الخامس عدل

أن يقال قولك إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه ليس فيه ما يدل على افتقار المركب إلى أجزائه فإن كونه يستحيل وجوده دون الأجزاء يقتضي أنه لا يوجد بدونها بل لا يوجد إلا وهي موجودة

وكون الشيء لا يوجد إلا مع الشيء لا يقتضي افتقاره إليه بل إنما يكون مفتقرا إليه إذا كان لا يوجد إلا به ألا ترى أن المتضايفين لا يوجد أحدهما دون الآخر ولا يقال إن أحدهما مفتقر إلى الآخر كالنبوة والأبوة بل كلاهما معلول علة منفصلة فمعلولا العلة لا يوجد أحدهما دون الآخر وهما جميعا مفتقران إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر انه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر أنه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى الآخر ولا إلى علة

السادس عدل

أن يقال قولك وكل منهما غير مفتقر إليه خطأ ظاهر فإنه ليس من ضرورة كون المركب متوقفا على كل من أجزائه أن لا يكون شيء من تلك الجزاء متوقفا عليه وذلك أن المركب إن أريد به نفس الجزاء المجتمعة كان المعنى أن المجتمع متوقف على أو أن كل جزء متوقف على سائر الأجزاء أو على جزء آخر أو المجتمع على نفسه وأي شيء فرض من ذلك لم يلزم أن يكون أحد الجزأين هو المفتقر دون الآخر وإن قدر أن المركب هو الاجتماع أو الاجتماع مع الأجزاء فإنه إذا قدر أنها متلازمة لم يكن أحد الأجزاء واجبا بنفسه بمعنى إمكان وجوده دون سائر الأجزاء لا الاجتماع ولا غيره بل لا يوجد شيء منها إلا بالآخر فلا يكون شيء من الأجزاء غير مفتقر إلى المركب بل كل منها مفتقر إليه

وهذا لا يقاس بالواحد مع العشرة الذي يمكن وجوده دون وجود العشر فإن أجزاء العشرة ليست متلازمة وغنما الكلام في أمور متلازمة لا يمكن وجود بعضها دون بعض كالصفات اللازمة للرب تعالى

وما سماه النفاة أجزاء فإنه لا يمكن وجود صفة من تلك الصفات دون الذات بل ولا دون الصفة الأخرى وكذلك ما سموه جزءا لا يمكن وجوده دون الجميع ولا دون جزءا آخر فامتنع أن يقال إن كل جزء من الأجزاء غير مفتقر إلى المجموع المركب مع أن المجموع المركب مفتقر إليه بل إذا سمي هذا التلازم افتقارا فافتقار الصفة وما سموه جزءا إلى المجموع اعظم من افتقار الذات الواجبة بنفسها أو ما سموه المجموع المركب الواجب بنفسه إلى الصفة أو الجزء فإن المجموع هو الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم أصلا وكل جزء من أجزائه فلا يتصور وجوده بدون وجود الآخر وهذا كما يقولون إن الحيوانية والناطقية جزء من الإنسانية ومع هذا يمتنع وجود الجزء دون هذه الماهية المركبة وكذلك يقولون إن الجسم مركب من المادة والصورة ويمتنع وجود أحدهما بدون الجسم بل والجوهر الفرد عند عامة القائلين به يمتنع وجوده بدون وجود الجسم

السابع عدل

أن يقال قولك إن المركب الواجب بنفسه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه كلام باطل وهو بالعكس أولى

وذلك أن ما قدر انه جزء إذا كان مفتقر إليه لزم أن يكون واجبا بنفسه وإذا كان واجبا بنفسه فإما أن يكون مستقلا لا يتوقف على وجود الجزء الآخر ولا الجملة أو لا بد له من ذلك فإن كان مستقلا بنفسه لا يتوقف على جزء آخر ولا على المجموع لزم تعدد الأمور الواجبة بنفسها المستقلة التي يستغني بعضها عن بعض ولا يتوقف واحد منها على الآخر ولا على الجملة

ومعلوم أنه إذ كان هذا جائزا لزم أن يكون هناك مجموع كل منه واجب بنفسه والمجموع واجب بتلك الواجبات فإذا قدر تعدد الواجب بنفسه كان هذا مبطلا لأصل هذا الكلام فضلا عن فروعه

ومع تقدير تعدده يمتنع عدم تعدده فيكون الدليل الذي استدل به على نفي التركيب مستلزما لثبوت التركيب فيكون دليله يدل على نقيض مطلوبه وهذا أبلغ ما يكون في بطلان قوله

وإن قدر أن للمجموع غير تلك الأفراد فإن ما لزم الواجب كان واجبا ويبقى حينئذ الكلام في أن المجموع إن كان زائدا على العدد غنما وجوبه بالعدد نزاع لا فائدة فيه فإنه إذا قدر عشرة كل منهم واجب بنفسه لزم أن تكون العشرة واجبة قطعا وإذا كان كل من العشرة لا يقبل العدم لنفسه فالعشرة لا تقبل العدم بطريق الأولى والأحرى

وانضمام الواجب بنفسه إلى الواجب بنفسه إذا قدر ذلك لا يوجب ضعفا لأحدهما بل نفس ذلك الاجتماع هو من لوازم وجودهما بطريق الأولى والأحرى وإذا قدر أن اتصال بعضها ببعض من لوازم وجودها الواجب بنفسه لم يكن ممتنعا فإن الواجب بنفسه على هذا التقدير لا يمتنع أن يكون له لوازم وملزومات واجبة

ومن العجب أن هؤلاء القوم كهذا وأمثاله من الخائضين في واجب الوجود على طريقة ابن سينا الذين جعلوا التركيب عمدتهم في نفي ما ينفونه يوردون في طريق إثبات واجب الوجود أسولة تفسد ما ذكروه في انتفاء التركيب بالضرورة وهي لا تفسد امتناع التسلسل وهو مع ذلك يوردونها في طريق إثباته إشكالا على إبطال القول بالتسلسل الذي جعلوه مقدمة من مقدمات إثباته حتى يبقوا دائما في نصرة التعطيل بالباطل وهم إذا نصروا الإثبات ببعض ما نصروا به التعطيل كان فيه كفاية وبيان لفساد التعطيل

وبيان ذلك أنهم لما أثبتوا واجب الوجود جعلوا إثباته موقوفا على إبطال التسلسل لما قالوا إن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل ممكن مرجح ممكن فتتسلسل العلل والمعلولات الممكنة أو ينتهي الأمر إلى واجب لنفسه ثم قالوا لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزا كما قد تكلم على هذا في غير هذا الموضع

ومن أعظم أسولتهم قولهم لم لا يكون المجموع واجبا بأجزائه المتسلسلة وكل منها واجب بالآخر وهذا السؤال ذكره الآمدي وذكر انه لا يستطيع أن يجيب عنه ومضمونه وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر والمجموع معلول بالأجزاء

ومن المعلوم أنا إذا فرضنا مجموعا واجبا بأجزائه الواجبة التي لا تقبل العدم كان أولى في العقل من مجموع يجب بأجزاء كل منها ممكن لا يوجد بنفسه فإن المحتاج إلى الممكنات أولى بالإمكان أما الذي يكون وجوده لازما للواجبات فلا يمكن عدمه

والعقل الصريح الذي لم بكذب قط يعلم أن المركب المجموع من أجزاء كل منها ممكن لا وجود له بنفسه هو أيضا ممكن لا وجود له وأما المركب من أجزاء كل منها واجب بنفسه فإنه لا يمتنع كونه واجبا بنفسه أي بتلك الأجزاء التي منها واجب

وإذا قيل الإجتماع نفسه مفتقر إلى الأجزاء التي كل منها واجب بنفسه كان ذلك نزاعا لفظيا

والمقصود أن العقل يصدق بإمكان هذا ولا يصدق بإمكان أجزاء كل منها ممكن ن والمجموع واجب بها وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية فقالوا إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات ولا يوردون على أنفسهم ما أوردوه في إثبات واجب الوجود وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل مع تصديق ما جاءت به الرسل وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى بل وإثبات حقيقته التي لا يكون موجودا إلا بها فكان بمكنهم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب أو المركب الواجب أو الجملة الواجبة واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم؟

وكان هذا خيرا من أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجبا بنفسه أو واجبا بأجزائه؟

وهذا الآمدي مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفه بالكلام والفلسفة اضطرب وعجز عن الجواب عن الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود هو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل ويقول إن ذلك يستلزم التجسيم وأن المخالفين في الجسم جهال

ولو أعطى النظر حقه لعلم أن الجهل المركب فضلا عن البسيط أجدر بمن سلك مثل تلك الطريق فإن من شك في أوضح الأمرين وأبينهما في العقل وفي أمر لم يشك أحد من الأولين والآخرين فيه كان أولى بالجهل ممن قال بما قات به الأنبياء وارسل وأتباعهم وسائر عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين وعلم ثبوته بالبراهين اليقينية

وذلك أنه لم يجوز أحد من بني آدم وجود فاعل للعالم ولذلك الفاعل فاعلة إلى ما لا نهاية له من غير أن يكون هناك فاعل موجود بنفسه فمن شك في جواز هذا أو عجز عن جواب شبهة مجوزة كان جهلة بينا وكان أجهل من افحش الناس قولا بالباطل المحض من التشبيه والتجسيم حتى لو فرض القول الذي يحكى عن غالية المنتقضة لله من اليهود وغيرهم مثل الذين يصفونه بالبكاء والحزن وعض اليد حتى جرى الدم ورمد العين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا

فإذا قدر واجب بنفسه موصوف بهذه النقائص لم يكن هذا أبعد في العقل من وجود فاعل ليس موجودا بنفسه له فاعل ليس موجودا بنفسه إلى ما لا يتناهى فإن هذا وصف لجميع الفاعلين بالعدم الذي هو غاية النقص فإن غاية النقص أنه يرجع إلى أمور عدمية فكيف عدم ما يقدر فاعلا للعالم؟

فتبين أن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المريل وأن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا عن التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة

كلام الأمدي في مسألة هل وجوده تعالى زائد على ذاته أم لا؟ والتعليق عليه عدل

ومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدي لما تكلم على مسألة هل وجوده زائد على ذاته أم لا ذكر حجة من قال لا يزيد وجوده على ذاته فقال احتجوا بأنه لو كان زائدا على ذاته لم يخل إما أن يكون واجبا أو ممكنا لا جائز أن يكون واجبا لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا فإذا وجوده لو كان زائدا على ذاته لم كان واجبا فلم يبق إلا أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فلا بد له من مؤثر والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها والأول ممتنع لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجودا فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها فالوجود مفتقر إلى نفسه وهو محال وإن كان المؤثر غيرها كان الوجود الواجب مستفادا له من غيره فلا يكون الوجود واجبا بنفسه

ثم قال وهذه الحجة ضعيفة إذ لقائل أن يقول ما لا مانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه قولكم لأنه مفتقر إلى الماهية والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا لنفسه قلنا لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره بل الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقر إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقوله الفيلسوف في العقل الفعال بانه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة

قال وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكنا ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر بل الممكن هو المفتقر إلى الغير والافتقار إلى الغير أعم من الافتقار إلى المؤثر وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة

فيقال ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير وإن كونه ممكنا بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية

وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن

فيقال له: لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجبا بنفسه بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجبا بنفسه وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقارا إلى مؤثر بل إلى الغير كافتقار الوجود إلى الماهية إذا فرض تعددها

ويقال: قولك إن المجموع يكون ممكنا اتعني بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر أم ما يفتقر إلى الغير؟

فإن قلت الأول كان باطلا وإن قلت الثاني فلم إن الواجب بنفسه الذي لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكنا بمعنى انه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل؟

فهذا الكلام الذي ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والاحرى فإن توقف المجموع الواجب باجزائه على كل من أجزائه لا ينفي وجوبه بنفسه التي هي المجموع مع الأجزاء اما توقف الوجود على الماهية المغايرة له فإنه يقتضي توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلا فيه

ومعلوم ان افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزاه بل الأول لا ينفي كمال وجوبه إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه والواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه فلا يستغني عما هو داخل في مسمى نفسه أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له كان الواجب مفتقرا إلى ما ليس داخلا في مسمى اسمه فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا

ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيرا من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا: إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجود في الخارج وأن وجود واجب الوجود زائدا على ماهيته وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في إثناء كلامهم حتى من أصحاب الأئمة الأربعة احمد وغيره كأبن الزاغواني وهو احد قولي الرازي بل هو الذي رجحه في أكثر كتبه وكذلك أبو حامد

فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك وأدنى الأحوال ان يكون مثله فإن من قال: إن الوجود زائد على الماهية لزمه ان يجعل الماهية قابلة للوجود والوجود صفة لها فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره والصفة مفتقرة إلى محلها وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة من افتقاره إلى صفته اللازمة له وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذي لا يوجد إلا في ضمن نفسه؟ وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فإدل على إمكان الصفة بنفسها فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع ان يكون صفة لماهية فكيف يمتنع أن يكون مجموعا؟

وغاية ما يقال: إن الاجماع صفة للأجزاء المجتمعة الموجودة الواجبة ومعلوم أن صفة الأجزاء الواجبة بنفسها أولى أن تكون موجودة واجبة من صفة الماهية التي هي في نفسها ليست وجودا

فهذا الذي ذكره هناك حجة عليه هنا مع انه يمكن تقريره بخير مما قرره فإنه قد يقال: إن هذا تقرير ضعيف

وذلك أنه قال: لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره فإن الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع ان يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقول الفيلسوف في العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة

فقد يقال إن هذا التقدير ضعيف لوجوه

الوجه الأول: أن الكلام فيما هو واجب بنفسه لا فيما هو موجب لغيره أو فاعل له وإذا قدر ان الموجب الفاعل يقف على غيره لم يلزم أن يكون الواجب بنفسه يقف على غيره

الوجه الثاني: أن الموجب الفاعل لا تقف نفسه على غيره وإنما يقف تأثيره ولا يلزم من توقف تأثيره على غيره توقفه وهذا كما ذكره من التمثيل بالعقل الفعال فإن أحدا لا يقول: إن نفسه تتوقف على غيره الذي يقف عليه تأثيره فإذا كان هذا في الموجب فكيف بالواجب

بل هم يقولون: إن نفس إيجابه يتوقف على غيره بل وصول الأثر إلى المحل يتوقف على استعداد المحل

الوجه الثالث: ان هذا التمثيل يمكن في غير الواجب بنفسه أما هو سبحانه وتعالى فلا يتصور أن تقف ذاته على غيره ولا فعله على غيره فإن القوابل هي أيضا من فعله فالكلام في فعله للمقبول لها كالكلام في فعله للقابل فكل ما سواه فقير إليه مفعول له وهو مستغن عن كل ما سواه من كل وجه بخلاف الفاعل المخلوق الذي يتوقف فعله على قابل فإنه فعل مفتقر إلى شيء منفصل عنه لكن يمكن ان يجاب عنه بان يقال: إذا كان الموجب لغيره المتوقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون موجبا بنفسه كما قالوا في العقل الفعال فإن يكون توقف إيجابه على غيره لا يمنع ان يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى فإن الموجب لغيره واجب وزيادة إذ لا يوجد إلا ما هو موجود ولا يوجب إلا ما هو واجب

والعقل الفعال يقولون: هو واجب بغيره وهو موجب بغيره لا واجب بنفسه ومقصوده أن الوجوب والإيجاب بالذات لا يمنع توقف ذلك على غيره وإنما يمنع كونه مفعولا للغير

وتلخيص الكلام: أنه إذا قيل: إن الوجود زائد على الماهية كانت الماهية محلا للوجود الواجب فيكون الواجب لنفسه مفتقرا إلى قابل لا إلى فاعل

فنقول: الواجب هو الذي لا يكون مفتقرا إلى فاعل ليس هو الذي لا يكون مفتقرا إلى قابل فإن الذي قام عليه قطع التسلسل أن الواجب لا فاعل له ولا علة

أما كون الوجود الواجب له محل هو موصوف به أم لا؟ فذاك كلام آخر لكنه عضد ذلك بأن الإيجاب بالذات لا ينافي كون الموجب له محل يقبله فكذلك الواجوب بالذات لا ينفي أن يكون له محل يقبله واستشهد بالعقل الفعال لكنهم يقولون العقل الفعال ليس بموجب بالذات واما الرب الموجب بالذات فليس له محل يقبله

فتبين ان الاستشهاد بهذا لا يصح وليس التمثيل به مطابقا

والمقصود هنا أن الذي يعتمد عليه هو وأمثاله في نفي ما يسمونه التركيب هم أنفسهم قد أبطلوه في مواضع أخر واحتجوا به في موضع آخر وهو حيث احتجوا به أضعف منه حيث أبطلوه

وكذلك ما ذكره من الوجه الثاني على إبطال التركيب فإنه قال :

كلام الأمدي عن إبطال التركيب عدل

الوجه الثاني في امتناع كونه مركبا من الأجزاء أن تلك الأجزاء إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها أو ممكنة أو البعض واجبا والبعض ممكنا لا جائز أن يقال بالأول على ما سيأتي تحقيقه في إثبات الوحدانية وإن كان الثاني أو الثالث فلا يخفي أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته ومالا يكون واجبا لذاته لا يكون إلها

رد ابن تيمية عليه من وجوه عدل

قلت: ولقائل أن يقول: هذا الوجه أيضا فاسد من وجوه :

الوجه الأول عدل

أن يقال: لم لا يجوز أن تكون تلك الأجزاء كلها واجبة

قوله: على ما سيأتي تحقيقة في مسألة التوحيد

يقال له: الذي ذكرته فيما بعد مسألة التوحيد هي الطريقة المعروفة لأبن سينا وأتباعه من الفلاسفة وهي وجهان :

الوجه الأول: مبناه على أن المركب يفتقر إلى أجزائه وهذا هو الوجه الأول الذي ذكرته هنا فصار مدار هذا الوجه الثاني على الأول فلم يذكر إلا الأول وقد نبين فساده

الوجه الثاني: الذي ذكرته في التوحيد: مبناه على كون الوجوب يصير معلولا وهذا هو الذي ذكرته في كون الوجود الواجب لا يزيد على الماهية لئلا يكون معلولا للماهية وأنت قد أفسدت هذا الوجه وبما أفسدته به يفسد الآخر أيضا

فتبين أن ما ذكرته في مسألة التوحيد يعود إلى وجه واحد وأنت قد قدمت فساده فالحوالة على ما سيأتي وما سيأتي منه ما هو مكرر فكلاهما فاسد

