الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مجموع الفتاوى/المجلد التاسع»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
 
سطر 1:
{{رأسية
مجموع فتاوى ابن تيمية – 09 – المجلد التاسع
| عنوان = [[مجموع فتاوى ابن تيمية]]
| مؤلف = ابن تيمية
| باب = المجلد التاسع - المنطق
| سابق = → [[../المجلد الثامن|المجلد الثامن]]
| لاحق = [[../المجلد العاشر|المجلد العاشر]] ←
| ملاحظات =
}}
 
 
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/سئل شيخ الإسلام عن المنطق|سئل شيخ الإسلام عن المنطق]]
==كتاب المنطق==
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في وصف جنس كلام المناطقة|فصل في وصف جنس كلام المناطقة]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/مسألة في القياس|مسألة في القياس]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني|قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين|الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/المقام الأول|المقام الأول]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/المقام الثاني|المقام الثاني]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس|فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/تنازع العلماء في مسمى القياس|تنازع العلماء في مسمى القياس]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/العلوم ثلاثة|العلوم ثلاثة]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات|تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/الفرق بين الآيات وبين القياس|الفرق بين الآيات وبين القياس]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/قياس الأولى|قياس الأولى]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء|فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين|فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية|قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا|ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه|التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/قياس الشبه|قياس الشبه]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/الزعم بأن المنطق آلة قانونية|الزعم بأن المنطق آلة قانونية]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن|فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل|قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل|تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني|قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل|ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات|فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/علم الفرائض نوعان|علم الفرائض نوعان]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع|لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر|ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق|اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات|اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف|من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في ضبط كليات المنطق|فصل في ضبط كليات المنطق]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس|فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد|فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين|فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/سئل عن كتب المنطق|سئل عن كتب المنطق]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/سئل شيخ الإسلام عن العقل|سئل شيخ الإسلام عن العقل]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا|تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل اسم العقل صفة|فصل اسم العقل صفة]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل عن الروح المدبرة للبدن|فصل عن الروح المدبرة للبدن]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل عن معاني الروح والنفس|فصل عن معاني الروح والنفس]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/النفوس ثلاثة أنواع|النفوس ثلاثة أنواع]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل كيفية تعلم النفس|فصل كيفية تعلم النفس]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل عن الجوهر|فصل عن الجوهر]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل|سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل]]
*[[مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في حكمة خلق القلب|فصل في حكمة خلق القلب]]
 
{{مجموع الفتاوى/9}}
بسم الله الرحمن الرحيم
 
[[تصنيف:مجموع الفتاوى|9]]
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
 
==سئل شيخ الإسلام عن المنطق==
 
سُئل شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية قدس الله روحه:
 
ما تقولون في المنطق، وهل من قال: إنه فرض كفاية، مصيب أم مخطئ؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله، أما المنطق: فمن قال إنه فرض كفاية، وأن من ليس له به خبرة فليس له ثقة بشيء من علومه، فهذا القول في غاية الفساد من وجوه كثيرة التعداد، مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوى باطلة كثيرة، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها.
 
بل الواقع قديما وحديثا: أنك لا تجد من يلزم نفسه أن ينظر في علومه به، ويناظر به إلا وهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علمه وبيانه.
 
فأحسن ما يحمل عليه كلام المتكلم في هذا، أن يكون قد كان هو وأمثاله في غاية الجهالة والضلالة، وقد فقدوا أسباب الهدى كلها، فلم يجدوا ما يردهم عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من الأمور التي هي صحيحة، فإنه بسبب بعض ذلك رجع كثير من هؤلاء عن بعض باطلهم، وإن لم يحصل لهم حق ينفعهم، وإن وقعوا في باطل آخر. ومع هذا، فلا يصح نسبة وجوبه إلى شريعة الإسلام بوجه من الوجوه؛ إذ من هذه حاله فإنما أتي من نفسه بترك ما أمر الله به من الحق، حتى احتاج إلى الباطل.
 
ومن المعلوم أن القول بوجوبه قول غلاته وجهال أصحابه. ونفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم، بل يعرضون عنها. إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما لفسادها، وإما لعدم تميزها وما فيها من الإجمال والاشتباه. فإن فيه مواضع كثيرة هي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
 
ولهذا مازال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله، حتى إن من الحكايات المشهورة التى بلغتنا: أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا، مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرًا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما، وأمثلهم اعتقادًا.
 
ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة - سواء كانت حقا أو باطلا، إيمانًا أو كفرًا لا تعلم إلا بذكاء وفطنة، فكذلك أهله قد يستجهلون من لم يشركهم في علمهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان فيه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ّ. وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } <ref>[المطففين: 29-36]</ref>.
 
فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطريق القياسية فليس يعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم من هذه الطريق القياسية ما يستفيد به الإيمان الواجب، فيكون كافرا زنديقًا منافقًا جاهلًا ضالًا مضلا، ظلوما كفورا، ويكون من أكابر أعداء الرسل، الذين قال الله فيهم: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا. وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } <ref>[الفرقان: 31-33]</ref>.
 
وربما حصل لبعضهم إيمان، إما من هذه الطريق أو من غيرها. ويحصل له أيضا منها نفاق، فيكون فيه إيمان ونفاق، ويكون في حال مؤمنًا وفي حال منافقا، ويكون مرتدًا، إما عن أصل الدين، أو عن بعض شرائعه، إما ردة نفاق، وإما ردة كفر. وهذا كثير غالب، لاسيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق.
 
فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقام.
 
ولهذا لما تفطن كثير منهم لما في هذا النفي من الجهل والضلال، صاروا يقولون: النفوس القدسية كنفوس الأنبياء والأولياء تفيض عليها المعارف بدون الطريق القياسية.
 
وهم متفقون جميعهم على أن من النفوس من تستغني عن وزن علومها بالموازين الصناعية في المنطق، لكن قد يقولون: هو حكيم بالطبع.
 
والقياس ينعقد في نفسه بدون تعلم هذه الصناعة، كما ينطق العربي بالعربية بدون النحو، وكما يقرض الشاعر الشعر بدون معرفة العروض. لكن استغناء بعض الناس عن هذه الموازين لا يوجب استغناء الآخرين، فاستغناء كثير من النفوس عن هذه الصناعة لا ينازع فيه أحد منهم.
 
والكلام هنا: هل تستغني النفوس في علومها بالكلية عن نفس القياس المذكور، ومواده المعينة؟ فالاستغناء عن جنس هذا القياس شيء، وعن الصناعة القانونية التي يوزن بها القياس شيء آخر، فإنهم يزعمون أنه آلة قانونية تمنع مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وفساد هذا مبسوط مذكور في موضع غير هذا.
 
ونحن بعد أن تبينا عدم فائدته، وإن كان قد يتضمن من العلم ما يحصل بدونه، ثم تبينا أنا لو قدرنا أنه قد يفيد بعض الناس من العلم ما يفيده هو، فلا يجوز أن يقال: ليس إلى ذلك العلم لذلك الشخص، ولسائر بني آدم طريق إلا بمثل القياس المنطقي؛ فإن هذا قول بلا علم، وهو كذب محقق؛ ولهذا مازال متكلمو المسلمين وإن كان فيهم نوع من البدعة لهم من الرد عليه وعلى أهله وبيان الاستغناء عنه، وحصول الضرر والجهل به والكفر، ما ليس هذا موضعه؛ دع غيرهم من طوائف المسلمين وعلمائهم وأئمتهم، كما ذكره القاضي أبو بكر ابن الباقلاني في كتاب الدقائق.
 
فأما الشعري وهو ما يفيد مجرد التخييل وتحريك النفس، وذلك يظهر بأنهم جعلوا الأقيسة خمسة: البرهاني، والخطابي، والجدلي، والشعري، والمغلطي السوفسطائي، وهو ما يشبه الحق وهو باطل، وهو الحكمة المموهة فلا غرض لنا فيه هنا، ولكن غرضنا تلك الثلاثة.
 
قالوا: الجدلي ما سلم المخاطب مقدماته. والخطابي: ما كانت مقدماته مشهورة بين الناس، والبرهاني: ما كانت مقدماته معلومة.
 
وكثير من المقدمات تكون مع كونها خطابية أو جدلية يقينية برهانية، بل وكذلك مع كونها شعرية، ولكن هي من جهة التيقن بها تسمى: برهانية، ومن جهة شهرتها عند عموم الناس وقبولهم لها تسمى: خطابية، ومن جهة تسليم الشخص المعين لها تسمي: جدلية.
 
وهذا كلام أولئك المبتدعة من الصابئة الذين لم يذكروا النبوات، ولا تعرضوا لها بنفي ولا إثبات. وعدم التصديق للرسل واتباعهم كفر وضلال، وإن لم يعتقد تكذيبهم فالكفر والضلال أعم من التكذيب.
 
وأما قول بعض المتأخرين في المشهورات: هي المقبولات لكون صاحبها مؤيدا بأمر يوجب قبول قوله ونحو ذلك فهذه من الزيادات التي ألزمتهم إياها الحجة، ورأوا وجوب قبولها على طريقة الأولين؛ ولهذا كان غالب صابئة المتأخرين الذين هم الفلاسفة ممتزجين بالحنيفية، كما أن غالب من دخل في الفلسفة من الحنفاء مزج الحنيفية بالصبء، ولبس الحق بالباطل. أعني بالصبء: المبتدع الذي ليس فيه إيمان بالنبوات، كصبء صاحب المنطق وأتباعه.
 
وأما الصبء القديم، فذاك أصحابه منهم المؤمنون بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما أن التهود والتنصر منه ما أهله مبتدعون ضلال قبل إرسال محمد {{صل}}، ومنه ما كان أهله متبعين للحق، وهم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
 
ومن قال من العلماء المصنفين في المنطق: إن القياس الخطابي هو ما يفيد الظن، كما أن البرهاني ما يفيد العلم، فلم يعرف مقصود القوم، ولا قال حقا. فإن كل واحد من الخطابي والجدلي قد يفيد الظن، كما أن البرهاني قد تكون مقدماته مشهورة ومسلمة.
 
فالتقسيم لمواد القياس وقع باعتبار الجهات التي يقبل منها، فتارة يقبل القول؛ لأنه معلوم؛ إذ العلم يوجب القبول. وأما كونه لا يفيد العلم فلا يوجب قبوله إلا لسبب؛ فإن كان لشهرته، فهو خطابي، ولو لم يفد علمًا ولا ظنًا. وهو أيضا خطابي إذا كانت قضيته مشهورة، وإن أفاد علما أو ظنا. والقول في الجدلي كذلك.
 
ثم إنهم قد يمثلون المشهورات المقبولات التي ليست علمية بقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، والعدل حسن، والظلم قبيح، ونحو ذلك من الأحكام العملية العقلية التي يثبتها من يقول بالتحسين والتقبيح، ويزعمون أنا إذا رجعنا إلى محض العقل لم نجد فيه حكما بذلك. وقد يمثلونها بأن الموجود لابد أن يكون مباينا للموجود الآخر أو محايثا له، أو أن الموجود لابد أن يكون بجهة من الجهات، أو يكون جائز الرؤية ويزعمون أن هذا من أحكام الوهم لا الفطرة العقلية.
 
قالوا: لأن العقل يسلم مقدمات يعلم بها فساد الحكم الأول.
 
وهذا كله تخليط ظاهر لمن تدبره.
 
فأما تلك القضايا التي سموها مشهورات غير معلومة، فهي من العلوم العقلية البديهية التي جزم العقول بها أعظم من جزمها بكثير من العلوم الحسابية والطبيعية، وهي كما قال أكثر المتكلمين من أهل الإسلام، بل أكثر متكلمي أهل الأرض من جميع الطوائف: أنها قضايا بديهية عقلية، لكن قد لا يحسنون تفسير ذلك؛ فإن حسن ذلك وقبحه هو حسن الأفعال وقبحها، وحسن الفعل هو كونه مقتضيا لما يطلبه الحي لذاته ويريده من المقاصد، وقبحه بالعكس، والأمر كذلك.
 
فإن العلم والصدق والعدل هي كذلك محصلة لما يطلب لذاته ويراد لنفسه من المقاصد، فحسن الفعل وقبحه هو لكونه محصلا للمقصود المراد بذاته أو منافيا لذلك.
 
ولهذا كان الحق يطلق تارة بمعنى النفي والإثبات فيقال: هذا حق، أي ثابت، وهذا باطل، أي: منتف. وفي الأفعال بمعنى: التحصيل للمقصود، فيقال: هذا الفعل حق، أي: نافع، أو محصل للمقصود، ويقال: باطل، أي: لا فائدة فيه ونحو ذلك.
 
وأما زعمهم: أن البديهة والفطرة قد تحكم بما يتبين لها بالقياس فساده، فهذا غلط؛ لأن القياس لابد له من مقدمات بديهية فطرية؛ فإن جوز أن تكون المقدمات الفطرية البديهية غلطًا من غير تبيين غلطها إلا بالقياس، لكان قد تعارضت المقدمات الفطرية بنفسها، ومقتضى القياس الذي مقدماته فطرية. فليس رد هذه المقدمات الفطرية لأجل تلك بأولى من العكس، بل الغلط فيما تقل مقدماته أولى، فما يعلم بالقياس وبمقدمات فطرية أقرب إلى الغلط مما يعلم بمجرد الفطرة.
 
وهذا يذكرونه في نفي علو الله على العرش ونحو ذلك من أباطيلهم.
 
والمقصود هنا أن متقدميهم لم يذكروا المقدمات المتلقاة من الأنبياء، ولكن المتأخرون رتبوه على ذلك؛ إما بطريق الصابئة الذين لبسوا الحنيفية بالصابئة، كابن سينا ونحوه، وإما بطريق المتكلمين الذين أحسنوا الظن بما ذكره المنطقيون، وقرروا إثبات العلم بموجب النبوات به.
 
أما الأول، فإنه جعل علوم الأنبياء من العلوم الحدسية؛ لقوة صفاء تلك النفوس القدسية وطهارتها، وأن قوى النفوس في الحدس لا تقف عند حد، ولابد للعالم من نظام ينصبه حكيم، فيعطي النفوس المؤيدة من القوة ما تعلم به ما لا يعلمه غيرها بطريق الحدس، ويتمثل لها ما تسمعه وتراه في نفسها من الكلام ومن الملائكة ما لا يسمعه غيرها، ويكون لها من القوة العملية التي تطيعها بها هيولي العالم ما ليس لغيرها. فهذه الخوارق في قوى العلم مع السمع والبصر، وقوة العمل والقدرة، هي النبوة عندهم.
 
ومعلوم أن الحدس راجع إلى قياس التمثيل كما تقدم وأما ما يسمع ويرى في نفسه، فهو من جنس الرؤيا، وهذا القدر يحصل مثله لكثير من عوام الناس وكفارهم، فضلا عن أولياء الله وأنبيائه، فكيف يجعل ذلك هو غاية النبوة؟ وإن كان الذي يثبتونه للأنبياء أكمل وأشرف، فهو كملك أقوى من ملك؛ ولهذا صاروا يقولون: النبوة مكتسبة، ولم يثبتوا نزول ملائكة من عند الله إلى من يختاره ويصطفيه من عباده، ولا قصد إلى تكليم شخص معين من رسله؛ كما يذكر عن بعض قدمائهم أنه قال لموسى بن عمران: أنا أصدقك في كل شيء إلا في أن علة العلل كلمك، ما أقدر أن أصدقك في هذا؛ ولهذا صار من ضل بمثل هذا الكلام يدعي مساواة الأنبياء والمرسلين أو التقدم عليهم، وهذا كثير في كثير من الناس الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم أكمل النوع، وهم من أجهل الناس وأظلمهم وأكفرهم وأعظمهم نفاقا.
 
وأما المتكلمون المنطقيون فيقولون: يعلم بهذا القياس ثبوت الصانع وقدرته وجواز إرسال الرسل، وتأييد الله لهم بما يوجب تصديقهم فيما يقولونه. وهذه الطريقة أقرب إلى طريقة العلماء المؤمنين، وإن كان قد يكون فيها أنواع من الباطل، تارة من جهة ما تقلدوه عن المنطقيين، وتارة من جهة ما ابتدعوه هم، مما ليس هذا موضعه.
 
ومنطقية اليهود والنصارى كذلك، لكن الهدى والعلم والبيان في فلاسفة المسلمين ومتكلميهم أعظم منه في أهل الكتابين؛ لما في تينك الملتين من الفساد.
 
ولكن الغرض تقرير جنس النبوات؛ فإن أهل الملل متفقون عليها، لكن اليهود والنصارى آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، والصابئة الفلاسفة ونحوهم آمنوا ببعض صفات الرسالة دون بعض، فإذا اتفق متفلسف من أهل الكتاب جمع الكفرين؛ الكفر بخاتم المرسلين، والكفر بحقائق صفات الرسالة في جميع المرسلين، فهذا هذا.
 
فيقال لهم مع علمهم بتفاوت قوى بني آدم في الإدراك: ما المانع من أن يخرق سمع أحدهم وبصره، حتى يسمع ويرى من الأمور الموجودة في الخارج ما لا يراه غيره، كما قال النبي {{صل}}: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد»، فهذا إحساس بالظاهر أو الباطن لما هو في الخارج.
 
وكذلك العلوم الكلية البديهية، قد علمتم أنها ليس لها حد في بني آدم، فمن أين لكم أن بعض النفوس يكون لها من العلوم البديهية ما يختص بها وحدها أو بها وبأمثالها ما لا يكون من البديهيات عندكم؟ وإذا كان هذا ممكنا وعامة أهل الأرض على أنه واقع لغير الأنبياء دع الأنبياء فمثل هذه العلوم ليس في منطقكم طريق إليها؛ إذ ليست من المشهورات ولا الجدليات، ولا موادها عندكم يقينية، وأنتم لا تعلمون نفيها، وجمهور أهل الأرض من الأولين والآخرين على إثباتها، فإن كذبتم بها، كنتم مع الكفر والتكذيب بالحق وخسارة الدنيا والآخرة تاركين لمنطقكم أيضا، وخارجين عما أوجبتموه على أنفسكم؛ أنكم لا تقولون إلا بموجب القياس، إذ ليس لكم بهذا النفي قياس ولا حجة تذكر؛ ولهذا لم تذكروا عليه حجة؛ وإنما اندرج هذا النفي في كلامكم بغير حجة.
 
وإن قلتم: بل هي حق، اعترفتم بأن من الحق ما لا يوزن بميزان منطقكم. وإن قلتم: لا ندري أحق هي أم باطل؟ اعترفتم بأن أعظم المطالب وأجلها لا يوزن بميزان المنطق.
 
فإن صدقتم لم يوافقكم المنطق، وإن كذبتم لم يوافقكم المنطق، وإن ارتبتم لم ينفعكم المنطق.
 
ومن المعلوم أن موازين الأموال لا يقصد أن يوزن بها الحطب والرصاص دون الذهب والفضة. وأمر النبوات وما جاءت به الرسل أعظم في العلوم من الذهب في الأموال. فإذا لم يكن في منطقكم ميزان له، كان الميزان مع أنه ميزان عائلا جائرًا، وهو أيضا عاجز. فهو ميزان جاهل ظالم؛ إذ هو إما أن يرد الحق ويدفعه فيكون ظالما، أو لا يزنه ولا يبين أمره فيكون جاهلا، أو يجتمع فيه الأمران فيرد الحق ويدفعه وهو الحق الذي ليس للنفوس عنه عوض، ولا لها عنه مندوحة، وليست سعادتها إلا فيه ولا هلاكها إلا بتركه فكيف يستقيم مع هذا أن تقولوا: إنه وما وزنتموه به من المتاع الخسيس الذي أنتم في وزنكم إياه به ظالمون عائلون، لم تزنوا بالقسطاس المستقيم، ولم تستدلوا بالآيات البينات: هو معيار العلوم الحقيقية، والحكمة اليقينية، التي فاز بالسعادة عالمها، وخاب بالشقاوة جاهلها، ورأس مال السادة، وغاية العالم المنصف منكم أن يعترف بعجز ميزانكم عنه.
 
وأما عوام علمائكم فيكذبون به ويردونه، وإن كان منطقكم يرد عليهم، فلستم بتحريف أمر منطقكم أحسن حالا من اليهود والنصارى في تحريف كتاب الله، الذي هو في الأصل حق هاد، لا ريب فيه، فهذا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
وأيضا، هم متفقون على أنه لا يفيد إلا أمورًا كلية مقدرة في الذهن، لا يفيد العلم بشيء موجود محقق في الخارج إلا بتوسط شيء آخر غيره. والأمور الكلية الذهنية ليست هي الحقائق الخارجية، ولا هي أيضا علما بالحقائق الخارجية؛ إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها عن غيره، هو بها هو، وتلك ليست كلية، فالعلم بالأمر المشترك لا يكون علما بها، فلا يكون في القياس المنطقي علم تحقيق شيء من الأشياء وهو المطلوب.
 
وأيضا، هم يطعنون في قياس التمثيل، إنه لا يفيد إلا الظن، وربما تكلموا على بعض الأقيسة الفرعية، أو الأصلية التي تكون مقدماتها ضعيفة أو مظنونة، مثل كلام السهروردى المقتول على الزندقة صاحب التلويحات والألواح وحكمة الإشراق. وكان في فلسفته مستمدًا من الروم الصابئين والفرس المجوس. وهاتان المادتان هما مادتا القرامطة الباطنية، ومن دخل ويدخل فيهم من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم، وهم ممن دخل في قوله {{صل}} في الحديث الصحيح: «لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، قالوا: فارس والروم؟ قال: «فمن؟».
 
والمقصود أن ذكر كلام السهروردي هذا على قياس ضربه، وهو أن يقال: السماء محدثة، قياسًا على البيت، بجامع ما يشتركان فيه من التأليف، فيحتاج أن يثبت أن علة حدوث البناء هو التأليف، وأنه موجود في الفرع.
 
والتحقيق: أن قياس التمثيل أبلغ في إفادة العلم واليقين من قياس الشمول، وإن كان علم قياس الشمول أكثر فذاك أكبر، فقياس التمثيل في القياس العقلي كالبصر في العلم الحسي، وقياس الشمول كالسمع في العلم الحسي. ولا ريب أن البصر أعظم وأكمل، والسمع أوسع وأشمل، فقياس التمثيل بمنزلة البصر، كما قيل: من قاس ما لم يره بما رأى. وقياس الشمول يشابه السمع من جهة العموم.
 
ثم إن كل واحد من القياسين في كونه علميًا أو ظنيًا يتبع مقدماته، فقياس التمثيل في الحسيات وكل شيء؛ إذا علمنا أن هذا مثل هذا، علمنا أن حكمه حكمه، وإن لم نعلم علة الحكم، وإن علمنا علة الحكم استدللنا بثبوتها على ثبوت الحكم، فبكل واحد من العلم بقياس التمثيل وقياس التعليل يعلم الحكم.
 
وقياس التعليل هو في الحقيقة من نوع قياس الشمول، لكنه امتاز عنه بأن الحد الأوسط الذي هو الدليل فيه هو علة الحكم، ويسمى قياس العلة، وبرهان العلة. وذلك يسمى قياس الدلالة وبرهان الدلالة، وإن لم نعلم التماثل والعلة، بل ظنناها ظنًا كان الحكم كذلك.
 
وهكذا الأمر في قياس الشمول، إن كانت المقدمتان معلومتين كانت النتيجة معلومة، وإلا فالنتيجة تتبع أضعف المقدمات.
 
فأما دعواهم: أن هذا لا يفيد العلم، فهو غلط محض محسوس، بل عامة علوم بني آدم العقلية المحضة هي من قياس التمثيل.
 
وأيضا، فإن علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانًا لها بالقصد الأول، لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلا. فإن العلوم الرياضية من حساب العدد، وحساب المقدار الذهني والخارجي قد علم أن الخائضين فيها من الأولين والآخرين مستقلون بها من غير التفات إلى هذه الصناعة المنطقية واصطلاح أهلها. وكذلك ما يصح من العلوم الطبيعية الكلية والطبية، تجد الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشيء من صناعة المنطق، بل إمام صناعة الطب بقراط له فيها من الكلام الذي تلقاه أهل الطب بالقبول ووجدوا مصداقه بالتجارب، وله فيها من القضايا الكلية التي هي عند عقلاء بني آدم من أعظم الأمور، ومع هذا فليس هو مستعينًا بشيء من هذه الصناعة، بل كان قبل واضعها.
 
وهم وإن كان العلم الطبيعي عندهم أعلم وأعلى من علم الطب، فلا ريب أنه متصل به. فبالعلم بطبائع الأجسام المعينة المحسوسة تعلم طبائع سائر الأجسام، ومبدأ الحركة والسكون الذي في الجسم، ويستدل بالجزء على الكل؛ ولهذا كثيرًا ما يتناظرون في مسائل، ويتنازع فيها هؤلاء وهؤلاء، كتناظر الفقهاء والمتكلمين في مسائل كثيرة تتفق فيها الصناعتان، وأولئك يدعون عموم النظر، ولكن الخطأ والغلط عند المتكلمين والمتفلسفة أكثر مما هو عند الفقهاء والأطباء، وكلامهم وعلمهم أنفع، وأولئك أكثر ضلالا وأقل نفعًا؛ لأنهم طلبوا بالقياس ما لا يعلم بالقياس، وزاحموا الفطرة والنبوة مزاحمة أوجبت من مخالفتهم للفطرة والنبوة ما صاروا به من شياطين الإنس والجن الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، بخلاف الطب المحض، فإنه علم نافع، وكذلك الفقه المحض.
 
وأما علم ما بعد الطبيعة وإن كانوا يعظمونه، ويقولون: هو الفلسفة الأولى، وهو العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه، ويسميه متأخروهم العلم الإلهي، وزعم المعلم الأول لهم أنه غاية فلسفتهم ونهاية حكمتهم فالحق فيه من المسائل قليل نزر، وغالبه علم بأحكام ذهنية لا حقائق خارجية. وليس على أكثرهم قياس منطقي؛ فإن الوجود المجرد والوجوب والإمكان والعلة المجردة والمعلول، وانقسام ذلك إلى جزء الماهية، وهو المادة والصورة، وإلى علتي وجودها. وهما الفاعل والغاية، والكلام في انقسام الوجود إلى الجواهر والأعراض التسعة؛ التي هي: الكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع والملك، وأن يفعل وأن ينفعل، كما أنشد بعضهم فيها:
 
زيد الطويل الأسود بن مالك ** في داره بالأمس كان يتكي
 
في يده سيف نضاه فانتضى ** فهذه عشر مقولات سواء
 
ليس عليها ولا على أقسامها قياس منطقي، بل غالبها مجرد استقراء، قد نوزع صاحبه في كثير منه.
 
فإذا كانت صناعتهم بين علوم لا يحتاج فيها إلى القياس المنطقي، وبين ما لا يمكنهم أن يستعملوا فيه القياس المنطقي، كان عديم الفائدة في علومهم، بل كان فيه من شغل القلب عن العلوم والأعمال النافعة ما ضر كثيرًا من الناس، كما سد على كثير منهم طريق العلم، وأوقعهم في أودية الضلال والجهل. فما الظن بغير علومهم من العلوم التي لا تحد للأولين والآخرين.
 
وأيضا، لا تجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم وصار إمامًا فيه مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصناعاتهم بغير صناعة المنطق.
 
وقد صنف في الإسلام علوم النحو واللغة والعروض والفقه وأصوله والكلام وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرب هذا المنطق اليوناني.
 
وأما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفًا، وإن كان الفقه وأصوله متصلا بذلك، فهي أجل وأعظم من أن يظن أن لأهلها التفاتًا إلى المنطق؛ إذ ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس وأفضلها القرون الثلاثة، من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه، مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا يدرك أحد شأوها، كانوا أعمق الناس علمًا، وأقلهم تكلفا، وأبرهم قلوبًا. ولا يوجد لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجدت بين الكلامين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، بل الذي وجدناه بالاستقراء أن من المعلوم أن من الخائضين في العلوم من أهل هذه الصناعة أكثر الناس شكا واضطرابًا، وأقلهم علمًا وتحقيقًا، وأبعدهم عن تحقيق علم موزون، وإن كان فيهم من قد يحقق شيئًا من العلم. فذلك لصحة المادة والأدلة التي ينظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق، بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطول العبارة ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدًا، واليسير منه عسيرًا. ولهذا تجد من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك، لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق.
 
فعلم أنه من أعظم حشو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريقة ذوي الأحلام.
 
نعم لا ينكر أن في المنطق ما قد يستفيد ببعضه من كان في كفر وضلال، وتقليد، ممن نشأ بينهم من الجهال، كعوام النصارى واليهود والرافضة ونحوهم، فأورثهم المنطق ترك ما عليه أولئك من تلك العقائد، ولكن يصير غالب هؤلاء مداهنين لعوامهم، مضلين لهم عن سبيل الله، أو يصيرون منافقين زنادقة، لا يقرون بحق ولا بباطل، بل يتركون الحق كما تركوا الباطل.
 
فأذكياء طوائف الضلال إما مضللون مداهنون، وإما زنادقة منافقون، لا يكاد يخلو أحد منهم عن هذين، فأما أن يكون المنطق وقفهم على حق يهتدون به، فهذا لا يقع بالمنطق.
 
ففي الجملة، ما يحصل به لبعض الناس من شحذ ذهن، أو رجوع عن باطل أو تعبير عن حق، فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال، لا لما في صناعة المنطق من الكمال.
 
ومن المعلوم أن المشرك إذا تمجس، والمجوسي إذا تهود، حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه قبل ذلك، لكن لا يصلح أن يجعل ذلك عمدة لأهل الحق المبين.
 
وهذا ليس مختصًا به، بل هذا شأن كل من نظر في الأمور التي فيها دقة ولها نوع إحاطة، كما تجد ذلك في علم النحو؛ فإنه من المعلوم أن لأهله من التحقيق والتدقيق والتقسيم والتحديد ما ليس لأهل المنطق، وأن أهله يتكلمون في صورة المعاني المعقولة على أكمل القواعد. فالمعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى وضع خاص، بخلاف قوالبها التي هي الألفاظ، فإنها تتنوع، فمتى تعلموا أكمل الصور والقوالب للمعاني مع الفطرة الصحيحة، كان ذلك أكمل وأنفع وأعون على تحقيق العلوم من صناعة اصطلاحية في أمور فطرية عقلية لا يحتاج فيها إلى اصطلاح خاص.
 
هذا لعمري عن منفعته في سائر العلوم.
 
وأما منفعته في علم الإسلام خصوصًا فهذا أبين من أن يحتاج إلى بيان؛ ولهذا تجد الذين اتصلت إليهم علوم الأوائل، فصاغوها بالصيغة العربية بعقول المسلمين، جاء فيها من الكمال والتحقيق والإحاطة والاختصار ما لا يوجد في كلام الأوائل، وإن كان في هؤلاء المتأخرين من فيه نفاق وضلال، لكن عادت عليهم في الجملة بركة ما بعث به رسول الله {{صل}} من جوامع الكلم وما أوتيته أمته من العلم والبيان الذي لم يشركها فيه أحد.
 
وأيضا، فإن صناعة المنطق وضعها معلمهم الأول أرسطو، صاحب التعاليم التي لمبتدعة الصابئة، يزن بها ما كان هو وأمثاله يتكلمون فيه من حكمتهم وفلسفتهم، التي هي غاية كمالهم. وهي قسمان: نظرية وعملية.
 
فأصح النظرية وهي المدخل إلى الحق هي الأمور الحسابية الرياضية.
 
وأما العملية: فإصلاح الخلق والمنزل والمدينة. ولا ريب أن في ذلك من نوع العلوم والأعمال الذي يتميزون بها عن جهال بني آدم، الذين ليس لهم كتاب منزل ولا نبي مرسل ما يستحقون به التقدم على ذلك. وفيه من منفعة صلاح الدنيا وعمارتها ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل.
وفيها أيضا من قول الحق واتباعه والأمر بالعدل والنهي عن الفساد، ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل.
 
فهم بالنسبة إلى جهال الأمم كبادية الترك ونحوهم أمثل إذا خلوا عن ضلالهم، فأما مع ضلالهم فقد يكون الباقون على الفطرة من جهال بني آدم أمثل منهم.
 
فأما أضل أهل الملل مثل جهال النصارى وسامرة اليهود فهم أعلم منهم وأهدى وأحكم وأتبع للحق. وهذا قد بسطته بسطًا كثيرًا في غير هذا الموضع.
 
وإنما المقصود هنا: بيان أن هذه الصناعة قليلة المنفعة عظيمة الحشو.
 
وذلك أن الأمور العملية الخلقية قل أن ينتفع فيها بصناعة المنطق؛ إذ القضايا الكلية الموجبة وإن كانت توجد في الأمور العملية لكن أهل السياسة لنفوسهم ولأهلهم ولملكهم، إنما ينالون تلك الآراء الكلية من أمور لا يحتاجون فيها إلى المنطق، ومتى حصل ذلك الرأي كان الانتفاع به بالعمل.
 
ثم الأمور العملية لا تقف على رأى كلي، بل متى علم الإنسان انتفاعه بعمل، عمله، وأي عمل تضرر به، تركه. وهذا قد يعلمه بالحس الظاهر أو الباطن لا يقف ذلك على رأي كلي.
 
فعلم أن أكثر الأمور العملية لا يصح استعمال المنطق فيها؛ ولهذا كان المؤدبون لنفوسهم ولأهلهم، السائسون لملكهم، لا يَزِنُون آراءهم بالصناعة المنطقية، إلا أن يكون شيئًا يسيرًا، والغالب على من يسلكه التوقف والتعطيل.
 
ولو كان أصحاب هذه الآراء تقف معرفتهم بها واستعمالهم لها على وزنها بهذه الصناعة، لكان تضررهم بذلك أضعاف انتفاعهم به، مع أن جميع ما يأمرون به من العلوم والأخلاق والأعمال لا تكفي في النجاة من عذاب الله، فضلا عن أن يكون محصلا لنعيم الآخرة قال تعالى: { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 38]</ref>، كذلك قال: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } إلى قوله: { الْكَافِرُونَ } <ref>[غافر: 82- 85]</ref>.
 
فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف، أن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل لما رأوا بأس الله وحدوا الله، وتركوا الشرك فلم ينفعهم ذلك.
 
وكذلك أخبر عن فرعون وهو كافر بالتوحيد وبالرسالة أنه لمَّا أدركه الغرق قال: { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } قال الله: { أَلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } <ref>[يونس: 91]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } <ref>[الأعراف: 172، 173]</ref> وقال تعالى: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ. قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } <ref>[إبراهيم: 9، 10]</ref>.
 
وهذا في القرآن في مواضع أخر، يبين فيها أن الرسل كلهم أمروا بالتوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شيء من المخلوقات سواه، أو اتخاذه إلهًا، ويخبر أن أهل السعادة هم أهل التوحيد، وأن المشركين هم أهل الشقاوة، وذكر هذا عن عامة الرسل، ويبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسل مشركون.
 
فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان، وكذلك الإيمان باليوم الآخر هو والإيمان بالرسل متلازمان فالثلاثة متلازمة؛ ولهذا يجمع بينها في مثل قوله: { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } <ref>[الأنعام: 150]</ref> ؛ ولهذا أخبر أن الذين لا يؤمنون بالآخرة مشركون، فقال تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } <ref>[الزمر: 45]</ref>.
 
وأخبر عن جميع الأشقياء: أن الرسل أنذرتهم باليوم الآخر، كما قال تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } <ref>[الملك: 8، 9]</ref> فأخبر أن الرسل أنذرتهم، وأنهم كذبوا بالرسالة.
 
وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } الآية <ref>[الزمر: 71]</ref>. فأخبر عن أهل النار أنهم قد جاءتهم الرسالة، وأنذروا باليوم الآخر.
 
وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ } إلى قوله: { وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } الآية <ref>[الأنعام: 128130]</ref>.
 
فأخبر عن جميع الجن والإنس أن الرسل بلغتهم رسالة الله، وهي آياته وأنهم أنذروهم اليوم الآخر، وكذلك قال: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } إلى قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } <ref>[الكهف: 103105]</ref>. فأخبر أنهم كفروا بآياته، وهي رسالته، وبلقائه وهو اليوم الآخر.
 
وقد أخبر أيضا في غير موضع - بأن الرسالة عمت بني آدم، وأن الرسل جاؤوا مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } <ref>[فاطر: 24]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى قوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } <ref>[النساء: 163165]</ref> وقال تعالى: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } <ref>[الأنعام: 48، 49]</ref>. فأخبر أن من آمن بالرسل وأصلح من الأولين والآخرين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
 
وقال تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } <ref>[البقرة: 38]</ref> ومثل ذلك قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } إلى قوله: { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } الآية <ref>[البقرة: 62]</ref>.
 
فذكر أن المؤمنين بالله وباليوم الآخر من هؤلاء هم أهل النجاة والسعادة، وذكر في تلك الآية الإيمان بالرسل، وفي هذه الإيمان باليوم الآخر؛ لأنهما متلازمان، وكذلك الإيمان بالرسل كلهم متلازم. فمن آمن بواحد منهم فقد آمن بهم كلهم، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا } الآية والتي بعدها <ref>[النساء: 150، 151]</ref>. فأخبر أن المؤمنين بجميع الرسل هم أهل السعادة، وأن المفرقين بينهم بالإيمان ببعضهم دون بعض هم الكافرون حقًا.
 
وقال تعالى: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } <ref>[الإسراء: 13 15]</ref>.
 
فهذه الأصول الثلاثة: توحيد الله، والإيمان برسله، وباليوم الآخر هي أمور متلازمة.
 
والحاصل: أن توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر هي أمور متلازمة مع العمل الصالح، فأهل هذا الإيمان والعمل الصالح هم أهل السعادة من الأولين والآخرين، والخارجون عن هذا الإيمان مشركون أشقياء، فكل من كذب الرسل فلن يكون إلا مشركًا، وكل مشرك مكذب للرسل، وكل مشرك وكافر بالرسل، فهو كافر باليوم الآخر، وكل من كفر باليوم الآخر فهو كافر بالرسل وهو مشرك؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } <ref>[الأنعام: 112، 113]</ref>.
 
فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين المحسن، يغررون به. والغرور: هو التلبيس والتمويه. وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل، من أمر المتفلسفة والمتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين، ثم قال: { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ } فأخبر أن كلام أعداء الرسل تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة.
 
فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم، فخالف الرسل، كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة. وقال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا } الآية <ref>[الأعراف: 52، 53]</ref>. فأخبر أن الذين تركوا اتباع الكتاب وهو الرسالة يقولون إذا جاء تأويله وهو ما أخبر به: جاءت رسل ربنا بالحق، وهذا كقوله: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } <ref>[طه: 124 126]</ref> أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ما ذكرنا.
 
فقد تبين أن أصل السعادة، وأصل النجاة من العذاب، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح.
 
وهذه الأمور ليست في حكمتهم وفلسفتهم المبتدعة، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، إذ بنوه على ما في الأرواح والأجسام من القوى والطبائع، وأن صناعة الطلاسم والأصنام والتعبد لها يورث منافع ويدفع مضار. فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا. فتدبر هذا، فإنه نافع جدًا.
 
ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك. فالأولون يسمون الكواكب الآلهة الصغرى، ويعبدونها بأصناف العبادات، كذلك كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد.
 
وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك.
 
وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل. والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه. والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات، وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك.
 
فلو كانوا موحدين بالقول والكلام وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لابد من أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهًا، دون ما سواه، وهو معني قول: لا إله إلا الله، فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون؟
 
وأما الإيمان بالرسل، فليس فيه للمعلم الأول وذويه كلام معروف، والذين دخلوا في الملل منهم آمنوا ببعض صفات الرسل وكفروا ببعض.
 
وأما اليوم الآخر، فأحسنهم حالًا من يقر بمعاد الأرواح دون الأجساد. ومنهم من ينكر المعادين جميعًا. ومنهم من يقر بمعاد الأرواح العالمة دون الجاهلة. وهذه الأقوال الثلاثة لمعلمهم الثاني أبي نصر الفارابي، ولهم فيه من الاضطراب ما يعلم به أنهم لم يهتدوا فيه إلى الصواب.
 
وقد أضلوا بشبهاتهم من المنتسبين إلى الملل من لا يحصى عدده إلا الله.
 
فإذا كان ما به تحصل السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلا، كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات، كما قال الله تعالى: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } <ref>[الروم: 7]</ref>.
 
وأما ما يذكرونه من العلوم النظرية، فالصواب منها منفعته في الدنيا. وأما "العلم الإلهي" فليس عندهم منه ما تحصل به النجاة والسعادة، بل وغالب ما عندهم منه ليس بمتيقن معلوم، بل قد صرح أساطين الفلسفة أن العلوم الإلهية لا سبيل فيها إلى اليقين، وإنما يتكلم فيها بالأحرى والأخلق، فليس معهم فيها إلا الظن { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } <ref>[ النجم: 28 ]</ref> ؛ ولهذا يوجد عندهم من المخالفة للرسل أمر عظيم باهر، حتى قيل مرة لبعض الأشياخ الكبار ممن يعرف الكلام والفلسفة والحديث وغير ذلك: ما الفرق الذي بين الأنبياء والفلاسفة؟ فقال: السيف الأحمر. يريد أن الذي يسلك طريقتهم يريد أن يوفق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الرسل، فيدخل من السفسطة والقرمطة في أنواع من المحال الذي لا يرضاه عاقل، كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم. ومن هنا ضلت القرامطة والباطنية ومن شاركهم في بعض ذلك. وهذا باب يطول وصفه ليس الغرض هنا ذكره.
 
وإنما الغرض أن معلمهم وضع منطقهم ليزن به ما يقولونه من هذه الأمور التي يخوضون فيها، والتي هي قليلة المنفعة، وأكثر منفعتها إنما هي في الأمور الدنيوية، وقد يستغنى عنها في الأمور الدنيوية أيضا.
 
فأما أن يوزن بهذه الصناعة ما ليس من علومهم وما هو فوق قدرهم، أو يوزن بها ما يوجب السعادة والنعيم والنجاة من العذاب الأليم، فهذا أمر ليس هو فيها، و { قَّدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِ شَيءٍ قَدْرًا } <ref>[الطلاق: 3]</ref>. والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة، وفيهم زهد وأخلاق، فهذا القدر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب، إلا بالأصول المتقدمة: من الإيمان بالله وتوحيده، وإخلاص عبادته، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح.
 
وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة، فالذي يؤتي فضائل علمية وإرادية بدون هذه الأصول، يكون بمنزلة من يؤتي قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول.
 
وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة، وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئًا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤمن برسله وباليوم الآخر.
 
وهذه الأمور متلازمة، فمن عبد الله وحده لزم أن يؤمن برسله ويؤمن باليوم الآخر، فيستحق الثواب وإلا كان من أهل الوعيد يخلد في العذاب، هذا إذا قامت عليه الحجة بالرسل.
 
ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل وقد يتابعونهم، ذكر الله ذلك في كتابه في غير موضع. فذكر فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه لما آتاه الله الملك، والملأ من قوم نوح، وعاد وغيرهم من المستكبرين المكذبين للرسل، وذكر قول علمائهم، كقوله: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } <ref>[غافر: 83 85]</ref>، وقال تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } إلى قوله: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } <ref>[غافر: 4 35]</ref>، والسلطان هو الوحي المنزل من عند الله، كما ذكر ذلك في غير موضع، كقوله: { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } <ref>[الروم: 35]</ref>، وقوله: { مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } <ref>[الأعراف: 71، النجم: 23]</ref>، وقال [[ابن عباس]]: كل سلطان في القرآن فهو الحجة. ذكره البخاري في صحيحه.
 
وقد ذكر في هذه السورة [سورة حم غافر] من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء مثل مقول الفلاسفة وعلمائهم ومجادلتهم واستكبارهم ما فيه عبرة، مثل قوله: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } <ref>[غافر: 56]</ref>، ومثل قوله: { أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } إلى قوله: { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } <ref>[غافر: 69 75]</ref>، وختم السورة بقوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ } <ref>[غافر: 83]</ref>.
 
وكذلك في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور المكية، وطائفة من السور المدنية، فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب الأمثال والمقاييس لهم، وذكر قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم. فقال سبحانه: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } <ref>[الأحقاف: 26]</ref>.
 
فأخبر بما مكنهم فيه من أصناف الإدراكات والحركات. وأخبر أن ذلك لم يغن عنهم حيث جحدوا بآيات الله، وهي الرسالة التي بعث بها رسله؛ ولهذا حدثني ابن الشيخ الحصيري عن والده الشيخ الحصيري شيخ الحنفية في زمنه قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرًا ذكيًا.
 
وقال الله تعالى: { أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } الآية <ref>[غافر: 21]</ref>، والقوة تعم قوة الإدراك النظرية وقوة الحركة العملية، وقال في الآية الأخرى: { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } <ref>[غافر: 82]</ref>، فأخبر بفضلهم في الكم والكيف، وأنهم أشد في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض، وقال تعالى: { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } <ref>[غافر: 82، 83]</ref>، وقال تعالى: { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } إلى قوله: { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } <ref>[الروم: 6 11]</ref>،
 
وقال تعالى: { فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } إلى قوله: { وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } <ref>[الأنعام: 5]</ref> وقد قال سبحانه عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } <ref>[الأحزاب: 66 68]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } إلى قوله: { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } <ref>[غافر: 47، 48]</ref>.
 
ومثل هذا في القرآن كثير، يذكر فيه من أقوال أعداء الرسل وأفعالهم وما أوتوه من قوى الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لما خالفوا الرسل.
 
وقد ذكر الله سبحانه ما في المنتسبين إلى أتباع الرسل، من العلماء والعباد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } <ref>[التوبة: 34]</ref>.
 
{ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } يستعمل لازما، يقال: صد صدودًا، أي: أعرض، كما قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } <ref>[النساء: 16]</ref>، ويقال: صد غيره يصده، والوصفان يجتمعان فيهم، ومثل قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } <ref>[النساء: 51]</ref>.
 
