعا النبي {{صل}} على حمى المدينة أن تنقل إلى مَهيَعَة وهي الجحفة، وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العرض الأول، أو بوجود مثله من غير انتقال عينه؟ فيه للناس قولان: إذ منهم من يجوز انتقال الأعراض، بل من يجوز أن تجعل الأعراض أعيانًا، كما هو قول ضرار والنجار وأصحابهما، كبرغوث وحفص الفرد، لكن إن قيل: هو بوجود مثله من غير انتقال عينه فذلك يكون مع استحالة العرض الأول وفنائه، فيعدم عن ذلك المحل ويوجد مثله في المحل الثاني.
 
القول الثاني: أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسى والخضر الذي في الصحيحين من حديث [[ابن عباس]]، عن [[أبي بن كعب]]، عن النبي {{صل}}، وفيه: «أن الخضر قال لموسى لما وقع عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر فقال: يا موسي، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر». ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لا يزول منه شيء بتعلم العباد، وإنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ما علق بمنقار العصفور إلى البحر.
 
ومن هذا الباب كون العلم يورث، كقوله: «العلماء ورثة الأنبياء» ومنه قوله: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } <ref>[النمل: 16]</ref>، ومنه توريث الكتاب أيضا كقوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } <ref>[فاطر: 32]</ref>، ومثل هذه العبارة من النقص، ونحوه تستعمل في هذا، وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال [[سعيد بن المسيب]] لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه، وقال: نَزَفْتَنِي يا أعمى! وإنْزَاف القليب، ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقي فيه شيء. ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يَزُلْ علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب، لكن قد يقال: التعليم إنما يكون بالكلام، والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه؛ ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم؛ كما قال تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } <ref>[الكهف: 5]</ref>.
 
ويقال: قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا، فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته. ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه فارقه أمور قامت به من حركات وأصوات، بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفًا، ومما يقوي هذا المعني أن الإنسان، وإن كان علمه في نفسه، فليس هو أمرًا لازمًا للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخري. وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تَكِلُّ النفس وتعي، حتى لا يقوي على استحضاره إلا بعد مدة، فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالمًا بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع، ومن قال هذا يقول: كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولًا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو سبحانه منزهًا عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه، أو عن زوال علمه عنه، لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم.
 
وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله، وما نال علمي وعلمك من علم الله، وما أحاط علمي وعلمك من علم الله، كما قال: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } <ref>[البقرة: 255]</ref>، إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر، أي: نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبه به جسمًا ينتقل من محل إلى محل ويزول عن المحل الأول، وليس المشبه كذلك؛ فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس، كما قال {{صل}}: «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»، فشبه الرؤية بالرؤية، وهي، وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها، لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي، فكذلك هنا شبه النقص بالنقص، وإن كان كل من الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبه به، ليس مثل الناقص والمنقوص، والمنقوص منه المشبه به.
 
ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث، يقتبس منه كل أحد، ويأخذون ما شاؤوا من الشهب، وهو باق بحاله، وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارًا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال: إنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية، كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم؛ ولهذا قال على رضي الله عنه: العلم يزكو على العمل، أو قال: على التعليم، والمال ينقصه النفقة. وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر: إن قوله: «مما عندي»، وقوله: «من ملكي» هو من هذا الباب، وحينئذ فله وجهان:
 
أحدهما: أن يكون ما أعطاهم خارجًا عن مسمي ملكه ومسمي ما عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسى والخضر.
 
والثاني: أن يقال: بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء، وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده، ولكن نسبته إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة. ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روي هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر مرفوعًا، فيه: «لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني، ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جَوَادٌ ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون»، فذكره سبحانه أن عطاءه كلام، وعذابه كلام، يدل على أنه هو أراد بقوله: «من ملكي» و«مما عندي» أي: من مقدوري، فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم، والله أعلم.
 
ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر: «لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما ينقص البحر»، وهذا قد يقال فيه: إنه استثناء منقطع، أي: لم ينقص من ملكي شيئًا، لكن يكون حاله حال هذه النسبة، وقد يقال: بل هو تام، والمعني على ما سبق.
 
===فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم===
ثم ختمه بتحقيق ما بينه فيه من عدله وإحسانه، فقال: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلُومَنَّ إلا نفسه»، فبين أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانًا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها. فكل ذلك فضل منه وإحسان؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو، وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين كما تقدم بيانه فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض، الذي يكون عدلًا لا فضلا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض فاستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه؛ ولهذا لم يكن المتعاوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئهما، وهو قد بين في الحديث أن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، بل هو الذي أَحَقَّ الحق على نفسه بكلماته، فهو المحسن بالإحسان وبإحقاقه وكتابته على نفسه، فهو في كتابة الرحمة على نفسه، وإحقاقه نصر عباده المؤمنين، ونحو ذلك محسن إحسانًا مع إحسان.
 
فليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتبين بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب، فمن بَيْن مُوجبٍ على ربه بالمنع أن يكون محسنًا متفضلًا، ومن بين مُسَوٍّ بين عدله وإحسانه وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعًا واحدًا. وكل ذلك حَيْدٌ عن سنن الصراط المستقيم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
 
وكما بَيَّنَ أنه محسن في الحسنات، متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها، بين أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال: «ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» كما تقدم بيانه في مثل قوله: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } <ref>[هود: 101]</ref>. وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري؛ عن شداد بن أوس؛ عن النبي {{صل}}، أنه قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، ففي قوله: «أبوء لك بنعمتك على» اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها. وقوله: «وأبوء بذنبي» اعتراف منه بأنه مذنب، ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه مستغفرًا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير، وغفران الشر من الشكور الغفور، الذي يشكر اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلل.
 
وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له على القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه، ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسري. وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم، ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين، الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر، كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج [[ابن الجوزي]]: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري. أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
 
وخير الأقسام، وهو القسم المشروع، وهو الحق الذي جاءت به الشريعة: أنه إذا أحسن شكر نعمة الله عليه وحمده؛ إذ أنعم عليه بأن جعله محسنًا ولم يجعله مسيئًا، فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته وجميع حركاته وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به، فلو لم يهده لم يهتد، كما قال أهل الجنة: { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } <ref>[الأعراف: 43]</ref>، وإذا أساء اعترف بذنبه، واستغفر ربه وتاب منه، وكان كأبيه آدم الذي قال: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } <ref>[الأعراف: 23]</ref>، ولم يكن كإبليس الذي قال: { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } <ref>[الحجر: 39، 40]</ref>. ولم يحتج بالقدر على ترك مأمور ولا فعل محظور، مع إيمانه بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونحو ذلك.
 
وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في هذا الحديث الصحيح: «فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»، ولكن بسط ذلك وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار ليس هذا موضعها، ومع هذا فقوله تعالى: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حديثا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } <ref>[النساء: 78، 79]</ref>، ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي، كما يظنه كثير من الناس حتى يحرف بعضهم القرآن ويقرأ: { فَمِن نَّفْسِكَ } <ref>[النساء: 79]</ref>، ومعلوم أن معني هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة، وحتى يضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له، وهو قول الله الحق، فيجعل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضي قولًا للكفار يكذب به ويذم، ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدعيه، من غير أن يكون في السياق ما يدل عليه.
 
ثم إن من جهل هؤلاء ظنهم أن في هذه الآية حجة للقدرية واحتجاج بعض القدرية بها؛ وذلك أنه لا خلاف بين الناس في أن الطاعات والمعاصي سواء من جهة القدر. فمن قال: إن العبد هو الموجد لفعله دون الله، أو هو الخالق لفعله، وأن الله لم يخلق أفعال العباد، فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية.
 
ومن أثبت خلق الأفعال وأثبت الجبر أو نفاه، أو أمسك عن نفيه وإثباته مطلقًا، وفصل المعني أو لم يفصله فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية. فتبين أن إدخال هذه الآية في القدر في غاية الجهالة؛ وذلك أن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها المسار والمضار دون الطاعات والمعاصي، كما في قوله تعالى: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } <ref>[الأعراف: 168]</ref>، وهو الشر والخير في قوله: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } <ref>[الأنبياء: 35]</ref>.
 
وكذلك قوله: { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } <ref>[آل عمران: 120]</ref>، وقوله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي } <ref>[هود: 10]</ref>، وقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } <ref>[الأعراف: 94، 95]</ref>، وقال تعالى: { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } <ref>[ الأعراف: 131]</ref>.
 
فهذه حال فرعون وملئه مع موسى ومن معه، كحال الكفار والمنافقين والظالمين مع محمد وأصحابه، إذا أصابهم نعمة وخير قالوا: لنا هذه، أو قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم عذاب وشر تطيروا بالنبي والمؤمنين، وقالوا: هذه بذنوبهم، وإنما هي بذنوب أنفسهم لا بذنوب المؤمنين، وهو سبحانه ذكر هذا في بيان حال النَّاكِلِين عن الجهاد الذين يلومون المؤمنين على الجهاد، فإذا أصابهم نصر، ونحوه قالوا: هذا من عند الله، وإن أصابتهم محنة قالوا: هذه من عند هذا الذي جاءنا بالأمر والنهي والجهاد، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ }، إلى قوله: { وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ }، إلى قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عليهمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ علينَا الْقِتَالَ }، إلى قوله: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } <ref>[النساء: 71: 78]</ref>، أي هؤلاء المذمومين { يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } <ref>[النساء: 78]</ref>، أي بسبب أمرك ونهيك، قال الله تعالى: { فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حديثا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } <ref>[النساء: 78، 79]</ref>، أي: من نعمة { فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } <ref>[النساء: 79]</ref>، أي: فبذنبك. كما قال: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } <ref>[الشورى: 30]</ref>، وقال: { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } <ref>[الروم: 36]</ref>.
 
وأما القسم الثالث في هذا الباب: فهم قوم لبسوا الحق بالباطل، وهم بين أهل الإيمان أهل الخير وبين شرار الناس وهم الخائضون في القدر بالباطل، فقوم يرون أنهم هم الذين يهدون أنفسهم ويضلونها، ويوجبون لها فعل الطاعة وفعل المعصية، بغير إعانة منه وتوفيق للطاعة، ولا خذلان منه في المعصية. وقوم لا يثبتون لأنفسهم فعلًا ولا قدرة ولا أمرًا.
 
ثم من هؤلاء من يَنْحَلُّ عن الأمر والنهي فيكون أكفر الخلق، وهم في احتجاجهم بالقدر متناقضون؛ إذ لا بد من فِعْلٍ يحبونه وفعل يبغضونه، ولابد لهم ولكل أحد من دفع الضرر الحاصل بأفعال المعتدين، فإذا جعلوا الحسنات والسيئات سواسية لم يمكنهم أن يذموا أحدا، ولا يدفعوا ظالمًا، ولا يقابلوا مسيئًا، وأن يبيحوا للناس من أنفسهم كل ما يشتهيه مُشْتَهٍ، ونحو ذلك من الأمور التي لا يعيش عليها بنو آدم؛إذ هم مضطرون إلى شرع فيه أمر ونهي أعظم من اضطرارهم إلى الأكل واللباس.
 
وهذا باب واسع لشرحه موضع غير هذا. وإنما نبهنا على ما في الحديث من الكلمات الجامعة والقواعد النافعة بنُكَتٍ مختصرة، تنبه الفاضل على ما في الحقائق من الجوامع والفوارق، التي تفصل بين الحق والباطل في هذه المضائق، بحسب ما احتملته أوراق السائل. والله ينفعنا وسائر إخواننا المؤمنين بما علمناه، ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وأستغفر الله العظيم لي ولجميع إخواننا المؤمنين.
 
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا.
 
===فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين===
وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله {{صل}} تسليمًا.
 
فصل
 
في [[صحيح البخاري]] وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي {{صل}} قال: «يا بني تميم، اقبلوا البشري» قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، فأقبل على أهل إلىمن فقال: «يا أهل اليمن اقبلوا البشري؛ إذ لم يقبلها بنو تميم»، فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال: «كان الله ولم يكن شيء قبله»، وفي لفظ «معه»، وفي لفظ «غيره»، «وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض»، وفي لفظ: «ثم خلق السموات والأرض»، ثم جاءني رجل فقال: أدرك ناقتك، فذهبت فإذا السراب ينقطع دونها، فوالله لوددت أني تركتها ولم أقم.
 
قوله: «كتب في الذكر» يعني: اللوح المحفوظ، كما قال: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ } <ref>[الأنبياء: 105]</ref> أي: من بعد اللوح المحفوظ، يسمي ما يكتب في الذكر ذكرًا كما يسمي ما يكتب فيه كتابًا، كقوله عز وجل: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } <ref>[الواقعة: 77، 78]</ref>.
 
والناس في هذا الحديث على قولين: منهم من قال: إن مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجودًا وحده، ثم إنه ابتدأ إحداث جميع الحوادث، وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها، وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وجنس الحركات والمتحركات حادث، وأن الله صار فاعلًا بعد أن لم يكن يفعل شيئًا من الأزل إلى حين ابتدأ، الفعل ولا كان الفعل ممكنًا.
 
ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: وكذلك صار متكلمًا بعد أن لم يكن يتكلم بشيء، بل ولا كان الكلام ممكنًا له. ومنهم من يقول: الكلام أمر يوصف به بأنه يقدر عليه، لا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، بل هو أمر لازم لذاته بدون قدرته ومشيئته.
 
ثم هؤلاء منهم من يقول: هو المعني دون اللفظ المقروء، عَبَّر عنه بكل من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومنهم من يقول: بل هو حروف وأصوات لازمة لذاته لم تزل ولا تزال، وكل ألفاظ الكتب التي أنزلها، وغير ذلك.
 
والقول الثاني في معني الحديث: أنه ليس مراد الرسول هذا، بل إن الحديث يناقض هذا، ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوي على العرش، كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع، فقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } <ref>[هود: 7]</ref>، وقد ثبت في [[صحيح مسلم]] عن عبد الله بن عمرو، عن النبي {{صل}} أنه قال: «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، فأخبر {{صل}} أن تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام، وكان حينئذ عرشه على الماء. كما أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه؛ عن عمران رضي الله عنه.
 
ومن هذا: الحديثُ الذي رواه [[أبو داود]] و[[الترمذي]] وغيرهما، عن عبادة بن الصامت، عن النبي {{صل}} أنه قال: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة»، فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان مخلوقًا قبل خلق السموات والأرض، وهو أول ما خلق من هذا العالم، وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص، وهو قول جمهور السلف، كما ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا بيان ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.
 
والدليل على هذا القول الثاني وجوه:
 
أحدها: أن قول أهل اليمن: «جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر»، إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات، فإن كان المراد هو الأول كان النبي {{صل}} قد أجابهم؛ لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم، وإن كان المراد الثاني لم يكن قد أجابهم؛ لأنه لم يذكر أول الخلق مطلقًا، بل قال: «كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض»، فلم يذكر إلا خلق السموات والأرض، لم يذكر خلق العرش، مع أن العرش مخلوق أيضا، فإنه يقول: «وهو رب العرش العظيم» وهو خالق كل شيء؛ العرش وغيره، ورب كل شيء؛ العرش وغيره. وفي حديث أبي رُزَيْن قد أخبر النبي {{صل}} بخلق العرش. وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه، بل أخبر بخلق السموات والأرض، فعلم أنه أخبر بأول خلق هذا العالم، لا بأول الخلق مطلقًا.
 
وإذا كان إنما أجابهم بهذا علم أنهم إنما سألوه عن هذا، لم يسألوه عن أول الخلق مطلقًا، فإنه لا يجوز أن يكون أجابهم عما لم يسألوه عنه ولم يجبهم عما سألوا عنه، بل هو {{صل}} منزه عن ذلك، مع أن لفظه إنما يدل على هذا، لا يدل على ذكره أول الخلق، وإخباره بخلق السموات والأرض بعد أن كان عرشه على الماء يقصد به الإخبار عن ترتيب بعض المخلوقات على بعض، فإنهم لم يسألوه عن مجرد الترتيب، وإنما سألوه عن أول هذا الأمر، فعلم أنهم سألوه عن مبدأ خلق هذا العالم فأخبرهم بذلك، كما نطق في أولها في أول الأمر: «خلق الله السموات والأرض». وبعضهم يشرحها في البدء، أو في الابتداء خلق الله السموات والأرض.
 
والمقصود أن فيها الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض، وأنه كان الماء غامرًا للأرض، وكانت الريح تهب على الماء، فأخبر أنه حينئذ كان هذا ماءً وهواءً وترابا، وأخبر في القرآن العظيم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وفي الآية الأخري: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } <ref>[فصلت: 11]</ref>، وقد جاءت الآثار عن السلف بأن السماء خلقت من بخار الماء وهو الدخان.
 
والمقصود هنا أن النبي {{صل}} أجابهم عما سألوه عنه ولم يذكر إلا ابتداء خلق السموات والأرض، فدل على أن قولهم: «جئنا لنسألك عن أول هذا الأمر» كان مرادهم خلق هذا العالم. والله أعلم.
 
الوجه الثاني: أن قولهم: «هذا الأمر» إشارة إلى حاضر موجود، والأمر يراد به المصدر، ويراد به المفعول به وهو المأمور الذي كونه الله بأمره، وهذا مرادهم، فإن الذي هو قوله: كن ليس مشهودًا مشارًا إليه، بل المشهود المشار إليه هذا المأمور به، قال تعالى: { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا } <ref>[الأحزاب: 38]</ref>، وقال تعالى: { أَتَى أَمْرُ اللهِ } <ref>[النحل: 1]</ref>، ونظائره متعددة. ولو سألوه عن أول الخلق مطلقا لم يشيروا إليه بهذا، فإن ذاك لم يشهدوه فلا يشيرون إليه بهذا، بل لم يعلموه أيضا، فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء، والرسول {{صل}} لم يخبرهم بذلك، ولو كان قد أخبرهم به لما سألوه عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.
 
الوجه الثالث: أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله»، وقد روي: «معه»، وروي: «غيره»، والألفاظ الثلاثة في البخاري، والمجلس كان واحدًا، وسؤالهم وجوابه كان في ذلك المجلس، وعمران الذي روي الحديث لم يقم منه حين انقضي المجلس، بل قام لما أخبر بذهاب راحلته قبل فراغ المجلس، وهو المخبر بلفظ الرسول، فدل على أنه إنما قال أحد الألفاظ، والآخران رُوِيَا بالمعني. وحينئذ فالذي ثبت عنه لفظ «القَبْل»، فإنه قد ثبت في [[صحيح مسلم]] عن أبي هريرة، عن النبي {{صل}} أنه كان يقول في دعائه: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»، وهذا موافق ومفسر لقوله تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } <ref>[الحديد: 3]</ref>.
 
وإذا ثبت في هذا الحديث لفظ القَبْل فقد ثبت أن الرسول {{صل}} قاله، واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما أبدًا، وكان أكثر أهل الحديث إنما يروونه بلفظ القبل: «كان الله ولا شيء قبله»، مثل الحميدي، والبغوي، وابن الأثير، وغيرهم. وإذا كان إنما قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله» لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
 
الوجه الرابع: أنه قال فيه: «كان الله ولم يكن شيء قبله، أو معه، أو غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء»، فأخبر عن هذه الثلاثة بلفظ الواو، لم يذكر في شيء منها ثم، وإنما جاء ثم في قوله: «خلق السموات والأرض». وبعض الرواة ذكر فيه خلق السموات والأرض بثم، وبعضهم ذكرها بالواو.
 
فأما الجمل الثلاث المتقدمة، فالرواة متفقون على أنه ذكرها بلفظ الواو، ومعلوم أن لفظ الواو لا يفيد الترتيب على الصحيح الذي عليه الجمهور، فلا يفيد الإخبار بتقديم بعض ذلك على بعض، وإن قدر أن الترتيب مقصود، إما من ترتيب الذكر لكونه قَدَّم بعض ذلك على بعض، وإما من الواو عند من يقول به، فإنما فيه تقديم كونه على كون العرش على الماء، وتقديم كون العرش على الماء على كتابته في الذكر كل شيء، وتقديم كتابته في الذكر كل شيء على تقديم خلق السموات والأرض، وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقًا، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقا، كما أخبر به في مواضع أخر، لكن في جواب أهل اليمن إنما كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السموات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.
 
الوجه الخامس: أنه ذكر تلك الأشياء بما يدل على كونها ووجودها ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها، وسواء كان قوله: «وخلق السموات والأرض» أو «ثم خلق السموات والأرض» فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن كان قد خلق من مادة، كما في صحيح مسلم، عن [[عائشة]] رضي الله عنها عن النبي {{صل}} أنه قال: «خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم».
 
فإن كان لفظ الرسول {{صل}}: «ثم خلق» فقد دل على أن خلق السموات والأرض بعد ما تقدم ذكره من كون عرشه على الماء ومن كتابته في الذكر، وهذا اللفظ أولى بلفظ رسول الله {{صل}}؛ لما فيه من تمام البيان وحصول المقصود بلفظة الترتيب، وإن كان لفظه الواو فقد دل سياق الكلام على أن مقصوده أنه خلق السموات والأرض بعد ذلك، وكما دل على ذلك سائر النصوص، فإنه قد علم أنه لم يكن مقصوده الإخبار بخلق العرش ولا الماء، فضلا عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارنًا لخلق السموات والأرض، وإذا لم يكن في اللفظ ما يدل على خلق ذلك إلا مقارنة خلقه لخلق السموات والأرض وقد أخبر عن خلق السموات مع كون ذلك علم أن مقصوده أنه خلق السموات والأرض حين كان العرش على الماء، كما أخبر بذلك في القرآن، وحينئذ يجب أن يكون العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح حيث قال: «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، فأخبر أن هذا التقدير السابق لخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة حين كان عرشه على الماء.
 
الوجه السادس: أن النبي {{صل}}؛ إما أن يكون قد قال: «كان ولم يكن قبله شيء»، وإما أن يكون قد قال: «ولا شيء معه»، أو «غيره». فإن كان إنما قال اللفظ الأول لم يكن فيه تعرض لوجوده تعالى قبل جميع الحوادث. وإن كان قد قال الثاني، أو الثالث فقوله: «ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر»؛ إما أن يكون مراده أنه حين كان لا شيء معه كان عرشه على الماء، أو كان بعد ذلك كان عرشه على الماء. فإن أراد الأول كان معناه لم يكن معه شيء من هذا الأمر المسؤول عنه، وهو هذا العالم، ويكون المراد أنه كان الله قبل هذا العالم المشهود، وكان عرشه على الماء.
 
وأما القسم الثالث، وهو أن يكون المراد به كان لا شيء معه، وبعد ذلك كان عرشه على الماء، وكتب في الذكر، ثم خلق السموات والأرض، فليس في هذا إخبار بأول ما خلقه الله مطلقًا، بل ولا فيه إخباره بخلق العرش والماء، بل إنما فيه إخباره بخلق السموات والأرض، ولا صرح فيه بأن كون عرشه على الماء كان بعد ذلك، بل ذكره بحرف الواو، والواو للجمع المطلق، والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه. وإذا كان لم يبين الحديث أول المخلوقات، ولا ذكر متى كان خلق العرش الذي أخبر أنه كان على الماء مقرونًا بقوله: «كان الله ولا شيء معه»، دل ذلك على أن النبي {{صل}} لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء، وبابتداء المخلوقات بعد ذلك؛ إذ لم يكن لفظه دالا على ذلك، وإنما قصد الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض.
 
الوجه السابع: أن يقال: لا يجوز أن يجزم بالمعني الذي أراده الرسول {{صل}} إلا بدليل يدل على مراده، فلو قدر أن لفظه يحتمل هذا المعني، وهذا المعني لم يجز الجزم بأحدهما إلا بدليل، فيكون إذا كان الراجح هو أحدهما، فمن جَزَمَ بأن الرسول {{صل}} أراد ذلك المعني الآخر فهو مخطئ.
 
الوجه الثامن: أن يقال: هذا المطلوب لو كان حقًا لكان أَجَلُّ من أن يحتج عليه بلفظ محتمل في خبر لم يروه إلا واحدًا، ولكان ذكر هذا في القرآن والسنة من أهم الأمور؛ لحاجة الناس إلى معرفة ذلك؛ لما وقع فيه من الاشتباه والنزاع واختلاف الناس. فلما لم يكن في السنة ما يدل على هذا المطلوب، لم يجز إثباته بما يظن أنه معني الحديث بسياقه، وإنما سمعوا أن النبي {{صل}} قال: «كان الله ولا شيء معه» فظنوه لفظًا ثابتًا مع تجرده عن سائر الكلام الصادر عن النبي {{صل}}، وظنوا معناه الإخبار بتقدمه تعالى على كل شيء، وبنوا على هذين الظنين نسبة ذلك إلى النبي {{صل}}، وليس عندهم بواحدة من المقدمتين علم، بل ولا ظن يستند إلى إمارة.
 
وهَبْ أنهم لم يجزموا بأن مراده المعني الآخر، فليس عندهم ما يوجب الجزم بهذا المعني وجاء بينهم الشك، وهم ينسبون إلى الرسول ما لا علم عندهم بأنه قاله، وقد قال تعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } <ref>[الإسراء: 36]</ref>، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ على اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 33]</ref>. وهذا كله لا يجوز.
 
الوجه العاشر: أنه قد زاد فيه بعض الناس: «وهو الآن على ما عليه كان»، وهذه الزيادة إنما زادها بعض الناس من عنده، وليست في شيء من الروايات. ثم إن منهم من يتأولها على أنه ليس معه الآن موجود، بل وجوده عين وجود المخلوقات، كما يقوله أهل وحدة الوجود الذين يقولون: عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، كما يقوله ابن عربي، وابن سبعين، والقَوْنَوِي، والتلمساني، وابن الفارض، ونحوهم. وهذا القول مما يعلم بالاضطرار شرعا وعقلا أنه باطل.
 
الوجه الحادي عشر: أن كثيرًا من الناس يجعلون هذا عمدتهم من جهة السمع، أن الحوادث لها ابتداء، وأن جنس الحوادث مسبوق بالعدم إذ لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطق به، مع أنهم يحكون هذا عن المسلمين وإليهود والنصاري، كما يوجد مثل هذا في كتب أكثر أهل الكلام المبتدع في الإسلام الذي ذمه السلف، وخالفوا به الشرع والعقل. وبعضهم يحكيه إجماعًا للمسلمين، وليس معهم بذلك نقل؛ لا عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن الكتاب والسنة، فضلا عن أن يكون هو قول جميع المسلمين.
 
وبعضهم يظن أن من خالف ذلك فقد قال: بقِدَم العالم، ووافق الفلاسفة الدهرية؛ لأنه نظر في كثير من كتب الكلام فلم يجد فيها إلا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم؛ إما صورته وإما مادته، سواء قيل: هو موجود بنفسه، أو معلول لغيره. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام؛ الجهمية، والمعتزلة، والكرامية، الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بشيء، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب أصلا.
 
وطائفة أخرى كالكلابية ومن وافقهم يقولون: بل الكلام قديم العين؛ إما معني واحد، وإما أحرف وأصوات قديمة أزلية قديمة الأعيان، ويقول هؤلاء: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئًا، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم حدث ما يحدث بقدرته ومشيئته؛ إما قائمًا بذاته، أو منفصلا عنه عند من يجوز ذلك، وإما منفصلا عنه عند من لم يجوز قيام ذلك بذاته.
 
ومعلوم أن هذا القول أشبه بما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء، وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام. فمن ظن أنه ليس للناس إلا هذان القولان وكان مؤمنًا بأن الرسل لا يقولون إلا حقًا يظن أن هذا قول الرسل ومن اتبعهم. ثم إذا طولب بنقل هذا القول عن الرسل لم يمكنه ذلك، ولم يمكن لأحد أن يأتي بآية ولا حديث يدل على ذلك، لا نصًا ولا ظاهرًا، بل ولا يمكنه أن ينقل ذلك عن أحد من أصحاب النبي {{صل}} والتابعين لهم بإحسان.
 
وقد جعلوا ذلك معني حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم. فيبقي أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم، ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول قاله، ولا في العقل ما يدل عليه، بل العقل والسمع يدل على خلافه. ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول جاء به كان من أضل الناس في دينه.
 
الوجه الثاني عشر: أنهم لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتًا لحدوث الأجسام، فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بل كلامه مخلوق منفصل عنه، وكذلك رضاه وغضبه، والتزموا على ذلك أن الله لا يُرَي في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، إلى غير ذلك من اللوازم التي نفوا بها ما أثبته الله ورسوله، وكان حقيقة قولهم تكذيبًا لما جاء به الرسول {{صل}}، وتَسَلّط أهل العقول على تلك الحجج التي لهم، فبينوا فسادها.
 
وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم ونسوا فساده. ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول {{صل}} واعتقدوا أنه باطل، قالوا: إن الرسول لم يبين الحقائق سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به. فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين وقولهم. وقد رأوا أن قول أولئك باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلا، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله {{صل}}.
 
الوجه الثالث عشر: أن الغلط في معني هذا الحديث هو من عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل والمعقول الصريح؛ فإنه أوقع كثيرًا من النظار وأتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين: قول الدهرية القائلين بالقدم، وقول الجهمية القائلين بأنه لم يزل معطلا عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصي منهم، ومنهم من صرح بذلك عن نفسه كما صرح به الرازي وغيره.
 
ومن أعظم أسباب ذلك أنهم نظروا في حقيقة قول الفلاسفة فوجدوا أنه لم يزل المفعول المعين مقارنًا للفاعل أزلا وأبدًا، وصريح العقل يقتضي بأنه لابد أن يتقدم الفاعل على فعله، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارنًا له لم يتقدم الفاعل عليه، بل هو معه أزلا وأبدًا أمر يناقض صريح العقل. وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقا يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن. ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أنه خلق السموات والأرض مما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم تكونا، وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر، ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية كابن سينا وأمثاله.
 
وأما جمهور الفلاسفة الدهرية كأرسطو وأتباعه فلا يقولون: إن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء، بل قولهم، وإن كان أشد فسادًا من قول متأخريهم، فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء، وإن كانوا خالفوه من جهات أخري، ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم، فوجدوا أن الفاعل صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلا، ورأوا صريح العقل يقتضي بأنه إذا صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا، فلابد من حدوث شيء، وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكنا بعد أن كان ممتنعًا بلا حدوث، وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث، وأن حدوث جنس الوقت ممتنع، فصاروا يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل، وأنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن فيكون الفعل معه، فيكون الفعل مقارنًا غير مقارن بأن كان بعد أن لم يكن حادثًا مسبوقًا بالعدم، فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقا بالعدم، ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقا بالعدم، ووجدوا عقولهم تقصر عما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي، والجمع بين النقيضين ممتنع، فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك.
 
ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل، فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة، ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات؛ وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلما بشيء بعد شيء دائمًا، وكون الفاعل يفعل شيئًا بعد شيء دائمًا، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول: كل واحد من أفعاله لابد أن يكون مسبوقا بالفاعل وأن يكون مسبوقا بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلا وأبدًا وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلا بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حيًا، وقيل: إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث، كالبخاري والدارمي، وغيرهما، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء وبما شاء، ونحو ذلك، كما قاله ابن المبارك وأحمد، وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة كان كونه متكلما أو فاعلا من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلما فعالا، مع العلم بأن الحي يتكلم ويفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق، ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق له قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول: لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكا، لا شبه له ولا كيف.
 
فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدر أنه لم يزل خالقًا فعالا.
 
وإذا قيل: إن الخلق صفة كمال؛ لقوله تعالى: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } <ref>[النحل: 17]</ref>، أمكن أن تكون خالقيته دائمة وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم. وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلا غير قادر على الفعل ثم يصير قادرًا، والفعل ممكنًا له بلا سبب. وأما جعل المفعول المعين مقارنًا له أزلًا وأبدًا فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارنًا لمفعوله أزلا وأبدًا مخالف لصريح المعقول.
 
فهؤلاء الفلاسفة الدهرية، وإن ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعلية، فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية، وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى، ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما أنزل على الرسول {{صل}} فإن أوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } <ref>[العلق: 1 5]</ref> فأطلق الخلق، ثم خص الإنسان، وأطلق التعليم ثم خص التعليم بالقلم، والخلق يتضمن فعله، والتعليم يتضمن قوله، فإنه يعلم بتكليمه وتكليمه بالإيحاء، وبالتكلم من وراء حجاب، وبإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء، قال تعالى: { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } <ref>[النساء: 113]</ref>، وقال تعالى: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } <ref>[آل عمران: 61]</ref>، وقال تعالى: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إليكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } <ref>[طه: 114]</ref>، وقال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } <ref>[الرحمن: 1 5]</ref>.
 
وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم، فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارنًا له أزلًا وأبدًا، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولا له، فإن الفاعل لابد أن يتقدم على فعله، وعندهم أنه لا يعلم شيئًا من جزئيات العلم، والتعليم فرع العلم، فمن لم يعلم الجزئيات يمتنع أن يعلمها غيره، وكل موجود فهو جزئي لا كلي، كذا الكليات إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان، فإذا لم يعلم شيئًا من الجزئيات لم يعلم شيئًا من الموجودات، فامتنع أن يعلم غيره شيئًا، من العلم بالموجودات المعينة.
 
ومن قال منهم: لا يعلم لا كليًا ولا جزئيًا فقوله أقبح. ومن قال: يعلم الكليات الثابتة دون المتغيرة فهو عندهم لا يعلم شيئًا من الحوادث، ولا يعلمها لأحد من خلقه، كما يقتضي قولهم أنه لم يخلقها، فعلى قولهم لا خلق ولا علم وهذا حقيقة قول مقدمهم أرسطو، فإنه لم يثبت أن الرب مبدع للعالم، ولا جعله علة فاعلة، بل الذي أثبته أنه علة غائية يتحرك الفلك لتشبهه به كتحريك المعشوق للعاشق، وصرح بأنه لا يعلم الأشياء، فعنده لا خلق ولا علم. وأول ما أنزل الله على نبيه محمد {{صل}}: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } <ref>[العلق: 1 5]</ref>.
 
الوجه الرابع عشر: أن الله تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته، وهي المخلوقات المشهودة الموجودة من السموات والأرض وما بينهما، فأخبر في الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدي منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش.
 
وشرع لأهل الإيمان أن يجتمعوا كل أسبوع يومًا يعبدون الله فيه ويحتفلون بذلك، ويكون ذلك آية على الأسبوع الأول الذي خلق الله فيه السموات والأرض. ولما لم يعرف الأسبوع إلا بخبر الأنبياء فقد جاء في لغتهم عليهم السلام أسماء أيام الأسبوع، فإن التسمية تتبع النصوص، فالاسم يعبر عما تصوره، فلما كان تصور اليوم والشهر والحول معروفًا بالعقل تصورت ذلك الاسم وعبرت عن ذلك، وأما الأسبوع، فلما لم يكن في مجرد العقل ما يوجب معرفته، فإنما عرف بالسمع صارت معرفته عند أهل السمع المتلقين عن الأنبياء دون غيرهم، وحينئذ فأخبروا الناس بخلق هذا العالم الموجود المشهود وابتداء خلقه، وأنه خلقه في ستة أيام، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئًا بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما. وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلا.
 
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قام فينا رسول الله {{صل}} مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم. رواه البخاري. فالنبي {{صل}} أخبرهم ببدء الخلق إلى دخول أهل الجنة والنار منازلهما.
 
وقوله: «بدأ الخلق» مثل قوله في الحديث الآخر: «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» فإن الخلائق هنا المراد بها الخلائق المعروفة المخلوقة بعد خلق العرش وكونه على الماء؛ ولهذا كان التقدير للمخلوقات هو التقدير لخلق هذا العالم، كما في حديث القلم: «إن الله لما خلقه قال: اكتب قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة».
 
وكذلك في الحديث الصحيح: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وقوله في الحديث الآخر الصحيح: «كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض»، يراد به أنه كتب كل ما أراد خلقه من ذلك؛ فإن لفظ كل شيء يعم في كل موضع بحسب ما سِيقَت له، كما في قوله: { بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ } <ref>[البقرة: 29]</ref>، و { على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } <ref>[البقرة: 106]</ref>، وقوله: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } <ref>[الزمر: 62]</ref> و { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } <ref>[الأحقاف: 25]</ref>، { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } <ref>[النمل: 23]</ref>، و { فَتَحْنَا عليهمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } <ref>[الأنعام: 44]</ref>، { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } <ref>[الذاريات: 49]</ref> وأخبرت الرسل بتقدم أسمائه وصفاته كما في قوله: { وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } <ref>[النساء: 158]</ref>، { سَمِيعًا بَصِيرًا } <ref>[النساء: 58]</ref>، { غَفُورًا رَّحِيمًا } <ref>[النساء: 23]</ref>، وأمثال ذلك.
 
قال [[ابن عباس]]: كان ولا يزال. ولم يقيد كونه بوقت دون وقت ويمتنع أن يحدث له غيره صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره سبحانه، فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك. فلا يتوقف شيء من كماله ولوازم كماله على غيره، بل نفسه المقدسة، وهو المحمود على ذلك أزلا وأبدًا، وهو الذي يحمد نفسه ويثني عليها بما يستحقه. وأما غيره فلا يحصي ثناء عليه، بل هو نفسه كما أثني على نفسه، كما قال سيد ولد آدم في الحديث الصحيح: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
 
وإذا قيل: لم يكن متكلما ثم تكلم، أو قيل: كان الكلام ممتنعًا ثم صار ممكنًا له، كان هذا مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال، ومع تشبيهه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال ممتنعًا من جهة أن الممتنع لا يصير ممكنًا بلا سبب، والعدم المحض لا شيء فيه. فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكنًا بلا سبب حادث.
 
وكذلك إذا قيل: كلامه كله معني واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا في الحقيقة تعطيلا للكلام، وجمعًا بين المتناقضين؛ إذ هو إثبات لموجود لا حقيقة له، بل يمتنع أن يكون موجودًا مع أنه لا مدح فيه ولا كمال.
 
وكذلك إذا قيل: كلامه كله قديم العين، وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده في المعقول لا كمال فيه؛ إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه.
 
أما قول من يقول: ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره، فهذا تعطيل للكلام من كل وجه، وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية، وهو سَلْب للصفات؛ إذ فيه من التناقض والفساد حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهى، ويخبر ويبشر، وينذر وينادي، من غير أن يقوم به شيء من ذلك، كما قالوا: إنه يريد ويحب ويبغض ويغضب، من غير أن يقوم به شيء من ذلك، وفي هذا من مخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ماهو مذكور في غير هذا الموضع.
 
وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف؛ ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره، ولم يكن كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس. من المعقولات والمتخيلات، وهذا معني تكليمه لموسى عليه السلام عندهم، فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم. ثم إذا قالوا مع ذلك: إنه لا يعلم الجزئيات، فلا علم ولا إعلام، وهذا غاية التعطيل والنقص، وهم ليس لهم دليل قط على قدم شيء من العالم، بل حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل، وأنه لم يزل الفاعل فاعلا أو لم يزل لفعله مدة، أو أنه لم يزل للمادة مادة. وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك، ولا قدم شيء من حركاته، ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك. والرسل أخبرت بخلق الأفلاك، وخلق الزمان الذي هو مقدار حركتها، مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك، وفي زمان قبل هذا الزمان، فإنه سبحانه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وسواء قيل: إن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها، أو قيل: إنها أكبر منها، كما قال بعضهم: إن كل يوم قدره ألف سنة، فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك. وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السموات والأرض.
 
وقد أخبر سبحانه أنه: { اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } <ref>[فصلت: 11]</ref>، فخلقت من الدخان، وقد جاءت الآثار عن السلف أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، المذكور في قوله: { وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ على الْمَاء } <ref>[هود: 7]</ref>، فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في مدة ومن مادة، ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئا، كما قال: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } <ref>[مريم: 9]</ref>، مع إخباره أنه خلقه من نطفة.
 
وقوله: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } <ref>[الطور: 53]</ref> فيها قولان.
 
فالأكثرون على أن المراد أم خلقوا من غير خالق بل من العدم المحض؟ كما قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } <ref>[الجاثية: 13]</ref>، وكما قال تعالى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } <ref>[النساء: 171]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ } <ref>[النحل: 53]</ref>.
 
وقيل: أم خلقوا من غير مادة؟ وهذا ضعيف؛ لقوله بعد ذلك: { أّمً هٍمٍ بًخّالٌقٍونّ } <ref>[الطور: 53]</ref>، فدل ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق، أم هم الخالقون؟ ولو كان المراد من غير مادة لقال: أم خلقوا من غير شيء، أم من ماء مهين؟ فدل على أن المراد أنا خالقهم لا مادتهم.
 
ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في إيمانهم بالخالق بل دل على جهلهم، ولأنهم لم يظنوا ذلك ولا يوسوس الشيطان لابن آدم بذلك، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم، ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم، ولا يمنع كفرهم. والاستفهام استفهام إنكار، مقصوده تقريرهم أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقًا خلقهم نفعهم ذلك، وأما إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغن ذلك عنهم من الله شيئًا.
 
الوجه الخامس عشر: أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء، ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به، وما سوي ذلك نقص يجب نفيه عنه، فإن كونه لم يكن قادرًا ثم صار قادرًا على الكلام أو الفعل مع أنه وصف له، فإنه يقتضي أنه كان ناقصًا عن صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته، والتي هي من أظهر صفات الكمال، فهو ممتنع في العقل بالبرهان اليقيني، فإنه إذا لم يكن قادرًا ثم صار قادرًا فلابد من أمر جعله قادرًا بعد أن لم يكن، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادرًا بعد أن لم يكن، وكذلك يمتنع أن يصير عالما بعد أن لم يكن قبل هذا، بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم ولا قادر، ثم جعله غيره عالمًا قادرًا، وكذلك إذا قالوا: كان غير متكلم ثم صار متكلما.
 
وهذا مما أورده الإمام أحمد على الجهمية؛ إذ جعلوه كان غير متكلم ثم صار متكلما. قالوا: كالإنسان، قال: فقد جمعتم بين تشبيه وكفر. وقد حكيت ألفاظه في غير هذا الموضع.
 
وإذا قال القائل: كان في الأزل قادرًا على أن يخلق فيما لا يزال، كان هذا كلاما متناقضًا؛ لأنه في الأزل عندهم لم يكن يمكنه أن يفعل، ومن لم يمكنه الفعل في الأزل امتنع أن يكون قادرًا في الأزل؛ فإن الجمع بين كونه قادرًا وبين كون المقدور ممتنعًا جمع بين الضدين، فإنه في حال امتناع الفعل لم يكن قادرًا.
 
وأيضا، يكون الفعل ينتقل من كونه ممتنعًا إلى كونه ممكنًا بغير سبب موجب يحدد ذلك وعدم ممتنع.
 
وأيضا، فما من حال يقدرها العقل إلا والفعل فيها ممكن وهو قادر، وإذا قدر قبل ذلك شيئًا شاءه الله فالأمر كذلك، فلم يزل قادرًا والفعل ممكن، وليس لقدرته وتمكنه من الفعل أول، فلم يزل قادرًا يمكنه أن يفعل، فلم يكن الفعل ممتنعًا عليه قط.
 
وأيضا، فإنهم يزعمون أنه يمتنع في الأزل، والأزل ليس شيئًا محدودًا يقف عنده العقل، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة، حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها، وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة فني الخردل كله والأزل لم ينته، ولو قدر أضعاف ذلك أضعافا لا ينتهي. فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك. وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكنًا. وإذا كان ممكنًا، فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهي؟
 
وأيضا، فالأزل معناه: عدم الأولية، ليس الأزل شيئًا محدودًا، فقولنا: لم يزل قادرًا بمنزلة قولنا: هو قادر دائمًا، وكونه قادرًا وصف دائم لا ابتداء له، فكذلك إذا قيل: لم يزل متكلما إذا شاء، ولم يزل يفعل ماشاء، يقتضي دوام كونه متكلما وفاعلا بمشيئته وقدرته، وإذا ظن الظَّانُّ أن هذا يقتضي قدم شيء معه كان من فساد تصوره، فإنه إذا كان خالق كل شيء فكل ما سواه مخلوق مسبوق بالعدم، فليس معه شيء قديم بقدمه. وإذا قيل: لم يزل يخلق، كان معناه لم يزل يخلق مخلوقا بعد مخلوق، كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقا بعد مخلوق، ننفي ما ننفيه من الحوادث والحركات شيئًا بعد شيء وليس في ذلك إلا وصفه بدوام الفعل، لا بأن معه مفعولا من المفعولات بعينه.
 
وإن قدر أن نوعها لم يزل معه، فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من كماله، قال تعالى: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } <ref>[النحل: 17]</ref>، والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، وبين الأزل في المستقبل مع أنه في الماضي حدث بعد أن لم يكن؛ إذ كان كل مخلوق فله ابتداء، ولا نجزم أن يكون له انتهاء.
 
وهذا فرق في أعيان المخلوقات، وهو فرق صحيح، لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين، كما اشتبه ذلك على كثير من الناس في الكلام، فلم يفرقوا بين كون كلامه قديما بمعني أنه لم يزل متكلما إذا شاء، وبين كون الكلام المعين قديما.
 
وكذلك لم يفرقوا بين كون الفعل المعين قديما، وبين كون نوع الفعل المعين قديما، كالفلك محدث مخلوق مسبوق بالعدم، وكذلك كل ما سواه، وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة والآثار، وهو الذي تدل عليه المعقولات الصريحة الخالصة من الشبه، كما قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبينا مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح.
 
وإن غلط أهل الفسلفة والكلام، أو غيرهم فيهما، أو في أحدهما، وإلا فالقول الصدق المعلوم بعقل أو سمع يصدق بعضه بعضًا، لا يكذب بعضه بعضًا، قال تعالى: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } <ref>[الزمر: 33]</ref>، بعد قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي على اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ } <ref>[العنكبوت: 68]</ref>، وإنما مدح من جاء بالصدق وصدق بالحق الذي جاءه. وهذه حال من لم يقبل إلا الصدق، ولم يرد ما يجيئه به غيره من الصدق، بل قبله ولم يعارض بينهما ولم يدفع أحدهما بالآخر، وحال من كذب على الله ونسب إليه بالسمع أو العقل ما لا يصح نسبته إليه، أو كذب بالحق لما جاءه، فكذب من جاء بحق معلوم من سمع أو عقل، وقال تعالى عن أهل النار: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } <ref>[الملك: 10]</ref>، فأخبر أنه لو حصل لهم سمع أو عقل ما دخلوا النار، وقال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَي الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } <ref>[الحج: 46]</ref>، وقال تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } <ref>[فصلت: 53]</ref>، أي: أن القرآن حق، فأخبر أنه سَيُرِي عباده الآيات المشهودة المخلوقة، حتى يَتَبَّين أن الآيات المتْلُوَّة المسموعة حق. ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك.
 
فطائفة كأرسطو وأتباعه قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثا، وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلا لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثا بعد أن لم يكن حادثا، مع أن قبل وبعد لا يكون إلا في زمان، وهذه القضايا كلها إنما تصدق كلية لا تصدق معينة، ثم ظنوا أن الحركة المعينة وهي حركة الفلك هي القديمة الأزلية وزمانها قديم، فضلوا ضلالا مبينًا مخالفًا لصحيح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، مع مخالفته لصريح المعقول الذي عليه جمهور العقلاء من الأولين والآخرين.
 
وطائفة طنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون فاعل الجميع لم يزل معطلا، ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلا، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادرًا بعد أن لم يكن بلا سبب، وكان الشيء بعد مالم يكن في غير زمان، وأمثال ذلك مما يخالف صريح العقل.
 
وهم يظنون مع ذلك أن هذا قول أهل الملل من المسلمين وإليهود والنصاري، وليس هذا القول منقولا عن موسي، ولا عيسي، ولا محمد صلوات الله عليهم وسلامه، ولا عن أحد من أصحابهم، إنما هو مما أحدثه بعض أهل البدع، وانتشر عند الجهال بحقيقة أقوال الرسل وأصحابهم، فظنوا أن هذا قول الرسل صلى الله عليهم وسلم، وصار نسبة هذا القول إلى الرسل وأتباعهم يوجب القدح فيهم؛ إما بعدم المعرفة بالحق في هذه المطالب العالية، وإما بعدم بيان الحق. وكل منهما يوجب عند هؤلاء أن يعزلوا الكتاب والسنة وآثار السلف عن الاهتداء.
 
وإنما ضلوا لعدم علمهم بما كان عليه الرسول {{صل}} وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان. فإن الله تعالى أرسل رسوله {{صل}} بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدًا.
 
===شرح حديث إنما الأعمال بالنيات===
وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله المستوجب لصفات المدح والكمال، المستحق للحمد على كل حال، لا يحصي أحد ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه بأكمل الثناء وأحسن المقال، فهو المنعم على العباد بالخلق، وبإرسال الرسل إليهم، وبهداية المؤمنين منهم لصالح الأعمال. وهو المتفضل عليهم بالعفو عنهم، وبالثواب الدائم، بلا انقطاع ولا زوال. له الحمد في الأولى والآخرة، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، متصلا بلا انفصال.
 
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
 
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي هدي به من الضلال، وأمر المؤمنين بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم الآصار والأغلال، فصلى الله عليه وعلى آله خير آل، وعلى أصحابه الذين كانوا نصرة للدين، حتى ظهر الحق وانطمست أعلام الضلال.
 
أما بعد: فإن الله تعالى خلق الخلق لما شاء من حكمته، وأسبغ عليهم ما لا يحصونه من نعمته، وكَرَّمَ بني آدم بأصناف كرامته، وخص عباده المؤمنين باصطفائه وهدايته، وجعل أمة محمد {{صل}} خير أمة أخرجت للناس من بَرِيَّته. وبعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعلمون صدقه وأمانته وجميل سيرته، يتلو عليهم آياته؛ ليخرجهم من ظلمة الكفر وحيرته، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويدعوهم إلى عبادته.
 
وأنزل عليهم أفضل كتاب أنزله إلى خليقته، وجعله آية باقية إلى قيام ساعته، معجزة باهرة مُبْدِية عن حجته، وبينة ظاهرة موضحة لدعوته، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويدلهم على طريق جنته. فالسعيد من اعتصم بكتاب الله، واتبع الرسول في سنته وشريعته. والمهتدي بمناره، المقْتَفِي لآثاره هو أفضل الخلق في دنياه وآخرته، والمحيي لشيء من سنته له أجرها وأجر من عمل بها من غير نقصان في أجر طاعته، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يضاعف الحسنات بفضله ورحمته.
 
