مجلة الرسالة/العدد 172/القصص

مجلة الرسالة/العدد 172/القصص

ملاحظات: صديقة الطلبة أو ميمي بينسون Mimi Pinson هي قصة قصيرة بقلم ألفرد دي موسيه نشرت عام 1888. نشرت هذه الترجمة في العدد 172 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 19 أكتوبر 1936



صديقة الطلبة

للشاعر الفرنسي الفريد ديمسيه

ترجمة السيد مظفر البقاعي

- 1 -

كان بين طلاب معهد الطب في جامعة باريس فتى لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر يدعي (أوجين أوبرت)، وهو من أسرة طيبة أقام أبواه في الريف وخصصا له نفقات ضئيلة كانت تقوم بأوده، وكان الشاب محبباً إلى رفاقه لطيب عنصره ودماثته وسخائه، وإنما كانوا يأخذون عليه انصرافه إلى الوحدة ورغبته عن الملاهي حتى لقبوه (بالطفلة) فكان يبتسم لدن سماع اللقب يقيناً منه أنه دعابة نزيهة.

وكان أوجين يمقت الغانيات ويعدهن من جنس خطر غادر، فيسرد بين سمع صحبه وبصرهم أدلته الوفيرة على رأيه، إلا أن هؤلاء كانوا يسخرون من مزاعمه، وبذهم في ذلك فتىً من خلانه مرح ماجن يدعى مارسيل كان لا يفتأ يحاوره ويجادله:

- أتزعم أن خطأ أو عارضاً حدث اتفاقاً يجيز لك وضع قاعدة مطردة!. . .

- بل إني أرى وجوب اجتناب أمثال هذه الأخطاء خيفة تكررها.

- هذه سفسطة. . .

ويطول الحوار في المقهى، والرفاق شهود، ويحرص مارسيل خلاله أن يثبت لأوجين أن النساء وخصوصاً العاملات منهن طاهرات وفيات، ثم يتخلص من ذلك إلى وصف جارة لأوجين اسمها ميمي بنسون بأوصاف مغرية يمل منها هذا فيتناول قبعته وينسل بلطف تاركاً مارسيل والمواعظ تتدفق من بين شفتيه. . .

- 2 -

لم تكن ميمي بنسون جميلة بالمعنى المعروف لدى الباريسيين، ولكنها كانت عاملة فتانة، وهناك فرق بين الغادة الوسيمة والعاملة الوضيئة، فتلك إذا ما ارتدت ثوباً بسيطاً وصداراً من حرير وخماراً صارت عاملة رشيقة، وأما هذه فأنها لو لبست رداء زاهياً ومعطفاً مخملياً فوقه وغطت رأسها بقبعة، فربما بدت حسناء، وقد تترآى للعيان كمشجب علقت عليه الثياب المذكورة.

وقد كانت الآنسة بنسون ذات أنف أخنس وفم أشدق وأسنان جميلة ووجه مستدير وعينين براقتين فيهما حور، وشعر أسود؛ وليست هذه أوصاف حسن باهر، ومع ذلك فقد قرر مارسيل إغواء أوجين وإغراءه بحب هذه الفتاة؛ ولعل هذا لأنه كان هو نفسه مغرماً بالآنسة زليا صديقة الآنسة بنسون الحميمة، راجياً أن يكون التحبب داعية الحب. ولئن كان ذلك ممكناً، بل لو كانت المصادفة أقوى الفتن والغوايات، فكم من أناس عجز الاتفاق عن التغلب عليهم وباءت المصادفة بالفشل إزاءهم. . . ومن تلكم النفوس كانت نفس أوجين.