وفي الصحيحين: عن أبي موسى، عن النبي {{صل}}: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة؛ طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة؛ طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة؛ ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة؛ طعمها مر، ولا ريح له»، فبين أن في الذين يقرؤون القرآن مؤمنين ومنافقين.
 
==فصل في وصف جنس كلام المناطقة==
 
وهذا المقام لا أذكر فيه موارد النزاع، فيقال: هو الاستدلال على المختلف بالمختلف، لكن أنا أصف جنس كلامهم، فأقول:
 
لا ريب أن كلامهم كله منحصر في الحدود التي تفيد التصورات، سواء كانت الحدود حقيقية، أو رسمية أو لفظية، وفي الأقيسة التي تفيد التصديقات، سواء كانت أقيسة عموم وشمول، أو شبه وتمثيل، أو استقراء وتتبع.
 
وكلامهم غالبه لا يخلو من تكلف، إما في العلم وإما في القول، فإما أن يتكلفوا علم ما لا يعلمونه، فيتكلمون بغير علم، أو يكون الشيء معلومًا لهم فيتكلفون من بيانه ما هو زيادة وحشو وعناء وتطويل طريق، وهذا من المنكر المذموم في الشرع والعقل، قال تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ } <ref>[ص: 86]</ref>، وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: أيها الناس، من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: لا أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: لا أعلم.
 
وقد ذم الله القول بغير علم في كتابه، كقوله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } <ref>[الإسراء: 36]</ref> لا سيما القول على الله، كقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 33]</ref>، وكذلك ذم الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه، وأمر بأن نقول القول السديد والقول البليغ.
 
وهؤلاء كلامهم في الحدود غالبه من الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه، بل قد يكثر كلامهم في الأقيسة والحجج، كثير منه كذلك، وكثير منه باطل، وهو قول بغير علم، وقول بخلاف الحق.
 
أما الأول، فإنهم يزعمون أن الحدود التي يذكرونها يفيدون بها تصور الحقائق، وأن ذلك إنما يتم بذكر الصفات الذاتية المشتركة والمميزة، حتى يركب الحد من الجنس المشترك، والفصل المميز. وقد يقولون: إن التصورات لا تحصل إلا بالحدود، ويقولون: الحدود المركبة لا تكون إلا للأنواع المركبة من الجنس والفصل دون الأنواع البسيطة.
 
وقد ذكرت في غير هذا الموضع ملخص المنطق ومضمونه، وأشرت إلى بعض ما دخل به على كثير من الناس من الخطأ والضلال، وليس هذا موضع بسط ذلك، لكن نذكر هنا وجوها:
 
الوجه الأول:
 
قولهم: إن التصور الذي ليس ببديهي لا ينال إلا بالحد، باطل؛ لأن الحد هو قول الحاد. فإن الحد هنا هو القول الدال على ماهية المحدود. فالمعرفة بالحد لا تكون إلا بعد الحد؛ فإن الحاد الذي ذكر الحد إن كان عرف المحدود بغير حد بطل قولهم: لا يعرف إلا بالحد، وإن كان عرفه بحد آخر، فالقول فيه كالقول في الأول، فإن كان هذا الحاد عرفه بعد الحد الأول، لزم الدور، وإن كان تأخر لزم التسلسل.
 
الوجه الثاني:
 
أنهم إلى الآن لم يسلم لهم حد لشيء من الأشياء إلا ما يدعيه بعضهم وينازعه فيه آخرون. فإن كانت الأصول لا تتصور إلا بالحدود، لزم ألا يكون إلى الآن أحد عرف شيئًا من الأمور، ولم يبق أحد ينتظر صحته؛ لأن الذي يذكره يحتاج إلى معرفة بغير حد وهي متعددة، فلا يكون لبني آدم شيء من المعرفة، وهذه سفسطة ومغالطة.
 
الوجه الثالث:
 
أن المتكلمين بالحدود طائفة قليلة في بني آدم، لاسيما الصناعة المنطقية، فإن واضعها هو أرسطو، وسلك خلفه فيها طائفة من بني آدم.
 
ومن المعلوم أن علوم بني آدم عامتهم وخاصتهم حاصلة بدون ذلك، فبطل قولهم: إن المعرفة متوقفة عليها، أما الأنبياء فلا ريب في استغنائهم عنها، وكذلك أتباع الأنبياء من العلماء والعامة. فإن القرون الثلاثة من هذه الأمة الذين كانوا أعلم بني آدم علومًا ومعارف لم يكن تكلف هذه الحدود من عادتهم، فإنهم لم يبتدعوها، ولم تكن الكتب الأعجمية الرومية عربت لهم، وإنما حدثت بعدهم من مبتدعة المتكلمين والفلاسفة، ومن حين حدثت صار بينهم من الاختلاف والجهل مالا يعلمه إلا الله.
 
وكذلك علم الطب والحساب وغير ذلك، لا تجد أئمة هذه العلوم يتكلفون هذه الحدود المركبة من الجنس والفصل إلا من خلط ذلك بصناعتهم من أهل المنطق.
 
وكذلك النحاة مثل سيبويه الذي ليس في العالم مثل كتابه، وفيه حكمة لسان العرب، لم يتكلف فيه حد الاسم والفاعل ونحو ذلك، كما فعل غيره. ولما تكلف النحاة حد الاسم ذكروا حدودًا كثيرة كلها مطعون فيها عندهم. وكذلك ما تكلف متأخروهم من حد الفاعل والمبتدأ والخبر ونحو ذلك، لم يدخل فيها عندهم من هو إمام في الصناعة ولا حاذق فيها.
 
وكذلك الحدود التي يتكلفها بعض الفقهاء للطهارة والنجاسة، وغير ذلك من معاني الأسماء المتداولة بينهم، وكذلك الحدود التي يتكلفها الناظرون في أصول الفقه لمثل الخبر والقياس والعلم وغير ذلك، لم يدخل فيها إلا من ليس بإمام في الفن، وإلى الساعة لم يسلم لهم حد، وكذلك حدود أهل الكلام.
 
فإذا كان حذاق بني آدم في كل فن من العلم أحكموه بدون هذه الحدود المتكلفة، بطل دعوى توقف المعرفة عليها.
 
وأما علوم بني آدم الذين لا يصنفون الكتب، فهي مما لا يحصيه إلا الله، ولهم من البصائر والمكاشفات والتحقيق والمعارف ما ليس لأهل هذه الحدود المتكلفة، فكيف يجوز أن تكون معرفة الأشياء متوقفة عليها؟
 
الوجه الرابع:
 
أن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن ما يحس به الأشياء ويعرفها، فيعرف بسمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه الظاهر ما يعرف، ويعرف أيضا بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ما هو أعظم من ذلك. فهذه هي الطرق التي تعرف بها الأشياء. فأما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرده مفردات الأشياء إلا بقياس تمثيل أو تركيب ألفاظ، وليس شيء من ذلك يفيد تصور الحقيقة.
 
فالمقصود أن الحقيقة إن تصورها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولي، وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصور حقيقتها بالحد القولي، وهذا أمر محسوس يجده الإنسان من نفسه، فإن من عرف المحسوسات المذوقة مثلًا - كالعسل، لم يفده الحد تصورها. ومن لم يذق ذلك، كمن أخبر عن السكر وهو لم يذقه لم يمكن أن يتصور حقيقته بالكلام والحد، بل يمثل له ويقرب إليه، ويقال له: طعمه يشبه كذا، أو يشبه كذا وكذا، وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذي يدعونه.
 
وكذلك المحسوسات الباطنة، مثل الغضب والفرح والحزن والغم والعلم ونحو ذلك، من وجدها فقد تصورها، ومن لم يجدها لم يمكن أن يتصورها بالحد؛ ولهذا لا يتصور الأكمه الألوان بالحد، ولا العِنِّين الوقاع بالحد. فإذن القائل بأن الحدود هي التي تفيد تصور الحقائق، قائل للباطل المعلوم بالحس الباطن والظاهر.
 
الوجه الخامس:
 
أن الحدود إنما هي أقوال كلية، كقولنا: حيوان ناطق، ولفظ يدل على معنى ونحو ذلك، فتصور معناها لا يمنع من وقوع الشركة فيها، وإن كانت الشركة ممتنعة لسبب آخر، فهي إذن لا تدل على حقيقة معينة بخصوصها، وإنما تدل على معنى كلي. والمعاني الكلية وجودها في الذهن لا في الخارج، فما في الخارج لا يتعين، ولا يعرف بمجرد الحد، وما في الذهن ليس هو حقائق الأشياء، فالحد لا يفيد تصور حقيقة أصلا.
 
الوجه السادس:
 
أن الحد من باب الألفاظ، واللفظ لا يدل المستمع على معناه إن لم يكن قد تصور مفردات اللفظ بغير اللفظ؛ لأن اللفظ المفرد لا يدل المستمع على معناه إن لم يعلم أن اللفظ موضوع للمعنى، ولا يعرف ذلك حتى يعرف المعنى. فتصور المعاني المفردة يجب أن يكون سابقًا على فهم المراد بالألفاظ، فلو استفيد تصورها من الألفاظ لزم الدور، وهذا أمر محسوس؛ فإن المتكلم باللفظ المفرد إن لم يبين للمستمع معناه حتى يدركه بحسه أو بنظره، وإلا لم يتصور إدراكه له بقول مؤلف من جنس وفصل.
 
الوجه السابع:
 
أن الحد هو الفصل والتمييز بين المحدود وغيره، يفيد ما تفيده الأسماء من التمييز والفصل بين المسمى وبين غيره، فهذا لا ريب في أنه يفيد التمييز. فأما تصور حقيقة فلا، لكنها قد تفصل ما دل عليه الاسم بالإجمال، وليس ذلك من إدراك الحقيقة في شيء. والشرط في ذلك: أن تكون الصفات ذاتية، بل هو بمنزلة التقسيم والتحديد للكل، كالتقسيم لجزئياته ويظهر ذلك ب:
 
الوجه الثامن:
 
وهو أن الحس الباطن والظاهر يفيد تصور الحقيقة تصورًا مطلقًا، أما عمومها وخصوصها فهو من حكم العقل؛ فإن القلب يعقل معنى من هذا المعين ومعنى يماثله من هذا المعين، فيصير في القلب معنى عامًا مشتركًا، وذلك هو عقله، أي عقله للمعاني الكلية.
 
فإذا عقل معنى الحيوانية الذي يكون في هذا الحيوان وهذا الحيوان، ومعنى الناطق الذي يكون في هذا الإنسان وهذا الإنسان، وهو مختص به، عقل أن في نوع الإنسان معنى يكون نظيره في الحيوان، ومعنى ليس له نظير في الحيوان.
 
فالأول هو الذي يقال له: الجنس. والثاني: الذي يقال له: الفصل. وهما موجودان في النوع.
 
فهذا حق، ولكن لم يستفد من هذا اللفظ ما لم يكن يعرفه بعقله من أن هذا المعنى عام للإنسان ولغيره من الحيوان، بمعنى أن ما في هذا نظير ما في هذا ؛ إذ ليس في الأعيان الخارجة عموم، وهذا المعنى يختص بالإنسان. فلا فرق بين قولك: الإنسان حيوان ناطق، وقولك: الإنسان هو الحيوان الناطق، إلا من جهة الإحاطة والحصر في الثاني، لا من جهة تصوير حقيقته باللفظ والإحاطة. والحصر هو التمييز الحاصل بمجرد الاسم، وهو قولك: إنسان وبشر. فإن هذا الاسم إذا فهم مسماه، أفاد من التمييز ما أفاده الحيوان الناطق في سلامته عن المطاعن.
 
وأما تصور أن فيه معنى عامًا ومعنى خاصًا، فليس هذا من خصائص الحد، كما تقدم. والذي يختص بالحد ليس إلا مجرد التمييز الحاصل بالأسماء. وهذا بين لمن تأمله.
 
وأما إدراك صفات فيه، بعضها مشترك وبعضها مختص، فلا ريب أن هذا قد لا يتفطن له بمجرد الاسم، لكن هذا يتفطن له بالحد وبغير الحد. فليس في الحد إلا ما يوجد في الأسماء، أو في الصفات التي تذكر للمسمى. وهذان نوعان معروفان:
 
الأول: معنى الأسماء المفردة.
 
والثاني: معرفة الجمل المركبة الاسمية والفعلية التي يخبر بها عن الأشياء، وتوصف بها الأشياء.
 
وكلا هذين النوعين لا يفتقر إلى الحد المتكلف، فثبت أن الحد ليس فيه فائدة إلا وهي موجودة في الأسماء والكلام بلا تكلف، فسقطت فائدة خصوصية الحد.
 
الوجه التاسع:
 
أن العلم بوجود صفات مشتركة ومختصة حق، لكن التمييز بين تلك الصفات بجعل بعضها ذاتيًا تتقوم منه حقيقة المحدود، وبعضها لازمًا لحقيقة المحدود، تفريق باطل، بل جميع الصفات الملازمة للمحدود طردًا وعكسًا هي جنس واحد، فلا فرق بين الفصل والخاصة، ولا بين الجنس والعرض العام.
 
وذلك أن الحقيقة المركبة من تلك الصفات: إما أن يعني بها الخارجة أو الذهنية أو شيء ثالث. فإن عنى بها الخارجة، فالنطق والضحك في الإنسان حقيقتان لازمتان يختصان به. وإن عنى الحقيقة التي في الذهن، فالذهن يعقل اختصاص هاتين الصفتين به دون غيره.
 
وإن قيل: بل إحدى الصفتين يتوقف عقل الحقيقة عليها، فلا يعقل الإنسان في الذهن حتى يفهم النطق، وأما الضحك فهو تابع لفهم الإنسان. وهذا معنى قولهم: الذاتي ما لا يتصور فهم الحقيقة بدون فهمه، أو ما تقف الحقيقة في الذهن والخارج عليه.
 
قيل: إدراك الذهن أمر نسبي إضافي، فإن كون الذهن لا يفهم هذا إلا بعد هذا، أمر يتعلق بنفس إدراك الذهن، ليس هو شيئًا ثابتًا للموصوف في نفسه، فلابد أن يكون الفرق بين الذاتي والعرضي بوصف ثابت في نفس الأمر، سواء حصل الإدراك له أو لم يحصل، إن كان أحدهما جزءًا للحقيقة دون الآخر وإلا فلا.
 
الوجه العاشر:
 
أن يقال: كون الذهن لا يعقل هذا إلا بعد هذا، إن كان إشارة إلى أذهان معينة، وهي التي تصورت هذا، لم يكن هذا حجة ؛ لأنهم هم وضعوها هكذا. فيكون التقدير: أن ما قدمناه في أذهاننا على الحقيقة فهو الذاتي، وما أخرناه فهو العرضي. ويعود الأمر إلى أنا تحكمنا بجعل بعض الصفات ذاتيًا وبعضها عرضيًا لازمًا وغير لازم، وإن كان الأمر كذلك، كان هذا الفرقان مجرد تحكم بلا سلطان. ولا يستنكر من هؤلاء أن يجمعوا بين المفترقين ويفرقوا بين المتماثلين. فما أكثر هذا في مقاييسهم التي ضلوا بها وأضلوا. وهم أول من أفسد دين المسلمين، وابتدع ما غير به الصابئة مذاهب أهل الإيمان المهتدين.
 
وإن قالوا: بل جميع أذهان بني آدم والأذهان الصحيحة لا تدرك الإنسان إلا بعد خطور نطقه ببالها دون ضحكه.
 
قيل لهم: ليس هذا بصحيح، ولا يكاد يوجد هذا الترتيب إلا فيمن يقلد عنكم هذه الحدود من المقلدين لكم في الأمور التي جعلتموها ميزان المعقولات، وإلا فبنو آدم قد لا يخطر لأحدهم أحد الوصفين، وقد يخطر له هذا دون هذا وبالعكس، ولو خطر له الوصفان وعرف أن الإنسان حيوان ناطق ضاحك، لم يكن بمجرد معرفته هذه الصفات مدركًا لحقيقة الإنسان أصلًا، وكل هذا أمر محسوس معقول.
 
فلا يغالط العاقل نفسه في ذلك لهيبة التقليد لهؤلاء، الذين هم من أكثر الخلق ضلالًا مع دعوى التحقيق، فهم في الأوائل كمتكلمة الإسلام في الأواخر. ولما كان المسلمون خيرًا من أهل الكتابين والصابئين، كانوا خيرًا منهم وأعلم وأحكم، فتدبر هذا فإنه نافع جدًا.
 
ومن هنا يقولون: الحدود الذاتية عسرة، وإدراك الصفات الذاتية صعب، وغالب ما بأيدي الناس حدود رسمية؛ وذلك كله لأنهم وضعوا تفريقًا بين شيئين بمجرد التحكم الذي هم أدخلوه.
 
ومن المعلوم أن ما لا حقيقة له في الخارج ولا في المعقول، وإنما هو ابتداع مبتدع وضعه، وفرق به بين المتماثلين فيما تماثلا فيه لا تعقله القلوب الصحيحة إذ ذاك من باب معرفة المذاهب الفاسدة التي لا ضابط لها، وأكثر ما تجد هؤلاء الأجناس يعظمونه من معارفهم ويدعون اختصاص فضلائهم به، هو من الباطل الذي لا حقيقة له، كما نبهنا على هذا فيما تقدم.
 
الوجه الحادي عشر:
 
قولهم: الحقيقة مركبة من الجنس والفصل، والجنس هو الجزء المشترك والفصل هو الجزء المميز.
 
يقال لهم: هذا التركيب، إما أن يكون في الخارج أو في الذهن. فإن كان في الخارج فليس في الخارج نوع كلي يكون محدودًا بهذا الحد إلا الأعيان المحسوسة، والأعيان في كل عين صفة يكون نظيرها لسائر الحيوانات كالحس والحركة الإرادية، وصفة ليس مثلها لسائر الحيوان وهي النطق. وفي كل عين يجتمع هذان الوصفان، كما يجتمع سائر الصفات والجواهر القائمة لأمور مركبة من الصفات المجعولة فيها.
 
وإن أردتم بالحيوانية والناطقية جوهرًا، فليس في الإنسان جوهران، أحدهما حي، والآخر ناطق، بل هو جوهر واحد له صفتان. فإن كان الجوهر مركبًا من عرضين، لم يصح. وإن كان من جوهر عام وخاص فليس فيه ذلك، فبطل كون الحقيقة الخارجة مركبة.
 
وإن جعلوها تارة جوهرًا وتارة صفة، كان ذلك بمنزلة قول النصارى في الأقانيم، وهو من أعظم الأقوال تناقضًا باتفاق العلماء.
 
وإن قالوا: المركب الحقيقية الذهنية المعقولة، قيل أولا: تلك ليست هي المقصودة بالحدود، إلا أن تكون مطابقة للخارج، فإن لم يكن هناك تركيب لم يصح أن يكون في هذه تركيب، وليس في الذهن إلا تصور الحي الناطق. وهو جوهر واحد له صفتان، كما قدمنا، فلا تركيب فيه بحال.
 
واعلم أنه لا نزاع أن صفات الأنواع والأجناس منها ما هو مشترك بينها وبين غيرها، كالجنس والعرض العام، ومنها ما هو لازم للحقيقة، ومنها ما هو عارض لها، وهو ما ثبت لها في وقت دون وقت كالبطىء الزوال وسريعه، وإنما الشأن في التفريق بين الذاتي والعرضي اللازم، فهذا هو الذي مداره على تحكم ذهن الحاد.
 
ولا تنازع في أن بعض الصفات قد يكون أظهر وأشرف، فإن النطق أشرف من الضحك، ولهذا ضرب الله به المثل في قوله: { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } <ref>[الذاريات: 23]</ref>، ولكن الشأن في جعل هذا ذاتيًا تتصور به الحقيقة دون الآخر.
 
الوجه الثاني عشر:
 
أن هذه الصفات الذاتية قد تعلم ولا يتصور بها كنه المحدود، كما في هذا المثال وغيره، فعلم أن ذلك ليس بموجب لفهم الحقيقة.
 
الوجه الثالث عشر:
 
أن الحد إذا كان له جزءان، فلابد لجزأيه من تصور، كالحيوان والناطق، فإن احتاج كل جزء إلى حد، لزم التسلسل أو الدور.
 
فإن كانت الأجزاء متصورة بنفسها بلا حد وهو تصور الحيوان، أو الحساس، أو المتحرك بالإرادة، أو النامي، أو الجسم فمن المعلوم أن هذه أعم. وإذا كانت أعم لكون إدراك الحس لأفرادها أكثر، فإن كان إدراك الحس لأفرادها كافيًا في التصور فالحس قد أدرك أفراد النوع. وإن لم يكن كافيًا في ذلك لم تكن الأجزاء معروفة، فيحتاج المعرف إلى معرف، وأجزاء الحد إلى حد.
 
الوجه الرابع عشر:
 
أن الحدود لابد فيها من التمييز، وكلما قلت الأفراد كان التمييز أيسر، وكلما كثرت كان أصعب، فضبط العقل الكلي تقل أفراده مع ضبط كونه كليًا أيسر عليه مما كثرت أفراده، وإن كان إدراك الكلى الكثير الأفراد أيسر عليه، فذاك إذا أدركه مطلقًا؛ لأن المطلق يحصل بحصول كل واحد من الأفراد.
 
وإذا كان ذلك كذلك، فأقل ما في أجزاء المحدود أن تكون متميزة تمييزًا كليًا ؛ ليعلم كونها صفة للمحدود أو محمولة عليه أم لا. فإذا كان ضبطها كلية أصعب وأتعب من ضبط أفراد المحدود، كان ذلك تعريفًا للأسهل معرفة بالأصعب مفردة، وهذا عكس الواجب.
 
الوجه الخامس عشر:
 
أن الله سبحانه علَّم آدم الأسماء كلها، وقد ميز كل مسمى باسم يدل على ما يفصله من الجنس المشترك، ويخصه دون ما سواه، ويبين به ما يرسم معناه في النفس. ومعرفة حدود الأسماء واجبة ؛ لأنه بها تقوم مصلحة بني آدم في النطق الذي جعله الله رحمة لهم، لاسيما حدود ما أنزل الله في كتبه من الأسماء كالخمر والربا.
 
فهذه الحدود هي الفاصلة المميزة بين ما يدخل في المسمى ويتناوله ذلك الاسم وما دل عليه من الصفات، وبين ما ليس كذلك؛ ولهذا ذم الله من سمى الأشياء بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فإنه أثبت للشيء صفة باطلة كإلهية الأوثان.
 
فالأسماء النطقية سمعية، وأما نفس تصور المعاني ففطري، يحصل بالحس الباطن والظاهر، وبإدراك الحس وشهوده ببصر الإنسان بباطنه وبظاهره وبسمعه يعلم أسماءها، وبفؤاده يعقل الصفات المشتركة والمختصة.
 
والله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة.
 
فأما الحدود المتكلفة فليس فيها فائدة، لا في العقل، ولا في الحس، ولا في السمع، إلا ما هو كالأسماء مع التطويل، أو ما هو كالتمييز كسائر الصفات.
 
ولهذا لما رأوا ذلك جعلوا الحد نوعين: نوعًا بحسب الاسم؛ وهو بيان ما يدخل فيه، ونوعا بحسب الصفة أو الحقيقة أو المسمى، وزعموا كشف الحقيقة وتصويرها، والحقيقة المذكورة إن ذكرت بلفظ دخلت في القسم الأول، وإن لم تذكر بلفظ فلا تدرك بلفظ ولا تحد بمقال إلا كما تقدم.
 
وهذه نكت تنبه على جمل المقصود، وليس هذا موضع بسط ذلك.
 
الوجه السادس عشر:
 
أن في الصفات الذاتية المشتركة والمختصة كالحيوانية والناطقية إن أرادوا بالاشتراك: أن نفس الصفة الموجودة في الخارج مشتركة فهذا باطل؛ إذ لا اشتراك في المعينات التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها.
 
وإن أرادوا بالاشتراك: أن مثل تلك الصفة حاصلة للنوع الآخر، قيل لهم: لا ريب أن بين حيوانية الإنسان وحيوانية الفرس قدرًا مشتركًا، وكذلك بين صوتيهما وتمييزهما قدرًا مشتركًا، فإن الإنسان له تمييز وللفرس تمييز، ولهذا صوت هو النطق، ولذاك صوت هو الصهيل، فقد خص كل صوت باسم يخصه. فإذا كان حقيقة أحد هذين يخالف الآخر ويختص بنوعه، فمن أين جعلتم حيوانية أحدهما مماثلة لحيوانية الآخر في الحد والحقيقة؟
 
وهلاَّ قيل: إن بين حيوانيتهما قدرًا مشتركًا ومميزًا، كما أن بين صوتيهما كذلك؟ وذلك أن الحس والحركة الإرادية إما أن توجد للجسم أو للنفس. فإن الجسم يحس ويتحرك بالإرادة، والنفس تحس وتتحرك بالإرادة، وإن كان بين الوصفين من الفرق ما بين الحقيقتين. وكذلك النطق هو للنفس بالتمييز والمعرفة، والكلام النفساني، وهو للجسم أيضا بتمييز القلب ومعرفته والكلام اللساني. فكل من جسمه ونفسه يوصف بهذين الوصفين، وليست حركة نفسه وإرادتها ومعرفتها ونطقها مثل ما للفرس، وإن كان بينهما قدر مشترك، وكذلك ما يقوم بجسمه من الحس والحركة الإرادية ليس مثل ما للفرس، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن الذي يلائم جسمه من مطعم ومشرب وملبس ومنكح ومشموم ومرئى ومسموع، بحيث يحسه ويتحرك إليه حركة إرادية ليس هو مثل ما للفرس.
 
فالحس والحركة الإرادية هي بالمعنى العام لجميع الحيوان، وبالمعنى الخاص ليس إلا للإنسان، وكذلك التمييز سواء؛ ولهذا قال النبي {{صل}}: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء: حارث وهمام، وأقبحها: حرب ومرة». رواه مسلم.
 
فالحارث هو العامل الكاسب المتحرك، والهمام هو الدائم الهم الذي هو مقدم الإرادة، فكل إنسان حارث فاعل بإرادته، وكذلك مسبوق بإحساسه.
 
فحيوانية الإنسان ونطقه، كل منهما فيه ما يشترك مع الحيوان فيه، وفيه ما يختص به عن سائر الحيوان، وكذلك بناء بنيته، فإن نموه واغتذاءه وإن كان بينه وبين النبات فيه قدر مشترك، فليس مثله هو؛ إذ هذا يغتذي بما يلذ به ويسر نفسه، وينمو بنمو حسه وحركته وهمه وحرثه، وليس النبات كذلك.
 
وكذلك أصناف النوع وأفراده. فنطق العرب بتمييز قلوبهم وبيان ألسنتهم أكمل من نطق غيرهم، حتى ليكون في بني آدم من هو دون البهائم في النطق والتمييز، ومنهم من لا تدرك نهايته.
 
وهذا كله يبين أن اشتراك أفراد الصنف، وأصناف النوع، وأنواع الجنس والأجناس السافلة في مسمى الجنس الأعلى، لا يقتضي أن يكون المعنى المشترك فيها بالسواء، كما أنه ليس بين الحقائق الخارجة شيء مشترك، ولكن الذهن فَهِمَ معنى يوجد في هذا ويوجد نظيره في هذا. وقد تبين أنه ليس نظيرًا له على وجه المماثلة، لكن على وجه المشابهة، وأن ذلك المعنى المشترك هو في أحدهما على حقيقة تخالف حقيقة ما في الآخر.
 
ومن هنا يغلط القياسيون الذين يلحظون المعنى المشترك الجامع دون الفارق المميز.
 
والعرب من أصناف الناس، والمسلمون من أهل الأديان، أعظم الناس إدراكا للفروق، وتمييزًا للمشتركات. وذلك يوجد في عقولهم ولغاتهم وعلومهم وأحكامهم؛ ولهذا لما ناظر متكلمو الإسلام العرب هؤلاء المتكلمة الصابئة عجم الروم، وذكروا فضل منطقهم وكلامهم على منطق أولئك وكلامهم ظهر رُجْحَان كلام الإسلاميين، كما فعله القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة كثيرًا من مذاهبهم الفاسدة في الأفلاك والنجوم، والعقول والنفوس، وواجب الوجود وغير ذلك. وتكلم على منطقهم وتقسيمهم الموجودات، كتقسيمهم الموجود إلى الجوهر والعرض، ثم تقسيم الأعراض إلى المقولات التسعة، وذكر تقسيم متكلمة المسلمين الذي فيه من التمييز والجمع والفرق ما ليس في كلام أولئك.
 
وذلك أن الله علّم الإنسان البيان، كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } <ref>[الرحمن: 1-4]</ref>، وقال تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } <ref>[البقرة: 31]</ref>، وقال: { عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } <ref>[العلق: 5]</ref>، والبيان: بيان القلب واللسان، كما أن العمى والبكم يكون في القلب واللسان، كما قال تعالى: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } <ref>[البقرة: 18]</ref>، وقال: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } <ref>[البقرة: 171]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «هلا سألوا إذا لم يعلموا ؛ إنما شفاء العي السؤال»، وفي الأثر: العي عي القلب لا عي اللسان. أو قال: شر العي عي القلب، وكان [[ابن مسعود]] يقول: إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه.
 
وتبين الأشياء للقلب ضد اشتباهها عليه، كما قال {{صل}}: «الحلال بيِّن والحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات» الحديث. وقد قرئ قوله تعالى: { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } <ref>[الأنعام: 55]</ref> بالرفع والنصب، أي: ولتتبين أنت سبيلهم.
 
فالإنسان يستبين الأشياء. وهم يقولون: قد بان الشيء، وبينته، وتبين الشيء وتبينته، واستبان الشيء واستبنته، كل هذا يستعمل لازمًا ومتعديًا، ومنه قوله تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } <ref>[الحجرات: 6]</ref>، هو هنا متعد، ومنه قوله: { بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } <ref>[النساء: 19]</ref>، أي: متبينة. فهنا هو لازم. والبيان كالكلام، يكون مصدر بان الشيء بيانا، ويكون اسم مصدر لبين، كالكلام والسلام لسلم وبين فيكون البيان بمعنى تبين الشيء، ويكون بمعنى بينت الشيء، أي: أوضحته. وهذا هو الغالب عليه. ومنه قوله {{صل}}: «إن من البيان لسحرًا».
 
والمقصود ببيان الكلام حصول البيان لقلب المستمع، حتى يتبين له الشيء ويستبين؛ كما قال تعالى: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } الآية <ref>[آل عمران: 138]</ref>. ومع هذا، فالذي لا يستبين له كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } <ref>[فصلت: 44]</ref>، وقال: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } <ref>[النحل: 44]</ref>، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } <ref>[إبراهيم: 4]</ref>، وقال: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } <ref>[النور: 54]</ref>، وقال: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } <ref>[التوبة: 115]</ref>، وقال: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } <ref>[النساء: 176]</ref>، وقال: { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } الآية <ref>[الأنعام: 57]</ref>، وقال: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } <ref>[هود: 17]</ref>، وقال: { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } <ref>[النور: 34]</ref>، وقال: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } <ref>[النور: 61]</ref>.
 
فأما الأشياء المعلومة التي ليس في زيادة وصفها إلا كثرة كلام وتفيهق وتشدق وتكبر، والإفصاح بذكر الأشياء التي يستقبح ذكرها، فهذا مما ينهي عنه، كما جاء في الحديث: «إن الله يَبْغِضُ البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها»، وفي الحديث: «الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق»؛ ولهذا قال {{صل}}: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنّة من فقهه». وفي حديث سعد لما سمع ابنه أو لما وجد ابنه يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، قال: يابني، إني سمعت رسول الله {{صل}}، يقول: «سيكون قوم يعْتَدُون في الدعاء، فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن عذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر».
 
وعامة الحدود المنطقية هي من هذا الباب، حشو لكلام كثير، يبينون به الأشياء، وهي قبل بيانهم أبين منها بعد بيانهم. فهي مع كثرة ما فيها من تضييع الزمان وإتعاب الفكر واللسان لا توجب إلا العمى والضلال، وتفتح باب المراء والجدال ؛ إذ كل منهم يورد على حد الآخر من الأسئلة ما يفسد به، ويزعم سلامة حده منه، وعند التحقيق تجدهم متكافئين أو متقاربين، ليس لأحدهم على الآخر رجحان مبين، فإما أن يقبل الجميع أو يرد الجميع، أو يقبل من وجه ويرد من وجه.
 
هذا في الحدود التي تشترك في تمييز المحدود وفصله عما سواه، وأما متى أدخل أحدهما في الحد ما أخرجه الآخر، أو بالعكس، فالكلام في هذا علم يستفاد به حد الاسم ومعرفة عمومه وخصوصه، مثل الكلام في حد الخمر: هل هي عصير العنب المشتد، أم هي كل مسكر؟ وحد الغيبة ونحو ذلك.
 
وهذا هو الذي يتكلم فيه العلماء، كما قيل للنبي {{صل}}: ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره» الحديث، وكذلك قوله: «كل مسكر خمر»، وقول عمر على المنبر: الخمر ما خامر العقل. وكذلك قوله {{صل}}: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، فقال له رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون نعله حسنًا وثوبه حسنًا، أفمن الكبر ذلك؟ فقال: «لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطْر الحق وغمط الناس» ومنه تفسير الكلام وشرحه وبيانه.
 
فكل من شرح كلام غيره وفسره وبين تأويله، فلابد له من معرفة حدود الأسماء التي فيه.
 
فكل ما كان من حد بالقول فإنما هو حد للاسم، بمنزلة الترجمة والبيان. فتارة يكون لفظًا محضًا إن كان المخاطب يعرف المحدود، وتارة يحتاج إلى ترجمة المعنى وبيانه إذا كان المخاطب لم يعرف المسمى. وذلك يكون بضرب المثل، أو تركيب صفات، وذلك لا يفيد تصوير الحقيقة لمن لم يتصورها بغير الكلام فليعلم ذلك.
 
وأما ما يذكرونه من حد الشيء، أو الحد بحسب الحقيقة، أو حد الحقائق، فليس فيه من التمييز إلا ذكر بعض الصفات التي للمحدود، كما تقدم، وفيه من التخليط ما قد نبهنا على بعضه.
 
==مسألة في القياس==
 
وأما مسألة القياس فالكلام عليه في مقامين:
 
أحدهما: في القياس المطلق الذي جعلوه ميزان العلوم، وحرروه في المنطق.
 
والثاني: في جنس الأقيسة التي يستعملونها في العلوم.
 
أما الأول: فنقول: لا نزاع أن المقدمتين إذا كانتا معلومتين وألفتا على الوجه المعتدل، أنه يفيد العلم بالنتيجة، وقد جاء في صحيح مسلم مرفوعًا: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»، لكن هذا لم يذكره النبي {{صل}} ليستدل به على منازع ينازعه، بل التركيب في هذا كما قال أيضا في الصحيح: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» أراد أن يبين لهم أن جميع المسكرات داخلة في مسمى الخمر الذي حرمه الله، فهو بيان لمعنى الخمر، وهم قد علموا أن الله حرم الخمر وكانوا يسألونه عن أشربة من عصير العنب، كما في الصحيحين عن أبى موسى أنه {{صل}} سئل عن شراب يصنع من الذرة يسمى المزْر، وشراب يصنع من العسل يسمى البِتْع، وكان قد أوتي جوامع الكلم، فقال: «كل مسكر حرام». فأراد أن يبين لهم بالكلمة الجامعة وهي القضية الكلية أن «كل مسكر خمر»، ثم جاء بما كانوا يعلمونه من أن "كل خمر حرام" حتى يثبت تحريم المسكر في قلوبهم، كما صرح به في قوله: «كل مسكر حرام»، ولو اقتصر على قوله: «كل مسكر حرام»، لتأوله متأول على أنه أراد القدح الأخير كما تأوله بعضهم.
 
ولهذا قال أحمد: قوله: «كل مسكر خمر» أبلغ ؛ فإنهم لا يسمون القدح الأخير خمرًا، ولو قال: «كل مسكر خمر» فقط لتأوله بعضهم على أنه يشبه الخمر في التحريم، فلما زاد: «وكل خمر حرام» علم أنه أراد دخوله في اسم الخمر التي حرمها الله.
 
والغرض هنا أن صورة القياس المذكورة فطرية لا تحتاج إلى تعلم، بل هي عند الناس بمنزلة الحساب، ولكن هؤلاء يطولون العبارات ويغربونها.
 
وكذلك انقسام المقدمة التي تسمى القضية وهي الجملة الخبرية إلى خاص وعام، ومنفى ومثبت ونحو ذلك، وأن القضية الصادقة يصدق عكسها وعكس نقيضها، ويكذب نقيضها، وإن جملتها تختلف ونحو ذلك.
 
وكذلك تقسيم القياس إلى الحملي الإفرادي، والاستثنائي التلازمي والتعاندي وغير ذلك، غالبه وإن كان صحيحًا ففيه ما هو باطل. والحق الذي هو فيه، فيه من تطويل الكلام وتكثيره بلا فائدة، ومن سوء التعبير والعي في البيان، ومن العدول عن الصراط المستقيم القريب إلى الطريق المستدير البعيد، ما ليس هذا موضع بيانه.
 
فحقه النافع فطري لا يحتاج إليه، وما يحتاج إليه ليس فيه منفعة إلا معرفة اصطلاحهم وطريقهم أو خطئهم.
 
وهذا شأن كل ذي مقالة من المقالات الباطلة، فإنه لابد منه في معرفة لغته وضلاله، فاحتيج إليه لبيان ضلاله الذي يعرف به الموقنون حاله، ويستبين لهم ما بين الله من حكمه جزاءً وأمرًا؛ وأن هؤلاء داخلون فيما يذم به من تكلف القول الذي لا يفيد، وكثرة الكلام الذي لا ينفع.
 
والمقصود هنا ذكر وجوه:
 
الوجه الأول:
 
أن القياس المذكور لا يفيد علمًا إلا بواسطة قضية كلية موجبة. فلابد من كلية جامعة ثابتة في كل قياس. وهذا متفق عليه معلوم أيضا؛ ولهذا قالوا: لا قياس عن سالبتين، ولا عن جزئيتين. وإذا كان كذلك وجب أن تكون العلوم الكلية الكلمات الجامعة هي أصول الأقيسة والأدلة، وقواعدها التي تبني عليها وتحتاج إليها.
 
ثم قالوا: إن مبادئ القياس البرهاني هي العلوم اليقينية التي هي الحسيات الباطنة والظاهرة، والعقليات والبديهيات والمتواترات والمجربات، وزاد بعضهم: الحدسيات. وليس في شيء من الحسيات الباطنة والظاهرة قضايا كلية؛ إذ الحس الباطن والظاهر لا يدرك إلا أمورًا معينة لا تكون إلا إذا كان المخبر أدرك ما أخبر به بالحس، فهي تبع للحسيات. وكذلك التجربة إنما تقع على أمور معينة محسوسة. وإنما يحكم العقل على النظائر بالتشبيه، وهو قياس التمثيل، والحدسيات عند من يثبتها منهم من جنس التجريبيات.
 
لكن الفرق: أن التجربة تتعلق بفعل المجرب كالأطعمة والأشربة والأدوية، والحدس يتعلق بغير فعل، كاختلاف أشكال القمر عند اختلاف مقابلته للشمس، وهو في الحقيقة تجربة علمية بلا عمل، فالمستفاد به أيضا أمور معينة جزئية، لا تصير عامة إلا بواسطة قياس التمثيل.
 
وأما البديهيات وهي العلوم الأولية التي يجعلها الله في النفوس ابتداء بلا واسطة، مثل الحساب، وهي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين فإنها لا تفيد العلم بشيء معين موجود في الخارج، مثل الحكم على العدد المطلق والمقدار المطلق، وكالعلم بأن الأشياء المساوية لشيء واحد هي متساوية في أنفسها، فإنك إذا حكمت على موجود في الخارج لم يكن إلا بواسطة الحس مثل العقل، فإن العقل؛ إنما هو عقل ما علمته بالإحساس الباطن أو الظاهر بعقل المعاني العامة أو الخاصة.
 
فأما أن العقل الذي هو عقل الأمور العامة التي أفرادها موجودة في الخارج يحصل بغير حس، فهذا لا يتصور. وإذا رجع الإنسان إلى نفسه وجد أنه لا يعقل ذلك مستغنيًا عن الحس الباطن والظاهر لكليات مقدرة في نفسه، مثل الواحد، والاثنين، والمستقيم والمنحنى، والمثلث والمربع، والواجب والممكن والممتنع، ونحو ذلك مما يفرضه هو ويقدره. فأما العلم بمطابقة ذلك المقدر للموجود في الخارج والعلم بالحقائق الخارجية، فلابد فيه من الحس الباطن أو الظاهر. فإذا اجتمع الحس والعقل كاجتماع البصر والعقل أمكن أن يدرك الحقائق الموجودة المعينة ويعقل حكمها العام الذي يندرج فيه أمثالها لا أضدادها، ويعلم الجمع والفرق. وهذا هو اعتبار العقل وقياسه.
 
وإذا انفرد الإحساس الباطن أو الظاهر، أدرك وجود الموجود المعين. وإذا انفرد المعقول المجرد، علم الكليات المقدرة فيه التي قد يكون لها وجود في الخارج وقد لا يكون، ولا يعلم وجود أعيانها وعدم وجود أعيانها إلا بإحساس باطن أو ظاهر.
 
فإنك إذا قلت: موجود أن المائة عُشْر الألف لم تحكم على شيء في الخارج، بل لو لم يكن في العالم ما يعد بالمائة والألف لكنت عالما بأن المائة المقدرة في عقلك عشر الألف. ولكن إذا أحسست بالرجال والدواب والذهب والفضة، وأحسست بحسك أو بخبر من أحس أن هناك مائة رجل أو درهم، وهناك ألف ونحو ذلك، حكمت على أحد المعدودين بأنه عُشْر الآخر. فأما المعدودات فلا تدرك إلا بالحس، والعدد المجرد يعقل بالقلب، وبعقل القلب والحس، يعلم العدد والمعدود جميعًا، وكذلك المقادير الهندسية هي من هذا الباب.
 
فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة، ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار، لا في الأمور الخارجية الموجودة.
 
فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة ليست كلية، وهي الحس الباطن والظاهر، والتواتر والتجربة والحدس والذي يدرك الكليات البديهية الأولية، إنما يدرك أمورًا مقدرة ذهنية، لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج، والقياس لا يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية، فامتنع حينئذ أن يكون فيما ذكروه من صورة القياس ومادته حصول علم يقيني.
 
وهذا بين لمن تأمله، وبتحريره وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف، وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس.
 
فتدبر هذا، فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية، وبين الطريقة القياسية المنطقية الكلامية.
 
وقد تبين لك بإجماعهم وبالعقل أن القياس المنطقي لا يفيد إلا بواسطة قضية، وتبين لك أن القضايا التي هي عندهم مواد البرهان وأصوله ليس فيها قضية كلية للأمور الموجودة، وليس فيها ما تعلم به القضية الكلية إلا العقل المجرد الذي يعقل المقدرات الذهنية، وإذا لم يكن في أصول برهانهم علم بقضية عامة للأمور الموجودة لم يكن في ذلك علم.
 
وليس فيما ذكرناه ما يمكن النزاع فيه إلا القضايا البديهية، فإن فيها عمومًا، وقد يظن أنه به تعلم الأمور الخارجة، فيفرض أنها تفيد العلوم الكلية، لكن بقية المبادئ ليس فيها علم كلي.
 
فكان الواجب ألا يجعل مقدمة البرهان إلا القضايا العقلية البديهية المحضة؛ إذ هي الكلية. وأما بقية القضايا فهي جزئية، فكيف يصلح أن تجعل من مقدمات البرهان؟ إلا أن يقال: تعلم بها أمور جزئية وبالعقل أمور كلية، فبمجموعهما يتم البرهان، كما يعلم بالحس أن مع هذا ألف درهم ومع هذا ألفان، ويعلم بالعقل أن الاثنين أكثر من الواحد، فيعلم أن مال هذا أكثر.
 
فيقال: هذا صحيح، لكن هذا إنما يفيد قضية جزئية معينة، وهو كون مال هذا أكثر من مال هذا. والأمور الجزئية المعينة لا تحتاج في معرفتها إلى قياس، بل قد تعلم بلا قياس، وتعلم بقياس التمثيل، وتعلم بالقياس عن جزئيتين، فإنك تعلم بالحس أن هذا مثل هذا، وتعلم أن هذا من نعته كيت وكيت، فتعلم أن الآخر مثله، وتعلم أن حكم الشيء حكم مثله. وكذلك قد يعلم أن زيدًا أكبر من عمرو، وعمرًا أكبر من خالد، وأمثال هذه الأمور المعينة التي تعلم بدون قياس الشمول الذي اشترطوا فيه ما اشترطوا.
 
فقد تبين أن هذا القياس العقلي المنطقي الذي وضعوه وحددوه لا يعلم بمجرده شيء من العلوم الكلية الثابتة في الخارج، فبطل قولهم: إنه ميزان العلوم الكلية البرهانية، ولكن يعلم به أمور معينة شخصية جزئية، وتلك تعلم بغيره أجود مما تعلم به. وهذا هو:
 
الوجه الثاني:
 
فنقول: أما الأمور الموجودة المحققة فتعلم بالحس الباطن والظاهر، وتعلم بالقياس التمثيلي، وتعلم بالقياس الذي ليس فيه قضية كلية ولا شمول ولا عموم بل تكون الحدود الثلاثة فيه الأصغر والأوسط والأكبر أعيانًا جزئية، والمقدمتان والنتيجة قضايا جزئية. وعلم هذه الأمور المعينة بهذه الطرق أصح وأوضح وأكمل؛ فإن من رأى بعينه زيدًا في مكان وعمرًا في مكان آخر، استغنى عن أن يستدل على ذلك بكون الجسم الواحد لا يكون في مكانين، وكذلك من وزن دراهم كل منها ألف درهم، استغنى عن أن يستدل على ألف درهم منها بأنها مساوية للصنجة، وهي شيء واحد، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وأمثال ذلك كثير؛ ولهذا يسمى هؤلاء أهل كلام أي لم يفيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما ضربوه من القياس؛ لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس، كما سنذكره إن شاء الله.
 
