الفرق بين المراجعتين لصفحة: «كتاب الرسالة»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
مراجعة 15:41، 16 مارس 2009 بواسطة Adam nohe
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
سطر 29:
ثم قال: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون }.
 
وقال تبارك وتعالى: { وقالت اليهود: عُزَيرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله. ذلك قولهم بأفواههم. يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيحَ ابن مريم. وما أُمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون } <ref>[التوبة: 30، 31. ]</ref>
 
وقال تبارك وتعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لَعَنَهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } <ref>[النساء:50،52 50، 52]</ref>
 
وصنف كفروا بالله، فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وَخُشُبَا، وَصُوَرَا استحسنوا، ونبزوا أسماء افتعلوا، ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها، ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره، فعبدوه: فأولئك العرب.
سطر 39:
فذكر الله لنبيه جوابا من جواب بعض مَن عبد غيره من هذا الصنف، فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون.
 
وحكى تبارك وتعالى عنهم: { لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا، ولا يغوث ويعوق ونسرا، وقد أضلوا كثيرًا } <ref>[نوح: 23، 24]</ref>
 
وقال تبارك وتعالى: { واذكر في الكتاب إبراهيم. إنه كان صدّيقا نبيا إذ قال لأبيه: يا أبت! لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا؟! } <ref>[مريم: 41، 42]</ref>
 
وقال: { واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال: هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم، أو يضرون؟! } <ref>[الشعراء: 69، 70]</ref>
سطر 59:
فكان خِيرتُهُ المصطفى لوحيه، المنتخبُ لرسالته المفضلُ على جميع خلقه، بفتحِ رحمته، وختمِ نبوته، وأعمِّ ما أرسل به مرسلٌ قبله المرفوعُ ذِكرُهُ مع ذِكرِه في الأولى، والشافعُ المشفَّعُ في الأخرى، أفضلُ خلقه نفسا، وأجمعُهُم لكل خُلُق رَضِيَهُ في دينٍ ودنيا. وخيرُهم نسبا ودارا محمدا عبدَه ورسولَه.
 
وَعَرَّفَنَا وَخَلقَهُ <ref>[أي عرفنا مع خلقه، والعطف على الضمير المتصل المنصوب من غير توكيد أو فصل جائز. ]</ref> نِعَمَهُ الخاصةَ، العامةَ النَّفعِ في الدين والدنيا.
 
فقال: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم } <ref>[التوبة: 128]</ref>
 
وقال: { لتنذر أم القرى ومَن حولها } <ref>[الشورى: 7]</ref> وأمُّ القرى: مكة، وفيها قومُه.
 
وقال: { وأنذر عشيرتك الأقربين } <ref>[الشعراء: 214]</ref>
سطر 75:
فخص جل ثناؤه قومَه وعشيرَتَه الأقربين في النِّذَارة، وعمَّ الخلقَ بها بعدهم، ورفع بالقُرَآن ذِكر رسول الله، ثم خص قومه بالنِّذارة إذ بعثه فقال: { وأنذر عشيرتك الأقربين }
 
وزعم بعض أهل العلم بالقُرَآن <ref>[ قال الشيخ أحمد شاكر: ضبطناه هنا وفي كل موضع ورد فيه في الرسالة بضم القاف وفتح الراء محققة وتسهيل الهمزة. وذلك اتباعا للإمام الشافعي في رأيه وقراءته. ا. ه وانظر تاريخ بغداد 2/62]</ref> أن رسول الله قال: يا بني عبد مناف! إن الله بعثني أَن أُنذرَ عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي الأقربون. <ref>[ ورد بمعناه في البخاري ومسلم وانظر الدر المنثور 5/95 - 98]</ref> قال الشافعي: أخبرنا بن عيينة عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: { ورفعنا لك ذكرك } قال: لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدأ رسول الله.
 
يعني - والله أعلم - ذكرَه عند الإيمان بالله، والآذان. ويَحتمل ذكرَه عند تلاوة الكتاب، وعند العمل بالطاعة، والوقوف عن المعصية.
سطر 85:
وأَعلَمَهُم ما أَوجب لأهل طاعته.
 
وَوَعَظَهُم بالأخبار عمن كان قبلهم، ممن كان أكثرَ منهم أموالا وأولادا، وأطولَ أعمارا، وأحمدَ آثارا، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آماله، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان، ويتفهموا بِجَلِيَّة التبيان، ويتنبهوا قبل رَين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة حين لا يُعتِب مذنب، ولا تؤخذ فدية، و { تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } <ref>[آل عمران: 30]</ref>
 
فكل ما أَنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة وحجة، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه.
سطر 99:
قال الشافعي: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها.
 
قال الله تبارك وتعالى: { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } <ref>[إبراهيم: 1]</ref>
 
وقال: { وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون } <ref>[النحل: 44]</ref>
سطر 105:
وقال: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين } <ref>[النحل: 89]</ref>
 
وقال: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنتَ تدري ما الكتابُ، ولا الإيمانُ، ولكن جعلناه نورا نَهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } <ref>[الشورى: 52]</ref>
 
==باب كيف البيان==
سطر 115:
قال الشافعي: فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تَعَبَّدَهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه: من وجوه.
 
فمنها ما أبانه لخلقه نصا. مثلُ جمُل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجا وصوما وأنه حرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ونصِّ الزنا <ref>[أي ومثل النص الوارد في الزنا والخمر. ]</ref> والخمر، وأكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فَرْضُ الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصا.
 
ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه؟ مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.
سطر 123:
ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.
 
فإنه يقول تبارك وتعالى: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلوَ أخباركم } <ref>[محمد: 31]</ref>
 
وقال: { وليَبْتَلِيَ الله ما في صدوركم وليمحِّص ما في قلوبكم } <ref>[آل عمران: 154]</ref>
 
وقال: { عسى ربكم أن يهلكَ عدوكم، ويستخلفَكم في الأرض فينظرَ كيف تعملون؟ } <ref>[الأعراف: 129]</ref>
 
قال الشافعي: فوجَّههم بالقبلة إلى المسجد الحرام، وقال لنبيه: { قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلَنُوَلِّيَنَّك قبلة ترضاها، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } <ref>[البقرة: 144]</ref>
 
وقال: { ومن خرجت فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، لئلا يكونَ للناس عليكم حجةٌ } <ref>[البقرة: 150]</ref>
 
فَدَلهَّم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرَض عليهم منه، بالعقول التي رَكَّب فيهم، المميزةِ بين الأشياء، وأضدادها، والعلامات التي نَصَب لهم دون عين المسجد الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره.
 
فقال: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } <ref>[الأنعام: 97]</ref> وقال: { وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون } <ref>[النحل: 16]</ref>
 
فكانت العلامات جبالا وليلا ونهارا، فيها أرواح <ref>[ الأرواح: جمع ريح. انظر الصحاح. ]</ref> معروفة الأسماء، وإن كانت مختلفة المَهابِّ. وشمسٌ وقمر، ونجوم معروفةُ المطالع والمغارب، والمواضعِ من الفلك.
 
ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصَفْتُ، فكانوا ما كانوا مجتهدين غيرَ مُزايِلين أمرَه جلَّ ثناؤه. ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يُصلُّوا حيث شاؤوا
 
وكذلك أخبرهم عن قضائه فقال: { أيحسب الإنسان أن يُترَك سُدى } <ref>[القيامة: 36]</ref> والسُّدى: الذي لا يُؤمر ولا يُنهى.
 
وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا، وفي العَدل، وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيءٌ يُحدِثه لا على مثالٍ سبق
سطر 151:
==باب البيان الأول==
 
قال الله تبارك وتعالى في المتمتع: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. تلك عشَرَة كاملة. ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجدِ الحرام } <ref>[البقرة: 196]</ref>
 
فكان بيِّنا عند مَن خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج، والسبع في المَرجِع عشرةُ أيام كاملة.
سطر 157:
قال الله: { تلك عشرة كاملة } فاحتملت أن تكون زيادةً في التبيين، واحتملت أن يكون أعلَمَهُم أن ثلاثة إذا جُمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة.
 
وقال الله: { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة، وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة } <ref>[الأعراف: 142]</ref>
 
فكان بيِّنا عند من خوطب بهذه الآية أن ثلاثين، وعشرا أربعون ليلة.
سطر 163:
وقوله: { أربعين ليلة } يحتمل ما احتملت الآية قبلها: من أن تكون: إذا جُمعت ثلاثون إلى عشر كانت أربعين، وأن تكون زيادة في التبيين.
 
وقال الله: { كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياما معدودات، فمن كان منكم مريضا، أو على سفر فعدة من أيام أُخَرَ } <ref>[البقرة: 183، 184]</ref>
 
وقال: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القُرَآن هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر، فعِدَّة من أيام أخر } <ref>[البقرة: 185]</ref>
 
فافترض عليهم الصومَ، ثم بيَّن أنه شهر، والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين، وتسعا وعشرين.
سطر 175:
==باب البيان الثاني==
 
قال الله تبارك وتعالى: { إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين، وإن كنتم جُنُبَا فاطَّهروا } <ref>[المائدة 6]</ref>
 
وقال: { ولا جُنُبَا إلا عابري سبيلٍ } <ref>[النساء: 43]</ref>
 
فأتى كتاب الله على البيان في الوضوء دون الاستنجاء بالحجارة، وفي الغسل من الجنابة.
سطر 185:
ودلت السنة على أنه يجزئ في الاستنجاء ثلاثة أحجار، ودل النبي على ما يكون منه الوضوء، وما يكون منه الغسل، ودل على أن الكعبين والمرفقين مما يغسل؛ لأن الآية تحتمل أن يكونا حدين للغسل، وأن يكونا داخلين في الغسل. ولما قال رسول الله (ويل للأعقاب من النار) دلَّ على أنه غسل لا مسح.
 
قال الله: { ولأبويه لكل واحد منهما السُدُسُ مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولدٌ وَوَرِثَه أبواه، فلأمه الثلث، فإن كان له أخوة فلأمه السدس } <ref>[النساء 11]</ref>
 
وقال: { ولكم نصفُ ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنَّ ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربُع مما تركن من بعد وصية يُوصين بها أو دين، ولهن الربُع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمُن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دَين، وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأةٌ، وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدُسُ، فإن كانوا أكثرَ من ذلك، فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غيرَ مضارٍّ وصيةً من الله، والله عليم حليم } <ref>[النساء: 12]</ref>
 
فاستُغنِي بالتنزيل في هذا عن خبرٍ غيرِه، ثم كان لله فيه شرطٌ أن يكون بعد الوصية والدَّين، فدل الخبر على أن لا يُجَاوَزَ بالوصية الثلثُ.
سطر 193:
==باب البيان الثالث==
 
قال الله تبارك وتعالى: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } <ref>[النساء: 103]</ref>
 
وقال: { وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة } <ref>[البقرة: 43]</ref>
 
وقال: { وأتموا الحج والعمرة لله } <ref>[البقرة: 196]</ref>
 
ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات، ومواقيتَها وسننها، وعددَ الزكاة ومواقيتَها، وكيف عملُ الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبُتُ، وتختلف سننه وتَاتَفِقُ <ref>[ ايتفق ياتفق فهو موتفق. في لغة أهل الحجاز.] ]</ref>، ولهذا أشباهٌ كثيرة في القُرَآن والسنة.
 
==باب البيان الرابع==
سطر 217:
فكل من قَبِلَ عن الله فرائضه في كتابه: قَبِلَ عن رسول الله {{صل}} سننه بفرْض الله طاعةَ رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قَبِلَ عن رسول الله، فمن الله قَبِلَ لِمَا افترض الله من طاعته.
 
فيجمع القبول لما في كتاب الله، ولسنة رسول الله {{صل}}: القبولَ لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قُبِل بها عنهما، كما أحل وحرم، وفرض وحدَّ بأسباب متفرقة، كما شاء جل ثناؤه، { لا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون } <ref>[الأنبياء: 23]</ref>
 
==باب البيان الخامس==
 
قال الله تبارك وتعالى: { ومن حيث خرجتَ فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } <ref>[البقرة: 150]</ref>
 
ففرض عليهم حيث ما كانوا أن يُوَلُّوا وجوههم شطره، وشطرُهُ جِهَتُهُ في كلام العرب. إذا قلتَ أقصد شطر كذا، معروف أنك تقول: أقصد قصدَ عَينِ كذا، يعني قصدَ نفسِ كذا، وكذلك ((تلقاءه)) جهتَهُ، أي أستقبل تلقاءه، وجهته، وإنَّ كلَّها معنىً واحدٌ، وإن كانت بألفاظ مختلفة.
سطر 245:
وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء قَصْدُ عين الشيء: إذا كان معاينا فبالصواب، وإذا كان مُغَيَّبَا فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه.
 
وقال الله: { جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } <ref>[الأنعام: 97]</ref>
 
{ وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون } <ref>[النحل: 16]</ref>
 
فَخَلَقَ لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركَّبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان، ونعمة منه جل ثناؤه.
 
{ وأشهدوا ذَوَي عدل منكم } <ref>[الطلاق: 2]</ref> وقال: { ممن ترضون من الشهداء } <ref>[البقرة: 282]</ref>
 
أبان أن العدلَ العاملُ بطاعته، فمن رأوه عاملا بها كان عدلا، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل.
 
وقال جل ثناؤه: { لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ، ومن قتله منكم متعمدا، فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النَّعَم، يحكمُ به ذوا عدل منكم هديا بالغَ الكعبة } <ref>[المائدة: 95]</ref>
 
فكان المِثل - على الظاهر - أقربَ الأشياء شَبَهَا في العِظَمِ من البدن. واتفقت مذاهب مَن تكلم في الصيد من أصحاب رسول الله على أقرب الأشياء شبها من البدن. فنظرنا ما قُتِلَ من دوابِّ الصيد: أيُّ شيء كان من النَّعَم أقربَ منه شَبَهَا فديناه به.
سطر 321:
فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلِطُه فيه غيره؟
 
فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } <ref>[إبراهيم: 4]</ref>
 
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمدا بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟
سطر 331:
وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه:
 
قال الله: { وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } <ref>[الشعراء 192، 193]</ref>
 
وقال: { وكذلك أنزلناه حكما عربيا } <ref>[الرعد: 37]</ref>
 
وقال: { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى، ومَن حولها } <ref>[الشورى: 7]</ref>
 
وقال: { حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } <ref>[الزخرف: 1، 3]</ref>
 
وقال: { قرآنا عربيا غيرَ ذي عِوَجٍ لعلهم يتقون } <ref>[الزمر: 28]</ref>
 
قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه.
 
فقال تبارك وتعالى: { ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين } <ref>[النحل: 103]</ref>
 
وقال: { ولو جعلناه أعجميا لقالوا: لولا فُصِّلت آياته، أعجمي وعربي؟! } <ref>[فصلت: 44]</ref>
 
قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه، فقال: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤفٌ رحيم } <ref>[التوبة: 128]</ref>
 
وقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } <ref>[الجمعة: 2]</ref>
 
وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } <ref>[الزخرف: 44]</ref> فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه.
 
وقال: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } <ref>[الشعراء: 214] </ref>
 
وقال: { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } <ref>[الشورى: 7] </ref>
 
وأمُّ القرى: مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذَرين عامة، وقضى أن يُنْذِروا بلسانهم العربي، لسانِ قومه منهم خاصة.
سطر 361:
فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يَشْهَد به أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدا عبده ورسوله {{صل}} ويتلوَ به كتابَ الله، وينطق بالذكر فيما افتُرِض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح، والتشهد، وغيرِ ذلك.
 
وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَنْ خَتَم به نُبوته، وأنْزَلَ به آخر كتبه: كان خيرا له. كما عليه يَتَعَلَّمُ <ref>[حذف ((أن)) في مثل هذا الموضع جائز قياسا والأكثرون على رفع الفعل حينئذ. ]</ref> الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيتَ، وما أُمِر بإتيانه، ويتوجه لِما وُجِّه له. ويكون تبَعا فيما افتُرِض عليه، ونُدب إليه، لا متبوعا.
 
وإنما بدأت بما وصفتُ، من أن القُرَآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد، جهِل سَعَة لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرقَها. ومن علِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلَتْ على من جهِل لسانَها.
سطر 367:
فكان تَنْبيه العامة على أن القُرَآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحةً للمسلمين. والنصيحة لهم فرضٌ، لا ينبغي تركه، وإدْراكُ نافلة خيْرٍ لا يَدَعُها إلاَّ مَن سفِهَ نفسَه، وترَك موضع حظِّه. وكان يَجْمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حقٍّ. وكان القيام بالحق، ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله. وطاعةُ الله جامعة للخَير.
 
أخبرنا "سُفيان" عن "زِياد بن عِلاَقة"، قال: سمعتُ "جَرير بن عبد الله" يقول: (بَايَعْتُ النَّبِيَّ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) <ref>[البخاري: كتاب الإيمان/55]</ref> <ref>[مسلم: كتاب الإيمان/84.] ]</ref>.
 
أخبرنا "ابن عيينة" عن "سُهَيْل ابن أببي صالح"، عن "عطاء بن يزيد" عن "تَمِيم الدَّارِي"، أنَّ النَّبيَّ قال: (إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)
<ref>[مسلم: كتاب الإيمان/82؛ النسائي: كتاب البيع/4138؛ أبوداود: كتاب الأدب/4293؛ الترمذي: كتاب البر والصلة/1849. ]</ref>
 
قال "الشافعي": فإنما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا، ظاهِرًا، يُراد به العام، الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعاما ظاهرا يراد به العام، ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعاما ظاهرا، يُراد به الخاص. وظاهرا يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه.
سطر 380:
وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة.
 
وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: مَعْرِفةً <ref>[أي معروفة. ]</ref> واضحة عندها، ومستَنكَرا عند غيرها، ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ، وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه.
 
ومن تكَلَّفَ ما جهِل، وما لم تُثْبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيث لا يعرفه - غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم؛ وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه.
سطر 388:
ويدخله الخصوص.
 
قال الله تبارك وتعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } <ref>[الزمر: 62] </ref>
 
وقال تبارك وتعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } <ref>[إبراهيم: 32] </ref>
 
وقال: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } <ref>[هود: 6]</ref> فهذا عام، لا خاصَّ فيه.
 
قال "الشافعي": فكل شيء، من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خَلَقَه، وكل دابة فعلى الله رزقُها، ويَعْلم مُستقَرَّها ومُسْتَوْدعها.
 
وقال الله: { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } <ref>[التوبة: 120]</ref>
 
وهذا في معنى الآية قَبْلَهَا، وإنما أُرِيد به مَن أطاق الجهاد من الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي: أطاق الجهاد، أو لم يُطِقْه؛ ففي هذه الآية الخصوص والعموم.
 
وقال: { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } <ref>[النساء: 75]</ref>
 
وهكذا قول الله: { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا } <ref>[الكهف: 77]</ref>
 
وفي هذه الآية دلالةٌ على أنْ لم يستطعما كل أهل قرية، فهي في معناهما.
 
وفيها، وفي: { الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } <ref>[النساء: 75]</ref> خصوص، لأن كل أهل القرية لم يكن ظالما، قد كان فيهم المسلم، ولكنهم كانوا فيها مَكْثُورِين، وكانوا فيها أقل.
 
وفي القُرَآن نظائر لهذا، يُكْتَفَى بها إن شاء الله منها، وفي السنة له نظائر، موضوعةٌ مَوَاضِعَهَا.
سطر 413:
 
 
قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } <ref>[الحجرات: 13]</ref>
 
وقال تبارك وتعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } <ref>[البقرة:183،184 183، 184]</ref>
 
وقال: { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } <ref>[النساء: 103]</ref>
 
قال: فبيَّنَ في كتاب الله، أنَّ في هاتين الآيتين العمومَ والخصوصَ:
 
فأمَّا العموم منهما، ففي قول الله: { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } <ref>[الحجرات: 13] </ref>
 
فكل نفس خوطبت بهذا، في زمان رسول الله {{صل}} وقبله وبعده، مخلوقةٌ من ذكر وأنثى، وكلها شعوب وقبائل.
 
والخاص منها في قول الله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } <ref>[الحجرات: 13] </ref>
 
لأن التقوى تكون على من عَقَلَها، وكان من أهلها من البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدوابّ سِواهم، ودون المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفال الذين لم يبلغوا وعُقِل التقوى منهم.
سطر 431:
فلا يجوز أن يُوصف بالتقوى وخلافها إلا من عَقَلها وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها.
 
والكتاب يدل على ما وصفتُ، وفي السنة دلالة عليها، قال رسول الله: (رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَة: النَّائِمُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، والصَّبِيُ حتى يَبْلُغَ، وَالمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ) <ref>[ الترمذي: كتاب الحدود/1343؛ أبو داود: كتاب الحدود/3822؛ ابن ماجه: كتاب الطلاق/2031؛ مسند أحمد: مسند العشرة/940،956،1183،1327؛940، 956، 1183، 1327؛ الدارمي: كتاب الحدود/2194] </ref>
 
وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة: على البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ، ومن بلغ ممن غُلِبَ على عقله، ودون الحُيَّضِ في أيام حَيْضِهِنَّ.
سطر 437:
==باب: بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص==
 
وقال الله تبارك وتعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } <ref>[آل عمران: 173]</ref>
 
قال الشافعي: فإذْ كان مَن مع رسول الله ناسً <ref>[ هكذا رُسمت في الموضعين بغير ألف وهي منصوبة والرسم بغير ألف جائز وقد ثبت في أصول صحيحة عتيقة من كتب الحديث. <ref>[انظر تعليق شاكر ص 59] </ref>، غيرَ مَن جمَعَ لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً غيرَ مَن جمُع لهم، وغيرَ من معه ممن جمُع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناسا، فالدلالة بيِّنة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناس دون بعض.
 
والعلم يحيط أنْ من لم يَجمع لهم الناسُ كلهم، ولم يُخبرهم الناسُ كلهم، ولم يكونوا هم الناسَ <ref>[ الصواب أن هذا الضمير للفصل لا محل له من الإعراب ويكون ما بعده خبرا]</ref> كلَّهم.
 
ولكنه لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس، وعلى مَن بين جمعهم وثلاثةٍ منهم، كان صحيحا في لسان العرب أن يقال: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ } <ref>[آل عمران: 173] </ref>
 
وإنما الذين قال لهم ذلك أربعةُ نفر { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } <ref>[آل عمران: 173]</ref> يعنون المنصرفين عن أُحُدٍ.
 
وإنما هم جماعة غيرُ كثير من الناس، الجامعون منهم، غيرُ المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غيرُ الجامعين، ولا المجموع لهم ولا المخبرين.
 
وقال: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } <ref>[الحج: 73]</ref>
 
قال: فمَخْرَجُ اللفظ عامٌّ على الناس كلهم. وبيِّنٌ عند أهل العلم بلسان العرب منهم: أنه إنما يُراد بهذا اللفظ العامِّ المخرجِ بعضُ الناس، دون بعض؛ لأنه لا يُخاطَب بهذا إلا من يدعو من دون الله إلَهًا، تعالى عما يقولون عُلُوًّا كبيرا؛ لأن فيهم من المؤمنين المغلوبين على عقولهم، وغير البالغين ممن لا يدعو معه إلها.
سطر 455:
قال: وهذا في معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان، والآية قبلها أوضحُ عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها.
 
قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } <ref>[البقرة: 199] </ref>
 
فالعلم يحيط - إن شاء الله - أن الناس كلهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله {{صل}} ، ورسول الله {{صل}} المخاطبُ بهذا ومَن معه، ولكنَّ صحيحا من كلام العرب أن يقال: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }، يعني بعضَ الناس.
 
وهذه الآية في مثل معنى الآيتين قبلها، وهي عند العرب سواء. والآية الأولى أوضح عند من يجهل لسان العرب من الثانية، والثانيةُ أوضح عندهم من الثالثة، وليس يختلف عند العرب وضوح هذه الآيات معا؛ لأن أقل البيان عندها كاف من أكثره، إنما يريد السامعُ فَهْمَ قول القائل، فأقل ما يفهمه به كافٍ عنده.
 
وقال الله جل ثناؤه: { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } <ref>[البقرة: 24] </ref>
 
فدل كتاب الله على أنه إنما وقودها بعضُ الناس، لقول الله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } <ref>[الأنبياء: 101]</ref>
 
==باب: الصنف الذي يبين سياقه معناه==
 
قال الله تبارك وتعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا، وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ. كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } <ref>[الأعراف: 163]</ref>
 
فابتدأ - جل ثناؤه - ذِكرَ الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: { إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت}
 
دل على أنه إنما أراد أهلَ القرية؛ لأن القرية لا تكون عادِيَةً، ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بَلاَهم بما كانوا يفسقون.
 
وقال: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً، وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ } <ref>[الأنبياء:11،12 11، 12]</ref>
 
وهذه الآية في مثل معنى الآية قبلها، فذَكَر قَصْمَ القرية، فلما ذكر أنها ظالمة بَانَ للسامع أن الظالم إنما هم أهلها، دون منازلها التي لا تَظلم، ولما ذكر القوم المنشَئِين بعدها، وذكر إحساسَهم البأسَ عند القَصْم، أحاط العلمُ أنه إنما أحسَّ البأس من يعرف البأس من الآدميين.
سطر 480:
 
 
قال الله تبارك وتعالى ،وتعالى، وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم: { مَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ،حافِظِينَ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } <ref>[يوسف: 81،8281، 82]</ref>
 
فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها، لا تختلف عند أهل العلم باللسان، أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير، لأن القرية والعير لا يُنْبِئَانِ عن صدقهم.
سطر 486:
==باب: ما نزل عاما دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص==
 
قال الله - جل ثناؤه -: { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } <ref>[النساء: 11]</ref>
 
وقال: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ، وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } <ref>[النساء: 12]</ref>
 
فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات، وكان عامَّ المخرج، فدلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج، دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحدا، ولا يكون الوارث منهما قاتلا ولا مملوكا.
سطر 498:
ولولا دلالة السنة، ثم إجماعُ الناس، لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين، ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدين أو تكون والدين سواء.
 