وإحياء سنته يشمل أنواعا من البر لسعة فضل الله وكرامته، فيكون بالتبليغ لها والبيان لأجل ظهور الحق ونصرته، ويكون بالإعانة عليها بإنفاق المال والجهاد؛ إعانة على دين الله وعلو كلمته، فالجهاد بالمال مقرون بالجهاد بالنفس، قد ذكره الله تعالى قبله وفي غير موضع لعظم منزلته وثمرته، وقد قال النبي {{صل}}: «من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خَلَفَهُ في أهله بخير فقد غزا» وقال: «من فطر صائما فله مثل أجره» ومثوبته، لا سيما ما يبقي نفعه بعد موت الإنسان ومصيره إلى تربته، كما قال في الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»، فهذه الثلاث هي من أعماله الباقية بعد ميتته، بخلاف ما ينفعه بعد موته من أعمال غيره من الدعاء والصدقة والعتق؛ فإن ذلك ليس من سعيه، بل من سَعْي غيره وشفاعته، وكما يلحق بالمؤمن من يدخله الله الجنة من ذريته.
 
وأصل العمل الصالح هو إخلاص العبد لله في نيته، فإنه سبحانه إنما أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الخلق لعبادته، وهي دعوة الرسل لكافة بريته، كما ذكر ذلك في كتابه على ألسنة رسله بأوضح دلالته؛ ولهذا كان السلف يستحبون أن يفتتحوا مجالسهم وكتبهم وغير ذلك بحديث: «إنما الأعمال بالنيات» في أول الأمر وبدايته فنجري في ذلك على منهاجهم؛ إذ كانوا أفضل جيش الإسلام ومقدمته، فنقول مستعينين بالله على سلوك سبيل أهل ولايته وأحبته:
 
عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التَّيمِي، عن علقمة بن وَقَّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله {{صل}} يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
 
هذا حديث صحيح متفق على صحته، تَلَقَّتْه الأمة بالقبول والتصديق، مع أنه من غرائب الصحيح؛ فإنه، وإن كان قد روي عن النبي {{صل}} من طرق متعددة، كما جمعها ابن مِنْدَه وغيره من الحفاظ، فأهل الحديث متفقون على أنه لا يصح منها إلا من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه المذكورة، ولم يروه عنه إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد إلا يحيي بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة.
 
ورواه عن يحيي بن سعيد أئمة الإسلام، يقال: إنه رواه عنه نحو من مائتي عالم، مثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وحماد، وحماد، وعبد الوهاب الثقفي، وأبي خالد الأحمر، وزائدة، ويحيي بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وغير هؤلاء خلق من أهل مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام، وغيرها، من شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق وطبقتهم، ويحيي بن معين، وعلي بن المديني، وأبي عبيد.
 
ولهذا الحديث نظائر من غرائب الصحاح، مثل: حديث ابن عمر، عن النبي {{صل}}: أنه نهى عن بيع الولاء وهبته. أخرجاه، تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
 
ومثل حديث أنس: أن النبي {{صل}} دخل مكة وعلى رأسه المغفر فقيل: إن ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» أخرجاه، تفرد به الزهري عن أنس، وقيل: تفرد به مالك عن الزهري، فالحديث الغريب: ما تفرد به واحد، وقد يكون غريب المتن، أو غريب الإسناد، ومثل أن يكون متنه صحيحًا من طريق معروفة، وروي من طريق أخرى غريبة.
 
ومن الغرائب ما هو صحيح، وغالبها غير صحيح، كما قال أحمد: اتقوا هذه الغرائب فإن عامتها عن الكذابين؛ ولهذا يقول [[الترمذي]] في بعض الأحاديث: إنه غريب من هذا الوجه.
 
والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح، وحسن، وغريب، وضعيف، ولم يعرف قبله هذا التقسيم عن أحد، لكن كانوا يقسمون الأحاديث إلى صحيح، وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف، وغير ضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف لا يحتج به، وهو الضعيف في اصطلاح الترمذي، والثاني: ضعيف يحتج به، وهو الحسن في اصطلاح الترمذي، كما أن ضعف المرض في اصطلاح الفقهاء نوعان: نوع يجعل تبرعات صاحبه من الثلث، كما إذا صار صاحب فراش، ونوع يكون تبرعات صاحبه من رأس المال، كالمرض اليسير الذي لا يقطع صاحبه، ولهذا يوجد في كلام أحمد وغيره من الفقهاء أنهم يحتجون بالحديث الضعيف؛ كحديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهَجْري وغيرهما؛ فإن ذلك الذي سماه أولئك ضعيفًا هو أرفع من كثير من الحسن، بل هو مما يجعله كثير من الناس صحيحًا، والترمذي قد فسر مراده بالحسن أنه ما تعددت طرقه، ولم يكن فيها متهم، ولم يكن شاذًا.
 
===فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها===
والمعني الذي دل عليه هذا الحديث: أصل عظيم من أصول الدين، بل هو أصل كل عمل؛ ولهذا قالوا: مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث فذكروه منها، كقول أحمد حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، و«مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» «والحلال بَيِّنٌ والحرام بين»، ووجه هذا الحديث أن الدين فِعْلُ ما أمر الله به، وتَرْك ما نهى عنه.
 
فحديث الحلال بين فيه بيان ما نهى عنه. والذي أمر الله به نوعان: أحدهما: العمل الظاهر، وهو ما كان واجبًا أو مستحبًا، والثاني: العمل الباطن، وهو إخلاص الدين لله. فقوله: «من عمل عملا» إلخ ينفي التقرب إلى الله بغير ما أمر الله به؛ أمر إيجاب أو أمر استحباب.
 
وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» إلخ يبين العمل الباطن، وأن التقرب إلى الله إنما يكون بالإخلاص في الدين لله؛ كما قال الفضيل في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } <ref>[الملك: 2]</ref>، قال: أخلصه وأصوبه، قال: فإن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، وعلى هذا دل قوله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>، فالعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله؛ أمر إيجاب أو أمر استحباب، وألا يشرك العبد بعبادة ربه أحدًا، وهو إخلاص الدين لله.
 
وكذلك قوله تعالى: { بَلَي مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } الآية <ref>[البقرة: 112]</ref> وقوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } <ref>[النساء: 125]</ref>، وقوله: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي } <ref>[لقمان: 22]</ref>، فإن إسلام الوجه لله يتضمن إخلاص العمل لله، والإحسان هو إحسان العمل لله وهو فعل ما أمر به فيه كما قال تعالى: { إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } <ref>[الكهف: 30]</ref>، فإن الإساءة في العمل الصالح تتضمن الاستهانة بالأمر به، والاستهانة بنفس العمل، والاستهانة بما وعده الله من الثواب، فإذا أخلص العبد دينه لله وأحسن العمل له كان ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، فكان من الذين لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
 
_فصل_
 
لفظ النية في كلام العرب من جنس لفظ القصد والإرادة، ونحو ذلك، تقول العرب: نواك الله بخير، أي: أرادك بخير، ويقولون: نَوَي مَنْوِيه، وهو المكان الذين ينويه، يسمونه نوي، كما يقولون: قبض بمعني مقبوض، والنية يعبر بها عن نوع من إرادة، ويعبر بها عن نفس المراد، كقول العرب: هذه نيتي، يعني: هذه البقعة هي التي نويت إتيانها، ويقولون: نيته قريبة أو بعيدة، أي: البقعة التي نوي قصدها، لكن من الناس من يقول: إنها أخص من الإرادة؛ فإن إرادة الإنسان تتعلق بعمله وعمل غيره، والنية لا تكون إلا لعمله، فإنك تقول: أردت من فلان كذا، ولا تقول: نويت من فلان كذا.
 
_فصل_
 
وقد تنازع الناس في قوله {{صل}}: «إنما الأعمال بالنيات» هل فيه إضمار، أو تخصيص؟ أو هو على ظاهره وعمومه؟ فذهب طائفة من المتأخرين إلى الأول، قالوا: لأن المراد بالنيات الأعمال الشرعية التي تجب أو تستحب، والأعمال كلها لا تشترط في صحتها هذه النيات، فإن قضاء الحقوق الواجبة من الغُصُوب والعَوَارِي والودائع والديون تَبْرَأ ذمة الدافع، وإن لم يكن له في ذلك نية شرعية، بل تبرأ ذمته منها من غير فعل منه، كما لو تسلم المستحق عين ماله، أو أطارت الريح الثوب المودع أو المغصوب، فأوقعته في يد صاحبه، ونحو ذلك.
 
ثم قال بعض هؤلاء: تقديره إنما ثواب الأعمال المترتبة عليها بالنيات، أو إنما تقبل بالنيات، وقال بعضهم: تقديره إنما الأعمال الشرعية، أو إنما صحتها، أو إنما إجزاؤها، ونحو ذلك.
 
وقال الجمهور: بل الحديث على ظاهره وعمومه، فإنه لم يرد بالنيات فيه الأعمال الصالحة وحدها، بل أراد النية المحمودة والمذمومة، والعمل المحمود والمذموم؛ ولهذا قال في تمامه: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» إلخ، فذكر النية المحمودة بالهجرة إلى الله ورسوله فقط، والنية المذمومة وهي الهجرة إلى امرأة أو مال، وهذا ذكره تفصيلا بعد إجمال، فقال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، ثم فصل ذلك بقوله: «فمن كانت هجرته» إلخ.
 
وقد رُوِي أن سبب هذا الحديث: أن رجلا كان قد هاجر من مكة إلى المدينة لأجل امرأة كان يحبها تُدْعي أم قيس، فكانت هجرته لأجلها، فكان يسمي مهاجر أم قيس، فلهذا ذكر فيه: «أو امرأة يتزوجها وفي رواية ينكحها» فخص المرأة بالذكر لاقتضاء سبب الحديث لذلك. والله أعلم.
 
والسبب الذي خرج عليه اللفظ العام لا يجوز إخراجه منه باتفاق الناس، والهجرة في الظاهر هي: سفر من مكان إلى مكان، والسفر جنس تحته أنواع مختلفة تختلف باختلاف نية صاحبه. فقد يكون سفرًا واجبًا، كحج أو جهاد متعين، وقد يكون محرمًا؛ كسفر العَادِي لقطع الطريق، والباغي على جماعة المسلمين، والعبد الآبق. والمرأة الناشز.
 
ولهذا تكلم الفقهاء في الفرق بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فقالوا: إذا سافر سفرًا مباحًا؛ كالحج والعمرة والجهاد جاز له فيه القصر والفطر باتفاق الأئمة الأربعة، وإن عصي في ذلك السفر. وأما إذا كان عاصيًا بسفره؛ كقطع الطريق، وغير ذلك فهل يجوز له الترخص برخص السفر كالفطر والقصر؟ فيه نزاع:
 
فمذهب مالك، والشافعي، وأحمد: أنه لا يجوز له القصر والفطر، ومذهب أبي حنيفة يجوز له ذلك، وإذا كان النبي {{صل}} قد ذكر هذا السفر وهذا السفر علم أن مقصوده ذكر جنس الأعمال مطلقًا، لا نفس العمل الذي هو قربة بنفسه كالصلاة والصيام، ومقصوده ذكر جنس النية، وحينئذ يتبين أن قوله: «إنما الأعمال بالنيات» مما خصه الله تعالى به من جوامع الكلم، كما قال: «بعثت بجوامع الكلم»، وهذا الحديث من أجمع الكلم الجوامع التي بعث بها، فإن كل عمل يعمله عامل من خير وشر هو بحسب ما نواه، فإن قصد بعمله مقصودًا حسنًا كان له ذلك المقصود الحسن، وإن قصد به مقصودًا سيئًا كان له ما نواه.
 
_فصل_
 
ولفظ النية يراد بها النوع من المصدر، ويراد بها المنوي، واستعمالها في هذا لعله أغلب في كلام العرب، فيكون المراد إنما الأعمال بحسب ما نواه العامل، أي: بحسب منويه؛ولهذا قال في تمامه: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» فذكر ما ينويه العامل ويريده بعمله وهو الغاية المطلوبة له، فإن كل متحرك بالإرادة لابد له من مراد.
 
ولهذا قال {{صل}}: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها حرب ومرة، وأصدقها حارث وهمام» فإن كل آدمي حارث وهمام، والحارث هو العامل الكاسب، والهمام الذي يهم ويريد. قال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } <ref>[الشورى: 20]</ref>، فقوله حرث الدنيا أي: كسبها وعملها؛ ولهذا وضع الحريري مقاماته على لسان الحارث بن همام؛ لصدق هذا الوصف على كل أحد.
 
_فصل_
 
ولفظ النية يجري في كلام العلماء على نوعين: فتارة يريدون بها تمييز عمل من عمل، وعبادة من عبادة، وتارة يريدون بها تمييز معبود عن معبود، ومعمول له عن معمول له.
 
فالأول: كلامهم في النية: هل هي شرط في طهارة الأحداث؟ وهل تشترط نية التعيين والتبييت في الصيام؟ وإذا نوي بطهارته ما يستحب لها هل تجزيه عن الواجب؟ أو أنه لابد في الصلاة من نية التعيين ونحو ذلك؟
 
والثاني: كالتمييز بين إخلاص العمل لله، وبين أهل الرياء والسمعة، كما سألوا النبي {{صل}} عن الرجل يقاتل شجاعة وحَمِيَّة ورياءً، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وهذا الحديث يدخل فيه سائر الأعمال، وهذه النية تميز بين من يريد الله بعمله والدار الآخرة، وبين من يريد الدنيا؛ مالا وجاها ومدحًا وثناءً وتعظيمًا، وغير ذلك، والحديث دل على هذه النية بالقصد، وإن كان قد يقال: إن عمومه يتناول النوعين، فإنه فرق بين من يريد الله ورسوله، وبين من يريد دنيا أو امرأة، ففرق بين معمول له ومعمول له. ولم يفرق بين عمل وعمل.
وقد ذكر الله تعالى الإخلاص في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } <ref>[البينة: 5]</ref>، وقوله: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } <ref>[الزمر: 2، 3]</ref>. وقوله: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي } <ref>[الزمر: 14]</ref>، وغير ذلك من الآيات.
 
وإخلاص الدين هو أصل دين الإسلام؛ ولذلك ذم الرياء في مثل قوله: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصلينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } <ref>[الماعون: 46]</ref>، وقوله: { وَإِذَا قَامُواْ إلى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلًا } <ref>[النساء: 142]</ref>، وقال تعالى: { كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ } الآية <ref>[البقرة: 264]</ref>، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ } الآية <ref>[النساء: 38]</ref>.
 
_فصل_
 
وقد اتفق العلماء على أن العبادة المقصودة لنفسها؛ كالصلاة والصيام والحج لا تصح إلا بنية، وتنازعوا في الطهارة، مثل: مَنْ يكون عليه جنابة فينساها، ويغتسل للنظافة، فقال مالك والشافعي وأحمد: النية شرط لطهارة الأحداث كلها. وقال أبو حنيفة: لا تشترط في الطهارة بالماء بخلاف التيمم، وقال زُفَر: لا تشترط لا في هذا ولا في هذا، وقال بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد: تشترط لإزالة النجاسة، وهذا القول شاذ؛ فإن إزالة النجاسة لا يشترط فيها عمل العبد، بل تزول بالمطر النازل، والنهر الجاري، ونحو ذلك، فكيف تشترط لها النية؟
 
وأيضا، فإن إزالة النجاسة من باب التروك لا من باب الأعمال؛ ولهذا لو لم يخطر بقلبه في الصلاة أنه مجتنب النجاسة صَحَّت صلاته إذا كان مجتنبًا لها؛ ولهذا قال مالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه: لو صلى وعليه نجاسة لم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم يُعِد؛ لأنه من باب التروك.
 
وقد ذكر الله عن المؤمنين قولهم: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } <ref>[البقرة: 286]</ref>. وثبت عن النبي {{صل}}: «أن الله تعالى قال قد فعلت» فمن فعل ما نهى عنه ناسيًا أو مخطئًا فلا إثم عليه، بخلاف من ترك ما أمر به، كمن ترك الصلاة فلابد من قضائها.
 
ولهذا فرق أكثر العلماء في الصلاة والصيام والإحرام بين من فعل المحظور ناسيًا، وبين من ترك الواجب ناسيًا، كمن تكلم في الصلاة ناسيًا، ومن أكل في الصيام ناسيًا، ومن تطيب أو لبس ناسيًا في الإحرام. والذين يوجبون النية في طهارة الأحداث يحتجون بهذا الحديث على أبي حنيفة، وأبو حنيفة يسلم أن الطهارة غير المنوية ليست عبادة ولا ثواب فيها، وإنما النزاع في صحة الصلاة بها، فقوله {{صل}}: «إنما الأعمال بالنيات» لا يدل على محل النزاع إلا إذا ضمت إليه مقدمة أخري، وهو أن الطهارة لا تكون إلا عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وهذه المقدمة إذا سلمت لم تَحْتَجْ إلى الاستدلال بهذا، فإن الناس متفقون على أن ما لا يكون إلا عبادة لا يصح إلا بنية، بخلاف ما يقع عبادة وغير عبادة، كأداء الأمانات وقضاء الديون.
 
وحينئذ، فالمسألة مدارها على أن الوضوء هل يقع غير عبادة؟ والجمهور يحتجون بالنصوص الواردة في ثوابه، كقوله: «إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء» وأمثال ذلك، فيقولون: ففيه الثواب لعموم النصوص، والثواب لا يكون إلا مع النية، فالوضوء لا يكون إلا بنية.
 
وأبو حنيفة يقول: الطهارة شرط من شرائط الصلاة، فلا تشترط لها النية؛ كاللباس وإزالة النجاسة، وأولئك يقولون: اللباس والإزالة يقعان عبادة وغير عبادة؛ ولهذا لم يَرِد نص بثواب الإنسان على جنس اللباس والإزالة، وقد وردت النصوص بالثواب على جنس الوضوء.
 
وأبو حنيفة يقول: النصوص وردت بالثواب على الوضوء المعتاد، وعامة المسلمين إنما يتوضؤون بالنية، والوضوء الخالي عن النية نادر لا يقع إلا لمثل من أراد تعليم غيره، ونحو ذلك، والجمهور يقولون: هذا الوضوء الذي اعتاده المسلمون هو الوضوء الشرعي الذي تصح به الصلاة، وما سوي هذا لا يدخل في نصوص الشارع، كقوله {{صل}}: «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»، فإن المخاطبين لا يعرفون الوضوء المأمور به إلا الوضوء الذي أثني عليه، وحث عليه، وغير هذا لا يعرفونه، فلا يقصد إدخاله في عموم كلامه، ولا يتناوله النص.
 
_فصل_
 
وأما النية التي هي إخلاص الدين لله فقد تكلم الناس في حَدِّها، وحد الإخلاص، كقول بعضهم: المخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مَثَاقِيل الذَّرِّ من عمله، وأمثال ذلك من كلامهم الحسن. لكن كلامهم يتضمن الإخلاص في سائر الأعمال، وهذا لا يقع من سائر الناس، بل لا يقع من أكثرهم، بل غالب المسلمين يخلصون لله في كثير من أعمالهم؛ كإخلاصهم في الأعمال المشتركة بينهم، مثل صوم شهر رمضان، فغالب المسلمين يصومونه لله، وكذلك مَنْ داوم على الصلوات فإنه لا يصلي إلا لله عز وجل، بخلاف من لم يحافظ عليها فإنما يصلي حياءً، أو رياء، أو لعلة دنيوية؛ ولهذا قال {{صل}} فيما رواه [[الترمذي]]: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله تعالى يقول: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ }» الآية <ref>[التوبة: 18]</ref>.
 
ومن لم يصل إلا بوضوء واغتسال فإنه لا يفعل ذلك إلا لله؛ ولهذا قال {{صل}} فيما رواه أحمد، وابن ماجة من حديث ثوبان عنه أنه قال: «استقيموا ولن تُحْصُوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، فإن الوضوء سر بين العبد وبين الله عز وجل»، وقد ينتقض وضوؤه ولا يدري به أحد، فإذا حافظ عليه لم يحافظ عليه إلا لله سبحانه، ومن كان كذلك لا يكون إلا مؤمنا، والإخلاص في النفع المتعدي أقل منه في العبادات البدنية؛ ولهذا قال في الحديث المتفق على صحته: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» الحديث.
 
_فصل_
 
والنية محلها القلب باتفاق العلماء؛ فإن نوي بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم، وقد خَرَّج بعض أصحاب الشافعي وجهًا من كلام الشافعي غلط فيه على الشافعي؛ فإن الشافعي إنما ذكر الفرق بين الصلاة والإحرام بأن الصلاة في أولها كلام، فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية، وإنما أراد التكبير، والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله فلابد أن ينويه ضرورة، كمن قدم بين يديه طعامًا ليأكله فإذا علم أنه يريد الأكل فلابد أن ينويه، وكذلك الركوب وغيره، بل لو كُلِّف العباد أن يعملوا عملًا بغير نية كلفوا ما لا يطيقون؛ فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملًا مشروعًا، أو غير مشروع فعلمه سابق إلى قلبه، وذلك هو النية، وإذا علم الإنسان أنه يريد الطهارة والصلاة والصوم فلابد أن ينويه إذا علمه ضرورة، وإنما يتصور عدم النية إذا لم يعلم ما يريد، مثل: من نسي الجنابة واغتسل للنظافة أو للتبرد، أو من يريد أن يُعَلِّم غيره الوضوء ولم يرد أنه يتوضأ لنفسه، أو من لا يعلم أن غدًا من رمضان فيصبح غير ناوٍ للصوم.
 
وأما المسلم الذي يعلم أن غدًا من رمضان وهو يريد صوم رمضان فهذا لابد أن ينويه ضرورة، ولا يحتاج أن يتكلم به، وأكثر ما يقع عدم التبييت والتعيين في رمضان عند الاشتباه، مثل: من لا يعلم أن غدًا من رمضان أم لا، فينوي صوم رمضان مطلقًا أو يقصد تطوعًا، ثم يتبين أنه من رمضان، ولو تكلم بلسانه بشيء وفي قلبه خلافه كانت العبرة بما في قلبه لا بما لفظ به، ولو اعتقد بقاء الوقت فنوي الصلاة أداء، ثم تبين خروج الوقت، أو اعتقد خروجه فنواها قضاء، ثم تبين له بقاؤه أجزأته صلاته بالاتفاق.
 
ومن عرف هذا تبين له أن النية مع العلم في غاية اليسر لا تحتاج إلى وسوسة وآصار وأغلال؛ ولهذا قال بعض العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهل بالشرع أو خَبَل في العقل.
 
وقد تنازع الناس: هل يستحب التلفظ بالنية؟ فقالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: يستحب ليكون أبلغ، وقالت طائفة من أصحاب مالك وأحمد: لا يستحب ذلك، بل التلفظ بها بدعة؛ فإن النبي {{صل}} وأصحابه والتابعين لم ينقل عن واحد منهم أنه تكلم بلفظ النية لا في صلاة، ولا طهارة، ولا صيام، قالوا: لأنها تحصل مع العلم بالفعل ضرورة، فالتكلم بها نَوْعُ هَوَسٍ وعبث وهَذَيَان، والنية تكون في قلب الإنسان ويعتقد أنها ليست في قلبه، فيريد تحصيلها بلسانه، وتحصيل الحاصل مُحَال، فلذلك يقع كثير من الناس في أنواع من الوسواس.
 
واتفق العلماء على أنه لا يسوغ الجهر بالنية، لا لإمام، ولا لمأموم، ولا لمنفرد، ولا يستحب تكريرها، وإنما النزاع بينهم في التكلم بها سرًا: هل يكره أو يستحب؟
 
_فصل_
 
لفظة إنما للحصر عند جماهير العلماء، وهذا مما يعرف بالاضطرار من لغة العرب، كما تعرف معاني حروف النفي والاستفهام والشرط، وغير ذلك، لكن تنازع الناس: هل دلالتها على الحصر بطريق المنطوق أو المفهوم؟ على قولين، والجمهور على أنه بطريق المنطوق، والقول الآخر قول بعض مثبتي المفهوم، كالقاضي أبي يعلى في أحد قوليه، وبعض الغلاة من نفاته، وهؤلاء زعموا أنها تفيد الحصر، واحتجوا بمثل قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } <ref>[الأنفال: 2]</ref>.
 
وقد احتج طائفة من الأصوليين على أنها للحصر بأن حرف إن للإثبات وحرف ما للنفي فإذا اجتمعا حصل النفي والإثبات جميعًا، وهذا خطأ عند العلماء بالعربية؛ فإن ما هنا هي ما الكافَّة، ليست ما النافية، وهذه الكافة تدخل على إن وأخواتها فتكفها عن العمل، وذلك لأن الحروف العاملة أصلها أن تكون للاختصاص؛ فإذا اختصت بالاسم أو بالفعل ولم تكن كالجزء منه عملت فيه، فإن وأخواتها اختصت بالاسم فعملت فيه، وتسمي الحروف المشبهة للأفعال؛ لأنها عملت نصبًا ورفعًا وكثرت حروفها، وحروف الجر اختصت بالاسم فعملت فيه، وحروف الشرط اختصت بالفعل فعملت فيه، بخلاف أدوات الاستفهام فإنها تدخل على الجملتين ولم تعمل، وكذلك ما المصدرية.
 