وكذلك إذا علم الإنسان أن هذا الدينار مثل هذا، وهذا الدرهم مثل هذا، وأن هذه الحنطة والشعير مثل هذا، ثم علم شيئًا من صفات أحدهما وأحكامه الطبيعية، مثل الاغتذاء والانتفاع، أو العادية مثل القيمة والسعر، أو الشرعية مثل الحل والحرمة علم أن حكم الآخر مثله.
 
فأقيسة التمثيل تفيد اليقين بلا ريب، أعظم من أقيسة الشمول، ولا يحتاج مع العلم بالتماثل إلى أن يضرب لهما قياس شمول، بل يكون من زيادة الفضول.
 
وبهذا الطريق عرفت القضايا الجزئية بقياس التمثيل.
 
ومن قال: إن ذلك بواسطة قياس شمول ينعقد في النفس، وهو أن هذا لو كان اتفاقيًا لما كان أكثريًا، فقد قال الباطل؛ فإن الناس العالمين بما جربوه لا يخطر بقلوبهم هذا، ولكن بمجرد علمهم بالتماثل يبادرون إلى التسوية في الحكم؛ لأن نفس العلم بالتماثل يوجب ذلك بالبديهة العقلية، فكما علم بالبديهة العقلية أن الواحد نصف الاثنين، علم بها أن حكم الشيء حكم مثله، وأن الواحد مثل الواحد، كما علم أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.
 
فالتماثل والاختلاف في الصفة أو القدر قد يعلم بالإحساس الباطن والظاهر، والعلم بأن المثلين سواء، وأن الأكثر والأكبر أعظم وأرجح، يعلم ببديهة العقل.
 
وكذلك القياس المؤلف من قضايا معينة، مثل العلم بأن زيدًا أخو عمرو، وعمرو أخو بكر، فزيد أخو بكر. ومثل العلم بأن أبا بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان وعلي، فأبو بكر أفضل من عثمان وعلي. وأن المدينة أفضل من بيت المقدس والمدينة لا يجب أن يحج إليها، فبيت المقدس لا يحج إليه. وقبر الرسول {{صل}} أفضل القبور، ولا يشرع استلامه ولا تقبيله، فقبر فلان وفلان وفلان لا يشرع استلامه ولا تقبيله، وأمثال هذه الأقيسة ملء العالم. وهذا أبلغ في إفادة حكم المعين من ذكر العام. فدلالة الاسم الخاص على المعين أبلغ من الدلالة عليه بالاسم العام، وإن كان في العام أمور أخرى ليست في الخاص.
 
فتبين أن المعلوم من الأمور المعينة يعلم بالحس وبقياس التمثيل والأقيسة المعينة أعظم مما يعلم أعيانها بقياس الشمول، فإذا كان قياس الشمول الذي حرروه لا يفيد الأمور الكلية، كما تقدم، ولا تحتاج إليه الأمور المعينة، كما تبين، لم يبق فيه فائدة أصلًا، ولم يحتج إليه في علم كلي، ولا علم معين، بل صار كلامهم في القياس الذي حرروه كالكلام في الحدود، وهذا هذا، فتدبره فإنه عظيم القدر.
 
الوجه الثالث:
 
أن يقال: إذا كان لابد في القياس من قضية كلية والحس لا يدرك الكليات، وإنما تدرك بالعقل. ولا يجوز أن تكون معلومة بقياس آخر، لما يلزم من الدور أو التسلسل، فلابد من قضايا كلية تعقل بلا قياس، كالبديهيات التي جعلوها.
 
فنقول: إذ وجب الاعترف بأن من العلوم الكلية العقلية ما يبتدئ في النفوس ويبدهها بلا قياس، وجب الجزم بأن العلوم الكلية العقلية قد تستغني عن القياس، وهذا مما اعترفوا به هم وجميع بني آدم؛ أن من التصور والتصديق ما هو بديهي لا يحتاج إلى كسب بالحد والقياس، وإلا لزم الدور أو التسلسل.
 
وإذا كان كذلك، فنقول: إذا جاز هذا في علم كلي، جاز في آخر؛ إذ ليس بين ما يمكن أن يعلم ابتداء من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يعلم فصل يطرد، بل هذا يختلف باختلاف قوة العقل وصفائه، وكثرة إدراك الجزئيات التي تعلم بواسطتها الأمور الكلية، فما من علم من الكليات إلا وعلمه يمكن بدون القياس المنطقي، فلا يجوز الحكم بتوقف شيء من العلوم الكلية عليه، وهذا يتبين ب:
 
الوجه الرابع:
 
وهو أن نقول: هب أن صورة القياس المنطقي ومادته تفيد علومًا كلية، لكن من أين يعلم أن العلم الكلي لا ينال حتى يقول هؤلاء المتكلفون القافون ما ليس لهم به علم، هم ومن قلدهم من أهل الملل وعلمائهم: إن ما ليس ببديهي من التصورات والتصديقات لا يعلم إلا بالحد والقياس، وعدم العلم ليس علما بالعدم. فالقائل لذلك لم يمتحن أحوال نفسه، ولو امتحن أحوال نفسه لوجد له علومًا كلية بدون القياس المنطقي، وتصورات كثيرة بدون الحد. وإن علم ذلك من نفسه أو بني جنسه، فمن أين له أن جميع بني آدم- مع تفاوت فطرهم وعلومهم ومواهب الحق لهم - هم بمنزلته، وأن الله لا يمنح أحدًا علمًا إلا بقياس منطقي ينعقد في نفسه، حتى يزعم هؤلاء أن الأنبياء كانوا كذلك، بل صعدوا إلى رب العالمين، وزعموا أن علمه بأمور خلقه إنما هو بواسطة القياس المنطقي. وليس معهم بهذا النفي الذي لم يحيطوا بعلمه من حجة إلا عدم العلم، فيدعون العلم، وقد تكلموا بهذه القضية الكلية السالبة التي تعم ما لا يحصى عدده إلا الله بلا علم لهم بها أصلا. ويزيد هذا بيانا:
 
الوجه الخامس:
 
وهو أن المبادئ المذكورة التي جعلوها مفيدة لليقين وهي الحسيات الباطنة والظاهرة، والبديهيات والتجريبيات والحدسيات لا ريب أنها تفيد اليقين الحسي، فمن أين لهم أن اليقين لا يحصل بغيرها؟ لابد من دليل على النفي، حتى يصح قولهم: لا يحصل اليقين بدونها.
 
فهذا صحيح، لكنه ليس هو قول رؤوسهم.
 
ولا ريب أن من له عقل وإيمان، يجب أن يخالفهم في تكذيبهم بالحق الخارج عن هذا الطريق.
 
ومن هذا الموضع صار منافقًا وتزندق من نافق منهم، وصار عند عقلاء الناس من أهل الملل وغيرهم أن المنطق مظنة التكذيب بالحق والعناد والزندقة والنفاق، حتى حكى لنا بعض الناس: أن شخصًا من الأعاجم جاء ليقرأ على بعض شيوخهم منطقًا، فقرأ منه قطعة، ثم قال: حواجًا، أي باب ترك الصلاة؟ فضحكوا منه.
 
وهذا موجود بالاستقراء أن من حسن الظن بالمنطق وأهله إن لم يكن له مادة من دين وعقل يستفيد بها الحق الذي ينتفع به، وإلا فسد عقله ودينه.
 
ولهذا يوجد فيهم من الكفر والنفاق والجهل والضلال وفساد الأقوال والأفعال ما هو ظاهر لكل ناظر من الرجال؛ ولهذا كان أول من خلطه بأصول الفقه ونحوه من العلوم الإسلامية كثير الاضطراب.
 
فإنه كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطق كالحساب ونحوه، مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه.
 
فهذا كلام من رأى ظاهره وما فيه من الكلام على الأمور المفردة لفظًا ومعنى، ثم على تأليف المفردات، وهو القضايا ونقيضها وعكسها المستوي وعكس النقيض، ثم على تأليفها بالحد والقياس، وعلى مواد القياس، وإلا فالتحقيق: أنه مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوي باطلة كثيرة، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
 
وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله محمد، الداعي إلى الهدى والرشاد، وعلى آله ومن اتبع هداه.
 
==قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني==
 
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه:
 
أما بعد:
 
فإني كنت دائمًا أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد. ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأينا من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئًا، ولما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرت له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل، واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة.
 
ولم يكن ذلك من همتي؛ لأن همتي كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات، وتبين لي أن كثيرًا مما ذكروه في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات، مثل ما ذكروه من تركيب الماهيات من الصفات التي سموها ذاتيات، وما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانيات، بل ما ذكروه من الحدود التي بها تعرف التصورات، بل ما ذكروه من صور القياس ومواده اليقينيات.
 
فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته؛ إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق فأذنت في ذلك؛ لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فتح من باب الرد عليهم يحتمل أضعاف ما علقته.
 
فاعلم أنهم بنوا المنطق على الكلام في الحد ونوعه، والقياس البرهاني ونوعه. قالوا: لأن العلم إما تصور وإما تصديق، فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد، والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس. فنقول:
 
==الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين==
 
الكلام في أربع مقامات: مقامين سالبين، ومقامين موجبين.
 
فالأولان: أحدهما: في قولهم: إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد.
 
والثاني: أن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس.
 
والآخران: في أن الحد يفيد العلم بالتصورات، وأن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات.
 
==المقام الأول==
 
المقام الأول:
 
في قولهم: إن التصور لا ينال إلا بالحد، والكلام عليه من وجوه:
 
الأول: لا ريب أن النافي عليه الدليل كالمثبت، والقضية سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية لابد لها من دليل، وأما السلب بلا علم، فهو قول بلا علم، فقولهم: لا تحصل التصورات إلا بالحد، قضية سالبة وليست بديهية، فمن أين لهم ذلك؟ وإذا كان هذا قولا بلا علم، وهو أول ما أسسوه، فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون أنها آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكره؟
 
الثاني: أن يقال: الحد يراد به نفس المحدود وليس مرادهم هنا. ويراد به القول الدال على ماهية المحدود، وهو مرادهم هنا. وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال. فيقال: إذا كان الحد قول الحاد، فالحاد إما أن يكون عرف المحدود بحد أو بغير حد؛ فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول وهو مستلزم للدور أو التسلسل، وإن كان الثاني، بطل سلبهم، وهو قولهم: إنه لا يعرف إلا بالحد.
 
الثالث: أن الأمم جميعهم من أهل العلوم والمقالات وأهل الأعمال والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد، ولا نجد أحدًا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود: لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب، ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات علمهم، فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود.
 
الرابع: إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم، بل أظهر الأشياء الإنسان وحده بالحيوان الناطق، عليه الاعتراضات المشهورة وكذا حد الشمس وأمثاله، حتى إن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود، ذكروا للاسم بضعة وعشرين حدًا، وكلها معترضة على أصلهم. والأصوليون ذكروا للقياس بضعة وعشرين حدًا، وكلها أيضا معترضة. وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة وأهل الأصول والكلام معترضة لم يسلم منها إلا القليل، فلو كان تصور الأشياء موقوفًا على الحدود، ولم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئًا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور. فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق، فلا يكون عند بني آدم علم من عامة علومهم، وهذا من أعظم السفسطة.
 
الخامس: أن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة، وهو المركب من الجنس والفصل وهذا الحد إما متعذر أو متعسر كما قد أقروا بذلك؛ وحينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائما أو غالبًا. وقد تصورت الحقائق، فعلم استغناء التصور عن الحد.
 
السادس: أن الحدود عندهم إنما تكون للحقائق المركبة، وهي الأنواع التي لها جنس وفصل، فأما ما لا تركيب فيه، وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس، كما مثله بعضهم بالعقل، فليس له حد وقد عرفوه، وهو من التصورات المطلوبة عندهم، فعلم استغناء التصور عن الحد، بل إذا أمكن معرفة هذا بلا حد، فمعرفة تلك الأنواع أولى؛ لأنها أقرب إلى الجنس وأشخاصها مشهورة.
 
وهم يقولون: إن التصديق لا يتوقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي، بل يكفي فيه أدنى تصور ولو بالخاصة، وتصور العقل من هذا الباب، وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يتوقف على الحد الحقيقي.
 
السابع: أن سامع الحد إن لم يكن عارفًا قبل ذلك بمفردات ألفاظه ودلالتها على معانيها المفردة، لم يمكنه فهم الكلام، والعلم بأن اللفظ دال على المعنى وموضوع له مسبوق بتصور المعنى، وإن كان متصورًا لمسمى اللفظ ومعناه قبل سماعه، امتنع أن يقال: إنما تصوره بسماعه.
 
الثامن: إذا كان الحد قول الحاد، فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ، فإن المتكلم قد يصور معنى ما يقوله بدون لفظ، والمستمع يمكنه ذلك من غير مخاطب بالكلية فكيف يقال: لا تتصور المفردات إلا بالحد؟
 
التاسع: أن الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات، أو الباطنة كالجوع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهة وأمثال ذلك، وكلها غنية عن الحد.
 
العاشر: أنهم يقولون للمعترض أن يطعن على الحد بالنقض في الطرد أو في المنع وبالمعارضة بحد آخر، فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقض تارة وبالمعارضة أخرى، ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود، علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب.
 
الحادي عشر: أنهم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد، وحينئذ فيقال: كون العلم بديهيا أو نظريا من الأمور النسبية الإضافية، فقد يكون النظري عند رجل بديهيا عند غيره لوصوله إليه بأسبابه من مشاهدة أو تواتر أو قرائن. والناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتًا لا ينضبط فقد يصير البديهي عند هذا دون ذاك بديهيا كذلك أيضا بمثل الأسباب التي حصلت لهذا ولا يحتاج إلى حد.
 
==المقام الثاني==
 
المقام الثاني:
 
وهو الحد يفيد تصور الأشياء فنقول:
 
المحققون من النظار على أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود، وتعريف حقيقته. وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليونانيون، أتباع أرسطو، ومن سلك سبيلهم تقليدًا لهم من الإسلاميين وغيرهم. فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلي خلاف هذا، وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة، وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني. وأما سائر النظار من جميع الطوائف الأشعرية، والمعتزلة والكرّامية والشيعة وغيرهم، فعندهم إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره، وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فُورَك والقاضي أبي يعلي وابن عقيل وإمام الحرمين والنسفي وأبي على وأبي هاشم وعبد الجبار والطوسي ومحمد بن الهيصم وغيرهم.
 
ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد، لا ريب أنهم وضعوها وضعًا، وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع، وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم. وهم إذا تدبروا، وجدوا أنفسهم يعلمون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية.
 
ثم إن هذه الصناعة الوضعية زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها، وكلا هذين غلط، ولما راموا ذلك، لم يكن بُدٌّ من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض؛ إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيًا، فلابد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم، وما ليس كذلك. فأدى ذلك إلى التفريق بين المتماثلات، حيث جعلوا صفة ذاتية دون أخرى، مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات ممتنع، وبين المتقاربات عسر. فالمطلوب إما متعذر أو متعسر، فإن كان متعذرًا بطل بالكلية، وإن كان متعسرًا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله، فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه على التقديرين، فليس ما وضعوه من الحد طريقًا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان قد يفيد من تمييز المحدود ما تفيده الأسماء.
 
وقد تفطن الفخر الرازي لما عليه أئمة الكلام وقرر في محصله وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة. وهذا هو حقيقة قولنا: إن الحد لا يفيد تصور المحدود.
 
وهذا مقام شريف، ينبغي أن يعرف؛ فإنه لسبب إهماله دخل الفساد في العقول أو الأديان على كثير من الناس، إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت بها الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصاري وسائر العلوم؛ الطب والنحو وغير ذلك، وصاروا يعظمون أمر الحدود، ويزعمون أنهم هم المحققون لذلك، وأن ما ذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية، لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم، ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة. وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، وشغل النفوس بما لا ينفعها، بل قد يصدها عما لابد منه. وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعت أنه أصل المعرفة والتحقيق، وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه، وإن كان الذي ينهى عنه السلف خيرًا وأحسن من هذا؛ إذ هو كلام في أدلة وأحكام.
 
ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين، كما جد في ذلك متأخروهم، الذين ظنوا ذلك من التحقيق، وإنما هو زيغ عن سواء الطريق؛ ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها، لا تفيد الإنسان علمًا لم يكن عنده، وإنما تفيده كثرة كلام سموهم: أهل الكلام. وهذا لعمري في الحدود التي ليس فيها باطل، فأما حدود المنطقيين التي يدعون أنهم يصورون بها الحقائق، فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين، ويفرقون بين المتماثلين.
 
والدليل على أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق من وجوه:
 
أحدها: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه، فقوله مثلا: حد الإنسان حيوان ناطق، قضية خبرية، ومجرد دعوى خلية عن حجة، فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول أو لا، فإن كان الأول، ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد. وإن كان الثاني عنده، فمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، وكيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله، فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة المحدود.
 
فإن قيل: يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسؤول عنه مثلا أو غيره.
 
قلنا: فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه، وهو دلالة الاسم على مسماه، وهذا تحقيق ما قلناه: من أن دلالة الحد كدلالة الاسم، ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره دون ذلك بلا نزاع، فكذلك الحد.
 
الثاني: أنهم يقولون: الحد لا يمنع ولا يقام عليه دليل، وإنما يمكن إبطاله بالنقض والمعارضة. فيقال: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد، امتنع أن يعرف المستمع المحدود به، إذا جوز عليه الخطأ، فإنه إذا لم يعرف صحة الحد بقوله، وقوله محتمل الصدق والكذب، امتنع أن يعرفه بقوله.
 
ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية، ويجعلون العلم بالمفرد أصل العلم بالمركب، ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل، وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي، يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب. ثم يعيبون على من يعتمد على الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني، زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وخبر الواحد وإن لم يفد العلم، لكن هذا بعينه قولهم في الحد، فإنه خبر واحد لا دليل على صدقه، بل ولا يمكن عندهم إقامة الدليل على صدقه، فلم يكن الحد مفيدًا لتصور المحدود. ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد، وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده، وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصور وهذا بَيِّن.
 
وتلخيصه: أن تصور المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد، وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر، فلا يعلم المحدود بالحد.
 
الثالث: أن يقال: لو كان الحد مفيدًا لتصور المحدود، لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد. فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن يعلم المعرف المحدود قبل العلم بصحة المعرف، والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود؛ إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبر عنه من غير تقليد للخبر، وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر، والمخبر ليس هو من باب الإخبار عن الأمور الغائبة.
 
الرابع: أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية والعرضية، ويسمونها أجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها، ونحو ذلك من العبارات، فإن لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع تصوره، وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد، فثبت أنه على التقديرين لا يكون قد تصوره بالحد، وهذا بين.
 
فإنه إذا قيل: الإنسان هو الحيوان الناطق، ولا يعلم أنه الإنسان، احتاج إلى العلم بهذه النسبة، وإن لم يكن متصورًا لمسمى الحيوان الناطق احتاج إلى شيئين: تصور ذلك، والعلم بالنسبة المذكورة، وإن عرف ذلك كان قد تصور الإنسان بدون الحد، نعم الحد قد ينبه على تصور المحدود، كما ينبه الاسم، فإن الذهن قد يكون غافلا عن الشيء، فإذا سمع اسمه وحده أقبل بذهنه إلى الشيء الذي أشير إليه بالاسم أو الحد، فيتصوره، فتكون فائدة الحد من جنس فائدة الاسم، وتكون الحدود للأنواع بالصفات كالحدود للأعيان بالجهات. كما إذا قيل: حد الأرض من الجانب القبلي كذا، ومن الجانب الشرقي كذا، ميزت الأرض باسمها وحدها، وحد الأرض يحتاج إليه إذا خيف من الزيادة في المسمى أو النقص منه، فيفيد إدخال المحدود جميعه وإخراج ما ليس منه كما يفيد الاسم، وكذلك حد النوع، وهذا يحصل بالحدود اللفظية تارة، وبالوضعية أخرى. وحقيقة الحد في الموضعين بيان مسمى الاسم فقط، وتمييز المحدود عن غيره، لا تصور المحدود.
 
وإذا كان فائدة الحد بيان مسمى الاسم، والتسمية أمر لغوي وضعي، رجع في ذلك إلى قصد ذلك المسمى ولغته؛ ولهذا يقول الفقهاء: من الأسماء ما يعرف حده بالشرع، ومنها ما يعرف حده بالعرف.
 
ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبيين مراد المتكلم، فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه، وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره، فإنه يحتاج إلى معرفة دليل بصحته. فالأول فيه بيان تصوير كلامه أو تصوير كلامه لتصوير مسميات الأسماء بالترجمة: تارة لمن يكون قد تصور المسمى، ولم يعرف أن ذلك اسمه، وتارة لمن لم يكن قد تصور المسمى فيشار إلى المسمى بحسب الإمكان، إما إلى عينه، وإما إلى نظيره؛ ولهذا يقال: الحد تارة يكون للاسم، وتارة يكون للمسمى.
 
وأئمة المصنفين في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون عند التحقيق بهذا، كما ذكره الغزالي في كتاب المعيار الذي صنفه في المنطق، وكذا يوجد في كلام ابن سينا والرازي والسهروردي وفي غيرهم: أن الحدود فائدتها من جنس فائدة الأسماء، وأن ذلك من جنس الترجمة بلفظ عن لفظ. ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما، بل تفسير القرآن وغيره من أنواع الكلام، هو في أول درجاته من هذا الباب، فإن المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء، وبذلك الكلام.
 
وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية، مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة، بل في قراءة جميع الكتب، بل في جميع أنواع المخاطبات. فإن من قرأ كتب النحو، أو الطب، أو غيرهما لابد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء، ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف، وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك، وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله تعالى وسنة رسوله {{صل}}، ثم قد تكون معرفتها فرض عين، وقد تكون فرض كفاية؛ ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله: { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } <ref>[التوبة: 97]</ref>، والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريبًا بالنسبة إلى المستمع كلفظ: { ضِيزَى } <ref>[النجم: 22]</ref>، و { قَسْوَرَةٍ } <ref>[المدثر: 51]</ref>، و { عَسْعَسَ } <ref>[التكوير: 17]</ref>، وأمثال ذلك. وقد يكون مشهورًا لكن لا يعلم حده، بل يعلم معناه على سبيل الإجمال؛ كاسم الصلاة، والزكاة والصيام والحج، فتبين أن تعريف الشيء إنما هو بتعريف عينه أو ما يشبهه فمن عرف عين الشيء لا يفتقر في معرفته إلى حد، ومن لم يعرفه، فإنما يعرف به إذا عرف ما يشبهه ولو من بعض الوجوه، فيؤلف له من الصفات المشتبهة المشتركة بينه وبين غيره ما يخص المعرف، ومن تدقق هذا وجد حقيقته، وعلم معرفة الخلق بما أخبروا به من الغيب من الملائكة، واليوم الآخر، وما في الجنة والنار من أنواع النعيم والعذاب، وبطل قولهم في الحد.
 
الخامس: أن التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة، فيمتنع أن يعلم بالحد؛ لأن الذهن إن كان شاعرًا بها امتنع الطلب؛ لأن تحصيل الحاصل ممتنع، وإن لم يكن شاعرًا بها امتنع من النفس طلب ما لا تشعر به، فإن الطلب والقصد مسبوق بالشعور.
 
فإن قيل: فالإنسان يطلب تصور الملك والجن والروح وأشياء كثيرة، وهو لا يشعر بها. قيل: قد سمع هذه الأسماء، فهو يطلب تصور مسماها، كما يطلب من سمع ألفاظًا لا يفهم معانيها تصور معانيها، وهو إذا تصور مسمى هذه الأسماء فلابد أن يعلم أنها مسماة بهذا الاسم؛ إذ لو تصور حقيقة، ولم يكن ذلك الاسم فيها، لم يكن تصور مطلوبه، فهنا المتصور ذات وأنها مسماة بكذا، وهذا ليس تصورًا بالمعنى فقط، بل للمعنى ولاسمه، وهذا لا ريب أنه يكون مطلوبًا، ولكن لا يوجب أن يكون المعنى المفرد مطلوبًا.
 
وأيضا، فإن المطلوب هنا لا يحصل بمجرد الحد، بل لابد من تعريف المحدود بالإشارة إليه أو غير ذلك، مما لا يكتفى فيه بمجرد اللفظ، وإذا ثبت امتناع الطلب للتصورات المفردة، فإما أن تكون حاصلة للإنسان، فلا تحصل بالحد، فلا يفيد الحد التصور، وإما ألا تكون حاصلة، فمجرد الحد لا يوجب تصور المسميات لمن لا يعرفها، ومتى كان له شعور بها لم يحتج إلى الحد في ذلك الشعور إلا من جنس ما يحتاج إلى الاسم، والمقصود هو التسوية بين فائدة الحد وفائدة الاسم.
 
السادس: أن يقال: المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد العام المؤلف من الذاتيات، دون العرضيات. ومبنى هذا الكلام على الفرق بين الذاتي والعرضي، وهم يقولون: الذاتي ما كان داخل الماهية، والعرضي ما كان خارجًا عنها، وقسموه إلى لازم للماهية، ولازم لوجودها.
 
وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على أصلين فاسدين: الفرق بين الماهية ووجودها، ثم الفرق بين الذاتي لها واللازم لها.
 
فالأصل الأول: قولهم: إن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها، وهذا شبيه بقول من يقول: المعدوم شيء، وهو من أفسد ما يكون. وأصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد، ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك، فقالوا: لو لم يكن ثابتًا لما كان كذلك. كما أنا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فتخيل الغالط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج.
 
والتحقيق: أن ذلك كله أمر ثابت في الذهن. والمقدر في الأذهان أوسع من الموجود في الأعيان، وهو موجود وثابت في الذهن، وليس هو في نفس الأمر لا موجودًا ولا ثابتًا، فالتفريق بين الوجود والثبوت وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم.
 
وهؤلاء ظنوا أن الحقائق النوعية كحقيقة الإنسان والفرس وأمثال ذلك ثابتة في الخارج غير الأعيان الموجودة في الخارج، وأنها أزلية لا تقبل الاستحالة وهذه التي تسمى: المثل الأفلاطونية. ولم يقتصروا على ذلك؛ بل أثبتوا أيضا ذلك في المادة والماهية والمكان، فأثبتوا مادة مجردة عن الصور، ثابتة في الخارج: وهي الهيولي الأولية التي بنوا عليها قدم العالم، وغلطهم فيها جمهور العقلاء. والكلام على من فرق بين الوجود والماهية مبسوط في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا التنبية على أن ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الماهية ووجودها في الخارج هو مبني على هذا الأصل الفاسد. وحقيقة الفرق الصحيح أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء، والوجود ما يكون في الخارج منه، وهذا فرق صحيح؛ فإن الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيه. وأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهو باطل.
 
والأصل الثاني: وهو الفرق بين اللازم للماهية والذاتي لا حقيقة له، فإنه إن جعلت الماهية التي في الخارج مجردة عن الصفات اللازمة، وأمكن أن يجعل الوجود الذي في الخارج مجردًا عن هذه الصفات اللازمة وإن جعل هذا هو نفس الماهية بلوازمها، كان هذا بمنزلة أن يقال: هذا الوجود بلوازمه وهما باطلان، فإن الزوجية والفردية للعدد مثلا، مثل الحيوانية والنطق للإنسان، وكلاهما إذا خطر بالبال منه الموصوف مع الصفة لم يمكن تقدير الموصوف دون الصفة، وما ذكروه من أن ما جعلوه هو الذاتي يتقدم بصورة في الذهن، فباطل من وجهين: أحدهما: أن هذا خبر عن وضعهم؛ إذ هم يقدمون هذا في أذهانهم ويؤخرون هذا، وهذا حكم محض. وكل من قدم هذا دون ذا، فإنما قلدهم في ذلك.
 
ومعلوم أن الحقائق الخارجية المستغنية عنا لا تكون تابعة لتصوراتنا، فليس إذا فرضنا هذا مقدما، وهذا مؤخرًا، يكون هذا في الخارج كذلك. وسائر بني آدم الذين يقلدونهم في هذا الموضع لا يستحضرون هذا التقديم والتأخير، ولو كان هذا فطريًا كانت الفطرة تدركه بدون التقليد، كما تدرك سائر الأمور الفطرية. والذي في الفطرة أن هذه اللوازم كلها لوازم للموصوف وقد يخطر بالبال، وقد لا يخطر. أما أن يكون هذا خارجًا عن الذات، وهذا داخلا في الذات، فهذا تحكم محض ليس له شاهد لا في الخارج ولا في الفطرة.
 
والثاني: أن كون الوصف ذاتيًا للموصوف، هو أمر تابع لحقيقته التي هو بها سواء تصورته أذهاننا، أو لم تتصوره، فلابد إذا كان أحد الوصفين ذاتيًا دون الآخر أن يكون الفرق بينهما أمرًا يعود إلى حقيقتهما الخارجة الثابتة بدون الذهن، وإما أن يكون بين الحقائق الخارجية ما لا حقيقة له إلا مجرد التقدم والتأخر في الذهن، فهذا لا يكون إلا أن تكون الحقيقة والماهية هي ما يقدر في الذهن لا ما يوجد في الخارج. وذلك أمر يتبع تقدير صاحب الذهن، وحينئذ فيعود حاصل هذا الكلام إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج وهي التخيلات والتوهمات الباطلة، وهذا كثير في أصولهم.
 
السابع: أن يقال: هل يشترطون في الحد التام وكونه يفيد تصور الحقيقة أن تتصور جميع صفاته الذاتية المشتركة بينه وبين غيره أم لا؟. فإن شرطوا، لزم استيعاب جميع الصفات. وإن لم يشترطوا واكتفوا بالجنس القريب دون غيره فهو تحكم محض، وإذا عارضهم من يوجب ذكر جميع الأجناس، أو يحذف جميع الأجناس، لم يكن لهم جواب، إلا أن هذا وضعهم واصطلاحهم. ومعلوم أن العلوم الحقيقية لا تختلف باختلاف الأوضاع، فقد تبين أن ما ذكروه هو من باب الوضع والاصطلاح الذي جعلوه من باب الحقائق الذاتية والمعارف، وهذا عين الضلال والإضلال كمن يجىء إلى شخصين متماثلين فيجعل هذا مؤمنًا وهذا كافرًا، وهذا عالمًا وهذا جاهلا، وهذا سعيدًا وهذا شقيًا، من غير افتراق بين ذاتيهما بل بمجرد وضعه واصطلاحه. فهم مع دعواهم القياس العقلي يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات.
 
الثامن: أن اشتراطهم ذكر الفصول المميزة مع تفريقهم بين الذاتي والعرضي غير ممكن؛ إذ ما من مميز هو من خواص المحدود المطابقة له في العموم والخصوص إلا ويمكن الآخر أن يجعله عرضىًا لازمًا للماهية.
 
التاسع: أن فيما قالوه دورًا فلا يصح؛ وذلك أنهم يقولون: إن المحدود لا يتصور إلا بذكر صفاته الذاتية. ثم يقولون: الذاتي هو ما لا يمكن تصور الماهية بدون تصوره، فإذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية، ولا يعرف أن الصفة ذاتية حتى يتصور الموصوف الذي هو المحدود، ولا يتصور الموصوف حتى يتصور الصفات الذاتية ويميز بينها وبين غيرها، فتتوقف معرفة الذات على معرفة الذاتيات ويتوقف معرفة الذاتيات على معرفة الذات، فلا يعرف هو ولا تعرف الذاتيات. وهذا كلام متين يجتاح أصل كلامهم، ويبين أنهم متحكمون فيما وضعوه لم يبنوه على أصل علمي تابع للحقائق، لكن قالوا: هذا ذاتي، وهذا غير ذاتي بمجرد التحكم، ولم يعتمدوا على أمر يمكن الفرق به بين الذاتي وغيره، فإذا لم يعرف المحدود إلا بالحد، والحد غير ممكن لم يعرف، وذلك باطل.
 
العاشر: أنه يحصل بينهم في هذا الباب نزاع لا يمكن فصله على هذا الأصل، وما استلزم تكافؤ الأدلة فهو باطل.
 
==فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس==
 
قولهم: إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس الذي ذكروا صورته ومادته، قضية سلبية، ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا عليها دليلًا أصلًا. وصاروا مدعين ما لم يثبتوه قائلين بغير علم؛ إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم، فمن أين لهم أنه لا يمكن أحدًا من بني آدم أن يعلم شيئًا من التصديقات التي ليست بديهة عندهم إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته؟
 
ثم هم معترفون بما لابد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري، وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي، وحينئذ فيأتي ما تقدم في التصورات من أن الفرق بينهما إنما هو بالنسبة والإضافة، فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غيره. والبديهي من التصديقات، ما يكفي تصور طرفيه موضوعه ومحموله في حصول تصديقه، فلا يتوقف على وسط يكون بينهما، وهو الدليل الذي هو الحد الأوسط سواء كان تصور الطرفين بديهيا أم لا، ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان.
 
فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة، وحينئذ فيتصور الطرفين تصورًا تامًا بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره، وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض أمر بين، فإن كثيرًا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة، وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال؛ ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره، ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالًا.
 
وقد ذكر المناطقة أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحواس يختص بها من علمها، ولا تكون حجة على غيره، بخلاف غيرها، فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع، وهذا تفريق فاسد، وهو أصل من أصول الإلحاد والكفر. فإن المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها. يقول أحد هؤلاء بناء على هذا الفرق: هذا لم يتواتر عندي فلا تقوم به الحجة على، وليس ذلك بشرط، ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث من الآثار النبوية؛ فإن هؤلاء يقولون: إنها غير معلومة لنا كما يقول من يقول من الكفار: إن معجزات الأنبياء غير معلومة له؛ وهذا لكونهم لم يعلموا السبب الموجب للعلم بذلك، والحجة قائمة عليهم تواتر عندهم أم لا.
 
وقد ذهب الفلاسفة أهل المنطق إلى جهالات قولهم: إن الملائكة هي العقول العشرة، وإنها قديمة أزلية، وإن العقل رب ما سواه، وهذا شيء لم يقل مثله أحد من اليهود والنصارى ومشركي العرب، ولم يقل أحد: إن ملكا من الملائكة رب العالم كله، ويقولون: إن العقل الفعال مبدع كل ما تحت فلك القمر، وهذا أيضا كفر لم يصل إليه أحد من كفار أهل الكتاب ومشركي العرب، ويقولون: إن الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته، وليس عالمًا بالجزئيات، ولا يقدر أن يغير العالم، بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه، وأنه إذا توجه المستشفع إلى من يعظمه من الجواهر العالية؛ كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر، فإنه يتصل بذلك المعظم المستشفع به، فإذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا من جهة شفيعه، ويمثلونه بالشمس إذا طلعت على مرآة، فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع، فذلك الشعاع حصل له من مقابلة المرآة وحصل للمرآة بمقابلة الشمس.
 
ويقولون: إن الملائكة هي العقول العشرة، أو القوى الصالحة في النفس، وإن الشياطين هي القوى الخبيثة، وغير ذلك مما عرف فساده بالدلائل العقلية، بل بالضرورة من دين الرسول. فإذا كان شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم، فأي كمال للنفس في هذه الجهالات؟. وهذا وأمثاله مفتقر إلى بسط كثير. والمقصود ذكر ما ادعوا في البرهان المنطقي.
 
وأيضا، فإذا قالوا: إن العلوم لا تحصل إلا بالبرهان الذي هو عندهم قياس شمولي، وعندهم لابد فيه من قضية كلية موجبة؛ ولهذا قالوا: إنه لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شيء من أنواع القياس، لا بحسب صورته - كالحملى والشرطي المتصل والمنفصل- ولا بحسب مادته لا البرهاني ولا الخطابي ولا الجدلي، بل ولا الشعري.
 
فيقال: إذا كان لابد في كل ما يسمونه برهانًا من قضية كلية، فلابد من العلم بتلك القضية الكلية: أي من العلم بكونها كلية، وإلا فمتى جوز عليها ألا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها. والمهملة والمطلقة التي يحتمل لفظها أن تكون كلية، وجزئية في قوة الجزئية، وإذا كان لابد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم بقضية كلية موجبة، فيقال: العلم بتلك القضية إن كان بديهيا، أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيًا بطريق الأولى، وإن كان نظريًا احتاج إلى علم بديهي، فيفضي إلى الدور المعي أو التسلسل في المتواترات وكلاهما باطل.
 
وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان، ويسمونها "الواجب قبولها" سواء كانت حسية ظاهرة أو باطنة وهي التي يحسها بنفسه أو كانت من التجريبيات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من النفسيات الواجب قبولها، مثل العلم بكون نور القمر مستفادًا من الشمس إذا رأى اختلاف أشكاله عند اختلاف محاذاته للشمس كما يختلف إذا قاربها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال، وإذا كان ليلة الاستقبال عند الإبدار.
 
وهم متنازعون: هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا؟ ومثل العقليات المحضة، ومثل قولنا: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، والضدان لا يجتمعان، والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، فما من قضية من هذه القضايا الكلية تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان، بل هو الواقع كثيرًا. فإذا علم أن كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهم واحد، فإنه يعلم أن هذا الواحد نصف هذين الاثنين، وهلم جرا في سائر القضايا الأخر من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية، وكذلك كل جزء يعلم أن هذا الكل أعظم من جزئه بدون توسط القضية الكلية، وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان. وكل أحد يعلم أن هذا العين لا يكون موجودا معدومًا كما يعلم المعين الآخر، ولا يحتاج ذلك إلى أن يستدل عليه بأن كل شيء لا يكون موجودًا معدومًا معًا، وكذلك الضدان فإن الإنسان يعلم أن هذا الشيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا كما يعلم أن الآخر كذلك، ولا يحتاج في العلم بذلك إلى قضية كلية بأن كل شيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا.
 
وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فإن علم تضاد المعينين علم أنهما لا يجتمعان، فإن العلم بالقضية الكلية يفيد العلم بالمقدمة الكبرى المشتملة على الحد الأكبر، وذلك لا يغني دون العلم بالمقدمة الصغرى المشتملة على الحد الأصغر، والعلم بالنتيجة وهو أن هذين المعنيين ضدان فلا يجتمعان، يمكن بدون العلم بالمقدمة الكبرى، وهو أن كل ضدين لا يجتمعان. فلا يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان، وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما سموه هم البرهان، وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل عليه القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه.
 
مثال ذلك: أنه إذا أريد إبطال قول من يثبت الأحوال ويقول: إنها لا موجودة ولا معدومة، فقيل: هذان نقيضان، وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن هذا جعل للواحد لا موجودًا ولا معدومًا ولا يمكن جعل الحال للواحد لا موجودة ولا معدومة، كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودًا معدومًا ممكنا بدون هذه القضية الكلية، فلا يفتقر العلم بالنتيجة إلى البرهان.
 
وكذلك إذا قيل: إن هذا ممكن وكل ممكن فلابد له من مرجح لوجوده على عدمه على أصح القولين، أو لأحد طرفيه على قول طائفة من الناس.
 
أو قيل: هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، فتلك القضية الكلية، وهي قولنا: كل محدث لابد له من محدث، وكل ممكن لابد له من مرجح، يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها، فيعلم أن هذا المحدث لابد له من محدث. وهذا الممكن لابد له من مرجح، فإن شك عقله وجوز أن يحدث هو بلا محدث أحدثه، أو أن يكون وهو ممكن يقبل الوجود والعدم بدون مرجح يرجح وجوده، جوز ذلك في غيره من المحدثات، والممكنات بطريق الأولى؛ وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه بالنتيجة المعينة وهو قولنا: وهذا محدث فله محدث، أو هذا ممكن فله مرجح إلى القياس البرهاني.
 
ومما يوضح هذا: أنك لا تجد أحدًا من بني آدم يريد أن يعلم مطلوبًا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته، إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي، ولهذا لا تجد أحدًا من سائر أصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء، بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول، ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة، وقد يكون مقدمتين، وقد يكون ثلاث مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل؛ إذ حاجة الناس تختلف. وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل. وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال: إنه لابد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما، ولا يحتاج إلى أكثر منهما، وهذا ينبغي أن تأخذه من المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الأنبياء؛ فإنه يظهر بها فساد منطقهم. وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بنصوص الأنبياء فإنه يظهر الاحتياج إلى القضية الكلية، كما إذا أردنا تحريم النبيذ المتنازع فيه فقلنا: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، أو قلنا: هو خمر، وكل خمر حرام. فقولنا: النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص، وهو قول النبي {{صل}}: «كل مسكر خمر» وقولنا: كل خمر حرام، يعلم بالنص والإجماع، وليس في ذلك نزاع، وإنما النزاع في المقدمة الصغرى. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي {{صل}} أنه قال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام». وفي لفظ: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».
 
وقد يظن بعض الناس أن النبي {{صل}} ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة بالمقدمتين كما يفعله المنطقيون، وهذا جهل عظيم ممن يظنه فإنه {{صل}} أجل قدرًا من أن يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم، بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء أمته لا يرضى لنفسه أن يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين، بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون إلا الصناعات كالحساب والطب، ونحو ذلك.
 
وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الإلهية فلم يكونوا من رجالها. وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم، وبسطوا الكلام عليهم؛ وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون، فلا يحتاجون إلى معرفة ذلك بالقياس، وإنما شك بعضهم في أنواع من الأشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قال لرسول الله {{صل}}: عندنا شراب مصنوع من العسل يقال له: البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له: المزر، قال: وكان أوتي جوامع الكلم فقال: «كل مسكر حرام» فأجابهم {{صل}} بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم. وبين أيضا أن كل ما يسكر فهو خمر، وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر؛ إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر يتوقف على العلم بهما جميعًا، فإن من علم أن النبي {{صل}} قال: «كل مسكر حرام» وهو من المؤمنين به علم أن النبيذ المسكر حرام، ولكن قد يحصل الشك: هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر، وهذا شك في مدلول قوله، فإذا علم مراده {{صل}} علم المطلوب.
 
وكذلك إذا علم أن النبيذ خمر. والعلم بهذا أوكد في التحريم؛ فإن من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرًا، فإذا علم بالنص أن «كل مسكر خمر»، كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الإيمان الذين يعلمون أن الخمر محرم. وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول، فهذا لا يستدل بنصه، وإن علم أن محمدا رسول الله، ولكن لم يعلم أنه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله: «كل مسكر خمر» بل ينفعه قوله: «كل مسكر حرام» وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر؛ لأن الخمر والمسكر اسمان لمسمى واحد عند الشارع، وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر.
 
وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية، بل التنبيه على التمثيل؛ فإن هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين، والمنطقيون يمثلون بصورة مجردة عن المواد لا تدل على شيء معين، لئلا يستفاد العلم بالمثال من صورة معينة كما يقولون: كل أ: ب، وكل ب: ج. فكل أ: ج، ولكن المقصود هو العلم المقصود من المواد المعينة، فإذا جردت يظن الظان أن هذا يحتاج إليه في المعينات، وليس الأمر كذلك، بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم فيها بالمعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفًا على البرهان.
 
فالقضايا النبوية لا تحتاج إلى القياس العقلي الذي سموه برهانا، وما يستفاد بالعقل من العلوم أيضا لا يحتاج إلى قياسهم البرهاني، فلا يحتاج إليه لا في السمعيات ولا في العقليات، فامتنع أن يقال: لا يحصل علم إلا بالقياس البرهاني الذي ذكروه.
 
ومما يوضح ذلك: أن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية، فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار، لم ندرك أن كل نار محرقة، فإذا جعلنا هذه قضية كلية، وقلنا: كل نار محرقة، لم يكن لنا طريق نعلم به صدق هذه القضية الكلية علمًا يقينيًا، إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى.
 
وإن قيل: ليس المراد العلم بالأمور المعينة؛ فإن البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية، فالنتائج المعلومة بالبرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك. والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان.
 
قيل: فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشيء موجود، بل بأمور مقدرة في الأذهان لا يعلم تحققها في الأعيان، وإذا لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدًا، بل عديم المنفعة. وهم لا يقولون بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجية والإلهية، ولكن حقيقة الأمر كما بيناه في غير هذا الموضع أن المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة، بل الأكثرية فلا تفيد مقصود البرهان.
 
وأما الإلهيات، فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان؛ ولهذا حدثونا بإسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب كشف أسرار المنطق والموجز وغيرهما أنه قال عند الموت: أموت وما عرفت شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر. ثم قال: الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئًا. وكذلك حدثونا عن آخر من أفاضلهم. وهذا أمر يعرفه كل من خبرهم، ويعرف أنهم أجهل أهل الأرض بالطرق التي تنال بها العلوم العقلية والسمعية، إلا من علم منهم علمًا من غير الطرق المنطقية، فتكون علومه من تلك الجهة، لا من جهتهم، مع كثرة تعبهم في البرهان الذي يزعمون أنهم يزنون به العلوم، ومن عرف منهم شيئًا من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق.
 
ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم من قضية كلية، أن العلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد، وأن حكم الشيء حكم مثله، كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة، فالنار الغائبة محرقة؛ لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال: هذا استدلال بالقياس التمثيلي وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن، فإذا كانوا إنما علموا القضية الكلية بقياس التمثيل، رجعوا في اليقين إلى ما يقولون: إنه لا يفيد إلا الظن. وإن قالوا: بل عند الإحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم كلي من واهب العقل- أو تسعد النفس عند الإحساس بالجزئيات لأن يفيض عليها الكلي من واهب العقل - أو قالوا: من العقل الفعال - عندهم- أو نحو ذلك، قيل لهم: الكلام فيها به يعلم أن الحكم الكلي الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل.
 