وقال الله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } <ref>[المائدة: 6]</ref>
 
فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل، كما قصد الوجه واليدين، فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل، أو الرأس من المسح؛ وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما، بعضُ المتوضئين دون بعض .
 
فلما مسح رسول الله على الخفين، وأمر به من أدخل رجليه في الخفين، وهو كامل الطهارة، دلت سنة رسول الله {{صل}} على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض.
 
وقال الله تبارك وتعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } <ref>[المائدة: 38]</ref>
 
وسن رسول الله أن: ( لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ) <ref>[ الترمذي: كتاب الحدود/1369؛ النسائي: كتاب قطع السارق/4874؛ أبو داود: كتاب الحدود/3815؛ مسند احمد: مسند المكثرين/15243؛ مالك: كتاب الحدود/1320؛ الدارمي: كتاب الحدود/ 2202] </ref>.
 
وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار، فصاعدا.
 
وقال الله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } <ref>[النور: 2]</ref>
 
وقال في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } <ref>[النساء: 25]</ref>
 
فدل القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة: الأحرارُ، دون الإماء. فلما رجم رسول الله الثيب من الزناة، ولم يجلده: دلت سنة رسول الله على أن المراد بجلد المائة من الزناة: الحُرَّان البِكْرَان، وعلى أن المراد بالقطع في السرقة: من سرَق من حِرْز، وبلغت سرقته ربع دينار، دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا.
 
وقال الله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } <ref>[الأنفال: 41]</ref>
 
فلما أعطى رسول الله {{صل}} بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى: دلت سنة رسول الله أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهما من الخمس: بنو هاشم وبنو المطلب، دون غيرهم.
سطر 526:
ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئا، وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب، وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم.
 
قال الله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } <ref>[الأنفال: 41]</ref>
 
فلما أعطى رسول الله السلَبَ القاتلَ في الإقبال: دلَّت سنة النبي على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله، غيرُ السلب، إذْ كان السلب مَغْنُوما في الإقبال،دونالإقبال، دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال، وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنة.
 
ولولا الاستدلال بالسنة، وحُكْمُنا بالظاهر قطعنا من لزمه اسمُ سرقة، وضربنا مائةً كلَّ مَنْ زَنَى، حُرا ثيبا، وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي قرابة، ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب، لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام، وَخَمَسْنا السَّلَب، لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة.
سطر 536:
قال: الشافعي: وضع الله رسوله من دينه وفرْضِه وكتابه، الموضعَ الذي أبان - جل ثناؤه - أنه جعله عَلَمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قَرَن من الإيمان برسوله مع الإيمان به.
 
فقال تبارك وتعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا: ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ. إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } <ref>[النساء: 171]</ref>.
 
وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } <ref>[النور: 62]</ref>.
 
فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تَبَع له: الإيمانَ بالله ورسوله.
سطر 546:
وهكذا سَنَّ رسولُ الله في كل من امتحنه للإيمان.
 
أخبرنا مالك عن هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار عن عُمَر بن الحَكَم قال: ( أتَيْتُ رسولَ اللهِ بِجَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: ياَ رَسُولَ اللهِ، عَلَيَّ رَقَبَةٌ، أَفَأَعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: أَيْنَ اللهُ؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: فَأَعْتِقْهَا) <ref>[موطأ مالك: كتاب العتق والولاء/1269؛ مسند أحمد: باقي مسند الأنصار/22645؛ سنن النسائي: كتاب الوصايا/3593]</ref>
 
قال الشافعي: وهومعاوية بن الحكم، وكذلك رواه غيرُ مالك، وأظن مالكً لم يحْفَظ اسمَه.
سطر 552:
قال الشافعي: ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله.
 
فقال في كتابه: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } <ref>[البقرة: 129]</ref>.
 
وقال جل ثناؤه: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } <ref>[البقرة: 151]</ref>.
 
وقال: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } <ref>[آل عمران: 164]</ref>.
 
وقال جل ثناؤه: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } <ref>[الجمعة: 2]</ref>.
 
وقال: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } <ref>[البقرة: 231]</ref>.
 
وقال: { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } <ref>[النساء: 113]</ref>.
 
وقال: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } <ref>[الأحزاب: 34]</ref>.
 
فذكر الله الكتاب، وهو القُرَآن، وذكر الحِكْمَة، فسمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول: الحكمة سنة رسول الله .
 
وهذا يشبه ما قال، والله أعلم.
سطر 580:
==باب: فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها==
 
قال الله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } <ref>[الأحزاب: 36] </ref>.
 
وقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } <ref>[النساء: 59] </ref>.
 
فقال بعض أهل العلم: أولوا الأمر: أمراء سرايا رسول الله - والله أعلم - وهكذا أُخبرنا.
سطر 590:
فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يَصلح لغير رسول الله.
 
فأُمِروا أن يُطِيعوا أولي الأمر الذين أَمَّرَهم رسول الله، لا طاعةً مطلقة، بل طاعة مُسْتَثْناة، فيما لهم وعليهم، فقال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } <ref>[النساء: 59] </ref>، يعني: إن اختلفتم في شيء.
 
وهذا - إن شاء الله - كما قال في أولي الأمر، إلا أنَّه يقول: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ }، يعني - والله أعلم - هم وأُمَراؤهم الذين أُمِروا بطاعتهم، { فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، يعني - والله اعلم - إلى ما قال الله والرسول إن عرفتموه، فإن لم تعرفوه سألتم الرسولَ عنه إذا وصلتم، أو من وَصَلَ منكم إليه.
 
لأن ذلك الفرضُ الذي لا مُنَازَعَة لكم فيه، لقول الله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } <ref>[الأحزاب: 36] </ref>.
 
ومن تنازع <ref>[ رسمت في النسخة المعتمدة بالياء وسكون آخره ورفعه، وبالتاء وفتح آخره وسكونه]</ref> ممن بعد رسول الله رَدَّ الأمر إلى قضاء الله، ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء، نصًّا فيهما ولا في واحد منهما، رَدُّوه قِياسا على أحدهما، كما وصفْتُ مِنُ ذكر القبلة والعدل والمثل، مع ما قال الله في غير آية مثلَ هذا المعنى.
 
وقال: { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا } <ref>[النساء: 69]</ref>
 
وقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } <ref>[الأنفال: 20] </ref>.
 
==باب: ما أمر الله من طاعة رسوله==
 
قال الله - جل ثناؤه -: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } <ref>[الفتح: 10] </ref>.
 
وقال: { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } <ref>[النساء: 80] </ref>.
 
فأعْلَمَهم أنَّ بَيْعَتهم رسولَه بيعتُه، وكذلك أعْلمهم أنَّ طاعتَهم طاعتُه.
 
وقال: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } <ref>[النساء: 65] </ref>.
 
نزلت هذه الآية فيما بلغنا - والله أعلم - في رجل خاصَمَ الزُّبَيْر في أرضٍ، فقضى النبي بها للزبير.
سطر 618:
والقُرَآن يدل - والله أعلم - على ما وصفْتُ، لأنه لو كان قضاءً بالقُرَآن كان حُكما منصوصا بكتاب الله، وأشبَهَ أن يكونوا إذا لم يُسَلِّموا لحكم كتاب الله نصًّا غيرَ مُشْكِل الأمر، أنَّهم ليسوا بِمُؤمنين، إذا رَدُّوا حكمَ التنزيل، إذا لم يسلموا له.
 
وقال تبارك وتعالى: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } <ref>[النور: 63] </ref>.
 
وقال: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48). وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49). أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(51). وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(52) } <ref>[النور:48،52 48، 52]</ref>
 
فأعلم اللهُ الناسَ في هذه الآية، أنَّ دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم: دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بيْنهم رسولُ الله، وإذا سلَّموا لحكم رسول الله، فإنما سلموا لحكمه بفرض الله.
سطر 634:
ما أبان الله لخلْقه من فرضه على رسوله اتباعَ ما أَوْحَى إليه، وما شَهِد له به من اتباع ما أُمِرَ به، ومِنْ هُداه، وأنه هاد لمن اتبعه.
 
قال الشافعي: قال - الله جل ثناؤه - لنبيه: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } <ref>[الأحزاب:2،1 2، 1]</ref>
 
وقال: { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ } <ref>[الأنعام: 106]</ref>
 
وقال: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } <ref>[الجاثية: 18]</ref>
 
فأعْلَمَ اللهُ رسولَه منَّه عليه بما سبق في علمه، من عِصْمته إيَّاه من خلقه، فقال: { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ } <ref>[المائدة: 67]</ref>
 
وشهد له - جل ثناؤه - باستمساكه بما أمره به، والهدى في نفسه، وهدايةِ مَنْ اتبعه، فقال: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي: مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[الشورى: 52]</ref>
 
وقال: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } <ref>[النساء: 113]</ref>
 
فأبان الله أنْ قدْ فرَضَ على نبيه اتباعَ أمره، وشهِدَ له بالبلاغ عنه، وشهد به لنفسه، ونحن نَشْهَدُ له به، تَقَرُّبًا إلى الله بالإيمان به، وتوَسُّلا إليه بِتَصْديق كَلِمَاتِه.
 
أخبرنا عبد العزيز عن عمرو بن أبي عمرو مَوْلى المُطَّلِب عن المطلب بن حَنْطَبٍ أنَّ رسول الله قال: ( مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أمَرَكُمْ اللهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ اللهُ عَنْهُ إلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ) <ref>[ مسند الشافعي: 673]</ref>
 
قال الشافعي: وما أعلمنا الله مما سبق في علمه، وحتْمِ قضائه الذي لا يُرَدُّ، من فضله عليه ونعمته: أنه منعه من أنْ يَهُمُّوا به أن يُضلُّوه، وأعلمه أنهم لا يضرونه من شيء.
سطر 654:
وفي شهادته له بأنه يهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله، والشهادة بتَأدية رسالته، واتباع أمره، وفيما وصفتُ من فرضه طاعتَه، وتأكيدِه إياها في الآي ذكرتُ: ما أقام الله به الحجة على خلقه، بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره.
 
قال الشافعي: وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكمٌ، فبِحُكْم الله سنَّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ. . . (53) } <ref>[الشورى:53،52] 53، 52]</ref>
 
وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسنَّ فيما ليس فيه بعَيْنه نصُّ كتاب.
سطر 660:
وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُود عن اتباعها معصيتَه التي لم يعذر بها خَلْقا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مَخْرجا، لما وصفتُ، وما قال رسول الله.
 
أخبرنا سفيان عن سالم أبو النضْر مولى عُمَر بن عبيد الله سمع عبيد الله بن أبي رافع يحدِّثُ عن أبيه، أنَّ رسول الله قال: ( لاَ أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأُمْرُ مِنْ أمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ به، أَوْ نَهَيْتُ عنه، فيقولُ: لاَ أَدْرِي، ماَ وَجَدْنَا فِي كِتَاِب اللهِ اتَّبَعْناَهُ) <ref>[ الترمذي: كتاب العلم/2587؛ أبو داود: كتاب السنة/3989؛ ابن ماجه: المقدمة/13]</ref>
 
قال سفيان: وحَدَّثَنِيه محمد بن المُنْكَدِر عن النبي مُرْسلا.
سطر 676:
فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يَسُنَّ فيما ليس فيه نص كتاب.
 
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سُنَّته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال: { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } <ref>[النساء: 29] </ref>
 
وقال: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } <ref>[البقرة: 275] </ref>
 
فما أحلَّ وحرَّم فإنما بيَّن فيه عن الله، كما بَيَّن الصلاة.
سطر 686:
ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعه كلُّ ما سَنَّ، وسنَّتُه الحكمةُ: الذي أُلقي في رُوعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنتَه.
 
أخبرنا عبد العزيز عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب قال: قال رسول الله : ( إنَّ الرُّوحَ الأمِيَن قَدْ ألْقَى فِي رُوعِي أنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزُْقَهَا، فَأجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ) <ref>[ ابن ماجه: كتاب الجارات/2135؛ مسند الشافعي: 674] </ref>.
 
فكان مما ألقَى في روعه سنَّتَه <ref>[ هكذا ضُبطت في الأصل وهو صحيح ويتوجه على أن (من) زائدة - وإنْ في الإثبات على مذهب من يجيز ذلك - و(ما) اسم كان و(سنته) خبرها] </ref>، وهي الحكمة التي ذكَرَ اللهُ، وما نَزَل به عليه كتابٌ، فهو كتاب الله، وكلٌّ جاءه من نِعَمِ الله، كما أراد الله، وكما جاءته النِّعَم، تَجْمعها النعمة، وتَتَفَرَّقُ بأنها في أمورٍ بعضُها غيرُ بعض، ونسأل الله العصمة والتوفيق.
 
وأيُّ هذا كان، فقد بيَّن الله أنه فرَضَ فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمرٍ عرَفَه من أمر رسول الله، وأنْ قد جعل الله بالناس الحاجةَ إليه في دينهم، وأقام عليهم حجتَه بما دلَّهم عليه من سنن رسول الله مَعَاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم مَن عرَف منها ما وصَفْنا أن سنته - صلى الله عليه - إذا كانت سنة مبيِّنة عن الله معنى ما أراد من مَفْروضه فيما فيه كتابٌ يتْلونَه، وفيما ليس فيه نصُّ كتاب أخْرَى <ref>[ أي سنة أخرى، ]</ref> فهي كذلك أيْنَ كانت، لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال.
 
وكذلك قال رسول الله في حديث أبي رافع الذي كتبنا قبْل هذا.
سطر 706:
وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَع للكتاب، يُمَثِّلُ ما نَزل نصا، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلا.
 
قال الله: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي؛ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } <ref>[يونسٍ: 15]</ref>
 
فأخبر الله أنه فرَضَ على نبيه اتباعَ ما يوحَى إليه، ولم يجعل له تبديله مِن تِلْقاء نفسه.
 
وفي قوله: { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } <ref>[يونس: 15] </ref>، بيانُ ما وصفتُ، مِن أنه لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان المُبْتدىءَ لفرضه، فهو المُزيلُ المثبت لِما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه.
 
وكذلك قال: { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } <ref>[الرعد: 39] </ref>.
 
وقد قال بعضُ أهل العلم: في هذه الآية - والله أعلم - دِلاَلة على أن الله جعَل لرسوله أنْ يقولَ مِن تِلقاء نفسه بتوفيقه فيما لم يُنْزِلْ فيه كتابا، والله أعلم.
 
وقيل في قوله: { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ. . . } الرعد: 39 يمحو فَرْض ما يشاء، ويُثبت فرض ما يشاء، وهذا يُشبه ما قيل، والله أعلم.
 
وفي كتاب الله دِلالة عليه، قال الله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } <ref>[البقرة: 106]</ref>
 
فأخبر الله أنَّ نسْخَ القُرَآن، وتأخيرَ إنْزالِه لا يكون إلا بِقُرَآن مثلِه.
 
وقال: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } <ref>[النحل: 101]</ref>
 
وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله؛ ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه، غيَر ما سنَّ رسول الله: لَسَنَّ فيما أحدث الله إليه، حتى يُبَيِّنَ للناس أن له سنةً ناسخةَ لِلَّتي قّبْلَها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته - {{صل}} -.
 
فإن قال قائل: فقد وجدنا الدِّلالة على أنَّ القُرَآن يَنْسخ القُرَآن، لأنه لا مثلَ للقرآن، فأوْجِدْنا ذلك في السنة ؟السنة؟
 
قال الشافعي: فيما وصفتُ مِن فرْضِ الله على الناس اتباع أمر رسول الله: دليلٌ على أن سنة رسول الله إنما قُبِلَتْ عن الله، فَمَنْ اتبعها فبِكتاب الله تَبِعَها، ولا نجد خبرا ألزمه الله خلْقَه نصا بَيِّنا إلا كتابَه ثم سنةَ نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شِبْهَ لها مِنْ قول خَلْقٍ من خلق الله: لَمْ يَجُزْ أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غيرُ سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له، بل فرَض على خلقه اتباعَه، فألزمهم أمره، فالخلْق كلهم له تبعٌ، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرِضَ عليه اتباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقُمْ مَقامَ أنْ ينسخ شيئا منها.
 
فإن قال: أفيَحْتَمِلُ أنْ تكون له سنة مأثورة قد نُسِخَتْ، ولا تُؤْثَرُ السنة التي نَسَخَتْها ؟نَسَخَتْها؟
 
فلا يحتمل هذا، وكيف يَحْتَمِلُ أنْ يُؤثر ما وُضِع فرضُه، ويُتْرَكَ ما يَلْزَم فرضُه؟! ولو جاز هذا خرجتْ عامةُ السنن من أيدي الناس، بِأنْ يقولوا: لَعَّلها مَنْسوخَة، وليس يُنْسَخُ فرضٌ أبدا إلا أُثْبِتَ مكانَه فرضٌ. كما نُسختْ قِبْلة بيْت المَقْدِس، فأُثْبِتَ مكانَها الكعبةُ، وكلُّ منسوخ في كتاب وسنة هكذا.
 
فإن قال قائل: هل تُنْسَخ السنةُ بالقُرَآن ؟بالقُرَآن؟
 
قيل: لو نُسخَت السنة بالقُرَآن، كانت للنبي فيه سنةٌ تُبَيِّنُ أنَّ سنته الأولى منسوخة بسُنته الآخِرة حتى تقوم الحجةُ على الناس، بأنَّ الشيء يُنْسَخ بِمِثْله.
 
فإنْ قال: ما الدليل على ما تقول ؟تقول؟
 
فما وصَفْتُ مِنْ مَوْضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد بفرائضه، خاصا وعاما، مما وصفت في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبدا لِشيء إلا بحُكْم الله. ولو نسخ الله مما قال حكْما، لَسنَّ رسول الله فيما نسخه سنة.
 
ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ثم نسخ سنتَه بالقُرَآن، ولا يُؤْثَرُ عن رسول الله السنةُ الناسخةُ: جاز أن يقال فيما حرم رسول الله من البُيوع كلِّها: قد يحتمل أن يكون حرَّمَها قبل أن يُنزل عليه: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } <ref>[البقرة: 275] </ref>
 
وفيمن رجَم مِن الزناة: قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخا لقول الله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } <ref>[النور: 2] </ref>
 
وفي المَسْح على الخُفَّيْن: نَسَخت آيةُ الوُضوء المسحَ؛ وجاز أن يقال: لا يُدْرَأُ عن سارق سرق من غير حِرْزٍ، وسرِقَتُهُ أقلُّ من ربع دينار، لقول الله: { السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } <ref>[المائدة: 38] </ref>
 
لأن اسم السرقة يَلْزَم من سرَق قليلا وكثيرا، ومن حِرز، ومن غيِر حرز؛ ولجاز رَدُّ كل حديث عن رسول الله، بأن يقال: لم يقله، إذا لم يَجِدْه مثلَ التنزيل؛ وجاز رد السنن بهذين الوجهين، فتُرِكَتْ كلُّ سنة معها كتابٌ جملةً تحتمل سنتُه أنْ تُوَاِفقه، وهي لا تكون أبدا إلا موافِقة له، إذا احتمل اللفظ فيما رُوِي عنه خلافَ اللفظ في التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثرُ مما في اللفظ في التنزيل، وإنْ كان مُحتمِلا أن يخالفه من وجه.
سطر 752:
وكتابُ الله وسنةُ رسوله تدل على خلاف هذا القول، وموافِقةٌ ما قلنا.
 
وكتاب الله البيانُ الذي يُشْفى <ref>[ في النسخة المعتمدة بالياء والنون]</ref> به من العَمى، وفيه الدلالة على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه، واتباعِه له وقيامه بتَبْيِينِه عن الله.
 
==الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه==
 
 
قال الشافعي: مما نَقَل بعضُ مَن سمعتُ مِنه مِن أهل العلم، أن الله أنزل فَرْضا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: { يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1) قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ القُرَآن تَرْتِيلًا(4) } <ref>[المزمل: 1،4] 4]</ref>
 
ثم نَسَخَ هذا في السورة معه، فقال: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ القُرَآن، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } <ref>[المزمل: 20]</ref>
 
ولما ذكر الله بعد أمْره بقيام الليل نصْفِه إلا قليلا، أو لزيادة عليه، فقال: { أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ } المزمل: 20، فخَفَّفَ، فقال: { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى } قرأ إلى: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } <ref>[المزمل: 20]</ref>
 
قال الشافعي: فكان بيِّنا في كتاب الله نسخُ قيام الليل ونصفِه والنقصانِ من النصف، والزيادة عليه بقول الله: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } <ref>[المزمل: 20]</ref>
 
فاحتمل قول الله: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } <ref>[المزمل: 20] </ref>: معنيين :
 
- أحدهما: أن يكون فرضا ثابتا، لأنه أزِيل به فرض غيره.
 
- والآخر: أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره، كما أُزيل به غيره، وذلك لقول الله: { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } <ref>[الإسراء: 79] </ref>
 
فاحتمل قوله: { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ }، أن يتهجَّد بغير الذي فُرِض عليه، مما تَيَسَّرَ مِنه.
 
قال: فكان الواجب طلبَ الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألاَّ واجب من الصلاة إلا الخَمسُ، فصِرنا إلى أن الواجب الخمسُ، وأن ما سواها من واجب مِن صلاة قبلَها، منسوخ بها، استدلالا بقول الله: { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } <ref>[الإسراء: 79] </ref>
 
وأنها ناسخة لقيام الليل ونصفِه وثلثِه وما تيسر.
سطر 779:
ولَسْنَا نُحِبُّ لأحد تركَ أن يتهجد بما يسره الله عليه من كتابه، مُصَلِّيًا به، وكيف ما أكْثَرَ فهو أحبُّ إلينا.
 
أخبرنا مالك عن عمه أبي سُهَيْل بن مالك عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَة، قاَلَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَان، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غّيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُوُل اللهِ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ) <ref>[ البخاري: كتاب الإيمان/44؛ مسلم: كتاب الإيمان/12؛ النسائي: كتاب الصلاة/454؛ أبو داود: كتاب الصلاة/331؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/382. ]</ref>
 
ورواه عُبادة بن الصامِت عن النبي، أنَّهُ قال: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اْسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا <ref>[هكذا هي النصب وتقدم توجيه نحوها ص 103 غير أن ذاك التوجيه لا يصلح هنا وانظر توجيه الكلام في ص 158]</ref> أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ) <ref>[ النسائي: كتاب الصلاة/457؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1210؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1391؛ أحمد: باقي مسند الأنصار/21635؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/248. ]</ref>
 
==باب: فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بعذر==
سطر 787:
وعلى من لا تُكتب صلاته بالمعصية.
 
قال الله تبارك وتعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ؟قُلْ: هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } <ref>[البقرة: 222]</ref>
 
قال الشافعي: افترض الله الطهارةَ على المُصَلِّي، فِي الوُضوء والغسل مِن الجنَابَة، فلم تكن لغير طاهر صلاةٌ. وَلَمَّا ذكر اللهُ المَحِيضَ، فأمَرَ باعتزال النساء حتى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ أُتِينَ: استدلَلْنا على أنَّ تَطَهُّرَهُنَّ بالماء: بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحَضَر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء، لأن الله إنما ذكَرَ التَّطَهُّرَ بعد أنْ يَطْهُرْنَ، وَتَطَهُّرُهُنَّ: زَوالُ المحيض، في كتاب الله ثم سنة رسوله.
 
أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة، وذَكَرَتْ إحرامَها مع النبي، وأنَّها حاضتْ، فأمَرَها أن تَقْضي ما يقضي الحاجُّ: ( غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) <ref>[البخاري: كتاب الحيض/294؛ مسلم: كتاب الحيض/2115؛ أحمد: مسند باقي الأنصار/25139؛ مالك: كتاب الحج/821. ]</ref>
 
فاستدللنا على أنَّ الله إنَّمَا أراد بفرض الصلاة مَنْ إذا تَوَضَّأ واغتسل طَهُرَ؛ فأما الحائض، فلا تَطْهر بواحد منهما، وكان الحيض شيئا خُلِقَ فيها، لم تَجْتَلِبْهُ على نفسها فتكون عاصية به، فزال عنها فرض الصلاة أيام حيضها، فلم يكن عليها قضاءُ ما تركتْ منها في الوقت الذي يزول عنها فيه فرضُها.
سطر 801:
وكان الصوم مفارقَ الصلاة في أن للمسافر تأخيرَه عن شهر رمضان، وليس له ترك يوم لا يصلي فيه صلاة السَّفر، وكان الصوم شهرا مِن اثني عشر شهرا، وكان في أحدَ عشر شهرا خَلِيًّا مِن فرض الصوم، ولم يكن أحد من الرجال - مطيقا بالفعل للصلاة - خَلِيًّا من الصلاة.
 
قال الله: { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } <ref>[النساء: 43]</ref>
 
فقال بعض أهل العلم: نزلتْ هذه الآية قبْلَ تحريم الخمر <ref>[ ثبت ذلك في حديثين عند أبي داود والترمذي والنسائي]</ref>
 
فدل القُرَآن - والله أعلم - على ألا صلاة لسكرانَ حتى يعلمَ ما يقول، إذْ بدأ بنهيه عن الصلاة، وذكر معه الجُنُبَ، فلم يختلف أهل العلم ألا صلاة لجُنُب حتى يَتَطَهَّرَ.
سطر 819:
وهكذا كلُّ ما نسخ الله، ومعنى (نَسَخَ): تَرَكَ فَرْضَه: كان حقًّا في وقته، وترْكُه حقًّا إذا نسخه الله، فيكون من أدرك فرضَه مُطيعا به وبتركه، ومَن لم يُدْرِك فرضَه مُطيعا باتِّباع الفرْضِ الناسِخ له.
 