ولهذا القياس في ما النافية ألا تعمل أيضا على لغة تميم، ولكن تعمل على اللغة الحجازية التي نزل بها القرآن في مثل قوله تعالى: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } <ref>[المجادلة: 2]</ref>، و { مَا هَذَا بَشَرًا } <ref>[يوسف: 31]</ref>، استحسانًا لمشابهتها ليس هنا، لما دخلت ما الكافة على إن أزالت اختصاصها، فصارت تدخل على الجملة الاسمية والجملة الفعلية فبطل عملها، كقوله: { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ } <ref>[الرعد: 7]</ref>، وقوله: { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } <ref>[الطور: 16]</ref>.
 
وقد تكون ما التي بعد إن اسمًا لا حرفًا، كقوله: { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } <ref>[طه: 69]</ref>، بالرفع، أي: أن الذي صنعوه كيد ساحر، خلاف قوله: { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } <ref>[طه: 72]</ref>، فإن القراءة بالنصب لا تستقيم إذا كانت ما بمعني الذي، وفي كلا المعنيين الحصر موجود، لكن إذا كانت ما بمعني الذي فالحصر جاء من جهة أن المعارف هي من صِيَغ العموم، فإن الأسماء إما معارف وإما نكرات، والمعارف من صيغ العموم والنكرة في غير الموجب كالنفي وغيره من صيغ العموم، فقوله: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } <ref>[طه: 69]</ref>، تقديره: إن الذي صنعوه كيد ساحر.
 
وأما الحصر في إنما فهو من جنس الحصر بالنفي والاستثناء، كقوله تعالى: { مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا } <ref>[الشعراء: 154]</ref>، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } <ref>[آل عمران: 144]</ref>.
 
والحصر قد يعبر عنه بأن الأول محصور في الثاني، وقد يعبر عنه بالعكس، والمعني واحد، وهو أن الثاني أثبته الأول، ولم يثبت له غيره، مما يتوهم أنه ثابت له، وليس المراد أنك تنفي عن الأول كل ما سوي الثاني، فقوله: { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ } <ref>[الرعد: 7]</ref>، أي: إنك لست ربا لهم، ولا محاسبًا، ولا مجازيًا، ولا وكيلًا عليهم، كما قال: { لَّسْتَ عليهم بِمُصَيْطِرٍ } <ref>[الغاشية: 22]</ref> وكما قال: { فَإِنَّمَا عليكَ الْبَلاَغُ } <ref>[آل عمران: 20]</ref>، { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } <ref>[المائدة: 75]</ref>، ليس هو إلهًا ولا أمه إلهة، بل غايته أن يكون رسولًا، كما غاية محمد أن يكون رسولًا، وغاية مريم أن تكون صديقة.
 
وهذا مما استدل به على بطلان قول بعض المتأخرين: إنها نبية، وقد حَكَي الإجماع على عدم نبوة أحد من النساء القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى، والأستاذ أبوالمعالي الجويني، وغيرهم.
 
وكذلك قوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } <ref>[آل عمران: 144]</ref>، أي: ليس مخلدًا في الدنيا لا يموت ولا يقتل، بل يجوز عليه ما جاز على إخوانه المرسلين من الموت أو القتل، { أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ } <ref>[آل عمران: 144]</ref>، نزلت يوم أحد لما قيل: إن محمدا قد قتل، وتلاها الصديق يوم مات رسول الله {{صل}}، فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَي لا يموت، وتلا هذه الآية، فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فكان لا يوجد أحد إلا يتلوها.
 
===فصل في قوله وجلت قلوبهم===
وأما قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية <ref>[الأنفال: 2]</ref> فهذه الآية أثبت فيها الإيمان لهؤلاء، ونفاه عن غيرهم، كما نفاه النبي {{صل}} عمن نفاه عنه في الأحاديث مثل قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، فإياكم وإياكم» وكذلك قوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»، ومن هذا الباب قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الآية <ref>[الحجرات: 15]</ref>، وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } الآية <ref>[النور: 62]</ref>.
 
وهذه المواضع قد تنازع الناس في نفيها، والذي عليه جماهير السلف وأهل الحديث وغيرهم: أن نفي الإيمان لانتفاء بعض الواجبات فيه، والشارع دائمًا لا ينفي المسمي الشرعي إلا لانتفاء واجب فيه، وإذا قيل: المراد بذلك نفي الكمال فالكمال نوعان: واجب، ومستحب، فالمستحب؛ كقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ، أي: كامل المستحبات، وليس هذا الكمال هو المنفي في لفظ الشارع، بل المنفي هو الكمال الواجب وإلا فالشارع لم ينف الإيمان ولا الصلاة ولا الصيام ولا الطهارة، ولا نحو ذلك من المسميات الشرعية لانتفاء بعض مستحباتها؛ إذ لو كان كذلك لانتفي الإيمان عن جماهير المؤمنين، بل إنما نفاه لانتفاء الواجبات، كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صيام لمن لم يبيت النية»، و«لا صلاة إلا بأم القرآن».
 
وقد رويت عنه ألفاظ تنازع الناس في ثبوتها عنه، مثل: قوله: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل»، «ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»، «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، من ثبتت عنده هذه الألفاظ فعليه أن يقول بموجبها، فيوجب ما تضمنته من التبييت، وذكر اسم الله، وإجابة المؤذن، ونحو ذلك. ثم إذا ترك الإنسان بعض واجبات العبادة، هل يقال: بطلت كلها، فلا ثواب له عليها؟ أم يقال: يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه؟ وهل عليه إعادة ذلك؟ هذا يكون بحسب الأدلة الشرعية، فمن الواجبات في العبادة ما لا تبطل العبادة بتركه ولا إعادة على تاركه، بل يجبر المتروك؛ كالواجبات في الحج التي ليست أركانًا، مثل: رمي الجمار، وأن يحرم من غير الميقات، ونحو ذلك.
 
وكذلك الصلاة عند الجمهور؛ كمالك وأحمد، وغيرهم، فيها واجب لا تبطل الصلاة بتركه عندهم، كما يقول أبو حنيفة في الفاتحة والطمأنينة. وكما يقول مالك وأحمد في التشهد الأول، لكن مالك وأحمد يقولان: ما تركه من هذا سهوًا فعليه أن يسجد للسهو، وأما إذا تركه عمدًا فتبطل صلاته، كما تبطل الصلاة بترك التشهد الأول عمدًا في المشهور من مذهبيهما، لكن أصحاب مالك يسمون هذا سنة مؤكدة، ومعناه معني الواجب عندهم.
 
وأما أبو حنيفة فيقول: من ترك الواجب الذي ليس بفرض عمدًا أساء ولا إعادة عليه، والجمهور يقولون: لا نعهد في العبادة واجبًا فيما يتركه الإنسان إلى غير بدل، ولا إعادة عليه، فلابد من وجوب البدل للإعادة. ولكن مع هذا اتفقت الأئمة على أن من ترك واجبًا في الحج ليس بركن، ولم يجبره بالدم الذي عليه لم يبطل حجه، ولا تجب إعادته، فهكذا يقول جمهور السلف وأهل الحديث: أن من ترك واجبًا من واجبات الإيمان الذي لا يناقض أصول الإيمان - فعليه أن يجبر إيمانه؛ إما بالتوبة، وإما بالحسنات المكفرة. فالكبائر يتوب منها، والصغار تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن لم يفعل لم يحبط إيمانه جملة.
 
وأصلهم أن الإيمان يتبعَّض، فيذهب بعضه ويبقي بعضه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»، ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
 
وأما الذين أنكروا تبعضه وتفاضله كأنهم قالوا: متى ذهب بعضه ذهب سائره، ثم انقسموا قسمين: فقالت الخوارج والمعتزلة: فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلًا بحال.
 
ثم قالت الخوارج: هو كافر، وقالت المعتزلة: ليس بكافر ولا مؤمن، بل هو فاسق، ننزله منزلةً بين المنزلتين، فخالفوا الخوارج في الاسم ووافقوهم في الحكم، وقالوا: إنه مخلد في النار، لا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها. والحزب الثاني: وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان؛ لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال، وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فَرَّق بين الإيمان والأعمال في كتابه. ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول: إن الإيمان هو تصديق اللسان وقول القلب، وهذا المنقول عن حماد بن أبي سليمان ومن وافقه؛ كأبي حنيفة وغيره، وقال جَهْم والصَّالحي ومن وافقهما من أهل الكلام كأبي الحسن وغيره: إنه مجرد تصديق القلب.
 
وفصل الخطاب في هذا الباب أن اسم الإيمان قد يذكر مجردًا، وقد يذكر مقرونًا بالعمل أو بالإسلام. فإذا ذكر مجردًا تناول الأعمال كما في الصحيحين: «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذي عن الطريق»، وفيهما أنه قال لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمس ما غنمتم»، وإذا ذكر مع الإسلام كما في حديث جبريل أنه سأل النبي {{صل}} عن الإيمان والإسلام والإحسان فَرَّق بينهما، فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»، إلى آخره. وفي المسند عن النبي {{صل}}: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب»، فلما ذكرهما جميعًا ذكر أن الإيمان في القلب، والإسلام ما يظهر من الأعمال.
 
وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب؛ لأنه متى ثبت الإيمان في القلب، والتصديق بما أخبر به الرسول وجب حصول مقتضي ذلك ضرورة؛ فإنه ما أَسَرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفَلَتَات لسانه، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة، فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر.
 
ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إليهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أولياء } <ref>[المائدة: 81]</ref>، وقوله: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية <ref>[المجادلة: 22]</ref>، ونحوها فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيمًا إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلابد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي {{صل}}: «ألا إن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»، وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وفي الحديث: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه».
 
ولهذا كان الظاهر لازمًا للباطن من وجه وملزومًا له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزومًا، لا من جهة كونه لازمًا؛ فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه، والدليل يَطَّرِدُ ولا ينعكس، بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس.
 
وتنازعوا في العلة هل يجب طردها، بحيث تبطل بالتخصيص والانتقاض؟ والصواب أن لفظ العلة يعبر به عن العلة التامة، وهو مجموع ما يستلزم الحكم، فهذه يجب طردها، ويعبر به عن المقتضي للحكم الذي يتوقف اقتضاؤه على ثبوت الشروط، وانتفاء الموانع، فهذه إذا تخلف الحكم عنها لغير ذلك بطلت.
 
وكذلك تنازعوا في انعكاسها، وهو أنه هل يلزم من عدم الحكم عدمها؟ فقيل: لا يجب انعكاسها؛ لجواز تعليل الحكم بعلتين. وقيل: يجب الانعكاس؛ لأن الحكم متى ثبت مع عدمها لم تكن مؤثرة فيه، بل كان غنيًا عنها، وعدم التأثير مبطل للعلة. وكثير من الناس يقول بأن عدم التأثير يبطل العلة، ويقول بأن العكس ليس بشرط فيها، وآخرون يقولون: هذا تناقض.
 
والتحقيق في هذا أن العلة إذا عُدِمت عُدِم الحكم المتعلق بها بعينه، لكن يجوز وجود مثل ذلك الحكم بعلة أخري، فإذا وجد ذلك الحكم بدون علة أخرى علم أنها عديمة التأثير وبطلت، وأما إذا وجد نظير ذلك الحكم بعلة أخرى كان نوع ذلك الحكم معللا بعلتين، وهذا جائز، كما إذا قيل في المرأة المرتدة: كفرت بعد إسلامها، فتقتل قياسًا على الرجل؛ لقول النبي {{صل}}: «لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدي ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زني بعد إحصانه، أو قتل نفسًا فقتل بها». فإذا قيل له لا تأثير لقولك: كفر بعد إسلامه، فإن الرجل يقتل بمجرد الكفر، وحينئذ فالمرأة لا تقتل بمجرد الكفر، فيقول: هذه علة ثابتة بالنص، وبقوله: «من بَدَّل دينه فاقتلوه» وأما الرجل فما قتلته لمجرد كفره، بل لكفره وجراءته؛ ولهذا لا أقتل من كان عاجزًا عن القتال؛ كالشيخ الهرم، ونحوه. وأما الكفر بعد الإسلام فعلة أخرى مبيحة للدم؛ ولهذا قتل بالردة من كان عاجزًا عن القتال كالشيخ الكبير.
 
وهذا قول مالك وأحمد، وإن كان ممن يري أن مجرد الكفر يبيح القتال كالشافعي؛ قال: الكفر وحده علة، والكفر بعد الإسلام علة أخري.
 
وليس هذا موضع بسط هذه الأمور، وإنما ننبه عليها.
 
والمقصود أن لفظ الإيمان تختلف دلالته بالإطلاق والاقتران، فإذا ذُكِر مع العمل أريد به أصل الإيمان المقتضي للعمل، وإذا ذُكر وحده دخل فيه لوازم ذلك الأصل.
 
وكذلك إذا ذكر بدون الإسلام كان الإسلام جزءًا منه، وكان كل مسلم مؤمنًا، فإذا ذكر لفظ الإسلام مع الإيمان تميز أحدهما عن الآخر، كما في حديث جبريل، وكما في قوله تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[الأحزاب: 35]</ref>، ولهذا نظائر كلفظ المعروف والمنكر، والعدل والإحسان، وغير ذلك، ففي قوله: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[الأعراف: 157]</ref>، يدخل في لفظ المعروف كل مأمور به، وفي لفظ المنكر كل مَنهي عنه، وفي قوله تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } <ref>[العنكبوت: 45]</ref>، جعل الفحشاء غير المنكر، وقوله: { وَيَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } <ref>[النحل: 90]</ref> جعل الفحشاء والبغي غير المنكر.
 
وإذا قيل: هذا من باب عطف الخاص على العام، والعام على الخاص فللناس هنا قولان: منهم من يقول: الخاص دخل في العام وخص بالذكر، فقد ذكر مرتين. ومنهم من يقول: تخصيصه بالذكر يقتضي أنه لم يدخل في العام، وقد يعطف الخاص على العام، كما في قوله: { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } <ref>[البقرة: 98]</ref>، وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ } الآية <ref>[الأحزاب: 7]</ref>، وقد يعطف العام على الخاص، كما في قوله تعالى: { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا } <ref>[الأحزاب: 27]</ref>.
 
وأصل الشبهة في الإيمان أن القائلين: أنه لا يتبعض قالوا: إن الحقيقة المركبة من أمور متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، كالعشرة المركبة من آحاد، فلو قلنا: إنه يتبعض لزم زوال بعض الحقيقة مع بقاء بعضها، فيقال لهم: إذا زال بعض أجزاء المركب تزول الهيئة الاجتماعية الحاصلة بالتركيب، لكن لا يلزم أن يزول سائر الأجزاء، والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة، والأعمال الواجبة الباطنة والظاهرة هو المجموع الواجب الكامل، وهذه الهيئة الاجتماعية. تزول بزوال بعض الأجزاء، وهذه هي المنفية في الكتاب والسنة في مثل قوله: «لا يزني الزاني» إلخ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الآيات <ref>[الحجرات: 15]</ref>، ولكن لا يلزم أن تزول سائر الأجزاء، ولا أن سائر الأجزاء الباقية لا تكون من الإيمان بعد زوال بعضه. كما أن واجبات الحج من الحج الواجب الكامل، وإذا زالت زال هذا الكمال ولم يزل سائر الحج.
 
وكذلك الإنسان الكامل يدخل في مسماه أعضاؤه كلها، ثم لو قطعت يداه ورجلاه لم يخرج عن اسم الإنسان، وإن كان قد زال منه بعض ما يدخل في الاسم الكامل.
 
وكذلك لفظ الشجرة والباب والبيت والحائط، وغير ذلك، يتناول المسمي في حال كمال أجزائه بعد ذهاب بعض أجزائه.
 
وبهذا تزول الشبهة التي أوردها الرازي ومن اتبعه، كالأصبهاني وغيره على الشافعي؛ فإن مذهبه في ذلك مذهب جمهور أهل الحديث والسلف، وقد اعترض هؤلاء بهذه الشبهة الفاسدة على السلف.
 
والإيمان يتفاضل من جهة الشارع، فليس ما أمر الله به كل عبد هو ما أمر الله به غيره، ولا الإيمان الذي يجب على كل عبد يجب على غيره، بل كانوا في أول الإسلام يكون الرجل مؤمنا كامل الإيمان، مستحقًا للثواب إذا فعل ما أوجبه الله عليه ورسوله، وإن كان لم يقع منه التصديق المفصل بما لم ينزل من القرآن، ولم يصم رمضان، ولم يحج البيت، كما أن من آمن في زمننا هذا إيمانًا تاما، ومات قبل دخول وقت صلاة عليه مات مستكملًا للإيمان الذي وجب عليه، كما أنه مستحق للثواب على إيمانه ذلك.
 
وأما بعد نزول ما نزل من القرآن وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله من الواجبات وتمكن من فعل ذلك فإنه لا يكون مستحقًا للثواب بمجرد ما كان يستحق به الثواب قبل ذلك، فلذلك يقول هؤلاء: لم يكن هذا مؤمنا بما كان به مؤمنا قبل ذلك، وهذا لأن الإيمان الذي شرع لهذا أعظم من الإيمان الذي شرع لهذا، وكذلك المستطيع الحج يجب عليه ما لا يجب على العاجز عنه، وصاحب المال يجب عليه من الزكاة ما لا يجب على الفقير، ونظائره متعددة.
 
وأما تفاصيله من جهة العبد؛ فتارة يقوم هذا من الإقرار والعمل بأعظم مما يقوم به هذا. وكل أحد يعلم أن ما في القلب من الأمور يتفاضل، حتى إن الإنسان يجد نفسه أحيانًا أعظم حبًا لله ورسوله وخشية لله، ورجاء لرحمته وتوكلًا عليه، وإخلاصًا منه في بعض الأوقات.
 
وكذلك المعرفة والتصديق تتفاضل في أصح القولين، وهذا أصح الروايتين عن أحمد، وقد قال غير واحد من الصحابة، كعمر بن حبيب الخَطْمِي وغيره: الإيمان يزيد وينقص، فإذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه.
 
ولهذا سُنَّ الاستثناء في الإيمان، فإن كثيرًا من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم استثنوا في الإيمان، وآخرون أنكروا الاستثناء فيه، وقالوا: هذا شك. والذين استثنوا فيه منهم من أوجبه، ومنهم من لم يوجبه، بل جَوَّز تركه باعتبار حالتين، وهذا أصح الأقوال، وهذان القولان في مذهب أحمد وغيره، فمن استثني لعدم علمه بأنه غير قائم بالواجبات كما أمر الله ورسوله فقد أحسن، وكذلك من استثني لعدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثني تعليقًا للأمر بمشيئة الله تعالى لا شكا، ومن جزم بما هو في نفسه في هذه الحال كمن يعلم من نفسه أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فجزم بما هو متيقن حصوله في نفسه فهو محسن في ذلك.
 
وكثير من منازعات الناس في مسائل الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام هي منازعات لفظية، فإذا فصل الخطاب زال الارتياب. والله سبحانه أعلم بالصواب.
 
===فصل في قوله وجلت قلوبهم===
قوله {{صل}}: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» ليس هو تحصيل للحاصل، لكنه إخبار بأن من نوي بعمله شيئًا فقد حصل له ما نواه، أي: من قصد بهجرته الله ورسوله حصل له ما قصده، ومن كان قَصْده الهجرة إلى دنيا أو امرأة فليس له إلا ذلك، فهذا تفصيل لقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ولما أخبر أن لكل امرئ ما نوي ذكر أن لهذا ما نواه ولهذا ما نواه.
 
والهجرة مشتقة من الهَجْر، وقد صَحَّ عن النبي {{صل}} أنه قال: «المهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله»، كما قال: «المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أَمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم»، وهذا بيان منه لكمال مسمي هذا الاسم، كما قال: «ليس المسكين بهذا الطواف» إلخ، وقد يشبه هذا قوله: «ما تعُدُّون المفلس فيكم؟» قالوا: من ليس له درهم ولا دينار. قال: «ليس هذا المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم يَبْقَ له حسنة أُخِذَ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار». وقال: «ما تعدون الرَّقُوب فيكم؟» قالوا: من لا يُولد له. قال: «الرقوب من لم يُقِدِّم من ولده شيئًا»، ومثله قوله: «ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
 
لكن في هذه الأحاديث مقصود وبيان ما هو أحق بأسماء المدح والذم مما يظنونه. فإن الإفلاس حاجة وذلك مكروه، فبين أن حقيقة الحاجة إنما تكون يوم القيامة، وكذلك عدم الولد تكرهه النفوس لعدم الولد النافع، فبين أن الانتفاع بالولد حقيقة إنما يكون في الآخرة لمن قَدَّم أولاده بين يديه، وكذلك الشدة والقوة محبوبة، فبين أن قوة النفوس أحق بالمدح من قوة البدن، وهو أن يملك نفسه عند الغضب، كما قيل لبعض سادات العرب: ما بال عبيدكم أَصْبَر منكم عند الحرب وعلى الأعمال؟ قال: هم أصبر أجسادًا، ونحن أصبر نفوسًا.
 
وأما قوله: في اسم المسلمين فهو من جنس قوله: في المسلم والمؤمن والمهاجر والمجاهد، وهذا مطابق لما تقدم من أن الشارع لا ينفي مسمي اسْمٍ شرعي إلا لانتفاء كماله الواجب؛ فإن هَجْرَ ما نهى الله عنه واجب، وسلامة المسلمين من عدوان الإنسان بلسانه ويده واجب، والمؤمن على دمائهم وأموالهم لا يكون من أمنه الناس إلا إذا كان أمينًا والأمانة واجبة، والمسكين الذي لا يسأل ولا يعرف هو أحق بالإعطاء ممن أظهر حاجته وسؤاله، وعطاؤه واجب، وتخصيص السائل بالعطاء دون هذا لا يجوز، بل تخصيص الذي لا يسأل أولى وأوجب وأحب.
 
وقد قال {{صل}}: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية؛ وإذا اسْتُنْفِرتم فانفروا»، وقال: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو» وكلاهما حق. فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه، وهي الهجرة إلى المدينة من مكة وغيرها من أرض العرب، فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام، ودخلت العرب في الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام، فقال: «لا هجرة بعد الفتح». وكون الأرض دار كفر ودار إيمان أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها، بل هي صفة عارضة بحسب سكانها، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت، فإن سكنها غير ما ذكرنا وتبدلت بغيرهم فهي دارهم.
 
وكذلك المسجد إذا تبدل بخمارة، أو صار دار فسق، أو دار ظلم، أو كنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه، وكذلك دار الخمر والفسوق، ونحوها، إذا جعلت مسجدًا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك، وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقًا والكافر يصير مؤمنًا، أو المؤمن يصير كافرًا، أو نحو ذلك، كُلُّ بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال، وقد قال تعالى: { وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } الآية <ref>[النحل: 112]</ref>، نزلت في مكة لما كانت دار كفر، وهي ما زالت في نفسها خير أرض الله وأحب أرض الله إليه، وإنما أراد سكانها. فقد روي [[الترمذي]] مرفوعًا، أنه قال لمكة وهو واقف بالحَزْوَرَةِ: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت». وفي رواية: «خير أرض الله وأحب أرض الله إلى» فبين أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله، وكان مقامه بالمدينة ومقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة؛ لأجل أنها دار هجرتهم؛ ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في الصحيح: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وجري عليه عمله، وأجري رزقه من الجنة وأَمِنَ الفَتَّان».
 
وفي السنن، عن عثمان، عن النبي {{صل}}، أنه قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» وقال [[أبو هريرة]]: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود؛ ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أَطْوَع لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوي والطاعة والخشوع والخضوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يقدس العبد عمله. وكان النبي {{صل}} قد آخي بين سلمان وأبي الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا.
 
وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } <ref>[الأعراف: 145]</ref>، وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين، وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة، وأرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل، فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلمًا، وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا، وتارة منافقًا، وتارة برًا تقيًا، وتارة فاسقًا، وتارة فاجرًا شقيًا.
 
وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة، والله تعالى قال: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } <ref>[الأنفال: 75]</ref>.
 
قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة، وهكذا قوله تعالى: { لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[النحل: 110]</ref>، يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه، أو أوقعه في معصية، ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو، وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وغير ذلك وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
 
===فصل في معنى حديث خطبة الحاجة===
وَقَالَ:
 
الأذكار الثلاثة التي اشتملت عليها خطبة [[ابن مسعود]] وغيره، وهي الحمد لله، نستعينه، ونستغفره: هي التي يروى عن الشيخ عبد القادر ثم أبي الحسن الشاذلي، أنها جوامع الكلام النافع. وهي: الحمد لله وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك أن العبد بين أمرين: أمر يفعله الله به، فهي نعم الله التي تنزل عليه، فتحتاج إلى الشكر. وأمر يفعله هو؛ إما خير، وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار؛ ليمحو أثره.
 
