صفحة:بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الأول (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية).pdf/27

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
٢١
الفصل الثاني: الإيالات الشامية

واقع الحال: وانغمس آل عثمان بالملذات والتهوا عن الحكم والإدارة ونكبوا بفقدان الرجولة فسقطت هيبتهم من عيون الإنكشارية وبدأ هؤلاء يولون من أبناء عثمان من يشاؤون. ثم تلاهى هؤلاء أيضاً عن وظائفهم ففقدوا صفاتهم الحربية القديمة وأصبح همهم الوحيد ابتزاز الأموال فعمت الرشوة مصالح الحكومة بأسرها وأصبحت الوظائف تباع وتشرى. فاضطر الولاة أن يبتاعوا وظائفهم. وكان الواحد منهم لا يوفق إلى تجديد مدة ولايته دون أن يرسل إلى الآستانة ما يرضي به رؤساءه فيضطر والحالة هذه أن ينظر إلى وظيفته كوسيلة لابتزاز المال. وكانت مناصب القضاء أيضاً تباع وتشرى وتعرض في أسواق المساومة فترسو إلى من يدفع الثمن الأعلى. وكان المولى خلافة لا يعرف العربية فيتكل في نقل أقوال الخصوم على مترجم أصبح هو صاحب القول الفصل. ولم يوفق القضاء في بر الشام في ذلك العهد إلى قضاة علماء مما اضطر هؤلاء أن يعودوا إلى فتاوي العلماء للفصل في القضايا الماثلة. وكانت على هذه الفتاوى تقوم مستندات الدعاوى، الشيء الذي أكثر الإفتاء في العصر العثماني وعدد أنواعه.

أما عن الجند فحدث ولا حرج. فالإنكشاريون والسباهيون وغيرهم كانوا قد استوطنوا دمشق وحلب وغيرهما من المدن الشامية واستقروا بها فصار لهم صبغة محلية وكثرت مطامعهم ومشاكلهم ولجأوا في غالب الأحيان إلى القوة للوصول إلى ما كانت تصبو إليه نفوسهم. قال معاصر دمشقي: «إنه في كل هذه المدة لم يكن راحة لأبناء السبيل في دمشق لأن تعديات الجند كانت كثيرة وذلك لعدم خضوعها للنظام، وإذ كان أصحابها أولو السطوة لا يسألون عما يفعلون دخل في سلكها كثير من الأهالي. ثم انقسمت المدينة إلى حزبين حزب إنكشاري وحزب قبيقولي. وكانت العداوة بينها عظيمة وشديدة. حتى أنه لم يمض يوم إلا وتحدث فيه مشاجرة. وفي بعض الأحيان كانت تغلق الحوانيت ويجري الدم بين الثائرين. وأحياناً كانوا يخربون أحياء برمتها. وكانت التعديات على أهل العرض والذمة كثيرة جداً وكانت المرأة الحسناء لا تجسر أن تخرج من بيتها بدون أن يحرسها حارس قوي وإن لم يكن حارس فتلتزم أن تلبس ملابس رثة وتحني ظهرها ليظنها من يراها حيزيوناً. وكان كل صاحب مهنة يصحب أسلحته معه إلى محل عمله ليكون على استعداد حتى إذا جد شر ينضم إلى حزبه. وكان أهل الذمة بحالة يرثى لها. وكثيراً ما وقعت التعديات عليهم، وكانوا يتكيسون بأصحاب السطوة من المسلمين لصيانة أنفسهم. أما الحكومة فكانت بيد رجل يجلس بباب السرايا يسمونه تفكجي باشي فكان يقضي ويمضي حسب أمياله فمن شاء ظلم