فإن قالوا: هذا العلم بالبديهة أو الضرورة، كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة، وأن النفس مضطرة إلى هذا العلم. وهذا إن كان حقًا، فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع، فإن جزم العقلاء بالشخصيات من الحسيات، أعظم من جزمهم بالكليات وجزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس، والعلم بالجزئيات أسبق إلى الفطرة، فجزم الفطرة بها أقوى. ثم كلما قوى العقل، اتسعت الكليات وحينئذ فلا يجوز أن يقال: إن العلم بالأشخاص موقوف على العلم بالأنواع والأجناس، ولا أن العلم بالأنواع موقوف على العلم بالأجناس، بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أن كل إنسان كذلك، ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك، فلم يبق علمه بأن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة موقوفًا على البرهان، وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان، فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد، أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركًا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الأحكام الشرعية.
 
وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن، وقياسهم هو الذي يفيد اليقين، وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم هذا من أفسد الأقوال، وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء، وإنما يختلفان بالمادة المعينة فإن كانت يقينية في أحدهما، كانت يقينية في الآخر، وإن كانت ظنية في أحدهما، كانت ظنية في الآخر؛ وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة، الأصغر والأوسط والأكبر، والحد الأوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطًا وجامعًا.
 
فإذا قال في مسألة النبيذ: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فلابد له من إثبات المقدمة الكبرى، وحينئذ يتم البرهان، وحينئذ فيمكنه أن يقول: النبيذ مسكر فيكون حرامًا قياسًا على خمر العنب بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار، فإن الإسكار هو مناط التحريم في الأصل، وهو موجود في الفرع فبما به يقرر أن كل مسكر حرام، به يقرر أن السكر مناط التحريم بطريق الأولى، بل التفريق في قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم، فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات، ولا يكفي في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزأين لثبوته في الجزء الآخر، لاشتراكهما في أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم، كما يظنه بعض الغالطين، بل لابد أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم، والمشترك بينهما هو الحد الأوسط. وهذا يسميه الفقهاء وأهل أصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم، وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج إليه غالبًا في تقدير صحة القياس، فإن المعترض قد يمنع الوصف في الأصل، وقد يمنع الحكم في الأصل، وقد يمنع الوصف في الفرع، وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم، ويقول: لا نسلم أن ما ذكرته في الوصف المشترك هو العلة أو دليل العلة، فلابد من دليل يدل على ذلك: من نص أو إجماع أو سبر وتقسيم أو المناسبة أو الدوران عند من يستدل بذلك، فما دل على أن الوصف المشترك مستلزم للحكم إما علة وإما دليل العلة هو الذي يدل على أن الحد الأوسط مستلزم للأكبر، وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى، فإن أثبت العلة كان برهان علة، وإن أثبت دليلها كان برهان دلالة، وإن لم يفد العلم بل أفاد الظن، فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية، وهذا أمر بين، ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولي كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلي وحقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر.
 
ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأى كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم: من أن العقليات ليس فيها قياس، وإنما القياس في الشرعيات، ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقًا، فقولهم مخالف لقول نظار المسلمين، بل وسائر العقلاء، فإن القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات، فإنه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم، كان هذا دليلا في جميع العلوم، وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر، كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي.
 
وأبو المعالي ومن قبله من النظار لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها، بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها، غير أن المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزمًا للحكم، كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل. ومنازعهم يقول: لم يثبت الحكم في الغائب لأجل ثبوته في الشاهد، بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج إلى التمثيل، فيقال لهم: وهكذا في الشرعيات، فإنه متى قام الدليل على أن الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج إلى الأصل، بل نفس الدليل الدال على أن الحكم يتعلق بالوصف كاف، لكن لما كان هذا كليًا، والكلى لا يوجد إلا معينًا، كان تعيين الأصل مما يعلم به تحقق هذا الكلي، وهذا أمر نافع في الشرعيات والعقليات، فعلمت أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم أو على إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فهو قياس صحيح، ودليل صحيح، في أي شيء كان.
 
==تنازع العلماء في مسمى القياس==
 
وقد تنازع الناس في مسمى القياس، فقالت طائفة من أهل الأصول: هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي. وقالت طائفة: بل هو بالعكس حقيقة في الشمول مجاز في التمثيل كابن حزم وغيره. وقال جمهور العلماء: بل هو حقيقة فيهما، والقياس العقلي يتناولهما جميعا. وهذا قول أكثر من تكلم في أصول الدين وأصول الفقه وأنواع العلوم العقلية وهو الصواب، فإن حقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر، وإنما تختلف صورة الاستدلال.
 
_القياس في اللغة_
 
والقياس في اللغة: تقدير الشيء بغيره، وهذا يتناول تقدير الشيء المعين بنظيره المعين، وتقديره بالأمر الكلي المتناول له ولأمثاله، فإن الكلى هو مثال في الذهن لجزئياته؛ ولهذا كان مطابقًا موافقًا له.
 
_قياس الشمول_
 
وقياس الشمول هو انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول، وهو المعين فهو انتقال من خاص إلى عام، ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، من جزئي إلى كلي، ثم من ذلك الكلي إلى الجزئي الأول، فيحكم عليه بذلك الكلي.
 
ولهذا كان الدليل أخص من مدلوله الذي هو الحكم فإنه يلزم من وجود الدليل وجود الحكم، واللازم لا يكون أخص من ملزومه، بل أعم منه أو مساويه، وهو المعنى بكونه أعم.
 
والمدلول الذي هو محل الحكم وهو المحكوم عليه المخبر عنه الموصوف الموضوع إما أخص من الدليل أو مساويه، فيطلق عليه القول بأنه أخص منه لا يكون أعم من الدليل؛ إذ لو كان أعم منه، لم يكن الدليل لازمًا له، فلا يعلم ثبوت الحكم له، فلا يكون الدليل دليلا، وإنما يكون إذا كان لازمًا للمحكوم عليه الموصوف المخبر عنه الذي يسمى الموضوع، والمبتدأ مستلزمًا للحكم الذي هو صفة وخبر وحكم، وهو الذي يسمى المحمول والخبر، وهذا كالسكر الذي هو أعم من النبيذ المتنازع فيه، وأخص من التحريم، وقد يكون الدليل مساويًا في العموم والخصوص للحكم لازمًا للمحكوم عليه. فهذا هو جهة دلالته سواء صور قياس شمول وتمثيل أو لم يصور كذلك.
 
وهذا أمر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه اللسان. ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل بالأدلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم، وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم، وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم. فالعلم بذلك الملزوم لابد أن يكون بينًا بنفسه أو بدليل آخر.
 
_قياس التمثيل_
 
وأما قياس التمثيل، فهو انتقال الذهن من حكم معين إلى حكم معين، لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلي؛ لأن ذلك الحكم يلزم المشترك الكلي. ثم العلم بذلك اللزوم لابد له من سبب؛ إذا لم يكن بينا كما تقدم، فهو يتصور المعينين أولا، وهما الأصل والفرع ثم ينتقل إلى لازمهما وهو المشترك، ثم إلى لازم اللازم وهو الحكم، ولابد أن يعرف أن الحكم لازم المشترك، وهو الذي يسمى هناك قضية كبرى، ثم ينتقل إلى إثبات هذا اللازم للملزوم الأول المعين، فهذا هو هذا في الحقيقة، وإنما يختلفان في تصوير الدليل ونظمه، وإلا فالحقيقة التي بها صار دليلًا، وهو أنه مستلزم للمدلول حقيقة واحدة.
 
ومن ظلم هؤلاء وجهلهم أنهم يضربون المثل في قياس التمثيل بقول القائل: السماء مؤلفة فتكون محدثة قياسًا على الإنسان. ثم يوردون على هذا القياس ما يختص به، فإنه لو قيل: السماء مؤلفة وكل مؤلف محدث، لورد عليه هذه الأسئلة وزيادة، ولكن إذا أخذ قياس الشمول في مادة بينة، لم يكن فرق بينه وبين قياس التمثيل، فإن الكلي هو مثال في الذهن لجزئياته؛ ولهذا كان مطابقًا موافقًا له بل قد يكون التمثيل أبين. ولهذا كان العقلاء يقيسون به وكذلك قولهم في الحد: إنه لا يحصل بالمثال إنما ذلك في المثال الذي يحصل به التمييز بين المحدود وغيره، بحيث يعرف به ما يلازم المحدود طردًا وعكسًا بحيث يوجد حيث وجد وينتفي حيث انتفى فإن الحد المميز للمحدود هو ما به يعرف الملازم المطابق طردًا وعكسا، فكلما حصل هذا فقد ميز المحدود من غيره. وهذا هو الحد عند جماهير النظار، ولا يسوغون إدخال الجنس العام في الحد. فإذا كان المقصود الحد بحسب الاسم فسأل بعض العجم عن مسمى الخبز، فأرى رغيفًا وقيل له هذا، فقد يفهم أن هذا لفظ يوجد فيه كل ما هو خبز، سواء كان على صورة الرغيف أو غير صورته.
 
وقد بسط الكلام على ما ذكروه وذكره المنطقيون في الكلام على المحصل وغير ذلك وجد هذا في الأمثلة المجردة؛ إذا كان المقصود إثبات الجيم للألف والحد الأوسط هو الباء، فقيل: كل ألف باء وكل باء جيم أنتج كل ألف جيم. وإذا قيل: كل ألف جيم قياسا على الدال؛ لأن الدال هي جيم وإنما كانت جيمًا؛ لأنها باء والألف أيضا باء، فيكون الألف جيمًا لاشتراكهما في المستلزم للجيم وهو الباء، كان هذا صحيحًا في معنى الأول لكن فيه زيادة مثال قيست عليه الألف، مع أن الحد الأوسط وهو الباء موجود فيها.
 
فإن قيل: ما ذكرتموه من كون البرهان لابد فيه من قضية كلية صحيح؛ ولهذا لا يثبتون به إلا مطلوبًا كليًا.
 
ويقولون: البرهان لا يفيد إلا الكليات، ثم أشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل، وهي التي تكمل بها النفس فتصير عالما معقولا موازيًا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير.
 
وإذا كان المطلوب به هو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير، فتلك إنما تحصل بالقضايا العقلية الواجب قبولها، بل إنما تكون في القضايا التي جهتها الوجوب، كما يقال: كل إنسان حيوان، وكل موجود فإما واجب وإما ممكن، ونحو ذلك من الكلية التي لا تقبل التغيير.
 
==العلوم ثلاثة==
 
ولهذا كانت العلوم ثلاثة: إما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج، وهو الطبيعي وموضوعه الجسم، وإما مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج، وهو الرياضي: كالكلام في المقدار والعدد. وأما ما يتجرد عن المادة منها، وهو الإلهي وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود، كانقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض. وانقسام الجوهر إلى ما هو حال وإلى ما هو محل. وما ليس بحال ولا محل، بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير، وإلى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك.
 
فالأول: هو الصورة. والثاني: هو المادة. وهو الهيولى ومعناه في لغتهم المحل. والثالث: هو النفس. والرابع: هو العقل.
 
والأول يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر، ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرًا، وقالوا: الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع، أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه، وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته، والأول ليس كذلك، فلا يكون جوهرًا. وهذا مما خالفوا فيه سلفهم، ونازعوهم فيه نزاعًا لفظيًا، ولم يأتوا بفرق صحيح معقول، فإن تخصيص اسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي، وأولئك يقولون: بل هو كل ما ليس في موضوع، كما يقول المتكلمون: كل ما هو قائم بنفسه، أو كل ما هو متحيز، أو كل ما قامت به الصفات، أو كل ما حمل الأعراض ونحو ذلك.
 
وأما الفرق المعنوي، فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل، ودعواهم أن الأول وجود مقيد بالسلوب أيضا باطل، كما هو مبسوط في موضعه، والمقصود هنا الكلام على البرهان.
 
فيقال: هذا الكلام، وإن ضل به طوائف، فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه، لكن ننبه هنا على بعض ما فيه، وذلك من وجوه:
 
الأول: أن يقال: إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات، والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا موجود معين، لم يعلم بالبرهان شيء من المعينات، فلا يعلم به موجود أصلا، بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان. ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلم فقط، وإن كانت هذه قضية كاذبة، كما بسط في موضعه، فليس هذا علمًا تكمل به النفس؛ إذ لم تعلم شيئًا من الموجودات، ولا صارت عالما معقولًا موازيًا للعالم الموجود، بل صارت عالما لأمور كلية مقدرة لا يعلم بها شيء من العالم الموجود، وأي خير في هذا فضلا عن أن يكون كمالا.
 
والثاني: أن يقال: أشرف الموجودات هو واجب الوجود، ووجوده معين لا كلي؛ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، بل إنما علم أمر كلي مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود، وكذلك الجواهر العقلية عندهم، وهي العقول العشرة، أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم، كالسهروردي المقتول، وأبي البركات وغيرهما. كلها جواهر معينة، لا أمور كلية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم نعلم شيئًا منها، وكذلك الأفلاك التي يقولون: إنها أزلية أبدية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم تكن معلومة، فلا نعلم واجب الوجود ولا العقول، ولا شيئًا من النفوس ولا الأفلاك ولا العناصر ولا المولدات، وهذه جملة الموجودات عندهم، فأي علم هنا تكمل به النفس؟
 
الثالث: أن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والرياضي والإلهي، وجعلهم الرياضي أشرف من الطبيعي. والإلهي أشرف من الرياضي، هو مما قلبوا به الحقائق، فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج، ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال، وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة، فإن كون الإنسان لا يتصور إلا شكلا مدورًا أو مثلثًا أو مربعًا ولو تصور كل ما في إقليدس أو لا يتصور إلا أعدادًا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج، وليس ذلك كمال النفس، ولولا أن ذلك طلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجة التي هي أجسام وأعراض لما جعل علمًا، وإنما جعلوا علم الهندسة مبدأ تعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة، أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا، هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية.
 
فإن علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكم المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة، مثل جمع الأعداد وقسمتها وضربها ونسبة بعضها إلى بعض، فإنك إذا جمعت مائة إلى مائة علمت أنهما مائتان. فإذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة وإذا ضربتها في عشرة، كان المرتفع مائة، والضرب مقابل للقسمة، فإن ضرب الأعداد الصحيحة تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، فإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد العددين خرج المضروب الآخر. وإذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم، فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب، فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه، والنسبة تجمع هذه كلها، فنسبة أحد المضروبين إلى المرتفع كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، ونسبة المرتفع إلى أحد المضروبين نسبة الآخر إلى الواحد.
 
فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول، وما من أحد من الناس إلا يعرف منه شيئًا فإنه ضروري في العلم، ولهذا يمثلون به في قولهم: الواحد نصف الاثنين، ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة.
 
وهذا كان مبدأ فلسفتهم التي وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون أصحابه أصحاب العدد، وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارجة عن الذهن، ثم تبين لأفلاطون وأصحابه غلط ذلك، وظنوا أن الماهيات المجردة كالإنسان والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية، ثم تبين لأرسطو وأصحابه غلط ذلك، فقالوا: بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص، ومشى من مشى من أتباع أرسطو من المتأخرين على هذا، وهو أيضا غلط. فإن ما في الخارج ليس بكلي أصلا، وليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص. وإذا قيل: الكلي الطبيعي في الخارج، فمعناه إنما هو كلي في الذهن يوجد في الخارج، لكن إذا وجد في الخارج لا يكون إلا معينًا، لا يكون كليًا، فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن، ومن أثبت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج، فتصور قوله تصورًا تامًا يكفي في العلم بفساد قوله، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا أن هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة، لكن لا تكمل بذلك نفس، ولا تنجو به من عذاب، ولا تنال به سعادة؛ ولهذا قال أبوحامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء: هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم. يشيرون بالأول إلى العلوم الرياضية، وبالثاني إلى ما يقولونه في الإلهيات وفي أحكام النجوم ونحو ذلك؛ لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك، فإن الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه، وسماع ما لم يكن سمعه، إذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو أهم عنده منه، كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب.
 
وأيضا، ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح، والقضايا الصحيحة الصادقة، والقياس المستقيم، فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك، وتعود النفس أنها تعلم الحق وتقوله، لنستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك، ولهذا يقال: إنه كان أوائل الفلاسفة أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي، وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك؛ لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل، ولم يجد في ذلك ما هو حق، أخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي، كما كان يتحرى مثل ذلك من هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره. وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحًا للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط.
 
وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا لهوتم فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض. فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع، فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع، لكن ليس هو علمًا يطلب لذاته، ولا تكمل به النفس.
 
وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ويدعونها بأنواع الدعوات. كما هو معروف من أخبارهم، وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعة في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده. وكان الشيطان بسبب الشرك والسحر يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر، وكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها، ومقادير حركاتها وما بين بعضها من الاتصالات، مستعينين بذلك على ما يرونه مناسبًا لها.
 
ولما كانت الأفلاك مستديرة، ولم يمكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المستقيمة والمنحنية، تكلموا في الهندسة لذلك ولعمارة الدنيا؛ فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك، وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير، لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور، وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك، فإن لذات النفوس أنواع، ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار، حتى يشغله ذلك عما هو أنفع له منه.
 
وكان مبدأ وضع المنطق من الهندسة، وسموه حدودًا، لحدود تلك الأشكال؛ لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى الشكل المعقول؛ وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريق البعيدة. والله تعالى يسر للمسلمين من العلم والبيان والعمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان. والحمد لله رب العالمين.
 
وأما العلم الإلهي الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج، فقد تبين لك أنه ليس له معلوم في الخارج، وإنما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية إلا في الذهن، وليس في هذا من كمال النفس شيء. وإن عرفوا واجب الوجود بخصوصه، فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان، فبرهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه، لا واجب الوجود ولا غيره، وإنما يدل على أمر كلي. والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه. ومن لم يتصور ما يمنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله، ومن لم يثبت للرب إلا معرفة الكليات كما يزعمه ابن سينا وأمثاله، وظن أن ذلك كمال للرب، فكذلك يظنه كمالا للنفس بطريق الأولى، لا سيما إذا قال: إن النفس لا تدرك إلا الكليات، وإنما يدرك الجزئيات البدن- فهذا في غاية الجهل، وهذه الكليات التي لا تعرف بها الجزئيات الموجودة، لا كمال فيها البتة، والنفس إنما تحب معرفة الكليات، لتحيط بها بمعرفة الجزئيات، فإذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك.
 
الوجه الرابع: أن يقال: هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة، كما يزعمون، فما يذكرونه في العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه ليس كذلك؛ فإن تصور معني الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره، فليس هو المطلوب وإنما المطلوب أقسامه، ونفس أقسامه إلى واجب وممكن، وجوهر وعرض، وعلة ومعلول، وقديم وحادث: هو أخص من مسمى الوجود، وليس في مجرد انقسام الأمر العام في الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضى علما كليا عظيما عاليا على تصور الوجود.
 
فإذا عرفت الأقسام فليس ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغيير والاستحالة، وليس معهم دليل أصلا يدلهم أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا، وجميع ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك، فإنما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه، لا قدم شيء معين ولا دوام شيء معين. فالجزم أن مدلول تلك الأدلة هو هذا العالم أو شيء منه، جهل محض لا مستند له، إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم، وعدم العلم ليس علمًا بالعدم.
 
ولهذا لم يكن عند القوم إيمان بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، فهم لا يؤمنون لا بالله ولا بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت. وإذا قالوا: نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن المحسوس، وذلك هو الغيب، فإن هذا وإن كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال، فإن ما يثبتونه من المعقولات، إنما يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان.
 
والرسل أخبرت عما هو موجود في الخارج وهو أكمل وأعظم وجودًا مما نشهده في الدنيا. فأين هذا من هذا؟ وهم لما كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل قالوا: إن الرسل قصدوا إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي أقاموه لهم.
 
ثم منهم من يقول: إن الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الأمور. ومنهم من يقول: بل لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية.
 
وأقل أتباع الرسل إذا تصور حقيقة ما عندهم، وجده مما لا يرضى به أقل أتباع الرسل. وإذا علم بالأدلة العقلية أن هذا العالم يمتنع أن يكون شيء منه قديما أزليًا، وعلم بأخبار الأنبياء المؤيدة بالعقل أنه كان قبله عالما آخر منه خلق، وأنه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك، علم أن غاية ما عندهم من الأحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم.
 
وهب أنهم لا يعلمون ما أخبرت به الرسل، فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الأنواع الكلية في هذا العالم، أزلية أبدية، لم تزل ولا تزال. فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة، وعامة فلسفتهم الأولى وحكمتهم العليا من هذا النمط، وكذلك من صنف على طريقتهم؛ كصاحب المباحث المشرقية، وصاحب حكمة الإشراق، وصاحب دقائق الحقائق، ورموز الكنوز، وصاحب كشف الحقائق، وصاحب الأسرار الخفية في العلوم العقلية، وأمثال هؤلاء، ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقًا، ولا تخلص من إشراك ضلالهم مطلقًا، بل شاركهم في كثير من ضلالهم، وشاركهم في كثير من محالهم، وتخلص من بعض وبالهم، وإن كان أيضا لم ينصفهم في بعض ما أصابوا، وأخطأ لعدم علمه بمرادهم أو لعدم معرفته أن ما قالوا صواب. ثم إن هؤلاء إنما يتبعون كلام ابن سينا.
 
==تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات==
 
وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض. وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا كبارًا وصغارًا، وجاهدوهم باللسان واليد؛ إذ كانوا بذلك أحق من اليهود والنصارى. ولو لم يكن إلا كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلي، والشهرستاني، وغير هذا مما يطول وصفه.
 
والمقصود هنا أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة؛ كأرسطو وأتباعه؛ فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه.
 
وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في علم ما بعد الطبيعة في مقالة اللام وغيرها، وهو آخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل، فإنه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع من المسلمين وغيرهم أجهل من هؤلاء، ولا أبعد عن العلم بالله تعالى منهم. نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم العناد، لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ.
 
وابن سينا لما عرف شيئًا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه، ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود، ونحو ذلك، وإلا فأرسطو وأتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود، ولا شيء من الأحكام التي لواجب الوجود، وإنما يذكرون العلة الأولى ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به.
 
فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح، حتى راجت على من يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض، فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده، ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل، فصار ذلك سببًا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية، ومقاصد سامية قرآنية، خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان، وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، بل يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات.
 
والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم، كما زعموه، مع أنه قول باطل، فإن النفس لها قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلابد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته، وعبادته تجمع محبته والذل له، فلا تكمل نفس فقط إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
 
والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له، وبهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل، مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية، فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم، ولذلك يرون هذا ساقطا عمن حصل المقصود، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم.
 
فالجهمية قالوا: الإيمان مجرد معرفة الله. وهذا القول وإن كان خيرًا من قولهم فإنه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله. وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولواحقه، وهذا أمر لو كان له حقيقة في الخارج، لم يكن كمالا للنفس إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى. فهؤلاء الجهمية من أعظم المبتدعة، بل جعلهم غير واحد خارجين عن الثنتين وسبعين فرقة، كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم. وقد كفر غير واحد من الأئمة - كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما - من يقول هذا القول. وقالوا: هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون واليهود - الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم - مؤمنين.
 
فقول الجهمية خير من قول هؤلاء، فإن ما ذكروه هو أصل ما تكمل به النفوس، لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين إرادتها التي هي مبدأ القوة العملية، وجعلوا الكمال في نفس العلم، وإن لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من أصول الإيمان ولوازمه. وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد.
 
والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط، وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة.
 
واعلم أن بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض، لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة إلا إذا بعث الله إليهم رسولا فلم يتبعوه، بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء، كان من الأشقياء في الآخرة. والقوم لولا الأنبياء لكانوا أعقل من غيرهم، لكن الأنبياء جاؤوا بالحق وبقاياه في الأمم وإن كفروا ببعضه، حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين إبراهيم، فكانوا خيرًا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون أرسطو وأمثاله على أصولهم.
 
الوجه الخامس: أنه إن كان المطلوب بقياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة، فتلك ليس فيها ما هو واجب البقاء على حال واحدة أزلًا وأبدًا، بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر أنه من اللازم لموصوفه، فنفس الموصوف ليس واجب البقاء، فلا يكون العلم به علمًا بموجود واجب الوجود، وليس لهم على أزلية شيء من العالم دليل صحيح، كما بسط في موضعه، وإنما غاية أدلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة. وذلك ممكن بوجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدًا، مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم، كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح، فإن القول بأن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلا وأبدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه، أي شيء قدر فاعله، لاسيما إذا كان فاعلا باختياره، كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة أصول العلم والدين؛ كالرازي وأمثاله كما بسط في موضعه.
 
وما يذكرون من اقتران المعلول بعلته، فإذا أريد بالعلة، ما يكون مبدعًا للمعلول، فهذا باطل بصريح العقل؛ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل. ولما كان هذا مستقرًا في الفطر، كان نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء موجبا لأن يكون كل ما سواه محدثًا مسبوقًا بالعدم، وإن قدر دوام الخالقية المخلوق بعد مخلوق، فهذا لا ينافى أن يكون خالقًا لكل شيء، وما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه، بل ذلك أعظم في الكمال والجود والأفضال.
 
وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد، وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل في شيء، بل هو من باب المشروط، والشرط قد يقارن المشروط، وأما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين، وإن لم يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد شيء، فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة، وذلك لا ينافى حدوث كل جزء من أجزائها، بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه. وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو وأتباعه، فإنهم وإن قالوا بقدم العالم، فهم لم يثبتوا له مبدعًا، ولا علة فاعلية، بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها، لأن حركة الفلك إرادية.
 
وهذا القول، وهو أن الأول ليس مبدعًا للعالم، وإنما هو علة غائية للتشبه به، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلول لا يكون قديما بقدم علته، كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه؛ ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة أرسطو وسائر العقلاء في ذلك، وبينوا أن ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء، وكان قصده أن يركب مذهبًا من مذاهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب، مع كونه أزليًا قديما بقدمه. واتبعه على إمكان ذلك أتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم.
 
وزعم الرازي فيما ذكره في محصله أن القول بكون المفعول المعلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة المتقدمون الذين نقلت إلينا أقوالهم؛ كأرسطو وأمثاله. وإنما قاله ابن سينا وأمثاله. والمتكلمون إذ قالوا بقدم ما يقوم بالقديم من الصفات ونحوها، فلا يقولون: إنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة، بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم، فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب قديما إلا بصفاته اللازمة له، كما قد بسط في موضعه. ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله.
 
وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبًا، سواء قيل: إنه واجب بنفسه أو بغيره. ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديما واجبًا بغيره أزليا أبديًا كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في الإمكان من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه، كما بسط في موضعه. فإن هذا ليس موضع تقرير هذا، ولكن نبهنا به على أن برهانهم القياسي لا يفيد أمورًا كلية واجبة البقاء في الممكنات. وأما واجب الوجود تبارك وتعالى فالقياس لا يدل على ما يختص به، وإنما يدل على أمر مشترك كلي بينه وبين غيره، إذ كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمورًا كلية مشتركة، وتلك لا تختص بواجب الوجود رب العالمين سبحانه وتعالى فلم يعرفوا ببرهانهم شيئًا من الأمور التي يجب دوامها، لا من الواجب ولا من الممكنات.
 
وإذا كانت النفس إنما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه، لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم، فضلا عن أن يقال: إن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم، ولهذا كانت طريقة الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته.
 
وإن استعملوا في ذلك القياس، استعملوا قياس الأولى، لم يستعملوا قياس شمول تستوى أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإن الرب تعالى لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوى أفراده، بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه، فثبوته له بطريق الأولي. وما تنزه غيره عنه من النقائص، فتنزهه عنه بطريق الأولى؛ ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القرآن من هذا الباب، كما يذكره في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد، وغير ذلك من المطالب العالية السنية، والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف، وإن كان كمالها لابد فيه من كمال علمها وقصدها جميعًا، فلابد من عبادة الله وحده، المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له.
 
وأما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القرآن.
 
==الفرق بين الآيات وبين القياس==
 
والفرق بين الآيات وبين القياس: أن الآية هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، لا يكون مدلوله أمرًا كليًا مشتركًا بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار، قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } <ref>[الإسراء: 12]</ref>، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار، وكذلك نبوة محمد {{صل}}: العلم بنبوته بعينه لا يوجب أمرًا مشتركًا بينه وبين غيره.
 
وكذلك آيات الرب تعالى نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى، لا يوجب علمًا كليا مشتركًا بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزمًا لهذا هو جهة الدليل، فكل دليل في الوجود لابد أن يكون مستلزمًا للمدلول، والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة، والقضايا الكلية هذا شأنها.
 
فإن القضايا الكلية إن لم تعلم معيناتها بغير التمثيل وإلا لم تعلم إلا بالتمثيل، فلابد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الأوسط، فإذا كان كليا فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من أفراد الدليل، كما إذا قيل: كل أ: ب، وكل ب: ج، فكل ج: أ، فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الألف. ومعلوم أن العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين، والباء المعين للألف المعين أقرب إلى الفطرة من هذا. وإذا قيل: تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة أو بديهة من واهب العقل. قيل: حصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل أقرب. ومعلوم أن كل ما سوى الله من الممكنات فإنه مستلزم لذات الرب تعالى. يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى، وتقدس، وإن كان مستلزمًا أيضا لأمور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه.
 
وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين، أعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام، والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده، ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهو سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها، ويعلم الكليات أنها كليات، فيلزم من وجود الخاص وجود العام المطلق، كما يلزم من وجود هذا الإنسان وجود الإنسانية والحيوانية، فكل ما سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها، يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة، فإن الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الأعيان. فضلا عن أن يكون خالقًا لها مبدعًا.
 
ثم يلزم من وجود المعين وجود المطلق المطابق، فإذا تحقق الموجود الواجب، تحقق الوجود المطلق المطابق، وإذا تحقق الفاعل لكل شيء، تحقق الفاعل المطلق المطابق، وإذا تحقق القديم الأزلي، تحقق القديم المطلق المطابق، وإذا تحقق الغني عن كل شيء، تحقق الغني المطلق المطابق، وإذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق، كما ذكرنا أنه إذا تحقق هذا الإنسان وهذا الحيوان تحقق الإنسان المطلق المطابق، والحيوان المطلق المطابق، لكن المطلق لا يكون مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فإذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس العين.
 
كذلك إذا علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقًا وغنيا مطلقا، لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره، وذلك هو مدلول آياته تعالى. فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها. وكل ما سواه دليل على عينه وآية له، فإنه ملزوم لعينه وكل ملزوم فإنه دليل على ملزوم، ويمتنع تحقق شيء من الممكنات إلا مع تحقق عينه، فكلها لازمة لنفسه دليل عليه آية له، ودلالتها بطريق قياسهم على الأمر المطلق الكلي الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ببرهانهم ما يختص بالرب تعالى.
 
==قياس الأولى==
 
وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعًا للقرآن، فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتًا لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره.
 
فكان قياس الأولى يفيده أمرًا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر، ولهذا كان الحذاق يختارون أن الأسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك، ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل أفراده، بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده، كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج. فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، وهو في الواجب أكمل وأفضل من فضل هذا البياض على هذا البياض، لكن هذا التفاضل في الأسماء المشككة لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركًا كليًا فلابد في الأسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن.
 
وذلك هو مورد التقسيم ؛ تقسيم الكلي إلى جزئياته إذا قيل: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام، ثم كون وجود هذا الواجب أكمل من وجود الممكن لا يمنع أن يكون مسمى الوجود معنى كليًا مشتركًا بينهما، وهكذا في سائر الأسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق، كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير، وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه، وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته.
 
والناس تنازعوا في هذا الباب. فقالت طائقة كأبي العباس الناشى من شيوخ المعتزلة الذين كانوا أسبق من أبي علي: هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق. وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة بالعكس: هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق. وقال جماهير الطوائف: هي حقيقة فيهما. وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة الأشعرية والكرَّامية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة؛ لكن كثيرًا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بأنها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك، وينازع في بعضها لشبه نفاة الجميع. والقول فيما نفاه نظير القول فيما أثبته؛ ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين، ونفى الجميع يمنع أن يكون موجودًا، وقد علم أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، وغني وفقير، ومفعول وغير مفعول، وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب، ووجود المحدث يستلزم وجود القديم، ووجود الفقير يستلزم وجود الغني، ووجود المفعول يستلزم وجود غير المفعول. وحينئذ فبين الوجودين أمر مشترك، والواجب يختص بما يتميز به، فكذلك القول في الجميع.
 
والأسماء المشككة هي متواطئة باعتبار القدر المشترك، ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم، بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله، فالمشككة قسم من المتواطئة العامة، وقسيم المتواطئة الخاصة. وإذا كان كذلك فلابد من إثبات قدر مشترك كلي، وهو مسمى المتواطئة العامة، وذلك لا يكون مطلقًا إلا في الذهن، وهذا مدلول قياسهم البرهاني. ولابد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة، وذلك هو مدلول الأقيسة البرهانية القرآنية وهي قياس الأولى، ولابد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه، وذلك مدلول آياته سبحانه التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه، لا يدل على هذه قياس لا برهاني ولا غير برهاني.
 
فتبين بذلك أن قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها، فضلا عن أن يقال: لا تعلم المطالب إلا به، وهذا باب واسع، لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة، وهي قولهم: إن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم.
 
ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا؛ وقصروا العلوم على طريق ضيقة لا تحصل إلا مطلوبًا لا طائل فيه حتى زعموا أن علم الله تعالى وعلم أنبيائه وأوليائه، إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الأوسط، كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه، وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم أنبيائه من سلفهم الذين هم من أجهل الناس برب العالمين وأنبيائه وكتبه. فابن سينا لما تميز عن أولئك، بمزيد علم وعقل، سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك. وصار سالكو هذه الطريق، وإن كانوا أعلم من سلفهم وأكمل، فهم أضل من اليهود والنصارى وأجهل؛ إذ كان أولئك حصل لهم من الإيمان بواجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال، وهم من أتباع فرعون وأمثاله؛ ولهذا تجدهم لموسى ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين أو معادين.
 
قال الله تعالى: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } <ref>[غافر: 56]</ref>، وقال تعالى: { كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } <ref>[غافر: 35]</ref>، وقال: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ }. <ref>[غافر: 83-85 ]</ref>
 
وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمروذ بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال، ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله صلوات الله عليهم في مواضع.
 
وقد جعل الله آل إبراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة، وآل فرعون أئمة لأهل النار، قال تعالى: { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } إلى قوله: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } <ref>[القصص: 39-49]</ref>، وقال في آل إبراهيم: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } <ref>[السجدة: 24]</ref>.
 
والمقصود أن متأخريهم الذين هم أعلم منهم جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني، وكذلك علم أنبيائه. وقد بسطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضوع.
 
والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم: إنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه، وإذا كان هذا السلب باطلا في علم آحاد الناس، كان بطلانه أولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم ملائكته وأنبيائه، صلوات الله عليهم أجمعين.
 
==فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء==
 
وأيضا، فإنهم قسموا جنس الدليل إلى القياس والاستقراء والتمثيل، قالوا: لأن الاستدلال إما أن يكون بالكلي على الجزئي؛ أو بالجزئي على الكلي، أو بأحد الجزئيين على الآخر، وربما عبروا عن ذلك بالخاص والعام. فقالوا: إما أن يستدل بالعام على الخاص، أو بالخاص على العام، أو بأحد الخاصين على الآخر.
 
قالوا: والأول هو القياس، يعنون به قياس الشمول؛ فإنهم يخصونه باسم القياس، وكثير من أهل الأصول والكلام يخصون باسم القياس التمثيل. وأما جمهور العقلاء، فاسم القياس عندهم يتناول هذا وهذا، قالوا: والاستدلال بالجزئيات على الكلى هو الاستقراء، فإن كان تامًا فهو الاستقراء التام، وهو يفيد اليقين، وإن كان ناقصًا لم يفد اليقين. فالأول: هو استقراء جميع الجزئيات والحكم عليه بما وجد في جزئياته. والثاني: استقراء أكثرها، وذلك كقول القائل: الحيوان إذا أكل حرك فكه الأسفل، لأنا استقريناها فوجدناها هكذا، فيقال له: التمساح يحرك الأعلى.
 
ثم قالوا: إن القياس ينقسم إلى اقتراني واستثنائي، فالاستثنائي: ما تكون النتيجة أو نقيضها مذكورة فيه بالفعل، والاقتراني: ما تكون فيه بالقوة، كالمؤلف من القضايا الحملية، كقولنا: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، والاستثنائي: ما يؤلف من الشرطيات، وهو نوعان:
 
أحدهما: متصلة، كقولنا: إن كانت الصلاة صحيحة، فالمصلي متطهر، واستثناء عين المقدم، ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي، ينتج نقيض المقدم.
 
والثاني: المنفصلة وهي: إما مانعة الجمع والخلو، كقولنا: العدد إما زوج وإما فرد، فإن هذين لا يجتمعان، ولا يخلو العدد عن أحدهما، وإما مانعة الجمع فقط، كقولنا: هذا إما أسود وإما أبيض، أي: لا يجتمع السواد والبياض. وقد يخلو المحل عنهما، وأما مانعة الخلو، فهي التي يمتنع فيها عدم الجزأين جميعًا ولا يمتنع اجتماعهما، وقد يقولون: مانعة الجمع والخلو هي الشرطية الحقيقية، وهي مطابقة للنقيضين في العموم والخصوص، ومانعة الجمع، هي أخص من النقيضين، فإن الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان وهما أخص من النقيضين. وأما مانعة الخلو فإنها أعم من النقيضين، وقد يصعب عليهم تمثيل ذلك، بخلاف النوعين الأولين؛ فإن أمثالهما كثيرة.
 
ويمثلونه بقول القائل: هذا ركب البحر أو لا يغرق فيه، أي: لا يخلو منهما، فإنه لا يغرق إلا إذا كان في البحر، فإما ألا يغرق فيه وحينئذ لا يكون راكبه، وإما أن يكون راكبه، وقد يجتمع أن يركب ويغرق. والأمثال كثيرة، كقولنا: هذا حي، أو ليس بعالم، أو قادر أو سميع أو بصير أو متكلم، فإنه إن وجدت الحياة، فهو أحد القسمين، وإن عدمت عدمت هذه الصفات. وقد يكون حيا من لا يوصف بذلك، فكذلك إذا قيل: هذا متطهر، أو ليس بمصلٍ، فإنه إن عدمت الصلاة عدمت الطهارة، وإن وجدت الطهارة فهو القسم الآخر، فلا يخلو الأمر منهما.
 
وكذلك كل عدم شرط ووجود مشروطه، فإنه إذا ردد الأمر بين وجود المشروط وعدم الشرط، كان ذلك مانعًا من الخلو، فإنه لا يخلو الأمر من وجود الشرط وعدمه، وإذا عدم عدم الشرط، فصار الأمر لا يخلو من وجود المشروط وعدم الشرط.
 
ثم قسموا الاقتراني إلى الأشكال الأربعة لكون الحد الأوسط إما محمولًا في الكبرى موضوعًا في الصغرى وهو الشكل الطبيعي، وهو ينتج المطالب الأربعة: الجزئي، والكلي، والإيجابي، والسلبي. وإما أن يكون الأوسط محمولا فيهما، وهو الثاني ولا ينتج إلا السلب، وإما أن يكون موضوعًا فيهما ولا ينتج إلا الجزئيات، والرابع ينتج الجزئيات والسلب الكلي، لكنه بعيد عن الطبع، ثم إذا أرادوا بيان الإنتاج الثاني والثالث وغير ذلك من المطالب، احتاجوا إلى الاستدلال بالنقيض والعكس وعكس النقيض، فإنه يلزم من صدق القضية كذب نقيضها، وصدق عكسها المستوى، وعكس نقيضها، فإذا صدق قولنا: ليس أحد من الحجاج بكافر، صح قولنا: ليس أحد من الكفار بحاج.
 
فنقول: هذا الذي قالوه، إما أن يكون باطلا، وإما أن يكون تطويلا يبعد الطريق على المستدل، فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق، أو طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل إلى الحق، مع إمكان وصوله بطريق قريب، كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له: أين أذنك؟ فرفع يده رفعًا شديدًا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى، وقد كان يمكنه الإشارة إلى اليمنى أو اليسرى من طريق مستقيم. وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } <ref>[الإسراء: 9]</ref>، فأقوم الطريق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله، وأما طريق هؤلاء فهي مع ضلالهم في البعض، واعوجاج طريقهم، وطولها في البعض الآخر إنما توصلهم إلى أمر لا ينجي من عذاب الله، فضلا عن أن يوجب لهم السعادة، فضلا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم.
 
بيان ذلك: أن ما ذكروه من حصر الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل حصر لا دليل عليه، بل هو باطل. فقولهم أيضا: إن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص، قول لا دليل عليه، بل هو باطل، واستدلالهم على الحصر بقولهم: إما أن يستدل بالكلي على الجزئي، أو بالجزئي على الكلي، أو بأحد الجزأين على الآخر، والأول هو القياس، والثاني هو الاستقراء، والثالث هو التمثيل.
 
فيقال: لم تقيموا دليلا على انحصار الاستدلال في الثلاثة، فإنكم إذا عنيتم بالاستدلال بجزئي على جزئي، قياس التمثيل، لم يكن ما ذكرتموه حاصرًا، وقد بقى الاستدلال بالكلي على الكلي الملازم له، وهو المطابق له في العموم والخصوص، وكذلك الاستدلال بالجزئي علي الجزئي الملازم له بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه، فإن هذا ليس مما سميتموه قياسًا ولا استقراء ولا تمثيلا، وهذه هي الآيات.
 
وهذا كالاستدلال بطلوع الشمس على النهار، وبالنهار على طلوع الشمس، فليس هذا استدلالًا بكلي على جزئي، بل الاستدلال بطلوع معين على نهار معين استدلال بجزئي على جزئي، وبجنس النهار على جنس الطلوع استدلال بكلي على كلي، وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلال بجزئي على جزئي، كالاستدلال بالجدي وبنات نعش والكوكب الصغير القريب من القطب الذي يسميه بعض الناس القطب، وكذلك بظهور كوكب على ظهور نظيره في العرض، والاستدلال بطلوعه على غروب آخر، وتوسط آخر، ونحو ذلك من الأدلة التي اتفق عليها الناس، قال تعالى: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } <ref>[النحل: 16]</ref>.
 
والاستدلال على المواقيت والأمكنة بالأمكنة أمر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة، فإذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقًا ومغربا ويمينا وشمالا من الكواكب، كان استدلالًا بجزئي على جزئي لتلازمهما، وليس ذلك من قياس التمثيل. فإن قضى به قضاء كليًا كان استدلالًا بكلى علي كلي، وليس استدلالا بكلي على جزئي، بل بأحد الكليين المتلازمين على الآخر، ومن عرف مقدار أبعاد الكواكب بعضها عن بعض، وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر، استدل بما رآه منها على ما مضى من الليل، وما بقى منه، وهو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر. ومن علم الجبال والأنهار والرياح، استدل بها على ما يلازمها من الأمكنة.
 
ثم اللزوم إن كان دائما لا يعرف له ابتداء، بل هو منذ خلق الله الأرض، كوجود الجبال والأنهار العظيمة: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان، والبحر، كان الاستدلال مطردًا.
 
وإن كان اللزوم أقل من ذلك مدة مثل الكعبة، شرفها الله تعالى، فإن الخليل بناها، ولم تزل معظمة لم يعل عليها جبار قط، استدل بها بحسب ذلك، فيستدل بها وعليها؛ فإن أركان الكعبة مقابلة لجهات الأرض الأربع: الحجر الأسود يقابل المشرق، والغربي الذي يقابله ويقال له: الشامي يقابل المغرب، واليماني يقابل الجنوب، وما يقابله يقال له: العراقي إذا قيل للذي يليه من ناحية الحجر الشامي، وإن قيل لذاك: الشامي قيل لهذا: العراقي، فهذا الشامي العراقي يقابل الشمال، وهو يقابل القطب، وحينئذ فيستدل بها على الجهات، ويستدل بالجهات عليها.
 
وما كان مدته أقصر من مدة الكعبة كالأبنية التي في الأمصار والأشجار كان الاستدلال بها بحسب ذلك. فيقال: علامة الدار الفلانية أن على بابها شجرة من صفتها كذا وكذا، وهما متلازمان مدة من الزمان، فهذا وأمثاله استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، وكلاهما معين جزئي، وليس هو من قياس التمثيل.
 
ولهذا عدل نظار المسلمين عن طريقهم، فقالوا: الدليل هو المرشد إلى المطلوب، وهو الموصل إلى المقصود، وهو ما يكون العلم به مستلزمًا للعلم بالمطلوب، أو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم، أو إلى اعتقاد راجح، ولهم نزاع اصطلاحي: هل يسمى هذا الثاني دليلا، أو يخص باسم الأمارة؟ والجمهور يسمون الجميع دليلا، ومن أهل الكلام من لا يسمى بالدليل إلا الأول.
 
ثم الضابط في الدليل أن يكون مستلزمًا للمدلول، فكلما كان مستلزمًا لغيره أمكن أن يستدل به عليه، فإن كان التلازم من الطرفين، أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، فيستدل المستدل بما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه. ثم إن كان اللزوم قطعيًا، كان الدليل قطعيًا، وإن كان ظاهرًا وقد يتخلف كان الدليل ظنيًا.
 