وجاء في حديث ضماد الأَزْدِي: «الحمد لله، نحمده ونستعينه» فقط، وهذا موافق لفاتحة الكتاب، حيث قسمت نصفين: نصفًا للرب، ونصفًا للعبد، فنصف الرب مفتتح بالحمد لله، ونصف العبد مفتتح بالاستعانة به، فقال نحمده ونستعينه، وقد يقرن بين الحمد والاستغفار، كما في الأثر الذي رواه أحمد في الزهد: «أن رجلًا كان على عهد الحسن فقيل له: تلقينا هذه الخطبة عن الوالد عن والده، كما يقولها كثير من الناس: الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا» فأما «نحمده ونستعينه» ففي حديث ضماد، «ونستعينه ونستغفره» في حديث ابن مسعود. وأما «نستهديه» ففي فاتحة الكتاب؛ لأن نصفها للرب وهو الحمد، ونصفها للعبد، وهو الاستعانة والاستهداء، وليس فيها الاستغفار؛ لأنه لا يكون إلا مع الذنب، والسورة أصل الإيمان، والفاتحة باب السعادة، المانعة من الذنوب. كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } <ref>[العنكبوت: 45]</ref>.
 
وعن [[ابن عباس]] أن ضمادًا قدم مكة وكان من أَزْدِشنوءة. وكان يُرْقِي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء الله، فهل لك؟ فقال رسول الله {{صل}}: «إن الحمد الله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» قال: فقال: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله {{صل}} ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغت قَاعُوسَ البحر، قال: فقال هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله {{صل}}: «وعلى قومك؟» فقال: وعلى قومي. رواه مسلم في صحيحه.
 
ولهذا استحبت، وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عمومًا وخصوصًا؛ من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس، ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية، وكان الذي عليه شيوخ زماننا، الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم، وغيرهم يفتتحون مجلس التفسير، أو الفقه في الجوامع والمدارس، وغيرها بخطبة أخري.
 
مثل: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عنا وعنكم، وعن مشائخنا، وعن جميع المسلمين، أو وعن السادة الحاضرين، وجميع المسلمين، كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة، وكل قوم لهم نوع غير نوع الآخرين، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضًا، والنكاح من جملة ذلك، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات، هو كمال الصراط المستقيم، وما سوي ذلك إن لم يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح؛ إذْ خير الهدي هدي محمد {{صل}}.
 
والتحقيق أن قوله: الحمد لله نستعينه ونستغفره هي الجوامع، كما في الحديث النبوي، حديث ابن مسعود ذكر ذلك، وأن النبي {{صل}} أوتي جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه، كما في سورتي أبي فإن الاستهداء يدخل في الاستعانة، وتكرير نحمده قد استغني به بقوله: الحمد لله، فإذا فصلت جاز، كما في دعاء القنوت: «اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك، ولا نكفرك، ونخلع، ونترك من يَفْجُرُك». فهذه إحدى سورتي أبي، وهي مفتتحة بالاستعانة التي هي نصف العبد، مع ما بعدها من فاتحة الكتاب، وفي السورة الثانية: «اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعي ونَحْفِد، نرجو رحمتك، ونخشي عذابك، إن عذابك الجِد بالكفار مُلْحِق». فهذا مفتتح بالعبادة التي هي نصف الرب، مع ما قبلها من الفاتحة، ففي سورتي القنوت مناسبة لفاتحة الكتاب، وفيهما جميعًا مناسبة لخطبة الحاجة وذلك جميعه من فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه.
 
وأما قوله: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا» فإن المستعاذ منه نوعان: فنوع موجود، يستعاذ من ضرره الذي لم يوجد بعد، ونوع مفقود يستعاذ من وجوده؛ فإن نفس وجوده ضرر، مثال الأول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومثال الثاني: { رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } <ref>[المؤمنون: 97، 98]</ref>، و«اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل أو أزل أو أُزل». وأما قوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } <ref>[سورة الفلق]</ref>. فيشترك فيه النوعان، فإنه يستعاذ من الشر الموجود ألا يضر، ويستعاذ من الشر الضار المفقود ألا يوجد، فقوله في الحديث: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» يحتمل القسمين: يحتمل نعوذ بالله أن يكون منها شر، ونعوذ بالله أن يصيبنا شرها، وهذا أشبه، والله أعلم.
 
وقوله: «ومن سيئات أعمالنا» السيئات هي عقوبات الأعمال، كقوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } <ref>[غافر: 45]</ref>، فإن الحسنات والسيئات يراد بها النعم والنقم كثيرًا، كما يراد بها الطاعات والمعاصي، وإن حملت على السيئات التي هي المعاصي، فيكون قد استعاذ أن يعمل السيئات، أو أن تضره. وعلى الأول وهو أشبه فقد استعاذ من عقوبة أعماله أن تصيبه، وهذا أشبه.
 
فيكون الحديث قد اشتمل على الاستعاذة من الضرر الفاعلي، والضرر الغائي، فإن سبب الضرر هو شر النفس، وغايته عقوبة الذنب، وعلى هذا فيكون قد استعاذ من الضرر المفقود الذي انعقد سببه ألا يكون؛ فإن النفس مقتضية للشر، والأعمال مقتضية للعقوبة، فاستعاذ أن يكون شر نفسه، أو أن تكون عقوبة عمله، وقد يقال: بل الشر هو الصفة القائمة بالنفس الموجبة للذنوب، وتلك موجودة كوجود الشيطان، فاستعاذ منها أن تضره أو تصيبه، كما يقال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وإن حمل على الشرور الواقعة، وهي الذنوب من النفس، فهذا قسم ثالث.
 
===فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ===
وَقَالَ شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
 
فصل في قول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح:
 
«بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء».
 
لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبًا يجوز تركه - والعياذ بالله، بل الأمر كما قال تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } <ref>[آل عمران: 85]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ } <ref>[آل عمران: 19]</ref>، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } <ref>[آل عمران: 102]</ref>، وقال تعالى: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } <ref>[البقرة: 130 132]</ref>.
 
وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر، وبينا أن الأنبياء كلهم كان دينهم الإسلام من نوح إلى المسيح.
 
ولذا لما بدأ الإسلام غريبًا لم يكن غيره من الدين مقبولًا، بل قد ثبت في الحديث الصحيح - حديث عياض بن حمار عن النبي {{صل}}، أنه قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» الحديث.
 
ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبًا أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث: «فطوبي للغرباء». و«طوبي» من الطيب، قال تعالى: { طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } <ref>[الرعد: 29]</ref>، فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبًا. وهم أسعد الناس.
 
أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام.
 
وأما في الدنيا فقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[الأنفال: 64]</ref>، أي: إن الله حسبك وحسب مُتَّبِعُك وقال تعالى: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ } <ref>[الأعراف: 196]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ } <ref>[الزمر: 36]</ref>، وقال: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ على اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } <ref>[الطلاق: 2، 3]</ref>، فالمسلم المتبع للرسول: الله تعالى حسبه وكافيه، وهو وليه حيث كان ومتى كان.
ولهذا يوجد المسلمون المتمسكون بالإسلام في بلاد الكفر، لهم السعادة كلما كانوا أَتَمَّ تمسكًا بالإسلام، فإن دخل عليهم شر كان بذنوبهم. حتى إن المشركين وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالإسلام عظموه وأكرموه وأعفوه من الأعمال التي يستعملون بها المنتسبين إلى ظاهر الإسلام من غير عمل بحقيقته لم يكرم.
 
وكذلك كان المسلمون في أول الإسلام وفي كل وقت.
 
فإنه لابد أن يحصل للناس في الدنيا شر، ولله على عباده نعم، لكن الشر الذي يصيب المسلم أقل، والنعم التي تصل إليه أكثر، فكان المسلمون في أول الإسلام وإن ابتلوا بأذي الكفار والخروج من الديار، فالذي حصل للكفار من الهلاك كان أعظم بكثير، والذي كان يحصل للكفار من عز أو مال كان يحصل للمسلمين أكثر منه حتى من الأجانب.
 
فرسول الله {{صل}} - مع ما كان المشركون يسعون في أذاه بكل طريق- كان الله يدفع عنه ويعزه ويمنعه وينصره، من حيث كان أعز قريش ما منهم إلا من كان يحصل له من يؤذيه، ويهينه من لا يمكنه دفعه؛ إذ لكل كبيرٍ كبيرٌ يناظره ويُنَاوِيه ويعاديه. وهذه حال من لم يتبع الإسلام - يخاف بعضهم بعضًا، ويرجو بعضهم بعضًا.
 
وأتباعه الذين هاجروا إلى الحبشة، أكرمهم ملك الحبشة، وأعزهم غاية الإكرام والعز، والذين هاجروا إلى المدينة فكانوا أكرم وأعز.
 
والذي كان يحصل لهم من أذي الدنيا كانوا يعوضون عنه عاجلًا من الإيمان، وحلاوته ولذته ما يحتملون به ذلك الأذي، وكان أعداؤهم يحصل لهم من الأذي والشر أضعاف ذلك من غير عوض لا آجلًا ولا عاجلًا، إذ كانوا معاقبين بذنوبهم.
 
وكان المؤمنون ممتَحَنين ليخلُصَ إيمانهم وتُكَفَّر سيآتهم. وذلك أن المؤمن يعمل لله، فإن أوذي احتسب أذاه على الله، وإن بذل سعيًا أو مالًا بذله لله، فاحتسب أجره على الله.
 
والإيمان له حلاوة في القلب، ولذة لا يعدلها شيء البتة. وقد قال النبي {{صل}}: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار» أخرجاه في الصحيحين. وفي صحيح مسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا».
 
وكما أن الله نهي نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر، فكذلك في آخره. فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم، أو يكون في ضيق من مكرهم.
 
وكثير من الناس إذا رأي المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام جَزَع وكَلَّ ونَاحَ، كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى. وأن ما يصيبه فهو بذنوبه، فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار.
 
وقوله {{صل}}: «ثم يعود غريبًا كما بدأ» يحتمل شيئين: أحدهما: أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريبًا بينهم ثم يظهر، كما كان في أول الأمر غريبًا ثم ظهر؛ ولهذا قال: «سيعود غريبًا كما بدأ». وهو لما بدأ كان غريبًا لا يعرف ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف. فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولا.
 
ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقي مسلمًا إلا قليل. وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة. وحينئذ يبعث الله ريحًا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ثم تقوم الساعة.
 
وأما قبل ذلك فقد قال {{صل}}: «لاتزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة». وهذا الحديث في الصحيحين، ومثله من عدة أوجه.
 
فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق، أعزاء، لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل. فأما بقاء الإسلام غريبًا ذليلًا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا.
 
وقوله {{صل}}: «ثم يعود غريبًا كما بدأ» أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } <ref>[المائدة: 54]</ref>. فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك.
 
وكذلك بدأ غريبًا ولم يزل يقوى حتى انتشر. فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر، حتى يقيمه الله عز وجل كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي، قد تَغَرَّبَ كثير من الإسلام على كثير من الناس، حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر. فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبًا.
 
وفي السنن: «إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». والتجديد إنما يكون بعد الدروس، وذاك هو غربة الإسلام.
 
وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ. قال تعالى: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } <ref>[يونس: 94]</ref>، إلى غير ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام.
 
وكذلك إذا تغرب يحتاج صاحبه من الأدلة والبراهين إلى نظير ما احتاج إليه في أول الأمر. وقد قال له: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } <ref>[يونس: 94]</ref>، وقال تعالى: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } <ref>[الفرقان: 44]</ref>.
 
وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة. ففي كثير من الأمكنة يخفي عليهم من شرائعه ما يصير به غريبًا بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد.
 
ومع هذا، فطوبي لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر الله ورسوله، فإن إظهاره، والأمر به، والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان. وقد قال النبي {{صل}}: «من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. ليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّة خَرْدَل».
 
وإذا قُدِّر أن في الناس من حصل له سوء في الدنيا والآخرة بخلاف ما وعد الله به رسوله وأتباعه فهذا من ذنوبه ونقص إسلامه، كالهزيمة التي أصابتهم يوم أحد.
 
وإلا فقد قال تعالى: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } <ref>[غافر: 51]</ref>، وقال تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } <ref>[الصافات: 171 173]</ref>. وفيما قصه الله تعالى من قصص الأنبياء وأتباعهم ونصرهم ونجاتهم وهلاك أعدائهم عِبْرَةٌ، والله أعلم.
 
فإن قيل: قوله تبارك وتعالى: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } <ref>[المائدة: 54]</ref>، هو خطاب لذلك القَرْن، كقوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } <ref>[النور: 55]</ref>. ولهذا بين النبي {{صل}} أنهم أهل اليمن الذين دخلوا في الإسلام لما ارتد من ارتد من العرب. ويدل على ذلك أنه في آخر الأمر لا يبقي مؤمن.
 
قيل: قوله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } خطاب لكل من بلغه القرآن من المؤمنين كسائر أنواع هذا الخطاب، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ } <ref>[المائدة: 6]</ref>، وأمثالها. وكذلك قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ } <ref>[النور: 55]</ref>.
 
وكلاهما وقع، ويقع كما أخبر الله عز وجل فإنه ما ارتد عن الإسلام طائفة إلا أتي الله بقوم يحبهم يجاهدون عنه، وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة.
 
يبين ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ إليهودَ وَالنَّصَارَي أولياء بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَي أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَي اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } <ref>[المائدة: 51 54]</ref>. فالمخاطبون بالنهي عن موالاة إليهود والنصاري هم المخاطبون بآية الردة. ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة.
 
وهو لما نهي عن موالاة الكفار وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم بَينَ أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئًا.
 
بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيتولون المؤمنين دون الكفار، ويجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، كما قال في أول الأمر: { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } <ref>[الأنعام: 89]</ref>. فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه لا يضرون الإسلام شيئًا، بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله، وينصر دينه إلى قيام الساعة.
 
وأهل اليمن هم ممن جاء الله بهم لما ارتد من ارتد إذ ذاك، وليست الآية مختصة بهم، ولا في الحديث ما يوجب تخصيصهم، بل قد أخبر الله أنه يأتي بغير أهل اليمن كأبناء فارس لا يختص الوعد بهم.
 
بل قد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أليمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } <ref>[التوبة: 38 39]</ref>، وهذا أيضا خطاب لكل قرن، وقد أخبر فيه أنه من نَكَلَ عن الجهاد المأمور به عذبه واستبدل به من يقوم بالجهاد. وهذا هو الواقع.
 
وكذلك قوله في الآية الأخري: { هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } <ref>[محمد: 38]</ref>. فقد أخبر تعالى أنه من يتول عن الجهاد بنفسه أو عن الإنفاق في سبيل الله استبدل به.
 
فهذه حال الجبان البخيل، يستبدل الله به من ينصر الإسلام، وينفق فيه. فكيف تكون حال أصل الإسلام من ارتد عنه؟ أتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.
 
وهذا موجود في أهل العلم، والعبادة، والقتال، والمال، مع الطوائف الأربعة مؤمنون مجاهدون منصورون إلى قيام الساعة، كما منهم من يرتد أو من ينكل عن الجهاد والإنفاق.
 
وكذلك قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ } <ref>[النور: 55]</ref>. فهذا الوعد مناسب لكل من اتصف بهذا الوصف. فلما اتصف به الأولون استخلفهم الله كما وعد. وقد اتصف بعدهم به قوم بحسب إيمانهم وعملهم الصالح. فمن كان أكمل إيمانًا وعمل صالحًا كان استخلافه المذكور أَتَمَّ. فإن كان فيه نقص وخلل كان في تمكينه خَلل ونقص؛ وذلك أن هذا جزاء هذا العمل، فمن قام بذلك العمل استحق ذلك الجزاء.
 
لكن ما بقي قرن مثل القرن الأول، فلا جُرْمَ ما بَقِي قرن يتمكن تمكن القرن الأول. قال {{صل}}: «خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
 
ولكن قد يكون هذا لبعض أهل القرن، كما يحصل هذا لبعض المسلمين في بعض الجهات، كما هو معروف في كل زمان.
 
وأما قوله {{صل}}: «إن الله يبعث ريحًا تقبض روح كل مؤمن» فذاك ليس فيه رِدَّة، بل فيه موت المؤمنين. وهو لم يقل: «إذا مات كل مؤمن» أن يستبدل الله موضعه آخر، وإنما وعد بهذا إذا ارتد بعضهم عن دينه.
 
وهو مما يستدل به على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا ترتد جميعها، بل لابد أن يبقي الله من المؤمنين مَنْ هو ظاهر إلى قيام الساعة. فإذا مات كل مؤمن فقد جاءت الساعة.
 
وهذا كما في حديث العلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقَبْضِ العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا». والحديث مشهور في الصحاح من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي {{صل}}.
 
فإن قيل: ففي حديث [[ابن مسعود]] وغيره أنه قال: «يَسْرِي على القرآن فلا يبقي في المصاحف منه آية ولا في الصدور منه آية» وهذا يناقض هذا.
 
قيل: ليس كذلك. فإن قبض العلم ليس قبض القرآن بدليل الحديث الآخر: «هذا أوان يقبض العلم». فقال بعض الأنصار: وكيف يقبض وقد قرأنا القرآن وأقرأناه نساءنا وأبناءنا؟ فقال: «ثكلتك أمك! إن كنت لأَحْسَبُك لمن أَفْقَه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل عند إليهود والنصاري؟ فماذا يغني عنهم؟».
 
فتبين أن مجرد بقاء حفظ الكتاب لا يوجب هذا العلم، لا سيما فإن القرآن يقرأه المنافق والمؤمن، ويقرأه الأمي الذي لا يعلم الكتاب إلا أماني. وقد قال الحسن البصري: العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان. فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده. فإذا قبض الله العلماء بقي من يقرأ القرآن بلا علم، فيسري عليه من المصاحف والصدور.
 
فإن قيل: ففي حديث حذيفة، الذي في الصحيحين، أنه حدثهم عن قبض الأمانة وأن «الرجل ينام النَّومَة، فتقبض الأمانة من قلبه. فيظل أثرها مثل الوَكْت. ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أَثَر المْجَلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَه على رجلك فتراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيء».
 
قيل: وقبض الأمانة والإيمان ليس هو قبض العلم. فإن الإنسان قد يؤتي إيمانًا مع نقص علمه. فمثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره؛ كإيمان بني إسرائيل لما رأوا العجل. وأما من أوتي العلم مع الإيمان فهذا لا يرفع من صدره. ومثل هذا لا يرتد عن الإسلام قط، بخلاف مجرد القرآن أو مجرد الإيمان، فإن هذا قد يرتفع. فهذا هو الواقع.
 
لكن أكثر ما نجد الردة فيمن عنده قرآن بلا علم وإيمان، أو من عنده إيمان بلا علم وقرآن. فأما من أوتي القرآن والإيمان فحصل فيه العلم فهذا لا يرفع من صدره. والله أعلم.
 
===فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث===
وَقَالَ شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
 
وأما قوله {{صل}}: «مثل أمتي كمثل الغَيْثِ، لا يدري أوله خَيْرٌ أو آخره»، فهذا قد رواه أحمد في المسند، وقد ضعفه بعض الناس، وبعضهم لم يضعفه، لكن قال معناه: أنه يكون في آخرالأمة من يقارب أولهم في الفضل، وإن لم يكن منهم، حتى يشتبه على الناظر أيهما أفضل، وإن كان الله يعلم أن الأول أفضل، كما يقال في الثوب المتشابه الطرفين: هذا الثوب لا يدري أي طرفيه خير، مع العلم بأن أحد طرفيه خير من الآخر؛ وذلك لأنه قال: لا يدري أوله خير، أو آخره، ومن المعلوم أن الله يعلم أيهما خير، إذا كان الأمر كذلك، وإنما ينفي العلم عن المخلوق، لا عن الخالق؛ لأن المقصود التشابه والتقارب، وما كان كذلك اشتبه على المخلوق أيهما خير.
 
===حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء===
وسئل عن حديث أنس بن مالك، عن النبي {{صل}}، أنه قال: «سبعة لا تموت ولا تَفْني ولا تذوق الفناء: النار وسكانها، واللوح، والقلم، والكرسي، والعرش» فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟
 
فأجاب:
 
هذا الخبر بهذا اللفظ ليس من كلام النبي {{صل}}، وإنما هو من كلام بعض العلماء. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفني بالكلية؛ كالجنة والنار، والعرش، وغير ذلك. ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجَهْم بن صفوان، ومن وافقه من المعتزلة، ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع سلف الأمة وأئمتها. كما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها، وبقاء غير ذلك مما لا تتسع هذه الورقة لذكره. وقد استدل طوائف من أهل الكلام والمتفلسفة على امتناع فناء جميع المخلوقات بأدلة عقلية. والله أعلم.
 
===فصل حديث أعطيت جوامع الكلم===
وَقَالَ شيخ الإسلام:
 
قال {{صل}}: «أُعْطِيت جوامع الكَلِم» وروي «وخواتمه» وروي «وفواتحه، وخواتمه» وقال في حديث: «أعطي نبيكم جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه».
 
وهذا حديث شريف جامع؛ وذلك أن الكلم نوعان: إنشائية فيها الطلب، والإرادة، والعمل. وإخبارية فيها الاعتقاد والعلم، وكل واحد من العلم والإرادة الذي هو الخبر والطلب فيه فروع كثيرة، وله أصول محيطة. وهي نوعان: كلية جامعة عامة. وأولية علية، فالعلوم الكلية والأولية والإرادات والتدابير والأوامر الكلية والأولية هي: جماع أمر الوجود كله. والخبر المطلوب كله الحق الموجود، والحق المقصود؛ ولهذا كان القياس العقلي والشرعي وغيرهما نوعين: قياس شمول، وقياس تعليل. فإن قياس التمثيل مُنْدَرِج في أحدهما؛ لأن القدر المشترك بين المثلين إن كان هو محل الحكم فهو قياس شمول، وإن كان مناط الحكم فهو قياس تعليل.
 
وذلك أن العلوم والإرادات، وما يُظْهِر ذلك من الكلمة الخبرية والطلبية إذا كانت عامة جامعة كلية فقد دخل فيها كل مطلوب، فلم يبق مما يطلب علمه شيء، وكل مقصود من الخبر، فلم يبق فيها مما يطلب قصده شيء، ثم ذلك علم وإرادة لنفسها وذاتها، سواء كانت مفردة أو مركبة. ثم لابد أن يتعلق بها علتان:
 
إحداهما: السبب وهي العلة الفاعلة.
 
والثاني: الحكمة: وهي العلة الغائية. فذلك هو العلم والإرادة للأمور الأولية. فإن السبب والفاعل أدل في الوجود العيني. والحكمة والغاية أدل في الوجود العلمي الإرادي؛ ولهذا كانت العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية. وكانت هي في الحقيقة علة العلل لتقدمها علمًا وقصدًا، وأنها قد تستغني عن المعلول، والمعلول لا يستغني عنها، وأن الفاعل لا يكون فاعلًا إلا بها، وأنها هي كمال الوجود وتمامه؛ ولهذا قدمت في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. فإذا كانت الحكم المظهرة للعلم والطلب فيها الفواتح، وفيها الخواتم، جمعت نَوْعَي العلتين الأوليين. وإذا كانت جامعة كانت علة عامة.
===حديث الكرب اللهم إني عبدك===
وَقَالَ شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:
 
قوله في حديث الكرب الذي رواه أحمد من حديث [[ابن مسعود]]: «اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن رَبِيعَ قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذَهَاب همي وغَمِّي إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله به فرحًا».
 
الربيع: هو المطر المنبت للربيع، ومنه قوله في دعاء الاستسقاء: «اللهم اسقنا غَيثًا مُغِيثًا، ربيعًا، مُرْبِعًا» وهو المطر الوَسْمِي الذي يَسِمُ الأرض بالنبات، ومنه قوله: «القرآن ربيع للمؤمن». فسأل الله أن يجعله ماء يحيي به قلبه كما يحيي الأرض بالربيع، ونورًا لصدره.
 
والحياة والنور جماع الكمال، كما قال: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } <ref>[الأنعام: 122]</ref>، وفي خطبة أحمد بن حنبل: يحيون بكتاب الله الموتي، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمي؛ لأنه بالحياة يخرج عن الموت، وبالنور يخرج عن ظلمة الجهل، فيصير حيًا عالمًا ناطقًا، وهو كمال الصفات في المخلوق. وكذلك قد قيل في الخالق، حتى النصارى فسروا الأب والابن وروح القدس بالموجود الحي العالم. والغزالي رد صفات الله إلى الحي العالم، وهو موافق في المعني لقول الفلاسفة: عاقل، ومعقول، وعقل؛ لأن العلم يتبع الكلام الخبري، ويستلزم الإرادة، والكلام الطلبي؛ لأن كل حي عالم فله إرادة وكلام، ويستلزم السمع والبصر، لكن هذا ليس بجيد؛ لأنه يقال: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها؛ ولهذا كان أعظم آية في القرآن: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } <ref>[البقرة: 255]</ref>. وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفي بالحي، وهذا ينفع في الدلالة والوجود، لكن لا يصح أن يجعل معني العالم هو معني المريد، فإن الملزوم ليس هو عين اللازم، وإلا فالذات المقدسة مستلزمة لجميع الصفات.
 
فإن قيل: فلِمَ جمع في المطلوب لنا بين ما يوجب الحياة والنور فقط دون الاقتصار على الحياة، أو الازدياد من القدرة وغيرها؟
 
قيل: لأن الأحياء الآدميين فيهم من يهتدي إلى الحق، وفيهم من لا يهتدي. فالهداية كمال الحياة، وأما القدرة فشرط في التكليف لا في السعادة، فلا يضر فَقْدها، ونور الصدر يمنع أن يريد سواه.
 
