يرى في النار المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء وترجع إليه، ولولا التغير لم يكن شيء فإن الاستقرار موت وعدم، والتغير صراع بين الأضداد؛ ليحل بعضها محل بعض «والشقاق أبو الأشياء وملِكها»؛ لولا المرض لما اشتهينا الصحة، ولولا العمل لما نعمنا بالراحة، ولولا الخطر لما كانت الشجاعة، ولولا الشر لما كان الخير، «أليست النار تحيي موت الهواء، والهواء يحيي موت النار، والماء يحيي موت التراب، والتراب يحيي موت الماء، والحيوان يحيي موت النبات، والإنسان يحيي موت الاثنين؟» فالوجود موت يتلاشى، والموت وجود يزول، كذلك الخير شر يتلاشى، والشر خير يزول، فالخير والشر والكون والفساد أمور تتلازم وتنسجم في النظام العام بحيث يمتنع تعيين خصائص ثابتة للأشياء: «ماء البحر أنقى وأكدر ماء يشربه السمك ولا يستسيغه الإنسان، هو نافع للأول ضار بالثاني، ونحن ننزل النهر ولا ننزل (من حيث إن مياهه تتجدد بلا انقطاع) ونحن موجودون وغير موجودين (من حيث إن الفناء يدب فينا في كل لحظة)» فكل شيء هو كذا، وليس كذا موجود وغير موجود.
جـ – قلنا: إنه يرى في النار المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء وترجع إليه، لا النار التي ندركها بالحواس، بل نار إلهية لطيفة جدًّا أثيرية، نسمة حارة حية عاقلة أزلية أبدية تملأ العالم، يعتريها وهن فتصير نارًا محسوسة، ويتكاثف بعض النار فيصير بحرًا، ويتكاثف بعض البحر فيصير أرضًا، وترتفع من الأرض والبحر أبخرة رطبة تتراكم سحبًا فتلتهب وتنقدح منها البروق وتعود نارًا أو تنطفئ هذه السحب فتكون العاصفة وتعود النار إلى البحر، ويرجع الدور، فالتغير يجري في طريقين متعارضين: طريق إلى أسفل وطريق إلى أعلى مع بقاء كمية المادة الأولى أو لنار واحدة، ومن تقابل هذين التيارين يتولد النبات والحيوان