لم يكن مارسل يجهل سجايا خدينه، فرسم خطة سهلة أيقن أنها رائعة فعالة في التغلب على ثبات صاحبه ومقاومته، ذلك أنه أولم احتفاء بعيد مولده وليمة كان قد هيأ لها بضع زجاجات من الجعة، وقطعة لحم قديد، وشيئاً من السلطة، وقرص حلوى كبير، وزجاجة من خمر شمبانيا. ودعا طالبين من رفاقه، وطلب إلى صديقته زليا أن تأتيه مساء يومئذ وبصحبتها الآنسة بنسون. وفي الموعد المضروب عندما كانت الساعة تدق السابعة طرقت العاملتان الباب ودخلتا: زليا مرتدية ثوباً قصيراً مشطباً، وبنسون رداء أسود لم يكن يفارقها. وبعد أن جلستا واحتستا الكأسين الأوليين استأذنهما رب المنزل في التغيب قليلاً، وقصد تواً إلى منزل أوجين فوجده كعادته محاطاً بكتبه مكباً عليها، فبعد كلمات منمقة غير ذات معنى، بدأ يلومه برقة وينعى عليه إجهاده نفسه، وبنصحه بوجوب الاستراحة والتلهي، ثم اقترح عليه القيام بنزهة قصيرة، فقبل أوجين الاقتراح لأنه كان متعباً بعد إذ قضى يومه في الدرس والمطالعة. وبعد جولة لم يعد صعباً على مارسيل أن يستزير صديقه، وكان الفتاتان قد أطلقتا لنفسيهما العنان إذ داخلهما السأم من الانتظار، فخلعتا وشاحيهما وحسرتا، ثم أخذتا ترقصان وتتذوقان ما على الخوان على سبيل التسلية. فلما دخل الشابان وقفتا في ذهول وقد توردت وجنتاهما، ثم حيتا أوجين في استحياء وحيرة ودهشة لعرفانهما سلوكه واعتزاله، وبعد أن أجالتا فيه النظر عادتا إلى الرقص والغناء؛ أما أوجين فقد تقهقر ليولي الأدبار لولا أن أقفل مارسيل الباب وألقى المفتاح على المائدة وصاح:

- لقد امتلكنا هذا النافر المعتكف. . أقدم لكما يا آنستيّ أفضل شاب في فرنسا، وهو راغب في التشرف بمعرفتكما منذ زمن طويل، وإنه جد معجب بالآنسة بنسون.

فكفت الصبيتان عن الرقص، وحيتا أوجين كرة أخرى، وقال له مارسيل:

- إني قدتك بالرغم منك لتشاركني في عيدي الخاص، فهلا فعلت؟

وبإشارة من مارسيل قالت له بنسون بصوت عذب: ذلك رجاؤنا يا سيدي.

ووافى القوم آنئذ الطالبان المدعوان، فلم يعد لأوجين سبيل إلى الخلاص فجلس على مضض.

- 3 -

دام العشاء إلى ساعة متأخرة أكثر خلاله الفتية من تدخين اللفائف واحتساء العقار. أما العاملتان فكانتا فكاهة المجلس وتعلة السامر بأحاديثهما الشائقة وفيها المعقول والمبالغ فيه: فمنها أن كاتبين ربحا في القمار عشرين ألف فرنك وبدداها مع عاملتين خلال ستة أسابيع؛ وأن ابن أحد أعاظم أغنياء باريس قدم لغسالة معروفة (لوجا) في الأوبرا وداراً في الضاحية فرفضتهما وآثرت أن تظل بارة بأبويها العجوزين، وأن وجيهاً زار عاملة فنفاها أولو الأمر إلى أمريكا وأعطوها محفظة مفعمة بالأوراق المالية. . .

فقاطعهما مارسيل أخيراً قائلاً: إن زليا تبتكر وتغرق، أما الآنسة ميمي فقد فاتها أن الكاتبين ما ربحا شيئاً، وما قدم الغنى غير برتقالة، والعاملة في المستشفى في أشد حاجة إلى القوت. . .

نهضت عندئذ بنسون - وقد لاح لأوجين أنها اصفرت عند سماعها الجملة الأخيرة - فقالت:

- إن كان مارسيل لا يصدق القصص فليسمع هذه الحادثة وقد كنت أحد أبطالها:

ذهبت في الأسبوع الفائت مع اثنتين من صديقاتي وهما بلانشت وروجيت إلى مسرح (الأديون) لمشاهدة رواية، فاستأجرنا لوجاً ودفعت روجيت الثمن - إذ كانت قد ورثت مالاً، فرآنا ثلاثة طلاب ودعونا للعشاء، فقمنا إلى مطعم المسرح مع الأبطال وأخذنا نطلب أفخر الأطعمة وأغلاها وأسرفنا في الطلب؛ وكنا كلما قدمت صفحة تناولنا منها لقمة أو لقمتين ثم نستبدلها من غيرها، والشبان الثلاثة يحرقون الأرم على أن لو استطاعوا ازدراد شيء من الصحون المرفوضة أو المعادة؛ وجعلوا أخيراً يفكرون في أمر الدفع فقد كان مع أحدهم ستة فرنكات ومع الثاني دون ذلك ومع الأخير ساعته. ثم قاموا متثاقلين يجرون أرجلهم نحو المحاسب الذي ابتدرهم بقوله: الثمن مدفوع، لأن روجيت دفعت الثمن سلفاً. ثم عرضنا على السادة المذكورين إبلاغهم إلى دورهم ولكنهم مانعوا ورفضوا جهدهم فأصررنا وقد تظاهرنا بأننا ثريات نبيلات، وكانت روجيت تقول لي:

- يجدر بنا أيتها المركيزة أن نقود السادة إلى منازلهم.

فأجيبها: حباً وكرامة يا كونتس!

لم ترق هذه القصة للتلميذين صديقي مارسيل، فوجما وقد اغبر وجهاهما، ولعلهما كانا يعرفان تفاصيل الحديث أكثر من الآنسة بنسون التي طلب منها مارسيل أن تسميهم له فرفضت، فسر أوجين من إبائها وأثنى عليها قائلاً:

- أنت محقة أيتها الآنسة، إذ ليس بين الشبان الذين يملئون الجامعات والمدارس من خلا من خطيئة ارتكبها، أو طيش فعله، ومع ذلك فكل رجال فرنسا البارزين من سياسيين وقضاة وأطباء إنما يخرجون من هناك. . .

وقال مارسيل: هذا حق، فكم من عين قضى طفولته يتناول الطعام في أحقر المطاعم، بل ربما لم يكن لديه ثمن القوت ثم سألها وهو يغمز بعينه: ألم تري بعدئذٍ العشاق المجهولين؟ فأجابته غضبى نافرة: من تحسبنا؟ أولا تعرف بلانشت وروجيت. . . فقاطعها قائلاً: حسناً لا تغضبي، ولكنها قصة ثلاث طائشات بددن مالهن وأضعنه جزافاً كي يسخرن بثلاثة مساكين لا يد لهم في الأمر!

فأجابته: ولم إذن دعونا؟

- 4 -

طلب مارسل إلى ميمي أن تغني، فأنشدت مديحاً قيل فيها يتلخص فيما يلي:

(ليس لميمي غير ثوب واحد وقبعة. رداؤها لا يرتهن مدى الزمن مهما اعتراها من محن).

وكانت الجمل الثلاث الأخيرة لازمة الأغنية، جعل السامعون يرددونها، ويضربون الطاولة بمقابض السكاكين أو بالغلايين فيحدث من ذلك دوي شديد أزعج الآنسة المغنية فقالت: كفى، ليت عندنا آلة موسيقية نرقص شوطاً على إيقاعها.

قال مارسل: لدي قيثارة لكن أوتارها ناقصة.

وقالت زليا: هو ذا بيانو وسيعزف عليه مارسل. فحدجها هذا بنظرة غضب قاسية وقال: إنك تعلمين أنني لا أكاد أعرف عزفاً، وأن ليس سواك من يستطيع أن يلاعب أصابع العاج؛ ولو كنت طلبت ذلك من أوجين لسقطت على الخبير ولكني لا أريد إزعاجه.

فاحمر وجه أوجين وانسل بكياسة فجلس إلى البيانو وأخذ يعزف فابتدأ الرقص، ولكنه لم ينته إلا بعد أمد طويل إذ جعل القوم ينتقلون من رقص إلى رقص دون كلال أو ملال، وأنهك السهر والصياح أعصاب أوجين فاستولى عليه النعاس ولكنه استمر يعزف بصورة آلية كالفارس النائم على فرسه، وكانت الراقصات تمررن من أمامه كأشباح في الحلم. ولا مرية في أن الحزن يستولي على من يرى غيره يضحك بمعزل عنه، وكذلك عاودت أوجين بلابله ووساوسه فجعل يناجي نفسه:

هذا لعمري سرور من حزن واغتباط من بؤس، وإنها لحظات يخيل إلى أنها اختلست من أوقات الشقاء. ومن يدري أي واحد من هؤلاء الخمسة لديه ما يسد به رمقه غداً؟!