ثم قوله: «ربيع قلبي ونور صدري» لأنه والله أعلم الحَيَا لا يتعدي محله، بل إذا نزل الربيع بأرض أحياها. أما النور، فإنه ينتشر ضوؤه عن محله. فلما كان الصدر حاويًا للقلب جعل الربيع في القلب والنور في الصدر لانتشاره، كما فسرته المشكاة في قوله: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } <ref>[النور: 35]</ref>، وهو القلب.
 
===فصل حديث المرء مع من أحب===
وقال شيخ الإسلام:
 
وأما قوله {{صل}}: «المرء مع مَنْ أحب» فهو من أصح الأحاديث، وقال أنس فما فَرِحَ المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله {{صل}} وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يحشرني الله معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم، وكذلك: «أوثق عُرَي الإسلام الحب في الله، والبغض في الله» لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله، ومَنْ يحبه الله. فيحب أنبياء الله كلهم؛ لأن الله يحبهم، ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم؛ كالذين يشهد لهم النبي {{صل}} بالجنة، وغيرهم من أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان.
 
فمن شهد له النبي {{صل}} بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة فقد قال طائفة من أهل العلم: لا يشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه. وقال طائفة: بل من استفاض من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه، كعمر بن عبدالعزيز، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والفضيل ابن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وعبد الله بن المبارك رضي الله عنهم وغيرهم، شهدنا له بالجنة؛ لأن في الصحيح: أن النبي {{صل}} مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، ومرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا. فقال: «وجبت، وجبت». قالوا: يا رسول الله ما قولك وجبت، وجبت؟. قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا، فقلت: وجبت لها النار». قيل: بِمَ يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن، والثناء السيئ».
 
وإذا علم هذا، فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء وهؤلاء في الجنة كالتجار والفلاحين، وغيرهم من الأصناف.
 
وإذا كان كذلك، فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالا، بل عليه أن يأخذ فيطلب بما يعلم أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده. كما قال الله تعالى: { وَإِن تَظَاهَرَا عليه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[التحريم: 4]</ref>، وقال الله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } <ref>[المائدة: 55، 56]</ref>.
 
وعلى هذا، فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا أدخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلالة والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وغيرهم. فمحبة هؤلاء من أوثق عُرَي الإيمان، وأعظم حسنات المتقين، ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله أثابه الله تعالى على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله، وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله.
 
لكن كثيرا من الناس يدعي المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>. قال بعض السلف: ادعي قوم على عهد رسول الله {{صل}} أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية، فمحبة الله ورسوله، وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته، وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيمًا، فمن كان أعظم نصيبًا من ذلك كان أعظم درجة عند الله، وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل: أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يَتَأَكَّله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوي النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان.
 
وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير، وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله؟ وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله {{صل}}، وسبيل الله؟ وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا وغيرهم، فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله، والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهرة، فأهل الشرك يتخذون أندادًا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون؛ وذلك أن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه الله، ومن أحبه الله أحب الله، فمحبوب المحبوب محبوب لله، يحب الله، فمن أحب الله أحبه الله، فيحب من أحب الله.
 
وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا وشفعاء يدعونهم من دون الله، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَي مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } <ref>[الأنعام: 94]</ref> وقال الله تعالى: { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإليه تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } <ref>[يس: 22: 25]</ref> وقال الله تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } <ref>[الأنعام: 51]</ref> وقال الله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبابا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } <ref>[آل عمران: 79، 80]</ref>.
 
والله تعالى بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، وقال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «إنا معشر الأنبياء ديننا واحد». فالدين واحد، وإن تفرقت الشِّرْعَة والمنهاج، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } <ref>[الأنبياء: 25]</ref>، وقال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } <ref>[الزخرف: 45]</ref>، وقال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } <ref>[النحل: 36]</ref>، ومن حين بعث الله محمدا {{صل}} ما يقبل من أحد بَلَغْته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به. فإن دعوته عامة لجميع الخلائق، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } <ref>[سبأ: 28]</ref>، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».
 
وقال الله تعالى: { وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عليهمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إليكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } <ref>[الأعراف: 156 158]</ref>.
فعلى الخلق كلهم اتباع محمد {{صل}}، فلا يعبدون إلا الله، ويعبدونه بشريعة محمد {{صل}} لا بغيرها، قال الله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } <ref>[الجاثية: 18، 19]</ref>، ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}}، أنه قال: «إن الله يَرْضَي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تَنَاصَحُوا مَنْ ولاه الله أمركم» وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله، وكمال الذل لله. فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه، ولا يكون لها إله سواه، والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام، ونحو ذلك.
 
والله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته وبرجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به.
 
ولهذا كان وسط الفاتحة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }، قال: أثني على عبدي، وإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، قال: مَجَّدني عبدي، وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ } هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» فوسط السورة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، فالدين ألا يعبد إلا الله، ولا يستعان إلا إياه.
 
والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله، كما قال الله تعالى: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إليه جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا اليمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } <ref>[النساء: 172، 173]</ref>، فالحب لغير الله؛ كحب النصاري للمسيح، وحب إليهود لموسي، وحب الرافضة لعلى، وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم، مثل: مَنْ يوالي شيخًا أو إمامًا وينفر عن نظيره، وهما متقاربان، أو متساويان في الرتبة، فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم، وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد الذين يوالون الشيوخ والأئمة دون البعض.
 
وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان. قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } <ref>[الحجرات: 10]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه » وقال: «مثل المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر» وقال عليه السلام: «لا تَقَاطَعُوا، ولا تَدَابَرُوا، وكونوا عباد الله إخوانًا».
 
ومما يبين الحب لله والحب لغير الله، أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان يحب النبي {{صل}} مخلصًا لله، وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله، فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَي الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّي وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَي إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعلى وَلَسَوْفَ يَرْضَي } <ref>[الليل: 17 21]</ref>. وأما أبو طالب فلم يتقبل منه، فأبو بكر لم يطلب أجره وجزاءه من الخلق؛ لا من النبي {{صل}}، ولا غيره، بل آمن به وأحبه وكَلأَهُ وأعانه بنفسه وماله، متقربًا بذلك إلى الله، وطالبًا الأجر من الله، ورسوله، يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده، قال الله تعالى: { فَإِنَّمَا عليكَ الْبَلاَغُ وَعلينَا الْحِسَابُ } <ref>[الرعد: 40]</ref>.
 
والله هو الذي يخلق، ويرزق، ويعطي، ويمنع، ويخفض، ويرفع، ويعز ويذل، وهو سبحانه مسبب الأسباب، ورب كل شيء ومليكه، والأسباب التي تفعلها العباد منها ما أمر الله به وأباحه، فهذا يَسْلك، ومنها ما نهي عنه نهيًا خالصًا، أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها، فهذا لا يسلك. قال الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } <ref>[سبأ: 22، 23]</ref>.
 
بَيَّن سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شِرْكَة لهم، ثم بين أنه لا عَوْنَ له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق كما يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة: اسْتَوْحِ الشيخ فلانا فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات، وناد: يا شيخ، تقضي حاجتك، وهذا غلط لا يحل فعله، وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يري صورة المدعو أحيانًا، فذلك شيطان يمثل له، كما وقع مثل هذا لعدد كثير، ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عَدِي وغيره: كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده.
 
والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ، وهذا كلام أهل الشرك والضلال، فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفي، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه.
 
وما من سبب من الأسباب إلا دَائِر موقوف على أسباب أخري، وله معارضات، فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا، فلا تحرق السَّمَنْدَل، وإذا شاء الله منع أثرها، كما فعل بابراهيم عليه السلام وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره، ولا مانع لها، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها، يحسن إليهم، ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم، وافتقارهم إليه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } <ref>[الشورى: 11]</ref>، فنفي الرب هذا كله، فلم يبق إلا الشفاعة فقال: { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } <ref>[سبأ: 23]</ref>، وقال: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } <ref>[البقرة: 255]</ref> فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها، فالجميع منه وحده.
 
وكلما كان الرجل أعظم إخلاصًا لله، كانت شفاعة الرسول أقرب إليه قال له [[أبو هريرة]]: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله».
 
وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى، ويتعلقون بفلان، فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى، قال الله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } <ref>[الزمر: 43، 44]</ref>، وقال الله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَي على الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } <ref>[السجدة: 4]</ref>، وقال: { ثُمَّ اسْتَوَي على الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } <ref>[الإسراء: 56، 57]</ref>، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فبين الله تعالى أن هؤلاء الأنبياء والملائكة عباده، كما أن هؤلاء عباده، هؤلاء يتقربون إلى الله، وهؤلاء يرجون رحمة الله، وهؤلاء يخافون عذاب الله، فالمشركون اتخذوا مع الله أندادًا يحبونهم كحب الله، واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله، ففيهم محبة لهم، وإشراك بهم، وفيهم من جنس ما في النصاري من حب المسيح، وإشراك به.
 
والمؤمنون أشد حبًا لله، فلا يعبدون إلا الله وحده، ولا يجعلون معه شيئًا، يحبونه كحبه لا أنبياءه ولا غيرهم، بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله، وأخلصوا دينهم لله، وعلموا أن أحدًا لا يشفع لهم إلا بإذن الله، فأحبوا عَبْدَ الله ورسوله محمدا {{صل}} لحب الله، وعلموا أنه عبدالله المبلغ عن الله، فأطاعوه فيما أمر، وصدقوه فيما أخبر، ولم يرجوا إلا الله، ولم يخافوا إلا الله، ولم يسألوا إلا الله، وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله، ولا ينفع رجاؤنا للشفيع، ولا مخافتنا له، وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله، وتوكلنا عليه، فهو الذي يأذن للشفيع.
 
فعلى المسلم أن يفرق بين محبة النصاري والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان، ويخرج عن مشابهة المشركين وعَبَدَةِ الصُّلْبَان. وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار». { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إليكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } <ref>[التوبة: 24]</ref>، وقال الله تعالى: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عليمٌ } <ref>[المائدة: 54]</ref>، وهذا باب واسع، ودين الإسلام مَبْنِي على هذا الأصل، والقرآن يدور عليه.
 
===وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا===
وسئل شيخ الإسلام عن المسكَنَة وعن قوله {{صل}}: «اللهم أَحْيِنِي مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زُمْرَة المساكين».
 
فأجاب:
 
الحمد لله، هذا الحديث قد رواه [[الترمذي]]، وقد ذكره أبو الفرج في الموضوعات، وسواء صح لفظه، أو لم يصح، فالمسكين المحمود هو المتواضع، الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال، بل قد يكون الرجل فقيرًا من المال، وهو جبار، كما قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: ملك كذاب، وفقير مختال، وشيخ زان». وكان النبي {{صل}} يقول: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد». فالمسكنة: خلق في النفس، وهو التواضع والخشوع، واللين ضد الكِبْر. كما قال عيسي عليه السلام: { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } <ref>[مريم: 32]</ref>، ومنه قول الشاعر:
 
مساكين أهل الحب حتى قبورهم ** عليها تراب الذل بين المقابر
 
أي: أذلاء فالحب يعطي الذل، وعبادة الله تجمع كمال الحب له وكمال الذل له، فمن كان محبًا شيئًا ولم يكن ذليلا له، لم يكن عابدًا. ومن كان ذليلا له، وهو مُبْغِضُ، لم يكن عابدًا، والحب درجات: أعلاه التَّتَيُّم، وهو التعبد، وتَيَّم الله: عَبَدَ الله، وقد قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ على الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } الآيات <ref>[الفرقان: 63]</ref>. وشواهد هذا الأصل كثيرة.
 
===فصل حديث من يستغن يغنه الله===
وقال شيخ الإسلام:
 
جمع النبي {{صل}} بين العفة والغِنَي في عدة أحاديث، منها: قوله في حديث أبي سعيد المخرج في الصحيحين: «من يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، ومن يستعفف يُعِفَّه الله». ومنها: قوله في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقْسِط، ورجل غني عفيف متصدق». ومنها: قوله في حديث الخيل الذي في الصحيح: «ورجل ارتبطها تَغَنِّيَا وتعففًا. ولم يَنْسَ حق الله في رقابها وظهورها، فهي له سِتْر». ومنها: ما روي عنه: «من طلب المال استغناءً عن الناس واستعفافًا عن المسألة لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر». ومنها: قوله في حديث عمر وغيره: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مُشْرِفٍ فخذه» فالسائل بلسانه، وهو ضد المتعفف، والمُشْرِفُ بقلبه، وهو ضد الغني.
 
قال في حق الفقراء: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ } <ref>[البقرة: 273]</ref>، أي عن السؤال للناس. وقال: «ليس الغِنَي عن كثرة العَرَضِ، وإنما الغني غني النفس» فغني النفس الذي لا يستشرف إلى المخلوق، فإن الحر عَبْدٌ ما طمع، والعبد حُرٌ ما قَنَعْ. وقد قيل:
 
أطعت مطامعي فاستعبدتني فَكرِهَ أن يتبع نفسه ما استشرفت له لئلا يبقي في القلب فقر وطمع إلى المخلوق، فإنه خلاف التوكل المأمور به، وخلاف غني النفس.
 
===فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر===
وقال شيخ الإسلام:
 
جاء في حديث «إن أكبر الكبائر الكفر والكِبْر» وهذا صحيح، فإن هذين الذنبين أساس كل ذنب في الإنس والجن، فإن إبليس هو الذي فعل ذلك أولا، وهو أصل ذلك. قال الله تعالى: { إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } <ref>[ص: 74]</ref>، وقال: { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } <ref>[البقرة: 34]</ref> وفي صحيح مسلم، عن [[ابن مسعود]] قال: قال رسول الله {{صل}}: «لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبْر» فجعل الكبر يُضَاد الإيمان.
 
وكذلك الشرك في مثل قوله: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } <ref>[النساء: 48]</ref>، وقال ابن مسعود: قال رسول الله {{صل}}: «من مات وهو لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة» قال: وأنا أقول: من مات وهو يشرك بالله شيئًا دخل النار.
 
ثم من الناس من يجمع بينهما، ومنهم من ينفرد له أحدهما، والمؤمن الصالح عافاه الله منهما. فإن الإنسان؛ إما أن يخضع لله وحده، أو يخضع لغيره مع خضوعه له، أولا يخضع لا لله ولا لغيره. فالأول: هو المؤمن، والثاني: هو المشرك، والثالث: هو المتكبر الكافر. وقد لا يكون كافرًا في بعض المواضع، والنصاري آفَتُهُم الشرك، وإليهود آفتهم الكبر، كما قال تعالى عن النصاري: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبابا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } <ref>[التوبة: 31]</ref>، وقال عن إليهود: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } <ref>[الأعراف: 146]</ref>، ولهذا عوقبت إليهود بِضَرْب الذِّلَّة والمسكنة عليهم، والنصاري بالضلال والبدع والجهالة.
 
===فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات===
وقال شيخ الإسلام:
 
ومما يتعلق بالثلاث المهلكات والمنجيات التي ذكر أنه عند المهلكات عليك بخُوَيْصَة نفسك. أنه قال: «شُحَُّ مطاع، وهَوي مُتَّبع» فجعل هذا مطاعًا، وهذا متبعًا، وهذا والله أعلم لأن الهوي هوي النفس، وهو محبتها للشيء، وشهوتها له، سواء أريد به المصدر أو المفعول. فصاحب الهوي يأمره هواه، ويدعوه فيتبعه، كما تتبع حركات الجوارح إرادة القلب، ولهذا قال الله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا } <ref>[المائدة: 77]</ref>، وقال: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًي مِّنَ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>.
 
وهذا يعم الهوي في الدين، كالنصاري، وأهل البدع في المقال والقَدَر. كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، من الرافضة والخوارج. وهذا الهوي موجود في كثير من الفقراء والفقهاء، إلا من عصمه الله.
 
وقد اختلف أصحابنا، هل يدخل الفقهاء المختلفون في اسم أهل الأهواء. على وجهين، أدخلهم في التقسيم القاضي أبو يَعلى، وكذلك قبله الشيخ أبو حامد الإسْفَرائيني فيما أظن، وأنكره ابن عقيل.
 
وأما الشح المطاع فقد ذكرنا أن مَفْسدته عائدة إلى منع الخير، وهذا في الأصل ليس هو محبوبًا، وإنما يحمل عليه الحرص على المشحوح به، فإنه من باب النَّفَرة والبغض، فهو يأمر صاحبه فيطيعه، وليس كل مطاع متبعًا، وإن كان كل متبع مطاعًا، فإن الإنسان يطيع الطبيب والأمير وغيرهما في أمور خاصة، وليس متبعًا لهم، أما التابع لغيره فهو مطيع وزيادة، فإنه يذهب معه حيثما ذهب.
 
وفرق ثانٍ، أن المتبع الذي يطلب في نفسه، فغاية المتبع إدراكه ونيله، وهذا شأن الهوي. وأما المطاع فغاية لغيره، وهذا شأن الشح.
وتحقيق معني الشح: أنه شدة المنع التي تقوم في النفس. كما يقال: شحيح بدينه، وضَنِين بدينه، فهو خلق في النفس، والبخل من فروعه. كما في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي {{صل}} أنه قال: «إياكم والشُح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»، وكذلك في حديث عبد الرحمن بن عوف أنه كان يقول في طوافه: رب قني شح نفسي. فقيل له: ما أكثر ما تستعيذ من ذلك! فقال: إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة، أو كما قال؛ ولهذا بين الكتاب والسنة أن الشح والحسد من جنس واحد في قوله: { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[الحشر: 9]</ref>، فأخبر عنهم بأنهم يبذلون ما عندهم من الخير مع الحاجة، وأنهم لا يكرهون ما أنعم به على إخوانهم. وضد الأول البخل، وضد الثاني الحسد.
 
ولهذا كان البخل والحسد من نوع واحد، فإن الحاسد يكره عطاء غيره، والباخل لا يحب عطاء نفسه، ثم قال: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[الحشر: 9]</ref>، فإن الشح أصل للبخل، وأصل للحسد، وهو ضيق النفس وعدم إرادتها وكراهتها للخير على الغير، فيتولد عن ذلك امتناعه من النفع، وهو البخل وإضْرَار المنعم عليه وهو الظلم، وإذا كان في الأقارب كان قطيعة.
 
ولهذا في حديث أبي هريرة الذي رواه... [[النسائي]] من حديث محمد بن عَجْلان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله {{صل}} قال: «لا يجتمع في النار مسلم قتل كافرًا ثم سدد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن: غبار في سبيل الله وفَيْحُ جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد» ورواه النسائي أيضا من حديث جرير، عن سهيل »عن صفوان« بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله {{صل}}: «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا».
 
.. فانظر كيف ذكر الشح في الروايات المشهورة، وفي الأخري والحسد، واللفظ الأول أجمع، وكيف قرن في الحديث السماحة والشجاعة، كما قال في الحديث الآخر: «شر ما في المرء: شح هالع، وجبن خالع» فمدح الشجاعة في سبيل الله، وذم الشح. ونظير هذا قوله: «إن من الخيلاء ما يحبها الله، وهو اختيال الرجل بنفسه عند الحرب، وعند الصدقة» وقصد من الحديث قوله: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[الحشر: 9]</ref> فحصر المفلحين فيمن يوق شح نفسه، والشحيح الذي لا يحب فعل الخير، والذي يضر نفسه، ويكره النعمة على غيره.
 
===سئل عن أحاديث هل هي صحيحة===
وسئل عن أحاديث: هل هي صحيحة؟وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح؟ وهي قوله: «أول ما خلق الله العقل قال له: أَقْبِل، فأقبل. ثم قال له: أَدْبِر، فأدبر. ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أكرم على منك. بك آخذ، وبك أعطي؛ وبك أثيب، وبك أعاقب». وقوله: «أمرت أن أخاطب الناس على قَدْر عقولهم». وهل هذا اللفظ هو لفظ حديث؟ أو فيه تحريف؟ أو زيادة أو نقص؟ وقوله: «إن الله مَنَّ على فيما مَنَّ على: أن أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، قسمتها بيني وبينك نصفين». وقوله: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار».
 
فأجاب:
 
أما الحديث الأول، فهو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث، ليس هو في شيء من كتب الإسلام المعتمدة، وإنما يرويه مثل داود بن المحبر، وأمثاله من المصنفين في العقل، ويذكره أصحاب رسائل إخوان الصفا ونحوهم من المتفلسفة، وقد ذكره أبو حامد في بعض كتبه، وابن عربي، وابن سَبعين، وأمثال هؤلاء، وهو عند أهل العلم بالحديث كذب على النبي {{صل}}، كما ذكر ذلك أبو حاتم الرازي، وأبو الفرج [[ابن الجوزي]]، وغيرهما من المصنفين في علم الحديث.
 
ومع هذا فلفظ الحديث: «أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر، فأدبر، قال: ما خلقت خلقًا أكرم على منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب»، وفي لفظ: «لما خلق الله العقل قال له: كذلك» ومعني هذا اللفظ أنه قال للعقل في أول أوقات خلقه، ليس فيه أن العقل أول المخلوقات، لكن المتفلسفة القائلون بقدم العالم أتباع أرسطو، هم ومن سلك سبيلهم من باطنية الشيعة، والمتصوفة، والمتكلمة، رَوَوْهُ أول ما خلق الله العقل بالضم، ليكون ذلك حجة لمذهبهم، في أن أول المبدعات هو العقل الأول، وهذا اللفظ لم يروه به أحد من أهل الحديث، بل اللفظ المروي مع ضعفه يدل على نقيض هذا المعني، فإنه قال: «ما خلقت خلقًا أكرم على منك» فدل على أنه قد خلق قبله غيره، والذي يسميه الفلاسفة العقل الأول، ليس قبله مخلوق عندهم.
 
وأيضا، فإنه قال: «بك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب»، فجعل به هذه الأعراض الأربعة، وعند أولئك المتفلسفة الباطنية، أن جميع العالم صدر عن العقل الأول، وهو رب السموات والأرض وما بينهما عندهم، وإن كان مربوبًا للواجب بنفسه، وهو عندهم متولد عن الله، لازم لذاته، وليس هذا قول أحد من أهل الملل، لا المسلمين ولا إليهود، ولا النصاري إلا مَنْ أَلْحَدَ منهم ولا هو قول المجوس، ولا جمهور الصابئين، ولا أكثر المشركين، ولا جمهور الفلاسفة، بل هو قول طائفة منهم.
 
وأيضا، فإن العقل في لغة المسلمين عَرَض من الأعراض، قائم بغيره وهو غريزة، أو علم، أو عمل بالعلم، ليس العقل في لغتهم جوهرًا قائمًا بنفسه، فيمتنع أن يكون أول المخلوقات عرضًا قائمًا بغيره، فإن العرض لا يقوم إلا بمحل، فيمتنع وجوده قبل وجود شيء من الأعيان، وأما أولئك المتفلسفة، ففي اصطلاحهم أنه جوهر قائم بنفسه، وليس هذا المعني هو معني العقل في لغة المسلمين، والنبي {{صل}} خاطب المسلمين بلغة العرب، لا بلغة اليونان، فعلم أن المعني الذي أراده المتفلسفة لم يقصده الرسول، لو كان تكلم بهذا اللفظ، فكيف إذا لم يتكلم به؟
 
وأما الحديث الثاني، وهو قوله: «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» فهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يعتمد عليهم في الرواية، وليس هو في شيء من كتبهم، وخطاب الله ورسوله للناس عام يتناول جميع المكلفين، كقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } <ref>[النساء: 1]</ref>، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } <ref>[البقرة: 104]</ref>، { يَا عِبَادِ } <ref>[الزخرف: 68]</ref> { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } <ref>[البقرة: 47]</ref> وكذلك النبي {{صل}} كان يخاطب الناس على منبره بكلام واحد يسمعه كل أحد، لكن الناس يتفاضلون في فهم الكلام بحسب ما يخص الله به كل واحد منهم من قوة الفهم، وحسن العقيدة.
 
ولهذا كان أبو بكر الصديق أعلمهم بمراده، كما في الصحيحين، عن أبي سعيد: أن النبي {{صل}} خطب الناس فقال: «إن عبدًا خَيَّره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله» قال: فبكى أبو بكر وقال: نفديك بأنفسنا وأموالنا، فجعل الناس يعجبون منه، ويقولون: عجبًا لهذا الشيخ! بكى أن ذكر رسول الله {{صل}} عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، قال: فكان رسول الله {{صل}} هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به» فالنبي {{صل}} ذكر عبدًا مطلقًا لم يعينه، ولكن أبو بكر عرف عينه.
 
وما يرويه بعض الناس عن عمر، أنه قال: كان رسول الله {{صل}} وأبو بكر يتحدثان، وكنت كالزِّْنْجِي بينهما فهذا كذب مختلق. وكذلك ما يروي أنه أجاب أبا بكر بجواب، وأجاب [[عائشة]] بجواب، فهذا كذب باتفاق أهل العلم.
 
