رحلة ابن جبير/رجع الذكر


رجع الذكر

من المواضع التي اجتزنا عليها في الصعيد بعد جبل المقلة الذي ذكرنا أنه نصف الطريق من مصر قوص، حسبما تقدم ذكره، موضع يعرف بمنفلوط بمقربة من الشط الغربي ميامناً للصاعد في النيل، فيه الأسواق وسائر ماتحتاج إليه من المرافق، وهي بلدة في نهاية من الطيب ليس في الصعيد مثلها، وقمحها بجلب مصر لطيبه ورزانة حبته، قد اشتهر عندهم بذلك. فالتجار يصعدون في المراكب لاستجلابه.

ومنها مدينة أسيوط، وهي من مدن الصعيد الشهيرة، بينها وبين الشط الغربي من النيل مقدار ثلاثة أميال. وهي جميلة المنظر، حولها بساتين النخل، وسورها سور عتيق.

ومنها موضع يعرف بأبي تيج، وهو بلد فيه الأسواق وسائر مرافق المدن، وهو في الشط الغربي من النيل، ومنها مدينة أخميم،وهي أيضاَ من مدن الصعيد الشهيرة المذكورة بشرقي النيل وبشطه، قديمة الاختطاط عتيقة الوضع،فيها مسجد ذي النون المصري، ومسجد داود أحد الصالحين المشتهرين بالخير والزهادة، وهما مسجدان موسومان بالبركة، دخلنا إليها متبركين بالصلاة فيهما، وذلك يوم السبت التاسع عشر لمحرم المذكور.

ويهذه المدينة المذكورة آثار ومصانع من بنيان القبط وكنائس معمورة الآن بالمعاهدين من نصارى القبط. ومن أعظم الهياكل المتحدث بغرائبها في الدنيا هيكل عظيم في شرقي المدينة المذكورة وتحت سورها، طوله مئتا ذراع وعشرون ذراعاً، وستعه مئة وستون ذراعاً، يعرف عند أهل هذه الجهة بالبربا وكذلك يعرف كل هيكل عندهم وكل مصنع قديم. قد قام هذا الهيكل العظيم على أربعين سارية، حاشا حيطانه، دور كل سارية منها خمسون شبراً، وبين كل سارية وسارية ثلاثون شبراً، ورؤوسها في نهاية من العظم والإتقان قد نحتت نحتاً غريباً فجاءت مركنة بديعة الشكل كأن الخراطين تناولوها، وهي كلها مرقشة بأنواع الأصبغة اللازوردية وسواها. والسواري كلها منقوشة من أسفلها أعلاها. وقد انتصب على رأس كل سارية منها رأس صاحبتها التي تليها لوح عظيم من الحجر المنحوت، من أعظمها ما كلنا فيه ستة وخمسين شبراً طولاً وعشرة أشبار عرضاً وثمانية أشبار ارتفاعاً وسقف هذا الهيكل كله من ألواح الحجارة المنتظمة ببديع الإلصاق، فجاءت كأنها فرش واحد. وقد انتظمت جميعه التصاوير البديعة والأصبغة الغريبة، حتى يخيل للناظر فيها أنها سقف من الخشب المنقوش.

والتصاوير على أنواع في كل بلاط من بلاطانه، فمنها ما قد جللته طيور بصور رائعة باسطة أجنحتها توهم الناظر إليها أنها تهم بالطيران، ومنها ما قد جللته تصاوير آدمية رائقة المنظر رائعة الشكل. قد أعدت لكل صورة منها هيئة هي عليها، كإمساك تمثال بيدها، أو سلاح، أو طائر، أو كأس، أو شارة شخص آخر بيده، أو غير ذلك، مما يطول الوصف له ولاتتأتى العبارة لاستيفائه.

وداخل هذا الهيكل العظيم وخارجه وأعلاه وأسفله تصاوير كلها مختلفات الأشكال والصفة، ومنها تصاوير هائلة المنظر خارجة عن صور الآدميين يستشعر الناظر إليها رعباً ويتملأ منها عبرة وتعجباً. وما فيه مغرز اشفى ولاابرة إلا وفيه صورة أو نقش أو خط بالمسند لا يفهم. قد عم هذا الهيكل العظيم الشأن كله هذا النقش البديع. ويتأتى في صم الحجارة من ذلك مالا يتأتى في الرخو من الخشب، فيحسب الناظر استعظاماً له أن عمر الزمان لو شغل بترقيشه وترصيعه وتزيينه لضاق عنه. فسبحان الموجد للعجائب لا اله سواه.

وعلى أعلى هذا الهيكل سطح مفروش بألواح الحجارة العظيمة على الصفة المذكورة، وهو في نهاية الارتفاع، فيحار الوهم فيها، ويضل العقل في الفكرة في تطليعها ووضعها.

وداخل هذا الهيكل من المجالس والزوايا والمداخل والمخارج والمصاعد والمعارج والمسارب والموالج ما تضل فيه الجماعات من الناس ولا يهتدي بعضهم لبعض إلا بالنداء العالي، وعرض حائظه ثمانية عشر شبراً، وهو كله من حجارة مرصوصة على الصفة التي ذكرناها.

وبالجملة فشأن هذا الهيكل عظيم ومرآه إحدى عجائب الدنيا التي لا يبلغها الوصف ولا ينتهي إليها الحد، وإنما وقع الإلماع بنبذة من وصفه دلالة عليه، والله المحيط بالعلم فيه والخبير بالمعنى الذي وضع له. فلا يظن المتصفح لهذا المكتوب أن في الإخبار عنه بعض غلو، فإن كل مخبر عنه، لو كان قساً بياناً، أو سحباباً يقف موقف العجز والتقصير، والله المحيط بكل شيء علماً، لا اله سواه.

رحلة ابن جبير
في الاندلس | أهوال البحر | البشرى بالسلامة | شهر ذي الحجة من السنة المذكورة | ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها | منار الإسكندرية | مناقب الإسكندرية | ذكر مصر والقاهرة | شهر رمضان المعظم | شهر شوال