صفحة:الآراء والمعتقدات (1926) - غوستاف لوبون.pdf/6

تم التّحقّق من هذه الصفحة.
-٦-

ولكننا بفضل مكتشفات العلم في الوقت الحاضر نرى إمكان حل تلك المعضلة التي عجز ( باسكال ) عن بيانها، وبحلها تقدر على الاجابة عن كثير من الأسئلة المهمة التي منها : كيف تستقر الآراء والمعتقدات الدينية والسياسية ؟ ولماذا نشاهد في كثير المتصفين بسمو المدارك اعتقاد الخرافات والأباطيل ؟ وما هي علة عجز العقل عن تغيير عقائدنا العاطفية ؟ فلولا نظرية المعتقد لظل أمر الاجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من المسائل غامضاً متعذراً حله، وليس العقل بمستطيع أن يفعل ذلك وحده.

و إذا أساء المؤرخون وعلماء النفس فَهْمَ حقيقة المعتقد فذلك لأنهم حاولوا أن يشرحوا بالمنطق العقلى حوادث لم يملها العقل أبداً، وسوف نرى أن عناصر المعتقد جميعها خاضعة لقواعد منطقية وثيقة لا صلة بينها و بين القواعد التي استعان بها العلماء في مباحثهم .

شغلت هذه المسئلة بالي منذ مباحثي التاريخية الأولى، فكان يظهر لي أن المعتقد هو الفاعل الاصلى في التاريخ، ولكن كيف نقدر على ايضاح حوادث خارقة للعادة - كتأسيس المعتقدات – أوجبت قیام حضارات وسقوط حضارات أخرى ؟

لقد اعتنقت قبائل البدو في جزيرة العرب دیناً أتى به أمي فأقامت بفضل هذا هذا الدين في أقل من خمسين سنة دولة عظيمة كدولة الاسكندر زينت جيدها بقلادة من المباني الفخمة التي هي آية في الاعجاز، وقبل ذلك ببضعة قرون آمنت شعوب متوحشة بعقيدة دعا اليها رسل أتوا من زاوية مجهولة في بلاد الجليل فقوضت بتأثير هذه العقيدة دعائم العالم القديم مقيمة على أنقاضها حضارة جديدة ينطق كل عنصر منها بذكر الرب.

وبعد أن مضى ما يقرب من عشرين قرناً تزعزع ذلك الإيمان وظهر في سماء الفكر نجوم كانت مجهولة فقام شعب عظيم ورفع راية العصيان زاعماً أنه قطع علائقه بالماضي، وقد منحه ايمانه المخرب القوى قدرة استطاع بها أن يهيمن على أوروبا المدججة بالسلاح وأن يدخل جميع عواصمها ظافراً على رغم الفوضى التي ألقته الثورة فيها.