وهو دائما في كلامه يذكر فساد هذه الطريقة حتى أنه لما استدلت الفلاسفة أتباع ابن سينا وغيرهم على أن الأجسام ممكنة بهذه الطريقة واستدل بها طائفة على حدوث العالم وهذا أول طريقة ذكرها في حدوث العالم فقال قد احتج الأصحاب بمسالك: الأول قولهم: العالم ممكن الوجود بذاته وكل ممكن بذاته فهو محدث

وقرر الإمكان بأن قال أجسام العالم مؤلفة ومركبة لما سبق بيانه في الأجسام وكل ما كان مؤلفا مركبا فهو مفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته فالأجسام ممكنة لذواتها والأعراض قائمة بالإجسام ومفتقرة إليها والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا

ثم ضعف هذا المسلك: قال وقولهم: إن العالم مركب مسلم ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة؟ وما ذكروه من الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها وأحال على ما ذكره في الوحدانية فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة ويحيل على ما ذكره في التوحيد

ومعلوم انه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك لكان مع ما فيه من التناقض أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء

الوجه الثاني عدل

أن يقال: أنت أيضا قد بينت في الكلام على إثبات وحدانية الله تعالى فساد هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا وغيره من الفلاسفة التي أحلت عليها هنا وذلك أنه قال الفصل الثاني في امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة: المسلك الأول: وهو ما ذكره الفلاسفة وذلك أنهم قالوا: لو قدر وجود واجبين كل واحد منهما واجب لذاته فلا يخلو: إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو باختلافهما من كل وجه أو باتفاقهما من وجه دون وجه فغن كان الأول فلا تعدد في مسمى واجب الوجود إذ التعدد والتغاير دون مميز محال وإن كان الثاني فما اشتركا في وجوب الوجود وإن كان الثالث فما به الاشتراك غير ما به الأفتراق وما به الاشتراك إن لم يكن هو وجوب الوجود فليسا بواجبين بل أحدهما دون الآخر وإن كان الاشترك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين: الوجه الأول: هو أن ما به الاشتراك من وجوب الوجود: إما أن يتم تحققه في كل واحد من الواجبين بدون ما به الافتراق أو لا يتم دونه فغن كان الأول فهو محال وإلا كان المعنى المشترك المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وهو محال وإن كان الثاني وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به وهو ما قيل بوجوب وجوده أولى أن يكون ممكنا الوجه الثاني: أن مسمى واجب الوجود إذا كان مركبا من أمرين وهو وجوب الوجود المشترك وما به الافتراق فيكون مفتقرا في وجوده إلى كل واحد من مفردية وكل واحد من المفردين مغاير للجملة المركبة منهما ولهذا يتصور تعقل كل أحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها والمعلوم غير المجهول وكل ما كان مفتقرا إلى غيره في وجوده إلى غيره ممكنا لا واجبا لذاته إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته إلا ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره وهذه المحالات إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته فيكون محالا

قال: وربما استروح بعض الأصحاب في إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضا وهو ضعيف إذ لقائل أن يقول وإن سلمنا الاتفاق بينهما من وجه والافتراق من وجه وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود ولكن لم قلتم بالامتناع؟ وما ذكرتموه في الوجه الأول إنما يلزم ان لو كان مسمى وجوب الوجود معنى وجوديا وأما بتقدير أن يكون امرا سلبيا ومعنى عدميا وهو عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا

ثم بسط الكلام في كونه عدميا بما ليس هذا موضع الكلام فيه

تابع كلام الآمدي عدل

قال وعلى هذا فقد بطل القول بالوجه الثاني فإنه إذا كان حاصل الوجوب يرجع إلى صفة سلب فلا يوجب ذلك التركيب من ذات واجب الوجود وإلا لما وجد بسيط أصلا فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه وإن سلمنا أن وجوب الوجود أمر وجودي ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم وإن كان واجب الوجود واحدا من حيث ان مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب ومن الوةجوب الذاتي فما هو العذر عنه مع اتحاد الوجود فهو العذر مع تعدده

تعليق ابن تيمية عدل

قلت: الوجه الأول ذكره الرازي قبله في إبطال هذا والوجه الثاني ذكره الرازي كما ذكره الشهرستاني قبله وهو أن هذا منقوض بمشاركة واجب الوجود لسائر الموجودات في مسمى الوجود وامتيازه عنها بوجوب الوجود فقد صار فيه على أصلكم ما به الاشتراك وما به الامتياز

والآمدي يقول: إن وجوب الوجود بالاشتراك اللفظي وقاله قبله الشهرستاني والرازي وأتباعه في ذلك يبين بطلان ما أحال عليه في قوله لا يجوز أن تكون الأجزاء كلها واجبة على ما سيأتي تحقيقه في مسألة التوحيد

ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق وتقويتها إذا نصر بها باطل: أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد والمدلول حق لا ريب فيه وإن قدر ضعف الحجة ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد

وأيضا فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضا فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما فإن لا يمتنع جزءان كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والآحرى

واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة: أحدهما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا والثاني المعارضة: أما المعارضة فوارده على هؤلاء الفلاسفة لا مندوحة لهم عنها ومعارضة الشهرستاني والرازي وأظن الغزالي أجود من معارضة الآمدي ومن اعتذر عن ذلك بان الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر

فبكل حال يلزم: إما لزوم التركيب وإما بطلان توحيدهم وأيهما كان لازما لزم الآخر فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب وهذا يبطل امتناع التركيب

ولا ريب أن أصل كلامهم بل وكلام نفاة العلو والصفات مبنى على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلي مطلق مثل الكليات وهذا الذي يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان والذي أبطلوه هو لازم لكل الأعيان فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج وأبطلوا واجب الوجود في الخارج

ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء: فنقول: قول القائل إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو اختلافهما من كل وجه أواتفاقهما من وجه دون وجه إن أريد به انهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج ولكن يشتبهان من بعض الجوه مع أن كلا منها مختص بما قام به نفسه كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين مع أنه ليس في أحدهما شيء مما في الآخر وغن أراد بقوله أو اختلافهما من كل وجه أنهما لا يشتبهان في شيء ما ولا يشتركان في شيء ما فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شيء وتشابه في شيء ما ولو انه مسمى الوجود وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من كل وجه وإن كانا مشتركين في أشياء بمعنى اشتباهما لا بمعنى أن في الخارج شيئا بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار

وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول هم مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام سواء كان متماثلا وهو التواطؤ الخاص أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص كالموجودين والحيوانين والإنسانين والسوادين اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه وإنما اشتركا في مطلق الوجود

والوجود المطلق المشترك الكلي لا يكون كليا لا في هذا ولا في هذا بل هو كلي في الأذهان مختص في الأعيان وإذا قيل: الكلي الطبيعي موجود فمعناه أن ما كان كليا في الذهن يوجد ف بالخارج لكن لا يتصور إذا وجد أن يكون كليا كما يقال العام موجود في الخارج ن وهو لا يوجد عاما

وقوله: غما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه

قلنا: إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه فقد يقال: ليسا مختلفين من كل وجه وإن أريد الامتياز فهما مختلفان من كل وجه

وقوله: إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الأمتياز فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلين من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد

والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الآخر بل لا بد أن يكون غيره

وحينئذ فقوله: ما به الاشتراك غير ما به الامتياز

قلنا: لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجا أشتراكهما فيه إلى الامتياز بل هما ممتازان بأنفسهما وإنما تشابها أو تماثلا في شيء والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما بل كل منهما ممتاز عن الأخر بنفسه

وقوله: ما به الاشتراك: إما وجوب الوجود أو غيره

قلنا: كل منهما مختص بوجوب وجوده الذي يخصه كما هو مختص بسائر صفاته التي تخص نفسه وهو أيضا مشابه الآخر في وجوب الوجود فما اشتركا فيه من الكلي لا يقبل الاختصاص وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجا إلى مخصص وما اختص به كل منهما يقاربه فيه مشترك وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك والامتياز بوجوب الوجود المختص والاشتراك أيضا في كل مشترك والامتياز بكل مختص

وقوله: إن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين: الوجه الأول: أن المشترك غما أن يتم بدون ما به الافتراق وذلك محال وإلا كان المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وإن لم يتم إلا بما به الافتراق كان وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره

قلنا: أن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلي فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال: إنه يلزم أن يكون المطلق في الأعيان من غير مخصص وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك وهو ما يوجد في الأعيان من الكلي فذاك لا اشتراك فيه الأعيان فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه لا يفتقر إلى مخصص فلا يكون الوجوب الذي لكل منهما في الخارج مفتقرا إلى مخصص وإذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكنا وأما المشترك الكلي المطلق من الوجوب فذاك ليس موجودا لهذا ولا لهذا ولا متحققا في الأعيان وحينئذ فلا يلزم أن الكلي يتحقق في الأعيان بلا مخصص

وأيضا فيقال: هب أن المشترك لا يتحقق في الأعيان إلا بالمختص فهذا لا يمنع وجوب وجوده إذا الواجب هو مالا فاعل له ليس هو مالا لازم ولا ملزوم له

وهذا الآمدي ذكر هذا فيما تقدم وبين أن الوجود الواجب لا يمتنع توقفه على القابل وإنما يمتنع توقفه على الفاعل