وبينا هو غارق في لجة أفكاره وهواجسه مرت بقربه الآنسة بنسون وخيل إليه أنها اختلست قطعة الحلوى من الخوان ودستها في جيبها.

- 5 -

وانبلج الصباح فانفض السامر وتفرق السمار، ومضى أوجين يدلف في الدروب والسكك يستنشق نسيم الصباح العليل وهو ممعن في خوض عيلم من أفكاره السوداء وصار يردد على رغمه:

(ليس لميمي غير ثوب واحد وقبعة). ويتساءل: - هل تدفع التعاسة الإنسان إلى التظاهر بالجذل والسخر من البؤس؟ وهل يفتر ثغر جائع عن ابتسامة!. . .

وكان يعتاده الأسى إذا ما ذكر أمر اختلاس الحلوى فيهتز حنواً ورحمة ويقلب الأمر ظهراً لبطن ويقول:

- ترى لم سرقت الحلوى ولم تسرق الخبز!. . . ثم لا يلبث أن يلتمس لها عذراً.

لم ينتبه أوجين ليرى أين طاحت به قدماه، فدخل اتفاقاً بعض المنعطفات التي أدت به إلى أزقة ضيقة، فلما تبين ذلك عاد أدراجه فرأى امرأة هزيلة صفراء الوجه شعثاء الشعر أطمارها بالية خرجت من دار قديمة، وقد بدا عليها السقام واصطكت ركبتاها حتى لم تكد تستطيع مشياً فجعلت تعتمد على الجدران.

وبدا لأوجين أنها تقصد صندوق البريد القريب فابتدرها مضطرباً وسألها عن أمرها وهدفها، ثم مد لها ذراعيه لتستند عليهما وقد شارفت على السقوط فازورت في كبرياء ووجل وألقت إليه بالبطاقة التي تحملها، وأشارت إليه أن يضعها في الصندوق وعادت تجر ساقيها مشية النزيف أمضه الونى حتى دخلت دارها، فتحرك لها فؤاده ورقت لها حناياه وأشاطه الحنو بعد رزانة ففض غلاف الرقعة دون ما روية أو تريث إذ أدرك أن هذه السقيمة قد تقضي قبل أن تتلقى جواباً، وكان عنوان الغلاف: (إلى حضرة البارون. . .) وفحواه ما يأتي:

(اتل يا سيدي كتابي ولا تهمله، فأنا أموت جوعاً إذ لم أحصل على بلغة منذ أيام، وأمس بت على الطوى وما أزال، وقد لا يصل كتابي إليك إلا وأصبح شريدة بلا مأوى، فقد أقعدني المرض عن العمل لأكسب قوتي وأدفع أجرة المسكن. أرسل لي بربك ديناراً بلا تأخر، ولا تدعني في شك يلتهم ما أبقت الآلام مني، إني منتظرة حتى نهار الخميس في داري: شارع المهماز، واسمي الجديد الآنسة برنان) (روجيت).

دهش أوجين أشد دهشة لما رأى التوقيع وتمتم قائلاً:

- إنها الفتاة التي بددت دراهمها نفسها. . . لقد ألقى بها الداء إلى هذه الهاوية من الذل!. . . وأردف يتابع نجواه:

- ليت شعري ألم تعلم صديقاتها بأمرها؟ أم ترى تركنها تتضور جوعاً وفي العراء من غير ملجأ!. . .

وأفاق من ذهوله كأنما كان في حلم مريع فسارع إلى طاه كان يفتح حانوته فاتباع طعاماً ثم سار يقود أجير الطاهي إلى دار روجيت، فلما وصلها أوعز للغلام أن يطرق الباب ويعطيها الطعام فإن سألته عن مرسله فليقل إنه (البارون. . .) ثم سار متثاقلاً فأصلح من شأن الرسالة وألقاها في صندوق البريد وهمس يحدث نفسه:

(أما إذا رأت روجيت أن جواب بطاقتها كان سريعاً فستفهم السر من البارون).