فالأول كدلالة المخلوقات على خالقها سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته، فإن وجودها مستلزم لوجود ذلك، ووجودها بدون ذلك ممتنع فلا توجد الأدلة على ذلك، ومثل دلالة خبر الرسول على ثبوت ما أخبر به عن الله؛ فإنه لا يقول عليه إلا الحق إذ كان معصومًا في خبره عن الله لا يستقر في خبره عنه خطأ البتة. فهذا دليل مستلزم لمدلوله لزومًا واجبًا لا ينفك عنه بحال، وسواء كان الملزوم المستدل به وجودًا أو عدما، فقد يكون الدليل وجودًا وعدما، ويستدل بكل منهما على وجود وعدم، فإنه يستدل بثبوت الشيء على انتفاء نقيضه وضده، ويستدل بانتفاء نقيضه على ثبوته، ويستدل بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم، وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، بل كل دليل يستدل به، فإنه ملزوم لمدلوله، وقد دخل في هذا كل ما ذكروه وما لم يذكروه، فإن ما يسمونه الشرطي المتصل مضمونه الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم، وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، سواء عبر عن هذا بصيغة الشرط أو بصيغة الجزم، فاختلاف صيغ الدليل مع اتحاد معناه، لا يغير حقيقته، والكلام إنما هو في المعاني العقلية لا في الألفاظ.
 
فإذا قال القائل: إذا كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر، وإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وإن كان الفاعل عالمًا قادرًا فهو حي ونحو ذلك. فهذا معنى قوله: صحة الصلاة تستلزم صحة الطهارة، وقوله: يلزم من صحة الصلاة ثبوت الطهارة، وقوله: لا يكون مصليا إلا مع الطهارة. وقوله: الطهارة شرط في صحة الصلاة، وإذا عدم الشرط عدم المشروط. وقوله: كل مصل متطهر، فمن ليس بمتطهر فليس بمصل، وأمثال ذلك من أنواع التأليف للألفاظ والمعاني التي تتضمن هذا الاستدلال من حصر الناس في عبارة واحدة.
 
وإذا اتسعت العقول وتصوراتها، اتسعت عباراتها. وإذا ضاقت العقول والعبارات والتصورات، بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان، كما يصيب أهل المنطق اليوناني: تجدهم من أضيق الناس علمًا وبيانًا وأعجزهم تصورًا وتعبيرًا؛ ولهذا من كان ذكيا، إذا تصرف في العلوم، وسلك مسلك أهل المنطق، طول وضيق وتكلف وتعسف، وغايته بيان البين وإيضاح الواضح من العي، وقد يوقعه ذلك في أنواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم.
 
وكذلك تكلفاتهم في حدودهم، مثل حدهم للإنسان وللشمس بأنها كوكب يطلع نهارًا، وهل من يجد الشمس مثل هذا الحد ونحوه إلا من أجهل الناس، وهل عند الناس شيء أظهر من الشمس، ومن لم يعرف الشمس فإما أن يجهل اللفظ فيترجم له، وليس هذا من الحد الذي ذكروه، وإما ألا يكون رآها لعماه فهذا لا يري النهار ولا الكواكب بطريق الأولى، مع أنه لابد أن يسمع من الناس ما يعرف ذلك بدون طريقهم. وهم معترفون بأن الشكل الأول من الحمليات يغني عن جميع صور القياس، وتصويره فطري لا يحتاج إلى تعلمه منهم، مع أن الاستدلال لا يحتاج إلى تصوره على الوجه الذي يزعمونه.
 
==فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين==
 
وأما قولهم: الاستدلال لابد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان، فهذا قول باطل طردًا وعكسا، وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس، فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بما سوى ذلك، كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى استدلال، بل قد يعلمه بالضرورة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين، ومنهم من يحتاج إلى ثلاث، ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر، فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم، فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم، ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا، لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة، وهو أن يعلم أن هذا مسكر، فإذا قيل له: هذا حرام، فقال: ما الدليل عليه؟ فقال المستدل: الدليل على ذلك أنه مسكر، تم المطلوب.
 
وكذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة: هل هو مسكر أم لا؟ كما يسأل الناس كثيرًا عن بعض الأشربة ولا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر، ولكن قد علم أن كل مسكر حرام، فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير ذلك من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه، وكذلك سائر ما يقع الشك في اندراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان، مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج: هل هما من الميسر أم لا؟ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه، هل هو من الخمر أم لا؟ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق، هل هو داخل في قوله: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } <ref>[التحريم: 2]</ref> أم لا؟ وتنازعهم في قوله: { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } <ref>[البقرة: 237]</ref> هل هو الزوج أو الولي المستقل؟ وأمثال ذلك.
 
وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين، لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم، ولم يعلم أن هذا المعين مسكر، فهو لا يعلم أنه محرم، حتى يعلم أنه مسكر، ويعلم أن كل مسكر حرام. وقد يعلم أن هذا مسكر، ويعلم أن كل مسكر خمر، لكن لم يعلم أن النبي {{صل}} حرم الخمر؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك، أو يعلم أن النبي {{صل}} قال: «كل مسكر حرام» أو يعلم أن هذا خمر، وأن النبي {{صل}} حرم الخمر، لكن لم يعلم أن محمدا رسول الله، أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين، بل ظن أنه أباحها لبعض الناس، فظن أنه منهم، كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك. فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريمًا عامًا، إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر، وأن النبي {{صل}} حرم كل مسكر، وأنه رسول الله حقًا، فما حرمه حرمه الله، وأنه حرمه تحريمًا عامًا لم يبحه للتداوي أو للتلذذ.
 
ومما يبين أن تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل، أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهاني والخطابي والجدلي والشعري والسوفسطائي: إنه قول مؤلف من أقوال، أو عبارة عما ألف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، قالوا: واحترزنا بقولنا: من أقوال، عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها، وكذب نقيضها وليست قياسًا. قالوا: ولم نقل: مؤلف من مقدمات؛ لأنا لا يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة إلا بكونها جزء القياس. فلو أخذناها في حد القياس كان دورًا، والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة، وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة، وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية، وتسمى أيضا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة، وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة، بل أعم منه، فإن المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة اسمية والقضية تكون جملة اسمية وفعلية، كما لو قيل: قد كذب زيد، ومن كذب استحق التعزير.
 
والمقصود هنا أنهم أرادوا بالقول في قولهم: القياس قول مؤلف من أقوال القضية التي هي جملة تامة خبرية، لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو الحد، فإن القياس مشتمل على ثلاثة حدود: أصغر وأوسط وأكبر، كما إذا قيل: النبيذ المتنازع فيه مسكر، وكل مسكر حرام، فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد، وهي الحدود في القياس. فليس مرادهم بالقول هذا، بل مرادهم: أن كل قضية قول، كما فسروا مرادهم بذلك.
 
ولهذا قالوا: القياس قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر. واللازم إنما هي النتيجة، وهي قضية وخبر وجملة تامة وليست مفردًا. ولذلك قالوا: القياس قول مؤلف؛ فسموا مجموع القضيتين قولا، وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفًا من أقوال وهي القضايا لم يجب أن يراد بذلك قولان فقط؛ لأن لفظ الجميع إما أن يكون متناولا للاثنين فصاعدا كقوله: { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } <ref>[النساء: 11]</ref>، وإما أن يراد به الثلاثة فصاعدًا، وهو الأصل عند الجمهور. ولكن قد يراد به جنس العدد، فيتناول الاثنين فصاعدا، ولا يكون الجمع مختصًا باثنين.
 
فإذا قالوا: هو مؤلف من أقوال، إن أرادوا جنس العدد كان هذا المعنى من اثنين فصاعدًا، فيجوز أن يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات، فلا يختص بالاثنين، وإن أرادوا الجمع الحقيقي، لم يكن مؤلفًا إلا من ثلاث فصاعدًا، وهم قطعًا ما أرادوا هذا، لم يبق إلا الأول.
 
فإذا قيل: هم يلتزمون ذلك. ويقولون: نحن نقول: أقل ما يكون القياس من مقدمتين، وقد يكون من مقدمات.
 
فيقال: ولا هذا خلاف ما في كتبكم، فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط. وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب، سواء كان اقترانيًا أو استثنائيًا، لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما، وعللوا ذلك بأن المطلوب المتحد لا يزيد على جزأين مبتدأ وخبر.
 
فإن كان القياس اقترانيًا، فكل واحد من جزأي المطلوب لابد وأن يناسب مقدمة منه. أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرًا، ولا يكون هو نفس المقدمة.
 
قالوا: وليس للمطلوب أكثر من جزأين. فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين. وإن كان القياس استثنائيًا فلابد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل المطلوب أو نقيضه، فلابد من مقدمة استثنائية فلا حاجة إلى ثالثة.
 
قالوا: لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس، إما غير متعلق بالقياس أو متعلق به، والمتعلق بالقياس إما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما، ويسمون هذا القياس المركب.
 
قالوا: وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد، إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدًا، والباقي لبيان مقدمات القياس، قالوا: ربما حذفوا بعض مقدمات القياس إما تعويلًا على فهم الذهن لها أو لترويج المغلطة؛ حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها.
 
قالوا: ثم إن كانت الأقيسة لبيان المقدمات، قد صرح فيها بنتائجها، فيسمى القياس مفصولًا وإلا فموصول، ومثلوا الموصول بقول القائل: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان جوهر. والمفصول بقولهم: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم. ثم يقول: كل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان حيوان، فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر.
 
فيقال لهم: أما المطلوب الذي لا يزيد على جزأين فذاك في المنطوق به. والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان، وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها. وإن شئت قلت: اتصاف الموصوف بالصفة نفيًا أو إثباتًا، وإن شئت قلت: نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيًا وإثباتًا، وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود بالقضية. فإذا كانت النتيجة أن النبيذ حرام أو ليس بحرام، أو الإنسان حساس أو ليس بحساس ونحو ذلك، فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه، وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه. والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك المطلوب حصل بها المقصود. وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب، وكذلك قولنا الإنسان حيوان.
 
فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام، ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه، هل يسمى في لغة الشارع خمرًا؟ فقيل: النبيد حرام؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: « كل مسكر خمر» كانت القضية وهي قولنا: قد قال النبي {{صل}}: «إن كل مسكر خمر»: يفيد تحريم النبيذ؛ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى. والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع، وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث، فقد وجب التصديق بأن النبي {{صل}} قاله، وأن ما حرمه الرسول {{صل}} فهو حرام ونحو ذلك. فلو لزم أن نذكر كل ما يتوقف عليه العلم، وإن كان معلومًا، كانت المقدمات أكثر من اثنتين، بل قد تكون أكثر من عشر.
 
وعلى ما قالوه، فينبغي لكل من استدل بقول النبي {{صل}} أن يقول: النبي حرم ذلك، وما حرمه فهو حرام، فهذا حرام، وكذلك يقول: النبي أوجبه، وما أوجبه النبي فقد وجب، فإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك، يحتاج أن يقول: إن الله حرم هذا في القرآن وما حرمه الله فهو حرام. وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>، يقول: إن الله أوجب الحج في كتابه، وما أوجبه الله فهو واجب. وأمثال ذلك مما يعتبره العقلاء لُكْنة وعِيّا وإيضاحًا للواضح، وزيادة قول لا حاجة إليها.
 
وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم؛ كقولهم في حد الشمس: إنها كوكب تطلع نهارًا. وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان. ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم، ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم.
 
وقولهم: ليس للمطلوب أكثر من جزأين، فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين، فيقال: إن أردتم ليس له إلا اسمان مفردان، فليس الأمر كذلك، بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة، مثل من شك في النبيذ؛ هل هو حرام بالنص أم ليس حرامًا لا بنص ولا قياس؟ فإذا قال المجيب: النبيذ حرام بالنص، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وكذلك لو سأل: هل الإجماع دليل قطعي؟ فقال: الإجماع دليل قطعي، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وإذا قال: هل الإنسان جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق أم لا؟ فالمطلوب هنا ستة أجزاء.
 
وفي الجملة، فالموضوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر، وهو جملة خبرية، قد تكون جملة مركبة من لفظين، وقد تكون من ألفاظ متعددة إذا كان مضمونها مقيدًا بقيود كثيرة، مثل قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } <ref>[التوبة: 100]</ref>، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } <ref>[البقرة: 218]</ref>، وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ } <ref>[الأنفال: 75]</ref>، وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والأحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك.
 
وإذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين، بل من ألفاظ متعددة ومعان متعددة، وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان، سواء عبر عنهما بلفظين أو ألفاظ متعددة، قيل: وليس الأمر كذلك، بل قد يكون المطلوب معنى واحدًا، وقد يكون معنيين، وقد يكون معان متعددة، فإن المطلوب بحسب طلب الطالب، وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر، وكل منهما قد يطلب معنى واحدًا، وقد يطلب معنيين، وقد يطلب معاني، والعبارة عن مطلوبه، قد تكون بلفظ واحد، وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر. فإذا قال: النبيذ حرام، فقيل له: نعم، كان هذا اللفظ وحده كافيًا في جوابه، كما لو قيل له: هو حرام.
 
فإن قالوا: القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا، كما ذكرتموه من التمثيل بالإنسان، فإن هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب، والتقدير: هل هو جسم أم لا؟ وهل هو حساس أم لا؟ وهل هو نام أم لا؟ وهل هو متحرك أم لا؟ وهل هو ناطق أم لا؟وكذلك فيما تقدم: هل النبيذ حرام أم لا؟ وإذا كان حرامًا فهل تحريمه بالنص أو بالقياس؟ فيقال: إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد، فالمفرد قد يكون في معنى قضية، فإذا قال: النبيذ المسكر حرام فقال المجيب: نعم، فلفظ نعم في تقدير قوله: هو حرام؛ وإن قال: ما الدليل عليه؟ فقال: تحريم كل مسكر أو أن كل مسكر حرام، وقول النبي {{صل}}: «كل مسكر حرام» ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسمًا مفردًا، وهو جزء واحد، لم يجعله قضية مؤلفة من اسمين مبتدأ وخبر، فإن قوله: تحريم كل مسكر اسم مضاف. وقوله: «أن كل مسكر حرام» بالفتح مفرد أيضا، فإن أن وما في خبرها في تقدير المصدر المفرد، وإن المكسورة وما في خبرها جملة تامة.
 
وكذلك إذا قلت: الدليل عليه قول النبي {{صل}}، أو الدليل عليه النص، أو إجماع الصحابة، أو الدليل عليه الآية الفلانية، أو الحديث الفلاني، أو الدليل عليه قيام المقتضي للتحريم السالم عن المعارض المقاوم، أو الدليل عليه أنه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم، وأمثال ذلك فيما يعبر فيه عن الدليل باسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة.
 
ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بألفاظ متعددة.
 
والمقصود أن قولكم: إن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزأين فقط، إن أردتم لفظين فقط، وأن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد؛ لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل.
 
قيل لكم: وكذلك يمكن أن يقال في اللفظين: هما دليلان لا دليل واحد، فإن كل مقدمة تحتاج إلى دليل، وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له، فإنه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة أو بأربعة وأكثر، فجعل الجاعل اللفظين هما الأصل الواجب دون ما زاد وما نقص، وأن الزائد إن كان في المطلوب جعل مطالب متعددة، وإن كان في الدليل تذكر مقدمات، جعل ذلك في تقدير أقيسة متعددة تحكم محض، ليس هو أولى من أن يقال: بل الأصل في المطلوب أن يكون واحدًا ودليله جزءًا واحدًا، فإذا زاد المطلوب على ذلك جعل مطلوبين، أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته، وهذا إذا قيل، فهو أحسن من قولهم؛ لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردًا، والقياس هو الدليل.
 
ولفظ القياس يقتضي التقدير، كما يقال: قست هذا بهذا، والتقدير يحصل بواحد؛ وإذا قدر باثنين وثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرًا واحدًا، فتكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسًا واحدًا، فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى أقيسة متعددة، وما نقص عن الاثنين نصف قياس لا قياس تام، اصطلاح محض لا يرجع إلى معنى معقول، كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة للماهية والوجود بمثل هذا التحكم.
 
وحينئذ، فيعلم أن القوم لم يرجعوا فيما سموه حدًا وبرهانًا إلى حقيقة موجودة ولا أمر معقول، بل إلى اصطلاح مجرد، كتنازع الناس في العلة، هل هي اسم لما يستلزم المعلول بحيث لا يتخلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص، أو هو اسم لما يكون مقتضيًا للمعلول، وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط أو وجود مانع، وكاصطلاح بعض أهل النظر والجدل في تسمية أحدهم الدليل لما هو مستلزم للمدلول مطلقًا، حتى يدخل في ذلك عدم المعارض، والآخر يسمى الدليل لما كان من شأنه أن يستلزم المدلول، وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط أو وجود مانع. وتنازع أهل الجدل، هل على المستدل أن يتعرض في ذكر الدليل لتبيين المعارض جملة أو تفصيلا حيث يمكن التفصيل، أو لا يتعرض لا جملة ولا تفصيلا، أو يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا.
 
وهذه أمور وضعية اصطلاحية بمنزلة الألفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في أنفسهم ليست حقائق ثابتة في أنفسها لأمور معقولة تتفق فيها الأمم كما يدعية هؤلاء في منطقهم، بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا أو هذا أقرب إلى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين، فإن هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب، وأولئك لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل، وهو وصف التمام أو مجرد الاقتضاء، فكان ما اعتبره أولئك أولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء، الذين لم يرجعوا إلا إلى مجرد التحكم.
 
ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه أمر اصطلاحي، وضعه رجل من اليونان، لا يحتاج إليه العقلاء، ولا طلب العقلاء للعلم موقوفًا عليه كما ليس موقوفًا على التعبير بلغاتهم، مثل: فيلاسوفيا، وسوفسطيقا، وأنولوطيقا وآثولوجيا، وقاطيغورياس، ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم فلا يقول أحد: إن سائر العقلاء محتاجون إلى هذه اللغة. لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الأذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف.
 
_احتجاج أبي سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لمتى الفيلسوف_
 
وهذا مما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لمتى الفيلسوف؛ لما أخذ متى يمدح المنطق، ويزعم احتياج العقلاء إليه، ورد عليه أبو سعيد بعدم الحاجة إليه، وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعلم العربية؛ لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني، فإنه لابد فيها من التعلم، ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القرآن والحديث عليها فرضًا على الكفاية بخلاف المنطق.
 
==قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية==
 
ومن قال من المتأخرين: إن تعلم المنطق فرض على الكفاية، أو أنه من شروط الاجتهاد، فإنه يدل على جهله بالشرع، وجهله بفائدة المنطق. وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم ويكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف المنطق اليوناني، فكيف يقال: إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به، أو يقال: إن فطر بني آدم في الغالب لم تستقم إلا به؟
 
فإن قالوا: نحن لا نقول: إن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطقيين، بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم.
 
قيل: لا ريب أن المجهول لا يعرف إلا بالمعلومات، والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه، وهذا من الموازين التي أنزلها الله، حيث قال: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } <ref>[الشورى: 17]</ref>، وقال: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } <ref>[الحديد: 25]</ref>. وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا، ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان، فعلم أن الأمم غير محتاجة إلى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم، وهو كلامهم في المعقولات الثانية، فإن موضوع المنطق هو المعقولات من حيث يتوصل بها إلى علم ما لم يعلم فإنه ينظر في أحوال المعقولات الثانية، وهي النسب الثانية للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها، إن كانت موصلة إلى تحصيل ما ليس بحاصل، أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي، بل على قانون كلي ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل، كما أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته، فيميز ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي. وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض. وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي، ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل، ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني؛ كنسبة العروض إلى الشعر، وموازين الأموال إلى الأموال، وموازين الأوقات إلى الأوقات، وكنسبة الذراع إلى المذروعات.
 
وهذا هو الذي قال جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء أنه باطل؛ فإن منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل، لا في صورة الدليل ولا في مادته، ولا يحتاج أن توزن به المعاني، بل ولا يصح وزن المعاني به، بل هذه الدعوى من أكذب الدعاوي.
 
والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق، وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها، والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها، فذكروا لمنطقهم أربع دعاوي: دعوتان سالبتان، ودعوتان موجبتان.
 
ادعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وأن التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق، وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوى كذبا، وادعوا أن ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة، وهذا أيضا باطل. وقد تقدم التنبية على هذه الدعاوي الثلاثة، وسيأتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي أمثل من غيرها، وهي دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقي.
 
وإن قالوا: إن العلم التصديقي أو التصوري أيضا لا ينال بدونه، فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقتين اللتين ذكروهما من الحد، وما ذكروه من القياس.. وادعوا أن ما ذكروه من الطريقتين توصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم، بمعنى أن ما يوصل لابد أن يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره، فما ذكروه آلة قانونية بها توزن الطرق العلمية، ويميز بها بين الطريق الصحيحة والفاسدة، فمراعاة هذا القانون تعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق.
 
هذا ملخص ما قالوه.
 
وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات، فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل، ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوا فيه، وإن كان في طرقهم ما هو حق، كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل، فما من أحد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولابد أن يتضمن ما هو حق. فمع اليهود والنصاري من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق، بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعملية للأخلاق والمنازل والمدائن.
 
ولهذا كان اليونان مشركين كفارًا يعبدون الكواكب والأصنام، شرًا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير، ولولا أن الله منَّ عليهم بدخول دين المسيح إليهم، فحصل لهم من الهدي والتوحيد ما استفادوه من دين المسيح، ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل، لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين، ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا في دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل، وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم.
 
وكلامنا هنا في بيان ضلال هؤلاء المتفلسفة الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم، فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات، كقولهم: إن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن؛ لأنهم سمعوا أنه كان وزير الإسكندر، وذو القرنين يقال له: الإسكندر. وهذا من جهلهم، فإن الإسكندر الذي وزر له أرسطو هو ابن فيلبس المقدوني، الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى، وهو إنما ذهب إلى أرض القدس، لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركا يعبد الأصنام، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحدًا مؤمنا بالله. وكان متقدما على هذا، ومن يسميه الإسكندر يقول: هو الإسكندر بن دارا.
 
ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين، كالقرامطة والباطنية، الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفارًا وإما منافقين، كما نفق من نفق منهم على المنافقين الملاحدة، ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائما على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين.
 
وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لابد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل، وقد علم ضعفه.
 
ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد تكفي فيه مقدمة واحدة، قالوا: إنه ربما أدرج في القياس قول زائد، أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين، ويسمونه المركب. قالوا: ومضمونه أقيسة متعددة، سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات ليس إلا واحدًا. قالوا: وربما حذفت إحدى المقدمات إما للعلم بها أو لغرض فاسد، وقسموا المركب إلى مفصول وموصول.
 
فيقال: هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات، وما يكفي فيه مقدمة واحدة. ثم قلتم: إن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى أقيسة متعددة فيقال لكم: إذا ادعيتم أن الذي لابد منه إنما هو قياس واحد مشتمل على مقدمتين، وأن ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة، كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات، فقولوا: إن الذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وإن ما زاد على تلك المقدمة، من المقدمات؛ فإنما هو لبيان تلك المقدمة. وهذا أقرب إلى المعقول. فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف، وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه، وهو ثبوت الخبر للمبتدأ، أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل، فالذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه.
 
وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس؛ للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب، وليس تقدير عدد بأولى من عدد.
 
وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو لتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة، ومن احتج على مسألة بمقدمة، لا تكفي وحدها لبيان المطلوب، أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي، طولب بالتمام الذي تحصل به كفاية. وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع، وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال، فمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص قال: هذا حرام، فقيل له: لم؟ قال: لأنه نبيذ مسكر، فهذه المقدمة كافية إن كان المستمع يعلم أن كل مسكرحرام، إذا سلم له تلك المقدمة، وإن منعه إياها وقال: لا نسلم أن هذا مسكر، احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها، وهذا قياس تمثيل، وهو مفيد لليقين، فإن الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر، علم أن الباقي منه مسكر؛ لأن حكم بعضه مثل بعضه. وكذلك سائر القضايا التجريبية، كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل: بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية، إنما هو بواسطة قياس التمثيل.
 
وإن كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام، احتاج إلى مقدمتين إلى إثبات أن هذا مسكر، وإلى أن كل مسكر حرام فيثبت الثانية بأدلة متعددة، كقول النبي {{صل}}: «كل مسكر حرام» و«كل شراب أسكر فهو حرام». وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال: «كل مسكر حرام». وهذه الأحاديث في الصحيح، وهي وأضعافها معروفة عن النبي {{صل}} تدل على أنه حرم كل شراب أسكر.
 
فإن قال: أنا أعلم أنه خمر، لكن لا أسلم أن الخمر حرام، أو لا أسلم أنه حرام مطلقًا، أثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا.
 
وما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب، أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه، كما تقدم بيانه، ولما كان الحد الأول مستلزمًا للأوسط، والأوسط للثالث، ثبت أن الأول مستلزم للثالث، فإن ملزوم الملزوم ملزوم، ولازم اللازم لازم، فإن الحكم لازم من لوازم الدليل، لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما، فالوسط ما يقرن بقولك: لأنه. وهذا مما ذكره المنطقيون، وابن سينا وغيره؛ ذكروا الصفات اللازمة للموصوف، وأن منها ما يكون بين اللزوم. وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي، فقالوا له: كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى وسط، وهي البينة اللزوم، والوسط عند هؤلاء هو الدليل.
 
==ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا==
 
وأما ما ظنه بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا في نفس الأمر بين اللازم القريب واللازم البعيد، فهذا خطأ. ومع هذا يستبين حصول المراد على التقديرين، فنقول: إذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل يتوسط بينهما، فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له، وإن كان بينهما وسط، فذلك الوسط إن كان لزومه للملزوم الأول ولزوم الثاني له بينًا، لم يفتقر إلى وسط ثان. وإن كان أحد الملزومين غير بين بنفسه، احتاج إلى وسط، وإن لم يكن واحد منهما بينا، احتاج إلى وسطين، وهذا الوسط هو حد يكفي فيه مقدمة واحدة، فإذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر، فقيل له: لأنه قد صح عن النبي {{صل}} أنه قال: «كل مسكر خمر» أو «كل مسكر حرام» فهذا الأوسط وهو قول النبي {{صل}} لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له إلى وسط، ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر إلى وسط، فإن كل أحد يعلم أنه إذا حرم كل مسكر، حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه، وكل مؤمن يعلم أن النبي {{صل}} إذا حرم شيئًا حرم. ولو قال: الدليل على تحريمه أنه مسكر، فالمخاطب إن كان يعرف أن ذلك مسكر، والمسكر محرم، سلم له التحريم، ولكنه غافل عن كونه مسكرًا، أو جاهل بكونه مسكرًا، وكذلك إذا قال: لأنه خمر، فإن أقر أنه خمر ثبت التحريم، وإذا أقر بعد إنكاره، فقد يكون جاهلًا فعلم، أو غافلًا فذكر، فليس كل من علم شيئًا كان ذاكرًا له.
 
ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين، هل هو كاف في العلم بالنتيجة، أم لابد من التفطن لأمر ثالث؟ وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره. قالوا: لأن الإنسان قد يكون عالما بأن البغلة لا تلد، ثم يغفل عن ذلك، ويرى بغلة منتفخة البطن. فيقول: أهذه حامل أم لا؟ فيقال له: أما تعلم أنها بغلة؟ فيقول: بلى. ويقال له: أما تعلم أن البغلة لا تلد. فيقول: بلى. قال: فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد. ونازعه الرازي وغيره وقالوا: هذا ضعيف؛ لأن اندراج إحدى المقدمتين تحت الأخرى إن كان مغايرًا للمقدمتين، كان ذلك مقدمة أخرى لابد فيها من الإنتاج، ويكون الكلام في كيفية التئامها مع الأوليين كالكلام في كيفية التئام الأوليين. ويفضي ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات. وإن لم يكن ذلك معلومًا مغايرًا للمقدمتين، استحال أن يكون شرطًا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط. وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطًا. وأما حديث البغلة فذلك إنما يمكن إذا كان الحاضر في الذهن إحدى المقدمتين فقط، إما الصغرى وإما الكبرى، أما عند اجتماعهما في الذهن، فلا نسلم أنه يمكن الشك أصلا في النتيجة.
 
قلت: وحقيقة الأمر أن هذا النزاع، لزمهم في ظنهم الحاجة إلى مقدمتين، لا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط، وليس الأمر كذلك، بل المحتاج إليه ما به يعلم المطلوب سواء كان مقدمة أو اثنين أو ثلاثًا، والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة؛ فإذا تذكر صار معلومًا بالفعل. وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تلد، وهذه المقدمة كان ذاهلا عنها، فلم يكن عالمًا بها العلم الذي تحصل به الدلالة، فإن المغفول عنه لا يدل حينما يكون مغفولًا عنه، بل إنما يدل حال كونه مذكورًا؛ إذ هو بذلك يكون معلومًا علمًا حاضرًا.
 
والرب - تعالى - منزه عن الغفلة والنسيان؛ لأن ذلك يناقض حقيقة العلم، كما أنه منزه عن السنة والنوم؛ لأن ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية، فإن النوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون، ويلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا النفس.
 
والمقصود هنا أن وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له، سواء سمى استحضارًا أو تفطنًا أو غير ذلك، فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له، علم أنه دال عليه، وهذا اللزوم إن كان بينًا له، وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر. والأوساط تتنوع بتنوع الناس، فليس ما كان وسطًا مستلزمًا للحكم في حق هذا، هو الذي يجب أن يكون وسطًا في حق الآخر، بل قد يحصل له وسط آخر، فالوسط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم، وهما المحكوم والمحكوم عليه، فإن الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكمًا له، والأواسط التي هي الأدلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية، كما إذا كان الوسط خبرًا صادقًا، فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا. وإذا رؤى الهلال، وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد، فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين أخبروا غيرهم. والقرآن والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير وسائط غيرهم، لاسيما في القرن الثاني والثالث، فهؤلاء لهم مقرئون ومعلمون، ولهؤلاء مقرئون ومعلمون، وهؤلاء كلهم وسائط، وهم الأوساط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله، وهم الذين دلوهم على ذلك بأخبارهم وتعليمهم.
 
وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل أو الحس، إذا نبه عليها منبه أو أرشد إليها مرشد، وأما من جعل الوسط في اللوازم هو الوسط في نفس ثبوتها للموصوف، فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه، وبتقدير صحته، فالوسط الذهني أعم من الخارجي، كما أن الدليل أعم من العلة، فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول، وليس كل دليل يكون علة في نفس الأمر وكذلك ما كان متوسطًا في نفس الأمر، أمكن جعله متوسطًا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس؛ لأن الدليل هو ما كان مستلزمًا للمدلول، فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها، والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد، هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به، فتبين أنه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة إذا لم يحتج إلى غيرها، وقد لا يمكن إلا بمقدمات فيحتاج إلى معرفتهن؛ فإن تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض؛ ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين، لا أكثر ولا أقل، ويجتهد في رد الزيادة إلى اثنتين. وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين، إلا أهل منطق اليونان، ومن سلك سبيلهم، دون من كان باقيًا على فطرته السليمة أو سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل.
 
وكذلك أهل النحو والطب والهندسة، لا يدخل في هذا الباب إلا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين، كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل، وما استفادوا بما تلقوه عنهم علمًا إلا عما يستغنى عن باطل كلامهم أو ما يضر ولا ينفع، لما فيه من الجهل أو التطويل الكثير.
 
ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات، كانت طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه، ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين، كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين، بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم، وسلوكهم في نظرهم لأنفسهم، ومناظرتهم لغيرهم تعليما وإرشادًا ومجادلة على ما ذكرت، وكذلك سائر أصناف العقلاء من أهل الملل وغيرهم إلا من سلك طريق هؤلاء.
 
وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، ويبينون ما فيها من العِيّ واللُّكنَة وقصور العقل وعجز النطق، ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك. ولا يرضون أن يسلوكها في نظرهم ومناظرتهم، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه.
 
وإنما كثر استعمالها من زمن أبي حامد. فإنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق، وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر، وصنف كتابًا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين: الثلاث الحمليات، والشرطي المتصل والشرطي المنفصل، وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم، وصنف كتابا في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم، وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد، وبين في آخر كتبه أن طريقهم فاسدة، لا توصل إلى يقين، وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين. وكان أولا يذكر في كتبه كثيرًا من كلامهم، إما بعبارتهم وإما بعبارة أخرى، ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم، وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها، وفسادها أعظم من طريق المتكلمين، ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم. والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول، ما حصل له مقصوده، ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة، ولم يغن عنه المنطق شيئًا.
 
ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه. وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيبًا مجملا؛ لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على مافي أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال.
 
والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب على مقدمتين، لا أكثر، ليس كذلك، وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير، ويقولون: إنها قد تحذف إما للعلم بها، وإما غلطا أو تغليطًا، فيقال: إذا كانت معلومة، كانت كغيرها من المقدمات المعلومة، وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاث وأربع، فإن جاز أن يدعي في الدليل الذي لا يحتاج إلا إلى مقدمة، أن الأخرى تضمر محذوفة، جاز أن يدعي فيما يحتاج إلى ثنتين أن الثالثة محذوفة، وكذلك فيما يحتاج إلى ثلاث وليس لذلك حد، ومن تدبر هذا وجد الأمر كذلك؛ ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم، ما يوجد في كلام أهل المنطق، بل من سلك طريقهم كان من المضيقين في طريق العلم عقولا وألسنة، ومعانيهم من جنس ألفاظهم، تجد فيها من الرِّكَّة والعِيّ ما لا يرضاه عاقل.
 
وكان يعقوب بن إسحاق الكندي، فيلسوف الإسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين، كما قالوا: لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة- كان يعقوب يقول في أثناء كلامه: العدم فقد وجود كذا، وأنواع هذه الإضافات، ومن وجد في بعض كلامه فصاحة أو بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره، فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم، وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين، لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم، وهم أكثر ما ينفقون على من لم يفهم ما يقولونه، ويعظمهم بالجهل والوهم، أو يفهم بعض ما يقولونه أو أكثره أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول {{صل}} وما يعرف بالعقول السليمة، وما قاله سائر العقلاء مناقضًا لما قالوه. وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقة، واقترن بها حسن ظن، فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله، ثم إن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرًا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء، ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبرأهم منهم، بل وردهم عليهم وإلا بقى من الضلال، وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس؛ ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة.
 
==التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه==
 
وإنما المنطق التبس الأمر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه، ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه، واتفق أن فيه أمورًا ظاهرة مثل الشكل الأول، ولا يعرفون أن ما فيه من الحق لا يحتاج إليهم فيه، بل طولوا فيه الطريق، وسلكوا الوعر والضيق، ولم يهتدوا فيه إلى ما يفيد التحقيق، وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطؤوا في إثباته، بل ما أخطؤوا في نفيه حيث زعموا أن العلم النظري لا يحصل إلا ببرهانهم وهو من القياس.
 
وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة: القياس، والاستقراء، والتمثيل، وزعموا أن التمثيل لا يفيد اليقين، وإنما يفيد القياس الذي تكون مادته من القضايا التي ذكروها. وقد بينا في غير هذا الموضع أن قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان، وأن ما حصل بأحدهما عن علم أو ظن، حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة، والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية، بل إذا كانت المادة يقينية، سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل أو صورة قياس الشمول، فهي واحدة، وسواء كانت صورة القياس اقترانيًا أو استثنائيًا - بعبارتهم أو بأي عبارة شئت، لاسيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل، وأوجز في اللفظ والمعنى واحد.
 
وجد هذا في أظهر الأمثلة إذا قلت: هذا إنسان، وكل إنسان مخلوق، أو حيوان، أو حساس، أو متحرك بالإرادة، أو ناطق، أو ما شئت من لوازم الإنسان، فإن شئت صورت الدليل على هذه الصورة، وإن شئت قلت: هو إنسان فهو مخلوق أو حساس أو حيوان أو متحرك كغيره من الناس، لاشتراكهما في الإنسانية المستلزمة لهذه الصفات، وإن شئت قلت: هذا إنسان، والإنسانية مستلزمة لهذه الأحكام، فهي لازمة له، وإن شئت قلت: إن كان إنسانًا فهو متصف بهذه الصفات اللازمة للإنسان، وإن شئت قلت: إما أن يتصف بهذه الصفات وإما ألا يتصف، والثاني باطل، فتعين الأول؛ لأن هذه لازمة للإنسان لا يصور وجوده بدونها.
 
وأما الاستقراء، فإنما يكون يقينيا؛ إذا كان استقراء تاما. وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد، وهذا ليس استدلالا بجزئي على كلي ولا بخاص على عام، بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلي العام، يوجب أن يكون لازمًا لذلك الكلي العام. فقولهم: إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق، وكيف ذلك، والدليل لابد أن يكون ملزوما للمدلول؟ فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه، ولم يكن المدلول لازمًا له، لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل، نعلم ثبوت المدلول معه، إذا علمنا أنه تارة يكون معه، وتارة لا يكون معه، فإنا إذا علمنا ذلك، ثم قلنا: إنه معه دائمًا كنا قد جمعنا بين النقيضين.
 
وهذا اللزوم الذي نذكره هاهنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم، وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر، كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر، كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى، فإنه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه، بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته، وكل مخلوق دال على ذلك كله.
 
وإذا كان المدلول لازمًا للدليل، فمعلوم أن اللازم إما أن يكون مساويًا للملزوم، وإما أن يكون أعم منه، فالدليل لا يكون إلا أعم منه، وإذا قالوا في القياس: يستدل بالكلي على الجزئي، فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه، وإنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه بمحل الحكم، فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له، بخلاف الحكم الذي هو صيغة هذا، وحكمه الذي أخبر به عنه، فإنه لا يكون إلا أعم من الدليل أو مساويا له، فإن ذلك هو المدلول اللازم للدليل، والدليل هو لازم للمخبر عنه الموصوف.
 
فإذا قيل: النبيذ حرام لأنه خمر، فكونه خمرًا هو الدليل، وهو لازم للنبيذ، والتحريم لازم للخمر، والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت: كل النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر، وكل خمر حرام، فأنت لم تستدل بالمسكر أو الخمر الذي هو كلي على نفس محل النزاع الذي هو أخص من الخمر والنبيذ، فليس هو استدلالا بذلك الكلي على الجزئي، بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ، فلما كان تحريم هذا النبيذ مندرجًا في تحريم كل مسكر قال: من قال أنه استدلال بالكلي على الجزئي؟
 
والتحقيق أن ما ثبت للكلي فقد ثبت لكل واحد من جزئياته، والتحريم هو أعم من الخمر، وهو ثابت لها، فهو ثابت لكل فرد من جزئياتها، فهو استدلال بكلى على ثبوت كلي آخر لجزئيات ذلك الكلي. وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلي، وهو كلي بالنسبة إلى تلك الجزئيات، وهذا مما ما لا ينازعون فيه، فإن الدليل هو الحد الأوسط وهو أعم من الأصغر أو مساو له، والأكبر أعم منه أو مساو له، والأكبر هو الحكم والصفة والخبر، وهو محمول النتيجة، والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ، وهو موضوع النتيجة.
 
وأما قولهم في التمثيل: أنه استدلال بجزئي على جزئي، فإن أطلق ذلك وقيل: إنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي، فهذا غلط، فإن قياس التمثيل إنما يدل بحد أوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم، أو دليل الحكم مع العلة فإنه قياس علة أو قياس دلالة.
 
==قياس الشبه==
 
وأما قياس الشبه، فإذا قيل به لم يخرج عن أحدهما، فإن الجامع المشترك بين الأصل والفرع إما أن يكون هو العلة أو ما يستلزم العلة، وما استلزمها لم يكن الاشتراك فيه مقتضيًا للاشتراك في الحكم، بل كان المشترك قد تكون معه العلة، وقد لا تكون، فلا نعلم صحة القياس، بل لا يكون صحيحًا إلا إذا اشتركا فيها. ونحن لا نعلم الاشتراك فيها. إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها أو في ملزومها. فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فإذا قدرنا أنهما لم يشتركا في الملزوم ولا فيها، كان القياس باطلا قطعًا؛ لأنه حينئذ تكون العلة مختصة بالأصل. وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس، وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الأصل والفرع، وإن لم تعلم عين العلة ولا دليلها، فإنه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق. أو بإبداء جامع، وهو كلي يجمعهما يستلزم الحكم، وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول. وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلي لجزئياته، وهذا حقيقة قياس الشمول، ليس ذلك استدلالًا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر.
 
فأما إذا قيل: بم يعلم أن المشترك مستلزم للحكم؟ قيل: بما تعلم به القضية الكبرى في القياس، فبيان الحد الأوسط هو المشترك الجامع، ولزوم الحد الأكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك، كما تقدم التنبيه على هذا. وقد يستدل بجزئي على جزئي، إذا كانا متلازمين، أو كان أحدهما ملزوم الآخر من غير عكس، فإن كان اللزوم عن الذات، كانت الدلالة على الذات، وإن كان في صفة أو حكم، كانت الدلالة على الصفة أو الحكم، فقد تبين ما في حصرهم من الخلل.
 
وأما تقسيمهم إلى الأنواع الثلاثة، فكلها تعود إلى ما ذكر في استلزام الدليل للمدلول، وما ذكروه في الاقتراني يمكن تصويره بصورة الاستثنائي، وكذلك الاستثنائي يمكن تصويره بصورة الاقتراني، فيعود الأمر إلى معنى واحد، وهو مادة الدليل، والمادة لا تعلم من صورة القياس الذي ذكروه، بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة، سواء صورت بصورة قياس أو لم تصور، وسواء عبر عنها بعباراتهم أو بغيرها، بل العبارات التي صقلتها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير.
 
والاقتراني كله يعود إلى لزوم هذا لهذا، وهذا لهذا كما ذكر، وهذا بعينه هو الاستثنائي المؤلف من المتصل والمنفصل، فإن الشرطي المتصل استدلال باللزوم، بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم الذي هو التالي، وهو الجزاء، أو بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط.
 
وأما الشرطي المنفصل وهو الذي يسميه الأصوليون السبر والتقسيم، وقد يسميه أيضا الجدليون التقسيم والترديد فمضمونه الاستدلال بثبوت أحد النقيضين على انتفاء الآخر، وبانتفائه على ثبوته. وأقسامه أربعة، ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذا الآخر، وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذا الآخر، ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر، والأمران متنافيان، ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم، والنقيضان لا يرتفعان، فمنعت الخلو منهما، ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر، ليس هو وجود الشيء وعدمه، ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازمًا للآخر، وإن كانا لا يرتفعان؛ لأن ارتفاعهما يقتضي ارتفاع وجود شيء وعدمه معا.
 
وبالجملة، ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه، وله مناف مضاد لوجوده، فيستدل عليه بثبوت ملزومه، وعلى انتفائه بانتفاء لازمه، ويستدل على انتفائه بوجود منافيه، ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده؛ إذا انحصر الأمر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعًا، كما لم يمكن وجودهما جميعًا، وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولازمها، وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع صور الأدلة، لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس، فضلا عما سموه البرهان، فإن البرهان شرطوا له مادة معينة، وهي القضايا التي ذكروها، وأخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات، وما سموه مشهورات، وحكم الفطرة بهما لاسيما بما سموه وهميات أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان.
 
وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم، وأن ما أخرجوه يخرج به ما ينال به أشرف العلوم من العلوم النظرية والعلوم العملية، ولا يبقى بأيديهم إلا أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان. ولولا أن هذا الموضع لا يتسع لحكاية ألفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته، فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والإلهية، فإنها هي المطلوبة.
 
==الزعم بأن المنطق آلة قانونية==
 
والكلام في المنطق إنما وقع لما زعموا أنه آلة قانونية، تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، فاحتجنا أن ننظر في هذه الآلة، هل هي كما قالوا، أو ليس الأمر كذلك؟ ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد أقوالهم، ما يتبين به ضلالهم، وعجز عن دفع ذلك، يقول: هذه علوم قد صقلتها الأذهان أكثر من ألف سنة وقبلها الفضلاء، فيقال له عن هذا أجوبة:
 
أحدها: أنه ليس الأمر كذلك، فما زال العقلاء الذين هم أفضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم، فأما القدماء، فالنزاع بينهم كثير معروف، وفي كتب أخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره، فأما أيام الإسلام، فإن كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما أفسدوه من أصولهم المنطقية والإلهية، بل والطبيعية والرياضية كثير، قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة، وأما شهادة سائر طوائف أهل الإيمان والعلماء بضلالهم، وكفرهم، فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند، والمؤمنون شهداء الله في الأرض، فإذا كان أعيان الأذكياء الفضلاء من الطوائف، وسائر أهل العلم والإيمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم إما جملة وإما تفصيلا، امتنع أن يكون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول.
 
الوجه الثاني: أن هذا ليس بحجة، فإن الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبله بالقبول طعن أرسطو في كثير منها وبين خطأهم، وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من أقاويلهم وبينوا خطأهم. ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض، وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله؛ لأنهم يقولون: إنما قصدنا الحق، ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين.
 
والثالث: أن دين عباد الأصنام أقدم من فلسفتهم، وقد دخل فيه من الطوائف أعظم ممن دخل في فلسفتهم، وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو، ودين النصارى المبدل قريب من زمن أرسطو، فإن أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، فإنه كان في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى.
 
الرابع: أن يقال: فهب أن الأمر كذلك، فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل، وإنما تعلم بمجرد العقل، فلا يجوز أن تصحح بالنقل، بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد، فإذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها، لم يجز رده، فإن أهلها لم يدعوا أنها مأخوذة عن شيء يجب تصديقه، بل عن عقل محض، فيجب التحاكم فيها إلى موجب العقل الصريح.
 
==فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن==
 
وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول، وأن قياس التمثيل دون الاستقراء، فقالوا: إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن، وأن المحكوم عليه قد يكون جزئيًا، بخلاف الاستقراء، فإنه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليًا، قالوا: وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كلي بما تحقق في جزئياته. فإن كان في جميع الجزئيات، كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك بالجسمية؛ لكونها محكومًا بها على جميع جزئيات المتحرك من الجماد والحيوان والنبات، والناقص كالحكم على الحيوان بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته، ولعله فيما لم يستقرأ على خلافه كالتمساح، والأول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني، وإن كان منتفعًا به في الجدليات.
 
وأما قياس التمثيل: فهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما، كقولهم: العالم موجود، فكان قديما كالباري. أو هو جسم فكان محدثَا كالإنسان، وهو مشتمل على فرع وأصل وعلة وحكم، فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال، والأصل ما هو مثل الباري أو الإنسان، والعلة الموجودة أو الجسم، والحكم القديم أو المحدث.
 
قالو: ويفارق الاستقراء من جهة أن المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيًا، والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا. قالوا: وهو غير مفيد لليقين؛ فإنه ليس من ضرورة اشتراك أمرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على أحدهما، إلا أن يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم، وكل ما يدل عليه فظني، فإن المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم.
 
أما الطرد والعكس، فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودا وعدما، ولابد في ذلك من الاستقراء، ولا سبيل إلى دعواه في الفرع؛ إذ هو غير المطلوب، فيكون الاستقراء ناقصا، لا سيما ويجوز أن تكون علة الحكم في الأصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها، ويكون وجودها في الأوصاف متحققًا فيها، فإذا وجد المشترك في الأصل ثبت الحكم لكمال علته، وعند انتفائه فينتفي لنقصان العلة، وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع، ثبوت الحكم، لجواز تخلف باقي الأوصاف أو بعضها.
 
وأما السبر والتقسيم، فحاصله يرجع إلى دعوى حصر أوصاف الأصل في جملة معينة، وإبطال كل ما عدا المستبقى. وهو أيضا غير يقيني لجواز أن يكون الحكم ثابتًا في الأصل لذات الأصل لا لخارج، وإلا لزم التسلسل، وإن ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغيرها أبدًا، وإن لم يطلع عليه مع البحث عنه، وليس الأمر كذلك في العاديات، فإنا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر زئبق وجبل من ذهب بين أيدينا، ونحن لا نشاهده، وإن كان منحصرًا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع، وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل، لجواز أن يكون في تلك معللا بعلة أخرى، ولا امتناع فيه، وإن كان لا علة له سواه، فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه، وإن بين أن ذلك الوصف يلزم لعموم ذاته الحكم، فمع بعده يستغنى عن التمثيل.
 
==قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل==
 
قالوا: والفراسة البدنية هي عين التمثيل، غير أن الجامع فيها بين الأصل والفرع دليل العلة لا نفسها، وهو المسمى في عرف الفقهاء بقياس الدلالة، فإنها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها، ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الآخر؛ إذ مبناها على أن المزاج علة لخلق الباطن وخلق ظاهر، فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج، ثم بالمزاج على الخلق الباطن، كالاستدلال بعرض الأعلى على الشجاعة، بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الأسد، ثم إثبات العلة في الأصل لابد فيها من الدوران أو التقسيم كما تقدم، وإن قدر أن علة الحكمين في الأصل واحدة، فلا مانع من ثبوت أحدهما في الفرع بغير علة الأصل، وعند ذلك فلا يلزم الحكم الآخر. هذا كلامهم.
 
==تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل==
 
فيقال: تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل، بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين، أفاد الآخر اليقين. وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن، فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين. فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا، حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنًا، لم يفد إلا الظن. والذي يسمى في أحدهما حدًا أوسط هو في الآخر الوصف المشترك، والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الأصل والفرع، فما به يتبين صدق القضية الكبرى، به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم. فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك.
 
فإذا قلت: النبيذ حرام قياسًا على الخمر؛ لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة، وهذا الوصف موجود في النبيذ، كان بمنزلة قولك: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام. فالنتيجة: قولك: النبيذ حرام، والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر؛ والحرام محمولها وهو الحد الأكبر، والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط، المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى.
 
فإذا قلت: النبيذ حرام قياسًا على خمر العنب؛ لأن العلة في الأصل هو الإسكار وهو موجود في الفرع، فثبت التحريم لوجود علته؛ فإنما استدللت على تحريم النبيذ بالسكر وهو الحد الأوسط، لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الأصل الذي يثبت به الفرع، وهذا لأن شعور النفس بنظير الفرع، أقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي، وإذا قام الدليل على تأثير الوصف المشترك، لم يكن ذكر الأصل محتاجًا إليه.
 
والقياس لا يخلو، إما أن يكون بإبداء الجامع، أو بإلغاء الفارق، والجامع إما العلة وإما دليلها وإما القياس بإلغاء الفارق، فهنا الغاء الفارق هو الحد الأوسط. فإذا قيل: هذا مساو لهذا، ومساوي المساوي مساو، كانت المساواة هي الحد الأوسط وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة.
 
فإذا قيل: لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وهو متعذر، فهو بمنزلة قولك: هذا مساو لهذا. وحكم المساوي حكم مساويه.
 
==قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني==
 
وأما قولهم: كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم، فظني.
 
فيقال: لا نسلم؛ فإن هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلا. ثم نقول: الذي يدل به على علية المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى، وكل ما يدل به على صدق الكبرى في قياس الشمول يدل به على علية المشترك في قياس التمثيل، سواء كان علميًا أو ظنيًا؛ فإن الجامع المشترك في التمثيل، هو الحد الأوسط، ولزوم الحكم له هو لزوم الأكبر للأوسط، ولزوم الأوسط للأصغر هو لزوم الجامع المشترك للأصغر، وهو ثبوت العلة في الفرع.
 
فإذا كان الوصف المشترك، وهو المسمى بالجامع، والعلة أو دليل العلة أو المناط أو ما كان من الأسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتًا في الفرع، لازمًا له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الصغرى. وإذا كان الحكم ثابتًا للوصف لازمًا له، كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الكبرى. وذكر الأصل يتوصل به إلى إثبات إحدى المقدمتين، فإن كان القياس بإلغاء الفارق فلابد من الأصل المعين؛ فإن المشترك هو المساواة بينهما وتماثلهما، وهو إلغاء الفارق هو الحد الأوسط، وإن كان القياس بإبداء العلة، فقد يستغنى عن ذكر الأصل إذا كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر إليه، وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف إليه فيذكر الأصل؛ لأنه من تمام ما يدل على علية المشترك، وهو الحد الأكبر. وهؤلاء الذين فرقوا بين قياس التمثيل وقياس الشمول أخذوا يظهرون كون أحدهما ظنيًا في مواد معينة، وتلك المواد التي لا تفيد إلا الظن في قياس التمثيل، لا تفيد إلا الظن في قياس الشمول، وإلا فإذا أخذوه فيما يستفاد به اليقين من قياس الشمول، أفاد اليقين في قياس التمثيل أيضا. وكان ظهور اليقين به هناك أتم.
 
فإذا قيل في قياس الشمول: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم، كان الحيوان هو الحد الأوسط وهو المشترك في قياس التمثيل، بأن يقال: الإنسان جسم، قياسًا على الفرس وغيره من الحيوانات؛ فإن كون تلك الحيوانات حيوانًا، هو مستلزم لكونها أجسامًا. وإذا نوزع في علية الحكم في الأصل، فقيل له: لا نسلم أن الحيوانية تستلزم الجسيمة، كان هذا نزاعًا في قوله: كل حيوان جسم. وذلك أن المشترك بين الأصل والفرع، إذا سمى علة، فإنما يراد به ما يستلزم الحكم؛ سواء كان هو العلة الموجبة لوجوده في الخارج، أو كان مستلزما لذلك،
 
ومن الناس من يسمى الجميع علة، لاسيما من يقول: إن العلة إنما يراد بها المعرف؛ وهو الأمارة والعلامة والدليل، لا يراد بها الباعث والداعي، ومن قال: إنه قد يراد بها الداعي وهو الباعث فإنه يقول ذلك في علل الأفعال. وأما غير الأفعال فقد تفسر العلة فيها بالوصف المستلزم، كاستلزام الإنسانية للحيوانية، والحيوانية للجسمية، وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الآخر على أنا قد بينا في غير هذا الموضع، أن ما به يعلم كون الحيوان جسمًا، يعلم أن الإنسان جسم، حيث بينا أن قياس الشمول الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها؛ وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات، يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى، بل وبذلك يعلم صدق النتيجة.
 
ثم قال: وتناقضهم وفساد قولهم أكثر من أن يذكر.
 
والمقصود هنا الكلام على المنطق، وما ذكروه من البرهان، وأنهم يعظمون قياس الشمول، ويستخفون بقياس التمثيل ويزعمون أنه إنما يفيد الظن، وأن العلم لا يحصل إلا بذاك، وليس الأمر كذلك، بل هما في الحقيقة من جنس واحد، وقياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب علمًا كان أو ظنًا من مجرد قياس الشمول؛ ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون بقياس التمثيل أكثر مما يستدلون بقياس الشمول، بل لا يصح قياس الشمول في الأمر العام إلا بتوسط قياس التمثيل، وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول في بعض الصور، فإنه يحتج به على صحة قياس التمثيل في تلك الصور. ومثلنا هذا بقولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فإنه من أشهر أقوالهم الفاسدة الإلهية. وأما الأقوال الصحيحة، فهذا أيضا ظاهر فيها، فإن قياس الشمول لابد فيه من قضية كلية موجبة، فلا نتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم.
 
والكلى لا يكون كليًا إلا في الذهن، فإذا عرف تحقق بعض أفراده في الخارج، كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليًا موجبًا، فإنه إذا أحس الإنسان ببعض الأفراد الخارجية، انتزع منه وصفًا كليًا، لا سيما إذا كثرت أفراده، والعلم بثبوت الوصف المشترك لأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضية الكلية.
 
وحينئذ، فالقياس التمثيلي أصل للقياس الشمولي، إما أن يكون سببًا في حصوله، وإما أن يقال: لا يوجد بدونه، فكيف يكون وحده أقوى منه، وهؤلاء يمثلون الكليات بمثل قول القائل: الكل أعظم من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك. وما من كلي من هذه الكليات إلا وقد علم من أفراده الخارجة أمور كثيرة، وإذا أريد تحقيق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل بفرد من أفرادها. وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره أو ثبوت الجامع وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي، وهذا حقيقة قياس التمثيل.
 
ولو قدرنا أن قياس الشمول لا يفتقر إلى التمثيل، وأن العلم بالقضايا الكلية لا يفتقر إلى العلم بمعين أصلا، فلا يمكن أن يقال: إذا علم الكلي مع العلم بثبوت بعض أفراده في الخارج، كان أنقص من أن يعلمه بدون العلم بذلك المعين؛ فإن العلم بالمعين ما زاده إلا كمالا، فتبين أن ما نفوه من صورة القياس أكمل مما أثبتوه.
 
واعلم أنهم في المنطق الإلهي بل والطبيعي غيروا بعض ما ذكره أرسطو، لكن ما زادوه في الإلهي هو خير من كلام أرسطو، فإني قد رأيت الكلامين. وأرسطو وأتباعه في الإلهيات أجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير، وأما في الطبيعيات فغالب كلامه جيد، وأما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الإلهي.
 
==ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل==
 
وما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل، إنما هو من كلام متأخريهم لما رأوا استعمال الفقهاء له غالبًا، والفقهاء يستعملونه كثيرًا في المواد الظنية، وهناك الظن حصل من المادة لا من صورة القياس، فلو صوروا تلك المادة بقياس الشمول، لم يفد أيضا إلا الظن، لكن هؤلاء ظنوا أن الضعف من جهة الصورة، فجعلوا صورة قياسهم يقينيًا، وصورة قياس الفقهاء ظنيًا، ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا أن المتكلمين يحتجون علينا بالأقيسة الظنية، كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم مؤلف فكان محدثًا قياسًا على الإنسان وغيره من المولدات، ثم أخذوا يضعفون هذا القياس، لكن إنما ضعفوا بضعف مادته، فإن هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم على حدوث الأجسام أدلة ضعيفة لأجل مادتها لا لكون صورتها ظنية، ولهذا لا فرق بين أن يصوروها بصورة التمثيل أو الشمول.
 
==فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات==
 
وأما المقام الرابع، وهو قولهم: إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات، فهو أدق المقامات.
 
وذلك أن خطأ المنطقيين في المقامات الثلاثة وهي منع إمكان التصور إلا بالحد، وحصول التصور بالحد، ومنع حصول التصديق بالحد، ومنع حصول التصديق بالقياس واضح بأدنى تدبر، ومدركه قريب، والعلم به ظاهر. وإنما يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل، وأظهرها خطأ دعواهم أن التصورات المطلوبة لا تحصل إلا بما ذكروه من الحد، ويليه قولهم: إن شيئًا من التصديقات المطلوبة لا تنال إلا بما ذكروه من القياس، فإن هذا النفي العام أمر لا سبيل إلى العلم به، ولا يقوم عليه دليل أصلًا، مع أنه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس، كما تحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد، بخلاف هذا المقام الرابع فإن كون القياس المؤلف من المقدمتين يفيد النتيجة، هو أمر صحيح في نفسه.
 
لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو، أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية، بل كل ما يمكن علمه بقياسهم يمكن علمه بدون قياسهم، فلم يكن في قياسهم ما يحصل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه، ولا حاجة إلى ما يمكن العلم بدونه، فصار عديم التأثير في العلم وجودًا وعدما، وفيه تطويل كثير متعب، فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الأذهان وتضييع الزمان، وكثرة الهذيان، والمطلوب من الأدلة والبراهين بيان العلم، وبيان الطرق المؤدية إلى العلم.
 
قالوا: وهذا لا يفيد العلم المطلوب، بل قد يكون من الأسباب المعوقة له؛ لما فيه من كثرة تعب الذهن، كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب إلى مكة أو غيرها من البلاد، فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف، وصل في مدة قريبة بسعي معتدل، فإذا قيض له من يسلك به التعاسيف - والعسف في اللغة الأخذ على غير طريق بحيث يدور به طرقًا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة- فإنه يتعب تعبًا كثيرًا، حتى يصل إلى الطريق المستقيمة إن وصل، وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب. فيعتقد اعتقادات فاسدة، وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والإعياء، فلا هو نال مطلوبه ولا هو استراح، هذا إذا بقى في الجهل البسيط، وهكذا هؤلاء.
 
ولهذا حكى من كان حاضرًا عند موت أمام المنطقيين في زمانه الخونجي، أنه قال عند موته: أموت ولا أعلم شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب. ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما علمت شيئًا.
 
فهذا حالهم إذا كان منتهى أحدهم الجهل البسيط، وأما من كان منتهاه الجهل المركب، فكثير. والواصل منهم إلى علم، يشبهونه بمن قيل له: أين أذنك؟ فأدار يده على رأسه، ومدها إلى أذنه بكلفة، وقد كان يمكنه أن يوصلها إلى أذنه من تحت رأسه؛ وهو أقرب وأسهل.
 
والأمور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية، كان تعذيبًا للنفوس بلا منفعة لها، كما لو قيل لرجل: اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية، فإن هذا ممكن بلا كلفة. فلو قال له قائل: اصبر، فإنه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها، وتميز بينها وبين الضرب، فإن القسمة عكس الضرب، فإن الضرب هو تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزيع أحاد العددين على آحاد العدد الآخر؛ ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم، وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر. ثم يقال: ما ذكرته في حد الضرب لا يصح، فإنه إنما يتناول ضرب العدد الصحيح دون المكسور، بل الحد الجامع لهما أن يقال: الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى أحد المضروبين كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، فإذا قيل: اضرب النصف في الربع فالخارج هوالثمن، ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد. فهذا وإن كان كلامًا صحيحًا، لكن من المعلوم أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه ألا يقسمه حتى يتصور هذا كله، كان هذا تعذيبًا له بلا فائدة، وقد لا يفهم هذا الكلام، وقد تعرض له فيه إشكالات.
 
فكذلك الدليل والبرهان هو المرشد إلى المطلوب، والموصل إلى المقصود، وكل ما كان مستلزمًا لغيره فإنه يمكن أن يستدل به عليه؛ ولهذا قيل: الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو ظن.
 
فالمقصود أن كل ما كان مستلزمًا لغيره بحيث يكون ملزوما له، فإنه يكون دليلا عليه وبرهانًا له، سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديًا والآخر عدميًا، فأبدًا الدليل ملزوم للمدلول عليه، والمدلول لازم للدليل.
 
ثم قد يكون الدليل مقدمة واحدة متى علمت علم المطلوب، وقد يحتاج المستدل إلى مقدمتين، وقد يحتاج إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس وأكثر، ليس لذلك حد مقدر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب، بل ذلك بحسب علم المستدل الطالب بأحوال المطلوب، والدليل، ولوازم ذلك، وملزوماته. فإذا قدر أنه قد عرف ما به يعلم المطلوب مقدمة واحدة، كان دليله الذي يحتاج إلى بيانه له تلك المقدمة، كمن علم أن الخمر محرم، وعلم أن النبيذ المتنازع فيه مسكر، لكن لم يعلم أن كل مسكر هو خمر، فهو لا يحتاج إلا إلى هذه المقدمة.
 
فإذا قيل: ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «كل مسكر خمر»، حصل مطلوبه، ولم يحتج إلى أن يقال: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر خمر. ولا أن يقال: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فإن هذا كله معلوم له لم يكن يخفى عليه، إلا أن اسم الخمر هل هو مختص ببعض المسكرات كما ظنه طائفة من علماء المسلمين، أو هو شامل لكل مسكر، فإذا ثبت له عن صاحب الشرع أنه جعله عامًا لا خاصا حصل مطلوبه. وهذا الحديث في صحيح مسلم، ويروي بلفظين: «كل مسكر خمر»، و«كل مسكر حرام». ولم يقل: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام. كالنظم اليوناني، فإن النبي {{صل}} أجل قدرًا في علمه وبيانه من أن يتكلم بمثل هذيانهم، فإنه إن قصد مجرد تعريف الحكم لم يحتج مع قوله إلى دليل. وإن قصد بيان الدليل كما بين الله في القرآن عامة المطالب الإلهية التي تقرر الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، فهو {{صل}} أعلم الخلق بالحق، وأحسنهم بيانا له.
 
فعلم أنه ليس جميع المطالب تحتاج إلى مقدمتين، ولا يكفي في جميعها مقدمتان، بل يذكر ما يحصل به البيان والدلالة سواء كان مقدمة، أو مقدمتين، أو أكثر. وما قصد به هدى عام كالقرآن الذي أنزله الله بيانا للناس يذكر فيه من الأدلة ما ينتفع به الناس عامة، وهذا إنما يمكن بيان أنواعها العامة. وأما ما يختص به كل شخص فلا ضابط له حتى يذكر في كلام، بل هذا يزول بأسباب تختص بصاحبه كدعائه لنفسه ومخاطبة شخص معين له بما يناسب حاله، ونظره فيما يخص حاله ونحو ذلك.
 
وأيضا، فما يذكرونه من القياس لا يفيد العلم بشيء معين من الموجودات، ثم تلك الأمور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم، فلا تعلم كلية بقياسهم إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون قياسهم، وربما كان أيسر، فإن العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات، وهذا مبسوط في موضعه.
 
والمقصود هنا: أن المطلوب هو العلم، والطريق إليه هو الدليل، فمن عرف دليل مطلوبه، عرف مطلوبه، سواء نظمه بقياسهم أم لا، ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم، ولا يقال: إن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها، فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم، فإن حقيقة قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته.
 
وأما كون الدليل المعين مستلزمًا لمدلوله، فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات، وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل، وليس في قياسهم بيان صحة شيء من المقدمات ولا فسادها، وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها، وكلامهم في هذا فيه خطأ كثير، كما نبه عليه في موضع آخر.
 
والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم، فمن عرف أن هذا لازم لهذا، استدل بالملزوم على اللازم. وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ، بل من عرف أن كذا لابد له من كذا، أو أنه إذا كان كذا كان كذا، وأمثال هذا، فقد علم اللزوم. كما يعرف أن كل ما في الوجود آية لله، فإنه مفتقر إليه محتاج إليه، لابد له من محدث، كما قال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ } <ref>[الطور: 35]</ref>، قال جبير بن مطعم: لما سمعت هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع. فإن هذا تقسيم حاصر يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائة العقول، أم خلقوا أنفسهم، فهذا أشد امتناعا، فعلم أن لهم خالقًا خلقهم.
 
وهو - سبحانه - ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار، ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن لأحد إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: هذا أحدث نفسه.
 
وكثير من النظار يسلك طريقًا في الاستدلال على المطلوب، ويقول: لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق، ولا يكون الأمر كما قاله في النفي، وإن كان مصيبًا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج، يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة.
 
وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس. وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره. أو من أعرض عن غيره، وبعض الناس يكون كلما كان الطريق أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له؛ لأن نفسه اعتادت النظر في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد تستعمل معه الطرق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفًا عليها مطلقًا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات؛ ولهذا يرغب كثير من علماء السنة في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور وهو علم صحيح في نفسه.
 
==علم الفرائض نوعان==
 
و علم الفرائض نوعان: أحكام وحساب. فالأحكام ثلاثة أنواع: علم الأحكام على مذهب بعض الفقهاء، وهذا أولها، ويليه علم أقاويل الصحابة فيما اختلف فيه منها، ويليه علم أدلة ذلك من الكتاب والسنة. وأما "حساب الفرائض" فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات. وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كسائر حساب المعاملات وغير ذلك من الأنواع التي يحتاج إليها الناس.
 
ثم قد ذكروا حساب المجهول الملقب بحساب الجبر والمقابلة في ذلك وهو علم قديم، لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك، أول من عرف أنه أدخله فيها محمد بن موسى الخوارزمي. وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب أنه تكلم فيه، وأنه تعلم ذلك من يهودي، وهذا كذب على علي.
 
==لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع==
 
ولفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع:
 
الدور الكوني: الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا، ولا يكون هذا حتى يكون هذا. وطائفة من النظار كانوا يقولون: هو ممتنع. والصواب أنه نوعان - كما يقوله الآمدي وغيره: دور قبلي ودور معي، فالقبلي ممتنع وهو الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك، مثل أن يقال: لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلًا للآخر؛ لأنه يفضي إلى الدور، وهو أنه يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا. والمعي ممكن وهو دور الشرط مع المشروط، وأحد المتضايفين مع الآخر مثل: ألا تكون الأبوة إلا مع البنوة، ولا تكون البنوة إلا مع الأبوة.
 
النوع الثاني: الدور الحكمي الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها. وقد أفردنا فيه مؤلفًا، وبينا أنه باطل عقلا وشرعًا، وبينا هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا؟
 
الثالث: الدور الحسابي: وهو أن يقال: لا يعلم هذا حتى يعلم هذا، فهذا هو الذي يطلب حله بالحساب والجبر والمقابلة. وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول {{صل}} بدون حساب الجبر والمقابلة. وإن كان حساب الجبر والمقابلة صحيحًا، فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقًا صحيحًا، بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل، يغني الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق.
 
وهكذا كل ما بعث به النبي {{صل}}، مثل العلم بجهة القبلة، والعلم بمواقيت الصلاة، والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال، فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر. وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقًا أخر. وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها. وهذا من جهلهم، كما يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها، وهو وإن كان علما صحيحًا حسابيًا يعرف بالعقل، لكن معرفة المسلمين بقبلتهم ليست موقوفة على هذا، بل قد ثبت عن صاحب الشرع {{صل}} أنه قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» قال [[الترمذي]]: حديث حسن صحيح.
 
ولهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلي ليس عليه أن يستدل بالقطب ولا بالجدي ولا غير ذلك، بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق عن شماله صحت صلاته. وكذلك لا يمكن ضبط وقت طلوع الهلال بالحساب، فإنهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس، وأنه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء، فإذا فارق الشمس صار فيه النور، فهم أكثر ما يمكنهم أن يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس. هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله، فإنهم يسمونه علم التقويم والتعديل؛ لأنهم يأخذون أعلى مسير الكواكب وأدناه فيأخذون معدله، فيحسبونه فإذا قدر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس، لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها؛ لأن الرؤية أمر حسي لها أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره، وارتفاع النظر وانخفاضه، وحدة البصر وكلاله، فمن الناس من لا يراه، ويراه من هو أحد بصرًا منه ونحو ذلك.
 
فلهذا كان قدماء علماء "الهيئة" كبطليموس صاحب المجسطي وغيره، لم يتكلموا في ذلك بحرف، وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه، لما رأوا الشريعة جاءت باعتبار الرؤية، فأحبوا أن يعرفوا ذلك، بالحساب فضلوا وأضلوا. ومن قال: إنه لا يري على اثنتى عشرة درجة أو عشر ونحو ذلك، فقد أخطأ؛ فإن من الناس من يراه على أقل من ذلك، ومنهم من لا يراه على ذلك، فلا العقل اعتبروا ولا الشرع عرفوا؛ ولهذا أنكر ذلك عليهم حذاق صناعتهم.
 
ثم قال: فصورة القياس لا تدفع صحتها، لكن نبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات. كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل، فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه يقين مطلوب بشيء من الموجودات. فنقول: إن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة لا ريب أنه يفيد اليقين، فإذا قيل: كل أ: ب، وكل ب: ج، وكانت المقدمتان معلومتين، فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ: ج، لكن يقال: ما ذكروه من كثرة الأشكال وشرط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب.
 
فإنه متى كانت المادة صحيحة، أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري، فبقية الأشكال لا يحتاج إليها، وهي إنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول، إما بإبطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف، وإما بالعكس المستوى، أو عكس النقيض، فإن ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر، إذا رد على التناقض من كل وجه. فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقيضها، وعلى ثبوت عكسها المستوى وعكس نقيضها، بل تصور الذهن لصورة الدليل يشبه حساب الإنسان لما معه من الرقيق والعقار، والفطرة تتصور القياس الصحيح من غير تعليم، والناس بفطرهم يتكلمون بالأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم، كما يتكلمون بالحساب ونحوه، والمنطقيون قد يسلمون ذلك.
 
والحاصل أنا لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية، لكن نقول: إن العلم الحاصل به لا يحتاج فيه إلى القياس المنطقي، بل يحصل بدون ذلك، فلا يكون شيء من العلم متوقفًا على هذا القياس.
 
ثم المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالأمور الموجودة، فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس، بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل بقياس التمثيل، فلا يمكن قط أن يتحصل بالقياس الشمولي المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل بقياس التمثيل الذي يستضعفونه؛ فإن ذلك القياس لابد فيه من قضية كلية. والعلم بكون الكلية كلية لا يمكن الجزم به إلا مع الجزم بتماثل أفراده في القدر المشترك، وهذا يحصل بقياس التمثيل، ونحن نبين ذلك بوجوه:
 
الأول: أن المواد اليقينية قد حصروها في الأصناف المعروفة عندهم.
 
أحدها: الحسيات، ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرًا كليًا عامًا، أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة في البرهان اليقيني، وإذا مثلوا ذلك بأن النار تحرق ونحو ذلك، لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية، وإنما معهم التجربة والعادة التي هي من جنس قياس التمثيل. وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة، فالعلم بأن كل نار لابد فيها من هذه القوة، هو أيضا حكم كلي، وإن قيل: إن الصورة النارية لابد أن تشتمل على هذه القوة. وأن ما لا قوة فيه ليس بنار، فهذا الكلام إن صح لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة يحرق ما لاقاه، وإن كان هذا هو الغالب، فهذا يشترك فيه قياس التمثيل والشمول والعادة والاستقراء الناقص إذا سلم لهم ذلك كيف وقد علم أنها لا تحرق السمندل والياقوت والأجسام المطلية بأمور مصنوعة؟ ولا أعلم في القضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها، مع أن القضية الكلية ليست حسية، وإنما القضية الحسية: أن هذه النار تحرق، فإن الحس لا يدرك إلا شيئًا خاصًا.
 
وأما الحكم العقلي، فيقولون: إن النفس عند رؤيتها هذه المعينات مستعدة لأن تفيض عليها قضية كليه بالعموم، ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل، ولا يوثق بعمومه إن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر المشترك. وهذا إذا علم، علم في جميع المعينات، فلم يكن العلم بالمعينات موقوفًا على هذا، مع أنه ليس من القضايا العاديات قضية كلية لا يمكن نقضها باتفاق العقلاء.
 
الثاني: الوجدانيات الباطنية، كإدراك كل أحد جوعه وألمه ولذته، وهذه كلها جزئيات، بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها، كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر، ففيها من الخصوص في المدرك، والمدرك ما ليس في الحسيات المنفصلة، وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات، ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الأحوال، بل ولا على النفس الناطقة، أنها مستوية الأفراد.
 
الثالث: المجربات: وهي كلها جزئية، فإن التجربة إنما تقع على أمور معينة. وكذلك المتواترات، فإن المتواتر إنما هو ما علم بالحس من مسموع أو مرئي. فالمسموع قول معين، والمرئي جسم معين أو لون معين أو عمل معين أو أمر معين. وأما الحدسيات إن جعلت يقينية، فهي نظير المجربات؛ إذ الفرق بينهما لا يعود إلى العموم والخصوص، وإنما يعود إلى أن المجربات تتعلق بما هو من أفعال المجربين، والحدسيات تكون عن أفعالهم، وبعض الناس يسمى الكل تجريبيات فلم يبق معهم إلا الأوليات التي هي البديهيات العقلية، والأوليات الكلية إنما هي قضايا مطلقة في الأعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم: الواحد نصف الاثنين، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك، وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية.
 
فقد تبين أن القضايا الكلية البرهانية، التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسيهم لا تستعمل في شيء من الأمور الموجودة، وإنما تستعمل في مقدرات ذهنية، فإذن لايمكنهم معرفة الأمور الموجودة بالقياس البرهاني، وهذا هو المطلوب؛ ولهذا لم يكن لهم علم بحصر أقسام الموجود، بل أرسطو لما حصر أجناس الموجودات في المقولات العشر: الجوهر، والكم، والكيف، والآين، ومتى، والوضع، وأن يفعل، وأن ينفعل، والملك، والإضافة، اتفقوا على أنه لا سبيل إلى معرفة صحة هذا الحصر.
 
الوجه الثاني: أن يقال: إذا كان لابد في كل قياس من قضية كلية، فتلك القضية الكلية لابد أن تنتهي إلى أن تعلم بغير قياس، وإلا لزم الدور والتسلسل، فإذا كان لابد أن تكون لهم قضايا كلية معلومة بغير قياس، فنقول: ليس في الموجودات ما تعلم له الفطرة قضية كلية بغير قياس، إلا وعلمها بالمفردات المعينة من تلك القضية الكلية أقوى من علمها بتلك القضية الكلية، مثل قولنا: الواحد نصف الاثنين، والجسم لا يكون في مكانين، والضدان لا يجتمعان، فإن العلم بأن هذا الواحد نصف الاثنين في الفطرة أقوى من العلم بأن كل واحد نصف كل اثنين، وهكذا كل ما يفرض من الآحاد.
 
فيقال: المقصود بهذه القضايا الكلية إما أن يكون العلم بالموجود الخارجي، أو العلم بالمقدرات الذاهنية، أما الثاني ففائدته قليلة، وأما الأول فما من موجود معين إلا وحكمه بعلم تعينه أظهر وأقوى من العلم به عن قياس كلي يتناوله، فلا يتحصل بالقياس كثير فائدة، بل يكون ذلك تطويلا، وإنما استعمل القياس في مثل ذلك لأجل الغالط والمعاند، فيضرب له المثل وتذكر الكلية ردًا لغلطه وعناده بخلاف من كان سليم الفطرة.
 
وكذلك قولهم: الضدان لا يجتمعان، فأي شيئين علم تضادهما، فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان قبل استحضار قضية كلية بأن كل ضدين لا يجتمعان، وما من جسم معين إلا يعلم أنه لا يكون في مكانين قبل العلم بأن كل جسم لا يكون في مكانين، وأمثال ذلك كثير.
 
فما من معين مطلوب علمه بهذه القضايا الكلية إلا وهو يعلم قبل أن تعلم هذه القضية، ولا يحتاج في العلم به إليها، وإنما يعلم بها ما يقدر في الذهن من أمثال ذلك مما لم يوجد في الخارج.
 
وأما الموجودات الخارجية فتعلم بدون هذا القياس. وإذا قيل: أن من الناس من يعلم بعض الأعيان الخارجية بهذا القياس، فيكون مبناه على قياس التمثيل الذي ينكرون أنه يقيني. فهم بين أمرين: إن اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم إلى يقيني وظني، بطل تفريقهم، وإن ادعوا الفرق بينهما وأن قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك، وبين لهم أن اليقين لا يحصل في هذه الأمور إلا أن يحصل بالتمثيل، فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة في الخارج قياسًا على ما علم منها، وهذا حق لا ينازع فيه عاقل، بل هذا من أخص صفات العقل التي فارق بها الحس؛ إذ الحس لا يعلم إلا معينًا، والعقل يدركه كليًا مطلقًا، لكن بواسطة التمثيل، ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الأمثلة المعينة عنه، لكن هي في الأصل إنما صارت في ذهنه كلية عامة بعد تصوره لأمثال معينة من أفرادها، وإذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعينة، فقد يغلط كثيرًا بأن يجعل الحكم إما أعم وإما أخص، وهذا يعرض للناس كثيرًا؛ حيث يظن أن ما عنده من القضايا الكلية صحيح، ويكون عند التحقيق ليس كذلك، وهم يتصورون الشيء بعقولهم، ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل، فيتكلمون عليه، ويظنون أنهم تكلموا في ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هي، من غير أن تكون ثابتة في الخارج ولا في الذهن، فيقولون: الإنسان من حيث هو هو، والوجود من حيث هو هو، والسواد من حيث هو هو، ونحو ذلك.
 
ويظنون أن هذه الماهية التي جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة في الخارج على هذا التجريد، وذلك غلط، كغلط أوليهم فيما جردوه من العدد والمثل الأفلاطونية وغيرها، بل هذه المجردات لا تكون إلا مقدرة في الذهن، وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده في الخارج، وهذا الذي يسمى الإمكان الذهني، فإن الإمكان على وجهين:
 
ذهني: وهو أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه، بل يقول يمكن هذا، لا لعلمه بإمكانه، بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذلك الشيء قد يكون ممتنعًا في الخارج.
 
وخارجي: وهو أن يعلم إمكان الشيء في الخارج، وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره، أو وجود ما هو أبعد عن الوجود منه. فإذا كان الأبعد عن قبول الوجود موجودًا ممكن الوجود، فالأقرب إلى الوجود منه أولى.
 
وهذه طريقة القرآن في بيان إمكان المعاد ؛ فقد بين ذلك بهذه الطريقة، فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم، كما أخبر عن قوم موسى الذين قالوا: { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }، قال: { فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } <ref>[البقرة: 55، 56]</ref>، وعن { الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } <ref>[البقرة: 243]</ref>، وعن الذي مر على قرية فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وعن إبراهيم إذ قال: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } <ref>[البقرة: 260]</ref>، القصة. وكما أخبر عن المسيح أنه كان يحيى الموتى بإذن الله وعن أصحاب الكهف أنهم بعثوا بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين.
 
وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى؛ فإن الإعادة أهون من الابتداء، كما في قوله: { إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ }الآية <ref>[الحج: 5]</ref>، وقوله: { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } <ref>[يس: 79]</ref>، { قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } <ref>[الإسراء: 51]</ref>، { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } <ref>[الروم: 27]</ref>.
 
وتارة يستدل على ذلك بخلق السموات والأرض، فإن خلقهما أعظم من إعادة الإنسان كما في قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } <ref>[الأحقاف: 33]</ref>.
 
وتارة يستدل على إمكانه بخلق النبات، كما في قوله: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا } إلى قوله: { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } <ref>[الأعراف: 57]</ref>.
 
فقد تبين أن ما عند أئمة النظار أهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الإلهية، فقد جاء القرآن الكريم بما فيها من الحق، وما هو أبلغ وأكمل منها على أحسن وجه، مع تنزهه عن الأغاليط الكثيرة الموجودة عند هؤلاء، فإن خطأهم فيها كثير جدًا، ولعل ضلالهم أكثر من هداهم، وجهلهم أكثر من علمهم؛ ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في آخر عمره في كتابه: أقسام الذات لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } <ref>[طه: 5]</ref>، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } <ref>[فاطر: 10]</ref> واقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } <ref>[الشورى: 11]</ref>، { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } <ref>[طه: 110]</ref>، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
 
والمقصود أن الإمكان الخارجي يعرف بالوجود لا بمجرد عدم العلم بالامتناع، كما يقوله طائفة منهم الآمدي وأبعد من إثباته الإمكان الخارجي بالإمكان الذهني، ما يسلكه المتفلسفة كابن سينا في إثبات الإمكان الخارجي بمجرد إمكان تصوره في الذهن، كما أنهم لما أرادوا إثبات موجود في الخارج معقول لا يكون محسوسًا بحال. استدلوا على ذلك بتصور الإنسان الكلي المطلق المتناول للأفراد الموجودة في الخارج، وهذا إنما يفيد إمكان وجود هذه المعقولات في الذهن، فإن الكلي لا يوجد كليًا إلا في الذهن، فأين طرق هؤلاء في إثبات الإمكان الخارجي من طريقة القرآن؟
 
ثم إنهم يمثلون بهذه الطرق الفاسدة، يريدون خروج الناس عما فطروا عليه من المعارف اليقينية والبراهين العقلية، وما جاءت به الرسل من الأخبار الإلهية عن الله واليوم الآخر، ويريدون أن يجعلوا مثل هذه القضايا الكاذبة، والخيالات الفاسدة أصولا عقلية يعارض بها ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه من الآيات، وما فطر الله عليه عباده، وما تقوم عليه الأدلة العقلية التي لا شبهة فيها، وأفسدوا بأصولهم العلوم العقلية والسمعية، فإن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها، ومبنى السمع على تصديق الأنبياء- صلوات الله عليهم- ثم الأنبياء - صلوات الله عليهم - كملوا للناس الأمرين، فدلوهم على الأدلة العقلية التي بها تعلم المطالب التي يمكنهم علمهم بها بالنظر والاستدلال، وأخبروهم مع ذلك من تفاصيل الغيب بما يعجزون عن معرفته بمجرد نظرهم واستدلالهم.
 
==ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر==
 
وليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورًا على مجرد الخبر كما يظنه كثير، بل هم بينوا من البراهين العقلية التي بها تعلم العلوم الإلهية ما لا يوجد عند هؤلاء البتة. فتعليمهم صلوات الله عليهم جامع للأدلة العقلية والسمعية، جميعًا بخلاف الذين خالفوهم؛ فإن تعليمهم غير مفيد للأدلة العقلية والسمعية، مع ما في نفوسهم من الكبر الذي ما هم بالغيه، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } <ref>[غافر: 56]</ref>، وقال: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } <ref>[غافر: 35]</ref>، وقال: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } <ref>[غافر: 83]</ref> ومثل هذا كثير في القرآن.
 
وقد ألفت كتاب [[دفع تعارض الشرع والعقل]] ؛ ولهذا لما كانوا يتصورون في أذهانهم ما يظنون وجوده في الخارج كان أكثر علومهم مبنيًا على ذلك في الإلهي والرياضي
 
وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم في أنواع علومهم، لم يجد عندهم علمًا بمعلومات موجودة في الخارج إلا القسم الذي يسمونه الطبيعي، وما يتبعه من الرياضي. وأما الرياضي المجرد في الذهن، فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها في الخارج. والذي سموه علم ما بعد الطبيعة إذا تدبر لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج، وإنما تصوروا أمورًا مقدرة في أذهانهم لا حقيقة لها في الخارج؛ ولهذا منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود المطلق الكلي، والمشروط بسلب جميع الأمور الوجودية.
 
والمقصود أنهم كثيرًا ما يدعون في المطالب البرهانية والأمور العقلية، ما يكونون قدروه في أذهانهم. ويقولون: نحن نتكلم في الأمور الكلية والعقليات المحضة، وإذا ذكر لهم شيء قالوا: نتكلم فيما هو أعم من ذلك، وفي الحقيقة من حيث هي هي، ونحو هذه العبارات، فيطالبون بتحقيق ما ذكروه في الخارج، ويقال: بينوا هذا أي شيء هو؟ فهنالك يظهر جهلهم، وأن ما يقولونه هو أمر مقدر في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان. مثل أن يقال لهم: اذكروا مثال ذلك، والمثال أمر جزئي، فإذا عجزوا عن التمثيل، وقالوا: نحن نتكلم في الأمور الكلية، فاعلم أنهم يتكلمون بلا علم، وفيما لا يعلمون أن له معلومًا في الخارج، بل فيما ليس له معلوم في الخارج، وفيما يمتنع أن يكون له معلوم في الخارج، وإلا فالعلم بالأمور الموجودة إذا كان كليا كانت معلوماته ثابتة في الخارج. وقد كان الخسروشاهي من أعيانهم ومن أعيان أصحاب الرازي، وكان يقول: ما عثرنا إلا على هذه الكليات، وكان قد وقع في حيرة وشك حتى كان يقول: والله ما أدري ما أعتقد! والله ما أدري ما أعتقد!
 
والمقصود أن الذي يدعونه من الكليات، هو إذا كان علمًا، فهو مما يعرف بقياس التمثيل، لا يقف على القياس المنطقي الشمولي أصلا، بل ما يدعون ثبوته بهذا القياس، تعلم أفراده التي يستدل عليها بدون هذا القياس، وذلك أيسر وأسهل، ويكون الاستدلال عليها بالقياس الذي يسمونه البرهاني استدلالا على الأجلى بالأخفى، وهم يعيبون في صناعة الحد أن يعرف الجلي بالخفي، وهذا في صناعة البرهان أشد عيبًا، فإن البرهان لا يراد به إلا بيان المدلول عليه وتعريفه وكشفه وإيضاحه، فإذا كان هو أوضح وأظهر، كان بيانًا للجلي بالخفي.
 
قال: ثم إن الفلاسفة أصحاب هذا المنطق البرهاني الذي وضعه أرسطو وما يتبعه من الطبيعي والإلهي ليسوا أمة واحدة، بل أصناف متفرقون، وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله، أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافًا مضاعفة؛ فإن القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب كان أعظم في تفرقهم واختلافهم، فإنهم يكونون أضل، كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة، عن النبي {{صل}} أنه قال: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل». ثم قرأ قوله تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } <ref>[الزخرف: 58]</ref>، إذا لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل، كما قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهٌِ } الآية <ref>[البقرة: 213]</ref>، وقال: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } <ref>[الحديد: 25]</ref>، وقال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الآية <ref>[النساء: 59]</ref>.
 
وقد بين الله في كتابه من الأمثال المضروبة والمقاييس العقلية ما يعرف به الحق والباطل، وأمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، فقال: { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } <ref>[هود: 118، 119]</ref> ؛ ولهذا يوجد أتبع الناس للرسل أقل اختلافًا من جميع الطوائف المنتسبة للسنة، وكل من قرب للسنة كان أقل اختلافًا ممن بعد عنها، كالمعتزلة والرافضة فنجدهم أكثر الطوائف اختلافًا.
 
وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد، وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات، مقالات غير الإسلاميين، فأتى بالجم الغفير سوى ما ذكره الفارابي وابن سينا، وكذلك القاضي أبو بكر ابن الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجمين، ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان. وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة، وصنف الغزالي كتاب التهافت في الرد عليهم.
 
ومازال نظار المسلمين يصنفون في الرد عليهم في المنطق، ويبينون خطأهم فيما ذكروه في الحد والقياس جميعًا، كما يبينون خطأهم في الإلهيات وغيرها، ولم يكن أحد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقهم، بل الأشعرية والمعتزلة والكرَّامية والشيعة وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبونها، ويبينون فسادها، وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي، وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره. وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب الكلام.
 
وفي كتاب الآراء والديانات لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي فصل جيد من ذلك؛ فإنه بعد أن ذكر طريقة أرسطو في المنطق قال:
 
==اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق==
 
وقد اعترض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق هذه، وقالوا: أما قول صاحب المنطق: إن القياس لا يبني من مقدمة واحدة، فغلط؛ لأن القائل إذا أراد مثلا أن يستدل على أن الإنسان جوهر، فله أن يستدل على نفس الشيء المطلوب من غير تقديم المقدمتين، بأن يقول: الدليل على أن الإنسان جوهر أنه يقبل المتضادات في أزمان مختلفة، وليس يحتاج إلى مقدمة ثانية وهي: أن يقول: إن كل قابل للمتضادات في أزمان مختلفة جوهر؛ لأن الخاص داخل في العام، فعلى أيهما دل استغنى عن الآخر، وقد يستدل الإنسان إذا شاهد الأثر أن له مؤثرًا، والكتابة أن لها كاتبًا، من غير أن يحتاج في استدلاله على صحة ذلك إلى مقدمتين.
 
قالوا: فنقول: إنه لابد من مقدمتين، فإذا ذكرت إحداهما استغنى بمعرفة المخاطب عن الأخرى فترك ذكرها؛ لأنه مستغن عنها. قلنا: لسنا نجد مقدمتين كليتين يستدل بهما على صحة نتيجة؛ لأن القائل إذا قال: الجوهر لكل حي، والحياة لكل إنسان، فتكون النتيجة: إن الجوهر لكل إنسان، فسواء في العقول قول القائل: الجوهر لكل حي، وقوله: لكل إنسان، ولا يجدون من المطالب العملية أن المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما، وإذا كان الأمر كذلك، كانت إحداهما كافية. ونقول لهم: أرونا مقدمتين أوليين لا تحتاجان إلى برهان يتقدمهما، يستدل بهما على شيء مختلف فيه، وتكون المتقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيجة، فإذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه.
 
