ب — ولكن المهم عندنا نظريته في العالم؛ فقد رأى أن الماء لا يصح أن يكون مبدأ؛ أولًا: لأنه استحالة الجامد إلى سائل بالحرارة «فالحار والبارد» (أي الجامد) سابقان عليه، ولأن المبدأ الأول لا يمكن أن يكون معينًا، وإلا لم نفهم أن أشياء متمايزة تتركب منه، فدعا المادة الأولى باللامتناهي وقال: إنها لا متناهية بمعنيين: من حيث الكيف أي لا معينة، ومن حيث الكم أي لا محدودة، هي مزيج من الأضداد جميعًا كالحار والبارد واليابس والرطب وغيرها، إلا أن هذه الأضداد كانت في البدء مختلطة متعادلة غير موجودة بالفعل من حيث هي كذلك، ثم انفصلت بحركة المادة وما زالت الحركة تفصل بعضها من بعض وتجمع بعضها مع بعض بمقادير متفاوتة حتى تألفت بهذا الاجتماع والانفصال الأجسام الطبيعية على اختلافها، وأول ما انفصل «الحار والبارد» فتصاعد البخار بفعل الحار وكان من هذا البخار الهواء، أما الراسب فيبس بالتدريج فكان منه البحر ثم الأرض، وتكون الحار كرة نارية حول الهواء كما تتكون القشرة حول الشجرة وتمزقت هذه الكرة النارية فتناثرت أجزاؤها، ودخلت أسطوانات هوائية مبططة هي الكواكب تشتعل فيها النار وتبدو لنا من فوهاتها، فكل ما نراه من وجوه القمر ومن كسوف وخسوف ناشئ إما من انسداد الفوهات انسدادًا كليًّا أو جزئيًّا، وإما مما للأسطوانات من حركة تجعل الفوهات تبدو حينًا وتغيب حينًا آخر، والأرض جسم أسطواني كذلك نسبة ارتفاعه إلى عرضه كنسبة ١ : ٣، ونحن نشغل قسمها الأعلى وهو منتفخ قليلًا، وليست تقوم على شيء بخلاف ما ارتأى طاليس؛ إذ لا بد من سماء سفلى تجتازها الشمس والكواكب من المغرب؛ لتعود فتظهر في الشرق، كما أنها تجتاز السماء العليا من الشرق إلى المغرب، فالأرض معلقة في وسط السماء ثابتة في مكانها؛ لأنها واقعة على مسافة واحدة من الأجرام السماوية، فليس هناك ما يجعلها تتحرك إلى جهة دون أخرى، ولأن
صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/21
— ١٥ —