وبهذا يبطل الوجه الثاني وهو كون الوجود الواجب مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز فإن ما به الاشتراك لم يوجد في الخارج وما به الامتياز لم يقع فيه اشتراك فليس في أحدهما ما به الاشتراك وما به الامتياز ولكن كل منهما موصوف بصفة يشابهه بهذا الآخر وهو الوجوب واتصاف الموصوف بصفة يشابهه بها غيره من وجه وأمر يختص به إنما يوجب ثبوت معان تقوم به وأن ذاته مستلزمة لتلك المعاني وهذا لا ينافي وجوب الوجود بل لا يتم وجوب الوجود إلا به ولو سلم أن مثل هذا تركيب فلا نسلم أن مثل هذا التركيب ممتنع كما تقدم بيانه

فقد تبين بطلان الوجه الأول من وجهين وبطلان الوجه الثاني من وجهين غير ما ذكروه والله اعلم

والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشارته وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم وعلى من أتبعهم كالرازي والسهرورودي والطوسي وغيرهم

وقد ذكرنا عنه هناك جوابين :

الأول: أن هؤلاء عمدوا إلى الصفات المتلازمة في العموم والخصوص ففرضوا بعضها مختصا وبعضها عاما بمجرد التحكم كالوجود والثبوت والحقيقة والماهية ونحو ذلك

فإذا قيل: الواجب والممكن كل منهما يشارك الآخر في الوجود ويفارقه بحقيقته أو ماهيته

قيل لهم: معنى الوجود يعمهما ومعنى الحقيقة يعمهما وكل منهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما يمتاز عنه بحقيقته التي تختص به فليس جعل هذا مشتركا وهذا مختصا باولى من العكس

وهكذا إذا قدر واجبان لكل منهما حقيقة فهمما مشتركان في مطلق الوجوب ومطلق الحقيقة وكل منهما يمتاز عن الآخر بما يخصه من الوجوب والحقيقة فما قلتم به الامتياز متلازم وما قلتم به الاشتراك متلازم ولا يفتقر ما جعلتم به الاشتراك إلى ما جعلتم به الامتياز ولا ما جعلتم به الامتياز إلى به الاشتراك بل كل منها موصوف بما به الامتياز وهو ما يخصه وتلك الخصائص تشابه خصائص الآخر من بعض الوجوه فذلك القدر المشترك الذي لا يختص بأحدهما هو ما به الاشتراك

فإذا قيل هذا لون وهذا لون كانت لونية كل منهما مختصة به واللونية العامة مشتركة بينهما

وكذلك إذا قيل: هذا حيوان وهذا حيوان وهذا إنسان وهذا إنسان وهذا أسود وهذا أسود وأمثاله ذلك فليس شيء من الموجودات في الخارج مركبا من نفس ما ب الاشتراك وما به الامتياز بل هو مختص بوصف وذلك الوصف يشابه غيره لكن هو مشتمل على صفات بعضها اعم عن بعض أي بعضها يوجد نظيره في غيره أكثر مما يوجد نظير الآخر وأما هو نفسه فلا يوجد في غيره

وأما الجواب الثاني: فلا ريب أن كلا منهما فيه وجوب وفيه معنى آخر غير الوجوب بل نفس الواجب الواحد فيه الوجوب وفيه ذاته وهذا هو النقض الذي عارضهم به الآمدي

لكن قول القائل: وجوب الوجود حينئذ يكون ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به أولى أن يكون ممكنا كلام مجمل

فإنه يقال: ما تعني بكون الوجوب مفتقرا إلى غيره: أتعني به انه مفتقر إلى مؤثر أم مستلزم لغيره؟

فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا يحتاج الوجوب سواء فرض مختصا أو مشتركا إلى فاعل ولكن لا بد له من محل يتصف به فإن الوجوب لا يكون إلا لواجب وافتقار الوجوب إلى محله الموصوف به لا يمنع المحل أن يكون واجبا بل ذلك يستلزم كونه واجبا

وقول القائل: إن الوجوب يكون ممكنا إن أراد به افتقار \ ه إلى محل فهذا حق لكن هذا لا يستلزم كونه مفتقرا إلى فاعل ولا كون المحل مفتقرا إلى فاعل

فقوله وإن كان الثاني كان الوجوب ممكنا فالموصوف به أولى مغلطة فإن الإمكان الذي يوصف به الوجوب إنما هو افتقاره إلى محل لا إلى فاعل ومعلوم أنه إذا كانت صفة الموصوف تفتقر إليه لكونه محلا لها لا فاعلا لم يلزم أن يكون الموصوف أولى بان يكون محلا ولو قدر أن الوجوب يفتقر إلى مميز غير المحل فهو من افتقار الشرط إلى المشروط واللازم إلى الملازم ليس هو من باب افتقار المعلول إلى العلة الفاعلة

ومثل هذا لا يمتنع على وجوب الوجود بل لا بد لوجوب الوجود من تلك إذ وجوب الوجود ليس هو الواجب الوجود بل هو صفة له مع أن الواجب الوجود له لوازم وملزومات وذلك لا يوجب افتقاره إلى المؤثر فالوجوب أولى أن لا يفتقر إلى مؤثر لأجل ما له من اللوازم والملزومات فهذان وجهان غير ما ذكره هو وأمثاله هنا

الوجه الرابع: أن يقال: لم لا يجوز أن يكون بعض تلك الأجزاء واجبا وبعضها ممكنا؟

قوله الموقوف على الممكن أولى بالإمكان عدل

قيل: متى إذ كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس وهذا كما أن مجموع الوجود: بعضه واجب لنفسه وبعضه ممكن والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة

وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع أحدها في الذات مع الصفات

فإذا قيل له: الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء فغما أن تكون واجبة كلها أو بعضها واجب وبعضها ممكن أمكنه أن يقول: الذات الجبة والصفات ممكنة بنفسها وهي واجبة بالذات كما يجيب بمثل ذلك طائفة من الناس

فإذا قيل: المجموع متوقف على الممكن

قال: إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه

وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل والصفات لا بد لها من محل وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضا لا تفتقر إلى موجب لكنه قد يسلم لهم هؤلاء أن الصفات لها موجب وهو الذات

وقولهم: إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا من أفسد الكلام كما قد بسط في موضعه فيقول هؤلاء الذات موجبة للصفات ومحل لها والذات واجبة بنفسها والصفات واجبة بها والمجموع واجب وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات ولا اجتماع المجموع

وأيضا فيقوله من يقول: إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئة وقدرته فإن تلم أيضا ممكنة بنفسها وقد تدخل في مسمى أسمائه

ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون الجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره

وإذا قيل: المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج

قيل: هب أن الأمر كذلك لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه كان المجموع من لوازم الجزء بنفسه وحاصلة أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها

وإذا قيل فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم

قيل: هذا نزاع لفظي فإن الممكنات لا بد لها من فاعل عن الفاعل والدليل دل على هذا وليس فيما ذكرتموه ما ينفي أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعا وغن سمى الملزوم واجبا بنفسه واللازم واجبا بغيره كما قاله من قاله في الذات والصفات

فيقول المنازع له فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسما أو جوهرا قد تبين انه لا دلالة في شيء منها بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب

وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير محل الآخر يلزم التركيب وقد أبطلناه في إبطال التجسيم

ثم قال الوجه الثاني انه قال ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس

ولقائل أن يقول هذا الوجه في غاية الضعف وذلك انه إذا كانت الحروف مقدورة له حادثة بمشيئته كما ذكرته عن منازعيك فتخصيص كل منها بمحله كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة

وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة وإما إلى حكمة جلية أو خفية وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص على قولين مشهورين وأما اختصاصها بمحالها في حق الأدميين بسبب يقتضي الاختصاص فهذا لا نزاع فيه فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى

واما قوله إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين وان القائلين باجتماع ذلك إن كان قولهم فاسدا فقول من يقول باجتماع المعاني المتعاقبة وأنها شيء واحد وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فسادا

وأما قوله وغن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه فكلام صحيح ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث وهذا اللازم فيه نزاع معروف وقد حكي النزاع عنهم أنفسهم

فمن قال إن ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه لم يكن مناقضا

والذين قالوا منهم إنه لا يجوز عروه عما اتصف به عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يكن ذلك إلا بحدوث ضد ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث فيلزم تسلسل الحوادث بذاته وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل

عود إلى كلام الآمدي في الرد على الكرامية: السابع عدل

قال الآمدي في تناقض الكرامية أنهم جوزوا اجتماع الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة ومنعوا ذلك في العلم والقدرة ولو سئلوا عن الفرق لكان متعذرا

تعليق ابن تيمية عدل

قلت ولقائل أن يقول إن كانوا هم فرقوا فغيرهم لم يفرق بل جوز تجدد علوم وقدر وحينئذ فهم في الفرق على ما اعتمدت عليه المعتزلة في الفرق بين كونه عالما قادرا وبين كونه متكلما مريدا حيث قالوا العلم والقدرة عام في كل معلوم ومقدور فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وإلإرادة والكلام ليسا عامين في كل مراد ومقول بل لا يقول إلا الصدق ولا يأمر إلا بالخير ولا يريد إلا ما وجد ولا يريد إرادة محبة إلا لما أمر

