مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/10


خطأ لوا في وحدة:Header على السطر 208: attempt to concatenate a nil value.

الفصل العاشر. حاجي بابا يناجي نفسه ويصبح بائع دخان متجولاً عدل

شاورت نفسي فيما يمكنني أن أعمل لأكسب رزقي، وفكرت في عدد من المسالك: التسول في إصفهان كان حرفة ممتازة، وباعتبار أنني نجحت في السقاية، كنت على الأغلب نجحت فيه أيضاً، ولأصبحت خلال فترة وجيزة من معلمي هذه المهنة. من جهة أخرى، يمكن أن أصبح بهلواناً يقدم عروضاً مع دب مروَّض. ولكن المهنة الأولى تحتاج إلى بعض الخبرة لمعرفة حيلها، والمهنة الثانية يلزمها معرفة في ترويض الدببة، لذا تركت هاتين الفكرتين. كان يمكنني أيضاً أن أعمل في حرفتي فأستأجر محل حلاقة؛ ولكنني ما أحببت فكرة الاستقرار في مشهد، لا سيما أنها بعيدة عن بلدي إصفهان. وأخيراً قررت أن أتبع ميولي، وبما أنني كنت أهوى التدخين قررت أن أصبح بائع دخان متجولاً، فاشتريت غلايين من شتى الأحجام وصينية خشبية وضعت فيها رؤوس الغلايين مثبتة إلى حزامي، ووعاءً من حديد للجمر أحمله في يدي وملقطاً حديدياً وإبريق نحاس للماء علقته على خطاف وراء ظهري وأكياساً طويلة أضع فيها أنواع التبغ. كل هذه الأدوات كانت مثبتة حول جسمي، وإذا حملتها جميعها صار شكلي يشبه القنفذ عندما تنتصب كل أشواكه. كنت أحمل ألواناً متنوعة من التبغ: الطبسي والشوشاني والشيرازي والبغدادي واللاذقاني، ولكني ما كنت ربحت شيئاً لو أعطيت كل عباد الله تبغاً صرفاً، ولكني شكلت مخزوناً كبيراً من شيء يسير من التبغ مستعيناً بألوان الروث. كنت أتعرف بالفراسة على ذواقي التبغ بين زبائني فأعطيهم تبغاً صرفاً تقريباً. كانت أرباحي تتوقف على مقدرتي على تمييز الناس، فأولئك من الطبقة المتوسطة كنت أعطيهم تبغاً نصف ممزوج، ولمن أدنى منهم مزيجاً ثلاثة أرباعه روث، أما الطبقة الدنيا فكانوا يحصلون على خليط يكاد يخلو من التبغ، وحالما أرى علامات الاستياء أستعمل كل مهارتي في مدح أنواع التبغ الموجودة عندي، فأعرض لهم عينات من أفضل ألوان التبغ وأتغنّى بنوعيتها الممتازة وأروي لهم قصة المزارع الذي أقتنيتها منها، ثم ألهيهم بقصة مسلية أحاول أن أطيل في روايتها حتى يأخذ الزبون نفسين أو ثلاثة.

بعد فترة وجيزة اشتهرت في كامل مشهد بجودة دخاني. وكان بين زبائني درويشٌ، ولكنه كان ذواقةً لدرجة أنني كنت أضطر ألا أعطيه إلا التبغ الصرف. ومع أنني لم أكن أربح منه الكثير، لا سيما أنه لم يكن يحاسبني بانتظام، إلا أن حديثه كان لطيفاً ومسلياً، كما أنه دلّ عليّ العديد من أصدقائه، ولذا سعيت أن أحافظ على صداقته.

