صفحة:الآراء والمعتقدات (1926) - غوستاف لوبون.pdf/52

تم التّحقّق من هذه الصفحة.
–٥٢–

والبحث عن بعض الغرائز كثير الصعوبة، ولا يتم استقراؤها على شيء من الوضوح إلا بترك جميع ما في كتب علم النفس المزاولة من أفكار، حقًّا يقتضي التسليم بأن الموجودات الدنيا تسير في بعض الأحوال كما يسير الإنسان المسوس من عقل عالٍ، وذلك حسب طرق نجهل كنهها، ولكننا لا نجحدها لمشاهدتنا لها، ولا تظهر هذه الدراية في الموجودات التي هي على شيء من التقدم؛ كالحشرات مثلًا، بل تشاهد أيضًا في الموجودات الأولية؛ كالخليات التي لا شكل لها ولا جنس، والتي تدل على بزوغ فجر الحياة. فالخلية المائية أي الكُرَيَّة التي تكونت بذاتها من حُبيبات حية هي بعزمها على مسك قنيصة تأتي بأعمال تناسب غايتها، وتتحول بحسب الأحوال كأنها ذات تمييز وإدراك، وقد صرح (داروين) عندما حقق سعي بعض الحشرات الدقيق في المحافظة على البُيَيْضَات التي تخرج الديدان منها على شكل غير شكلها «أن التأمل في هذا الموضوع عقيم». لا شك في أن نواميس منطق الحياة وقواعده متعذر إدراكها ولكنه يجب علينا أن نحقق نتائجها بضبط ودقة؛ كي نثبت أن هذه النتائج غير صادرة عن قدرة عمياء يعبر عنها بالغريزة

وليس ما هو أكثر بصيرة وحذقًا من سلسلة منطق الحياة، وكنه هذا المنطق مع كونه لا يزال مجهولًا إلا أن تعيين وجهته سهل هيِّن، فغايته أن توجد في الشخص وسائل ضرورية سواء لبقائه بالتناسل أو لملاءمته الأحوال الخارجية. والوسائل المذكورة هي من الإتقان والإحكام بحيث لا تبلغها الآمال والهمم، فقد بيَّن كثير من علماء الطبيعة مثل: (بلانشار) و(فابر) إلخ دقة أعمال الحشرات وقوة التمييز فيها واستعدادها لتغيير سيرها حسب الأحوال؛ فقالوا إنها تعلم كيف تحوِّل خواص المواد الغذائية التي هيأتها لدوادها حسبما تكون ذكرًا أو أنثى، وأنه يوجد أنواع من الحشرات غير ضارية، ولكن لمَّا كان دوادها لا يعيش إلا من الفرائس الحية، فإنها تشلها على وجه لا تتفسخ فيه حتى تنقب الدوادُ البيضَ فتخرج منها وتفترسها. ثم يعترف (فابر) بأنه يوجد في الحشرة — عدا غريزتها التي تدير أعمالها النوعية الثابتة — شيء من الشعور والاستعداد للكمال، غير أنه لم يجرؤ على تسمية هذا الاستعداد الأولي بالذكاء فأطلق عليه اسم «قوة التمييز»، ويصدر عما يوصِّفه (فابر) بكلمة التمييز نتائج يتعذر