فهذا مما احتجوا به على حدوث كونه مريدا متكلما دون كونه عالما قادرا قالوا لأن الاختصاص يتعلق بالمحدثات بخلاف العموم فإنه يكون للقديم

فصل عدل

ومما يبين الأمر في ذلك وان الأدلة التي يحتج بها هؤلاء على نفي لوازم علو الله على خلقه هم يقدحون فيها ويبينون فسادها في موضع آخر أن عامة هذه الحجج التي احتج بها الآمدي وغيره على نفي كونه جسما هم أنفسهم أبطلوها في موضع آخر

تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى عدل

والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي وذلك انه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها ن واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض وان العرض لا يبقى زمانين فتكون الأعراض حادثة ويمتنع حدوث ما لا نهاية له وما لا يخلو عن الحوادث التي لها أول فله أول وذكر أن هذه الطريقة هي المسلك المشهور للأشعرية وعليه اعتماده

والرازي وامثاله لم يعتمدوا على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء وقالوا إن قائليها للحس ولضرورة العقل فرأي أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف

والآمدي قدح في الطرق التي اعتمد عليها الرازي كلها والمقصود هنا ذكر طعن الآمدي في حجج نفسه التي احتج بها على نفي كونه جسما ونفي قيام الحوادث به وقد تقدم ان حججه المبنية على تماثل الجواهر والأجسام قد قدح فيها وبين أنه لا دليل لمن أثبت ذلك وحجته المبنية على التركيب قد قدح هو فيها في غير موضع كما ذكر بعضه

وأما حجته المبنية على نفي المقدار والشكل وانه لا بد له من مخصص وكل ما له مخصص فهو محدث فإنه قال المقدمة الأولى وغن كانت مسلمة غير أن الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق في في المسلك الأول

قال وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات المتعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه فقد ذكر هنا وغن كان لا بد للمختص من مخصص فلا يلزم أن يكون حادثا بل جاز ان يكون قديما في ذاته وصفاته أو قديما في الذات مع تعاقب الصفات المحدثة من المقادير وغيرها عليه إلا إذا قيل ببطلان حوادث لا تتناهى

وحينئذ فيقال القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره فإن كان واجبا بنفسه بطلت حجته وغن كان واجبا بغيره لزم من كون المعلول مختصا أن تكون علته مختصة أيضا وإلا فبتقدير أن تكون العلة الموجبة وجودا مطلقا لا تختص بشيء من الأشياء كما يقوله من يقول هو وجود مطلق تكون نسبته إلى جميع أجناس الموجودات ومقاديرها وصفاتها نسبة واحدة وحينئذ فلا يخص مقدارا دون مقدار بالاقتضاء والإيجاب إلا أن يقال لا يمكن غير ذلك المقدار وإذا قيل ذلك لزم أن يكون من المقادير ما هو واجب لا يمكن غيره فإذا قيل هذا في الممكن ففي الواجب بنفسه أولى فإن تطرق الجواز إلى الممكن بنفسه أولى من تطرقه إلى الواجب بنفسه فإذا قدر في الممكن مقدار لا يمكن وجود ما هو أكبر منه فتقدير ذلك في الواجب بنفسه أولى

ونكته الجواب أن الموجب الذي يسمونه علة إن كان له مقدار بطل أصل قولهم وإن لم يكن له مقدار فإما أن تكون جميع المقادير ممكنة بالنسبة إليه وإما أن لا يكون كذلك فإن كان الأول لم يخص بعضها دون بعض بلا مخصص لما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وإن لم يمكن إلا بعضها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة فحينئذ لزم أم يكون من المقادير ما هو ممتنع لنفسه ن بل منها ما هو متعين لا يمكن وجود غيره

وإذا جاز أن يمتنع بعضها لنفسه فوجوب بعضها لنفسه أولى وأحرى وإذا جاز أن يتعين ممكن من المقادير دون غيره لنفسه فتعين مقدار واجب لنفسه أولى وأحرى

وهذا كلام لا محيص لهم عنه فإن العالم إن كان واجبا بنفسه فقد ثبت أن الواجب بنفسه يختص بمقدار وإن كان ممكنا فوجد ما هو أكبر منه أو أصغر إما أن يكون في نفسه ممكنا وغما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا ثبت امتناع بعض المقادير لنفسه دون بعض في الممكنات في الواجب اولى

وحينئذ فبطل قول القائل: إنه ما من مقدار إلا ويمكن ما هو أكبر منه وأصغر وإن كان غير هذا المقدار ممكنا فتخصيص أحد الممكنين بالوجود يفتقر إلى مخصص والوجود المطلق لا اختصاص له بممكن دون ممكن فلا بد أن يكون المخصص أمرا فيه اختصاص وذلك الاختصاص واجب بنفسه وإذا كان الواجب لنفسه فيه اختصاص واجب لم يمكن أن يقال: كل اخصاص فلا بد له من مخصص إذ الاختصاص ينقسم إلى: واجب بنفسه وممكن

يوضح هذا أن المتفلسف إذا قال إن الموجب لتخصيص الفلك بمقدار دون مقدار كون الهيولى لا تقبل إلا ذلك المقدار مثلا أو امتناع بعد وراء العالم أو ما قيل من الأسباب

قيل له ما ذكرته من الهيولى وامتناع وجود موجود وراء العالم وإن كان باطلا فيقال ما الموجب لكون الهيولى لا تكون على غير تلك الصفة ولم لا كانت الهيولى غير هذه بحيث تقبل شكلا أكبر من هذا ثم إذا زعمت ان الممكن له مقدار لا يمكن ان يكون أكبر منه لعدم القابل مع انه لا يعلم وجود مخصص لمقدار دون مقدار ولا لكون حيز هذا المقدار يقبل الوجود دون الحيز الذي يجاوره فإن الأحياز المجردة المحضة متشابهة أبلغ من تشابه المقادير

فإذا ادعيت التخصيص في هذا ففي الواجب بنفسه اولى وأحرى ثم بتقدير ان تكون المقادير والصفات حادثة فالحجة المبنية على نفي حوادث لا تناهي قد عرف ضعفها وقد أبطل هو جميع أدلة الناس التي ذكرها إلا حجة واحدة اختارها وهي أضعف من غيرها كما قد ذكر غير مرة

وإذا كانت هذه الحجة لا تمنع جواز تعاقب الحوادث على القديم لم يمتنع كون القديم محلا للحوادث فبطل استدلالهم على نفي ذلك بمثل هذه الحجة0

فهذه الحجج الثلاث قد قدح هو فيها واما الرابعة وهي تعدد الصفات فالقدح فيها تبع للقدح في هذه الثلاث فإنها مبنية عليها إذ عمدة النفاة هي هذه الثلاث وكلامهم كله يدور عليها حجة التركيب وحجة الأعراض بأن مالا يخلو عن الحادث فهو حادث وحجة الاختصاص

وحججه الأولى على نفي الجوهر مبنية على نفي تماثل الجواهر وهو قد بين ان جميع ما ذكروه فإنه يرجع إلى ما قاله وقال إنه لا دليل فيه على نفي تماثلها

وأما الثانية وهي قوله إما أن يكون مركبا فيكون جسما أو لا يكون على نفي الجسم وقد عرف كلامه وقدحه في حجج نفي ذلك

واما حجته الثالثة فإنها مبنية على تماثل الجواهر أيضا وهو قد أبطل أدلة ذلك ومبنية على امتناع حلول الحوادث به أيضا وقد أبطل هو أيضا جميع حجج ذلك واستدل بحجة الكمال والنقصان كما احتج بها الرازي وهو أيضا قد أبطل هذه الحجة لما استدل بها الفلاسفة على قدم العالم كما ذكر عنه

وأما حجته الرابعة على نفي الجوهر فبناها علي نفي التحيز وبنى نفي التحيز على حجتين على حجة الحركة والسكون وعلى تماثل الجواهر

وهو قد بين انه لا دليل على تماثل الجواهر وأبطل أيضا حجة الحركة والسكون لما أحتج بها من احتج على حدوث الأجسام فإنه قال المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا يعني به الرازي وهذا المسلك آخذ الرازي عن المعتزلة ذكره أبو الحسين وغيره: أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل إما أن تكون متحركة او ساكنة والقسمان باطلان فالقول بأزليتها باطل

ثم اعترض عليه بوجوه متعددة :

قال ولقائل أن يقول إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا مخلص عنه

قلت: هذه مسألة نزاع بين أهل النظر: أن الجسم في أوقات حدوثه: هل يوصف بأحدهما أو يخلو عنهما؟ والذي قاله الرازي هو قول أبي هاشم وغيره من المعتزلة ومضمونه: أنه في أوقات حدوثه ليس متحركا ولا ساكنا

واعترض عليه بتقسيم حاصر فقال: إن كانت الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز والسكون البقاء في حيز بعد حيز فالجسم في أوقات حدوثه: لا متحرك ولا ساكن وإن لم يكن الأمر كذلك فقد بطل ما ذكره من كون السكون أمرا وجوديا فإنه اعتمد في ذلك على أن السكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد ان كان في ذلك الحيز

تابع كلام الآمدي عدل

قال الآمدي فإن قيل: الكلام إنما هو في الجسم ف يالزمان الثاني والجسم في الزمان الثاني لا يخلو عن الحركة والسكون بالتفسير المذكور فهذا قول ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام ف يالجسم إنما هو الزمان الثاني فوجود الجسم بالزمان الثاني ليس هو حالة الأولية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون

تعليق ابن تيمية عدل

قلت: بل بتقدير قدمه لا يخلو عن الحركة والسكون لأنه حينئذ إما أن يبقى في حيز او ينتقل عنه والأول: السكون والثاني الحركة

وما ذكره الآمدي من جواز خلوه عنهما على أحد التقديرين فإنما هو بتقدير حدوثه ومعلوم انه إذا كان بتقدير قدمه لا يهخلو عنهما وكلاهما ممتنع كان بتقدير قدمه مستلزما لأمر ممتنع وهو الجمع بين النقيضين فإنه إذا صحت المقدمتان لزم أن يكون حادثا بتقدير قدمه وهو انه لو كان قديما لم يخل من حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث

وما ذكره الأمدي إنما يتوجه إذاقيل الجسم مطلقا لا يخلو عن الحركة والسكون وحينئذ فإما أن يخلو عنهما أو لا يخلو فإن خلا عنهما لم يكن ذلك إلا حال حدوثه فيكون حادثا وإن لم يخل عنهما لزم ان يكون حادثا فيلزم حدوثه على كل تقدير

ونحن نذكر ما يقدح به الآمدي وأمثاله في حججهم التي احتجوا بها في موضع آخر وإن كان بعض ذلك القدح ليس بحق ولكن يعطي كل ذي حق حقه قولا بالحق واتباعا للعدل

وقد ذكرنا كلام الآمدي على سائر ما ذكره ف يامتناع كن الحركة أزلية مثل قوله: لم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية؟ وما ذكروه من الوجه الأول فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات الشخصية حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى انها متعاقبة إلى غير نهاية إلى آخر كلامه

والمقصود هنا التنبيه على أنه نقص في موضع آخر عامة ما احتج به هنا

فصل عدل

ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفي علو الله على خلقه الذين يستدلون على ذلك أو عليه وعلى غيره بنفي التجسيم فإنهم ينقضون الحجج التي يحتجون بها فتارة ينقض أحدهم الحجج التي يحتج كما ذكرناه عن الرازي والآمدي وأمثالهما من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يعلم بصريح العقل موافق لها بما يعلم الصريح انه باطل وتارة كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى ن بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح وليسوا متفقين على طريقة واحدة

وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين: من جهة العقل الصريح الذي بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون ومن جهة انه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول

بل المقدمة التي تدعى طائفة النظار النظار صحتها تقول الآخرى هي باطلة وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء السليمي الفطرة التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليما من غيره لا من موجب فطرته فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية لا ترجع إلى العقل الصريح وهو يدعى أنها عقلية فطرية

ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه بل قد علم جواز الخطأ عليه وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بادلألة المجلة والمفصلة

والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو أو العلو وغيره من الصفات بناء على نفي التجسيم ففحول أهل الكلام كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري ومحمد بن الهيثم وأبي المعالي الجويني وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم يبطلون طرق الفلاسفة التي بنوا عليها النفي منهم من يبطل أصولهم المنطقية وتقسيم الصفات إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية وعارض لها ودعواهم ان الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية ومنها ما هو عرضي خارج عن الماهية وبناءهم توحيد واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات على هذه الأصول

وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائدا في الخارج على الموجودات العينية وليس هذا قول من قال: المعدوم شيء فإن أولئك يثبتون ذواتا ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة وأرسطو وأتباعه غنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارقة لها وأما شيعة أفلاطون فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية وشيعة فيثاغورس تثبت أعدادا مجردة

وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان ظنوا ثبوته في الخارج وتقسيمهم الحد إلى حقيقي ذاتي ورسمي أو لفظي أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم هو بناء على هذا التقسيم

وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم وبينوا فساد كلامهم وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره وأنه يحصل بالخواص التي هي لازمة ملزومة لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره بل وأكثرهم منعوا بتركيب الحد كما هو مبسوط في موضعه وقد صنف في ذلك متكلمو الطوائف كأبي هاشم وغيره من المعتزلة وأبن النوبخت وغيره من الشيعة والقاضي أبي بكر وغيره من مثبتة الصفات

واما أبو حامد الغزالي فإنه وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق وأتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه فقد بين في كتابه تهافت الفلاسفة وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية حتى انه بين انه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقا وإن كان أبو حامد قد يوجد كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى وبهذا تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ومن الفلاسفة أيضا كابن رشد وغيره حتى أنشد فيه

يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن... وإن لقيت معديا فعدناني

فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل وليس ذلك إلا فيما وافق فيع الرسول فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول البتة

وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كرمه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة وما يوافق به المثبتة للصفات بل للصفات الخبرية أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل وهو الموافق لما جاء به الرسول

والمقصود هنا أن نبين ان فحول النظار بينوا فساد طرق من نفي الصفات أو لاعلو بناء على نفي التجسيم وكذلك فحول الفلاسفة كابن سينا وأبي البركات وابن رشد وغيرهم بينوا فساد أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية التي نفوا بها التجسيم حتى أن ابن رشد في تهافت التهافت بين فساد ما أعتمد هؤلاء كما بين أبو حامد في التهافت فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة

ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات بل وعلى قيام الأمور الاختيارة في ذاته وعلى العلو كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق افعال العباد فأخذق متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري ومن عرف حقيقة كلامه علم انه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس كونه قادرا لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون: ليست موجودة ولا معدومة

وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات فنزاعه معهم نزاع لفظي كما انه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور

وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون: إن الله خالق أفعال العباد وهو أيضا يقول: إنه سبحانه مع علمه بما سيكون فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجددة

وابن عقيل يوافق على ذلك وكذلك الرازي وغيره وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به

وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية وأظنه من أصحاب أبي الحسين

وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة أبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع وتقدم بعضها

والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة

كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم عدل

قال أبو حامد مسالة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم فنقول هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث وكل حادث فيفتقر إلى محدث فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما لا أول لوجوده مع أنه لا يخلو عن الحوادث فلم يمتنع أن يكون الأول جسما إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره فإن قيل لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين بالكمية وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام وواجب الوجود واحد لا يقيل القسمة بهذه الوجوه

قلنا وقد أبطلنا هذا عليكم وبينا أنه لا دليل لكم عليه سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجود له لم يبعد تقدير مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه

فإن قيل الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلا وإن كان له نفس فنفسه علة له فلا يكون الجسم أولا

قلنا أنفسنا ليست علة لوجود أجسامنا ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمه عندكم بل هما يوجدان بعلة سواهما فإذا جاز وجودهما قديما جاز أن لا يكون لهما علة

فإن قيل كيف اتفق اجتماع النفس والجسم؟

قلنا هو كقول القائل كيف اتفق وجود الأول فيقال هذا سؤال عن حادث فأما ما لم يزل موجودا فلا يقال كيف اتفق فكذلك الجسم ونفسه إذا لم يزل كل واحد منهما موجودا لم يبعد أن يكون صانعا

فإن قيل لأن الجسم من حيث إنه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ولا في إبداع النفوس والأشياء لا تناسب الأجسام

قلنا ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لن توجد الأجسام وغير الأجسام منها فاستحالة ذلك لا تعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه إلا أنه لم يشاهد من هذه الأجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد أضافوا إلى الموجود الأول مالا يضاف إلى موجود أصلا ولم يشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه فكذا في نفس الجسم والجسم

فإن قيل الفلك الأقصى أو الشمس أو ما قدر من الأجسام فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص فلا يكون أولا

قلنا بم تنكرون على من يقول إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ولو كان أصغر منه أو اكبر لم يجز كما أنكم قلتم إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه متقدرا بمقدار وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ولكن يعين بعض المقادير ليكون النظام متعلقا به فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول الأول الذي هو علة الجرم الأقصى عندهم مبدأ للتخصيص مثل إرادة مثلا لم ينقطع السؤال إذ يقال ولم أراد هذا المقدار دون غيره كما ألزموه على المسلمين في إضافتهم الأشياء إلى الإرادة القديمة وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء وفي تعيين نقطتي القطبين فإذا ظهر انهم مضطرون إلى تجويز تمييز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة إذ لا فرق بين إن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال لم اختص بهذا القدر وبين أن يتوجه في العلة فيقال ولم خصص هذا القدر عن مثله فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بان هذا المقدار ليس مثل غيره إذ النظام مرتبط به دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشيء ولم يفتقر إلى علة وهذا لا مخرج عنه فإن هذا المقدار المعين الواقع إن كان مثل الذي لم يقع فالسؤال متوجه أنه كيف ميز الشيء عن مثله خصوصا على أصلهم وهم ينكرن الإرادة المميزة وغن لم تكن مثلا له فلا يثبت الجواز بل يقال وقع كذلك قديما كما وقعت العلة القديمة بزعمهم

قال وليستمد الناظر في هذا الكتاب مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلا

تعليق ابن تيمية عدل

فهذا أبو حامد هو وغيره يبينون فساد ما ذكروه من نفي كون الأول جسما ويقولون لا طريق إلى ذلك إلا الاستدلال على حدوث الجسم وقد سبقهم الأشعري إلى بيان فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الجسم

والرازي وأتباعه يبينون حدوث الجسم في كتبه الكلامية كالأربعين ونهاية العقول والمحصل وغير ذلك ثم يبينون فساد كل ما يحتج به على حدوث الأجسام في مواضع أخر مثل المباحث المشرقية وكذلك في المطالب العالية التي هي آخر كتبه بين فساد حجج من يقول بحدوثها وانه فعل بعد ان لم يكن فاعلا ويذكر حججا كثيرة على دوام الفاعلية ويورد عليها مع ذلك ما يدل على فسادها ويعترف بالحيرة في هذه المواضع العظيمة مسائل الصفات وحدوث العالم ونحو ذلك

وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالا تستلزم الجمع بين النقيضين تارة ورفع النقيضين تارة بل نستلزم كليهما والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين يذكرون فيه إلا أقوالا ضعيفة

والقول الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه كما في مسألة حدوث العالم فإنهم لا يذكرون إلا قولين قول من يقول بقدم الأفلاك وإن كانت صادرة عن علة توجبها فالمعلول مقارن ازلا وقول من يقول بل تراخى المفعول عن المؤثر التام وأنه يمتنع انه لم يزل متكلما إذا شاء ويفعل ما يشاء

والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام فهو سبحانه إذا كون شيئا كان عقب تكوينه له كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس: 82 وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والعتاق عقب التطليق والاعتاق والانكسار والانقطاع عقب الكسر والقطع فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويذكرون في كونه موجبا بذاته وفاعلا بمشيئته وقدرته قولين فاسدين أحدهما قول من يقول المتفلسفة وان معلوله يجب ان يكون مقارنا له في الزمان أزلا وأبدا

وهذا القول من أفسد أقوال بني آدم فإنه يستلزم ان لا يحدث في العالم حادث فإنه إذا كانت علة تامة ازلية ومعلولها معها والعالم كله معلوله إما بواسطة وإما بغير واسط لزم ان لا يكون في العالم شيء إلا أزليا فلا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة

ثم إنهم لما أثبتوا الواجب بالممكن إنما استدلوا على الممكن بالحادث الذي يفتقر إلى محدث فإن لم يكن في العالم حادث بطل الإمكان الذي به أثبتوا الواجب ولزم إما أن لا يكون في العالم واجب الوجود ولا ممكن الوجود وهو إخلاء للوجود عن النقيضين وإما أن يكون جميعه واجب الوجود فيكون الحادث الذي كان بعد أن لم يكن واجب الوجود

وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له وغن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد وهو تسلسل في العلل وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث فهذا فيه نزاع مشهور

والناس فيه على أربعة أقوال قيل يمتنع في الماضي والمستقبل كقول جهم وابي الهذيل ولهذا قال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما

وقيل: يمتنع في الماضي دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام كأكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم

وقيل: يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك سواء قيل: إنه محتاج إلى مبدع كقول أبن سينا وأتباعه أو قيل: إنه محتاج إلى ما يتشبه به كقول أرسطو وأتباعه

وقيل: يجوز فيهما لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب فإنه مخلوق مفعول وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره والمحتاج لا يكون إلا مربوبا والمربوب لا يكون إلا مخلوقا محدثا والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها فغن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها وعلى التقديرين فهو حادث بخلاف الرب القديم الأزلي الواجب بنفسه فإنه إذا كان لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء كان ذلك من كماله وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث

والثاني: قول من يقول: انه فاعل مختار لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح إما بمجرد كونه قادرا أو لمجرد كونه قادرا عالما أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح ويقولون: إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر التام

وهذا وإن كان خيرا من الذي قبله ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام ففساده أيضا بين فإنه إذا قيل: إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول كان حاله بعد حصول الأثر وقبله حالا واحدة متشابهة ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح مرجح وحدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا معلوم الفساد بصريح العقل

والقول الثالث: قول أئمة السنة: إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأه امتنع لعدم مشيئته له فهو موجب بمشيئته وقدرته لا بذات خالية عن الصفات وهو موجب له إذا شاءه لا موجب له في الأزل كما قال { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس 82: وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته لا مناف لذلك بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء وهو موجب له بمشيئته وقدرته والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الوجه العشرون عدل

متابعة الملاحدة للنفاة في إنكار النصوص وتأويلها عدل

أن نقول: ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر اله به عباده من أمور اليوم الآخر حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج فجعلوها للعامة دون الخاصة فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 62

فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم والآخر والعمل الصالح وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحدا وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق

وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن وهو قول فرعون ولهذا كانوا معظمين لفرعون ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها كما يتنعم أهل الجنة في الجنة فكفروا بحقيقة اليوم الآخر ثم ادعوا أن الولاية أفضل من النبوة وأن خاتم الأولياء وهو شيء لا حقيقة له زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء بل ومن جميع الأنبياء وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق

وكان قولهم كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس والأنبياء أفضل من غيرهم فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات كما كان يفعل أبرع محققيهم: التلمساني وأمثاله

هذا وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب وأبعدهم عنه وأعظمهم نكيرا عليه وعلى أهله وللشيوخ المشهورين بالخير كالفضل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع لعشره

بل قد قيل للشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: لا كان ولا يكون والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع وإلا فهو كتاب الله وسنة ورسوله حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف: معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه كما قال بعض أكابر الشيوخ الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة والظهور لأحمد ابن حنبل

وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة لما ظهرت بدعة الجهمية ومحنتهم المشهورة وأرادوا إظهار مذهب النفاة وتعطيل حقائق الأسماء والصفات ولبسوا على من لبسوا عليه من الخلفاء ثبت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين فظهرت بهم السنة وطفئت بهم نار المحنة فصاروا علما لأهل الإسلام وأئمة لمن بعده من علماء المسلمين: أهل السنة والجماعة وصار كل منتسب إلى السنة لا بد أن يواليه وإياهم ويوافقهم في جمل الاعتقاد إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد المعتصمين بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان

وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ولهذا كان جمل الاعتقاد الذي يذكره أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة هو قول أحمد وأمثاله من أئمة السنة

كلام الأشعري في الإبانة عن متابعته للإمام أحمد عدل

ولهذا قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة فإن قال قائل: قد أنكرتم قول الجهمية والقدرية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وبما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد أحمد بن حنبل قائلون ولما خالف قوله مجانبون فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام معظم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين

والمقصود هنا ان صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم في الأمة لسان صدق من سلف الأمة وخلفها هو على مذهب أهل السنة والجماعة أهل الإثبات للأسماء والصفات وهم من أبعد الناس عن مذهب أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد وإن كان كثير من متأخري الصوفية دخلوا في مذهب الإباحة والحلولية وخلطوا التصرف بالفلسفة اليونانية كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية

ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم كما ذكر الشهرستاني في أول كتابه في الملل والنحل أن مبدأ انواع كل الضلالات هو من تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على الشرع فسرى في المنتسبين إلى لا علم والدين من أهل الفقه والكلام والتصوف من أقوال الملاحدة بسبب هذا الأصل مالا يعلمه إلا الله وأما ملاحدة الشيعة من القرامطة الباطنية والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فأولئك أمرهم أظهر من أن يخفى على من عرف حالهم ممن فيه نوع إيمان بالله ورسوله ولهذا كثر الكاشفون لأسرارهم الهاتكون لأستارهم من جميع أصناف أهل القبلة حتى الشيعة والمعتزلة ونحوهم فإنهم متفقون على تكفيرهم كما اتفق على تكفيرهم أئمة السنة ومن انتسب إليهم من متكلمة الإثبات وغيرهم

وصنف القاضي أبو بكر كتابه المشهور فيهم ووصف فضائحهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو يعلي وأبو الوفا بن عقيل وأبو حامد الغزالي والشهرستاني والخبوشاني وغير واحد من العلماء وتكلموا في العبيديين الذين كانوا بالمغرب ومصر الذين ادعوا النسب العلوي وأضمروا مذهبهم تكلموا فيهم بما بينوا فيه بطلان نسبهم كما عرفوا بطلان مذهبهم وأن باطن مذهبهم أعظم كفرا من أقوال كفار أهل الكتاب ومن أقوال الغالية الذين يدعون نبوة علي أو إلهيته ونحوهم إذ كان مضمون مذهبهم: تعطيل الخالق وتكذيب رسله والتكذيب باليوم الآخر وإبطال دينه

وقد ذكروا منتهى دعوتهم في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي لهم وأن أقرب الطوائف إليهم الفلاسفة مع أنهم خالفوا الفلاسفة في إثبات واجب الوجود فإن الفلاسفة الإلهيين يثبتونه وهؤلاء أصحاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم أنكروه كما فعلت الدهرية الطبيعية

وقول الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله يؤول إلى قول هؤلاء وهو القول الذي أزهره فرعون وأما المشاؤون أرسطو وأتباعه ومن اتبعهم من المتأخرين: كالفارابي وابن سينا وأمثالهم فهم يقرون بالعلة الأولى المغايرة لوجود الأفلاك لكن دليلهم الذي احتجوا به على الطبيعيين منهم هو دليل الحركة الذي احتج به أرسطو وقدماؤهم أو دليل الوجود الذي احتج به أبن سينا ومتأخروهم وهو منهم دليل ضعيف إذ مبناه على حجة التركيب وهي حجة ضعيفة كما قد بين في غير هذا الموضع

وكان أهل بيت ابن سينا من أتباع هؤلاء القرامطة من المستجيبين للحاكم الذي كان بمصر قال ابن سينا: وبسبب ذلك دخلت في الفلسفة

كما كان أصحاب رسائل إخوان الصفا من الموافقين لهم وصنف الرسائل على طريقتهم في الزمان الذي بنيت فيه القاهرة في أثناء المائة الرابعة وكان أمر المسلمين قد اضطرب ف يتلك المدة اضطرابا عظيما

كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية عدل

والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات والإعراض عن دلالة الآيات كما ذكر ذلك أبن سينا في الرسالة الأضحوية التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليهم ليعطوه مطلوبة منهم من الجاه والمال وصرح بذلك في أول هذه الرسالة قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن وان الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال: وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد: وهو أن الشرع والملة الآتية على نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد: من الإقرار بالصانع: موحدا مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع ولا داخلة فيه ولا حيث تصح الإشارة إليه أنه هنا أو هناك: ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور ولو ألقي هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف لتسارعوا إلى العناد واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم أصلا ولهذا ورد ما في التوراة تشبيها كله ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء ولا إلى صريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل بل إلى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى ولكن لقوم أن لا يقبلوه فإذا كان الأمر في التوحيد هذا فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية؟ ولبعض الناس أن يقولون: إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا وان الألفاظ التشبيهية مثل: اليد والوجه والإتيان في ظلل من الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحة ولكن نحو الاستعمال وجهة العبارة يدل على استعمالها مستعارة مجازا

قال ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة بل محققة أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس وأما قوله { في ظلل من الغمام } البقرة 210 وقوله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام 158 على القسمة المذكورة وما جرى مجراه فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا وأما قوله { يد الله فوق أيديهم } الفتح 10 وقوله { ما فرطت في جنب الله } الزمر 56 فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة في أنها مستعارة مجازية كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مرادا فيها شيء غير الظاهر ثم ذهب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد؟ والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة؟

وقد قال في ضمن كلامه إن الشريعة الجائية على لسان نبينا محمد جاءت أفضل ما يمكن أن تجئ عليه الشرائع وأكمله ولهذا صلح أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل

قال: وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد: مثل أنه عالم بالذات أو عالم بعلم قادر بالذات أو قادر بقدرة واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه متحيز الذات أو منزهها عن الجهات؟ فإنه لا يخلو: إما أن تكون هذه المعاني واجبا والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل التصريح المستقصي فيه والمنبه عليه: والموفي حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف على معانيه فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه ولعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير مهمل فيه ثم سامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى تستعد للوقوف عليها لكلفه شططا وأن يفعل ما ليس في قوة البشر اللهم إلا أن تدركهم خاصة إلهية وقوة علوية وإلهام سماوي فتكون حينئذ وساطة الرسول مستغى عنها وتبليغه غير محتاد إليه ثم هبك الكتاب العزيز جائيا على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟ وليس لقائل أن يقول: إن ذلك الكتاب محرف كله وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم وبلادهم متنائية وأوهامهم متباينة منهم يهود ونصارى وهم أمتان متعاديتان؟ فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقربا مالا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة

قال فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب يعني أمر المعاد واو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة بعيدة عن إدراك بدائة الأذهان لحقيقتها لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة إليها والتحذير عنها منبها بالدلالة عليها بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الإفهام فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب

قلت فهذا كلام ابن سينا وهو ونحوه كلام أمثاله من القرامطة الباطنية مثل صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله من الملاحدة والكلام على هذا من فنين :

أحدهما: بيان لزوم ما ألزمه لنفاة الصفاة الذين سموا نفيها توحيدا من الجهمية المعتزلة وغيرهم

والثاني بيان بطلان كلامه وكلامهم الذي وافقوهم عليه

أما الأول فإن هؤلاء وافقوه على نفي الصفات وأن التوحيد الحق هو توحيد الجهمية المتضمن أن الله لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا رحمة ولا يرى في الآخرة ولا هو فوق العالم فليس فوق العرش إله ولا على السماوات رب ومحمد لم يعرج به إلى ربه والقرآن أحسن أحواله عندهم أن يكون مخلوقا خلقه في غيره أن لم يكن فيضا فاض على نفس الرسول وأنه سبحانه لا ترفع اليدي إليه بالدعاء ولم يعرج شيء إليه ولم ينزل شيء منه: لاملك ولا غيره ولا يقرب أحد إليه ولا يدنو منه شيء ولا يتقرب هو من أحد ولا يتجلى لشيء وليس بينه وبين خلقه حجاب وأنه لا يحب ولا يبغض ولا يرض ولا يغضب وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا مباينا للعالم ولا حالا فيه وإنه لا يختص شيء من المخلوقات بكونه عنده بل كل الخلق عنده بخلاف قوله تعالى { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } الأنبياء 19 وأنه إذا سمي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فهو حي بلا حياة عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر إلى أمثال هذه الأمور التي يسمي نفيها الجهمية توحيدا ويلقبون أنفسهم بأهل التوحيد كما يلقب الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنفسهم بذلك وكما لقب ابن التومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا وأمثالهما

ويقال إنه تلقى ذلك عن من يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا ف بالتوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا أثبت الرؤية ولا قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد كما يقال إن أن التومرت ذكره في فوائده المشرقية إن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا

والمقصود أن هؤلاء لما سموا هذا النفي توحيداصوهي تسمية ابتدعها الجهمية النفاة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا أحد من السلف والأئمة بل أهل الإثبات قد بينوا أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وعبادة الله وحده لا شريك له كما ذكر الله ذلك في سورتي الإخلاص وعامة آيات القرآن فلما وافقه هؤلاء الجهمية من المعتزلة وغيرهم على نفي الصفات وأن هذا هو التوحيد الحق احتج عليهم بهذه المقدمة الدلية على أن الرسل لم يبينوا ما هو الحق في نفسه من معرفة توحيد الله تعالى ومعرفة اليوم الآخر ولم يذكروا ما هو الذي يصلح أو يجب على خاصة بني آدم وأولو الألباب منهم أن يفهموه ويعقلوه ويعلموه من هذا الباب وأن الكتاب والسنة والإجماع لا يحتج بها في باب الإيمان بالله واليوم الآخر لا في الخلق ولا البعث لا المبدأ ولا المعاد وأن الكتب الإلهية غنما أفادت تخييلا تنفع به العامة لا تحقيقا يفيد العلم والمعرفة وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها وهو العلم بالله لم تبينه الرسل أصلا ولم تنطق به ولم تهد إليه الخلق بل ما بينت لا معرفة الله ولا معرفة المعاد لا ما هو الحق في الإيمان بالله ولا ما هو الحق في الإيمان باليوم الآخر بل ليس عندهم في كلام الله ورسوله من هذا الباب علم ينتفع به أولو الألباب وإنما فيه تخييل وإبهام ينتفع به جهال العوام ولما كان هذا حقيقة قول الملاحدة القرامطة الباطنية صاروا يجعلون أحد رؤوسهم مثل الرسول أو أعظم من الرسول ويسوغون له نسخ شريعة محمد كما زعموا أن محمد ابن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعته

وصار كل من هؤلاء يدعي النبوة والرسالة أو يريد أن يفصح بذلك لولا السيف كما فعل السهروردي المقتول فإنه كان يقول لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول: لقد زرب أبن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي ويقال إنه كان يتحرى غار حراء لينزل عليه فيه الوحي

وابن عربي ادعى ما هو أعظم من النبوة عنده وهو ختم الولاية وخاتم الأولياء عنده أفضل من خاتم الأنبياء في العلم بالله وهو يقول إن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون من مشكاة هذا الخاتم المدعي بمعرفة الله التي حقيقتها وحدة الوجود وهي تعطيل الصانع سبحانه التي هي سر قول فرعون

وأما أئمة القرامطة والإسماعلية كابن الصباح الذين تلقوا أركان الدعوة عن المستنصر أطول خلفائهم مدة وفي زمنه كانت فتنة البساسيري وأمثاله وأما سنان وأمثاله من الملاحدة فتظاهروا بإظهار الكفر بين أصحابهم وقالوا قد أبحنا لكم كل ما تشتهونه من فرج وشراب عنكم ونسخنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة

وهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الملاحدة على نفاة الصفات لإثبات إلحادهم هي من حجج أهل الإثبات عليهم لإثبات إيمانهم فإن الله سبحانه أخبر أنه { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } التوبة: 33 وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } إبراهيم: 1

وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } المائدة: 15 - 16 وقال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } الشورى: 52 - 53 وقال تعالى { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } البقرة: 1 - 2 وقال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } النحل: 89 وقال تعالى { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } يوسف: 111 وقال تعالى { قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } النساء: 174 وقال تعالى { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } الأعراف: 157 وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } العنكبوت: 18 وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } النحل: 44 وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } المائدة: 3 وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } التوبة: 115

وأمثال هذه النصوص التي تبين أن الرسول هدى الخلق وبين لهم وانه أخرجهم من الظلمات إلى النور لا أنه لبس عليهم وخيل وكتم الحق فلم يبينه ولم يهد إليه لا للخاصة ولا للعامة فإنه من المعلوم أن الرسول لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان اعظم موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره للزم إما أن يكون جاهلا به أو كاتما له عن الخاصة والعامة ومظهرا خلافه للخاصة والعامة

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55