قال النوبختى: وقد سألت غير واحد من رؤسائهم أن يوجدنيه فما أوجدنيه فما ذكره أرسطاطاليس غير موجود ولا معروف. قال: فأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه، وإذا كانا يصحان، بقلب مقدمتيهما حتى يعودا إلى الشكل الأول، فالكلام في الشكل الأول هو الكلام فيها. انتهى.
 
قال ابن تيمية: ومقصوده أن سائر الأشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الأول على ما تقدم بيانه فسائر الأشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة، مع أنه لا حاجة إليها، فإن الشكل الأول يمكن أن يستعمل جميع المواد الثبوتية والسلبية الكلية والجزئية. وقد علم انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد إليه أولى وأحرى.
 
والمقصود أن هذه الأمة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده. وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيًا ورواية من غير تشاعر ولا تواطؤ. وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه، ويبين أنه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي، بل يكون استعماله تطويلا وتكثيًرا للفكر والنظر، والكلام بلا فائدة.
 
الوجه الثالث: أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة، وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان. وأما الموجودات في الخارج، فهي أمور معينة، كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين، وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين، وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي. فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه. وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات، وإنما يفيد أمورًا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان، فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه، لا يدل شيء منها على عينه، وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
 
فإذا قال: هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب. وهم معترفون بهذا؛ لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لابد من ذلك، والكلي لا يدل على معين، وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الآية <ref>[البقرة: 164]</ref>. إلى غير ذلك يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار. والدليل أعم من القياس؛ فإن الدليل قد يكون بمعين على معين، كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة، فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه، لا على قدر مشترك بينه وبين غيره، فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه، فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه.
 
الوجه الرابع: أن الحد الأوسط المكرر في قياس الشمول وهو الخمر من قولك: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام هو مناط الحكم في قياس التمثيل، وهو القدر المشترك الجامع بين الأصل والفرع، فالقياسان متلازمان، كل ما علم بهذا القياس، يمكن علمه بهذا القياس، ثم إن كان الدليل قطعيًا فهو قطعي في القياسين، أو ظنيًا فظني فيهما.
 
وأما دعوى من يدعي من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل بقياس الشمول دون قياس التمثيل، فهو قول في غاية الفساد. وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين. وقد يعلم بنص: أن كل مسكر حرام، كما ثبت في الحديث الصحيح، وإذا كان كذلك، لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة؛ فإنه قد يعلم بلا قياس، فبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم.
 
والمقصود هنا بيان قلة منفعته أو عدمها، فإن المطلوب إن كان ثم قضية علمت من جهة الرسول تفيد العموم، وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه، فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسول تفيد العلم في المطالب الإلهية، وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل، وإما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة، بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة؛ فإنه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار، فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس، فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها، بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال، مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول.
 
وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفًا على الأقيسة، بل يعلم بالآيات الدالة على معين لا شركة فيه يحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر، وما يحصل منها بالشمول فهو بمنزلة ما يحصل بالتمثيل أمر كلي، لا يحصل به العلم بما يختص به الرب، وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه.
 
الوجه الخامس: أن يقال: هذا القياس الشمولي وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد فنقول: قد علم وسلموا أنه لابد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض الأفراد بديهيًا؛ فإن النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلابد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلمان بدون مقدمتين، وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان، وإذا فرض مقدمتان طريق العلم بهما واحد، لم يحتج إلى القياس كالعلم بأن كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة. فالعلم بأن كل إنسان متحرك بالإرادة، أبين وأظهر. فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدًا. وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما. وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها ولم يحتج إلى بيان الأخرى التي علمها. وهذا ظاهر في كل ما يقدره. فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان.
 
الوجه السادس: لا ريب أن المقدمة الكبري أعم من الصغري أو مثلها، ولا تكون أخص منها، والنتيجة أخص من الكبرى، أو مساوية لها، وأعم من الصغرى أو مثلها، ولا تكون أخص منها، والحس يدرك المعينات أولا، ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة. فيرى هذا الإنسان وهذا الإنسان، وكل مما رآه حساس متحرك بالإرادة، فنقول: العلم بالقضية العامة. أما إن يكون بتوسط قياس، والقياس لابد فيه من قضية عامة، فلزم ألا يعلم العام إلا بعام، وذلك يستلزم الدور أو التسلسل، فلابد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة. وهم يسلمون ذلك، وإن أمكن علم القضية العام بغير توسط قياس، أمكن علم الأخرى. فإن كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفًا لازمًا لها يجب استواء جميع الناس فيه، بل هو أمر نسبي إضافي بحسب حال الناس، فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له، ومن احتاج إلى نظر واستدلال، كانت نظرية له، وهكذا سائر الأمور، فإذا كانت القضايا الكلية منها ما يعلم بلا دليل ولا قياس، وليس لذلك حد في نفس القضايا، بل ذلك بحسب أحوال بني آدم، لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس: إنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس، بل هذا نفي كاذب.
 
الوجه السابع: قد تبين فيما تقدم أن قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس.
 
فإن قيل: من أين تعلم بأن الجامع يستلزم الحكم؟
 
قيل: من حيث تعلم القضية الكبرى في قياس الشمول.
 
فإذا قال القائل: هذا فاعل محكم لفعله، وكل محكم لفعله فهو عالم، فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل، وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك، وفي الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي ثبت الحكم فيها، ومعلوم أن ذكر الكلي المشترك مع بعض أفراده أثبت في العقل من ذكره مجردًا عن جميع الأفراد باتفاق العقلاء.
 
ولهذا قالوا: إن العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات، أدرك العقل منها قدرًا مشتركًا كليًا، فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة، فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفًا للقياس، وعدم ذكرها موجبا لقوته؟ وهذه خاصة العقل؛ فإن خاصة العقل معرفة الكليات بتوسط معرفة الجزئيات. فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان، ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوي من ذكرها مع التمثيل بمواضعها المعينة، كان مكابرًا.
 
==اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات==
 
وقد اتفق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات، وأنه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردًا عنه، ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والصناعات والتجارات وغير ذلك، وجد الأمر كذلك. والإنسان قد ينكر أمرًا حتى يري واحدًا من جنسه فيقر بالنوع، ويستفيد بذلك حكمًا كليًا؛ ولهذا يقول سبحانه: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } <ref>[الشعراء: 105]</ref>، { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } <ref>[الشعراء: 123]</ref>، ونحو ذلك. وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد ولكن كانوا مكذبين بجنس الرسل، لم يكن تكذيبهم بالواحد بخصوصه.
 
==من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف==
 
ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين المتماثلين، علم أن هذا مثل هذا، فجعل حكمهما واحدًا، كما إذا رأى الماء والماء، والتراب والتراب، والهواء والهواء، ثم حكم بالحكم الكلي على القدر المشترك، وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير، وذكر المشترك، كان أحسن في البيان، فهذا قياس الطرد. وإذا رأي المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما، وهذا قياس العكس.
 
وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم، فيتقى تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة، وهذا قياس الطرد. ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود أن ما ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره. والاعتبار يكون بهذا وبهذا. قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } <ref>[يوسف: 111]</ref>، وقال: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } إلى قوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ } <ref>[آل عمران: 13]</ref> وقد قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } <ref>[الشورى 17]</ref>، وقال: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } <ref>[الحديد: 25]</ref>.
 
والميزان فسره السلف بالعدل، وفسره بعضهم بما يوزن به، وهما متلازمان. وقد أخبر تعالى أنه أنزل ذلك كما أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان. وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فإذا علمنا أن الله تعالى حرم الخمر لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا النبيذ يماثلها في ذلك، كان القدر المشترك الذي هو العلة، هو الميزان الذي أنزله الله في قلوبنا لنزن به هذا ونجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين. فالقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله به. ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط، والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج، وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينة لم يكن بها اعتبار، كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة، ولا ريب أنه إذا حضر أحد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان، كان أتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف الكلي المشترك في العقل، أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها مع مغيب الآخر.
 
ولا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان لوجوه:
 
أحدها: أن الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به؟
 
الثاني: أن أمتنا - أهل الإسلام - ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها.
 
الثالث: أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه، يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية، ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية، وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم، فإنه ليس الأمر كذلك، بل فيه معاني كثيرة فاسدة.
 
ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية، وزعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وليس الأمر كذلك، فإنه لو احتاج الميزان إلى ميزان، لزم التسلسل.
 
وأيضا، فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي، وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق إلا بلادة وفسادًا، ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه، لابد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود أعرض عن اعتبارها بالمنطق؛ لما فيه من العجز والتطويل، وتبعيد الطريق، وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط. فإنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية، وضعوا ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا، حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين، وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة، وكانوا فيها من المطففين، { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } <ref>[المطففين: 2، 3]</ref> وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان؟. مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس، بل هم بمنزلة من ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له، وتارة عليه، ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة.
 
والميزان التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوى بين المتماثلين وتفرق بين المختلفين، بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف.
 
فإذا قيل: إن كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل؟
 
قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية. فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علما وعملا، وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها، لما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد، والقرآن والحديث مملوءان من هذا؛ يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآية <ref>[الجاثية: 21]</ref> وقوله: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } <ref>[القلم: 35، 36]</ref> أي هذا حكم جائر لا عادل، فإن فيه تسوية بين المختلفين، ومن التسوية بين المتماثلين قوله: { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ } <ref>[القمر: 43]</ref>، وقوله: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية <ref>[البقرة: 214]</ref>.
 
والمقصود التنبيه على أن الميزان العقلي حق كما ذكر الله في كتابه، وليست هي مختصة بمنطق اليونان، بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل، وصيغ التمثيل هي الأصل وهي الحمل، والميزان هو القدر المشترك وهو الجامع.
 
الوجه الثامن: أنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا؛ الحسيات، والأوليات، والمتواترات، والمجربات، والحدسيات. ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرها ما جرت العادة باشتراك بني آدم فيه وتناقضوا في ذلك؛ فإن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما يراه هؤلاء عين ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته، فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم، وكذا أكثر المرئيات.
 
وأما الشم والذوق واللمس، فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه، بل الذي يشمه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه، ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء، لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين.
 
وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء، ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ويجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية، ويجرب آخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب.
 
ثم هم مع هذا يقولون في المنطق: إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره.
 
فيقال لهم: وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات، بل اشتراك الناس في المتواترات أكثر؛ فإن الخبر المتواتر ينقله عدد كثير، فيكثر السامعون له، ويشتركون في سماعه من العدد الكثير، بخلاف ما يدرك بالحواس؛ فإنه يختص بمن أحسه، فإذا قال: رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت، فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانًا على غيره، ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد، فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها، ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر.
 
وعامة ما عندهم من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هي من العلم بعادة ذلك الموجود، وهو ما يسمونه الحدسيات، وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية، والعلوم الفلكية، كعلم الهيئة، فهو من قسم المجربات وهذه لا يقوم فيها برهان؛ فإن كون هذه الأجسام الطبيعية جربت، وكون الحركات جربت، لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل، والتواتر في هذا قليل.
 
وغاية الأمر أن تنقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب، وغاية ما يوجد، أن يقول بطليموس: هذا مما رصده فلان، وأن يقول جالينوس: هذا مما جربته، أو ذكر لي فلان أنه جربه، وليس في هذا شيء من المتواتر. وإن قدر أن غيره جربه أيضا، فذاك خبر واحد، وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه، ولا علموا بالأرصاد ما ادعوا أنهم علموه، وإن ذكروا جماعة رصدوا، فغايته أنه من المتواتر الخاص الذي تنقله طائفة.
 
فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء، كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانًا بمثل هذا التواتر؟ ويعظم علم الهيئة والفلسفة، ويدعي أنه علم عقلي معلوم بالبرهان. وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله، فما الظن بالإلهيات، التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين، وأن كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بهذه الأمور.
 
الوجه التاسع: أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه، بل الفراسة أيضا وأمثالها، فإن أدخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات، لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ولم يبق لهم ضابط وقد ذكر ابن سينا وأتباعه أن القضايا الواجب قبولها التي هي مادة البرهان، الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات، وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها، ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر؛ ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه، وإذا كان كذلك، لم يلزم إن كل ما لم يدخل في قياسهم لا يكون معلومًا، وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ؛ فإنه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذا الطريق، لم يمكن وزنها بهذه الأدلة.
 
وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم، وهذا في غاية الجهل، لاسيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء.
 
فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل إلى معرفته بطريقهم، لزم أمران:
 
أحدهما: ألا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه.
 
والثاني: أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه، فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة؟
 
الوجه العاشر: أنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما، وما هو باطل وليس بعلم، يجعلونه علما، فزعموا أن ما جاءت به الأنبياء في معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له في الواقع، وإنهم إنما أخبرو الجمهور بما يتخيلونه في ذلك، لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم، لا ليعرفوا بذلك الحق وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس، ويقولون: إن النبي حاذق بالشرائع العملية دون العلمية، ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبي؛ وعلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ولا يوجبون اتباع نبي بعينه، لا محمد، ولا غيره؛ ولهذا لما ظهرت التتار، وأراد بعضهم الدخول في الإسلام قيل: إن هولاكو أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بألا يفعل، قال: ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته.
 
ومن تبع النبي منهم في الشرائع العملية لا يتبعه في أصول الدين والاعتقاد، بل النبي عدهم بمنزلة أحد الأئمة الأربعة عند المتكلمين، فإن أئمة الكلام إذا قلدوا مذهبًا من المذاهب الأربعة، اقتصروا في تقليده على القضايا الفقهية، ولا يلتزمون موافقته في الأصول ومسائل التوحيد. بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك.
 
وقد أخبر النبي {{صل}} عن الله بأسمائه وصفاته المعينة، وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، وليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم، وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون، وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم، لا البرهاني ولا غيره، فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورًا كلية، وهذه أمور خاصة، وقد أخبر {{صل}} بما يكون من الحوادث المعينة حتى أخبر عن التتر الذين جاؤوا بعد ستمائة سنة من إخباره، وكذلك عن النار التي خرجت قبل مجىء التتر سنة خمس وخمسين وستمائة ه، فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمي معين أو أمة معينة، فضلًا عن موصوف بالصفات التي ذكرها؟
 
ثم من بلاياهم وكفرياتهم أنهم قالوا: إن الباري تعالى لا يعلم الجزئيات، ولا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما، ولا شيئًا من تفاصيل الحوادث. والكلام والرد عليهم في ذلك مبسوط في موضعه.
 
والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون: من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال؛ فرارًا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه.
 
الوجه الحادي عشر: أنهم معترفون بالحسيات الظاهرة والباطنة كالجوع والألم واللذة. ونفوا وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس كالملائكة والجن، وما تراه النفس عند الموت، والكتاب والسنة ناطقان بإثبات ذلك، ولبسط هذه الأمور موضع آخر. وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفي ما لم يعلم نفيه، أوجب لهم من الجهل والكفر ما صار حاجبًا، وأنهم به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى.
 
الوجه الثاني عشر: أن يقال: كون القضية برهانية معناه عندهم: أنها معلومة للمستدل بها، وكونها جدلية، معناه كونها مسلمة، وكونها خطابية معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة، وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية، ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها، فضلا عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم، بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها، بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها. ومعلوم أن القضية قد تكون حقًا. والإنسان لا يشعر بها، فضلا عن أن يظنها أو يعلمها، وكذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهي حق في نفسها، بل تكون برهانية أيضا كما قد سلموا ذلك، وإذا كان كذلك، فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها، لا تكون كذبًا باطلًا قط. وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق القضايا ما هو مشترك. فينتفع به جنس بني آدم، وهذا هو العلم النافع للناس.
 
وأما هؤلاء المتفلسفة، فلم يسلكوا هذا المسلك، بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل، وغير ذلك لم يجعلوه برهانيًا، وإن علمه مستدل آخر. وعلى هذا، فيكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة، ما ليس من البرهانيات عند آخرين، فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع، بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها، حتى إن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم، وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه عند أهل كل صناعة من الحق والباطل، ومن الصدق والكذب، ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين، بخلاف طريقة الأنبياء؛ فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب، فكل ما ناقض الصدق فهو كذب، وكل ما ناقض الحق فهو باطل؛ فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنزل أيضا الميزان وما يوزن به، ويعرف به الحق من الباطل. ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون؛ فإنه لا يمكن أن يكون هاديًا للحق، ولا مفرقًا بين الحق والباطل، ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل.
 
وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقًا لما جاءت به الأنبياء، فهو منه. وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعًا وعقلا.
 
فإن قيل: نحن نجعل البرهانيات إضافية، فكل ما علمه الإنسان بمقدماته، فهو برهاني عنده، وإن لم يكن برهانيا عند غيره.
 
قيل: لم يفعلوا ذلك، فإن من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة، مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخرى بغير تلك المواد المعينة التي عينوها. وإذا قالوا: نحن لا نعين المواد، فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب.
 
الوجه الثالث عشر: أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما بالعقل وإما بالأخبار الصادقة معلومات كثيرة، لا تعلم بطرقهم التي ذكروها، ومن ذلك ما علمه الأنبياء صلوات الله عليهم من العلوم أرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد، فقالوا: النبي له قوة أقوى من قوة غيره، وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم، فإذا تصور أدرك بتلك القوة الحد الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم؛ لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة، فجعلوا ما يخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي، وهذا في غاية الفساد، فإن القياس المنطقي إنما تعرف به أمور كلية كما تقدم، وهم يسلمون ذلك، والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة، فعلم بذلك أن ما علمته الرسل لم يكن بواسطة القياس المنطقي. بل جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته في هذا الباب، تعالى الله عن قوله علوًا كبيرًا.
 
وقد تبين بما تقرر، فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طريق العلم، مادة وصورة، وتبين أنهم أخرجوا من العلوم الصادقة أجل وأعظم وأكثر مما أثبتوه، وأن ما ذكروه من الطريق إنما يفيد علومًا قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة، وهذه مرتبة القوم؛ فإنهم من أخس الناس علمًا وعملا، وكفار اليهود والنصاري أشرف علمًا وعملًا منهم من وجوه كثيرة، والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، فضلا عن درجتهم قبل ذلك. وقد أنشد ابن القشيري في الرد على الشفاء لابن سينا:
 
قطعنا الأخوة من معشر ** بهم مرض من كتاب الشفا
 
وكم قلت: يا قوم أنتم على ** شفا جرف من كتاب الشفا
 
فلما استهانوا بتنبيهنا ** رجعنا إلى الله حتى كفى
 
فماتوا على دين رسطالس ** وعشنا على ملة المصطفى
 
فإن قيل: ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم، يوجد نحو منه في كلام متكلمي المسلمين، بل منهم من يذكره بعينه إما بعباراتهم، وإما بتغيير العبارة.
 
فالجواب: أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقًا، بل كل ما جاءت به الرسل فهو حق، وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يوافق ذلك فهو حق، وما قالوه مما يخالفه، فهو باطل. وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث.
 
قال: والعجب من قوم أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة، فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين عليه، فلا الإسلام نصروا ولا الأعداء كسروا، ثم من العجائب أنهم يتركون أتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق، ويعرضون عن تقليدهم ويقلدون ويساكنون مخالف ما جاؤوا به من يعلمون أنه ليس بمعصوم، وأنه يخطئ تارة ويصيب أخرى، والله الموفق للصواب.
 
قال [[السيوطي]]:
 
هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية. وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب وحذفت من كتابه الكثير، فإنه في عشرين كراسًا. ولم أحذف من المهم شيئًا، ولله الحمد والمنة.
 
==فصل في ضبط كليات المنطق==
 
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
 
فصل في ضبط كليات المنطق والخلل فيه
 
بنوه على أن مدارك العلم منحصرة في الحد وجنسه من الرسم ونحوه وفي القياس ونحوه من الاستقراء والتمثيل؛ لأن العلم إما تصور وهو معرفة المفردات، وإما تصديق وهو العلم بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات، وكل من العلمين إما بديهي لايحتاج إلى طريق، وإما نظري مفتقر إلى الطريق، وطريق التصور هو الحد، وطريق التصديق هو القياس الذي يسمونه البرهان إن كانت مقدماته يقينية.
 
ثم قالوا: الحد: هو القول الدال على ماهية الشيء، وإن كان يراد به نفس المحدود، كما أن الاسم هو القول الدال على المسمى ويراد به المسمى، إذ المفهوم من الحد والاسم هو المحدود والمسمى، كما أن الماهية هي المقولة في جواب ما هو، ويعبر عنها بأنها جواب ما يقال في السؤال بصيغة ما هو، فتكون الماهية هي الحد وهي ذات الشيء أيضا، وهذه المصادر المشتقة من الجمل الاستفهامية مولدة مثل الماهية والمائية والكيفية والحيثية والأينية واللمية بمنزلة المصادر من الجمل الخبرية كالحولقة والقلحدة والبسملة والحمدلة ونحو ذلك.
 
ثم قالوا: الماهية مركبة من الصفات الذاتية، وتكلموا على الفرق بين الصفات الذاتية والعرضية بأن الذاتية هي التي يمتنع تصور الموصوف إلا بتصورها، فالذات متوقفة عليها في الوجود والذهن كالتجسيم للحيوان، وما ليس كذلك فهو العرضي.
 
ثم هو ينقسم: إلى لازم وعارض مفارق، واللازم إما لازم للماهية كالزوجية للأربعة، والفردية للثلاثة، وإما لازم لوجودها دون ماهيتها كالسواد للقار، والحدوث للحيوان.
 
والعارض المفارق إما بطىء الزوال كالشباب والمشيب، وإما سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل، والمشكل هو الفرق بين الذاتي واللازم للماهية؛ فإن كلاهما لا يفارق الذات، لا في الوجود العيني ولا الذهني، ففرقوا بينهما بأن الذاتي يسبق تصوره تصور الماهية، بحيث لا تفهم الذات بدونه بخلاف لازم الماهية.
 
ثم كل من الذاتي والعرضي، إما أن يشترك فيه الجنس، وهو الجنس العام والعرض العام. وإما ينفرد به نوع وهو الفصل والخاصة، وإما أن يجمع بين المشترك والمميز وهو النوع، فهذه الكليات الخمس الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام. فالكلام في هذه الصفات وأقسامها غالب منفعته في الحدود والحقائق، وأما القياس، فإنه قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، ولابد فيه من مقدمتين والمقدمة هي القضية وهي الجملة الخبرية ولابد فيها من مفردين، فكان الكلام فيه في ثلاث مراتب:
 
الأولى: الكلام في المفردات؛ ألفاظها ومعانيها لدلالة المطابقة والتضمن والالتزام، والأسماء المترادفة والمتباينة والمشتركة والمتواطئة والمفردة والمركبة والكلى والجزئي.
 
والمرتبة الثانية: الكلام في القضايا وأقسامها؛ من الخاص والعام والمطلق، والإيجاب والسلب وجهات القضايا، وفي أحكام القضايا، مثل كذب النقيض، وصدق العكس، وعكس النقيض.
 
والمرتبة الثالثة: الكلام في القياس وضروبه وشروط نتاجه من أنه لابد فيه من قضية عامة إيجابية، وأن النتاج لا يحصل عن سالبتين ولا خاصيتين جزئيتين ولا سالبة صغرى وجزئية كبرى، بل إما موجبتان فيهما كلية، وإما صغرى سالبة وكبرى جزئية وغير ذلك من أحكام صور القياس وأنواعه، التي تتبين ببرهان الخلف المردود إلى حكم نقيض القضية، أو بالرد إلى عكس القضية أو عكس نقيضها.
 
ثم بينوا بعد ذلك مواد القياس فقسموه إلى:
 
برهانى: وهو ما كانت مواده يقينية وحصروا اليقينيات فيما ذكروه من الحسيات الباطنة والظاهرة والبديهيات والمتواترات والمجربات، وزاد بعضهم الحدسيات.
 
وإلى خطابي: وهو ما كانت مواده مشهورة يقينية، أو غير يقينية.
 
وإلى جدلي: وهو ما كانت مواده مسلمة من المنازع، يقينية أو مشهورة أو غير ذلك.
 
وإلى شعري: وهو ما كانت مواده مشعورًا بها غير معتقدة كالمفرحة والمحزنة والمضحكة.
 
وإلى مغلطي سوفسطائي: وهو ما كانت مواده مموهة بشبه الحق.
 
==فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس==
 
الناس في مسمى القياس على ثلاثة أقوال:
 
أحدها: أنه حقيقة في التمثيل مجاز في الشمول، وهو قول الغزالي وأبي محمد.
 
والثاني: العكس وهو قول ابن حزم.
 
والثالث: أنه حقيقة فيهما، وهو الأصح الذي عليه الجمهور، فإن القياس عند أصحابنا والجمهور ينقسم إلى: عقلي، وهو: ما يكتفي فيه بالعقل، وإلى شرعي وهو: ما لا بد فيه من أصل معلوم بالشرع.
 
وكل من العقلي والشرعي وكل ما يسمى قياسًا ينقسم، إلي قياس تمثيل وقياس شمول. فالأول إلحاق الشيء بنظيره، والثاني إدخال الشيء تحت حكم المعنى العام الذي يشمله، ثم كل منهما متصل بالآخر؛ لأنه لابد بين المثلين من معنى مشترك يكون شاملا لهما، ولابد في المعنى الشامل لاثنين فصاعدًا من تسوية أحد الاثنين بالآخر في ذلك المعنى، فالقياس ثابت فيهما وهو التقدير والاعتبار والحسبان.
 
==فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد==
 
الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد.
 
أما البرهان فصورته صورة صحيحة وإذا كانت مواده صحيحة فلا ريب أنه يفيد علمًا صحيحًا لكن الخطأ من وجهين:
 
أحدهما: أن حصر مواده فيما ذكروه من الأجناس المذكورة لا دليل عليه البتة، فأصابوا فيما أثبتوه دون ما نفوه، فمن أين يحكم بأنه لا يقين إلا من هذه الجهات المعينة، فإن رجع فيه الإنسان إلى ما يجده من نفسه فمن أين له أن سائر النوع حتى الأنبياء والأولياء لا يحصل لهم يقين بغير ذلك، ثم الواقع خلاف ذلك.
 
الثاني: أن هذا البرهان يفيد العلم، لكن من أين علم أنه لا يحصل لقلب بشر علم إلا بهذا البرهان الموصوف بل قد رأينا علومًا كثيرة هي لقوم ضرورية أو حسية، ولآخرين نظرية قياسية، فلهذا كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وهو ما حصل من العلوم بغير هذه المواد المحصورة، أو بغير قياس أصلا، بل زعم أفضل المتأخرين منهم أن علوم الأنبياء والأولياء لا تحصل إلا بواسطة القياس، وكلامهم يقتضى أن علم الرب كذلك ولا دليل له على ذلك أصلا سوى محض قياس الأنبياء والأولياء على نفسه، وقياس الرب والملائكة على البشر.
 
فهذا موضع ينبغي للمؤمن أن يتيقنه، ويعلم أن هؤلاء القوم وغيرهم إنما ضلوا غالبًا من جهة ما نفوه وكذبوا به، لا من جهة ما أثبتوه وعلموه؛ ولهذا كان المنطق مظنة الزندقة لمن لم يقو الإيمان في قلبه، حيث اعتقد أنه لا علم إلا بهذه المواد المعينة، وهذه الصورة، وذلك مفقود عنده في غالب ما أخبرت به الأنبياء فيشك في ذلك أو يكذب به أو يعرض عن اعتقاده والتصديق به، فيكون عدم إيمانه وعلمه من اعتقاده الفاسد أنه لا علم إلا من هذه المواد المعينة ولا دليل عليه البتة، وإن كانت مفيدة للعلم، فالفرق ظاهر بين كونها تفيده وبين كونها تفيده ولا يحصل بغيرها.
 
ومما يبين ذلك أن القياس لا يدل على علم كلي، وهم معترفون بذلك؛ لأنه لابد فيه من مقدمة كلية إيجابية، والكلي لا يدل إلا على القدر المشترك وهو الكلي، فجميع الحقائق المعينة لا يدل عليها القياس بأعيانها، وإنما يعلم به إن علم صفة مشتركة بينها وبين غيرها فلا يعلم به شيء من خواص الربوبية البتة، ولا شيء من خواص ملك من الملائكة ولا نبي من الأنبياء ولا ولي من الأولياء، بل ولا ملك من الملوك، ولا أحد من الموجودات العلوية ولا السفلية، فإذا العلم بهذه الأشياء إما أن يكون منتفيًا أو حاصلًا بغير القياس، وكلا القسمين واقع فإنه منتف عندهم؛ إذ لا طريق لهم غير القياس، وحاصل ذلك عند الأنبياء وأتباعهم بل حاصل ذلك في الجملة عند جميع أولى العلم من الملائكة والنبيين وسائر الآدميين.
 
وأيضا، فإذا كان لابد فيه من مقدمة كلية فإن كانت نظرية افتقرت إلى أخرى وإن كانت بديهية، فإذا جاز أن يحصل العلم بجميع أفرادها بديهة، فما المانع أن يحصل ببعض الأفراد وهو أسهل.
 
وأما الحد، فالكلام عليه في مواضع:
 
أحدها: دعواهم أن التصورات النظرية لا تعلم إلا بالحد الذي ذكروه فالقول فيه، كالقول في أن التصديقات النظرية لا تحصل إلا بالبرهان الذي حصروا مواده، ولا دليل على ذلك، ويدل على ضعفه أن الحاد إن عرف المحدود بحد غيره فقد لزم الدور أو التسلسل، وإن عرفه بغير حد بطل المدعى. فإن قيل: بل عرفه بالحد الذي انعقد في نفسه كما عرف التصديق بالبرهان الذي انعقد في نفسه قبل أن يتكلم به، قيل: البرهان مباين للنتيجة؛ فإن العلم بالمقدمتين ليس هو عين العلم بالنتيجة، وأما الحد المنعقد في النفس فهو نفس العلم بالمحدود، وهو المطلوب، فأين الحد المفيد للعلم بالمحدود، وهذا أحد ما يبين.
 
الموضع الثاني: وهو أنه قد يقال: إن الحد لا تعرف به ماهية المحدود بحال، بخلاف البرهان فإنه دليل على المطلوب أما بالنسبة إلى الحاد؛ فلأنه عرف الشيء قبل أن يحده، وإلا لم يصح حده؛ لأن الحد يجب أن يطابقه عمومًا وخصوصًا ولولا معرفته به قبل أن يحده لم تصح معرفته بالمطابقة، وأما بالنسبة إلى المستمع، فلأن معرفته بذلك إذا لم تكن بديهية ولم يقم الحاد عليه دليلا، امتنع أن يحصل له علم بمجرد دعوى الحاد المتكلم بالحد؛ ولهذا تجد المستمع يعارض الحد ويناقضه في طرده وعكسه ولولا تصوره المحدود بدون الحد لا متنعت المعارضة والمناقضة.
 
وإنما فائدة الحد التمييز بين المحدود وغيره لا تصويره، وهو مطابق لاسم الحد في اللغة فإنه الفاصل بينه وبين غيره؛ وذلك أنه قد يتصور ماهية الشيء مطلقًا، مثل من يتصور الأمر والخبر والعلم، فيتصوره مطلقًا لا عامًا، فالحد يميز العام الذي يدخل فيه كل خبر وعلم وأمر. ومن هنا يتبين لك أن الذي يتصور بالبديهة من مسميات هذه الأسماء وهو الحقيقة المطلقة غير المطلوب بالحد، وهو الحقيقة العامة، ثم التمييز للأسماء تارة وللصفات أخرى فالحد إما بحسب الاسم وهو الحد اللفظي الذي يحتاج إليه في الاستدلال بالكتاب والسنة وكلام كل عالم، وإما بحسب الوصف وهو تفهيم الحقيقة التي عرفت صفتها وهذا يحصل بالرسم والخواص وغير ذلك.
 
الموضع الثالث: الفرق بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية بحيث يدعي أن هذا لا تفهم الماهية بدونه بخلاف الآخر، فإن العاقل إذا رجع إلى ذهنه لم يجد أحدهما سابقًا والآخر لاحقًا، ثم إذا كان المرجع في معرفة الذاتي إلى تصور الذات، والمرجع في تصورها إلى معرفة الذاتي كان دورًا؛ لأنا لا نعرف الماهية إلا بالصفات الذاتية، ولا نعرف الصفات الذاتية حتى نتصور الذات؛ فإن الصفات الذاتية ما تقف معرفة الذات عليها، فلا تعرف الذاتية إلا بأن نعرف أن فهم الذات موقوف عليها، فلا تريد أن تفهم الذات حتى تعرف الذاتية وبسط هذا كثير.
 
الموضع الرابع: دعواهم أن الماهيات مركبة ولا تركيب في الذهن.
 
==فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين==
 
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
 
قد كتبت فيما تقدم ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين، وعربته لفظًا ومعنى، فإنها أحسنت ألفاظه وحررت معانيه، وهو المنسوب إلى أرسطو اليوناني الذي يسميه أتباعه من الصابئين الفلاسفة المبتدعين المعلم الأول ؛ لأنه وضع التعاليم التي يتعلمونها من المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة.
 
فإن هذه التعاليم لما اتصلت بالمسلمين وعربت كتبها مع ما عرب من كتب الطب والحساب والهيئة وغير ذلك، وكان انتشار تعريبها في دولة الخليفة أبى العباس الملقب بالمأمون، أخذها المسلمون فحرروها لفظًا ومعنى، لكن فيها من الباطل والضلال شيء كثير.
 
فمنهم من اتبعها مع ما ينتحله من الإسلام وهم صابئة المسلمين المسمون بالفلاسفة، فصاروا مؤمنين ببعض الكتاب دون بعض، بمنزلة المبتدعة من اليهود والنصارى قبل النسخ، لما بدلوا بعض الكتب التي بأيديهم.
 
ومنهم من لم يقصد اتباعها لكن تلقى عنهم أشياء يظن أنها جميعها توافق الإسلام وتنصره، وكثير منها تخالفه وتخذله، وهذه حال كثير من أهل الكلام المعتزلة؛ ولهذا قيل: هم مخانيث الفلاسفة.
 
ومنهم من أعرض عنها إعراضًا مجملا، ولم يتبع من القرآن والإسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع، وهذه حال كثير من أهل الحديث والفقه وغير ذلك، وقد كتبت فيما تقدم بعض ما يتعلق بذلك في مواضع من القواعد، وذكرت في تلخيص جمل المنطق ما وقع من الجهل والضلال بسببه وبعض ما وقع فيه من الخلل. وهنا تلخيص ذلك فأقول:
 
مقصود الكلام في طرق العلم بالتصورات والتصديقات، فالأول كالحد والرسم، والثاني كالقياس بأنواعه من البرهان وغيره، وكالتمثيل والاستقراء.
 
وقد يزعمون أن المطلوب من التصورات لا ينال إلا بجنس الحد، والمطلوب من التصديقات لا ينال إلا بجنس القياس، وقد يسمى جنس القياس بالنسبة، كما يسمى جنس القول الشارح حدًا، وأما البديهي من النوعين فمستغن عن الحد والبرهان، فتضمن هذا الكلام أن الحدود تفيد تصوير الحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيرها، وأن القياس يفيد التصديق بالحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيره، وفي كلا الأمرين وقع الخطأ.
 
أما في الحد ففي كلا القضيتين السلب والإيجاب، فيما أثبتوه وفيما نفوه.
 
أما الأول، فإن الحد لا يفيد تصور الحقائق، وإنما يفيد التمييز بين المحدود وغيره، وتصور الحقائق لا يحصل بمجرد الحد الذي هو كلام الحاد، بل لابد من إدراكها بالباطن والظاهر، وإذا لم تدرك ضرب المثل لها، فيحصل بالمثال الذي هو قياس التصوير لا قياس التصديق نوع من الإدراك كإدراكنا لما وعد الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، والأمثال المضروبة في القرآن تارة تكون للتصوير، وتارة تكون للتصديق، وهذا الوجه مقرر بوجوه متعددة، وإنما الغرض هنا تلخيص المقصود.
 
وأما الثاني، وهو النفي فإن إدراك الحقائق المتصورة المطلقة ليس موقوفًا على الحد لو فرض أنها تعرف بالحد، بل تحصل بأسباب الإدراك المعروفة وقد تحصل من الكلام بالأسماء المفردة كما تحصل بالحد، وربما كان الاسم فيها أنفع من الحد، وهذا أيضا مقرر.
 
وأما القياس فلا ريب أنه يفيد التصديق إذا صحت مقدماته وتأليفها، لكن الخطأ فيه من النفي من وجهين أيضا:
 
أحدهما: أن حصول العلم التصديقي في النفس ليس موقوفًا على القياس، بل يحصل بغير القياس.
 
الثاني: أن القياس البرهاني ليست مواده منحصرة فيما ذكروه في الحسيات والوجديات والبديهيات والنظريات والمتواترات والتجريبيات والحدسيات، كما بينت هذا في غيرهذا الموضع، والله أعلم.
 
==سئل عن كتب المنطق==
 
وسُئِلَ عن كتب المنطق.
 
فأجاب:
 
أما كتب المنطق، فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعًا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية، وقال بعض الناس: إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد، فهذا غلط عظيم عقلًا وشرعًا.
 
أما عقلًا، فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني. وأما شرعًا، فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان.
 
وأما هو في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرًا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء، وكانت سبب نفاقهم، وفساد علومهم.
 
وقول من قال: إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد، والصفات الذاتية والعرضية، وأقسام القياس والبرهان، ومواده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع، وقد بين ذلك علماء المسلمين، والله أعلم.
 
==سئل شيخ الإسلام عن العقل==
 
سُئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه عن العقل الذي للإنسان هل هو عرض؟ وما هي الروح المدبرة لجسده؟ هل هي النفس؟ وهل لها كيفية؟ وهل هي عرض أو جوهر؟ وهل يعلم مسكنها من الجسد ومسكن العقل؟
 
فأجاب:
 
الحمد لله رب العالمين. العقل في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو أمر يقوم بالعاقل، سواء سمي عرضا أو صفة، ليس هو عينًا قائمة بنفسها، سواء سمي جوهرًا أو جسمًا أو غير ذلك، وإنما يوجد التعبير باسم "العقل" عن الذات العاقلة التي هي جوهر قائم بنفسه في كلام طائفة من المتفلسفة الذين يتكلمون في العقل والنفس، ويدعون ثبوت عقول عشرة، كما يذكر ذلك من يذكره من أتباع أرسطو أو غيره من المتفلسفة المشائين. ومن تلقي ذلك عنهم من المنتسبن إلى الملل.
 
وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبين أن ما يذكرونه من العقول والنفوس والمجردات والمفارقات والجواهر العقلية لا يثبت لهم منه إلا نفس الإنسان، وما يقول بها من العلوم وتوابعها، فإن أصل تسميتهم لهذه الأمور مفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس البدن بالموت، وهذا أمر صحيح، فإن نفس الميت تفارق بدنه بالموت، وهذا مبني على أن النفس قائمة بنفسها، تبقى بعد فراق البدن بالموت منعمة أو معذبة، وهذا مذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم، وهو قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، وإن كان كثير من أهل الكلام يزعمون أن النفس هي الحياة القائمة بالبدن.
 
ويقول بعضهم: هي جزء من أجزاء البدن كالريح المترددة في البدن أو البخار الخارج من القلب.
 
ففي الجملة، النفس المفارقة للبدن بالموت ليست جزءا من أجزاء البدن، ولا صفة من صفات البدن عند سلف الأمة وأئمتها، وإنما يقول هذا وهذا من يقوله من أهل الكلام المبتدع المحدث من أتباع الجهمية والمعتزلة ونحوهم. والفلاسفة المشاؤون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن، لكن يصفون النفس بصفات باطلة، فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلا، والعقل عندهم هو المجرد عن المادة وعلائق المادة، والمادة عندهم هي الجسم، وقد يقولون: هو المجرد عن التعلق بالهيولي، والهيولي في لغتهم هو بمعنى المحل. ويقولون: المادة والصورة.
 
والعقل عندهم جوهر قائم بنفسه لا يوصف بحركة ولا سكون ولا تتجدد له أحوال البتة.
 
فحقيقة قولهم: إن النفس إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال، لا علوم ولا تصورات، ولا سمع ولا بصر ولا إرادات، ولا فرح وسرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلًا وأبدًا، كما يزعمونه في العقل والنفس. ثم منهم من يقول: إن النفوس واحدة بالعين. ومنهم من يقول: هي متعددة. وفي كلامهم من الباطل ما ليس هذا موضع بسطه.
 
وإنما المقصود التنبيه على ما يناسب هذا الموضع، فهم يسمون ما اقترن بالمادة التي هي الهيولي وهي الجسم في هذا الموضع نفسًا كنفس الإنسان المدبرة لبدنه، ويزعمون أن للفلك نفسًا تحركه كما للناس نفوس، لكن كان قدماؤهم يقولون: إن نفس الفلك عرض قائم بالفلك كنفوس البهائم، وكما يقوم بالإنسان الشهوة والغضب، لكن طائفة منهم كابن سينا وغيره زعموا أن النفس الفلكية جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان، وما دامت نفس الإنسان مدبرة لبدنه سموها نفسًا، فإذا فارقت سموها عقلا؛ لأن العقل عندهم هو المجرد عن المادة وعن علائق المادة، وأما النفس فهي المتعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصريف.
 
وأصل تسميتهم هذه مجردات هو مأخوذ من كون الإنسان يجرد الأمور العقلية الكلية عن الأمور الحسية المعينة، فإنه إذا رأى أفرادًا للإنسان كزيد وعمرو عقل قدرًا مشتركًا بين الأناسي وبين الإنسانية الكلية المشتركة المعقولة في قلبه، وإذا رأي الخيل والبغال والحمير وبهيمة الأنعام وغير ذلك من أفراد الحيوان، عقل من ذلك قدرًا كليًا مشتركًا بين الأفراد، وهي الحيوانية الكلية المعقولة، وإذا رأى مع ذلك الحيوان والشجر والنبات، عقل من ذلك قدرًا مشتركًا كليًا وهو الجسم النامي المغتذي، وقد يسمون ذلك النفس النباتية وإذا رأى مع ذلك سائر الأجسام العلوية الفلكية والسفلية العنصرية، عقل من ذلك قدرًا مشتركا كليا وهو الوجود العام الكلي الذي ينقسم إلى جوهر وعرض، وهذا الوجود هو عندهم موضوع "العلم الأعلى" الناظر في الوجود ولواحقه، وهي الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم.
 
وهم يقسمون الوجود إلى جوهر وعرض، والأعراض يجعلونها تسعة أنواع، هذا هو الذي ذكره أرسطو وأتباعه يجعلون هذا من جملة المنطق؛ لأن فيه المفردات التي تنتهي إليها الحدود المؤلفة، وكذلك من سلك سبيلهم، ممن صنف في هذا الباب كابن حزم وغيره.
 
وأما ابن سينا وأتباعه فقالوا: الكلام في هذا لا يختص بالمنطق، فأخرجوها منه وكذلك من سلك سبيل ابن سينا كأبى حامد والسهروردي المقتول والرازي والآمدي وغيرهم. وهذه هي المقولات العشر التي يعبرون عنها بقولهم: الجوهر، والكم والكيف، والأين، ومتى، والإضافة، والوضع، والملك، وأن يفعل، وأن ينفعل، وقد جمعت في بيتين وهي:
 
زيد الطويل الأسود بن مالك ** في داره بالأمس كان متكي
 
في يده سيف نضاه فانتضا ** فهذه عشر مقولات سوا
 
وأكثر الناس من أتباعه وغير أتباعه أنكروا حصر الأعراض في تسعة أجناس، وقالوا: إن هذا لا يقوم عليه دليل، ويثبتون إمكان ردها إلى ثلاثة وإلى غير ذلك من الأعداد، وجعلوا الجواهر خمسة أنواع: الجسم، والعقل، والنفس، والمادة، والصورة.
 
فالجسم جوهر حسي، والباقية جواهر عقلية، لكن ما يذكرونه من الدليل على إثبات الجواهر العقلية، إنما يدل على ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان.
 
وهذه التي يسمونها المجردات العقلية ويقولون: الجواهر تنقسم إلى ماديات، ومجردات، فالماديات القائمة بالمادة وهي الهيولي وهي الجسم، والمجردات هي المجردات عن المادة، وهذه التي يسمونها المجردات أصلها هي هذه الأمور الكلية المعقولة في نفس الإنسان، كما أن المفارقات أصلها مفارقة النفس البدن. وهذان أمران لا ينكران، لكن ادعوا في صفات النفس وأحوالها أمورًا باطلة، وادعوا أيضا ثبوت جواهر عقلية قائمة بأنفسها ويقولون فيها: العاقل، والمعقول والعقل شيء واحد. كما يقولون: مثل ذلك في رب العالمين، فيقولون: هو عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ ولذة.
 
ويجعلون الصفة عين الموصوف، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، فيجعلون نفس العقل الذي هو العلم نفس العاقل العالم، ونفس العشق الذي هو الحب نفس العاشق المحب، ونفس اللذة هي نفس العلم ونفس الحب، ويجعلون القدرة والإرادة هي نفس العلم، فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة وهو المحبة وهو اللذة، ويجعلون العالم المريد المحب الملتذ هو نفس العلم الذي هو نفس الإرادة وهو نفس المحبة وهو نفس اللذة، فيجعلون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا، ويجعلون نفس الصفات المتنوعة هي نفس الذات الموصوفة، ثم يتناقضون فيثبتون له علما ليس هو نفس ذاته، كما تناقض ابن سينا في إشاراته، وغيره من محققيهم، وبسط الكلام في الرد عليهم بموضع آخر.
 