- 6 -

كان أوجين يرى من الواجب أن يرفق المائدة المرسلة بالدينار المطلوب ولكنه كان خالي الوفاض صفر اليدين. فإن الطلاب كالعاملات فقراء، وليست الدراهم بضاعة رائجة في الحي اللاتيني؛ لذا قصد فتانا حلاقاً مرابياً في ساحة البانطيون ليرهن بعض حاجاته وهناك ألفى خليله مارسل يحلق لحيته ويقترض مالاً يفي به ثمن عشاء الأمس، فلما أبصره هذا سأله عن جلية أمره فأطلعه بإيجاز على قصده، فسخر منه مارسل وصار يعنفه وأوجين لا يزداد إلا متانة وعزماً، وأخذ يلوم ميمي بنسون وإضرابها من الصديقات اللواتي يتناسين عشيراتهن بالأمس ويوجه إليهن سهاماً صائبة من الانتقاد والاحتقار الشديد إلى أن قال:

- إن فتاتك بنسون غول فظيع عدا كونها متهللة خليعة ماجنة. أما صداقتها فمادية ممقوتة.

فقال الحلاق المرابي واسمه الأب كاديديس:

- إنك قاس وحكمك جائر لأني أعرف الآنسة بنسون وأعتقد أنها نبيلة سامية وهي عظيمة.

فأجاب أوجين: - نعم هي عظيمة في شراهتها وكثرة تدخينها.

فقال المرابي: - ذلك ممكن وأكثر الشبان ما بين آكل وضاحك ومغن ومدخن، على أن منهم من له قلب يحس ويتألم فسأله مارسل: - ماذا تقصد؟

فأجاب الحلاق: - هناك في مؤخرة الحانوت ثوب حريري تعرفانه يا سيدي لأنكما تعلمان أن صاحبته لا تملك سواه، وهي الآنسة ميمي التي رهنتنيه فجر اليوم لكي تسعف روجيت أولاً فإنها في أشد عوز.

ودخل مارسل إلى أقصى الحانوت ليشاهد الثوب العتيد وتبعه أوجين فقال الأول:

- إن أنشودة ميمي كاذبة إذ رهنت ردائها!. . . كم أعطيتها أيها الأب كاديديس على هذه الرهينة الثمينة.

- أقرضتها أربعة فرنكات وكنت لها محسناً لأن الثوب بال قديم. فصاح مارسل:

- مسكينة ميمي! أراهن على أنها رهنت الرداء لتساعد روجيت؟

فقال أوجين: - أو لتدفع ديناً ممطولاً.

وأردف المرابي قائلاً: وإني لأذكر أن بعض دائنيها حجزوا على أثاث دارها ولم يتركوا لها سوى سريرها وكانت نائمة عليه وقد ارتدت أربعة أثواب فوق بعضها كيلا يأخذ الغرماء واحداً منها، وقد كانت يومئذ في حال خير من حالها اليوم، فلم ترهن ثوبها إذن لتفي ديناً، ويدهشني أن يكون ذلك لمعونة بائسة مثلها.

واسترد مارسل الثوب بعد أن دفع قيمة الرهن، وخرج مع صديقه - الذي أصر على أن الرهن ليس من أجل روجيت - فقصد دار ميمي تنفيذاً لرهان عقداه.

- 7 -

- ذهبت الآنسة إلى الصلاة.

هذا ما قاله البواب للطالبين عندما سألاه عن ميمي.

فصاح أوجين في عجب: إلى الصلاة!

وردد مارسل: إلى الصلاة! هذا مستحيل لأنها لم تبرح الدار. دعنا ندخل فنحن أصدقاء قدماء.

ولكن البواب أكد لهم أنها خرجت مذ هنيهة إلى الكنيسة المجاورة دأبها كل صباح. وفيما هم كذلك إذ ظهرت تجتاز الشارع فأسرع مارسل ينعم النظر في أثوابها فرآها ترتدي غلالة عتيقة مؤتزرة بستارة نافذة من الصوف الأخضر، وقد سترت رأسها بنصيف أبيض فبدت بهذه الأطمار خلابة وأزاحت الستر قليلاً فبانت قامتها الهيفاء. وقالت للفتيين: - هذا ثوب تفضل.

فقال مارسل - لعمري إنك فاتنة. قالت: إني غدوت كحزمة. قال: بل طاقة ورد، وإني نادم إذا رددت لك ثوبك. قالت: وأين وجدته؟!

قال: فككت أسره، وأطلقت رقه، ودفعت فديته، فهل تغفرين جرأتي؟

قالت: نعم وسأنتقم.