قال الله لنبيه: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } <ref>[البقرة: 144]</ref>
 
فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حُوِّلوا إلى قِبْلةٍ بعد قبلة ؟قبلة؟
 
ففي قول الله: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } <ref>[البقرة: 142]</ref>
 
مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: (بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إذْ جَاءَهمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرَآن، وَقَدْ أَُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلىَ الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إلىَ الكَعْبَةِ) <ref>[ البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4134؛ النسائي: كتاب القبلة/737. ]</ref>
 
مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المُسَيِّب أنه كان يقول: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ حُوِّلَتْ القِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ) <ref>[البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4132؛ النسائي: كتاب الصلاة/484؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1000؛ أحمد: مسند بني هشام/2140؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/412]</ref>
 
قال: والاستدلال بالكتاب في صلاة الخوف قولُ الله: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } <ref>[البقرة: 239، وليس لِمُصَلي المكتوبةِ أن يُصَلِّيَ رَاكِبًا إلا في خوْف، ولم يذْكر الله أن يتَوجه القبلةَ. <ref>[ منصوب بنزع الخافض: إلى القبلة. ]</ref>
 
وروى ابن عمر عن رسول الله صلاةَ الخوفِ، فقال في روايته: (فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالا وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبلِيهَا) <ref>[البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك كتاب النداء للصلاة/396]</ref>
 
وصلى رسول الله النافلةَ في السَّفَرِ على راحلته أيْن تَوجَّهتْ به؛ حَفِظَ ذلك عنه جابر ابن عبد الله، وأنس بن مالك وغيرهما، وكان لا يصلي المكتوبة مُسافِرا إلاَّ بالأرض مُتوجِّها للقبلة.
 
ابن أبي فُدَيْك عن ابن أبي ذِئْبٍ عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة عن جابر بن عبد الله: ( أنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُوَجِّهَةً بِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ) <ref>[ مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909 وروي من طرق عن جابر رواه أحمد والالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي يألفاظ مختلفة. ]</ref>
 
قال الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } <ref>[الأنفال: 65]</ref>
 
ثم أبان في كتابه: أنه وضَع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة، وأَثْبَتَ عليهم أنْ يقوم الواحد بقتال الاثنين، فقال: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } <ref>[الأنفال: 66]</ref>
 
أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } <ref>[الأنفال: 65] </ref>
 
كُتِبَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يَفرَّ العِشْرِونَ مِنَ المِائَتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } إلى: { يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ }، فَكَتَبَ أنْ لاَ يَفِرَّ المِائَةُ مِنَ المِائَتَيْنِ) <ref>[ البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4285؛ الشافعي: كتاب الجهاد/386. ]</ref>
 
قال: وهذا كما قال ابن عباس إن شاء الله، وقد بيَّن اللهُ هذا في الآية، وليستْ تَحْتاج إلى تَفْسِيرٍ.
 
قال: { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا(15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا، فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا(16) } <ref>[النساء:15،16 15، 16]</ref>
 
ثم نَسَخ الله الحبسَ والأذى في كتابه، فقال: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } <ref>[النور: 2]</ref>
 
فدلت السنة على أن جلد المِائة للزَّانِيَيْنِ البِكْرَيْن.
 
أخبرنا عبد الوهاب عن يونس بن عُبَيْد عن الحَسَن عن عُبادَة ابن الصامِت، أنَّ رسولَ الله قال: ( خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) <ref>[ مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛ أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252. ]</ref>
 
أخبرنا الثقة من أهل العلم، عن يونس بن عُبَيْد عن الحسن عن حِطَّانَ الرَّقَاشِيِّ عن عُبادة بن الصامت، عن النبي مِثْلَهُ.
سطر 865:
فدل كتاب الله، ثم سنة نبيه، على أن الزانيين المَمْلوكَيْن خارِجان من هذا المعنى.
 
قال الله - تبارك وتعالى - في المَمْلوكات: { فَإِذَا أُحْصِنَّ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } <ref>[النساء: 25]</ref>
 
والنِّصْف لا يكون إلا من الجَلْدِ، الذي يَتَبَعَّضُ، فأما الرَّجْم - الذي هو قتل - فلا نصفَ له، لأن المرجوم قد يموت في أوَّل حَجَرٍ يُرْمى به، فلا يُزاد عليه، ويُرْمى بألفٍ وأكثر فيُزادُ عليه حتى يموت، فلا يكون لهذا نِصف محدود أبدا.
سطر 871:
والحدود مُوَقَّتة بإتْلاف نفْسٍ، والإتلاف مُوَقَّتٌ بِعَدَدِ ضَرْبٍ أو تحديد قطعٍ، وكل هذا معروف، ولا نصف للرجمِ مَعْروفٌ.
 
وقال رسول الله: ( إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا) <ref>[ البخاري: كتاب البيوع/2080؛ مسلم: كتاب الحدود/3215؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/7088. ]</ref> ولم يقل: (يَرْجُمْهَا)، ولم يختلف المسلمون في ألاَّ رَجْمَ على مَمْلُوكٍ في الزِّناَ.
 
وإحصانُ الأمة إسلامُها.
سطر 877:
وإنما قلنا هذا استدلالا بالسنة وإجماعِ أكْثرِ أهْل العِلْم.
 
ولَمَّا قال رسول الله: ( إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَتَبَيًّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا)، ولم يقل: (مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةً)، استدللنا على أنَّ قول الله في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } <ref>[النساء: 25] </ref>
 
إذا أسْلَمْنَ، لا إذا نُكِحْنَ فأُصِبْنَ بالنكاح، ولا إذا أَعتَقْنَ وإنْ لَمْ يُصَبْن.
سطر 883:
فإن قال قائل: أراكَ تُوقِع الإحْصان على معاني مختلف؟
 
قيل: نَعَم، جِماعُ الإحصان أن يكون دون التحصين مانعٌ من تناول المُحَرَّم. فالإسلام مانع، وكذلك الحُرية مانعة، وكذلك الزوجُ والإصابةُ مانع، وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكلُّ ما مَنَعَ أَحْصَنَ. قال الله: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } <ref>[الأنبياء: 80] </ref>
 
وقال: { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ } <ref>[الحشر: 14] </ref>، يعني: ممنوعة.
 
قال: وآخِرُ الكلام وأوَّلُه يَدُلان على أن معنى الإحصان، المذكورِ عامًّا في موضع دون غيره: أن الإحصان هاهُنَا الإسلامُ، دون النكاح والحرية والتحصينِ بالحبس والعفاف. وهذه الأسماءُ التي يَجْمعها اسم الإحصان.
سطر 892:
 
 
قال الله - تبارك وتعالى -: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } <ref>[البقرة: 180] </ref>.
 
قال الله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } <ref>[البقرة: 240]</ref>
 
فأنزل الله ميراثَ الوالِدَيْن ومن ورث بعدَهما ومَعَهما من الأقْرَبِين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجةِ من زوجها.
سطر 908:
قال: ورَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثا ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه: أنَّ بعضَ رِجاله مجهولون، فَرَوَيْناه عن النبي منقطِعًا. وإنما قَبِلْنَاه بما وَصَفْتُ من نقْل أهل المغازي وإجماع العامة عليه، وإن كُنَّا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديثِ أهل المغازي عامًّا وإجماع الناس.
 
أخْبَرنا "سفيان" عن "سليمان الأحْوَل" عن "مجاهد"، أنَّ رسولَ الله قال: ( لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) <ref>[ الترمذي: كتاب الوصايا/2046؛ النسائي: كتاب الوصايا/3581؛ أبو داود: كتاب الوصايا/2486؛ ابن ماجه: كتاب الوصايا/2704.
 
وفي القُرَآن ناسخٌ ومنسوخٌ غيرُ هذا، مُفَرَّقٌ في مَواضِعِهِ، في كتاب (أحكام القُرَآن).
سطر 918:
ويَعْلمون أن اتِّباعَ أمْره طاعةُ الله، وأنَّ سُنَّتَه تَبَعٌ لكتاب الله فيما أنْزَلَ، وأنها لا تخالف كتاب الله أبدا.
 
ويَعْلَمُ مَنْ فَهِمَ (هذا الكتاب) أنَّ البيان يكون من وجوه، لا مِن وَجْهٍ واحد، يَجْمَعُها أنها عند أهل العلم بَيِّنَةٌ ومُشْتَبِهَةُ البَيَانِ، وعند مَن يُقَصِّرُ عِلْمُه مُخْتلفة البَيَانِ] </ref>. فاستدللنا بما وصفتُ، من نقْلِ عامَّة أهل المغازي عن النبي أن: ( لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)، على أنَّ المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المُنْقَطع عن النبي، وإجماعِ العامَّة على القول به.
 
وكذلك قال أكثرُ العامَّة: إن الوصية للأقربين منسوخة زائلٌ فَرْضُها، إذا كانوا وارثين فبالميراث، وإن كانوا غَيْرَ وارثين فليس بِفَرض أنْ يُوصي لهم.
سطر 932:
قال: فكانت دِلالة السنة في حديث "عِمران بن حُصَيْنٍ" بَيِّنَةً بأن رسول الله أَنْزَلَ عِتْقَهم في المرض وصيَّةً.
 
والذي أعْتَقَهُمْ رجل من العَرَب، والعربيُّ إنَّما يَمْلِكُ مَن لا قَرابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِن العَجَم،ِالعَجَم، فأجازَ النبي لهم الوصيةَ.
 
فدلَّ ذلك على أن الوصية لو كانت تَبْطُلُ لِغير قرابة: بَطَلَتْ لِلْعبيد المُعْتَقين، لِأنَّهم ليسوا بِقَرَابة للمُعْتِق.
سطر 947:
 
 
قال الله - جل ثناؤه -: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) } <ref>[النور: 4]</ref>
 
قال "الشافعي": فالمُحْصنَات هاهنا البَوَالِغ الحرائر. وهذا يدل على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة.
 
وقال: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ(6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ(8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ(9) } <ref>[النور:1،9] 1، 9]</ref>
 
فلما فَرَقَ اللهُ بَيْن حُكم الزوجِ والقاذِف سِواه، فَحَدَّ القاذِفَ سِواه، إلا أنْ يَأْتِيَ بأربعة شُهَدَاء، على ما قال، وأخرجَ الزوجَ بالِّلعَان من الحَدِّ: دل ذلك على أنَّ قَذَفَةَ المُحْصَنات، الذين أُريدوا بالجلد: قذفةُ الحرائرِ البوالِغِ غير الأزْواجِ.
سطر 961:
قال: وفي "العَجْلَانِيِّ" وزوجتِهِ أُنزلت آيةُ اللَّعان، ولاَعَنَ النبيُّ بَيْنَهما، فَحَكَى اللعانَ بَيْنهما "سهل بن سعد الساعِدي، وحَكاه ابن عباس، وحَكَى ابن عمر حضورَ لِعانٍ عندَ النبيِّ، فَمَا حَكَى مِنهم واحد كيفَ لَفْظُ النبيِّ في أمْرِهما باللِّعانِ.
 
وقد حَكَوْا معًا أحكاما لرسول الله ليست نصًّا في القُرَآن، منها: تَفْريقه بَيْن المُتَلاعِنين، ونَفْيُه الولدَ، وقولُه: ( إنْ جَاءَتْ بِهِ هَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ) فَجاَءَتْ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَالَ: إنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلاَ مَا حَكَى اللهُ)
 
وحكى ابن عباس أنَّ النبي قال عند الخامسة: ( قَفُوهُ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ) <ref>[ البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4378؛ الترمذي: كتاب تفسير القُرَآن/3103؛النسائي: كتاب الطلاق/3415؛ أبو داود: كتاب الطلاق/ 1923] </ref>
 
فاستَدْلَلْنا على أنهم لا يَحْكُونَ بَعضَ ما يُحتاج إليه مِن الحديث، ويَدَعُون بعضَ ما يُحتاج إليه مِنه، وأَوْلاَهُ أنْ يُحْكَى مِن ذلك، كيْفَ لاَعَنَ النبيُّ بَيْنهما: إلاَّ عِلما بأنَّ أحَدا قَرَأ كتابَ الله،يَعْلمالله، يَعْلم أنَّ رسولَ الله إنَّمَا لاَعَنَ كما أَنْزل اللهُ.
 
فَاكْتَفَوْا بإبانَةِ اللهِ اللعانَ بالعَدَد والشهادةِ لكلَّ واحدٍ مِنهما، دون حِكايةِ لفظِ رسول الله حِينَ لاَعَنَ بَيْنَهما.
سطر 975:
وقد وصفْنا سننَ رسولِ الله مَعَ كتابِ اللهِ قَبْلَ هذا.
 
قال الله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ. . . (184) } <ref>[البقرة: 183، 184] </ref>
 
{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا } <ref>[البقرة: 185]</ref>
 
ثم بَيَّن أيَّ شهر هو، فقال: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرَآن هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>
 
قال الشافعي: فما علمتُ أحدا مِن أهل العلم بالحديث قَبْلنا تكلَّفَ أنْ يرْوِيَ عن النبي أنَّ الشهر المفروض صومه شهرُ رمضان الذي بَيْن شعبان وشوالٍ، لمعرفتهم بشهر رمضان مِن الشهور واكتفاءً منهم بأن الله فَرَضَهُ.
سطر 989:
وهكذا ما أنزل الله من جُمَل فَرَائضه، في أنَّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجًا على مَنْ أطاقه، وتحريِمِ الزنا والقتل وما أشْبَهَ هذا.
 
قال: وقد كانت لرسول الله في هذا سُنَنًا <ref>[ هكذا ضُبط بالنصب ومضى نحو هذا ص 103 و 117 وسيأتي ص 174 وهذا يجعل تخطئته مجازفة كبيرة. قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على ص 174 (والذي يبدو لي أن تكون هناك لغة غريبة لم تنقل إلينا. . . والظاهر أنه بنصب معمولي كان) وهو ما أميل إليه. ]</ref> ليست نصًّا في القُرَآن، أبان رسولُ الله عَنْ الله معنى ما أراد بها، وتكلَّم المسلمون في أشياءَ مِن فُروعها، لمْ يَسُنَّ رسولُ الله فيها سُنَّة مَنْصوصةً.
 
فمِنها: قولُ الله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } <ref>[البقرة: 230]</ref>
 
فاحتمل قولُ الله: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) <ref>[البقرة: 230 أن يتزوجها زوجٌ غيرُه، وكان هذا المعنى الذي يَسْبِق إلى مَنْ خوطب به: أنها إذا عُقِدَتْ عليها عُقْدةُ النكاحِ فقد نَكَحَتْ.
 
واحتمل: حتى يُصِيبها زوجٌ غيرُه لأن اسْم (النكاح) يَقَعُ بالإصابة، ويقع بالعقد.
سطر 1٬001:
فإن قال قائل: فاذْكر الخبَرَ عَنْ رسولِ الله بما ذكرْتَ.
 
قيل: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: ( أنَّ امْرَأةَ رِفَاعَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ <ref>[ شَبَّهتْ ذَكَرَه - في الاسترخاء وعدم الانتشار عند الإفضاء -،بهدبة، بهدبة الثوب. المصباح المنير - الفيومي] </ref>. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) <ref>[ البخاري: كتاب الشهادات/2445؛ مسلم: كتاب النكاح/2587؛ النسائي: كتاب الطلاق/3356؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1965؛ الترمذي: كتاب النكاح/1037؛ ابن ماجه: كتاب النكاح/1922. . ]</ref>
 
قال الشافعي: فَبَيَّن رسولُ الله، أنَّ إحلالَ الله إيَّاها للزوج المُطَلِّقِ ثلاثا بَعْدَ زَوْجٍ بالنكاح: إذا كانَ مَع النِّكاحِ إصابَةٌ مِن الزوج
سطر 1٬007:
==الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله معها==
 
قال الله - تبارك وتعالى -: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } <ref>[المائدة: 6]</ref>
 
وقال: { وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } <ref>[النساء: 43]</ref>
 
فأبان أنَّ طهارَةَ الجُنُب الغُسْلُ دُون الوُضوء.
سطر 1٬015:
وسَنَّ رسولُ الله الوضوءَ كما أَنْزَلَ اللهُ: فَغَسَلَ وَجْهه ويَدَيْه إلى المِرْفَقَيْن، ومسح بِرَأسه، وغسَلَ رِجْليه إلى الكَعْبَيْن.
 
أخْبَرَنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسْلَمَ عن عطاء بن يَسَارٍ عن ابن عباس عن النبي: (أنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً) <ref>[ الترمذي: كتاب الطهارة/40؛ النسائي: كتاب الطهارة/79؛ أبو داود: كتاب الطهارة/119؛ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/404؛أحمد: مسند العشرة المبشرين/144]</ref>
 
أخْبَرنا مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه، أنه قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى: (هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: نَعَمْ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاه، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) <ref>[ النسائي: كتاب الطهارة/96؛ أبو داود: كتاب الطهارة/103؛ ابن ماجه: كتاب الطهارة و سننها/428؛ أحمد: مسند المدنيين/15836؛ مالك: كتاب الطهارة/29]</ref>
 
فَكان ظاهِرُ قولِ الله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، أقلَّ ما وَقع عليه اسم الغَسْل، وذلك مَرَّةٌ، واحْتَملَ أكثرَ.
سطر 1٬027:
وهذا مثلُ ما ذكرتُ مِن الفرائض قَبْله: لو تُرِك الحديث فيه اسْتُغْنِيَ فيه بالكتاب، وحين حُكِيَ الحديثُ فيه دلَّ على اتباعِ الحديث كتابَ الله.
 
ولعلَّهم إنما حَكَوُا الحديثَ فيه لأنَّ أكثرَ ما تَوَضَّأَ رسولُ الله ثلاثا، فأرادوا أن الوضوءَ ثلاثا اختيارٌ، لا أنه واجبٌ لا يجزئُ أقلُّ منه، ولما ذُكِرَ منه في أنَّ (مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءَه هَذَا - وَكَانَ ثَلاَثا - ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ) <ref>[ البخاري: كتاب الوضوء/155؛ مسلم: كتاب الطهارة/332؛ النسائي: كناب الطهارة/83؛ أبو داود: كتاب الطهارة. ]</ref>
 
وسن رسول الله في الغسل من الجَنابَةِ غُسْلَ الفَرْج والوُضوءَ كوُضوءِ الصلاةِ ثم الغُسْلَ، فكذلك أحْبَبْنَا أنْ نَفْعلَ.
سطر 1٬044:
 
 
قال الله - تبارك وتعالى -: { يَسْتَفْتُونَكَ. قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } <ref>[النساء: 176]</ref>
 
وقال: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } <ref>[النساء: 7]</ref>
 
وقال: { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } <ref>[النساء:11،12 11، 12]</ref>
 
وقال: { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ } <ref>[النساء: 12]</ref> مع آيِ المَوارِيثِ كلِّها.
 
فدلَّتْ السنة على أن الله إنما أراد مِمَّنْ سمَّى له المواريثَ، من الإخوة والأخواتِ، والولد والأقارب، والوالدَيْنِ والأزواج، وجَمِيع مَنْ سمَّى له فريضةً في كتابه، خاصَّا مِمَنْ سمى.
سطر 1٬056:
وذلك أن يجتمع دينُ الوارثِ والمَوْروث، فلا يختلفان، ويكونان مِن أهْل دار المسلمين، ومن له عَقْدٌ من المسلمين يَأْمَنُ به على ماله ودَمِه، أو يكونان من المُشْركين، فيَتَوَارَثان بالشِّرْك.
 
أخْبَرَنا سفيان عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان بن أسامة بن زيد، أنَّ رسولَ الله قال: (لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ) <ref>[ البخاري: كتاب الفرائض/6267؛ مسلم: كتاب الفرائض/3027؛ الترمذي/2033؛ أبو داود: كتاب الفرائض/2521؛ ابن ماجه: كتاب الفرائض/2719]</ref>
 
وأن يكون الوارِثُ والمَوْرُوثُ حُرَّيْنِ مع الإسلام
 
أخبرنا ابن عُيَيْنَة عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه، أنَّ رسولَ الله قال: ( مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالُ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ) <ref>[مسلم: كتاب البيوع/2854؛ الترمذي: كتاب البيوع/1165؛ النسائي: كتاب البيوع/4557؛ أبو داود: كتاب البيوع/2977؛ أحمد: مسند المكثرين من الصحابة/4324؛ مالك: كتاب البيوع/1119]</ref>
 
قال: فلما كان بَيِّنًا في سنة رسول الله أنَّ العبدَ لا يَمْلِكُ مالا، وأن مَا مَلَكَ العبدُ فإنما يَمْلِكُهُ لِسَيِّدِهِ، وأن اسمَ المالِ له إنما هو إضافةُ إليه، لأنه في يَدَيْهِ، لاَ أنَّهُ مالكُ لَه، ولا يكون مَالِكًا له وهو لا يَمْلِك نفْسَهُ، وهو مملوكٌ، يُبَاعُ ويُوهَبُ ويُورثُ، وكان الله إنما نَقَلَ مِلْكَ الموْتَى إلى الأحياءِ، فملكوا منها ما كان الموْتى مالكِينَ، وإنْ كان العبدُ أبًا أو غيرَه مِمَنْ سُمِّيَتْ له فَريضةٌ، فكان لوْ أُعْطِيَهَا مَلَكَها سيِّدُهُ عليه، لم يكن السيدُ بِأَبِي الميِّتِ ولا وارثا سُميتْ له فريضةٌ، فَكُنَّا لو أعْطَيْنَا العبدَ بأنه أب، إنما أعْطَيْنَا السيدَ الذي لا فريضةَ له، فَوَرَّثْنَا غيرَ مَن وَرَّثَهُ اللهُ، فلم نُوَرِّثْ عبدا لِمَا وصفتُ، ولا أحدا لم تجتمعْ فيه الحُرِّيَّةُ والإسلامُ والبراءةُ من القتل، حتى لا يكونَ قاتلا.
 
وذلك أنه رَوَى مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شُعَيْبٍ، أنَّ رسول الله قال: (ليس لقاتل شيء) <ref>[أبو داود: كتاب الديات/3955؛ أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/329؛ مالك: كتاب العقول/1365 ]</ref> فلم نُوَرِّثْ قاتِلا ممن قتل، وكان أخفُّ حالِ القاتل عَمْدا أنْ يُمْنَعَ الميراثَ عُقُوبةً، مع تَعَرُّضِ سَخَط اللهِ، أنْ يُمْنَعَ ميراثُ مَنْ عَصَى اللهَ بالقتل. وما وصفتُ، مِنْ ألا يَرِثَ المُسلمَ إلا مسلمُ حرٌّ غيرُ قاتلٌ عَمْدا، مَا لاَ اختلافَ فيه بَيْنَ أحدٍ مِن أهل العلم حفظتُ عنه بِبَلدنا ولا غَيْرِهِ.
 
وفي اجتماعهم على ما وَصَفْنَا مِنْ هذا حجةٌ تَلْزمهم ألا يَتَفَرَّقوا في شيء مِنْ سُنَنِ رسولِ الله، بأنَّ سننَ رسول الله إذا قامتْ هذا المَقام فيما لِلَّهِ فيه فرضٌ منصوص، فدلتْ على أنه على بعضِ من لَزِمَهُ اسمُ ذلك الفرْضِ دون بعض: كانت فيما كان مِثْلَه مِن القُرَآن: هكذا، وكانت فيما سَنَّ النبيُّ فيما ليسَ فيه لله حُكْمٌ منصوص: هكذا.
سطر 1٬070:
وأوْلَى أنْ لا يَشُكَّ عالمٌ في لزومها، وأنْ يعْلم أنَّ أحكامَ اللهِ ثمَّ أحكامَ رسولِه لا تختلف، وأنها تجري على مثال واحد.
 
قال الله - تبارك وتعالى -: { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } <ref>[النساء: 29]</ref>
 
وقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبَا } <ref>[البقرة: 275]</ref>
 
ونَهَى رسولُ الله عَن بُيُوعٍ تَرَاضَى بِها المُتَبَايِعان، فحُرِّمتْ، مثلُ الذَّهَبِ بِالذهبِ إلا مِثْلا بِمِثلٍ، ومثلُ الذهب بالوَرِق وأحدُهُما نَقْدٌ والآخر نَسِيَّةٌ أي نسيئة سُهِّلت وقرأ ورش وأبو جعفر (إنما النَّسِيُّ) <ref>[التوبة: 37 ] </ref>
 
وما كان في معنى هذا، مما ليس في التَّبَايعِ به مُخَاطَرَة، ولا أمرٌ يَجْهَلُه البائِع ولا المُشْتَرِي.
سطر 1٬080:
فدلتْ السنةُ على أنَّ الله - جل ثناؤه - أرادَ بإحْلالِ البَيْعِ ما لم يُحَرِّمْ مِنْهُ، دون ما حَرَّمَ على لسان نَبِيِّه.
 
ثم كانت لرسول الله فِي بيوعٍ سِوَى هذا سُنَنًا <ref>[ تقدم توجيه هذا ونحوه من العربية]</ref> مِنْها العبدُ يُباعُ، وقد دلَّسَ البائعُ المُشْتَرِيَ بِعَيْبٍ، فَلِلْمُشترِي ردُّه، وله الخَراجُ بِضَمَانِهِ. ومنها: أنَّ مَن باع عبْدا وله مال، فمالُهُ للبائِعِ إلا أن يشترطه المبتاعُ. ومنها: من باع نَخْلًا قدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُها للبائعِ إلا أن يشترط المبتاع، لَزِمَ الناسَ الأخذُ بِها، بما ألْزَمَهم اللهُ مِن الانتهاءِ إلى أمره.
 