والمقصود أنهم يعبرون بلفظ العقل عن جوهر قائم بنفسه، ويثبتون جواهر عقلية يسمونها المجردات والمفارقات للمادة؛ وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن عندهم غير نفس الإنسان التي يسمونها الناطقة وغير ما يقوم بها من المعنى الذي يسمى عقلا.
 
==تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا==
 
وكان أرسطو وأتباعه يسمون الرب عقلا وجوهرًا، وهو عندهم لا يعلم شيئًا سوى نفسه، ولا يريد شيئا، ولا يفعل شيئًا، ويسمونه المبدأ والعلة الأولى ؛ لأن الفلك عندهم متحرك للتشبه به أو متحرك للشبه بالعقل، فحاجة الفلك عندهم إلى العلة الأولى من جهة أنه متشبه بها كما يتشبه المؤتم بالإمام والتلميذ بالأستاذ. وقد يقول: إنه يحركه كما يحرك المعشوق عاشقه، ليس عندهم أنه أبدع شيئًا ولا فعل شيئًا، ولا كانوا يسمونه واجب الوجود ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن، ويجعلون الممكن هو موجودًا قديما أزليًا كالفلك عندهم.
 
وإنما هذا فعل ابن سينا وأتباعه، وهم خالفوا في ذلك سلفهم وجميع العقلاء، وخالفوا أنفسهم أيضا فتناقضوا، فإنهم صرحوا بما صرح به سلفهم وسائر العقلاء من أن الممكن الذي يمكن أن يكون موجودًا وأن يكون معدومًا، لا يكون إلا محدثًا مسبوقا بالعدم.
 
وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال، فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنًا يقبل الوجود والعدم، بل كل ما قبل الوجود والعدم لم يكن إلا محدثًا، وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله فهو محدث مسبوق بالعدم كائن بعد أن لم يكن، كما بسط في موضعه.
 
لكن ابن سينا ومتبعوه تناقضوا فذكروا في موضع آخر أن الوجود ينقسم إلى: واجب، وممكن، وأن الممكن قد يكون قديما أزليًا لم يزل ولايزال يمتنع عدمه، ويقولون: هو واجب بغيره، وجعلوا الفلك من هذا النوع، فخرجوا عن إجماع العقلاء الذين وافقوهم عليه في إثبات شيء ممكن يمكن أن يوجد وألا يوجد، وأنه مع هذا يكون قديما أزليًا أبديًا ممتنع العدم واجب الوجود بغيره، فإن هذا ممتنع عند جميع العقلاء، وذلك بين في صريح العقل لمن تصور حقيقة الممكن الذي يقبل الوجود والعدم كما بسط في موضعه.
 
وهؤلاء المتفلسفة إنما تسلطوا على المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم؛ لأن هؤلاء لم يعرفوا حقيقة ما بعث الله به رسوله، ولم يحتجوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول، فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل، حتى قالوا: إن الله لم يزل لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بمشيئته. ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئتة ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلما بمشيئته فعالا لما يشاء؛ لزعمهم امتناع دوام الحوادث، ثم صار أئمتهم كالجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف إلى امتناع دوامها في المستقبل والماضي، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما، وأنهم يبقون دائمًا في سكون، ويزعم بعض من سلك هذه السبيل أن هذا هو مقتضى العقل، وأن كل ما له ابتداء، فيجب أن يكون له انتهاء.
 
ولما رأوا الشرع قد جاء بدوام نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } <ref>[الرعد: 35]</ref>، وقال: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } <ref>[ص: 54]</ref>، ظنوا أنه يجب تصديق الشرع فيما خالف فيه أهل العقل، ولم يعلموا أن الحجة العقلية الصريحة لا تناقض الحجة الشرعية الصحيحة، بل يمتنع تعارض الحجج الصحيحة، سواء كانت عقلية أو سمعية أو سمعية وعقلية، بل إذا تعارضت حجتان دل على فساد إحداهما أو فسادهما جميعًا.
 
وصار كثير منهم إلى جواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، وذكروا فروعًا عرف حذاقهم ضعفها، كما بسط في غير هذا الموضع، وهو لزومهم أن يكون الرب كان غير قادر ثم صار قادرًا من غير تجدد سبب يوجب كونه قادرًا، وأنه لم يكن يمكنه أن يفعل ولا يتكلم بمشيئته، ثم صار الفعل ممكنا له بدون سبب يوجب تجدد الإمكان. وإذا ذكر لهم هذا قالوا: كان في الأزل قادرًا على ما لم يزل. فقيل لهم: القادر لا يكون قادرًا مع كون المقدور ممتنعًا، بل القدرة على الممتنع ممتنعة، وإنما يكون قادرًا على ما يمكنه أن يفعله، فإذا كان لم يزل قادرًا، فلم يزل يمكنه أن يفعل.
 
ولما كان أصل هؤلاء هذا صاروا في كلام الله على ثلاثة أقوال:
 
فرقة قالت: الكلام لا يقوم بذات الرب، بل لا يكون كلامه إلا مخلوقًا؛ لأنه إما قديم وإما حادث، ويمتنع أن يكون قديما؛ لأنه متكلم بمشيئته وقدرته، والقديم لا يكون بالقدرة والمشيئة، وإذا كان الكلام بالقدرة والمشيئة كان مخلوقًا لا يقوم بذاته؛ إذ لو قام بذاته كانت قد قامت به الحوادث، والحوادث لا تقوم به؛ لأنها لو قامت به لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: إذ بهذا الأصل أثبتنا حدوث الأجسام، وبه ثبت حدوث العالم، قالوا: ومعلوم أن ما لم يسبق الحادث لم يكن قبله إما معه وإما بعده، وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث.
 
وكثير منهم لم يتفطن للفرق بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين، فإن الحادث المعين والحوادث المحصورة يمتنع أن تكون أزلية دائمة، وما لم يكن قبلها فهو إما معها وإما بعدها، وما كان كذلك فهو حادث قطعًا، وهذا لا يخفى على أحد.
 
ولكن موضع النظر والنزاع نوع الحوادث وهو أنه هل يمكن أن يكون النوع دائمًا فيكون الرب لايزال يتكلم أو يفعل بمشيئته وقدرته أم يمتنع ذلك؟ فلما تفطن لهذا الفرق طائفة قالوا: وهذا أيضا ممتنع لامتناع حوادث لا أول لها، وذكروا على ذلك حججًا كحجة التطبيق، وحجة امتناع انقضاء ما لا نهاية له وأمثال ذلك. وقد ذكر عامة ما ذكر في هذا الباب وما يتعلق به في مواضع غير هذا الموضع، ولكل مقام مقال.
 
وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يعلم بطلانه بصريح العقل، وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث، ويمتنع كون الرب يصير فاعلا بعد أن لم يكن، وأن المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول فقد سلم لهم ما ادعوه من قدم العالم كالأفلاك وجنس المولدات ومواد العناصر، وضلوا ضلالا عظيمًا خالفوا به صرائح العقول. وكذبوا به كل رسول.
 
فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن، ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام. والعقول الصريحة تعلم أن الحوادث لابد لها من محدث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها، لم يكن في العالم شيء من الحوادث، فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع، فإنه إذا كان معلولها لازمًا لها كان قديما معها لم يتأخر عنها، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وهؤلاء فروا من أن يحدثها القادر بغير سبب حادث، وذهبوا إلى أنها تحدث بغير محدث أصلا لا قادر ولا غير قادر، فكان ما فروا إليه شرًا مما فروا منه، وكانوا شرًا من المستجير من الرمضاء بالنار.
 
واعتقد هؤلاء أن المفعول المصنوع المبتدع المعين كالفلك، يقارن فاعله أزلًا وأبدًا لا يتقدم الفاعل عليه تقدمًا زمانيًا، وأولئك قالوا: بل المؤثر التام يتراخى عنه أثره ثم يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه، فأقام الأولون الأدلة العقلية الصريحة على بطلان هذا، كما أقام هؤلاء الأدلة العقلية الصريحة على بطلان قول الآخرين، ولا ريب أن قول هؤلاء أهل المقارنة أشد فسادًا ومناقضة لصريح المعقول، وصحيح المنقول، من قول أولئك أهل التراخي.
 
والقول الثالث الذي يدل عليه المعقول الصريح ويقر به عامة العقلاء ودل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة لم يهتد له الفريقان، وهو أن المؤثر التام يستلزم وقوع أثره عقب تأثره التام لا يقترن به ولا يتراخى، كما إذا طلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، وكسرت الإناء فانسكر، وقطعت الحبل فانقطع، فوقوع العتق والطلاق ليس مقارنًا لنفس التطليق والإعتاق بحيث يكون معه، ولا هو أيضا متراخ عنه، بل يكون عقبه متصلا به، وقد يقال: هو معه ومفارق له باعتبار أنه يكون عقبه متصلا به، كما يقال: هو بعده متأخر عنه، باعتبار أنه إنما يكون عقب التأثير التام؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } <ref>[يس: 82]</ref>، فهو سبحانه يكون ما يشاء تكوينه، فإذا كونه كان عقب تكوينه متصلا به، لا يكون مع تكوينه في الزمان، ولا يكون متراخيا عن تكوينه بينهما فصل في الزمان، بل يكون متصلا بتكوينه كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض.
 
وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث، كائن بعد أن لم يكن، وإن قيل مع ذلك بدوام فاعليته ومتكلميته، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
 
والمقصود هنا أن هذا هو أصل من قال: القرآن محْدَث، ومن قال: إن الرب لم يقم به كلام ولا إرادة، بل ولا علم، بل ولا حياة، ولا قدرة ولا شيء من الصفات، فلما ظهر فساد هذا القول شرعًا وعقلا، قالت طائفة ممن وافقتهم على أصل مذهبهم: هو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه أمر لازم لذاته كما تلزم ذاته الحياة، ثم منهم من قال: هو معنى واحد؛ لامتناع اجتماع معاني لا نهاية لها في آن واحد، وامتناع تخصيصه بعدد دون عدد. وقالوا: ذلك المعنى هو الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وقالوا: إن الأمر والنهي صفات للكلام لا أنواع له، فإن معنى آية الكرسي وآية الدين و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } <ref>[سورة الإخلاص]</ref> و { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } <ref>[سورة المسد]</ref> معنى واحد.
 
فقال جمهور العقلاء لهم: تصور هذا القول يوجب العلم بفساده، وقالوا لهم: موسى سمع كلام الله كله أو بعضه، إن قلتم: كله لزم أن يكون قد علم علم الله. وإن قلتم: بعضه، فقد تبعض، وقالوا لهم: إذا جوزتم أن تكون حقيقة الخبر هي حقيقة الأمر، وحقيقة النهي عن كل منهى عنه، والأمر بكل مأمور به هو حقيقة الخبر عن كل مخبر عنه، فجوزوا أن تكون، حقيقة العلم هي حقيقة القدرة، وحقيقة القدرة هي حقيقة الإرادة، فاعترف حذاقهم بأن هذا لازم لهم لا محيد لهم عنه، ولزمهم إمكان أن تكون حقيقة الذات هي حقيقة الصفات. وحقيقة الوجود الواجب هي حقيقة الوجوب الممكن، والتزم ذلك طائفة منهم فقالوا: الوجود واحد، وعين الوجود الواجب القديم الخالق هو عين الوجود الممكن المخلوق المحدث.
 
وهذا أصل قول القائلين بوحدة الوجود، كابن عربي الطائي وابن سبعين وأتباعهما، كما بسط في مواضع.
 
ومن هؤلاء القائلين بأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته مع قيام الكلام به من قال: كلامه المعين حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولاتزال. وزعموا أن كلا من القرآن والتوراة والإنجيل حروف وأصوات قديمة أزلية، لم تزل ولاتزال. فقال لهم جمهور العقلاء: معلوم بالاضطرار أن الباء قبل السين، والسين قبل الميم، فكيف يكونان معًا أزلا وأبدا؟ ومعلوم أن الصوت المعين لا يبقى زمانين، فكيف يكون أزليا لم يزل ولا يزال؟
 
فقالت الطائفة الثالثة ممن سلك مسلك أولئك المتكلمين: بل نقول: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، وإن لزم من ذلك قيام الحوادث به فلا محذور في ذلك لا شرعًا ولا عقلا، بل هذا لازم لجميع طوائف العقلاء، وعليه دلت النصوص الكثيرة وأقوال السلف والأئمة. ونقول: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، كما دلت على ذلك النصوص وأقوال السلف، لكن نقول: إنه لم يكن في الأزل متكلمًا، ويمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لأن ذلك يستلزم حوادث لا أول لها، وهو أصل هؤلاء.
 
فقيل لهم: معلوم أن الكلام صفة كمال لا صفة نقص، وأن من يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون قادرًا على الكلام بمشيئته وقدرته. وحينئذ فمن لم يزل متكلمًا بمشيئته أكمل ممن صار قادرًا على الكلام، بعد أن كان لا يمكنه أن يتكلم.
 
وقالوا لهم: إذا قلتم: تكلم بعد أن كان الكلام ممتنعًا، من غير أن يكون هناك سبب أوجب تجدد قدرته وتجدد إمكان الكلام له، قلتم: إنه لم يزل غير قادر على الكلام ولم يزل الكلام غير ممكن له، ثم صار قادرًا يمكنه أن يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء، وهذا مخالفة لصريح العقل، وسلب لصفات الكمال عن الباري، وجعله مثل المخلوق الذي صار قادرًا على الكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه.
 
والسلف والأئمة نصوا على أن الرب تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء وكما شاء، كما نص على ذلك عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الدين وسلف المسلمين، وهم الذين قالوا بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، لم يقل أحد منهم: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم إنه: مخلوق بائن عنه، ولا قال أحد منهم إنه صار متكلما أو قادرًا على الكلام بعد أن لم يكن كذلك، وقد بسطت هذه الأمور في موضع آخر.
 
والمقصود أن هذه الأقوال التي قالها هؤلاء المتكلمون من الجهمية والمعتزلة والكُلاَّبية والكرَّامية والسالمية، ومن وافقهم من المتأخرين الذين انتسبوا إلى بعض الأئمة الأربعة وخالفوا بها إجماع السلف والأئمة، وما جاء به الكتاب والسنة، وخالفوا بها صريح المعقول الذي فطر الله عليه عباده هي التي سلطت أولئك المتفلسفة الدهرية عليهم، لكن قول الفلاسفة أعظم فسادًا في المعقول والمنقول.
 
==فصل اسم العقل صفة==
 
والمقصود هنا أن اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة، وهو الذي يسمى عرضًا قائمًا بالعاقل، وعلى هذا دل القرآن في قوله تعالى: { لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ }. <ref>[البقرة: 37]</ref>. وقوله: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } <ref>[الحج: 46]</ref>. وقوله: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } <ref>[آل عمران: 118]</ref> ونحو ذلك مما يدل على أن العقل مصدر عقل يعقل عقلا، وإذا كان كذلك فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النار: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } <ref>[الملك: 10]</ref> وقال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } <ref>[الحج: 46]</ref>.
 
والعقل المشروط في التكليف لابد أن يكون علومًا يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل، أما من فهم الكلام وميز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل.
 
ثم من الناس من يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول: العقل هو العمل بموجب تلك العلوم.
 
والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا، وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: إن العقل غريزة، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء، كما أن في العين قوة بها يبصر، وفي اللسان قوة بها يذوق، وفي الجلد قوة بها يلمس عند جمهور العقلاء.
 
ومن الناس من ينكر القوى والطبائع كما هو قول أبي الحسن ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهؤلاء المنكرون للقوي والطبائع ينكرون الأسباب أيضا ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيقولون: إن الله لا يشبع بالخبز، ولا يروي بالماء، ولا ينبت الزرع بالماء، بل يفعل عنده لا به، وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنة وإجماع السلف مع مخالفة صريح العقل والحس، فإن الله قال في كتابه: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } <ref>[الأعراف: 57]</ref> فأخبر أنه ينزل الماء بالسحاب، ويخرج الثمر بالماء. وقال تعالى: { وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } <ref>[البقرة: 164]</ref> وقال: { وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } <ref>[ق: 9]</ref> وقال: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } <ref>[التوبة: 14]</ref> وقال: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } <ref>[المائدة: 15، 16]</ref> وقال: { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } <ref>[البقرة: 26]</ref> ومثل هذا في القرآن كثير.
 
والناس يعلمون بحسهم وعقلهم أن بعض الأشياء سبب لبعض، كما يعلمون أن الشبع يحصل بالأكل لا بالعد، ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى وأن الماء سبب لحياة النبات والحيوان كما قال: { وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } <ref>[الأنبياء: 30]</ref>، وأن الحيوان يروي بشرب الماء لا بالمشي، ومثل ذلك كثير، ولبسط هذه المسائل موضع آخر.
 
==فصل عن الروح المدبرة للبدن==
 
والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت، قال النبي {{صل}} لما نام عن الصلاة: «إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء» وقال له بلال: يارسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وقال تعالى } اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } <ref>[الزمر: 42]</ref>
 
قال [[ابن عباس]] وأكثر المفسرين: يقبضها قبضين: قبض الموت، وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى حتى يأتي أجلها وقت الموت.
 
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه كان يقول إذا نام: «باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها. وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»، وقد ثبت في الصحيح: أن الشهداء جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش. وثبت أيضا بأسانيد صحيحة: أن الإنسان إذا قبضت روحه فتقول الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجى راضية مرضيًا عنك، ويقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك، وفي الحديث الآخر: «نسمة المؤمن طائر تعلق من ثمر الجنة ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش» فسماها نسمة.
 
وكذلك في الحديث الصحيح حديث المعراج: أن آدم عليه السلام قبل يمينه أسودة، وقبل شماله أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، وأن جبريل قال للنبي {{صل}}: «هذه الأسودة نسم بنيه: عن يمينه السعداء، وعن يساره الأشقياء»، وفي حديث علي: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة»، وفي الحديث الصحيح: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» فقد سمى المقبوض وقت الموت ووقت النوم روحًا ونفسا، وسمى المعروج به إلى السماء روحًا ونفسًا، لكن يسمى نفسًا باعتبار تدبيره للبدن ويسمى روحًا باعتبار لطفه، فإن لفظ الروح يقتضى اللطف؛ ولهذا تسمى الريح روحًا. وقال النبي {{صل}}: «الريح من روح الله» أي من الروح التي خلقها الله فإضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف؛ إذ كل ما يضاف إلى الله إن كان عينًا قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله.
 
فالأول كقوله: { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } <ref>[الشمس: 13]</ref> وقوله: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } وهو جبريل: { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } <ref>[مريم: 17 19]</ref> وقال: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } <ref>[التحريم: 12]</ref> وقال عن آدم: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } <ref>[الحجر: 29]</ref>.
 
والثاني كقولنا: علم الله، وكلام الله، وقدرة الله، وحياة الله، وأمر الله، لكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علمًا، والمقدور قدرة والمأمور به أمرًا، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقًا. كقوله: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } <ref>[النحل: 1]</ref> وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } <ref>[آل عمران: 45]</ref>، وقوله: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } <ref>[النساء: 171]</ref>، ومن هذا الباب قوله: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك، فرحم بها عباده»، ومنه قوله في الحديث الصحيح للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» كما قال للنار: «أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها».
 
==فصل عن معاني الروح والنفس==
 
ولكن لفظ الروح، والنفس يعبر بهما عن عدة معان: فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن، والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي تسميه الأطباء الروح ويسمى الروح الحيواني، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس.
 
ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه كما يقال: رأيت زيدًا نفسه وعينه، وقد قال تعالى: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } <ref>[المائدة: 116]</ref> وقال: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } <ref>[الأنعام: 54]</ref> وقال تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ } <ref>[آل عمران: 28، 30]</ref>، وفي الحديث الصحيح أنه قال لأم المؤمنين: «لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزن بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته»، وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي {{صل}}: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم».
 
فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: الله نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته ليس المراد بها ذاتًا منفكة عن الصفات ولا المراد بها صفة للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ.
 
وقد يراد بلفظ النفس: الدم الذي يكون في الحيوان كقول الفقهاء: ما له نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة ومنه يقال: نفست المرأة إذا حاضت، ونفست إذا نفسها ولدها، ومنه قيل: النفساء، ومنه قول الشاعر:
 
تسيل على حد الظباة نفوسنا ** وليست على غير الظباة تسيل
 
فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح، ويراد بالنفس عند كثير من المتأخرين صفاتها المذمومة، فيقال: فلان له نفس، ويقال: اترك نفسك، ومنه قول أبي مرثد: رأيت رب العزة في المنام، فقلت: أي رب، كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك. ومعلوم أنه لا يترك ذاته وإنما يترك هواها وأفعالها المذمومة، ومثل هذا كثير في الكلام، يقال: فلان له لسان، فلان له يد طويلة، فلان له قلب، يراد بذلك لسان ناطق، ويد عاملة صانعة، وقلب حي عارف بالحق مريد له، قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } <ref>[ق: 37]</ref>.
 
كذلك النفس لما كانت حال تعلقها بالبدن يكثر عليها اتباع هواها صار لفظ النفس يعبر به عن النفس المتبعة لهواها أو عن اتباعها الهوى، بخلاف لفظ "الروح" فإنها لا يعبر بها عن ذلك؛ إذ كان لفظ الروح ليس هو باعتبار تدبيرها للبدن.
 
==النفوس ثلاثة أنواع==
 
ويقال: النفوس ثلاثة أنواع، وهي:
 
النفس الأمارة بالسوء التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي.
 
والنفس اللوامة وهي التي تذنب وتتوب فعنها خير وشر، لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت، فتسمى لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب ؛ ولأنها تتلوم أي تتردد بين الخير والشر.
 
والنفس المطمئنة وهي التي تحب الخير والحسنات وتريده، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خلقًا وعادة وملكة، فهذه صفات وأحوال لذات واحدة، وإلا فالنفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه.
 
وقد قال طائفة من المتفلسفة الأطباء: إن النفوس ثلاثة: نباتية، محلها الكبد. وحيوانية، محلها القلب. وناطقية، محلها الدماغ.
 
وهذا إن أرادوا به أنها ثلاث قوى تتعلق بهذه الأعضاء فهذا مسلم، وإن أرادوا أنها ثلاثة أعيان قائمة بأنفسها فهذا غلط بين.
 
==فصل كيفية تعلم النفس==
 
وأما قول السائل: هل لها كيفية تعلم؟ فهذا سؤال مجمل، إن أراد أنه يعلم ما يعلم من صفاتها وأحوالها فهذا مما يعلم، وإن أراد أنها هل لها مثل من جنس ما يشهده من الأجسام، أو هل لها من جنس شيء من ذلك؟ فإن أراد ذلك فليس كذلك، فإنها ليست من جنس العناصر: الماء والهواء والنار والتراب، ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعدن، ولا من جنس الأفلاك والكواكب، فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود؛ ولهذا يقال: إنه لا يعلم كيفيتها، ويقال: إنه "من عرف نفسه عرف ربه" من جهة الاعتبار، ومن جهة المقابلة، ومن جهة الامتناع.
 
فأما الاعتبار، فإنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا: من العسل، واللبن، والماء، والخمر، والحرير، والذهب، والفضة، لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة، فقد قال [[ابن عباس]] رضي الله عنه ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
 
فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة، ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا، بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع عليها ما يمتنع عليها، وتكون مادتها مادتها وتستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد ويأسن، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب، ولا نازلا من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا، وأمثال ذلك، فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا.
 
فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير، لم يلزم أن يكون مماثلا لخلقه؛ إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق، وكل واحد من صغار الحيوان لها حياة وقوة وعمل وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئًا من المخلوقين.
 
والله سبحانه وتعالى سمى نفسه وصفاته بأسماء، وسمى بها بعض المخلوقات، فسمى نفسه حيًا عليما سميعًا بصيرًا عزيزًا جبارًا متكبرًا ملكا رؤوفًا رحيما؛ وسمى بعض عباده: عليما، وبعضهم: حليما، وبعضهم: رؤوفًا رحيما، وبعضهم: سميعًا بصيرًا، وبعضهم: ملكا، وبعضهم: عزيزًا، وبعضهم: جبارًا متكبرًا، ومعلوم أنه ليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، وهكذا في سائر الأسماء، قال سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } <ref>[النساء: 11]</ref> وقال: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } <ref>[الذاريات: 28]</ref> وقال: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } <ref>[ فاطر: 41]</ref> وقال: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } <ref>[الصافات: 101]</ref> وقال: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } <ref>[البقرة: 143]</ref> وقال: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } <ref>[التوبة: 128]</ref> وقال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } <ref>[النساء: 58]</ref> وقال تعالى: { أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } <ref>[الإنسان: 2]</ref> وكذلك سائر ما ذكر، لكن الإنسان يعتبر بما عرفه ما لم يعرفه، ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة.
 
وأما من جهة المقابلة فيقال: من عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية، ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم، ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز، وهكذا أمثال ذلك؛ لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم، وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم، وأما الرب تعالى: فله صفات الكمال، وهي من لوازم ذاته، يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلًا وأبدًا، ويمتنع عدمها؛ لأنه واجب الوجود أزلًا وأبدًا، وصفات كماله من لوازم ذاته، ويمتنع ارتفاع اللازم إلا بارتفاع الملزوم، فلا يعد شيء من صفات كماله إلا بعدم ذاته، وذاته يمتنع عليها العدم، فميتنع على شيء من صفات كماله العدم.
 
وأما من جهة العجز والامتناع، فإنه يقال: إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه، بل هي هويته وهو لا يعرف كيفيتها ولا يحيط علما بحقيقتها - فالخالق جل جلاله أولى ألا يعلم العبد كيفيته، ولا يحيط علما بحقيقته؛ ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه {{صل}}: «اللهم إني أْعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، وثبت في صحيح مسلم وغيره: أنه كان يقول هذا في سجوده. وقد روى [[الترمذي]] وغيره: أنه كان يقوله في قنوت الوتر، وإن كان في هذا الحديث نظر، فالأول صحيح ثابت.
 
==فصل عن الجوهر==
 
وأما سؤال السائل: هل هو جوهر أو عرض؟ فلفظ الجوهر فيه إجمال، ومعلوم أنه لم يرد بالسؤال الجوهر في اللغة، مع أنه قد قيل: إن لفظ الجوهر ليس من لغة العرب وأنه معرب، وإنما أراد السائل الجوهر في الاصطلاح من تقسيم الموجودات إلى جوهر وعرض.
 
وهؤلاء منهم من يريد بالجوهر المتحيز، فيكون الجسم المتحيز عندهم جوهرًا، وقد يريدون به الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ.
 
والعقلاء متنازعون في إثبات هذا، وهو أن الأجسام هل هي مركبة من الجواهر المفردة؟ أم من المادة والصورة؟ أم ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا؟ على ثلاثة أقوال:
 
أصحها: الثالث، أنها ليست مركبة لا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، وهذا قول كثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية، وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وغيرهم، بل هو قول أكثر العقلاء كما قد بسط في موضعه.
 
والقائلون بأن لفظ الجوهر يقال على المتحيز متنازعون: هل يمكن وجود جوهر ليس بمتحيز؟ ثم هؤلاء منهم من يقول: كل موجود، فإما جوهر وإما عرض، ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجوهر، ومن هؤلاء من يقول: كل موجود، فإما جسم أو عرض، ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجسم، وقد قال بهذا وبهذا طائفة من نظار المسلمين وغيرهم، ومن المتفلسفة والنصارى من يسميه جوهرًا ولا يسميه جسمًا، وحكى عن بعض نظار المسلمين أنه يسميه جسمًا ولا يسميه جوهرًا، إلا أن الجسم عنده هو المشار إليه أو القائم بنفسه، والجوهر عنده هو الجوهر الفرد.
 
ولفظ العرض في اللغة له معنى، وهو ما يعرض ويزول كما قال تعالى: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى } <ref>[الأعراف: 169]</ref> وعند أهل الاصطلاح الكلامي، قد يراد بالعرض ما يقوم بغيره مطلقًا، وقد يراد به ما يقوم بالجسم من الصفات، ويراد به في غير هذا الاصطلاح أمور أخرى.
 
ومعلوم أن مذهب السلف والأئمة وعامة أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله، وأن له علمًا وقدرة وحياة وكلامًا، ويسمون هذه الصفات، ثم منهم من يقول: هي صفات وليست أعراضًا؛ لأن العرض لا يبقى زمانين وهذه باقية، ومنهم من يقول: بل تسمى أعراضًا؛ لأن العرض قد يبقى، وقول من قال: إن كل عرض لا يبقى زمانين قول ضعيف، وإذا كانت الصفات الباقية تسمى أعراضًا جاز أن تسمى هذه أعراضًا. ومنهم من يقول: أنا لا أطلق ذلك، بناء على أن الإطلاق مستنده الشرع.
 
والناس متنازعون: هل يسمى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع، وإن لم يرد بإطلاقه نص ولا إجماع، أم لا يطلق إلا ما أطلق نص أو إجماع؟ على قولين مشهورين.
 
وعامة النظار يطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع كلفظ القديم والذات ونحو ذلك، ومن الناس من يفصل بين الأسماء التي يدعى بها، وبين ما يخبر به عنه للحاجة، فهو سبحانه إنما يدعى بالأسماء الحسنى كما قال: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } <ref>[الأعراف: 180]</ref>.
 
وأما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك، فقيل في تحقيق الإثبات بل هو سبحانه قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: ليس بشيء، فقيل: بل هو شيء فهذا سائغ، وإن كان لا يدعي بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدل على المدح كقول القائل: يا شيء، إذ كان هذا لفظًا يعم كل موجود، وكذلك لفظ: ذات وموجود ونحو ذلك، إلا إذا سمى بالموجود الذي يجده من طلبه كقوله: { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ } <ref>[النور: 39]</ref>، فهذا أخص من الموجود الذي يعم الخالق والمخلوق.
 
إذا تبين هذا، فالنفس وهي الروح المدبرة لبدن الإنسان هي من باب ما يقوم بنفسه التي تسمى جوهرًا وعينًا قائمة بنفسها، ليست من باب الأعراض التي هي صفات قائمة بغيرها.
 
وأما التعبير عنها بلفظ الجوهر والجسم، ففيه نزاع، بعضه اصطلاحي وبعضه معنوي. فمن عنى بالجوهر القائم بنفسه فهي جوهر، ومن عني بالجسم ما يشار إليه وقال: إنه يشار إليها فهي عنده جسم، ومن عنى بالجسم المركب من الجواهر المفردة أو المادة والصورة فبعض هؤلاء قال: إنها جسم أيضا، ومن عنى بالجوهر المتحيز القابل للقسمة فمنهم من يقول: إنها جوهر، والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها فإنه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسل منه، كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليها الشواهد العقلية.
 
_فصل مسكن النفس من الجسد_
 
وأما قول القائل، أين مسكنها من الجسد؟ فلا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسرى الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة.
 
_فصل مسكن العقل من الجسد_
 
وأما قوله: أين مسكن العقل فيه؟ فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } <ref>[الحج: 46]</ref>. وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول.
 
لكن لفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي {{صل}}: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد»، وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سمى القليب قليبًا ؛ لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا، فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضا؛ ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ.
 
والتحقيق: أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب.
 
والعقل يراد به العلم، ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلابد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء، وكلا القولين له وجه صحيح، وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق، والله أعلم.
 
==سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل==
 
سئل الشيخ رحمه الله:
 
أيما أفضل: العلم، أو العقل؟
 
فأجاب:
 
إن أريد بالعلم علم الله تعالى الذي أنزله الله تعالى، وهو الكتاب، كما قال تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ } <ref>[آل عمران: 61]</ref>، فهذا أفضل من عقل الإنسان؛ لأن هذا صفة الخالق والعقل صفة المخلوق، وصفة الخالق أفضل من صفة المخلوق.
 
وإن أريد بالعقل أن يعقل العبد أمره ونهيه، فيفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه، فهذا العقل يدخل صاحبه به الجنة، وهو أفضل من العلم، الذي لا يدخل صاحبه به الجنة، كمن يعلم ولا يعمل.
 
وإن أريد العقل الغريزة التي جعلها الله في العبد التي ينال بها العلم والعمل، فالذي يحصل به أفضل ؛ لأن العلم هو المقصود به، وغريزة العقل وسيلة إليه، والمقاصد أفضل من وسائلها.
 
وإن أريد بالعقل العلوم التي تحصل بالغريزة، فهذه من العلم فلا يقال: أيما أفضل: العلم أوالعقل، ولكن يقال: أيما أفضل هذا العلم أو هذا العلم، فالعلوم بعضها أفضل من بعض، فالعلم بالله أفضل من العلم بخلقه؛ ولهذا كانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن؛ لأنها صفة الله تعالى. وكانت { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن؛ لأن القرآن ثلاثة أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي، وثلث التوحيد أفضل من غيره.
 
والجواب في هذه المسألة مسألة العلم والعقل لابد فيه من التفصيل؛ لأن كل واحد من الاسمين يحتمل معان كثيرة، فلا يجوز إطلاق الجواب بلا تفصيل؛ ولهذا أكثر النزاع فيها لمن لم يفصل، ومن فصل الجواب فقد أصاب، والله أعلم.
 
==فصل في حكمة خلق القلب==
 
وقال شيخ الإسلام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبوالعباس أحمد بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه:
 
ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال، فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة.
 
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خلق له وأعد لأجله، فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السموات والأرض، وكان ذلك خيرًا وصلاحًا لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استعمل فيه، وذلك الإنسان الصالح هو الذي استقام حاله، و { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[ البقرة: 5 ]</ref>.
 
وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالًا فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا، ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب، كما سمى قلبًا، قال النبي {{صل}}: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، وقال {{صل}}: «الإسلام علانية والإيمان في القلب» ثم أشار بيده إلى صدره وقال: «ألا إن التقوى ها هنا إلا إن التقوى ها هنا».
 
وإذ قد خلق القلب لأن يعلم به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر، كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، وانصراف الطرف إلى الأشياء طلبًا لرؤيتها هو النظر، فالفكر للقلب، كالإصغاء للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه، وكم من ناظر مفكر لم يحصل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه.
 
وعكسه من يؤتي علمًا بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقة تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه، أو سمع قولًا من غير أن يصغى إليه، وذلك كله لا لأن القلب بنفسه يقبل العلم، وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلا من الإنسان فيكون مطلوبًا، وقد يأتي فضلا من الله فيكون موهوبًا.
 
فصلاح القلب وحقه، والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء، لا أقول أن يعلمها فقط، فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلًا له، بل غافلًا عنه ملغيًا له، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنيًا فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتى الحكمة، { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } <ref>[البقرة: 269]</ref>، وقال أبو الدرداء: إن من الناس من يؤتي علمًا ولا يؤتي حكمًا، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علمًا وحكمًا.
 
وهذا، مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك.
 
ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم ويدرك، أعنى العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر الحيوانات دون ما يشاركها فيه، من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب ويكره وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه إلى غير ذلك، قال الله تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } <ref>[النحل: 78]</ref>، وقال: { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } <ref>[السجدة: 9]</ref>، وقال: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } <ref>[الإسراء: 36]</ref>، وقال: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } <ref>[الأحقاف: 26]</ref>، وقال: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } <ref>[البقرة: 7]</ref>.
 
وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا } <ref>[الأعراف: 179]</ref>.
 
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء وهو أنها إنما يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية، والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان، فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذ كان العلم هو غذاءه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حجبة له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه، حتى إن من فقد شيئًا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه.
 
فالأصم لا يعلم ما في الكلام من العلم، والضرير لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة، وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب، أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب، فإنه لا يعقل شيئًا فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } <ref>[الحج: 46]</ref>، حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق، فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة، وحكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها، ومثله قوله: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } <ref>[الفرقان: 44]</ref>، وتتبين حقيقة الأمر في قوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } <ref>[ق: 37]</ref>.
 
فإن من يؤتي الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين، إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله فاتبعه ولم يحتج إلى من يدعوه إليه، فذلك صاحب القلب؛ أو رجل لم يعقله بنفسه بل هو محتاج إلى من يعلمه ويبينه له ويعظه ويؤدبه، فهذا أصغى ف { أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } أي: حاضر القلب ليس بغائبه، كما قال مجاهد: أوتي العلم وكان له ذكرى.
 
ويتبين قوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } <ref>[يونس: 42، 43]</ref> وقوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } <ref>[الأنعام: 25]</ref>.
 
ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق، فإن الله هو الحق المبين، { فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } <ref>[يونس: 32]</ref>، إذ كان كل ما يقع عليه لمحة ناظر أو يجول في لفتة خاطر، فالله ربه ومنشئه، وفاطره ومبدئه، لا يحيط علما إلا بما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه، وأصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
 
ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
 
أي: ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه إلا وجدته إلى العدم، وما هو فقير إلى الحي القيوم، فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى رأيته حينئذ موجودًا مكسوًا حلل الفضل والإحسان، فقد استبان أن القلب إنما خلق لذكر الله سبحانه ؛ ولذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام أظنه سليمان الخواص رحمه الله قال: الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا، أو كما قال.
 
فإذا كان القلب مشغولًا بالله، عاقلا للحق، متفكرًا في العلم، فقد وضع في موضعه، كما أن العين إذا صرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها، أما إذا لم يصرف إلى العلم ولم يوع فيه الحق فقد نسي ربه، فلم يوضع في موضع بل هو ضائع، ولا يحتاج أن نقول: قد وضع في موضع غير موضعه، بل لم يوضع أصلا ؛ فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل، فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلا، وما ليس بشيء أحرى ألا يكون موضعًا.
 
والقلب هو نفسه لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خلق له، { ِسُنَّةِ اللَّهِ } { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } <ref>[الأحزاب: 62]</ref> وهو مع ذلك ليس بمتروك مخلي، فإنه لايزال في أودية الأفكار وأقطار الأماني لا يكون على الحال التي تكون عليها العين والأذن من الفراغ والتخلي، فقد وضع في غير موضع لا مطلق ولا معلق، موضوع لا موضع له، وهذا من العجب فسبحان ربنا العزيز الحكيم، وإنما تنكشف للإنسان هذه الحال عند رجوعه إلى الحق، إما في الدنيا عند الإنابة، أو عند المنقلب إلى الآخرة، فيرى سوء الحال التي كان عليها، وكيف كان قلبه ضالا عن الحق، هذا إذا صرف في الباطل.
 
فأما لو ترك وحاله التي فطر عليها فارغًا عن كل ذكر، خاليًا عن كل فكر، فقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه، ويرى الحق الذي لا ريب فيه، فيؤمن بربه وينيب إليه، فإن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، لا يحس فيها من جدع { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } <ref>[الروم: 30]</ref>، وإنما يحول بينه وبين الحق في غالب الحال شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس، فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها أن ترى مع ذلك الهلال، أو هو يميل إليه فيصده عن اتباع الحق، فيكون كالعين التي فيها قذى لا يمكنها رؤية الأشياء.
 
ثم الهوى قد يعترض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق كما قيل: «حبك الشيء يعمي ويصم»، فيبقى في ظلمه الأفكار، وكثيرًا ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب بالحق، { فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } <ref>[النحل: 22]</ref>.
 
وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه، كما قال ربنا سبحانه فيهم: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } <ref>[الأعراف: 146]</ref>.
 
ثم القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، كما قال تعالى: { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الآية <ref>[الرعد: 17]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»، وفي حديث كميل بن زياد عن علي - رضي الله عنه- قال: القلوب أوعية فخيرها أوعاها. وبلغنا عن بعض السلف قال: القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها، وهذا مثل حسن، فإن القلب إذا كان رقيقًا لينًا كان قبوله للعلم سهلا يسيرًا، ورسخ العلم فيه وثبت وأثر، وإن كان قاسيًا غليظًا كان قبوله للعلم صعبًا عسيرًا.
 
ولابد مع ذلك أن يكون زكيا صافيًا سليما، حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا، وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب من أن ينبت منعه من أن يزكو ويطيب، وهذا بين لأولي الأبصار.
 
وتلخيص هذه الجملة: أنه إذا استعمل في الحق فله وجهان:
 
وجه مقبل على الحق، ومن هذا الوجه يقال له: وعاء وإناء ؛ لأن ذلك يستوجب ما يوعي فيه ويوضع فيه، وهذه الصفة صفة وجود وثبوت.
 
ووجه معرض عن الباطل، ومن هذا الوجه يقال له: زكي وسليم وطاهر؛ لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر وانتفاء الخبث والدغل، وهذه الصفة صفة عدم ونفي.
 
وبهذا يتبين أنه إذا صرف إلى الباطل فله وجهان كذلك:
 
وجه الوجود: أنه منصرف إلى الباطل مشغول به.
 
ووجه العدم: أنه معرض عن الحق غير قابل له، وهذا يبين من البيان والحسن والصدق ما في قوله:
 
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ** بغير إناء فهو قلب مضيع
 
فإنه لما أراد أن يبين حال من ضيع قلبه، فظلم نفسه بأن اشتغل بالباطل وملأ به قلبه حتى لم يبق فيه متسع للحق، ولا سبيل له إلى الولوج فيه ذكر ذلك منه، فوصف حال هذا القلب بوجهيه، ونعته بمذهبيه، فذكر أولا وصف الوجود منه فقال:
 
إذا ما وضعت القلب في غير موضع.
 
يقول: إذا شغلته بما لم يخلق له فصرفته إلى الباطل حتى صار موضوعا فيه، ثم الباطل على منزلتين:
 
إحداهما: تشغل عن الحق ولا تعانده مثل الأفكار والهموم التي في علائق الدنيا وشهوات النفس.
 
والثانية: تعاند الحق وتصد عنه، مثل الآراء الباطلة، والأهواء المردية من الكفر والنفاق والبدع وشبه ذلك، بل القلب لم يخلق إلا لذكر الله، فما سوى ذلك فليس موضعًا له.
 
ثم ذكر ثانيًا وصف العدم فيه، فقال: بغير إناء، ثم يقول: إذا وضعته بغير إناء ضيعته، ولا أنا معك، كما تقول: حضرت المجلس بلا محبرة. فالكلمة حال من الواضع، لا من الموضوع، والله أعلم.
 
وبيان هذه الجملة والله أعلم أنه يقول: إذا ما وضعت قلبك في غير موضع فقد شغل بالباطل، ولم يكن معك إناء يوضع فيه الحق، وينزل إليه الذكر والعلم الذي هو حق القلب، فقلبك إذًا مضيع ضيعته من وجهي التضييع، وإن كانا متحدين من جهة أنك وضعته في غير موضع، ومن جهة أنه لا إناء معك يكون وعاء للحق الذي يجب أن يعطاه، كما لو قيل لملك قد أقبل على اللهو: إذا اشتغلت بغير المملكة وليس في المملكة من يدبرها فهو ملك ضائع، لكن الإناء هنا هو القلب بعينه، وإنما كان ذلك كذلك؛لأن القلب لا ينوب عنه غيره فيما يجب أن يوضع فيه { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } <ref>[الإسراء: 15]</ref>.
 
وإنما خرج الكلام في صورة اثنين بذكر نعتين لشيء واحد، كما جاء نحوه في قوله تعالى: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } <ref>[آل عمران: 3، 4]</ref> قال قتادة والربيع: هو القرآن: فرق فيه بين الحلال والحرام، والحق والباطل، وهذا لأن الشيء الواحد إذا كان له وصفان كبيران فهو مع وصف واحد كالشيء الواحد، ومع الوصفين بمنزلة الاثنين، حتى لو كثرت صفاته لتنزل منزلة أشخاص، ألا ترى أن الرجل الذي يحسن الحساب والطب يكون بمنزلة حاسب وطبيب والرجل الذي يحسن التجارة والبناء يكون بمنزلة نجار وبناء.
 
والقلب لما كان يقبل الذكر والعلم، فهو بمنزلة الإناء الذي يوضع فيه الماء وإنما ذكر في هذا البيت الإناء من بين سائر أسماء القلب؛ لأنه هو الذي يكون رقيقًا وصافيا، وهو الذي يأتي به المستطعم المستعطى في منزلة البائس الفقير. ولما كان ينصرف عن الباطل فهو زكي وسليم، فكأنه اثنان.
 
وليتبين في الصوة أن الإناء غير القلب، فهو يقول:
 
إذا وضعت قلبك في غير موضع.
 
وهو الذي يوضع فيه الذكر والعلم، ولم يكن معك إناء يوضع فيه المطلوب فمثلك مثل رجل بلغه أن غنيا يفرق على الناس طعامًا وكان له زبدية أو سكرجة فتركها، ثم أقبل يطلب طعامًا، فقيل له: هات إناء نعطيك طعامًا، فأما إذا أتيت وقد وضعت زبديتك مثلا في البيت وليس معك إناء نعطيك فلا نأخذ شيئًا فرجعت بخفي حنين.
 
وإذا تأمل من له بصيرة بأساليب البيان وتصاريف اللسان وجد موقع هذا الكلام من العربية والحكمة كليهما موقعًا حسنًا بليغًا؛ فإن نقيض هذه الحال المذكورة أن يكون القلب مقبلا على الحق والعلم والذكر معرضا عن غير ذلك. وتلك هي الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام فإن الحنف هو إقبال القدم وميلها إلى أختها، فالحنف الميل عن الشيء بالإقبال على آخر، فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده والإعراض عما سواه، وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق، والكلمة الطيبة: لا إله إلا الله. اللهم ثبتنا عليها في الدنيا والآخرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
وهذا آخر ما حضر في هذا الوقت. والله أعلم. وصلى الله على محمد.
 
{{هامش}}