وأخذت ترقى الدرج إلى غرفتها وخلفها الصديقان حتى وصلت إليها، فدخلوا جميعاً. وقال مارسيل: - لا أعيد لك الرداء إلا على شرط.

قالت: ويحك! أشروط! إنها حماقة لا أريدها.

قال: لقد تراهنا! فقولي بصراحة لم رهنت ثوبك؟

قالت: دعني أرتديه ثم أخبركما عن السبب. استرا وجهيكما كي لا أضطر إلى لبسه في الخزانة أو على السطح. فأجاب مارسل: - اطمئني فلن نختلس نظرات.

- إني أثق بكما ولكن قيل: أحذر الأمين.

وخلعت الستارة وألقتها على وجهي الشابين، وأمرتهما بالصمت والخضوع، فقال مارسيل: إحذري أن يكون في الستر خرق نراك منه، فقد جعلنا فعلك في حل من كلامنا.

فهتكت الستار ضاحكة فقالا:

- سرك يا آنسة هلا بحت لنا به وأنجزت وعدك؟

فترددت هنيهة ثم دفعتهما نحو الباب وقالت:

- تعاليا معي فتريا.

- 8 -

بعد مسير غير قصير في طرق ملتوية ودروب ضيقة سار فيها أوجين من قبل وصل الثلاثة إلى دار روجيت فدخلوها، وقد ربح مارسل الرهان لأن الأربعة فرنكات وقطعة الحلوى التي سرقتها الآنسة بنسون أمس كانت على المائدة مع فضلات الدجاجة التي أرسلها أوجين.

وكان حال المريضة خيراً من قبل، وكان شكرها للمحسن المجهول عظيماً. وقد اعتذرت بواسطة صديقتها بأنها غير قادرة أن تستقبل الشابين فانصرفا متعجبين من هذه الكبرياء وهذه العفة.

وبعد أن حضرا دروسهما في المعهد تغديا معاً، وفي المساء خطرا يتنزهان في الشارع الإيطالي. وأخذ مارسل يحاور عشيره ويحاول إقناعه قائلاً:

- طالما لمتني على حبي هؤلاء العاملات، وقد رأيت من طيب أنفسهن ونبلهن البرهان القاطع. من هو ذلك المحسن الذي قام بما قامت به ميمي من أجل صديقتها؟ إن فتاة ترهن ثوبها الوحيد وتسرق قطعة حلوى لتساعد رفيقتها لجديرة بالتقديس وخلود الذكر. أما تلك العليلة فإنها لا تقل عن خدينتها شرفاً وطهراً؛ ولو أن فيها أدنى شائبة لما طلبت كسائلة صدقة من أحد. وكادت تقضي منتظرة لولاك، فلم تخش موتاً محققاً، وهي التي عرفت حلاوة العيش عندما ألقت بنفسها في النهر مرة من قبل.

فقال أوجين: حسبك يا مارسل! أتظن أن أيامي كهؤلاء بلا عائل ولا سند هن ذوات حنكة أو دراية كافية؟ وهل يا ترى نذرن أنفسهن البائسة للشقاء والتعاسة؟ ليت شعري متى يعدن إلى جادة الخير والصلاح؟ ألا قل لي أولا تعاملونهن يا معاشر الشباب بطيشكم ومجونكم المعهودين؟! هيا بنا إلى دار روجيت المريضة علنا نحملها على أن تسلك الصراط المستقيم، ولن أطلب منها قسماً بل لا أؤنبها ولا أوبخها، ولكني سأقترب من سريرها فآخذ بيديها ويدي صاحبتها وأقول لهما. . .

ومرّ آنئذٍ أمام مقهى لاح لهما فيه على ضوء المصباح وجها فتاتين تأكلان حليباً مجمداً، فلما رأتا الشابين لوحت لهما الأولى بمنديلها وقهقهت الأخرى ضاحكة. فقال مارسل مقاطعاً أوجين:

- واهاً! إن كنت ترغب أن تحدثهما فهم هنا في مرح ولهو، ويظهر أن البارون قام بالمطلوب.

فأجابه:

أولا يخيفك جنون كهذا؟

نعم! لكني أرجو أن لا تطعن في العاملات وخصوصاً اللواتي على شاكلة بنسون.

(دمشق)

مظفر البقاعي