==جمل الفرائض==
 
قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } <ref>[النساء: 103]</ref>
 
وقال: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } <ref>[النساء: 43]</ref>
 
وقال لِنَبِيِّهِ: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } <ref>[التوبة: 103]</ref>
 
وقال: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } <ref>[آل عمران: 97]</ref>
 
قال الشافعي: أحكمَ اللهُ فرضَه في كتابِهِ في الصَّلاةِ والزكاةِ والحجِّ، وَبَيَّنَ كيْف فَرَضَهُ على لسان نَبِيِّهِ.
سطر 1٬106:
وسن أنَّ النَّوَافِلَ في مِثْل حالها، لا تَحِلُّ إلاَّ بِطُهُورٍ، ولا تجوز إلا بقِراءة، وما تجوز به المكتوباتُ من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحَضر وفي الأرْض وفي السفر، وأنَّ للرَّاكِب أنْ يصلِيَ في النَّافِلة حيث توجَّهَتْ بِه دابَّتُهُ.
 
أخْبَرَنا ابن أبي فُدَيْكٍ عن ابن أبي ذِئْبٍ عن عثمان بن عبد الله بن سُراقَةَ عن جابر بن عبد الله: ( أنَّ رسولَ اللهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا قِبَلَ المَشْرِقِ) <ref>[ مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909]</ref>
 
أخبرنا مسلم <ref>[هو ابن خالد الزنجي. ]</ref> عن ابن جُرَيْجٍ عن أبي الزبير عن جابر عن النَّبِيِّ مِثْلَ مَعْناه، لا أدْرِي، أسَمَّى بَنِي أنْمَارٍ أو لا؟ أو قال: (صَلَّى فِي سَفَرٍ).
 
وسنَّ رسولُ الله في صَلاة الأعْيَاد، والاسْتِسْقَاءِ سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود، وسنَّ في صلاة الكسوف، فزاد فيها ركعةً على ركوع الصلوات، فجَعَلَ في كل ركعة ركعتَيْنِ.
سطر 1٬120:
قال: فَحُكِيَ عن عائشة، وابن عباسٍ في هذه الأحاديث، صلاةُ النبي بِلَفْظٍ مختلفٍ، واجتمع في حديثهما معا على أنه صَلَّى صلاةَ الكُسُوفِ ركعتين، في كل ركعة ركعتين.
 
وقال الله في الصلاة: { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } <ref>[النساء: 103]</ref>
 
فَبَيَّنَ رسولُ الله عَن الله تِلك المَوَاقيتَ، وصلى الصلوات لوقتها، فحُوصرَ يومَ <ref>[الأحزاب، فلم يَقْدر على الصلاة في وقتها، فأخَّرَها للعُذْر، حتى صَلَّى الظهرَ والعصرَ والمغرِبَ والعشاءَ في مَقَامٍ واحِدٍ.
 
أخبرنا محمد بن إسماعيلَ بن أبي فُدَيْكٍ عن ابن أبي ذِئْبٍ عن المَقْبُرِيِّ عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، قال: (حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتّى كَانَ بَعْدَ المَغْرِبِ بِهَوِيٍّ <ref>[ بفتح الهاء ويجوز ضمها]</ref> مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } <ref>[الأحزاب: 25] </ref>
 
فَدَعَا رَسُولُ اللهِ بِلَالا فَأَمَرَهُ، فَأَقَامَ الظُّهْرَ فَصَلَّاها، فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يصَلِيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ العَصْرَ فَصَلَّاهَا هَكَذَا، ثُمَّ أَقَامَ المَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ العِشَاءَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ: { فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } <ref>[البقرة: 239]</ref> <ref>[أحمد: باقي مسند المكثرين/10769؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1483؛ مسند الشافعي: 553. ]</ref>
 
قال: فَبَيَّنَ أبو سعيد أنَّ ذلك قَبْل أنْ يُنَزِّلَ اللهُ على النبي الآيةُ التي ذُكرتْ فيها صلاةُ الخوْف.
 
والآيةُ التي ذُكِرَ فيها صَلَاةُ الخوف قوْلُ اللهِ: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا } <ref>[النساء: 101] </ref>
 
وقال: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ، فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } <ref>[النساء: 102]</ref>
 
أخبرنا مالك عن يزيد بن رُومَانَ عن صالح بن خَوَّاتٍ عَنْ مَنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَاةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقاَعِ: (أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وُجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكعَةَ التَّيِ بَقِيَتْ مِنْ َصَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ) <ref>[البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1390؛ النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/394. ]</ref>
 
أخبرني مَنْ سَمِعَ عبدَ الله بن عمر بن حَفْصٍ يَذْكُرُ عن أخيه عُبَيْدِ الله بن عمرَ عن القاسم بن محمد عن صالح بن خَوَّاتٍ عن أبيه خوَّات بن جُبَيْرٍ عن النبي مِثْلَ حديثِ يزيد بن رومان.
سطر 1٬140:
وفي هذا دلالة على ما وصفتُ قبْلَ هذا في (هذا الكتاب): مِنْ أن رسول الله إذا سَنَّ سنةً فأحدَثَ اللهُ إليه في تلك السنَّةِ نَسْخَهَا أو مَخْرَجًا إلى سَعَةٍ منها: سنَّ رسولُ الله سنةً تقومُ الحجةُ على الناس بها، حتى يكونوا إنَّمَا صاروا من سُنَّتِهِ إلى سُنَّتِهِ التي بَعْدَهَا. فنَسَخَ اللهُ تأخير الصلاة عَنْ وَقْتِها في الخوف إلى أنْ يُصَلُّوها - كما أنزل الله وسنَّ رسولُه - في وَقْتها، ونسخ رسول اللهُ سنتَه في تأخيرها بِفَرْض الله في كتابه ثم بِسُنته، صَلاها رسول الله في وقتها كما وصفتُ.
 
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، أُرَاهُ عن النبي، فَذَكَرَ صلاةَ الخوف، فقال: ( إنْ كَانَ خَوْفٌ أشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالا وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلِةِ أوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا) <ref>[ البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/396. ]</ref>
 
أخبرنا رجلٌ عن ابن أبي ذِئْب عن الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي مِثْلَ مَعْناه، ولم يَشُكَّ أنه عن أبيه، وأنه مَرْفوع إلى النبي.
سطر 1٬151:
 
 
قال الله: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } <ref>[البقرة: 43] </ref>
 
وقال: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } <ref>[النساء: 162] </ref>
 
وقال: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7) } <ref>[الماعون: 1،71، 7]</ref>
 
فقال بعضُ أهل العلم: هي الزكاةُ المفْروضة.
 
قال الله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ؛إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } <ref>[التوبة: 103]</ref>
 
فكان مَخْرَجُ الآية عاما على الأمْوال، وكان يحتمل أن تكون على بعض الأموال دون بعض، فدلتْ السنة على أن الزكاة في بعض الأموال دون بعض.
سطر 1٬165:
فلما كان المال أصنافا، منه الماشِيَةُ، فأخَذَ رسولُ الله مِن الإبل والغَنَم، وأمَر - فيما بَلَغنَا - بالأخْذ من البقر خاصة، دون الماشية سِواها، ثم أخَذ منها بِعَدَدٍ مُخْتلف، كما قَضَى اللهُ على لسان نبيه، وكان للناس ماشيةٌ مِن خَيْل وحُمُر وبِغَال وغيرها، فلَمَّا لم يأخذْ رسولُ الله مِنها شيئا، وسَنَّ أنْ ليس في الخيل صدقةٌ: استدللنا على أن الصدقة فيما أَخَذَ مِنه وأمر بالأخذ منه، دون غيره.
 
وكان للناس زَرْع وغِراس، فأخَذَ رسولُ الله من النَّخْل والعِنَب الزكاةَ بِخَرْصٍ <ref>[ الخَرْصُ: حرز على النخل من الرطب تمرا. مختار الصحاح]</ref> غيرُ مختلفٍ ما أَخَذَ منهما، وأخَذَ منهما مَعًا العُشْرَ إذا سُقِيَا بِسَماء أو عَيْنٍ، ونصْفَ العُشر إذا سُقِيَا بِغَرْبٍ <ref>[الغَرْبُ: الدَّلْوُ العظيمة <ref>[مختار الصحاح] </ref>
 
وقد أخَذَ بعضُ أهل العلم مِن الزيتون، قياسا على النخل والعنب.
سطر 1٬171:
ولم يَزَلْ للناس غِراسٌ غيرُ النخل والعنب والزيتون كثيرٌ، مِن الجَوْز واللَّوْز والتين وغيره، فلما لم يأخذ رسول الله منه شيئا، ولم يأمر بالأخذ منه، استدللنا على أن فرْضَ الله الصدقةَ فيما كان مِن غِراس: في بعضِ الغِرَاس دون بعضٍ.
 
وَزَرَعَ الناسُ الحِنْطَةَ والشعير والذُّرةَ، وأصْنافا سِواها، فَحَفِظْنا عَن رسول الله الأخْذَ مِن الحِنطة والشعير والذُّرة، وأَخَذَ مَن قَبْلَنَا مِن الدُّخْنِ والسُّلْت والعَلَس والأُرْزِ <ref>[الدُّخْنُ: حَبُّ الجَاوَرْسِ. القاموس المحيط، والجَاوَرْسُ: حب يشبه الذُّرة. النهاية في غريب الحديث. السُّلْتُ: الشعير، أو ضرب منه، أو الحامض منه. القاموس المحيط. العَلَسُ: ضرب من الحِنْطة، تكون حبتان في قشر، وهو طعام أهل صَنْعاء. مختار الصحاح. ]</ref> وكُلِّ ما نَبَّتَهُ <ref>[ نبَّته: غرسه وزرعه]</ref> الناسُ وَجَعَلُوهُ قُوتًا، خُبْزًا وعَصِيدَةً وسَوِيقًا وأُدْمًا، مثل الحِمَّصِ والقَطَاني <ref>[ القَطَانِيُّ: جمع قُطْنِيَّة مثلث القاف: حبوب الأرض، أو ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أوهي الحبوب التي تطبخ. القاموس المحيط. ] </ref>
 
فهي تصلح خبزا وسويقا وأدما، اتِّباعا لِمَنْ مَضَى، وقياسا على ما ثَبَتَ أنَّ رسول الله أَخَذَ مِنه الصدقةَ، وكان في معنى ما أخذ النبيُّ، لأن الناس نَبَّتُوه لِيَقْتَاتُوه.
 
وكان للناس نَبَاتٌ غيرُه، فلم يأخذ منه رسولُ الله، ولا مَنْ بَعْدَ رسولِ الله عَلِمْناه، ولم يكن في معنى ما أَخَذَ منه، و ذلك مثل الثُّفَّاءِ والأَسْبيوش والكُسْبرة وحَبِّ العُصْفُر <ref>[ الثُّفَّاءُ: الخردل. مختار الصحاح. الأسبيوش كلمة أعجمية: بزر معروف. الكُسْبرة وفي نسخة الكزبرة.] ]</ref>، وما أشبهه، فلم تكن فيه زكاة: فدلَّ ذلك على أن الزكاة في بعض الزَّرْعِ دون بعض.
 
وفرض رسول الله في الوَرِق <ref>[الوَرِقُ: الدراهم المضروبة مختار الصحاح - الرازي. ]</ref> صدقةً، وأَخَذَ المُسْلمون في الذهب بعده صدقةً، إمَّا بخبر عن النبي لمْ يَبْلُغْنا، جص وإما قياسا على أن الذهب والورِق نَقْدُ الناس الذي اكْتَنَزُوه وأجازوه أثْمَانا على ما تَبَايَعوا به في البلدان قَبْل الإسلام وبعده.
 
وللناس تِبْرٌ <ref>[التِّبْرُ: الذهب والفضة، أو فتاتهما قبل أن يُصاغا. القاموس المحيط - فيروزابادي] </ref>.
 
وكان الياقوتُ والزبرجدُ أكثرَ ثَمَنًا مِن الذهب والورِق، فلَمَّا لم يأخذ منهما رسول الله، ولم يأمُرْ بالأخذ ولا مَن بَعْدَه عَلِمْناه، وكانا مالَ الخاصَّةِ، وما لا يُقَوَّمُ به على أحد في شيء استهلكه الناسُ، لأنه غيرُ نَقْدٍ، لم يأخذ منهما. ]</ref> غيرُه، مِن نحُاس وحَدِيد ورَصَاصٍ، فلما لم يأخذ منه رسولُ الله ولا أحدٌ بعده زكاةً، تركناه، اتِّباعا بِتَرْكه، وأنه لا يجوز أن يقاس بالذهب والوَرِقِ، الَّذَيْنِ هما الثمن عاما في البلدان على غيرهما، لأنه في غيرِ مَعْناهما، لا زكاةَ فيه، ويَصْلُح أن يُشْتَرَى بالذَّهَب والورِق غيرُهما من التِّبْر إلى أجَلٍ مَعْلوم وبِوَزْن مَعْلُوم.
 
ثم كان ما نَقَلَتْ العامَّةُ عَنْ رسولِ الله في زَكاة الماشية والنَّقْد، أنه أخذها في كلِّ سنةٍ مرةً.
 
وقال الله: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } <ref>[الأنعام: 141] </ref>
 
فسَنَّ رسولُ الله أن يُؤخَذَ مما فيه زكاةٌ مِن نَبَاتِ الأرض، الغِراسِ وغيْرِه، على حُكْمِ اللهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -، يومَ يُحْصَدُ، لا وَقْتَ له غيرُه.
سطر 1٬191:
وسنَّ في الرِّكَازِ الخُمُسَ، فدَلَّ على أنه يَوْمَ يُوجَدُ، لا في وَقْتٍ غيْرِه.
 
أخبرنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيَّب وأبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَة، أنَّ رسولَ الله قال: (وَفِي الرِّكّازِ الخُمُسُ) <ref>[البخاري: كتاب الزكاة/1403؛ مسلم: كتاب الحدود/3226؛ الترمذي: كتاب الزكاة/581؛ النسائي: كتاب الزكاة/2428؛ أبو داود: كتاب اللقطة/1455؛ مالك: كتاب الزكاة/520 ]</ref>
 
ولولا دِلالةُ السُّنَّةِ كان ظاهرُ القُرَآن أنَّ الأمْوالَ كلَّها سَوَاءٌ، وأنَّ الزكاةَ في جَمِيعِهَا دون بعْضٍ.
سطر 1٬197:
==(في الحج)==
 
وفَرَضَ اللهُ الحجَّ على من يَجد السبيلَ، فَذُكِر عن النبي: أن السبيلَ الزَّادُ والمَرْكَب، وأخْبَرَ رسولُ الله بمَواقيتِ الحج وكيف التَّلْبِيَةُ فيه، وما سَنَّ، وما يَتَّقِي المُحرمُ مِن لُبْسِ الثِّياب والطِّيب، وأعمالِ الحج سِواها، مِن عرفةَ والمزدلفةِ والرَّميِ والحِلاَقِ والطواف، وما سِوى ذلك. فلو أن امْرَا لم يعْلم لرسول الله سنةً مع كتاب الله إلا ما وصَفْنا، مما سن رسول الله فيه معنى ما أنْزله الله جُمْلةً، وأنه إنما اسْتدرك ما وصفْتُ من فَرْض الله الأعمالَ، وما يُحَرِّم وما يُحِلُّ، ويُدْخَلُ به فيه ويُخْرَجُ منه، ومواقِيتِه، وما سَكَتَ عنه سِوى ذلك من أعماله: قامَتْ الحجَّة عليه بأن سنة رسول الله إذا قامت هذا المقام مع فرضِ الله في كتابه مرَّةً أو أكثرَ، قامتْ كذلك أبدا.
 
واستُدِلَّ أنه لا تُخالِف له سنة أبدا كتابَ الله، وأن سنَّتَه، وإنْ لم يكن فيها نصُّ كتاب: لازِمةٌ، بما وصفتُ من هذا، مع ما ذكرتُ سِواه، مما فَرَضَ اللهُ مِن طاعة رسولِهِ.
سطر 1٬211:
==(في العدد)==
 
قال الله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } <ref>[البقرة: 234] </ref>
 
وقال: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } <ref>[البقرة: 228]</ref>
 
وقال: { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } <ref>[الطلاق: 4]</ref>
 
فقال بعضُ أهلِ العلم: قد أوْجَبَ اللهُ على المُتَوَفَّى عنْها زوْجُها أربعةَ أشهُرٍ وعشْرًا، وذَكَرَ أن أجَلَ الحامِلِ أن تَضَعَ، فإذا جَمَعَتْ أنْ تكون حامِلا مُتَوَفَّى عنها، أتَتْ بالعِدَّتَيْنِ مَعًا،كمامَعًا، كما أجدها في كلِّ فرضَيْن جُعِلا عليها أتَتْ بهما معا.
 
قال: فلَمَّا قال رسولُ اللهِ لِسُبَيْعَة بنْتِ الحرثِ، ووضَعَتْ بعْدَ وَفَاةِ زوْجِها بأيامٍ: ( قَدْ حَلَلْتِ فَتَزَوَّجِي) <ref>[ البخاري: كتاب المغازي/3770؛ مسلم: كتاب الطلاق/1484؛ النسائي: كتاب الطلاق/3451؛ أبو داود: كتاب الطلاق/2306؛ أحمد: مسند القبائل/26167 ] </ref>، دلَّ هذا على أنَّ العِدة في الوفاة والعدةَ في الطلاق بالأقراءِ والشُّهور، إنما أرِيد بِهِ مَن لا حَمْلَ به من النساء، وأن الحمْلَ إذا كان فالعِدة سِواه ساقطةٌ.
 
==(في محرمات النساء)==
 
قال الله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ،فَإِنْبِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ،وَحَلَائِلُعَلَيْكُمْ، وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ،إِنَّسَلَفَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ،كِتَابَأَيْمَانُكُمْ، كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ،وَأُحِلَّعَلَيْكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } <ref>[النساء:23،24 23، 24]</ref>
 
فاحتملت الآية مَعْنَيَيْن: أحدُهما: أنَّ ما سَمَّى اللهُ مِن النِّساء مَحْرَمًا مُحَرَّمٌ، وَما سَكَتَ عنه حَلالٌ بالصَّمْت عنه، وبقول الله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }، وكان هذا المعنى هو الظاهرَ مِن الآيَة.
سطر 1٬244:
==(في محرمات الطعام)==
 
وقال الله لنبيه: { قُلْ: لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ،فَإِنَّهُخِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } <ref>[الأنعام: 145]</ref>
 
فاحتملتْ الآيةُ مَعْنَيَيْنِ: أحدُهما: أنْ لا يَحْرُمَ على طاعِمٍ أبَدا إلا ما اسْتَثْنَى اللهُ.
سطر 1٬252:
ولا يقال بخاصٍّ في كتاب الله ولا سُنةٍ إلا بِدِلالةٍ فيهما أو في واحِدٍ مِنهما. ولا يقال بخاصٍّ حتى تكون الآية تحتمل أن يكون أُرِيدَ بها ذلك الخاصُّ، فأمَّا ما لم تكنْ مُحْتَمِلةً له فلا يقال فيها بما لم تحتمل الآيةُ.
 
ويحتمل قولُ الله: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } <ref>[الأنعام: 145] </ref>، من شيء سُئِلَ عنْه رسولُ الله دون غَيْرِه.
 
ويَحْتمل: مِمَّا كُنْتُمْ تأكُلُونَ. وهذا أَوْلَى مَعَانِيه، استدلالا بالسُّنة عليه، دون غَيْرِه.
 
أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن أبي إدريسَ الخَوْلَانِيِّ عن أبي ثَعْلَبَةَ: ( أنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) <ref>[البخاري: كتاب الذبائح والصيد/5101؛ مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوانات/3570؛ الترمذي: كتاب الصيد/1397؛ النسائي: كتاب اليد والذبائح/4251؛ أبو داود: كتاب الأطعمة/3308؛ ابن ماجه: كتاب الصييد/3223؛ أحمد: مسند العشرة/1179]</ref>
 
أخبرنا مالك عن إسماعيلَ بن أبي حَكِيم عن عَبِيدَةَ بن سفيان الحَضْرَمِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبي قال: ( أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ ) <ref>[ مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوانات/3573؛ النسائي: كتاب الصيد والذبائح/4250؛ ابن ماجه: كتاب الصيد/3224؛ مالك: كتاب الصيد/940]</ref>
 
==عدة الوفاة==
سطر 1٬265:
(فيما تُمْسَكُ عَنْه المُعْتَدَّةُ مِن الوَفَاةِ ).
 
قال الله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ،وَاللَّهُبِالْمَعْرُوفِ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } <ref>[البقرة: 234] </ref>.
 
فذَكَر اللهُ أنَّ على المُتَوَفَّى عَنْهُنَّ عِدَّةً، وأنهُنَّ إذا بَلَغْنَهَا فَلهُنَّ أنْ يَفْعلْنَ في أنْفُسهِنَّ بالمَعْروف، ولم يَذْكر شيئا تجتنبه في العِدة.
سطر 1٬371:
قال: أفَتُوجِدُنِي الحُجَّةَ بما قلتَ في القُرَآن؟
 
فذكَرْتُ له بعضَ ما وصفتُ في كتاب: (السنَّةُ مع القُرَآن) <ref>[ لا أعرف له كتابا بهذا الاسم ولعله يريد ما ذكر على الجملة من أحوال السنة مع القرآن من هذا الكتاب والله أعلم.] ]</ref>، مِن أنَّ الله فَرَضَ الصلاةَ والزكاة والحجَّ، فَبَيَّنَ رسولُ اللهِ كيفَ الصلاةُ، وعَدَدَها، ومواقيتَها، وسُنَنَها، وفي كَمْ الزكاةُ مِن المال وما يَسْقُطُ عنه مِن المالِ ويَثْبُتُ عليه، ووقتَها، وكيف عَمَلُ الحجِّ، وما يُجْتَنَبُ فيه ويُبَاحُ.
 
قال: وذكرتُ له قولَ الله: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } <ref>[المائدة: 38، و { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } النور: 2، وأنَّ رسولَ الله لَمَّا سَنَّ القطْعَ على مَنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ ربع دينار فصاعِدا، والجَلْدَ على الحُرَّيْنِ البِكْرَيْنِ دون الثَّيِّبَيْنِ الحريْن والمملوكيْنِ: دلَّتْ سنةُ رسولِ الله على أنَّ الله أراد بها الخاصَّ من الزُّناة والسُّرَّاق، وإن كان مَخْرَجُ الكلام عاما في الظاهر على السراق والزناة.
 
قال: فهذا عنْدِي كما وصفْتَ، أفَتَجِدُ حُجَّةً على مَنْ رَوَى أنَّ النبي قال: ( مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوُه عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ) <ref>[ في كشف الخفاء لِلْعَجْلُونِيِّ: هذا حديث مِن أوْضَعِ المَوْضُوعَاتِ. ]</ref>
 
فقلْتُ له: ما رَوَى هذا أحدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ في شيء صَغُرَ وَلَا كَبُرَ، فيُقالَ لنا: قدْ ثَبَّتُّمْ حَدِيثَ مَنْ رَوَى هَذا في شَيْءٍ.
سطر 1٬385:
فقلتُ له: نعم.
 
أخبرنا سفيان قال: أخبرني سالمٌ أبو النَّضْر أنَّه سمِع عُبَيْد الله بن أبي رافِعٍ يُحَدِّثُ عن أبيه: أنَّ النبيَّ قال: ( لاَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولَ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ) <ref>[ الترمذي: كتاب العلم/2587؛ أبو داود: كتاب السنة/3989؛ ابن ماجه: المقدمة/13]</ref>
 
قال الشافعي: فَقَدْ ضَيَّقَ رسولُ الله على الناسِ أنْ يرُدُّوا أمْرَهُ، بِفَرْضِ اللهِ عليهم اتِّباعَ أَمْرِهِ.
سطر 1٬395:
قال: فَأَعِدْ منه شيئا.
 
قلتُ: قال الله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ،فَإِنْبِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ،وَحَلَائِلُعَلَيْكُمْ، وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ،كِتَابَأَيْمَانُكُمْ، كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ،وَأُحِلَّعَلَيْكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ(24) } <ref>[النساء:23،24 23، 24]</ref>
 
قال: وذَكَرَ اللهُ مَنْ حَرَّمَ، ثم قال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }، فقال رسولُ الله: (لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) <ref>[ البخاري: كتاب النكاح/4718؛ مسلم: كتاب النكاح/2514؛ الترمذي: كتاب النكاح/1045؛ النسائي: كتاب النكاح/3236؛ أبو داود: كتاب النكاح/1769؛مالك: كتاب النكاح/977]</ref>
 
فلمْ أَعْلَمْ مُخالِفًا في اتِّباعِه.
سطر 1٬423:
قال: فما وَجْهُهُ؟
 
قلت: لَمَّا قال: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } <ref>[المائدة: 6] </ref>
 
دلَّت السنةُ على أنَّ مَن كان على طَهارَةٍ ما لمَْ يُحْدِثْ فقامَ إلى الصلاةِ لم يكنْ عليه هذا الفَرْضُ، فكذلك دلت على أن فَرْضَ غَسْل القَدَمَيْنِ إنما هو على المُتَوَضِّئ لا خُفَّيْ عليه لَبِسَهُمَا كاملَ الطهارةِ.
 
وذكرتُ له تحريمَ النبيِّ كلَّ ذِي نابٍ مِن السِّباعِ، وقدْ قال الله: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ،أَوْرِجْسٌ، أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } <ref>[الأنعام: 145] </ref>
 
ثم سَمَّى ما حَرَّمَ.
سطر 1٬433:
فقال: فما معنى هذا؟
 
قلنا: معناه: قل لا أجد فيما يوُحَى إلَيَّ مُحَرَّمًا مما كنتم تأكلون إلا أن يكون مَيْتَةً وما ذُكِر بعدها، فأما ما تَرَكْتم أنكم لم تَعُدُّوه مِن الطَّيِّبات فلم يُحَرِّم عليكم مما كنتم تستحلون إلا ما سَمَّى اللهُ، ودلت السنةُ على أنه حرَّم عليكم منه ما كنتم تُحَرِّمون، لِقول الله: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } <ref>[الأعراف: 157] </ref>.
 
