الفرق بين المراجعتين لصفحة: «كتاب الرسالة»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سطر 221:
==باب البيان الخامس==
 
قال الله تبارك وتعالى: { ومن حيث خرجتَ فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } <ref>[البقرة:150]</ref>
 
ففرض عليهم حيث ما كانوا أن يُوَلُّوا وجوههم شطره، وشطرُهُ جِهَتُهُ في كلام العرب. إذا قلتَ أقصد شطر كذا، معروف أنك تقول: أقصد قصدَ عَينِ كذا، يعني قصدَ نفسِ كذا، وكذلك ((تلقاءه)) جهتَهُ، أي أستقبل تلقاءه، وجهته، وإنَّ كلَّها معنىً واحدٌ، وإن كانت بألفاظ مختلفة.
سطر 245:
وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء قَصْدُ عين الشيء: إذا كان معاينا فبالصواب، وإذا كان مُغَيَّبَا فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه.
 
وقال الله: { جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } <ref>[الأنعام:97]</ref>
 
{ وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون } <ref>[النحل:16]</ref>
 
فَخَلَقَ لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركَّبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان، ونعمة منه جل ثناؤه.
 
{ وأشهدوا ذَوَي عدل منكم } <ref>[الطلاق:2]</ref> وقال: { ممن ترضون من الشهداء } <ref>[البقرة:282]</ref>
 
أبان أن العدلَ العاملُ بطاعته، فمن رأوه عاملا بها كان عدلا، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل.
 
وقال جل ثناؤه: { لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ، ومن قتله منكم متعمدا، فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النَّعَم، يحكمُ به ذوا عدل منكم هديا بالغَ الكعبة } <ref>[المائدة:95]</ref>
 
فكان المِثل - على الظاهر - أقربَ الأشياء شَبَهَا في العِظَمِ من البدن. واتفقت مذاهب مَن تكلم في الصيد من أصحاب رسول الله على أقرب الأشياء شبها من البدن. فنظرنا ما قُتِلَ من دوابِّ الصيد: أيُّ شيء كان من النَّعَم أقربَ منه شَبَهَا فديناه به.
سطر 321:
فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلِطُه فيه غيره؟
 
فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } <ref>[إبراهيم:4]</ref>
 
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمدا بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟
سطر 331:
وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه:
 
قال الله: { وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } <ref>[الشعراء 192، 193]</ref>
 
وقال: { وكذلك أنزلناه حكما عربيا } <ref>[الرعد: 37]</ref>
 
وقال: { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى، ومَن حولها } <ref>[الشورى: 7]</ref>
 
وقال: { حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } <ref>[الزخرف:1، 3]</ref>
 
وقال: { قرآنا عربيا غيرَ ذي عِوَجٍ لعلهم يتقون } <ref>[الزمر:28]</ref>
 
قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه.
 
فقال تبارك وتعالى: { ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين } <ref>[النحل: 103]</ref>
 
وقال: { ولو جعلناه أعجميا لقالوا: لولا فُصِّلت آياته، أعجمي وعربي؟! } <ref>[فصلت: 44]</ref>
 
قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه، فقال: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤفٌ رحيم } <ref>[التوبة:128]</ref>
 
وقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } <ref>[الجمعة:2]</ref>
 
وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } <ref>[الزخرف:44]</ref> فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه.
 
وقال: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } <ref>[الشعراء: 214]</ref>
 
وقال: { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } <ref>[الشورى:7]</ref>
 
وأمُّ القرى: مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذَرين عامة، وقضى أن يُنْذِروا بلسانهم العربي، لسانِ قومه منهم خاصة.
سطر 367:
فكان تَنْبيه العامة على أن القُرَآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحةً للمسلمين. والنصيحة لهم فرضٌ، لا ينبغي تركه، وإدْراكُ نافلة خيْرٍ لا يَدَعُها إلاَّ مَن سفِهَ نفسَه، وترَك موضع حظِّه. وكان يَجْمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حقٍّ. وكان القيام بالحق، ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله. وطاعةُ الله جامعة للخَير.
 
أخبرنا "سُفيان" عن "زِياد بن عِلاَقة"، قال: سمعتُ "جَرير بن عبد الله" يقول: (بَايَعْتُ النَّبِيَّ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) <ref>[البخاري: كتاب الإيمان/55]</ref> <ref>[مسلم: كتاب الإيمان/84.]</ref> .
 
أخبرنا "ابن عيينة" عن "سُهَيْل ابن أببي صالح"، عن "عطاء بن يزيد" عن "تَمِيم الدَّارِي"، أنَّ النَّبيَّ قال: (إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)
<ref>[مسلم: كتاب الإيمان/82؛ النسائي: كتاب البيع/4138؛ أبوداود: كتاب الأدب/4293؛ الترمذي: كتاب البر والصلة/1849.]</ref>
 
قال "الشافعي": فإنما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا، ظاهِرًا، يُراد به العام، الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعاما ظاهرا يراد به العام، ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعاما ظاهرا، يُراد به الخاص. وظاهرا يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه.
سطر 380:
وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة.
 
وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: مَعْرِفةً <ref>[أي معروفة.]</ref> واضحة عندها، ومستَنكَرا عند غيرها، ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ، وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه.
 
ومن تكَلَّفَ ما جهِل، وما لم تُثْبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيث لا يعرفه - غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم؛ وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه.