شرح العقيدة الطحاوية/قوله:(ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم)
ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم إذ كان تأويل الرؤية -وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية- بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه.
شرح: يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته. فإن النبي ﷺ قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، الحديث: أدخل كاف التشبيه على ما المصدرية أو الموصولة بترون التي تتأول مع صلتها الى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي. وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها، ودفع الإحتمالات عنها. وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح ؟ ! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص، كيف يستدل بنص من النصوص ؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } 1.
ونحو ذلك مما استعمل فيه رأى التي من أفعال القلوب ! ! ولا شك أن ترى تارة تكون بصرية، وتارة تكون قلبية، وتارة تكون من رؤيا الحلم، وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلص أحد معانيه من الباقي. وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني لكان مجملاً ملغزاً، لا مبيناً موضحاً. وأي بيان وقرينة فوق قوله: ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ؟ فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر، أو برؤية القلب ؟ وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه ؟
فإن قالوا: ألجأنا إلى هذا التأويل، حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها !
فالجواب: أن هذه دعوى منكم، خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال.
وقوله: لمن اعتبرها منهم بوهم، أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا، فيتوهم تشبيهاً، ثم بعد هذا التوهم - إن أثبت ما توهمه من الوصف - فهو مشبه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم - فهو جاحد معطل. بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل، فينفيهما رداً على من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله: ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي ! وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال ؟ فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال، إذ المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة، كما في العلم، فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً. فهو سبحانه لا يحاط به رؤية، كما لا يحاط به علماً.
وقوله: أو تأولها بفهم أي ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وما يفهمه كل عربي من معناها، فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل: أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف: تأويلاً، تزيينا له وزخرفة ليقبل، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } 2. والعبرة للمعاني لا للألفاظ. فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق. وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم: لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا.
ثم أكد هذا المعنى بقوله: إذا كان تأويل الرؤية - وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية -: بترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين. ومراده ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً، وهو تحريف. ولكن الشيخ رحمه الله تأدب وجادل بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى بقوله: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } 3. وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيئاً من الظواهر لبعض الناس لدليل راجح من الكتاب والسنة. وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة، المخالفة لمذهب السلف، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم.
فمن التأويلات الفاسدة، تأويل أدلة الرؤية، وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً !
ثم قد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي.
فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. فتأويل الخبر: هو عن المخبر به، وتأويل الأمر: نفس الفعل المأمور به. كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن. وقال تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ } 4، ومنه تأويل الرؤيا، وتأويل العمل، كقوله: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ } 5 وقوله: { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث } 6 وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } 7 وقوله: { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } 8 إلى قوله: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } 9، فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل، والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه ؟ وأما ما كان خبراً، كالإخبار عن الله واليوم الآخر، فهذا قد لا يعلم تأويله، الذي هو حقيقته، إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار، فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به، أو ما يعرفه قبل ذلك - لم يعرف حقيقته، التي هي تأويله، بمجرد الإخبار. وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عنى بها، وان كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله. فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف، وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له.
والتأويل في كلام كثير من المفسرين، كابن جرير ونحوه، يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالف، وهذا اصطلاح معروف. وهذا التأويل كالتفسير، يحمد حقه، ويرد باطله - وقوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } الآية10، الآية - فيها قراءتان. قراءة من يقف على قوله ( إلا الله )، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق.
ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. ولا يريد من وقف على قوله ( إلا الله ) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } 11.
وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.
ولقد صدق رضي الله عنه، فإن النبي ﷺ دعا له وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل. 12.
ودعاؤه ﷺ لا يرد. قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس، من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله.
وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، ويروى هذا عن ابن عباس. مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً، فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً، وهي المتشابه، كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب.
وأيضا فإن الله قال: { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } 13. وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين.
والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين: هو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية. فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه.
وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي يحيى بن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه ؟ فقال: نمرها كما جاءت، ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف. ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس:
وقيل:
كيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث، وهو الكتاب الذي { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } 14.
إن حقيقة قولهم إن ظاهر القرآن. والحديث هو الضلال، وإنه ليس فيه بيان ما يصلح من الإعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه ؟ ! هذا حقيقة قول المتأولين. والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه. والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه !
فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية -: فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين، لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه، وإلا أقررناه ! قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي ؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع ! ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد ! ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام عالم أو كلام أو رحمة به تعالى ! !
وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حينئذ محذوران عظيمان:
أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل ! وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيؤول الأمر الى الحيرة المحذورة.
الثاني: أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول. اذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الأنباء، والقرآن هو النبأ العظيم. ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للإعتضاد لا للإعتماد، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه قبلوه، وإن خالفته أولوه ! وهذا فتح باب الزندقة، نسأل الله العافية.
هامش