قال: وذكرتُ له قولَ الله: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } <ref>[البقرة: 275] </ref>
 
وقولَه: { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } <ref>[النساء: 29] </ref>
 
ثم حَرَّم رسولُ الله بيوعا، منها الدنانيرُ بالدَّراهم إلى أجلٍ، وغيرُها: فحرَّمَها المُسْلِمون بتحريم رسولِ اللهِ، فليس هذا ولا غيره خلافا لكتاب الله.
سطر 1٬443:
قال: فَحُدَّ لي معنى هذا بأجْمَعَ منه وأخْصَرَ.
 
فقلتُ له: لَمَّا كان في كتاب الله دِلالة على أنَّ الله قد وضَعَ رسولَه مَوْضع الإبانَةِ عنه، وفَرَض على خَلْقِه اتِّباعَ أمره، فقال: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } <ref>[البقرة: 275] </ref>
 
فإنما يعْني: أحَلَّ اللهُ البيْعَ إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتابه أو على لسان نبيه، وكذلك قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } <ref>[النساء: 24] </ref>
 
بما أحَلَّه اللهُ به مِن النكاح ومِلْك اليمين في كتابه، لا أنه أباحَهُ بكلِّ وجهٍ، وهذا كلام عربي.
سطر 1٬451:
وقلت له: لوْ جازَ أنْ تُتْرَكُ سنةٌ مما ذهب إليه من جَهِلَ مكانَ السنَنِ مِن الكتاب، تُرك ما وصفْنا مِن المسح على الخُفَّيْنِ، وإباحَةُ كلِّ ما لَزِمه اسمُ بيْعٍ، وإحلالُ أنْ يُجْمَعَ بين المرْأَةِ وعَمَّتها وخالتها، وإباحةُ كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع، وغيرُ ذلك.
 
ولَجاز أن يقال: سنَّ النبيُّ ألاَّ يُقْطَعَ مَن لمْ تبلغ سرِقَتُه ربعَ دينارٍ قبْلَ التَّنْزيلِ، ثم نَزَل عليه: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } <ref>[المائدة: 38] </ref>، فمن لزِمه اسمُ سَرِقةٍ قُطِعَ.
 
ولجاز أن يقال: إنما سن النبي الرجمَ على الثَّيِّب حتى نزلتْ عليه: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } <ref>[النور: 2] </ref>، فيُجْلَد البِكرُ والثيبُ، ولا نرْجُمُهُ.
 
وأن يقال في البيوع التي حرَّم رسولُ الله: إنما حرَّمَها قبْل التنزيل، فلما أُنْزِلتْ: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } <ref>[البقرة: 275] </ref>، كانت حَلالا.
 
والرِّبا: أن يكونَ للرَّجُل على الرجلِ الدَّيْنُ فَيَحِلُّ فيقولُ: أَتَقْضِي أمْ تَرْبِي؟ فيُؤَخِّرُ عنه ويزيده في ماله. وأشباهٌ لهذا كثيرةٌ.
سطر 1٬471:
قال: فيكفي منها بعضُها، فاذْكره مُخْتَصَرًا بَيِنًا.
 
فقلتُ: أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْمٍ عن عبد الله بن واقِدٍ عن عبد الله بن عُمر، قال: ( نَهَى رَسُوُل اللهِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ)، قال عبد الله بن أبي بكر: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ، فَقَالَتْ: صَدَقَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ تقول: (دَفَّ <ref>[ دَفَّ: (دَفَّت) الجماعةُ (تَدِفُّ) مِن باب: ضرب، (دَفِيفًا): سارتْ سيرا لَيِّنًا، فهي (دَافَّةٌ). المصباح المنير - الفَيُّومي. ]</ref> نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ حَضْرَةَ الأَضْحَى فِي زَمَانِ النَّبِيِّ، فَقَاَل النَّبِيُّ: ادَّخِرُوا لِثَلاَثٍ وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ، يُجْمِلُونَمِنْهَا الوَدَكَ <ref>[ الوَدَكُ: الدَّسَمُ. القاموس المحيط - فيروز آبادي.] ]</ref>
 
وَيَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رسولُ اللهِ: ومَا ذَاكَ، - أوْ كَمَا قَالَ -، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَهَيْتَ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ حَضْرَةَ الأَضْحَى، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وادّخِرُوا) <ref>[ مسلم: كتاب الأضاحي/3643؛ أبو داود: الضحايا/2429؛ مالك: كتاب الضحايا/918 ]</ref>
 
وأخبرنا ابن عُيَيْنَة عن الزهري عن أبي عُبَيْد مولى ابن أزْهَرَ، قال: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ علي بن أبي طالب فسَمِعتُهُ يقول: لاَ يَأْكُلَنَّ أحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ نُسُكِهِ بَعْدَ ثَلاَثٍ.
 
أخْبَرَنا الثِّقة عن مِعْمَرٍ عن الزهري عن أبي عبيد عن علي أنه قال: قال رسول الله: (لاَ يَأْكُلَنَّ أحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ نُسُكِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ) <ref>[ مسلم: كتاب الأضاحي/3639؛ النسائي: كتاب الضحايا/4347؛ أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/1131؛ مسند الشافعي/470]</ref>
 
أخبرنا ابن عيينة عن إبراهيم بن مَيْسَرَةَ قال: سمعت أنس بن مالك يقول: إنَّا لَنَذْبَحُ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ضَحَايَانَا، ثُمَّ نَتَزَوَّدُ بَقِيَّتَهَا إلىَ البَصْرَةِ.
سطر 1٬507:
==وجه آخر من الناسخ والمنسوخ==
 
أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيْكٍ عن ابن أبي ذِئْبٍ عن المَقْبُرِيِّ عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد الخُدْرِي، قال: (حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ المَغْرِبِ بِهَوِىٍ مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } <ref>[الأحزاب: 25] </ref>
 
قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ بِلاَلا، فَأَمَرَهُ فَأَقامَ الظُّهْرَ، فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلاَتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ العَصْرَ فَصَلاَّهاَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقاَمَ المَغْرِبَ فَصَلاَّهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أقَامَ العِشَاءَ، فَصَلاَّهَا كَذَلِكَ أيْضًا، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أنْ أَنْزَلَ اللهُ فِي صَلاَةِ الخَوْفِ: فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) <ref>[البقرة: 239]</ref> <ref>[أحمد: باقي مسند المكثرين/10769؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1483؛ مسند الشافعي: 553]</ref>
 
الشافعي: فَلمَّا حَكَى أبو سعيد أنَّ صَلاة النبي عامَ الخنْدَق كانت قَبْل أنْ يُنْزَلَ في صلاة الخوف: { فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } <ref>[البقرة: 239] </ref>
 
استدللنا على أنه لم يصل صلاة الخوف إلا بعدها، إذْ حضرها أبو سعيد، وحكى تأخيرَ الصَّلَوات حتى خَرَجَ مِن وَقْت عامَّتها، وحكى أنَّ ذلك قبْل نُزُول صلاةِ الخوْفِ.
سطر 1٬517:
قال: فلا تُؤَخَّر صلاةُ الخوف بحالٍ أبدا عَن الوقت إن كانتْ فِي حَضَرٍ، أو عن وقت الجَمْعِ في السَّفَرِ، بخوفٍ ولا غيره، ولكن تُصَلَّى كما صَلَّى رسولُ الله.
 
والذي أخَذْنا به في صلاة الخوف أنَّ مالكا أخبرنا عن يزيد بن رُومان عن صالح بن خَوَّاتٍ عَن مَن صَلَّى مَعَ رسولِ الله صلاة الخوف يوم ذات الرِّقاع: (أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالذين مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قاَئِمًا وأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وُجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاِتِه، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ) <ref>[ البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1390؛النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/394. ]</ref>
 
قال: أخبرنا مَنْ سمع عبدَ الله بن عمر بن حفص يُخْبِر عن أخيه عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات بن جبير عن أبيه عن النبي مِثْلَهُ.
سطر 1٬529:
==وجه آخر==
 
قال الله - تبارك وتعالى: { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا(15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا(16) } <ref>[النساء:15،16 15، 16]</ref>
 
فكان حدُّ الزانيين بهذه الآية الحبْسَ والأذى، حتى أنزلَ اللهُ على رسوله حَدَّ الزنا، فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } <ref>[النور: 2] </ref>
 
وقال في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } <ref>[النساء: 25]</ref>، فَنُسِخ الحبس عَن الزُّناة، وثَبَتَ عليهم الحُدُودُ.
 
ودلَّ قولُ الله في الإماء: { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } <ref>[النساء: 25] </ref>
 
على فَرْقِ اللهِ بَيْنَ حدِّ المَماليك والأحْرار في الزِّنا، وعلى أنَّ النصفَ لا يكونُ إلاَّ مِنْ جلْد، لأن الجلْدَ بِعَدَدٍ، ولا يكون مِن رَجْمٍ، لأن الرَّجمَ إتْيانٌ على النِّفْس بلا عدد، لأنه قد يُؤْتىَ عليها بِرَجْمَةٍ واحِدة، وبألفٍ وأكثرَ، فلا نِصْف لمِا لا يُعْلَمُ بعدد، ولا نصف للنفس فيؤتى بالرجم على نِصْف النفس.
سطر 1٬541:
واحتمل قولُ الله في سورة النور: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }، أن يكونَ على جميع الزُّناةِ الأحْرار، وعلى بَعْضِهِم دُون بعض، فاسْتَدللنا بسنة رسولِ الله - بِأَبي هو وأُمِّي - على مَنْ أُريدَ باِلمائة جَلدةٍ.
 
أخبرنا عبد الوهاب عن يونس بن عُبَيْدٍ عن الحسن عن عُبادَة بن الصَّامِت أنَّ رسولَ الله قال: (خُذُوا عَنِّي،خُذُواعَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا: البِكْرُ بِاْلبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَِّّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) <ref>[ مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛ أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252]</ref>
 
قال: فدلَّ قولُ رسولِ الله: (قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا)، على أنَّ هذا أولُ ما حُدَّ به الزُّناةُ، لأنَّ اللهَ يقول: { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلً } <ref>[النساء: 15]</ref>
 
ثم رَجَمَ رسولُ الله ماعِزا ولم يَجْلِده، وامْرَأة الأسْلَمي ولم يجْلدها، فدلتْ سنة سول الله على أن الجلد منسوخ عن الزانيين الثيبين.
سطر 1٬551:
وإذ كان قولُ النبي: (قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ)، ففي هذا دِلالة على أنَّه أوَّل ما نُسِخَ الحبْسُ عَن الزانيين، وحُدَّا بعد الحبس، وأنَّ كلَّ حَدٍّ حَدَّهُ الزانيين فلا يكون إلا بعد هذا، إذْ كان هذا أوَّلَ حَدِّ الزانيين.
 
أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عُبَيْد الله بن عبد الله عن أبي هُرَيْرَةَ وزيد بن خالد أنهما أخْبَرَاهُ: (أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ؟وَقَالَ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا -: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ،وَائْذِنْاللهِ، وَائْذِنْ لِي فِي أنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا <ref>[ العسيف: الأجير]</ref> عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأُخْبِرْتُ أنَّ عَلَى اِبْنِي الرَّجْمُ، <ref>[هكذا ضُبطت بالرفع ولها وجهٌ فيكون الاسم ضمير الشأن]</ref> فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وإنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، أمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ إِلَيْكَ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أَنِيسً <ref>[ رسمها هكذا جائز وقدمنا شرحه]</ref> الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) <ref>[ البخاري: كتاب الحدود/6337؛ النسائي: كتاب آداب القضاة/5315؛ مالك: كتاب الحدود/1293، قال مالك: العسيف: الأجير] </ref>.
 
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: (أَنَّ النَّبِيَّ رَجَمَ يَهُودِيَيْنِ زَنَيَا) <ref>[البخاري: كتاب الحدود/6330؛ مسلم: كتاب الحدود/3211؛ الترمذي: كتاب الحدود/1356؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2546] </ref>.
 
قال: فثبت جلدُ مائة والنفيُ على البِكْرين الزانيين، والرجمُ على الثيبين الزانيين.
سطر 1٬563:
==وَجه آخر==
 
أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك: (أنَّ النَّبِيَّ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ <ref>[ أي: انْخَدَشَ جِلْده. النهاية - ابن الأثير.] ]</ref>، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَه قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قال: إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ) <ref>[البخاري: كتاب الأذان/648؛ مسلم: كتاب الصلاة/622؛ النسائي: كتاب الإمامة/823؛ أبو داود: كتاب الصلاة/509؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1228؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/280. ]</ref>
 
أخبرنا مالك عن هشام بن عُرْوة عن أبيه، عن عائشة، أنها قالتْ: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَه قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ: أنْ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) <ref>[البخاري: كتاب الأذان/647؛ أحمد: مسند الأنصار/23994]</ref>
 
قال: وهذا مثل حديث أنس، وإنْ كان حديث أنس مُفَسَّرًا وأوْضَحَ مِن تَفْسيرِ هذا.
 
أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه: (أنَّ رَسُولَ اللهِ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ، فَأَتَى أبَا بكر وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَاسْتَأْخَرَ أبو بكر، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ إِلَى جَنْبِ أبي بكر، فَكَانَ أبو بكر يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أبي بكر) <ref>[ البخاري: كتاب الأذان/642؛ مسلم: كتاب الصلاة/635؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1223؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/282]</ref>
 
وبه يأخذ الشافعي.
 
قال: وذَكَرَ إبراهيم النَّخَعِيُّ عن الأسود بن يزيد عن عائشة عن رسول الله وأبي بكر مِثْل معنى حديث عروة: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى قَاعِدًا، وأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا،،قَائِمًا، ، يُصَلِّي بِصَلاَةِ النَّبِيِّ، وَهُمْ وَرَاءَه قِيَامًا)
 
قال: فلما كانتْ صلاة النبي في مرضه الذي مات فيه، قاعِدا والناس خلفه قياما، استدللنا على أنَّ أمرَه الناسَ بِالجُلوس في سَقْطَته عن الفرس: قبل مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه، قاعدا والناس خلفه قياما: ناسخةً، لأنْ يجلسَ الناس بجلوس الإمام.
سطر 1٬583:
وهكذا نقول: يصلي الإمامُ جالِسا ومَنْ خلْفه مِن الأصِحَّاء قِياما، فيُصَلي كلُّ واحِد فرْضَه، ولوْ وَكَّلَ غَيْرَه كان حَسَنًا.
 
وقد أوْهَمَ بعضُ الناس، فقال: لا يَؤُمَّنَّ أحَدٌ بعد النبي جالسا، واحتجَّ بحديثٍ رواه مُنْقَطِعٍ عن رجل مَرْغوب الرِّواية عنه، لا يَثْبُتُ بمثله حجة على أحدٍ، فيه: <ref>[لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا]</ref> <ref>[ البيهقي: كتاب الصلاة/باب ما روي في النهي عن الإمامة جالسا،ججالسا، ج 3/ص 80] </ref>.
 
قال: ولهذا أشباهٌ في السنة مِن الناسخ والمنسوخ.
سطر 1٬595:
فقلت له: قد ذكرتُ قبل هذا: أنَّ رسولَ الله صَلَّى صَلَاة الخوف يوم ذات الرِّقاع، فَصَفَّ بِطائفة، وطائفةٌ في غير صلاة بِإزَاءِ العدُوِّ، فصلى بالذين معه ركعة، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فوقفوا بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقِيَتْ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سَلَّمَ بهم.
 
قال: وروى ابن عمر عن النبي: أنَّهُ صَلَّى صَلاَةَ الخَوْفِ خِلاَفَ هَذِهِ الصَّلاَةِ فِي بَعْضِ أمْرِهَا، فَقَالَ: صَلَّى رَكْعَةً بِطَائِفَةٍ،وَطَائِفَةٌبِطَائِفَةٍ، وَطَائِفَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي وَرَاءَه، فَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ الرّكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَقَضَوْا مَعًا.
 
قال: وروى أبو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ: (أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى يَوْمَ عُسْفَانَ وخالدُ بن الوليد بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَصَفَّ بِالنَّاسِ مَعَهُ مَعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعُوا مَعًا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَحَرَسَتْهُ طَائِفَةٌ، فَلَمَّا قَامَ مِنَ السُّجُودِ سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوهُ، ثُمَّ قَامُوا فِي صَلاَتِهِ) <ref>[ النسائي: كتاب صلاة الخوف/1531؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1047]</ref>
 
وقال جابِرٌ قَرِيبا مِنْ هذا المعنى.
سطر 1٬623:
قال: فأيْنَ يُوافق كتابَ الله؟
 
قلت: قال الله: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ،وَلْيَأْخُذُوامَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ،وَلْتَأْتِوَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ،وَلْيَأْخُذُوامَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً،وَلَاوَاحِدَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ،وَخُذُواأَسْلِحَتَكُمْ، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } <ref>[النساء: 102] </ref>.
 
وقال: { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } <ref>[النساء: 103، يعني - والله أعلم -: فأقيموا الصلاة كما كنتم تصلون في غير الخوف.
 
فلما فرَّقَ الله بيْن الصلاة في الخوف وفي الأمْنِ، حِياطَةً لأهل دينه أنْ يَنال منهم عدوُّهم غِرَّة: فتعقَّبْنا حديث خوات بن جبير والحديث الذي يخالفه، فوجدنا حديث خوات بن جبير أوْلَى بالحَزْمِ في الحَذَر منه، وأحْرَى أن تَتَكَافَأ الطائفتان فيها.
سطر 1٬633:
قال: وكان الحقُّ للطائفتين مَعًا سَواءً، فكانت الطائفتان في حديث خوات سَواءً، تَحْرُس كلُّ واحِدة مِن الطائفتين الأُخْرى، والحارسة خارِجَة مِن الصلاة، فتكون الطائِفَة الأُولَى قد أعْطَتْ الطائفةَ التي حرستْهَا مِثلَ الذي أخذتْ منها، فحَرَسَتْها خَلِيَّةً مِن الصلاة، فكان هذا عدْلًا بيْن الطائفتين.
 
قال: وكان الحديث الذي يخالف حديث خوات بن جبير، على خِلاف الحَذَر، تَحْرسُ الطائفةُ الأُولى في ركعةٍ، ثم تنصرف المحروسة قبْلَ تُكْمِلَ <ref>[ هكذا هي بحذف (أن) وهو شاذ عند البصريين، منقاس عند الكوفيين وأجازه الأخفش بشرط رفع الفعل ولذلك ضبطناه بالوجهين. ]</ref> الصلاة، فتَحْرُس، ثم تصلي الطائفة الثانية محروسةً بطائفة في صلاة، ثم يقْضيان جميعا، لا حارس لهما، لأنه لم يخرج من الصلاة إلا الإمام، وهو وحْده ولا يُعني شيئا، فكان هذا خِلاف الحذر والقوَّة في المكيدة.
 
وقد أخبرنا الله أنه فرَّق بين صلاة الخوف وغيرها، نَظَرًا لأهل دينه أنْ لا ينال منهم عدوُّهم غِرَّةً، ولم تأخذ الطائفة الأولى مِن الآخرة مثلَ ما أخذتْ مِنها.
سطر 1٬649:
قال الشافعي: قال لي قائل: قد اختُلِفَ في التَّشَهُّدِ، فرَوَى ابن مسعود عن النبي: (أنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنَ القُرَآن)، فقال في مُبْتَدَاهُ ثلاث كلماتٍ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ)، فَبِأيِّ التشهد أخَذْتَ؟
 
فقلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيِّ أنَّه سمع عمر بن الخطاب يقول على المنبر، وهو يُعَلِّمُ الناس التشهُّدَ، يقول: قولوا: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) <ref>[ مالك: كتاب النداء للصلاة/189]</ref>
 
قال الشافعي: فكان هذا الذي عَلَّمَنا مَنْ سبَقَنا بالعلم مِنْ فُقهائنا صِغارا، ثم سمعناه بإسنادٍ وسمعنا ما خالَفَه، فلم نسمع إسنادا في التشهد، يخالِفه ولا يُوافقه: أثْبَتَ عِندنا منه، وإنْ كان غيرُه ثابِتًا.
سطر 1٬659:
قال: وما هو؟
 
قلت: أخبرنا الثقة، وهو يحي بن حسَّان عن الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس أنَّه قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا القُرَآن، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) <ref>[مسلم: كتاب الصلاة/610؛ الترمذي: كتاب الصلاة/267؛ النسائي: كتاب التطبيق/1161؛ أبو داود: كتاب الصلاة/828]</ref>
 
قال الشافعي: فقال: فأنَّى تَرَى الروايةَ اختلفَتْ فيه عَن النبي؟ فرَوَى ابن مسعود خِلافَ هذا، ورَوَى أبو موسى خِلاف هذا، وجابِرٌ خلاف هذا، وكلُّها قد يُخالِف بعضُها بعْضا في شيء مِنْ لفْظِه، ثم علَّمَ عمر خلاف هذا كلِّه في بعض لفظه، وكذلك تشهُّدُ عائشة، وكذلك تشهد ابن عمر، ليس فيها شيء إلا في لفظه شيء غيرُ ما في لفْظ صاحبِه، وقد يزيدُ بعضُها الشيءَ على بَعْضٍ.
سطر 1٬677:
قال: وما هو؟
 
قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيِّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: (سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أعْجَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ <ref>[ لَبَّبْتُهُ: أخذتُ مِن ثيابه، ما يقع على اللُّبة، وهي المَنْحَر. المصباح المنير - الفيومي. ]</ref> فَجِئْتُ بِهِ إلَى النَّبِيِّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إنَّ هَذَا القُرَآن أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ]</ref> <ref>[ البخاري: كتاب الخصومات/2241؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1354؛ الترمذي: كتاب القراءات/2827؛ النسائي: كتاب الافتتاح/928]</ref>
 
قال: فإذ كان الله لِرَأْفته بخلْقِه أنزل كتابَه على سبْعة أحْرف، معرفةً منه بأنَّ الحفْظَ قدْ يَزِلُّ، لِيُحِلَّ لهم قراءته وإنْ اختلف اللفظُ فيه، ما لم يكن في اختلافهم إحالةُ معنى: كان ما سِوَى كتابِ الله أوْلَى أنْ يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُحِلْ معْناه.
سطر 1٬683:
وكل ما لم يكن فيه حُكْمٌ، فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه.
 
وقد قال بعضُ التابعين: لَقِيتُ أُناسا مِن أصحاب رسول الله، فاجتمعوا في المعنى واختلفوا عليَّ في اللفظ، فقلْتُ لبعضهم ذلك، فقالَ: لا بأس ما لمْ يُحِيلُِ <ref>[ هكذا هو بالياء على صورة المرفوع ويجوز رفعُه على إهمال (لم) كما هي لغة قومٍ، وكسرُه تخلصا من التقاء الساكنين والياء إشباع لحركة الحاء. ]</ref> المعنى.
 
قال الشافعي: فقال: ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإنِّي لأرْجو أن يكون كلُّ هذا فيه واسِعا، وأن لا يكون الاختلافُ فيه إلاَّ مِن حيْثُ ذكرْتَ، ومثلُ هذا _ كما قلْتَ _ يُمْكِن في صلاة الخوف، فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه رُوِيَ عن النبي أجْزَأَهُ، إذ خالَفَ اللهُ بيْنها وبيْن ما سِواها مِن الصلوات، ولكن كيْف صِرْتَ إلى اختيار حديث ابن عباس عن النبي في التشهد دون غيره؟
سطر 1٬691:
==اختلاف الرواية على وجه غير الذي قبله==
 
أخبرنا مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا <ref>[الشف: الربح والزيادة. النهاية - ابن الأثير. ]</ref> بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق <ref>[ الورق: الدراهم المضروبة <ref>[مختار الصحاح - الرازي]</ref> ]</ref> بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز <ref>[الناجز: الحاضر. القاموس المحيط - فيروزآبادي. ]</ref> <ref>[ البخاري: كتاب البيوع/2031؛ مسلم: كتاب المساقاة/2964؛ الترمذي: كتاب البيوع/1162؛ النسائي: كتاب البيوع/4494؛ مالك: كتاب البيوع/1145]</ref>
 
أخبرنا مالك عن موسى بن أبي تميم عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله قال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما <ref>[ مسلم: كتاب المساقاة/2974؛ النسائي: 4491؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2247؛ مالك: كتاب البيوع/1144]</ref>
 
أخبرنا مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن ابن عمر أنه قال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم <ref>[ النسائي: كتاب البيوع/4492؛ مالك: كتاب البيوع/1146]</ref>
 
قال الشافعي: وروى عثمان بن عفان وعبادة بن الصامت عن رسول الله النهي عن الزيادة في الذهب بالذهب، يدا بيد <ref>[ مسلم: كتاب المساقاة/2970؛ الترمذي: كتاب البيوع/1161؛ النسائي: كتاب البيوع/4484؛ أبو داود: كتاب البيوع/2907]</ref>
 
قال الشافعي: وبهذه الأحاديث نأخذ، وقال بمثل معناها الأكابر من أصحاب رسول الله، وأكثر المفتيين بالبلدان.
 
أخبرنا سفيان أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي قال: (إنما الربا في النسية) <ref>[ النسيئة: التأخير. المصباح المنير - الفيومي. ]</ref> <ref>[ مسلم: كتاب المساقاة/2991؛ الترمذي: كتاب البيوع/1162؛ النسائي: كتاب البيوع/4505؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2248]</ref>
 
قال: فأخذ بهذا ابن عباس ونفر من أصحابه المكيين وغيرهم.
سطر 1٬725:
==وجه آخر مما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف==
 
أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن العجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله قال: (أسفروا بالفجر، فإن ذلك أعظم للأجر، أو: أعظم لأجوركم ) <ref>[ الترمذي: كتاب الصلاة/142؛ النسائي: كتاب المواقيت/545؛ أحمد: مسند الشاميين/16641]</ref>
 
أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (كن النساء من المؤمنات يصلين مع النبي الصبح، ثم ينصرفن وهن متلفعات بمروطهن <ref>[ تلفعت المرأة بمرطها: مثل: تلحفت به - وزنا ومعنى؛ والمرط: كساء من صوف أو خز، يؤتزر به، وتتلفع المرأة به. المصباح المنير - الفيومي.] ]</ref>، ما يعرفهن أحد من الغلس <ref>[ الغلس: ظلام آخر الليل. المصباح. ) <ref>[ البخاري: كتاب الصلاة/359؛ النسائي: كتاب المواقيت/543؛ أحمد: مسند الأنصار/22967]</ref>
 
قال: وذكر تغليس النبي بالفجر سهل بن سعد وزيد بن ثابت وغيرهما من أصحاب رسول الله، شبيه بمعنى عائشة.
سطر 1٬745:
قال: وهكذا نقول ويقول أهل العلم.
 