===سئل عن بعض الأحاديث===
سُئِل عن هذه الأحاديث: «من طاف بهذا البيت أسبوعًا إيمانًا واحتسابًا غفر له ما قد سلف». وقوله {{صل}}: «من وقف بعرفات، وظن أن الله لا يغفر له، لا غفر الله له» وأيضا: «لو مر بعرفات راعي غنم ولم يعلم أنه يوم عرفة غفر له» وقوله عليه السلام: «من حج ولم يَزُرْني فقد جفاني، ومن زارني فقد وجبت له شفاعتي» هل هذه الأحاديث في الصحيح أم لا؟ وما معني قوله عز وجل: { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>.
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين، ليس في هذه الأحاديث حديث لا في الصحيح، ولا في السنن، وفيها ما معناه مخالف للكتاب والسنة، فإنه لو وقف الرجل بعرفات خائفًا من الله ألا يغفر له ذنوبه؛ لكونها كبائر، لم يقل: إن الله لا يغفر له، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فما دون الشرك إن شاء الله غفره لصاحبه، وإن شاء لم يغفره، لكن إذا تاب العبد من الذنب غفره الله له؛ شركًا كان أو غير شرك. كما قال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } <ref>[الزمر: 53]</ref>، فهذا في حق التائب.
 
وأيضا، فالواقف بعرفات لا يسقط عنه ما وجب عليه من صلاة وزكاة بإجماع المسلمين، بل هم متفقون على أن الصلاة أوكد من الحج بمالا نسبة بينهما. فإن الحج يجب مرة في العمر على المستطيع، والنبي {{صل}} لم يحج بعد الهجرة إلا حَجَّةً واحدة، وأما الصلاة فإنها فرض على كل عاقل بالغ إلا الحائض والنفساء سواء كان صحيحًا، أو مريضًا، آمنًا، أو خائفًا، غنيًا أو فقيرًا، رجلا أو امرأة، في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة، سبعة عشر فريضة، والسنن الرواتب عشر ركعات، أو اثنتا عشرة ركعة، وقيام الليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، وكذلك حقوق العباد من الذنوب، والمظالم، وغيرها لا تسقط بالحج باتفاق الأئمة.
 
والحديث الذي يروي في سقوط المظالم وغيرها بذلك في حديث عباس بن مِرْدَاس حديث ضعيف. وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}}، أنه قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارة لما بينهن، إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر» فهذه الأمور التي هي أعظم من الحج، ولكن الكبائر تكفرها التوبة منها بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
 
وكذلك قوله: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» كذب، فإن جفاء النبي {{صل}} حرام، وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين، ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره، بل هذه الأحاديث التي تروي: «من زارني، وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء.
 
وقد روي [[الدارقطني]] وغيره في زيارة قبره أحاديث، وهي ضعيفة.
 
وقد كره الإمام مالك وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله {{صل}} وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم كره أن يقال: زُرْتُ قبر رسول الله {{صل}}، ولو كان هذا اللفظ ثابتًا عن رسول الله {{صل}} معروفًا عند علماء المدينة، لم يكره مالك ذلك.
 
وأما إذا قال: سلمت على رسول الله {{صل}}، فهذا لا يكره بالاتفاق، كما في السنن عنه {{صل}}، أنه قال: «ما من رجل يسلم على إلا رد الله على رُوحي حتى أرد عليه السلام» وكان [[ابن عمر]] يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أَبَتِ. وفي [[سنن أبي داود]] عنه، أنه قال: «أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على» قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أَرِمْتَ؟ قال: «إن الله حَرَّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء».
 
وأما قوله تعالى: { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>، فهذا من باب البيت. كما قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } <ref>[العنكبوت: 67]</ref>، وقال تعالى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } <ref>[قريش: 3، 4]</ref>، وقال تعالى: { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَي إليه ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } <ref>[القصص: 57]</ref>، فكانوا في الجاهلية يقتل بعضهم بعضًا خارج الحرم، فإذا دخلوا الحرم، أو لَقِي الرجل قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وكان هذا من الآيات التي جعلها الله فيه، كما قال: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>، والإسلام زاد حرمته.
 
فمذهب أكثر الفقهاء أن من أصاب حدًا خارج الحرم، ثم لَجَأَ إلى الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه، كما قال ابن عمر، و[[ابن عباس]]. وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وغيرهما؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي {{صل}} قال: «إن مكة حَرَّمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يَعْضِدَ بها شجرًا، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس».
 
ومن ظن أن من دخل الحرم كان آمنًا من عذاب الآخرة، مع ترك الفرائض من الصلاة وغيرها، ومع ارتكاب المحارم، فقد خالف إجماع المسلمين، فقد دخل البيت من الكفار والمنافقين والفاسقين من هو من أهل النار بإجماع المسلمين. والله أعلم.
 
سُئِلَ رَضي الله عَنْه: عن هذا الحديث: «من علمك آية من كتاب الله فكأنما ملك رِقَّك، إن شاء باعك وإن شاء أعتقك»، فهل هذا في الكتب الستة، أو هو كذب على رسول الله {{صل}}؟
 
فأجاب:
 
ليس هذا في شيء من كتب المسلمين؛ لا في الستة ولا في غيرها، بل مخالف لإجماع المسلمين؛ فإن من عَلَّم غيره لا يصير به مالكًا، إن شاء باعه وإن شاء أعتقه، ومن اعتقد هذا فإنه يُسْتَتَاب، فإن تاب وإلا قتل. والحر المسلم لا يُسْتَرَق، وسيد مُعَلِمَ الناس رسول الله {{صل}} علمهم الكتاب والحكمة، وهو أولى بهم من أنفسهم، ومع هذا فهم أحرار لم يسترقهم ولم يستعبدهم، بل كان حكمه في أمته الأحرار خلاف حكمه فيما ملكته يمينه، ولو كان المؤمنات ملكًا له لجاز أن يَطَأ كل مؤمنة بلا عقد نكاح، ولَكَان لِمْن عَلَّم امرأة آية من القرآن أن يطأها بلا نكاح، وهذا لا يقوله مسلم.
 
سُئِلَ عن معنى قوله {{صل}}: «من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا، وآمنه يوم الفزع الأكبر».
 
فأجاب:
 
أما قوله: «من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا»، وقوله: «من وقَّرَ صاحب بدعة أعان على هَدْم الإسلام» ونحو ذلك، فهذا الكلام معروف عن الفُضَيْل بن عِيَاض.
 
والبدعة: ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات؛ كأقوال الخوارج والروافض والقدرية والجهمية، وكالذين يتعبدون بالرقص والغناء في المساجد، والذين يتعبدون بحلق اللحي وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة، والله أعلم.
 
===سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا===
سُئِلَ عمن سمع رجلا يقول: لو كنت فعلت كذا لم يَجْرِ عليك شيء من هذا. فقال له رجل آخر سمعه: هذه الكلمة قد نهى النبي {{صل}} عنها، وهي كلمة تؤدي قائلها إلى الكفر، فقال رجل آخر: قال النبي {{صل}} في قصة موسى مع الخِضْر: «يرحم الله موسي، وَدِدْنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما» واستدل الآخر بقوله {{صل}}: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف إلى أن قال: فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان» فهل هذا ناسخ لهذا أم لا؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله، جميع ما قاله الله ورسوله حق، ولو تستعمل على وجهين:
 
أحدهما: على وجه الحزن على الماضي والجزع من المقدور، فهذا هو الذي نهى عنه، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّي لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } <ref>[آل عمران: 156]</ref>، وهذا هو الذي نهى عنه النبي {{صل}}، حيث قال: «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» أي: تفتح عليك الحزن والجزع، وذلك يضر ولا ينفع، بل اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، كما قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } <ref>[التغابن: 11]</ref>، قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضي ويسلم.
 
والوجه الثاني: أن يقال: لو لبيان علم نافع، كقوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } <ref>[الأنبياء: 22]</ref>، ولبيان محبة الخير وإرادته، كقوله: «لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثل ما يعمل» ونحوه جائز.
 
وقول النبي {{صل}}: «وددت لو أن موسى صبر ليقص الله علينا من خبرهما»«4» هو من هذا الباب، كقوله: { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } <ref>[القلم: 9]</ref> فإن نبينا {{صل}} أحب أن يقص الله خبرهما، فذكرهما لبيان محبته للصبر المترتب عليه، فعرفه ما يكون لما في ذلك من المنفعة، ولم يكن في ذلك جزع ولا حزن ولا ترك لما يحب من الصبر على المقدور.
 
وقوله: «وددت لو أن موسى صبر»، قال النحاة: تقديره وددت أن موسى صبر. وكذلك قوله: { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } <ref>[القلم: 9]</ref>، تقديره ودوا أن تُدِهن، وقال بعضهم: بل هي لو شرطية وجوابها محذوف، والمعني على التقديرين معلوم، وهو محبة ذلك الفعل وإرادته، ومحبة الخير وإرادته محمود، والحزن والجزع وترك الصبر مذموم، والله أعلم.
 
===وسئل عن قصة إبليس===
وسئل عن قصة إبليس وإخباره النبي {{صل}} وهو في المسجد مع جماعة من أصحابه، وسؤال النبي {{صل}} له عن أمور كثيرة، والناس ينظرون إلى صورته عيانًا، ويسمعون كلامه جهرًا. فهل ذلك حديث صحيح، أم كذب مختلق؟ وهل جاء ذلك في شيء من الصحاح والمسانيد والسنن، أم لا؟ وهل يحل لأحد أن يروي ذلك؟ وماذا يجب على من يروي ذلك ويحدثه للناس ويزعم أنه صحيح شرعي؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله. بل هذا حديث مكذوب مختلق ليس هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة، لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد. ومن علم أنه كذب على النبي {{صل}} لم يحل له أن يرويه عنه، ومن قال: إنه صحيح فإنه يعلم بحاله، فإن أصر عوقب على ذلك، ولكن فيه كلام كثير قد جمع من أحاديث نبوية، فالذي كذبه واختلقه جمعه من أحاديث بعضها كذب وبعضها صدق؛ فلهذا يوجد فيه كلمات متعددة صحيحة؛ وإن كان أصل الحديث وهو مجيء إبليس عيانًا إلى النبي {{صل}} بحضرة أصحابه وسؤاله له كذبًا مختلقًا لم ينقله أحد من علماء المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
 
===بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار===
وقال رحمه الله تعالى:
 
إن كتاب تنقلات الأنوار المنسوب إلى أحمد بن عبد الله البكري من أعظم الكتب كذبًا وافتراء على الله ورسوله وعلى أصحاب رسول الله {{صل}}، وقد افتري فيه من الأمور من جنس ما افتراه المفترون في سيرة دلهمة والبطال، وسيرة عنترة، وحكايات الرشيد ووزيره جعفر البَرْمَكِي؛ وحكايات العيارين. مثل: الزئبق المصري، وأحمد الدنق، ونحو ذلك. لكن هؤلاء يفترون الكذب على من ليس من الأنبياء؛ وصاحب الكتاب الذي سماه تنقلات الأنوار يفتري الكذب على رسول الله {{صل}} وعلى أصحابه، ويكذب عليه كذبًا لا يعرف أن أحدًا كذب مثله في كتاب، وإن كان في بعض ما يذكره صدق قليل جدًا، فهو من جنس ما في سيرة عنترة والبطال، فإن عنترة كان شاعرًا فارسًا من فرسان الجاهلية، وله شعر معروف، وقصيدته إحدى السبع المعلقات، لكن افتروا عليه من الكذب ما لا يحصيه إلا الله، وكل من جاء زاد ما فيها من الأكاذيب.
 
وكذلك أبو محمد البطال كان من أمراء المسلمين المعروفين، وكان المسلمون قد غزوا القسطنطينية غزوتين:
 
الأولى: في خلافة معاوية، أمر فيها ابنه يزيد، وغزا معه أبو أيوب الأنصاري، الذي نزل النبي {{صل}} في داره لما قدم مهاجرًا إلى المدينة، ومات أبو أيوب في تلك الغزوة ودُفن إلى جانب القسطنطينية، وقد روي البخاري في صحيحه، عن [[ابن عمر]]، عن النبي {{صل}}، أنه قال: «أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له».
 
والغزوة الثانية: في خلافة عبد الملك بن مروان، أَمَّرَ ابنه مَسْلَمة أو خلف الوليد ابنه، وأرسل معه جيشًا عظيمًا وحاصروها وأقاموا عليها مدةً سنين، ثم صالحوهم على أن يدخلوها، وبنوا فيها مسجدًا، وذلك المسجد باقٍ إلى اليوم، فجاء الكذابون فزادوا في سيرة البطال وعبد الوهاب من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله، وذكر دلهمة والقاضي عَقِبه، وأشياء لا حقيقة لها.
 
والبكري صاحب تنقلات الأنوار سلك مسلك هؤلاء المفترين الكذابين، لكن كذبه على رسول الله {{صل}} وعلى أصحابه -أفضل الخلق بعد النبيين- أكثر، وفيه من أنواع الأكاذيب المفتريات، وغرائب الموضوعات ما يجِلُّ عن الوصف، مثل حديث السبع حصُون، وهضام بن جحاف، ومثل حديث الدهر، ورأس الغول، وكلندجة، وغير ذلك من كتبه، وغير ذلك من ذكر أماكن لا وجود لها، وغزوات لا حقيقة لها، وأسماء ومسميات لا يعرفها أحد من أهل العلم، ورواية أحاديث تخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وتخالف ما تواتر عن النبي {{صل}}.
 
وفيها من الأقوال والأفعال المضافة إلى النبي {{صل}} وأصحابه ما برأه الله منه، وهي من جنس أحاديث الزنادقة النصيرية وأشباههم، الذين يختلقون ما فيه غلو في على وغيره، وفيه من القدح في دين الإسلام والإفساد له ما يوجب إباحة دم من يقول ذلك، وإن كان جاهلًا استتيب، فإن تاب وإلا قتل.
 
وأقل ما يفعل بمن يروي مثل هذا أن يعاقب عقوبة تردعه عن مثل ذلك، وكذلك يستحق العقوبة من يكْرِيها لمن يقرأها ويصدق ما فيها، ومن ينسخها أيضا كذلك.
 
ويجب على أهل العلم إظهار ما يعلمون من كذب هذه وأمثالها، فكما يجب بيان كذب ما نقل عنه في الأحاديث كأحاديث البخاري يجب بيان كذب ما كذب عليه من الأحاديث الموضوعة التي يعلم أنها كذب، كما بين أهل العلم من حال من كان يكذب عليه من الرواة وبيان ما نقل عنه من الكذب الذي يعلمون أنه كذب، وكثير من الموضوعات إنما يعلم أنها موضوعة خَوَاصُّ أهل العلم بالأحاديث، وأما مثل ما في تنقلات الأنوار من الأحاديث فهو مما يعلمه من له أدني علم بأحوال الرسول ومغازيه أنه كذب. وعلى ولاة الأمور عقوبة من يروي هذه أو يعين على ذلك بنوع من أنواع الإعانة، ولولي الأمر أن يحرقها، فقد حرق عثمان رضي الله عنه كتبًا هذه أولى بالتحريق منها، والله أعلم.
 
===سئل عن أحاديث يرويها قصاص===
ما تقوله السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين في أناس قصاصين؟ ينقلون مغازي النبي {{صل}}، وقصص الأنبياء عليهم السلام تحت القلعة، وفي الجوامع والأسواق، ويقولون: إن النبي أتي إليه ملك يقال له: حبيب، فقال له: إن كنت رسول الله فإنا نريد أن القمر ليلة تسعٍ وعشرين يعود وينزل من طوقك ويطلع من أكمامك، فأراهم ذلك، فآمنوا به جميعهم وقال: كانوا الرب.
 
ويقولون: إنه أتي إليه ملك يقال له: بشير بن غَنَّام عمل عليه حيلة وأخذ منه تسع أنفس علقهم على النخل، فبعث النبي {{صل}} عليا فخلصهم، وكان من جملتهم خالد.
 
وأتي إليه ملك وهو في مكة يقال له: الملك الدحاق، وكانت له بنت اسمها حَمَاَنةَ فكسر النبي {{صل}} وزوج بنته لبلال، فقتله وهو في الصلاة، فحط النبي {{صل}} بردته فأحياه الله له.
 
وأنه بعث المقداد إلى ملك يقال له: الملك الخَطَّار، فالتقي في طريقه ملكة يقال لها: روضة، فتزوج بها، وراح إلى الملك الذي أرسل إليه فاقتتل هو وإياه فأسره، وجاء إلى النبي {{صل}}، وقاتل في غزاة تبوك بُولص بن عبد الصليب، وأنه قاتل في الأحزاب وكانوا ألوفًا، وانكسرت الأحزاب قُدَّام على سبع عشرة فرقة، وخلف كل واحدة رجل يضرب بالسيف ويقول: أنا على وليه ضرب عمرو بن العامري فقطع فخذه، فأخذ عمرو فخذه وضرب بها في المسلمين فقلع شجرة وقتل بها جماعة منهم، والملائكة ضجت عند ذلك وقالوا: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على.
 
وأن عليا قاتل الجن في البئر، ورماه بالمنجنيق إلى حصن الغراب، وجاءت رَمْيتَه ناقصة فمشي في الهواء، وأنه ضرب مَرْحَب إليهودي، وكان على رأسه جُرْن رُخَام فقسم له وللفرس نصفين، وأنه عبر العسكر على زِنْدِه إلى خيبر وهد الحصن، وأن ذا الفقار أنزل إليه من السماء، فإن الله سماه من السماء، وقال: على أسبق من العجل، وأنه بعث مع كل نبي سرًا وبعث مع النبي جهرًا، وأنه كان عصا موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان، وأنه شرب من سُرِّة النبي {{صل}} لما مات، فوزن علم الأولين والآخرين.
 
وأن ملك الموت جاء إلى النبي {{صل}} في زي أعرابي، فقال له النبي: قابض أم زائر؟ فقال له: ما زرت أحدًا من قبلك حتى أزورك، فأعطاه تفاحة، فشمها، فخرجت روحه فيها، وأن فاطمة بكت عليه حتى أقلقت أهل المدينة حتى أخرجوها إلى بيوت الأحزان، وينقلون قصص الأنبياء من جنس هذا السؤال، ويفسرونها بآيات لم تسمع من أهل العلم، وكل واحدة من هذه تحزبوا فيها ليلة.
 
وكان بعض العلماء قد منعهم من هذا النقل، وأنهم لا ينقلون إلا من كتب عليها سماعات المشايخ أهل العلم، فاعتمدوا على كتب فيها من جنس ما ذكر من تصنيف رجل يقال له: البكري، فما يجب عليهم في مثل هذه الأمور؟ لأنهم ينقلون ما يخالف ما ثبت عن الرسل -عليهم السلام- وينقلون في بعض الأشياء ما هو تنقيص بهم، وهل يثاب من أمر بمنعهم؟
 
وينقلون أيضا: أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلقت. فخلق الله من كل قطرة نبيا، وكانت القبضة النبي وبقي كوكب دري، وكان نورًا منقولًا من أصلاب الرجال إلى بطون النساء.
 
فأجاب شيخ الإسلام، قدوة الإيمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، فقال:
 
الحمد لله رب العالمين، هذه الأحاديث من الأحاديث المفتراة باتفاق أهل العلم، وإنما تؤخذ مثل هذه الأحاديث من مثل تنقلات الأنوار للبكري وأمثاله ممن روي الأكاذيب الكثيرة.
 
أما الأول، فإن القمر لم يدخل في طوق النبي {{صل}} ولا ثيابه ولا باشر النبي {{صل}}، ولكن انشق فرقتين: فرقة دون الجبل، وفرقة فوق الجبل.
 
وكذلك حبيب أبي مالك لا وجود له، والحديث المذكور عن بشير بن غنام -أيضا- كذب، وهذا الاسم غير معروف. وخالد بن الوليد لم يؤسر أصلًا، بل أسلم بعد الحديبية، وما زال منصورًا في حروبه.
 
وكذلك ما ذكر عن المسمى بالملك الدحاق كذب، وهذا الاسم لا وجود له فيمن حاز به النبي {{صل}} عاش، ولكن الذين عاشوا بعد الموت في هذه الأمة كان بينهم طائفة في زمن الصحابة والتابعين، وأما من أحيا الله له دابته بعد الموت من المؤمنين فهؤلاء بعضهم كان من المسلمين على عهد النبي {{صل}}، ومنهم من كان بعد موته {{صل}}.
 
وكذلك ما ذكر عن الملك المسمى بالخطار، هو من الأكاذيب ولا وجود له. وأما غزاة تبوك فلم يكن بها قتال، بل قدم النبي {{صل}} بالشام رومهم وعربهم، وغيرهم، ولم يجتمع المسلمون في غزاة مع النبي {{صل}} أكثر مما اجتمع معه عام تبوك، وهي آخر المغازي، وأقام بتبوك عشرين يومًا فلم تقدم عليه النصاري.
 
وكذلك الأحزاب، لم يكن فيها اقتتال بين الجيشين، بل كان الأحزاب محاصرين للمسلمين خارج الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة، وكان المسلمون داخل الخندق، وكان فيها مناوشة قليلة بين بعض المسلمين وبعض الكفار بمنزلة المبارزة أو ما يشبهها، وقتل على رضي الله عنه عمرو بن عبد ود العامري، ولم تنكسر الأحزاب بقتال، ولا قتل منهم ولا من المسلمين عدد له قدر، بل أرسل الله عليهم الريح ريح الصبا وأرسل الملائكة، كما قال تعالى في قصة الأحزاب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عليكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عليهمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } الآيات <ref>[الأحزاب: 9]</ref>، وما ذكر من كيفية قتل عمرو بن عبد ود العامري فهو كذب، وكذلك ضرب عمرو بن عبد ود الشجرة بفخذه وقلعها كذب، ولم يكن هناك شجر وإنما النخيل كان بعيدًا من العسكر.
 
وكذلك ما ذكر من مناداة المنادي بقوله: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتي إلا على» كذب مفتري، وكذلك من نقل أن ذلك كان يوم بدر أو غيره، وذو الفقار لم يكن سيفًا لعلى، ولكن كان سيفًا لأبي جهل، غنمه المسلمون منه يوم بدر، وكان سيفًا من السيوف المعدنية، ولم ينزل من السماء سيف، ولم يكن سيف يطول لا هو ولا غيره.
 
وكذلك ما ذكره من قتال الجن، وأن عليا أو غيره من الإنس قاتلهم في بئر ذات العلم أو غيره من الإنس، فهذا كله كذب، والجن لم تكن لتقاتل الصحابة أصلًا، ولكن الجن الكفار كانوا يقاتلون الجن المؤمنين، وأما على وأمثاله من الصحابة فهم أجلُّ قدرًا من أن يثبت الجن لقتالهم. وقد ثبت في الصحيح أن النبي {{صل}} قال لعمر بن الخطاب: «ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك».
 
وما ذكر من رمي علي في المنجنيق، ومحاصرة المسمى بحصن الغراب، كله كذب مفترى، ولم يرم المسلمون قط أحدًا في منجنيق إلى الكفار لا عليا ولا غيره، بل ولم ينصب المسلمون على عهد النبي {{صل}} منجنيقًا إلا على الطائف لما حاصرها النبي {{صل}} بعد وقعة حنين وهزيمة هوازن، حاصر الطائف ونصب المنجنيق وأقام عليها شهرًا، ولم تفتح حتى أسلم أهل الطائف بعد ذلك طوعًا، ولما كان المسلمون يقاتلون مسيلمة الكذاب وأصحابه ألجؤوهم إلى حديقتهم، فحمل الناس البراء بن مالك حتى ألقوه إليهم داخل السور، ففتح لهم الباب.
 
وأما قصة مرحب فقد روي في الصحيح: أن عليا رضي الله عنه قتل مرحبًا، وروي في الصحيح أن محمد بن مسلمة قتل مرحبًا وقال بعضهم: بل إحدى الروايتين غلط.
 
وأما كون البَيْضَة التي على رأسه كانت جُرْن رخام فكذب، وكذلك كون الضربة قسمت الفارس وفرسه ونزلت إلى الأرض، فهذا كله كذب، ولم ينقل مثل هذا أهل العلم بالمغازي والسير، وإنما ينقله الجهال والكذابون.
 
وأظهر من ذلك عبور العسكر على ساعد على، ومرور البغلة، ودعاء على عليها بقطع النسل؛ فإن هذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بأحوال الصحابة، ومن هو من أجهل الناس بأحوال الوجود؛ فإن البغلة مازالت عقيمًا، وعسكر خيبر لم يكن فيه بغلة أصلًا، ولم يكن مع المسلمين بغلة ولا في المدينة بغلة ولا حولها من أرض العرب بغلة، إلا البغلة التي أهداها المقوقس صاحب مصر للنبي {{صل}}، وكان أهداها له بعد خيبر؛ فإنه {{صل}} لما صالح أهل الحديبية رجع منصرفًا ففتح الله عليهم خيبر، ثم رجع وأرسل إلى الملوك رسله، فأرسل إلى كسري، وقيصر، والمقوقس، وملوك العرب بالشام واليمن واليمامة والمشرق، ولكن المعروف عند أهل العلم أن عليا قلع باب خيبر.
 
وما ذكر من نزول ذو الفقار من السماء كذب، وقد تقدم أنه كان سيفًا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر منه، فأما على فقد سماه أبوه بهذا الاسم قبل أن يبعث الله محمدا بالنبوة، وقبل أن يثبت لأحد حكم الإسلام؛ لا من الرجال، ولا من الصبيان.
 
وأما قول القائل: إنه كان عصي موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان، فهذا لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، وهو بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء، وهذا لا يقصد أحد مدح على به إلا لفرط في الجهل، فإن عليا -هو من دونه من الصحابة- أشرف قدرًا عندالله من هذه الجمادات، وإن كانت العصي آية لموسي، فليس كل ما كان معجزة لنبي أفضل من المؤمنين، بل المؤمنون أفضل من الطير الذي كان المسيح يصوره من الطين، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وأفضل من الجراد والقمل والضفادع والدم الذي كان آية لموسي، وأفضل من العصي والحية، وأفضل من ناقة صالح. فمن ظن أنه بهذا الكذب والجهل يمدح عليا كان جهله من المدح والثناء من جنس جهله بأن هذه الجمادات لم تكن آدميين قط.
 