كان الدرويش صفر رجلاً غريب المظهر: معقوف الأنف أسود العينين، نظرته ثاقبة ولحيته كثيفة، وينسدل شعره الأسود الطويل على كتفيه. كانت قبعته المخروطية مطرزة بآيات من القرآن وبالأدعية، ويحمل على ظهره جلد أيل أحمر صوفه إلى الخارج، وفي يده عصا طويلة مصفحة بالحديد يضعها عادة على كتفه، وفي يده الأخرى قرعة معلقة بثلاث سلاسل يمدها عندما يطلب صدقة من المارة، وفي حزامه مشبك من عقيق معلق به عدد من المسبحات الخشبية الثقيلة. وعندما كان يسير في الشوارع والأسواق تثير تصرفاته وكلماته الموحشة العجيبة الرهبة في الناظرين؛ وقد عرفت فيما بعد أنه كان يقصد تمثيل هذه الشخصية، لأنه عندما كان يدخن من عندي، وإذا صدف أن لا أحد كان موجوداً في الجوار، كان يتحول إلى إنسان لطيف وبسيط وصريح، وبعد قليل صارت صداقتنا حميمة، فعرّفني على مجموعة صغيرة من أصدقائه الدراويش ودعاني إلى اجتماعاتهم. ورغم أن هذا كان يتضارب مع مصلحتي التجارية، لأنهم كانوا يدخنون من تبوغي الفاخرة أكثر من باقي زبائني مجتمعين، إلا أن مجالستهم كانت ممتعة فلم أستطع الامتناع عنها.

قال الدرويش صفر لي في إحدى الليالي التي دخن فيها أكثر من المعتاد: «يا حاجي بابا، أنت أكبر من أن تبقى بائع دخان طوال عمرك، فلم لا تصبح درويشاً مثلنا؟ لحى الرجال عندنا مثل التراب، ومع أن حياتنا غير مستقرة، لكنها متنوعة وفيها الكثير من وقت الفراغ. نحن ننظر إلى البشر نظرة صيادين ونكسب رزقنا من نقائصهم وسذاجتهم؛ ومما رأيته فيك أعتقد أنك ستشرِّف مهنتنا، وقد تشتهر مع الزمن مثل الشيخ سعدي نفسه.» استحسن رفيقاه كلامه وألحّوا عليّ أن أنضم إليهم. لم أكن أمانع هذه الفكرة، ولكني اعترفت بجهلي، وقلت:

«كيف يمكن أن يكتسب إنسانٌ جاهلٌ وسطحي مثلي على الفور كل العلوم التي يحتاجها الدرويش؟ صحيح أنني أعرف القراءة والكتابة وأحفظ القرآن وشعر حافظ وسعدي عن ظهر قلب، والكثير من الشاهنامه للفردوسي، ولكنني جاهل تماماً فيما عدا ذلك.»

فردّ عليّ الدرويش صفر: «آه، يا صديقي، أنت لا تعرف إلا القليل عن الدراويش، وأقل من ذلك عن جنس البشر. ما يحتاجه الدرويش ليس التبحُّر في العلوم: أهم شيء هو الجرأة. أعِدُك، يكفي عُشر علمك مع شيء من الوقاحة، وستلعب بأكياس سامعيك وعقولهم ورؤوسهم ولحاهم كما تشاء. من لا يخجل يستطيع أن يحقق الكثير. بفضل الوقاحة كنت نبيّاً، بالوقاحة صنعت المعجزات، بالوقاحة كنت أشفي المرضى على فراش الموت وأعيدهم إلى العافية، أي بالجرأة والوقاحة كنت أعيش حياةً كلُّها رفاهٌ، ويخافني ويحترمني أولئك الذين لا يعرفون – مثلك – الدراويش على حقيقتهم. لو رأيتُ الأمر جديراً بالعناء ورضيتُ أن أواجه المصاعب والمخاطر كتلك التي واجهها محمد لأصبحت الآن نبياً عظيماً مثله، ولما استصعبت أن أشقّ القمر كما فعل – بل أن أشق الشمس – متى كسبت ثقة من يسمعني. وبالوقاحة يمكن تحقيق هذا كله وأكثر من ذلك، إذا استخدمتها بالشكل المناسب.»

وبعد أن ختم الدرويش صفر حديثه استحسن رفيقاه كلامه؛ وحكوا لي قصصاً مسلية لا تحصى عن أفعالهم السابقة، فصرت أتوق لمعرفة المزيد عن هؤلاء الرجال الرائعين، فوعدوني أن يقصّوا علي سِيَرَهم في لقائنا القادم، وأوصوني بأن أفكر في هذه الأثناء في حياة أكثر كرامة ومتعة من بائع متجول للدخان المغشوش.