قلت: فحديث عائشة أشبه بكتاب الله، لأن الله يقول: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } <ref>[البقرة: 238] </ref>
 
فإذا حل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم الصلاة.
سطر 1٬755:
قال: وأي سنن؟
 
قلت: قال رسول الله: (أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله) <ref>[ الترمذي: كتاب الصلاة/158]</ref>
 
وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئا، والعفو لا يحتمل إلا معنيين: عفو عن تقصير، أو توسعة، والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها، إذ لم يؤمر بترك ذلك الغير الذي وسع في خلافها.
سطر 1٬763:
قلت: إذ لم نؤمر بترك الوقت الأول، وكان جائزا أن نصلي فيه وفي غيره قبله، فالفضل في التقديم، والتأخير تقصير موسع.
 
وقد أبان رسول الله مثل ما قلنا، وسئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة في أول وقتها <ref>[ أبو داود: كتاب الصلاة/362]</ref>
 
وهو لا يدع موضع الفضل، ولا يأمر الناس إلا به.
سطر 1٬773:
قال: وأين هو من الكتاب؟
 
قلت: قال الله: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } <ref>[البقرة: 238] </ref>
 
ومن قدم الصلاة في أول وقتها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخرها عن أول الوقت.
سطر 1٬801:
قال: فما جعل معناكم أولى من معنانا؟
 
فقلت: بما وصفت من التأويل، وبأن النبي قال: هما فجران، فأما الذي كأنه ذنب السرحان <ref>[السرحان: الذئب وقيل: الأسد، ويقال للفجر الكاذب: سرحان - على التشبيه <ref>[المصباح المنير - الفيومي] </ref>.] ]</ref>، فلا يحل شيئا ولا يحرمه، وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة ويحرم الطعام <ref>[سنن البيهقي: كتاب الصلاة/باب: الفجر فجران،جفجران، ج 2/ص 377] </ref>، يعني: على من أراد الصيام.
 
==وجه آخر مما يعد مختلفا==
 
أخبرنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي قال: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لغايط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد صنعت، فننحرف ونستغفر الله) <ref>[ البخاري: كتاب الصلاة/380؛ مسلم: كتاب الطهارة/388؛ الترمذي: كتاب الطهارة/8؛ النسائي: كتاب الطهارة/21]</ref>
 
أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبانط عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: (إن ناسا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله: لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته) <ref>[ البخاري: كتاب الوضوء/142؛ النسائي: كتاب الطهارة/23؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/408]</ref>
 
قال الشافعي: أدب رسول الله من كان بين ظهرانيه، وهم عرب، لا مغتسلات لهم أو لأكثرهم في منازلهم، فاحتمل أدبه لهم معنيين:
 
- أحدهما: أنهم إنما كانوا يذهبون لحوايجهم في الصحراء، فأمرهم ألا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها، لسعة الصحراء، ولخفة المؤونة عليهم، لسعة مذاهبهم عن أن تستقبل القبلة أو تستدبر لحاجة الإنسان من غايط أو بول، ولم يكن لهم مرفق <ref>[ مرفق بوزن مجلس ومنبر: مصدر رفق به]</ref> في استقبال القبلة ولا استدبارها أوسع عليهم من توقى ذلك.
 
وكثيرا ما يكون الذاهبون في تلك الحال في غير ستر عن مصلي <ref>[هكذا هي في الأصل بإثبات الياء. قال الشيخ أحمد شاكر: وهو جائز فصيح خلافا لما يظنه أكثر الناس] </ref>، يرى عوراتهم مقبلين ومدبرين، إذا استقبل القبلة، فأمروا أن يكرموا قبلة الله ويستروا العورات من مصلي، إن صلى حيث يراهم، وهذا المعنى أشبه معانيه، والله أعلم.
 
وقد يحتمل أن يكون نهاهم أن يستقبلوا ما جعل قبلة في صحراء لغائط أو بول، لئلا يتغوط أو يبال في القبلة، فتكون قذرة بذلك، أو من ورائها، فيكون من ورائها أذى للمصلين إليها.
سطر 1٬831:
==وجه آخر من الاختلاف==
 
أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: أخبرني الصعب بن جثامة (أنه سمع النبي يسأل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال رسول الله: هم منهم. وزاد عمرو بن دينار عن الزهري هم من آبائهم) <ref>[ البخاري: كتاب الجهاد والسير/2790؛ مسلم: كتاب الجهاد والسير/3281؛ أبو داود: كتاب الجهاد/2298؛ ابن ماجه: كتاب الجهاد/2829. ]</ref>
 
أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن عمه: أن النبي لما بعث إلى ابن أبي الحقيق( نهى عن قتل النساء والولدان) <ref>[ أبو داود: كتاب الجهاد/2298؛ مالك: كتاب الجهاد/856. ]</ref>
 
قال: فكان سفيان يذهب إلى أن قول النبي: هم منهم إباحة لقتلهم، وأن حديث ابن أبي الحقيق ناسخ له، وقال: كان الزهري إذا حدث حديث الصعب بن جثامة، أتبعه حديث ابن كعب.
سطر 1٬849:
ولا يكون له قتلهم عامدا لهم متميزين عارفا بهم.
 
فإنما نهى عن قتل الولدان: لأنهم لم يبلغوا كفرا فيعملوا به، وعن قتل النساء: لأنه لا معنى فيهن لقتال وأنهن والولدان يتخولون <ref>[ يتخذون خولا أي عبيدا وإماء ]</ref> فيكونون قوة لأهل دين الله.
 
فإن قال قائل: أبن هذا بغيره.
سطر 1٬857:
فإن قال: أفتجد ما تشده به غيره، وتشبهه من كتاب الله؟
 
قلت: نعم، قال الله: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وكان الله عليما حكيما } <ref>[النساء: 92]</ref>
 
قال: فأوجب الله بقتل المؤمن خطأ الدية وتحرير رقبة، وفي قتل ذي الميثاق الدية وتحرير رقبة، إذا كانا معا ممنوعي الدم، بالإيمان والعهد والدار معا، فكان المؤمن في الدار غير الممنوعة وهو ممنوع بالإيمان، فجعلت فيه الكفارة بإتلافه، ولم يجعل فيه الدية، وهو ممنوع الدم بالإيمان، فلما كان الولدان والنساء من المشركين لا ممنوعين بإيمان ولا دار: لم يكن فيهم عقل ولا قود ولا دية ولا مأثم - إن شاء الله - ولا كفارة.
سطر 1٬865:
فقال: فاذكر وجوها من الأحاديث المختلفة عند بعض الناس أيضا.
 
فقلت: أخبرنا مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) <ref>[ البخاري: كتاب الجمعة/830؛ مسلم: كتاب الجمعة/1397؛ النسائي: كتاب الجمعة/1360؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/210]</ref>
 
أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه، أن النبي قال: ( من جاء منكم الجمعة فليغتسل) <ref>[ البخاري: كتاب الجمعة/845؛ مسلم: كتاب الجمعة/1394]</ref>
 
قال الشافعي: فكان قول رسول الله في: (غسل يوم الجمعة واجب)، وأمره بالغسل، يحتمل معنيين: الظاهر منهما أنه واجب، فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل، ويحتمل واجب في الاختيار والأخلاق والنظافة.
 
أخبرنا مالك عن الزهري عن سالم قال: ( دخل رجل من أصحاب النبي يوم الجمعة، وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: أيت ساعة هذه، فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق، فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: الوضوء أيضا! وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل؟! ) <ref>[ البخاري: كتاب الجمعة/829؛ مسلم: كتاب الجمعة/1395]</ref>
 
أخبرنا الثقة عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه مثل معنى حديث مالك، وسمى الداخل يوم الجمعة بغير غسل: عثمان بن عفان.
 
قال: فلما حفظ عمر عن رسول الله أنه كان يأمر بالغسل، وعلم أن عثمان قد علم من أمر رسول الله بالغسل، ثم ذكر عمر لعثمان أمر النبي بالغسل، وعلم عثمان ذلك: فلو ذهب على متوهم أن عثمان نسي، فقد ذكره عمر قبل الصلاة بنسيانه، فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولما لم يأمره عمر بالخروج للغسل: دل ذلك على أنهما قد علما أن أمر رسول الله بالغسل على الاختيار <ref>[ لم ينفرد الشافعي بهذا التأويل فقد ذهب إليه مالك أيضا وغيره. ورده ابن حزم في المحلى 2/19 وابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام 2/109،111109، 111 ردا بليغا ومال إليه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة ص 306 وفرق بين وجوبه وبين شرطيته لصحة الصلاة فأثبت الأول ونفى الثاني] </ref>، لا على أن لا يجزئ غيره، لأن عمر لم يكن ليدع أمره بالغسل، ولا عثمان إذ علمنا أنه ذاكر لترك الغسل، وأمر النبي بالغسل: إلا والغسل - كما وصفنا - على الاختيار.
 
قال: وروى البصريون أن النبي قال: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمة، ومن اغتسل فالغسل أفضل <ref>[ الترمذي: كتاب الجمعة/457؛ النسائي: كتاب الجمعة/1363؛ أبوداود: كتاب الطهارة/300؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1081]</ref>
 
أخبرنا سفيان عن يحيى عن عمرة عن عائشة قالت: (كان الناس عمال أنفسهم، وكانوا يروحون بهيآتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم) <ref>[ البخاري: كتاب الجمعة/853؛ أبو داود: كتاب الطهارة/298؛ أحمد: باقي مسند الأنصار/23203. ]</ref>
 
==النهي عن معنى دل عليه معنى في حديث غيره==
 
أخبرنا مالك عن أبي الزناد ومحمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) <ref>[ البخاري: كتاب النكاح/4747؛ النسائي: كتاب النكاح/3188؛ أبو داود: كتاب النكاح/1782؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/9572]</ref>
 
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي، أنه قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) <ref>[مالك: كتاب النكاح/965]</ref>
 
قال الشافعي: فلو لم تأت عن رسول الله دلالة على أن نهيه عن أن يخطب على خطبة أخيه على معنى دون معنى: كان الظاهر أن حراما أن يخطب المرء على خطبة غيره من حين يبتدئ إلى أن يدعها.
سطر 1٬899:
فإن قال: فأين هي؟
 
قيل له - إن شاء الله -: أخبرنا مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس: (أن زوجها طلقها، فأمرها رسول الله أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال: إذا حللت فآذنيني، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله: فأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، قالت: فكرهته، فقال: انكحي أسامة، فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت به) <ref>[ مسلم: كتاب الطلاق/2709؛ النسائي: كتاب النكاح/3193؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1944؛ مالك: كتاب الطلاق/1064]</ref>
 
قال الشافعي: فبهذا قلنا.
سطر 1٬905:
ودلت سنة رسول الله في خطبته فاطمة على أسامة بعد إعلامها رسول الله أن معاوية وأبا جهم خطباها، على أمرين:
 
- أحدهما: أن النبي يعلم أنهما لا يخطبانها إلا وخطبة أحدهما بعد خطبة الآخر، فلما لم ينهها ولم يقل لها ما كان لواحد أن يخطبك حتى يترك الآخر خطبتك، وخطبها على أسامة بن زيد بعد خطبتهما: فاستدللنا على أنها لم ترضى، <ref>[ هكذا هو في الأصل بإثبات الألف وقد قدمنا توجيه نحوه وأنه جائز في التعليق على ص 275]</ref>
 
ولو رضيت واحدا منهما أمرها أن تتزوج من رضيت، وأن إخبارها إياه بمن خطبها، إنما كان إخبارا عما لم تأذن فيه، ولعلها استشارة له، ولا يكون أن تستشيره وقد أذنت بأحدهما.
سطر 1٬919:
==النهي عن معنى أوضح من معنى قبله==
 
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار) <ref>[ البخاري: كتاب البيوع/1969؛ مسلم: كتاب البيوع/2721؛ النسائي: كتاب البيوع/4404؛ مالك: كتاب البيوع/1177]</ref>
 
أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه) <ref>[ البخاري: كتاب البيوع/1996؛ الترمذي: كتاب النكاح/1053؛ النسائي: كتاب البيوع/4430]</ref>
 
قال الشافعي: وهذا معنى يبين أن رسول الله قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وأن نهيه عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، إنما هو قبل أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.
سطر 1٬931:
ألا ترى أنه لو باعه ثوبا بعشرة دنانير، فلزمه البيع قبل أن يتفرقا من مقامهما ذلك، ثم باعه آخر خيرا منه بدينار: لم يضر البائع الأول، لأنه قد لزمه عشرة دنانير لا يستطيع فسخها؟!
 
قال: وقد روي عن النبي أنه قال: (لا يسوم أحدكم على سوم أخيه) <ref>[مسلم: كتاب النكاح/2519؛ الترمذي: كتاب البيوع/1213؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2163؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/8966] </ref>، فإن كان ثابتا، ولست أحفظه ثابتا، فهو مثل: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)، لا يسوم على سومه إذا رضي البيع وأذن بأن يباع قبل البيع، حتى لو بيع لزمه.
 
فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟
سطر 1٬939:
==النهي عن معنى يشبه الذي قبله في شيء ويفارقه في شيء غيره==
 
أخبرنا مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة: (أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس) <ref>[البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/553؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1366؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/461]</ref>
 
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال: (لا يتحرى <ref>[ هكذا هو بإثبات الألف وتكرر غير مرة نحوه وتمحل الشراح في تأويله فعدوا (لا) نافية وهو غير سديد وقدمنا توجيه نحوه في التعليق على ص 275 وأنه إشباع للحركة قبل الحرف]</ref> أحدكم بصلاته عند طلوع الشمس ولا عند غروبها) <ref>[البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/550؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1369؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/460. ]</ref>
 
أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي، أن رسول الله قال: (إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، ثم إذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، ونهى رسول الله عن الصلاة في تلك الساعات) <ref>[ النسائي: كتاب المواقيت/556؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/457]</ref>
 
فاحتمل النهي من رسول الله عن الصلاة في هذه الساعات معنيين:
 
- أحدهما: - وهو أعمهما - أن تكون الصلوات كلها، واجبها الذي نسي ونيم عنه، وما لزم بوجه من الوجوه منها: محرما في هذه الساعات، لا يكون لأحد أن يصلي فيها، ولو صلى لم يؤدي <ref>[ هكذا ثبت بالياء وانظر التعليق على ص 275]</ref> ذلك عنه ما لزمه من الصلاة، كما يكون من قدم صلاة قبل دخول وقتها لم تجزي عنه.
 
واحتمل أن يكون أراد به بعض الصلاة دون بعض.
سطر 1٬961:
قال: وهكذا غير هذا من حديث رسول الله، هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفت، أو بإجماع المسلمين: أنه على باطن دون ظاهر، وخاص دون عام، فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة عليه، ويطيعونه في الأمرين جميعا.
 
أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج يحدثونه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) <ref>[ مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة/956؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/9575؛ مالك: كتاب وقوت الصلاة/4(1) ]</ref>
 
قال الشافعي: فالعلم يحيط أن المصلي ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس والمصلي ركعة من العصر قبل غروب الشمس، قد صليا معا في وقتين يجمعان تحريم وقتين، وذلك أنهما صليا بعد الصبح والعصر، ومع بزوغ الشمس ومغيبها، وهذه أربعة أوقات منهي عن الصلاة فيها.
سطر 1٬967:
لما جعل رسول الله المصلين في هذه الأوقات مدركين لصلاة الصبح والعصر، استدللنا على أن نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات على النوافل التي لا تلزم، وذلك أنه لا يكون أن يجعل المرء مدركا لصلاة في وقت نهي فيه عن الصلاة.
 
أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن رسول الله قال: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله يقول: { أقم الصلاة لذكري(14) } طه: 14 ) <ref>[ البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/562؛ النسائي: كتاب المواقيت/615؛ أبو داود: كتاب الصلاة/371؛ ابن ماجه: كتاب الصلاة/689؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1201]</ref>
 
وحدث أنس بن مالك وعمران بن حصين عن النبي مثل معنى حديث ابن المسيب، وزاد أحدهما: أو نام عنها.
 
قال الشافعي: فقال رسول الله: فليصلها إذا ذكرها، فجعل ذلك وقتا لها، وأخبر به عن الله - تبارك وتعالى - ولم يستثني <ref>[ هكذا هي بالياء وكثر مجيء نحوها كثرة يطمأن إلى صحتها ويركن إلى مذهبها. وانظر ص 275]</ref>
 
وقتا من الأوقات يدعها فيه بعد ذكرها.
 
أخبرنا ابن عيينة عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم أن النبي قال: (يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلى، أي ساعة شاء، من ليل أو نهار) <ref>[ الترمذي: كتاب الحج/795؛ النسائي: كتاب المواقيت/581؛ أبو داود: كتاب المناسك/1618؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1244؛]</ref>
 
أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن عطاء عن النبي مثل معناه، وزاد فيه: يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، ثم ساق الحديث.
سطر 1٬985:
وصلى المسلمون على جنائزهم عامة بعد العصر والصبح، لأنها لازمة.
 
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن عمر بن الخطاب طاف بعد الصبح، ثم نظر فلم يرى <ref>[ انظر الحاشية من المقطع السابق مباشرة]</ref> الشمس طلعت، فركب حتى أتى ذا طوى وطلعت الشمس، فأناخ فصلى: فنهى عن الصلاة للطواف بعد العصر وبعد الصبح، كما نهى عما لا يلزم من الصلاة.
 
قال: فإذا كان لعمر أن يؤخر الصلاة للطواف، فإنما تركها لأن ذلك له، ولأنه لو أراد منزلا بذي طوى لحاجة كان واسعا له - إن شاء الله -، ولكن سمع النهي جملة عن الصلاة، وضرب المنكدر عليها بالمدينة بعد العصر، ولم يسمع ما يدل على أنه إنما نهى عنها للمعنى الذي وصفنا، فكان يجب عليه ما فعل.
سطر 2٬011:
==باب آخر==
 
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: (أن رسول الله نهى عن المزابنة. والمزابنة: بيع الثمر بالتمر كيلا، وبيع الكرم بالزبيب كيلا) <ref>[البخاري: كتاب البيوع/2026؛ مسلم: كتاب البيوع/2846؛ مالك: كتاب البيوع/1140]</ref>
 
أخبرنا مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان أن زيدا أبا عياش أخبره عن سعد بن أبي وقاص: (أنه سمع النبي سئل عن شراء التمر بالرطب؟ فقال النبي: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك) <ref>[ الترمذي: كتاب البيوع/1146؛ النسائي: كتاب البيوع/4469؛ أبو داود: كتاب البيوع/2915؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2255؛ مالك: كتاب البيوع/1139]</ref>
 
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت: (أن رسول الله رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها) <ref>[ البخاري: كتاب البيوع/2039؛ مسلم: كتاب البيوع/2838؛ مالك: كتاب البيوع/1131]</ref>
 
أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن زيد بن ثابت: (أن النبي رخص في العرايا) <ref>[ البخاري: كتاب البيوع/2028؛ مسلم: كتاب البيبوع/2043؛ النسائي: كتاب البيوع/4460]</ref>
 
قال الشافعي: فكان بيع الرطب بالتمر منهيا عنه، لنهي النبي، وبين رسول الله أنه إنما نهى عنه لأنه ينقص إذا يبس، وقد نهى عن التمر بالتمر إلا مثلا بمثل، فلما نظر في المتعقب من نقصان الرطب إذا يبس، كان لا يكون أبدا مثلا بمثل، إذ كان النقصان مغيبا لا يعرف، فكان يجمع معنيين: أحدهما التفاضل في المكيلة؛ والآخر المزابنة، وهي بيع ما يعرف كيله بما يجهل كيله من جنسه، فكان منهيا لمعنيين
سطر 2٬025:
==وجه يشبه المعنى الذي قبله==
 
وأخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن موهب أنه أخبره عن عبد الله بن محمد بن صيفي عن حكيم بن حزام أنه قال: قال لي رسول الله: (ألم أنبأ، - أو ألم يبلغني، أو كما شاء الله من ذلك: أنك تبيع الطعام؟ قال حكيم: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله: لا تبيعن طعاما حتى تشتريه وتستوفيه) <ref>[ النسائي: كتاب البيوع/4523؛ أحمد: مسند المكثرين/14789]</ref>
 
أخبرنا سعيد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء ذلك أيضا عن عبد الله بن عصمة عن حكيم بن حزام أنه سمعه منه عن النبي.
 
أخبرنا الثقة عن أيوب بن أبي تميمة عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قال: ( نهاني رسول الله عن بيع ما ليس عندي) <ref>[ الترمذي: كتاب البيوع/1153؛ أحمد: مسند المكيين/14774. ]</ref>
 
يعني بيع ما ليس عندك، وليس بمضمون عليك.
 
أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس قال: (قدم رسول الله المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين، فقال رسول الله: من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم) <ref>[ البخاري: كتاب السلم/2085؛ مسلم: كتاب المساقاة/3010؛ الترمذي: كتاب البيوع/1232؛ النسائي: كتاب البيوع/4537. ]</ref>
 
قال الشافعي: حفظي: وأجل معلوم.
سطر 2٬051:
ولزم أهل العلم أن يمضوا الخبرين على وجوههما، ما وجدوا لإمضائهما وجها، ولا يعدونهما مختلفين وهما يحتملان أن يمضيا، وذلك إذا أمكن فيهما أن يمضيا معا، أو وجد السبيل إلى إمضائهما، ولم يكن منهما واحد بأوجب من الآخر.
 
ولا ينسب الحديثان إلى الاختلاف، ما كان لهما وجها <ref>[ هكذا بالنصب وهو ترب لشواهد سبقت ]</ref>
 
يمضيان معا، إنما المختلف ما لم يمضى <ref>[ هذا من الكثرة التي أشرنا إليها في التعليق ]</ref> إلا بسقوط غيره، مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد، هذا يحله وهذا يحرمه.
 
==(صفة نهي الله ونهي رسوله)==
سطر 2٬083:
فكل نكاح كان من هذا لم يصح، وذلك أنه قد نهي عن عقده، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم.
 
ومثله - والله أعلم - أن النبي نهى عن الشغار <ref>[ الشغار: بالكسر نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر: زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، كأنهما رفعا المهر وأخليا البضع عنه. مختار الصحاح - الرازي.] ]</ref>، وأن النبي نهى عن نكاح المتعة <ref>[ نكاح المتعة: النكاح إلى أجل معين. النهاية - ابن الأثير.] ]</ref>، وأن النبي نهى المحرم أن ينكح أو ينكح.
 
فنحن نفسخ هذا كله من النكاح، في هذه الحالات التي نهى عنها، بمثل ما فسخنا به ما نهى عنه مما ذكر قبله.
 
وقد يخالفنا في هذا غيرنا، وهو مكتوب في غير هذا الموضع. <ref>[ انظر اختلاف الحديث للشافعي والأم 5/68 - 72]</ref>
 
ومثله: أن ينكح المرأة بغير إذنها، فتجيز بعد، فلا يجوز، لأن العقد وقع منهيا عنه.
سطر 2٬097:
فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نهي المرء فيه عن شيء، وهو يخالف النهي الذي ذكرت قبله؟
 
فهو - إن شاء الله - مثل نهي رسول الله أن يشتمل الرجل على الصماء <ref>[ اشتمال الصماء: أن يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعا، أو الاشتمال بثوب واحد ليس عليه غيرهثم يضعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه. القاموس المحيط - فيروزآبادي.] ]</ref>، وأن يحتبي في ثوب واحد مفضيا بفرجه إلى السماء، وأنه أمر غلاما أن يأكل مما بين يديه، ونهاه أن يأكل من أعلى الصحفة، ويروى عنه، وليس كثبوت ما قبله مما ذكرنا: أنه نهى عن أن يقرن الرجل إذا أكل بين التمرتين، وأن يكشف التمرة عما في جوفها، وأن يعرس على ظهر الطريق.
 
فلما كان الثوب مباحا للابس، والطعام مباحا لآكله، حتى يأتي عليه كله إن شاء، والأرض مباحة له إذا كانت لله لا لآدمي، وكان الناس فيها شرعا، <ref>[ أي سواء. ]</ref> فهو نهي فيها عن شيء أن يفعله، وأمر فيها بأن يفعل شيئا غير الذي نهي عنه.
 
والنهي يدل على أنه إنما نهى عن اشتمال الصماء والاحتباء مفضيا بفرجه غير مستتر: أن في ذلك كشف عورته، قيل له يسترها بثوبه، فلم يكن نهيه عن كشف عورته نهيه عن لبس ثوبه فيحرم عليه لبسه، بل أمره أن يلبسه كما يستر عورته.
سطر 2٬105:
ولم يكن أمره أن يأكل من بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام، إذا كان مباحا له أن يأكل ما بين يديه وجميع الطعام: إلا أدبا في الأكل من بين يديه، لأنه أجمل به عند مواكله، وأبعد له من قبح الطعمة والنهم، وأمره ألا يأكل من رأس الطعام لأن البركة تنزل منه له، على النظر له في أن يبارك له بركة دائمة يدوم نزولها له، وهو يبيح له إذا أكل ما حول رأس الطعام أن يأكل رأسه.
 
