محسوس متجانس، ولكن هذا الشيء هو الهواء وأن الهواء لا متناهٍ يحيط بالعالم ويحمل الأرض، ولسنا ندري على وجه التحقيق السبب الذي حداه إلى إيثار الهواء؛ فقد يكون أن الهواء ألطف من الماء، وأنه يقوم بذاته بينما الماء يسقط إن لم يرتكز إلى قاعدة، وأنه أسرع حركة، وأوسع انتشارًا، وأكثر تحقيقًا لللاتناهي، وقد يكون أن علة وحدة الحي النفس، والنفس هواء (ولفظ Psyché يعني باليونانية النفس والنَّفَس) فالهواء نفس العالم وعلة وحدته، ومهما يكن هذا السبب فالمحقق أن المبدأ الأول عنده الهواء، وأن الموجودات تحدث منه بالتكاثف والتخلخل، فإن تخلخل الهواء ينتج النار وما يتصل بها من الظواهر الجوية النارية والكواكب وتكاثفه ينتج الرياح فالسحاب فالمطر، وتكاثف الماء ينتج التراب (الطمي في الأنهر) فالصخر.
جـ – فأنكسيمانس يستعيض عن اللامتناهي الذي هو مزاج من الأشياء جميعًا بشيء واحد هو الهواء، وعن الحركة وما تحدثه من اجتماع وافتراق عارضين لأجزاء المادة بخاصتين متلازمتين للهواء يتكاثف ويتخلخل بذاته فيحدث النار فالماء فالتراب فتتكوَّن منه ومنها الأشياء بأنواعها، وعلى ذلك فهو يفسر العالم بعلة واحدة تعمل على نحو آلي، وفي هذا التفسير تقدم كبير بالمذهب الآلي إلى الوحدة والبساطة — وهما غايته المنطقية — إلى أن تتما له على يد ديموقريطس.
د – فالمدرسة الملطية؛ إذ توجهت إلى العالم المحسوس؛ تحاول معرفته بالملاحظة والاستدلال، قد وضعت العلم الطبيعي؛ وهي إذ اعتبرت المادة قديمة حية أو متحركة بذاتها وتخيلتها تتحول إلى صور الوجود المختلفة بموجب ضرورة طبيعية أي قانون ثابت قد وضعت الأحادية المادية المعروفة في الفلسفة الحديثة، والتي ترد الأشياء إلى جوهر مادي واحد وتفسرها بتطور هذا الجوهر في الشكل والكم ليس غير، وبهذه النظرية سيقول أيضًا هرقليطس.