وأما قول القائل: إنه شرب من سرة النبي {{صل}} فَدَرَي علم الأولين والآخرين، فهو - أيضا - من الأكاذيب، فإن العلم الذي تعلم على من النبي {{صل}} كان حاصلا قبل موته، وما رزقه الله من الفهم والسماع وزيادة العلم بعد موته فلم يكن سببه شرب ماء السرة، ولا شرب أحد على نبي ولا غير نبي فحصل له بذلك علم أصلا، ولا كان أحد من الصحابة؛ لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا على ولا غيرهم يعلم علم الأولين والآخرين.
 
وقد ثبت للصحابة رضي الله عنهم من الفضائل الثابتة في الصحاح ما أغني الله بها عن أكاذيب المفترين، مثل قوله الذي صح عنه من غير وجه: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» وقوله: «لا يبقين في المسجد خَوْخَةٌ إلا سدت إلا خَوْخَةَ أبي بكر» وقوله: «إن أَمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» وقوله: «أيها الناس إني أتيت إليكم، فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي» وقوله في مرضه الذي توفي فيه: «مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس» مرة بعد مرة، ومثل قوله لعائشة: «ادْعِي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا لأبي بكر لا يختلف الناس من بعدي» ثم قال: «يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر»؛ وأمثال ذلك.
 
ومثل قوله: «إنه كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون؛ فإن يكن في أمتي أحد فعمر»، وقوله لعمر: «ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»، وقوله: «رأيت كأني أتيت بإناء من لبن، فشربت، ثم ناولت فَضْلِي عمر، قالوا: فما أولته؟ قال: العلم»، وقوله: «رأيت كأن الناس يعرضون على وعليهم قُمُصٌ، منها ما بلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا: فما أولته؟ قال: الدين»، وقوله: «رأيت كأني على قَلِيب أنتزع منها، فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذَنُوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يَفْري فَرِيِّهُ، حتى صدر الناس بِعَطَنٍ».
 
وأمثال ذلك، مثل قوله عن عثمان: «ألا أستحي ممن تستحيي منه ملائكة السماء»، وقوله: «من يشتري بئر رُومَة وله الجنة» فاشتراها عثمان، وقوله في عثمان لما جهز جيش العسرة: «ماضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم»، وقوله يوم بيعة الرضوان لما بايع المسلمين تحت الشجرة: «هذه يدي عن يمين عثمان»، وكان قد بعثه رسولا إلى أهل مكة، وقال ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول الله {{صل}}: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان. وأمثال ذلك.
 
ومثل قوله عام خيبر: «لأعطِيَّن الراية غدًا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه»، وكان علي غائبًا بالمدينة؛ لأنه كان أَرْمَد، فلحق بالنبي {{صل}}، فلما أصبح، قدم على فأعطاه الراية حتى فتح الله على يديه، ولما خرج في غزوة تبوك بجميع الناس ولم يأذن في التخلف إلا لأهل العذر واستخلف عليًا على المدينة، فطعن فيه بعض المنافقين، فلحقه على وهو يبكي، وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي؟ غير أنه لا نبي بعدي»، وأَدَارَ كساءه على على وفاطمة وحسن وحسين فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا»، ولما أراد أن يُبَاهِلَ أهل نجران أخذ عليا وفاطمة وحسنًا وحسينًا وخرج ليباهل بهم، ولما تنازع على وجعفر وزيد في حضانة ابنة حمزة قضي بها لخالتها وكانت تحت جعفر، وقال لجعفر: «أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي»، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».
 
وكذلك قال: «إن الأشعريين إذا أَرْمَلُوا في السفر أو قَلَّت نفقة عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بالسوية، هم مني وأنا منهم».
 
وقال: «إن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
 
وقال: «إن لكل نبي حواريين وحواريي الزبير».
 
فهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح فيها غنية عن الكذب.
 
وكذلك ما ذكر من إتيان ملك الموت في صورة أعرابي، وإعطاؤه إياه تفاحة فشمها، هو أيضا من الكذب، بل الحديث الطويل الذي روي في قصة موت النبي {{صل}}، وأنه طرق الباب فخرج إليه واحد بعد واحد، وأنهم لما عرفوا أنه ملك الموت خضعوا له، هو أيضا من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث. مع أنه قد رواه الطبراني من حديث عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه من حديث وهب بن منبه، عن [[ابن عباس]]، وعبد المنعم هذا معروف بالأكاذيب.
 
وكذلك ما ذكر من بكاء فاطمة على النبي {{صل}}، حتى أقلقت أهل المدينة وأخرجوها إلى بيوت الأحزان، هذا أيضا من الأكاذيب المفتراة، وما يروي مثل هذا إلا جاهل، أو من قصده أن يسب فاطمة والصحابة رضي الله عنهم ينقل مثل هذا الفعل الذي نزه الله فاطمة والصحابة عنه.
 
وكذلك ما ذكر من «أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلقت، فخلق من كل قطرة نبيا، وأن القبضة كانت هي النبي {{صل}}، وأنه بقي كوكب دري» فهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة بحديثه.
 
وكذلك ما يشبه هذا، مثل أحاديث يذكرها شِيرَوُيْهِ الدَّيْلَمِي في كتابه الفردوس ويذكرها ابن حَمَوَيْه في حقائقه، مثل: كتاب المحبوب ونحو ذلك، مثل ما يذكرون أن النبي {{صل}} كان كوكبًا، أو أن العالم كله خلق منه، أو أنه كان موجودًا قبل أن يخلق أبواه، أو أنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل! وأمثال هذه الأمور، فكل ذلك كذب مفتري باتفاق أهل العلم بسيرته.
 
والأنبياء كلهم لم يُخْلَقُوا من النبي {{صل}}، بل خلق كل واحد من أبويه ونفخ الله فيه الروح، ولا كان كلما يُعْلم الله لرسله وأنبيائه بوحيه يأخذونه بواسطة سوي جبريل، بل تارة يكلمهم الله وحيا يوحيه إليهم، وتارة يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى بن عمران، وتارة يبعث ملكا فيوحي بإذنه ما يشاء.
 
ومن الأنبياء من يكون على شريعة غيره، كما كان أنبياء بني إسرائيل على شريعة التوراة.
 
وأما كونهم كلهم يأخذون من واحد فهذا يقوله ونحوه أهل الإلحاد من أهل الوحدة والاتحاد؛ كابن عربي صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأمثالهما؛ فإنه لما ذكر مذهبه الذي مضمونه أن الوجود واحد، وأن الوجود الخالق هو الوجود المخلوق وإن تعددت الأعيان الثابتة في العدم. قال: وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، وأما الولاية فلا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرونه إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
 
وساق الكلام إلى أن ذكر أن خاتم الأنبياء موضع لبنة فضة، وأن خاتم الأولياء موضع لبنتين: لبنة ذهب، ولبنة فضة، فهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره وما يتبعه من الأحكام؛ لأنه يري الأمر على ما هو عليه فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن؛ فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسل.
 
فهذا الكلام ونحوه فيه كثير من الضلال، مثل دعواه أن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة الله من خاتم الأنبياء، فإن هذا كذب.
 
ومن قال: إن إبراهيم الخليل، وموسى وعيسي، وغيرهم إنما استفادوا معرفة الله من النبي {{صل}} فقد كذب، بل الله أوحي إليهم وعلمهم، والنبي {{صل}} لم يكن موجودًا حين خُلِقُوا، والمتقدم لا يستفيد من المتأخر.
 
===قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد===
وقوله {{صل}} «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» وفي لفظ «كتبت نبيًا»، كقوله {{صل}}: «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِلٌ في طِينَتِهِ» فإن الله بعد خَلْقِ جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه كتب وأظهر ما سيكون من ذريته، فكتب نبوة محمد وأظهرها، كما ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}} قال: «يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملكا، فيُؤْمَرُ بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقي أوسعيد، ثم ينفخ فيه الروح»، فقد أخبر {{صل}} أنه بعد أن يخلق بدن الجنين في بطن أمه - وقبل نفخ الروح فيه - يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد فهكذا كتب خبر سيد ولد آدم وآدم منجدل في طينته قبل أن ينفخ الروح فيه.
 
وأما قول بعضهم: «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين» فهذا نقل باطل نقلا وعقلا؛ فإن آدم ليس بين الماء والطين، بل الطين ماء وتراب، ولكن كان بين الروح والجسد. فهذا ونحوه فيه علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابته إياها، وإخباره بها، وذلك غير وجود أعيانها؛ لأنها لا توجد أعيانها حتى تخلق، ومن لم يفرق بين ثبوت الشيء في العلم والكلام والكتاب، وبين حقيقته في الخارج، وكذلك بين الوجود العلمي والعيني عَظُمَ جهله وضلاله.
 
وأهل العلم قد أعظموا النكبة على من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج، وإن كان لهؤلاء شبهة عقلية لكونهم ظنوا أن تميزه في العلم والإرادة يقتضي تمييزه في الخارج، فإنهم أخطؤوا في ذلك، والتحقيق الفرق بين الثبوت العلمي والعيني، وأما وجود الأشياء قبل خلقها فهذا أعظم في الجهل والضلال.
 
وأما دعواه أن الأولياء كلهم حتى الأنبياء يستفيدون من خاتم الأولياء فهذا مخالف للعقل والشرع؛ فإن الأنبياء أفضل من الأولياء، وخيار الأولياء أَتْبَعُهُم للأنبياء، كما كان أبو بكر أفضل مَنْ طلعت عليه الشمس بعد النبيين والمرسلين.
 
وكذلك دعواه أن خاتم الأولياء يأخذ العلم الظاهر من حيث يأخذه النبي، ويأخذ العلم الباطن من المعدن الذي يأخذ منه الملك ما يوحيه إلى النبي؛ فهذا من أعظم الكفر والضلال، وهو مبني على قول المتفلسفة الذين يجعلون النبوة فَيْضًا يفيض على عقل النبي، ويقولون: إن الملك هو ما يتمثل في نفس النبي من الأشكال النورانية، فيقولون: إن النبي يأخذ عن تلك الصور الخيالية وهي الملك عندهم، فمن أخذ المعاني العقلية عن العقل المجرد كان أعظم وأكمل ممن يأخذ عن الأمثلة الخيالية، فهؤلاء اعتقدوا أقوال هؤلاء الفلاسفة الملحدين وسلكوا مَسْلك الرياضة، فأخذوا يتكلمون بتلك الأمور الإلحادية الفلسفية، ويخرجونها في قالب المكاشفات والمخاطبات.
 
وما ذكروه من خاتم الأولياء لا حقيقة له، وإن كان قد ذكره الحكيم الترمذي في كتاب خاتم الأولياء فقد غلط في ذلك الكتاب غلطًا معروفا عند أهل المعرفة والعلم والإيمان. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
 
فهذه الأحاديث، وأمثالها مما هو كذب وفِرْية عند أهل العلم، لاسيما إذا كانت معلومة البطلان بالعقل، بل متخلية في العقل، ليس لأحد أن يرويها ويحدث بها إلا على وجه البيان لكونها كذبا، كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «من رَوَى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
 
وعلى ولاة الأمور أن يمنعوا من التحدث بها في كل مكان، ومن أصر على ذلك فإنه يعاقب العقوبة البليغة التي تزجره وأمثاله عن الكذب على النبي {{صل}} وأصحابه وأهل بيته، وغيرهم من أهل العلم والدين، والله أعلم.
 
===معنى حديث على كل مسلم صدقة===
وَقَالَ رحَمهُ الله:
 
في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي {{صل}} قال: «على كل مسلم صدقة» قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: «يَعْتَمِلُ بيديه فينفع نفسه ويتصدق»، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف»، قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يأمر بالمعروف أو الخير»، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: «يمسك عن الشر فإنها صدقة».
 
وفي الصحيحين عن أبي ذر قال: قلت: يارسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله، والجهاد في سبيله» قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: «أَنْفَسُها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا» قال: قلت: فإن لم أفعل، قال: «تعين صانعًا، أو تصنع لأخْرَق» قال: قلت: يارسول الله، أرأيت إن ضَعُفْتُ عن بعض العمل؟ قال: «تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك».
 
ففي هذا الحديث أنه أوجب الصدقة على كل مسلم، وجعلها خمس مراتب على البدل: الأولي الصدقة بماله، فإن لم يجد اكتسب المال فنفع وتصدق. وفيه دليل وجوب الكسب، فإن لم يستطع فيعين المحتاج ببدنه، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يفعل فيكف عن الشر. فالأوليان تقع بمال إما بموجود أو بمكسوب، والأخريان تقع بِبَدَنٍ إما بيد وإما بلسان.
 
وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر، عن النبي {{صل}} قال: «يصبح على كل سُلامَي من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأَمْرٌ بالمعروف صدقة، ونَهْي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحي»، ففي هذا الحديث أنه جعل الصدقة الكلمات الأربع. والأمر والنهي، وركعتا الضحي كافيتان.
 
وفيه عنه، أن ناسًا من أصحاب رسول الله {{صل}} قالوا للنبي {{صل}}: يارسول الله ذهب أهل الدُّثُور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: «أَوَليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة». قالوا: يارسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».
 
قلت: يشبه والله أعلم أن يكون قوله: صدقة أي: تقوم مقام الصدقة التي للأغنياء، فيكون الحديث الثاني مفسرا للأول، بخلاف حديث أبي موسى فإنه موجب للصدقة، أو تكون صدقة نفسه على نفسه، كما في حديث أبي ذر المتقدم تكف شرك عن الناس.
 
===وسئل عن أحاديث يرويها القصاص===
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ الله عن أحاديث يرويها القصاص، وغيرهم بالطرق وغيرها عن النبي {{صل}}.
 
فأجاب عنها:
 
منها ما يروون أنه قال: «أَدَّبني ربي فأحسن تأديبي».
 
فأجاب: الحمد لله، المعنى صحيح. لكن لا يعرف له إسناد ثابت.
 
ومما يروونه عنه {{صل}}، أنه قال: «لو كان المؤمن في ذِرْوَة جبل قَيَّض الله له من يؤذيه، أو شيطانًا يؤذيه».
 
فأجاب: الحمد لله، ليس هذا معروفا من كلام النبي {{صل}}.
 
ومما يروونه عنه {{صل}}، أنه قال: «لو كانت الدنيا دما عَبِيطًا كان قوت المؤمن منها حلالا.
 
فأجاب: الحمد لله، ليس هذا من كلام النبي {{صل}}، ولا يعرف عنه بإسناد، ولكن المؤمن لابد أن يتيح الله له من الرزق ما يغنيه، ويمتنع في الشرع أن يحرم على المؤمن مالا بد منه، فإن الله لم يوجب على المؤمنين مالا يستطيعونه، ولا حرم عليهم ما يضطرون إليه من غير معصية منهم. قاله وكتبه أحمد بن تيمية.
 
ومما يروونه عنه {{صل}}، عن الله: «ما وَسِعَنِي سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا مذكور في الإسرائيليات، ليس له إسناد معروف عن النبي {{صل}}، ومعني: «وسعني قلبه» الإيمان بي ومحبتي ومعرفتي، ولا من قال: إن ذات الله تحل في قلوب الناس، فهذا من النصاري، خَصُّوا ذلك بالمسيح وحده.
 
ومما يروونه عنه أيضا: «القلب بيت الرب».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا كلام من جنس الأول، فإن القلب بيت الإيمان بالله ومعرفته ومحبته، وليس هذا من كلام النبي {{صل}}.
 
ومما يروونه عنه أيضا: «كنت كنزًا لا أعرف، فأحببت أن أعرف، فخلقت خلقًا فعرفتهم بي فعرفوني».
 
فأجاب: ليس هذا من كلام الله للنبي {{صل}}، ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف.
 
ومما يروونه عنه {{صل}}: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله {{صل}} إذا تكلم مع أبي بكر كنت كالزنجي بينهما الذي لا يفهم.
 
فأجاب: الحمد لله، هذا كذب ظاهر لم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث، ولم يروه إلا جاهل أو ملحد.
 
ومما يروونه عن النبي {{صل}}، أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلى بابها».
 
فأجاب: هذا حديث ضعيف، بل موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، لكن قد رواه [[الترمذي]] وغيره، ومع هذا فهو كذب.
 
ومما يروون عن النبي {{صل}}: «أن الله يعتذر للفقراء يوم القيامة ويقول: وعزتي وجلالي ما زَوَيْتُ الدنيا عنكم لهوانكم على، لكن أردت أن أرفع قدركم في هذا اليوم، انطلقوا إلى الموقف فمن أحسن إليكم بِكِسْرة، أو سقاكم شربة من الماء، أو كساكم خرقة انطلقوا به إلى الجنة».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا الشأن كذب، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، وهو باطل مخالف للكتاب والسنة بالإجماع.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: أنه لما قدم المدينة في الهجرة خرجت بنات النجار بالدفوف وهن يقلن:
 
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
 
إلى آخر الشعر، قال رسول الله {{صل}}: «هزوا كرابيلكم بارك الله فيكم».
 
فأجاب: أما ضرب النسوة الدف في الزواج فقد كان معروفا على عهد رسول الله {{صل}}، وأما قوله: «هزوا كرابيلكم بارك الله فيكم» فهذا لا يعرف عنه {{صل}}.
 
ومما يروون عنه، أنه قال: «لو وُزِنَ إيمان أبي بكر بإيمان الناس لرجح إيمان أبي بكر على ذلك».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا جاء معناه في حديث معروف في السنن أن أبا بكر رضي الله عنه وزن هذه الأمة فرجح.
 
ومما يروون عنه {{صل}}، أنه قال: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلى فأسكني في أحب البقاع إليك».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا باطل، بل ثبت في الترمذي، وغيره أنه قال لمكة: «والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله»، وقال: «إنك لأحب البلاد إلى»، فأخبر أنها أحب البلاد إلى الله وإليه.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «من زارني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد دخل الجنة».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا حديث كذب موضوع، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «فقراؤكم».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا اللفظ ليس مأثورًا، لكن معناه صحيح، وأن الفقراء موضع الإحسان إليهم، فبهم تحصل الحسنات.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «البركة مع أكابركم».
 
فأجاب: الحمد لله، قد ثبت في الصحيح من حديث جُبَيْر، أنه قال: «كَبِّرْ، كَبِّرْ» أي: يتكلم الأكبر. وثبت من حديث الإمامة، أنه قال: «فإن استووا أي في القراءة والسنة والهجرة فليؤمهم أكبرهم سنًا».
 
ومما يروون أيضا: «الشيخ في قومه كالنبي في أمته».
 
فأجاب: الحمد لله، ليس هذا من كلام النبي {{صل}} وإنما يقوله بعض الناس.
 
ومما يروون أيضا: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا مأثور عن بعض السلف، وهو كلام صحيح.
 
ومما رووا عن على رضي الله عنه أن أعرابيًا صلى ونَقَرَ صلاته، فقال له علي: لا تنقر صلاتك، فقال له الأعرابي: لو نقرها أبوك ما دخل النار.
 
فأجاب: الحمد لله، هذا كذب، ورووه عن عمر، وهو كذب.
 
ومما يروون عن عمر رضي الله عنه، أنه قتل أباه.
 
فأجاب: هذا كذب؛ فإن أبا عمر رضي الله عنه مات في الجاهلية قبل أن يبعث الرسول {{صل}}.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين، وكنت نبيًا وآدم لا ماء ولا طين».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا اللفظ كذب باطل، ولكن اللفظ المأثور الذي رواه الترمذي وغيره أنه قيل: يارسول الله، متي كنت نبيًا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد»، وفي السنن عن العِرْباض بن سارية، أنه قال: «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنْجَدِل في طينته».
 
ومما يروون أيضا: «العازب فراشه من النار، ومسكين رجل بلا امرأة، ومسكينة امرأة بلا رجل».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا ليس من كلام النبي {{صل}}، ولم أجده مرويا، ولم يثبت.
 
ومما يروون أن إبراهيم عليه السلام لما بني البيت صلى في كل ركن ألف ركعة، فأوحي الله تعالى إليه: يا إبراهيم، أفضل من هذا سد جوعة، أو ستر عورة.
 
فأجاب: الحمد لله، هذا كذب ظاهر، ليس هو في شيء من كتب المسلمين.
 
ومما يروون عنه {{صل}}، أنه قال: «إذا ذُكِر إبراهيم وذكرت أنا فصلوا عليه، ثم صلوا على، وإذا ذكرت أنا والأنبياء غيره فصلوا على ثم صلوا عليهم».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا لا يعرف من كتب أهل العلم ولا عن أحد من العلماء المعروفين بالحديث.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «من أكل مع مغفور له غُفِرَ له».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا ليس له إسناد عن أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب المسلمين، وإنما يروونه عن سالم، وليس معناه صحيحًا على الإطلاق، فقد يأكل مع المسلمين الكفار والمنافقون.
 
ومما يروون أيضا: «من أشبع جوعة، أو ستر عورة ضمنت له الجنة».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا اللفظ لا يعرف عن النبي {{صل}}.
 
ومما يروون: «لا تكرهوا الفتن، فإن فيها حصاد المنافقين».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا ليس معروفًا عن النبي {{صل}}. ومما يروون: «سَبُّ أصحابي ذنب لا يغفر».
 
فأجاب رحمه الله: هذا كذب على النبي {{صل}}، وقد قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } <ref>[النساء: 48]</ref>.
 
ومما يروون: «من علم أخاه آية من كتاب الله فقد ملك رِقَّهُ».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا كذب ليس في شيء من كتب أهل العلم.
 
ومما يروون عنه: «آية من القرآن خير من محمد وآله».
 
فأجاب: الحمد لله، القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، فلا يشبه بالمخلوقين، واللفظ المذكور غير مأثور.
 
ومما يروون عن النبي {{صل}}: «أنا من العرب، وليس العرب مني».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا ليس من كلام النبي {{صل}}.
 
ومما يروون عنه أيضا: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين».
 
فأجاب: هذا يروي، لكنه ضعيف لا يثبت، ومعناه أحيني خاشعا متواضعًا، لكن اللفظ لم يثبت.
 
ومما يروون عنه {{صل}}، أنه قال: «إذا سمعتم عني حديثا فاعرضوه على الكتاب والسنة، فإن وافق فَارْوُوه، وإن لم يوافق فلا».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا مروي ولكنه ضعيف عن غير واحد من الأئمة؛ كالشافعي، وغيره.
 
ومما يروون عنه {{صل}}، أنه قال: «ياعلي، اتخذ لك نعلين من حديد وافْنِهِمَا في طلب العلم ولو بالصين».
 
فأجاب: الحمد لله، ليس هذا ولا هذا من كلام النبي {{صل}}.
 
ومما يروون عنه {{صل}}، أنه قال: «يقول الله تعالى: لاقُوني بِنَيَّاِتكم ولا تلاقوني بأعمالكم».
 
فأجاب: الحمد لله، ليس هذا اللفظ معروفا عن النبي {{صل}}.
 
ومما يروون عن النبي {{صل}}: «من قدم إبريقًا لمتوضئ فكأنما قدم جَوَادًا مسرجا مَلْجُوما يقاتل عليه في سبيل الله».
 
فأجاب: هذا ليس من كلام النبي {{صل}}، ولا يعرف في شيء من كتب المسلمين المعروفة.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «يأتي على أمتي زمان ما يسلم بدينه إلا من يفر من شاهق إلى شاهق».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا اللفظ ليس معروفا عن النبي {{صل}}.
 
ومما يروون عنه {{صل}}، أنه قال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا كلام بعض الناس، وليس هو من كلام النبي {{صل}}.
 
ومما يروون عنه {{صل}} أنه قال: «ستروا من أصحابي هدنة: القاتل والمقتول في الجنة».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا اللفظ لا يعرف عن النبي {{صل}}.
 
ومما يروون عنه: «إذا وصلتم إلى ما شَجَرَ بين أصحابي فأمسكوا، وإذا وصلتم إلى القضاء والقدر فأمسكوا».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا مأثور بإسناد منقطع، وماله إسناد ثابت.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «إذا كثرت الفتن فعليكم بأطراف اليمن».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا اللفظ لا يعرف.
 
ومما يروون عنه {{صل}}، أنه قال: «من بات في حراسة كلب بات في غضب الرب».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا ليس من كلام النبي {{صل}}.
 
ومما يروون عنه {{صل}}: «أنه أمر النساء بالغُنْجِ لأزواجهن عند الجماع».
 
فأجاب: ليس هذا عنه {{صل}}.
 
ومما يروون عنه {{صل}} أنه قال: «من كسر قلبًا فعليه جَبْرُه».
 
فأجاب: الحمد لله، هذا أدب من الآداب، وهذا اللفظ ليس معروفا عن النبي {{صل}}، وكثير من الكلام يكون صحيحًا، لكن يمكن أن يقال عن الرسول {{صل}} مالم يقدح، إذ هذا اللفظ ليس بمطلق في كسر قلوب الكفار والمنافقين؛ إذ به إقامة الملة.
 
والله أعلم.
 
{{مجموع الفتاوى/18}}
 
[[تصنيف:مجموع الفتاوى|18]]
{{هامش}}