وإذا أباح له الممر على ظهر الطريق فالممر عليه إذ كان مباحا لأنه لا مالك له يمنع الممر عليه فيحرم بمنعه: فإنما نهاه لمعنى يثبت نظرا له، فإنه قال: فإنها مأوى الهوام، وطرق الحيات <ref>[ مسلم: كتاب الإمارة/3553؛ الترمذي: كتاب الأدب؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/8563]</ref> على النظر له، لا على أن التعريس محرم، وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق متضايقا مسلوكا، لأنه إذا عرس عليه في ذلك الوقت منع غيره حقه في الممر.
 
فإن قال قائل: فما الفرق بين هذا والأول؟
 
قيل له: من قامت عليه الحجة يعلم أن النبي نهى عما وصفنا، ومن فعل ما نهي عنه - وهو عالم بنهيه - فهو عاص بفعله ما نهي عنه، وليستغفر الله ولا يعود <ref>[هكذا هي بإثبات الواو وقدمنا في غير موضع جوازه مع حرف الجزم ويجوز أن تكون (لا) نافية مع إرادة النهي. ]</ref>
 
فإن قال: فهذا عاص، والذي ذكرت في الكتاب قبله في النكاح والبيوع عاص، فكيف فرقت بين حالهما؟
سطر 2٬135:
قال: ومثل ماذا؟
 
قلت: مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه.
 
وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا في كتاب الله، وموجودا عاما عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
سطر 2٬155:
فقال: فأوجدني هذا خبرا أو شيئا في معناه، ليكون هذا قياسا عليه؟
 
فقلت له: فرض الله الجهاد في كتابه وعلى لسان نبيه، ثم أكد النفير من الجهاد، فقال: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم } <ref>[التوبة: 111]</ref>
 
وقال: { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } <ref>[التوبة: 36]</ref>
 
وقال: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } <ref>[التوبة: 5]</ref>
 
وقال: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } <ref>[التوبة: 29]</ref>
 
أخبرنا عبد العزيز عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) <ref>[البخاري: كتاب الإيمان/24؛ مسلم: كتاب الإيمان/32؛ الترمذي: كتاب تفسير القرآن/3264؛ النسائي: كتاب تحريم الدم/3908. ]</ref>
 
وقال الله جل ثناؤه: { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل(38) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير(39) } <ref>[التوبة:38،39 38، 39]</ref>
 
وقال: { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } <ref>[التوبة: 41]</ref>
 
قال: فاحتملت الآيات أن يكون الجهاد كله والنفير خاصة منه: على كل مطيق له، لا يسع أحدا منهم التخلف عنه، كما كانت الصلوات والحج والزكاة، فلم يخرج أحد وجب عليه فرض منها من أن يؤدي غيره الفرض عن نفسه، لأن عمل أحد في هذا لا يكتب لغيره.
سطر 2٬173:
واحتملت أن يكون معنى فرضها غير معنى فرض الصلوات، وذلك أن يكون قصد بالفرض فيها قصد الكفاية، فيكون من قام بالكفاية في جهاد من جوهد من المشركين مدركا تأدية الفرض ونافلة الفضل، ومخرجا من تخلف من المأثم.
 
ولم يسوي <ref>[ هكذا هي بإثبات الياء وقدمنا مرارا أنه جائز. ]</ref> الله بينهما، فقال الله: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } <ref>[النساء: 95، فأما الظاهر في الآيات فالفرض على العامة.
 
قال: فأبن الدلالة في أنه إذا قام بعض العامة بالكفاية أخرج المتخلفين من المأثم؟
سطر 2٬185:
قال: فهل تجد في هذا غير هذا؟
 
قلت: نعم، قال الله: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } <ref>[التوبة: 122] </ref>
 
وغزا رسول الله، وغزى معه من أصحابه جماعة وخلف أخرى، حتى تخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، وأخبرنا الله أن المسلمين لم يكونوا لينفروا كافة: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، فأخبر أن النفير على بعضهم دون بعض، وأن التفقه إنما هو على بعضهم دون بعض.
سطر 2٬193:
وهكذا كل ما كان الفرض فيه مقصودا به قصد الكفاية فيما ينوب، فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفاية خرج من تخلف عنه من المأثم.
 
ولو ضيعوه معا خفت أن لا يخرج واحد منهم مطيق فيه من المأثم، بل لا أشك،إنأشك، إن شاء الله، لقوله: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما.
 
قال: فما معناها؟
سطر 2٬203:
قلت: الصلاة على الجنازة ودفنها، لا يحل تركها، ولا يجب على كل من بحضرتها كلهم حضورها، ويخرج من تخلف من المأثم من قام بكفايتها.
 
وهكذا رد السلام، قال الله: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا } <ref>[النساء: 86]</ref>
 
وقال رسول الله: (يسلم القائم على القاعد <ref>[ بلفظ: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير في: البخاري: كتاب الاستئذان/5774؛ مسلم: كتاب السلام/4019؛ الترمذي: كتاب الإستئذان والآداب/2627.] ]</ref>، وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم ) <ref>[ مالك: كتاب الجامع/1512.] ]</ref>، وإنما أريد بهذا الرد، فرد القليل جامع لاسم الرد، والكفاية فيه مانع لأن يكون الرد معطلا.
 
ولم يزل المسلمون على ما وصفت، منذ بعث الله نبيه - فيما بلغنا - إلى اليوم، يتفقه أقلهم، ويشهد الجنائز بعضهم، ويجاهد ويرد السلام بعضهم، ويتخلف عن ذلك غيرهم، فيعرفون الفضل لمن قام بالفقه والجهاد وحضور الجنائز ورد السلام، ولا يؤثمون من قصر عن ذلك، إذا كان بهذا قائمون بكفايته.
سطر 2٬401:
فإذا كان موجودا في العامة وفي أهل الكذب الحالاتُ يَصْدُقون فيها الصدقَ الذي تَطِيب به نفسُ المحدثين: كان أهل التقوى والصدق في كل حالاتهم أولى أن يتحفظوا عند أولى الأمور بهم أن يتحفظوا عندها، في أنهم وُضِعُوا مَوْضِع الأمانة، ونُصِبُوا أعْلامًا لِلدين، وكانوا عالِمِين بما ألْزَمَهُم اللهُ مِن الصدق في كلِّ أمْر، وأن الحديث في الحلال والحرام أعْلى الأمور وأبْعَدُها مِن أن يكون فيه موضعُ ظِنَّةٍ، وقد قُدِّمَ إليهم في الحديث عن رسول الله بشيء لم يُقَدَّم إليهم في غيره، فوُعِدَ على الكذب على رسول الله النارُ.
 
عبد العزيز عن محمد بن عَجلان عن عبد الوهَّاب بن بُخْتٍ عن عبد الواحد النَّصْرِي عن واثلة بن الأسْقَعِ عن النبي قال: إنَّ أَفْرَى الفِرَى مَنْ قَوَّلَنِي مَا لَمْ أَقُلْ، ومَنْ أرَى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَى، وَمَنِ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ <ref>[رواه البخاري كتاب المناقب. باب: نسبة اليمن إلى إسماعيل. رقم 3318، وأحمد في مسند الشاميين 4/106 والشافعي في المسند 650.] ]</ref>.
 
عبد العزيز عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قالَ: مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ <ref>[ هذا حديث متواتر روي بألفاظ كثيرة عن عدد من الصحابة. ]</ref>
 
يحيى بن سُلَيْمٍ عن عبيد الله بن عمر عن أبي بكر بن سالم عن سالم عن ابن عمر أن النبي قال: إنَّ الَّذِي يَكْذِبُ عَلَيَّ يُبْنىَ لَهُ بَيْتٌ فِي النَّارِ <ref>[إسناده صحيح ورواه أحمد من هذا الطريق رقم 4742 - 5798 - 6309]</ref>
 
حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عبد العزيز بن محمد عن أُسِيدٍ بن أبي أُسيد عن أمه قالتْ: قلتُ لأبي قتادة: مَا لَكَ لاَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسثولِ اللهِ كَمَا يُحَدِّثُ النَّاسُ عَنْهُ؟ قالت: فقال: أبو قَتادةَ سمعت رسول الله يقول: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلْتَمِسْ لِجَنْبِهِ مَضْجَعًا مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَمْسَحُ الأَرْضَ بَيَدِهِ <ref>[ ذكره في كنز العمال وعزاه للشافعي والبيهقي في المعرفة 29226]</ref>
 
سفيان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنَّ رَسُولُ اللهِ قَالَ: (حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ ) <ref>[ روي عن عدد من الصحابة بأسانيد صحاح رواه أحمد عن أبي هريرة 11108 ومواضع. ] </ref>
 
وهذا أشدُّ حديثٍ رُوِيَ عن رسول الله في هذا، وعليه اعْتَمدنا مع غيره في أنْ لا نقبَلَ حديثًا إلاَّ مِنْ ثِقة، ونعْرِفَ صدقَ مَنْ حَمَلَ الحديثَ مِن حينِ ابْتُدِئَ إلى أن يُبْلَغَ به مُنْتَهَاه.
سطر 2٬427:
قال الشافعي: فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنصِّ خبر أو دلالةٍ فيه أو إجماعٍ.
 
فقلت له أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: نضَّر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يَغِلُّ <ref>[ يغل بفتح الياء وضمها مع كسر العين فالفتح من الغل وهو الحقد، والضم من الإغلال وهو الخيانة]</ref> عليهن قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، والنصيحةُ للمسلمين، ولزوم، جماعتهم، فإنّ دعوتهم تحيط من روائهم. <ref>[رواه البيهقي في المدخل. ورواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت. كما في مشكاة المصابيح]</ref>
 
فلما نَدَب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرا يؤديها، والامْرُءُ واحدٌ: دلَّ على أنه لا يأمر أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دينٍ ودنيا.
 
ودل على أنه قد َححمل الفقهَ غيرُ فقيه،يكونفقيه، يكون له حافظا، ولا يكون فيه فقيها.
 
وأمْرُ رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتج به في أن إجماع المسلمين - إن شاء الله - لازمٌ.
سطر 2٬445:
والله إني لأتقاكم لله، ولأعلمكم بحدوده
 
وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذِكر مَن وصله. <ref>[ وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار وأحمد في المسند 5/434 وانظر مجمع الزوائد 3/166]</ref>
 
قال الشافعي: في ذكر قول النبي صلى الله عليه: ألَّا أخبرتيها أني أفعل ذلك دلالةٌ على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي إلا وفي خبرها ما تكون الحجةُ لمن أخبرتْه.
سطر 2٬465:
ولو كان ما قَبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة، وهو فرض: مما يجوز لهم، لقال لهم - إن شاء الله - رسول الله: قد كنتم على قبلةٍ، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني، أو خبرِ عامةٍ أو أكثرَ من خبر واحد عني.
 
أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجرَّاح وأُبيَّ بن كعب شرابا من فضيخٍ <ref>[ شراب يُتّخذ من البسر المشدوخ. ]</ref> وتمرٍ، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حُرِّمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجِرار فاكسرها، فقمت إلى مِهْراسٍ <ref>[ حجر مستطيل منقور يُتَوضأ منه ويدقّ فيه. ]</ref> لنا، فضربتُها بأسفلِه حتى تكسَّرت. <ref>[ رواه البخاري: في الأشربة، وفي خبر الواحد، ومسلم: في الأشربة. ]</ref>
 
وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتَقَدُّمِ صحبته بالموضع الذي لا يُنكِره عالم.
سطر 2٬477:
وأمر رسول الله أنيسا أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زَنَت، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها.
 
وأخبرنا بذلك مالك وسفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وساقا عن النبي. وزاد سفيان مع أبي هريرة وزيد بن خالد: شِبْلا. <ref>[ شِبل بن معبد وقيل: ابن خليد وقيل: غير ذلك. وانفرد بذكر (شبل) ابن عيينة. قال ابن حجر في التهذيب: ((ولم يتابع على ذلك. رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال النسائي: الصواب الأول، قال: وحديث ابن عيينة خطأ، وروى البخاري حديث ابن عيينة فأسقط منه شبلا))]</ref>
 
أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزُّرَقي عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جملٍ يقول: إن رسول الله يقول: إن هذه أيامُ طعام وشراب، فلا يصومنَّ أحد، فاتبع الناسَ وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك.
 
ورسول الله لا يبعث بنهيه واحدا صادقا إلا لزم خبرُه عن النبي،بصدقهالنبي، بصدقه عن المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي نهى عنه.
 
ومع رسول الله الحاجُّ، وقد كان قادرا على أن يبعث إليهم فيشافهَهُم، أو يبعث إليهم عددا، فبعث واحدا يعرفونه بالصدق.
سطر 2٬487:
وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمةٌ بقبول خبره عن رسول الله.
 
فإذا كان هكذا مع ما وصفتُ من مقدرة النبي على بعثه جماعةً إليهم: كان ذلك - إن شاء الله - فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم،وأمكنأمكنهم، وأمكن فيهم: أولى أن يَثبت به خبر الصادق.
 
أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خالٍ له - إن شاء الله - يقال له: يزيد بن شيبان قال: كنا في موقف لنا بعرفة يُباعده عمروٌ من موقف الإمام جدا، فأتانا ابن مِرْبَع الأنصاري فقال لنا: أنا رسول رسول الله إليكم: يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم.
سطر 2٬493:
وبعث رسول الله أبا بكر واليا على الحج في سنة تسع، وحضره الحج من أهل بلدان مختلفة، وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم.
 
وبعث عليَّ بن أبي طالب في تلك السنة، فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من سورة براءة،ونبذبراءة، ونبذ إلى قوم على سواءٍ وجعل لهم مددا،ونهاهممددا، ونهاهم عن أمور.
 
فكان أبو بكر وعليٌّ معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان من جَهِلَهما أو أحدَهما من الحاجّ وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما.
 
ولم يكن رسول الله ليبعث إلا واحدا الحجةُ قائمة بخبره على من بعثه إليه،إنإليه، إن شاء الله.
 
وقد فرَّق النبي عمّالًا على نواحي، عرفنا أسماءهم، والمواضع التي فرّقهم عليها.
سطر 2٬547:
أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيَّب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمسَ عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست.
 
قال الشافعي: لما كان معروفا - والله أعلم - عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين وكانت اليد خمسة أطراف مختلفةِ الجمال والمنافع: نزَّلها منازِلَها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقَدْره من دية الكفِّ، فهذا قياس <ref>[ أي استنباط مبني على التعليل، وليس معناه القياس الاصطلاحي. ]</ref> على الخبر.
 
فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه: أن رسول الله قال: وفي كل إصبع مما هنالك عشرٌ من الإبل صاروا إليه.
 
ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله. <ref>[وفي الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يُقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمضي هكذا بإثبات الياء وقدّمنا مرارا توجيهه. ]</ref> عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا.
 
ودلالةٌ على أنه مضى أيضا عملٌ من أحد من الأئمة، ثم وَجَدَ خبرا عن النبي يخالف عملَه لترك عمله لخبر رسول الله.
سطر 2٬569:
قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا. حتى أخبره الضّحّاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يُوَرِّث امرأة أَشْيَمَ الضِّبَابيِّ من ديته، فرجع إليه عمر.
 
وقد فَسَّرت هذا الحديث قبل هذا الموضع. <ref>[ يريد في كتاب الأم 6/77 والحديث رواه أحمد 3/452 وأبو داود والترمذي وابن ماجه]</ref>
 
سفيان عن عمرو بن دينار وابن طاوس عن طاوس: أن عمر قال: أُذَكِّرُ اللهَ امرا سمع من النبي في الجنين شيئا، فقام حَمَلُ بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي - يعني ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بِمِسْطَح <ref>[المسطح: عود من أعواد الخباء والفسطاط الذي يُخبز به. ]</ref> فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله بِغُرَّةٍ <ref>[ الغرة العبد أو الأمة. ]</ref> فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره.
 
وقال غيره: إن كِدْنا أن نقضي في مثل هذا برأينا. <ref>[إسناد الشافعي هنا مرسل فطاوس لم يدرك عمر والحديث رواه أبو داود والنسائي ورواه متصلا أحمد وأبو داود وابن ماجه عن طاوس عن ابن عباس عن عمر. ]</ref>
 
فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضّحّاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لَقَضَى فيه بغيره، وقال: إن كِدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.
سطر 2٬587:
قال الشافعي: يعني حين خرج إلى الشام، فبلغه وقوع الطاعون بها.
 
مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عمر ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لَسَمِعت رسول الله يقول: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب. <ref>[ رواه مالك في الموطأ 1/264 وهذا إسناد منقطع؛ لأن محمدا لم يلقَ عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. لكن معناه متصل من وجوه حسان. انظر شرح الزرقاني على الموطأ 2/73 وفتح الباري 6/186]</ref>
 
سفيان عن عمرو: أنه سمع بَجَالَةَ يقول: ولم يكن عمر أخذ الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذها من مجوس هَجَرٍَ.
سطر 2٬599:
قيل له لا يطلب عمر مع رجلٍ أَخبَرَه آخرَ إلا على أحد ثلاث معاني:
 
إما أن يحتاط فيكونَ، <ref>[ خبر يكون محذوف للعلم به من السياق، والمعنى: فيكون أوثق عنده. وربما تكون الجملة بعدها هي الخبرَ. ]</ref> وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد، فخبر اثنين أكثر، وهو لا يزيدها إلا ثبوتًا.
 
وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد مَن يطلب معه خبرا ثانيا، ويكونُ في يده السنة من رسول الله من خمس وجوه فَيُحَدِّثُ بسادس فيكتبُهُ، لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبتَ للحجة، وأطيبَ لنفس السامع.
سطر 2٬625:
وفي كتاب الله تبارك وتعالى دليل على ما وصفتُ:
 
قال الله: { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } <ref>[نوح: 1]</ref>
 
وقال: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } <ref>[هود: 25 والمؤمنون: 23 والعنكبوت: 14]</ref>
 
وقال: { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل } <ref>[النساء: 163]</ref>
 
وقال: { وإلى عاد أخاهم هودا } <ref>[الأعراف: 65 وهود 50]</ref>
 
وقال: { وإلى ثمود أخاهم صالحا } <ref>[الأعراف: 73 وهود: 61]</ref>
 
وقال: { وإلى مَدْينَ أخاهم شعيبا } <ref>[الأعراف: 85 وهود: 84 والعنكبوت: 36]</ref>
 
وقال: { كذَّبت قومُ لوطٍ المرسلين. إذ قال لهم أخوهم لوطٌ: ألا تتقون. إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون } <ref>[الشعراء: 160، 163]</ref>
 
وقال لنبيه محمد صلى الله عليه: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح } <ref>[النساء 163]</ref>
 
وقال: { وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل } <ref>[آل عمران: 144]</ref>
 
فأقام جل ثناؤه حجته على خلقه في أنبيائه في الأعلام التي باينوا بها خلقه سواهم، وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء ودلائلهم التي باينوا بها غيرهم، ومَن بعدهم، وكان الواحد في ذلك وأكثرُ منه سواءً، تقوم الحجة بالواحد منهم قياما بالأكثر.
 
قال: { واضرب لهم مثلا أصحابَ القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين، فكذبوهما، فَعَزَّزنا بثالث، فقالوا: إنا إليكم مرسلون. قالوا: ما أنتم إلا بشرٌ مثلُنا، وما أنزل الرحمن من شيءٍ. إن أنتم إلا تَكْذبون } <ref>[يس: 13، 15]</ref>
 
قال الشافعي: فَظَاهَرَ الحُجَجَ عليهم باثنين، ثم ثالثٍ، وكذا أقام الحجةَ على الأمم بواحد، وليس الزيادة في التأكيدِ مانعةً أن تقوم الحجة بالواحد، إذ أعطاه ما يبايِنُ به الخلْق غيرَ النبيين.
 
أخبرنا مالك عن سعد بن إسحاقَ بن كعبِ بن عُجْرَةَ عن عمته زينبَ بنتِ كعبٍ: أن الفُرَيْعةَ بنت مالك بن سنانٍ أخبرَتْها أنها جاءت إلى النبي تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرَةَ، فإن زوجها خرج في طَلَبِ أَعْبُدٍ له، حتى إذا كان بِطَرَفِ القدوم لَحِقَهُم، فقتلوه، فسألتُ رسول الله أن أَرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكنٍ يملكه، قالت: فقال رسول الله: نعم. فانصرفْتُ، حتى إذا كنتُ في الحُجرة أو في المسجد دعاني، أو أمر بي فَدُعِيت له، فقال: كيف قُلتِ؟ فَرَدَدْتُ عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال لي: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجلَهُ. قالت: فاعتددت فيه أربعةَ أشهر وعشرا، فلما كان عثمانُ أرسل إلي، فسألني عن ذلك، فأخبَرْتُهُ، فاتَّبَعَهُ، وقضى به. <ref>[ رواه في الأم أيضا 5/208 ورواه أبو داود والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك انظر شرح الزرقاني. ]</ref>
 
وعثمان في إمامته، وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.
 
أخبرنا مسلم عن ابن جُريج قال: أخبرني الحسن <ص 440> بن مسلم عن طاوسٍ قال: كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت: أَتُفتي أن تَصْدُرَ الحائض قبل أن يكون آخرُ عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: إما لى <ref>[ أصلها: (إما لا)، وأصل (إما): (إن ما) فأُميلت (لا) إمالة صغرى لتضمّنها معنى الجملة فالقاس أن الحروف لا تُمال والإمالة لغة قريش وهي لغة الشافعي. ومعناها: إن لم يكن هذا فاسأل فلانة. . . ومعناه عامةً: إن لم تفعل هذا فليكن هذا. ]</ref>
 
فاسأل فلانة الأنصارية: هل أمرها بذلك النبي؟ فرجع زيد بن ثابت يضحك، ويقول ما أراك إلا قد صدقت. <ref>[ روى الحديث الشيخان وغيرهما وروى القصة أحمد رقم 1990 و 3256 والبيهقي 5/163]</ref>
 
قال الشافعي: سمع زيدٌ النهي أن يَصْدُِر أحد من الحاجِّ حتى يكون آخرُ عهده بالبيت، وكانت الحائض عنده من الحاجِّ الداخلين في ذلك النهي، فلما أفتاها ابن عباس بالصَّدَر إذا كانت قد زارت بعد النحر: أنكر عليه زيد، فلما أخبره عن المرأة أن رسول الله أمرها بذلك فسألها فأخبرته، فصدَّق المرأة، ورأى عليه حقا أن يرجع عن خلاف ابن عباس، وما لابن عباس حجة غيرُ خبر المرأة.
سطر 2٬663:
فابن عباس مع فقهه وورعه يُثبت خبر أبي بن كعب عن رسول الله حتى يُكَذِّبَ به امرأ من المسلمين، إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحبُ الخضر.
 
أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج أن طاوسا أخبره أنه سأل ابن عباس عن الرَّكعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما <ref>[ ظاهر هذا أن ابن عباس نهى طاوسا من نفسه أي برأيه وبهذا لا يكون ثمة حجة على طاوس مع استشكال إيراد الآية على لسان ابن عباس! لكن عند البيهقي 2/453 من طريق آخر أن ابن عباس قال: ((إنه قد نهى النبي {{صل}} عن صلاةٍ بعد العصر)) وعلى لا إشكال.] ]</ref>، قال طاوس: فقلت له: ما أدعهما، فقال ابن عباس: { ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكونَ لهم الخِيَرَةُ من أمرهم، ومَن يَعْصِ اللهَ ورسوله، فقد ضل ضلالا مبينا } <ref>[الأحزاب: 36]</ref>
 
فرأى ابن عباس الحجةَ قائمةً على طاوس بخبره عن النبي، ودَلَّهُ بتلاوة كتاب الله على أن فرضا عليه أن لا تكونَ له الخِيَرَةُ إذا قضى الله ورسوله أمرًا.
سطر 2٬673:
فابن عباس أفضل من أن يَتَوَقَّى أحد أن يقول له حقا رآه، وقد نهاه عن الركعتين بعد العصر، فأخبره أنه لا يدعهما، قبل أن يُعْلمه أن النبي نهى عنهما.
 
سفيان عن عمرو عن ابن عمر قال: كنا نُخَابِرُ، <ref>[ المخابرة: مُزارَعَة الأرض بجزء منها، كالثلث أو الربع أو بجزء معين من الخارج وفيها خلاف منتشر تُنظَر في مظانِّها. ]</ref>
 
ولا نرى بذلك بأسا، حتى زعم رافع أن رسول الله نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك.
سطر 2٬681:
وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي لم يُوهِن الخبر عن النبي عليه السلام.
 
أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سِقَايةً من ذهب أو وَرِق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا! فقال أبو الدرداء: مَن يَعذِرُني من معاوية! أُخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه؟!لا أساكنك بأرض. <ref>[ الحديث رواه النسائي مختصرا عن مالك. قال الزرقاني في شرح الموطأ 3/115 ((قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عَرَضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، إنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت، والطرق متواترة بذلك اهـ والإسناد صحيح والجمع ممكن))]</ref>
 
فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، ولما لم يَرَ ذلك معاوية فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها، إعظاما لِأَنْ تَرَكَ خبر ثقة عن النبي.
سطر 2٬689:
قال الشافعي: يرى أن ضَيِّقا على المخبر أن لا يقبل خبره، وقد ذكر خبرا يخالف خبرَ أبي سعيد عن النبي، ولكنْ في خبره وجهان: أحدهما: يحتمل به خلافَ خبر أبي سعيد، والآخر: لا يحتمله.
 
أخبرنا من لا أتهم عن ابن أبي ذئب عن مَخلد بن خُفَاف قال: ابتعت غلاما، فاستغللته، ثم ظَهَرتُ منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي بِرَدِّهِ، وقضى علي بِرَدِّ غَلَّتِه، فأتيت عروة، فأخبرته، فقال: أروح عليه العَشِيَّة، فأُخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله قضى في مثل هذا أن الخراج بالضّمان، فَعَجِلت إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي، فقال عمر: فما أَيسرَ عليَّ من قضاء قضيتُه، الله يعلم أني لم أُرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة رسول الله، فأَرُدُّ قضاء عمر، وأُنَفِّذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له. <ref>[ رواه البهقي في السنن 5/321 من طريق الشافعي. وحديث (الخراج بالضمان) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد. ]</ref>
 
أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا بن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيتُ به؟ فقال له ربيعة: قد اجتهدتَ، ومضى حكمك، فقال سعدٌ: واعَجَبَا! أُنْفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردُّ قضاء رسول الله؟! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية فَشَقَّه وقضى للمقضيِّ عليه.
 
قال الشافعي: أخبرني أبو حنيفة بن سمِاك بن الفضل الشهابي قال حدثني ابن أبي ذئب عن المقْبُري عن أبي شريح الكعبي أن النبي قال عام الفتح: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخَذَ العقلَ، وإن أحب فله القَوَدُ) <ref>[ رواه أحمد وابن ماجه وروي عن ابي هريرة معناه رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة. والعقل الدية والقود القصاص. ]</ref> قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري، وصاح علي صياحا كثيرا، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله، وتقول تأخذ به؟! نعم آخذ به. وذلك الفرض عليَّ، وعلى من سمعه، إن الله اختار محمدا من الناس، فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له، وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخِرين، لا مَخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت.
 
قال: وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعضُ هذا منها.
سطر 2٬701:
وكذلك حُكي لنا عمن حُكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان.
 
قال الشافعي: وجدنا سعيدً <ref>[ هكذا بالتنوين من غير ألف وقدمنا مرارا أنه فصيح. ]</ref> بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي في الصَّرف فَيُثَبِّت حديثه سنّةً. ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي، فيُثَبت حديثه سنّةً، ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنّةً.
 
ووجدنا عروة يقول: حدثتني عائشة: (أن رسول الله قضى أن الخراج بالضمان) فَيُثَبِّته سنَّة، ويروي عنها عن النبي شيئا كثيرا فيثبتها سننا يُحِل بها ويحرم.
سطر 2٬713:
ويقول حدثني عبد الرحمن ومجمِّع ابنا يزيد بن جاريةَ عن خنساءَ بنت خِدَامِ عن النبي. فيثبت خبرها سنة، وهو خبر امرأة واحدة.
 
ووجدنا علي بن حسين يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي قال: (لا يرث المسلم الكافر ). <ref>[ رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. ]</ref> فيثبتها سنة، ويثبتها الناس بخبره سنة.
 
ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حسين يخبر عن جابر عن النبي، وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي. فيثبت كل ذلك سنة.
سطر 2٬723:
ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أحمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبَّته جاز لي.
 
ولكنْ أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفتُ من أن ذلك موجودا <ref>[ تقدم توجيه نحوه وأنه على لغة من ينصب معمولي (أن) وهو قليل. ]</ref> على كلهم.
 
قال: فإن شُبِّه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي حديث كذا، وحديث كذا، وكان فلان يقول قولا يخالف ذلك الحديث.
سطر 2٬775:
قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله.
 
ولا نستطيع أن نزعُم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتَصِل.
 
وذلك أن معنى المنقطع مُغَيَّب، يحتمل أن يكون حمُل عن من يُرغب عن الرواية عنه إذا سُمّي وإن بعض المنقطعات - وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحدا، من حيث لو سمي لم يُقبل، وأن قول بعض أصحاب النبي - إذا قال برأيه لو وافقه - يدل على صحة مَخرج الحديث، دلالةً قوية إذا نُظر فيها، ويمكن أن يكون إنما غلِط به حين سمِع قول بعض أصحاب النبي يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء.
سطر 2٬801:
قال: فلم لم تقبل المرسَل منهم، ومن كل فقيه دونهم؟
 
قلت: لما وصفت.
 
قال: وهل تجد حديثا تبلغ به رسولَ الله مرسلا عن ثقة لم يقل أحدا من أهل الفقه به؟
 
قلت: نعم، أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر: أن رجلا جاء الى النبي، فقال: يا رسول الله! إن لي مالا وعيالا، وإن لأبي مالا وعيالا، وإنه يريد أن يأخذ مالي، فيُطعِمَهُ عياله. فقال رسول الله: (أنت ومالك لأبيك). <ref>[انظر الجامع الصغير 2712 ورواه أحمد في المسند من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده 2/179،214،204179، 214، 204]</ref>
 
فقال: أما نحن فلا نأخذ بهذا، ولكن من أصحابك من يأخذ به؟
سطر 2٬857:
قيل: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن رسول الله قال: (نصر الله عبدا )
 
أخبرنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان بن يسار عن أبيه: أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية، فقال: (إن رسول الله قام <ref>[ في الأصل ((قام الله فينا)) !]</ref> فينا كمقامي فيكم، فقال: أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، ألا فمن سره بحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهم، ومن سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن) <ref>[ الحديث مرسل فسليمان بن يسار لم يدرك عمر والحديث صح عن عمر رواه أحمد 1/18،2618، 26 والطيالسي ص 7 والترمذي، أبواب الفتن، باب لزم الجماعة، والحاكم 1/113 - 115]</ref>
 
قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟
سطر 2٬881:
قال: فما جماعهما؟
 
قلت: كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم: اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهاد القياس.
 
قال: أفرأيت العالمين إذا قاسوا، على إحاطة هم من أنهم أصابوا الحق عند الله؟ وهل يسعهم أن يختلفوا في القياس؟ وهل كلفوا كل أمر من سبيل واحد، أو سبل متفرقة؟ وما الحجة في أن لهم أي يقيسوا على الظاهر دون الباطن؟ وأنه يسعهم أن يتفرقوا؟ وهل يختلف ما كلفوا في أنفسهم، وما كلفوا في غيرهم؟ ومن الذي له أن يجتهد فيقيس في نفسه دون غيره؟ والذي له أن يقيس في نفسه وغيره؟
سطر 2٬889:
فالإحاطة منه ما كان نص حكم لله أو سنة لرسول الله نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يشهد بهما فيما أحل أنه حلال، وفيما حرم أنه حرام. وهذا الذي لا يسع أحدا عندنا جهله ولا الشك فيه.
 
وعلم الخاصة سنة من خبر الخاصة يعرفها العلماء، ولم يكلفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص المخبر عن رسول الله بها.
 
وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر، كما نقتل بشاهدين. وذلك حق في الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلط.
سطر 2٬973:
قلت: نعم، ما وصفت لك مما كلفت في القبلة وفي نفسي وفي غيري.
 
قال الله: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } <ref>[البقرة: 255] </ref>
 
فآتاهم من علمه ما شاء، وكما شاء، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
 
وقال لنبيه: { يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها } <ref>[النازعات 42، 44]</ref>
 
سفيان عن الزهري عن عروة قال: لم يزل رسول الله يسأل عن الساعة، حتى أنزل الله عليه { فيم أنت من ذكراها } فانتهى. وقال الله: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } <ref>[النمل: 65]</ref>
 
وقال الله تبارك وتعالى: { إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير } <ref>[لقمان: 34]</ref>
 
فالناس متعبدون بأن يقولوا ويفعلوا ما أمروا به، وينتهوا إليه، لا يجاوزونه، لأنهم لم يعطوا أنفسهم شيئا، إنما هو عطاء الله. فنسأل الله عطاءا مؤديا لحقه، موجبا لمزيده.
سطر 2٬989:
قال: أفتجد تجويز ما قلت من الاجتهاد، مع ما وصفت فتذكره؟
 
قلت: نعم، استدلالا بقول الله: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } <ref>[البقرة: 150]</ref>
 
قال: فما شطره؟
سطر 2٬997:
إن العسيب بها داء مخامرها فشطرها بصر العينين مسجور
 
فالعلم يحيط أن من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نأت داره عنه: على صواب بالاجتهاد للتوجه الى البيت بالدلائل عليه، لأن الذي كلف التوجه إليه، وهو لا يدري أصاب بتوجهه قصد المسجد الحرام أم أخطأه، وقد يرى دلائل يعرفها فيتوجه بقدر ما يعرف <ref>[ ويعرف غيره دلائل غيرها، فيتوجه بقدر ما يعرف ]</ref> وإن اختلف توجههما.
 
قال: فإن أجزت لك هذا أجزت لك في بعض الحالات الاختلاف.
سطر 3٬013:
قال: إن قلت لا يجب عليهما أن يصليا حتى يعلما بإحاطة: فهما لا يعلمان أبدا المغيب بإحاطة، وهما إذا يدعان الصلاة، أو يرتفع عنهما فرض القبلة، فيصليان حيث شاءا، ولا أقول واحدا من هذين، وما أجد بدا من أن أقول: يصلي كل واحد منهما كما يرى، ولم يكلفا غير هذا، أو أقول كلف الصواب في الظاهر والباطن، ووضع عنهما الخطأ في الباطن دون الظاهر.
 
قلت: فأيهما قلت فهو حجة عليك، لأنك فرقت بين حكم الباطن والظاهر، وذلك الذي أنكرت علينا، وأنت: تقول إذا اختلفتم قلت ولا بد أن يكون أحدهما مخطئ ؟مخطئ؟
 
قلت: أجل.
سطر 3٬023:
قال: ما أجد من هذا بدا، ولكن أقول: هو خطأ موضوع.
 
فقلت له: قال الله: { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا، فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم، هديا بالغ الكعبة } <ref>[المائدة: 95]</ref>
 
فأمرهم بالمثل، وجعل المثل الى عدلين يحكمان فيه، فلما حرم مأكول الصيد عاما كانت لدواب الصيد أمثال على الأبدان.
 
فحكم من حكم من أصحاب رسول الله على ذلك، فقضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة. <ref>[ العناق: ما لم يتم له سنة من أنثى أولاد المعز. والجفرة: ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه وأخذ في الرعي. ]</ref>
 
والعلم يحيط أنهم أرادوا في هذا المثل بالبدن، لا بالقيم، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان وفي الأزمان، وأحكامهم فيها واحدة.
سطر 3٬033:
والعلم يحيط أن اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن، ولكنها كانت أقرب الأشياء منه شبها، فجعلت مثله، وهذا من القياس يتقارب تقارب العنز والظبي، ويبعد قليلا بعد الجفرة من اليربوع.
 
ولما كان المثل في الأبدان في الدواب من الصيد دون الطائر: لم يجز فيه إلا ما قال عمر - والله أعلم - من أن ينظر الى المقتول من الصيد، فيجزى بأقرب الأشياء به شبها منه في البدن، فإذا فات منها شيئا <ref>[ أي جاوز شيئا. ]</ref> رفع إلى أقرب الأشياء به شبها، كما فاتت الضبع العنز، فرفعت الى الكبش، وصغر اليربوع عن العناق فخفض الى الجفرة.
 
وكان طائر الصيد لا مثل له في النعم لاختلاف خلقته وخلقته، فجزي خبرا وقياسا <ref>[ أي فجزي استدلالا بالخبر والقياس. ]</ref> على ما كان ممنوعا لإنسان فأتلفه إنسان، فعليه قيمته لمالكه.
 
قال الشافعي: فالحكم فيه بالقيمة يجتمع في أنه يقوم قيمة يومه وبلده، ويختلف في الأزمان والبلدان، حتى يكون الطائر ببلد ثمن درهم، وفي البلد الآخر ثمن بعض ردهم.
سطر 3٬131:
قلت: نصب لهم البيت الحرام، وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه، وتأخيه إذا غابوا عنه، وخلق لهم سماء وأرضا وشمسا وقمرا ونجوما وبحارا وجبالا ورياحا.
 
فقال: { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } <ref>[الأنعام: 97]</ref>
 
وقال: { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } <ref>[النحل: 16]</ref>
 
فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات.
سطر 3٬149:
==(باب الاستحسان)==
 
قال: هذا كما قلت، والاجتهاد لا يكون إلا على مطلوب، والمطلوب لا يكون أبدا إلا على عين قائمة تطلب بدلالة يقصد بها إليها، أو تشبيه على عين قائمة، وهذا يبين أن حراما على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، والخبر - من الكتاب والسنة - عين يتأخى معناها المجتهد ليصيبه، كما البيت يتأخاه من غاب عنه ليصيبه، أو قصده بالقياس، وأن ليس لأحد أن يقول إلا من جهة الاجتهاد، والاجتهاد ما وصفت من طلب الحق. فهل تجيز أنت أن يقول الرجل: أستحسن بغير قياس ؟قياس؟
 
فقلت: لا يجوز هذا عندي - والله أعلم - لأحد، وإنما كان لأهل العلم أن يقولوا دون غيرهم، لأن يقولوا في الخبر باتباعه فيما ليس فيه الخبر بالقياس على الخبر.
سطر 3٬211:
فإن قال: فاذكر من كل واحد من هذا شيئا يبين لنا ما في معناه؟
 
قلت: قال رسول الله: إن الله حرم من المؤمن دمه وماله، وأن يظن به إلا خيرا <ref>[(به) نائب فاعل (يظن) وهو جائز عند الكوفيين ولا يجيزه الجمهور وسيأتي نظائر هذا في كلام الشافعي نستغني بالإشارة هنا عن إعادتها. ]</ref>
 
فإذا حرم أن يظن به ظنا مخالفا للخير يظهره: كان ما هو أكثر من الظن المظهر ظنا من التصريح له بقول غير الحق أولى أن يحرم، ثم كيف ما زيد في ذلك كان أحرم.
 
قال الله: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } الزلزلة:7،8 7، 8
 
فكان ما هو أكثر من مثقال ذرة من الخير أحمد، وما هو أكثر من مثقال ذرة من الشر أعظم في المأثم.
سطر 3٬225:
ويقول مثل هذا القول في غير هذا، مما كان في معنى الحلال فأحل، والحرام فحرم.
 
ويمتنع أن يسمى القياس إلا ما كان يحتمل أن يشبه بما احتمل أن يكون فيه شبها <ref>[ استعمل الشافعي هنا وفي مواضع اسم كان منصوبا إذ تقدم عليه الجار والمجرور. ]</ref> من معنيين مختلفين، فصرفه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر.
 
ويقول غيرهم من أهل العلم: ما عدا النص من الكتاب أو السنة، فكان في معناه فهو قياس، والله اعلم.
سطر 3٬231:
فإن قال قائل: فاذكر من وجوه القياس ما يدل على اختلافه في البيان والأسباب، والحجة فيه سوى هذا الأول، الذي تدرك العامة علمه؟
 
قيل له إن شاء الله: قال الله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } <ref>[البقرة: 233]</ref>
 
وقال: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم، فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } <ref>[البقرة: 233]</ref>
 
فأمر رسول الله هند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها - وهم ولده - بالمعروف بغير أمره.
سطر 3٬317:
ثم وجدناهم مجمعين على أن تعقل العاقلة ما بلغ ثلث الدية من جناية في الجراح فصاعدا.
 
ثم افترقوا فيما دون الثلث: فقال بعض أصحابنا: تعقل العاقلة الموضحة <ref>[ الموضحة: الجرح الذي يبدي وضح العظم أي بياضه. ]</ref> وهي نصف العشر فصاعدا، ولا تعقل ما دونها.
 
فقلت لبعض من قال: تعقل نصف العشر، ولا تعقل ما دونه: هل يستقيم القياس على السنة إلا بأحد وجهين؟
سطر 3٬369:
ولو قضى النبي بنصف العشر على العاقلة: أن يقول قائل: تغرم نصف العشر والدية، ولا تغرم ما بينهما، ويكون ذلك في مال الجاني؟! ولكن هذا غير جائز لأحد، والقول فيه أن جميع ما كان خطأ فعلى العاقلة، وإن كان درهما.
 
وقلت له: قد قال بعض أصحابنا: إذا جنى الحر على العبد جناية فأتى على نفسه أو ما دونها خطأ، فهي في ماله دون عاقلته، ولا تعقل العاقلة عبدا، فقلنا: هي جناية حر، وإذ قضى رسول الله أن عاقلة الحر تحمل جنايته في حر إذا كانت غرما لاحقا بجناية خطأ، وكذلك جنايته في العبد إذا كانت غرما من خطأ، والله أعلم، وقلت بقولنا فيه، وقلت: من قال لا تعقل العاقلة عبدا احتمل قوله لا تعقل جناية عبد، لأنها في عنقه دون مال سيده غيره <ref>[(غيره) بدل من (سيده) ]</ref> فقلت بقولنا، ورأيت ما احتججت به من هذا حجة صحيحة داخلة في معنى السنة؟
 
قال: أجل.
سطر 3٬437:
قلت: وقد رأيت دية المرأة نصف دية الرجل، فما منع ذلك جراحها أن تكون في ديتها، كما كانت جراح الرجل في ديته؟!
 
وقلت له: إذا كانت الدية في ثلاث سنين إبلا أفليس قد زعمت أن الإبل لا تكون بصفة دينا؟ فكيف أنكرت أن تشترى الإبل بصفة إلى أجل؟ ولم تقيسه <ref>[ (لم) إما أن تكون مهملة على لغة أو أن تكون عاملة والياء إشباع للكسرة. ]</ref>
 
على الدية، ولا على الكتابة ولا، على المهر، وأنت تجيز في هذا كله أن تكون الإبل بصفة دينا؟! فخالفت فيه القياس، وخالفت الحديث نصا عن النبي: أنه استسلف بعيرا، ثم أمر بقضائه بعد؟!
سطر 3٬451:
قال: فما الخبر الذي يقاس عليه؟
 
قلت: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع: ( أن النبي استسلف من رجل بعيرا فجاءته إبل، فأمرني أن أقضيه إياه، فقلت: لا أجد في الإبل إلا جملا خيارا، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء ) <ref>[ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك في الموطأ. ]</ref>
 
قال: فما الخبر الذي لا يقاس عليه؟
سطر 3٬459:
قال: وفي مثل ماذا؟
 
قلت: فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة من نومه، فقال: { إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين } <ref>[المائدة: 6]</ref>
 
فقصد قصد الرجلين بالفرض، كما قصد قصد ما سواهما في أعضاء الوضوء.
سطر 3٬477:
قلت: نعم، كما جاز أن يقوم إلى الصلاة من هو على وضوء، فلا يكون المراد بالوضوء، استدلالا بأن رسول الله صلى صلاتين وصلوات بوضوء واحد.
 
وقال الله: { والسارق والسارقة، فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم } <ref>[المائدة: 38]</ref>
 
فدلت السنة على أن الله لم يرد بالقطع كل السارقين.
سطر 3٬501:
فإن قال قائل: ما الذي يغرم الرجل من جنايته، وما لزمه غير الخطأ؟
 
قلت: قال الله: { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } <ref>[النساء: 4]</ref>
 
وقال: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } <ref>[البقرة: 43]</ref>
 
وقال: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } <ref>[البقرة: 196]</ref>
 
وقال: { والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } <ref>[المجادلة: 3]</ref>
 
وقال: { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام } <ref>[المائدة: 95]</ref>
 
وقال: { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } <ref>[المائدة: 89]</ref>
 
وقضى رسول الله على (أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل، فهو ضامن على أهلها) <ref>[ رواه مالك في الموطأ 2/220 وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان وصححه الحاكم والبيهقي. ]</ref>
 
فدل الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه: أن هذا كله في مال الرجل، بحق وجب عليه لله، أو أوجبه الله عليه للآدميين، بوجوه لزمته، وأنه لا يكلف أحد غرمه عنه.
سطر 3٬555:
قال: فاذكر منه وجها غير هذا إن حضرك تجمع فيه ما يقاس عليه، ولا يقاس؟
 
فقلت له: قضى رسول الله في المصراة <ref>[ هي الشاة التي يحبس اللبن في ضرعها. ]</ref> من الإبل والغنم إذا حلبها مشتريها: ( إن أحب أمسكها، وإن أحب ردها وصاعا من تمر) <ref>[ رواه مالك في الموطأ 2/170 والشيخان.] ]</ref>، وقضى ( أن الخراج بالضمان)
 
فكان معقولا في ( الخراج بالضمان ) أني إذا ابتعت عبدا فأخذت له خراجا ثم ظهرت منه على عيب يكون لي رده: فما أخذت من الخراج والعبد في ملكي ففيه خصلتان: إحداهما: أنه لم يكن في ملك البائع، ولم يكن له حصة من الثمن، والأخرى: أنها في ملكي، وفي الوقت الذي خرج فيه العبد من ضمان بائعه إلى ضماني، فكان العبد لو مات مات من مالي وفي ملكي، ولو شئت حبسته بعيبه، فكذلك الخراج.
سطر 3٬595:
قال: فهل في هذا حجة تبين فرقك بين الاختلافين؟
 
قلت: قال الله في ذم التفرق: { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } <ref>[البينة: 4]</ref>
 
وقال جل ثناؤه: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } <ref>[آل عمران: 105]</ref>
 
فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات.
سطر 3٬609:
قال: فاذكر منه شيئا؟
 
فقلت له: قال الله: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } <ref>[البقرة: 228]</ref>
 
فقالت عائشة: الأقراء الأطهار، وقال بمثل معنى قولها زيد بن ثابت، وابن عمر، وغيرهما.
سطر 3٬631:
قلت: الحيض هو أن يرخي الرحم الدم حتى يظهر، والطهر أن يقري الرحم الدم فلا يظهر، ويكون الطهر والقري الحبس لا الإرسال، فالطهر - إذ كان يكون وقتا - أولى في اللسان بمعنى القرء، لأنه حبس الدم.
 
وأمر رسول الله عمر حين طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضا أن يأمره برجعتها وحبسها حتى تطهر، ثم يطلقها طاهرا من غير جماع، وقال رسول الله: فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء <ref>[رواه مالك 2/96 والشيخان. (1). ]</ref> يعني قول الله - والله أعلم – { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } <ref>[الطلاق: 1، فأخبر رسول الله أن العدة الطهر دون الحيض.
 
وقال الله: { ثلاثة قروء } وكان على المطلقة أن تأتي بثلاثة قروء، فكان الثالث لو أبطأ عن وقته زمانا لم تحل حتى يكون، أو تويس من المحيض، أو يخاف ذلك عليها، فتعتد بالشهور، لم يكن للغسل معنى، لأن الغسل رابع غير ثلاثة، ويلزم من قال: الغسل عليها أن يقول: لو أقامت سنة وأكثر لا تغتسل لم تحل!!
سطر 3٬645:
قلت: نعم، وربما وجدناه أوضح، وقد بينا بعض هذا فيما اختلفت الرواية فيه من السنة، وفيه دلالة لك على ما سألت عنه، وما كان في معناه إن شاء الله.
 
وقال الله: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } <ref>[البقرة: 288]</ref>
 
وقال: { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } <ref>[الطلاق: 4]</ref>
 
وقال: { والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } <ref>[البقرة: 234]</ref>
 
فقال بعض أصحاب رسول الله: ذكر الله المطلقات أن عدة الحوامل أن يضعن حملهن، وذكر في المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا، فعلى الحامل المتوفى عنها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا، وأن تضع حملها، حتى تأتي بالعدتين معا إذا لم يكن وضع الحمل انقضاء العدة نصا إلا في الطلاق.
سطر 3٬661:
قال: فدلت سنة رسول الله على أن وضع الحمل آخر العدة في الموت، مثل معناه الطلاق.
 
أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فمر بها أبو السنابل بن بعكك، فقال: قد تصنعت للأزواج! إنها أربعة أشهر وعشرا، فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله، فقال: كذب أبو السنابل، أو ليس كما قال أبو السنابل، قد حللت فتزوجي. <ref>[رواه الشيخان وأحمد وظاهره أنه مرسل لكن سياقه عند من ذكرت يرد ذلك فعند البخاري أن ابن شهاب كتب إليه أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن أبيه أنه كتب إلى ابن الأرقم أن يسأل سبيعة الأسلمية. . . ]</ref>
 
فقال: أما ما دلت عليه السنة فلا حجة في أحد خالف قوله السنة، ولكن اذكر من خلافهم ما ليس فيه نص سنة مما دل عليه القرآن نصا واستنباطا، أو دل عليه القياس؟
 
فقلت له: قال الله: { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاءوا، فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم } <ref>[البقرة:226،227 226، 227]</ref>
 
فقال الأكثر ممن روي عنه من أصحاب النبي عندنا: إذا مضت أربعة أشهر وقف المولي، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.
سطر 3٬671:
وروي عن غيرهم من أصحاب النبي: عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر.
 
ولم يحفظ عن رسول الله في هذا - بأبي هو وأمي - شيئا <ref>[الشافعي يجعل الجار والمجرور نائبا للفاعل مع وجود المفعول وهي لغة. ]</ref>
 
قال: فأي القولين ذهبت؟
سطر 3٬753:
قال: وأين يدل كتاب الله على ما قلت؟
 
قلت: قال الله: { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } <ref>[النساء: 176]</ref>
 
وقال: { وإن كانوا أخوة رجالا ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين } <ref>[النساء: 176]</ref>
 
فذكر الأخت منفردة، فانتهى بها جل ثناؤه إلى النصف، والأخ منفردا، فانتهى به إلى الكل وذكر الأخوة والأخوات، فجعل للأخت نصف ما للأخ.
سطر 3٬775:
قلت: إذن تكون ورثتها غير ما ورثها الله.
 
قال: فأقول: لك ذلك، لقول الله: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } <ref>[الأنفال: 75]</ref>
 
فقلت له: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } نزلت بأن الناس توارثوا بالحلف، ثم توارثوا بالإسلام والهجرة، فكان المهاجر يرث المهاجر، ولا يرثه من ورثته من لم يكن مهاجرا، وهو أقرب إليه ممن ورثه، فنزلت { وأولوا الأرحام } الآية على ما فرض لهم.
سطر 3٬888:
 
آخر كتاب الرسالة والحمد لله وصلى الله على محمد.
 
{{هامش}}