صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/44

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
–٣٨–

وبالجملة لما اقتنع بارمنيدس بأن العالم واحد رأى أن ما يطلق عليه بهذا الاعتبار هو أنه وجود، وتأمل معنى الوجود مجردًا ومفرغًا من كل مفهوم سوى هذا المفهوم البسيط الهزيل الذي يعني الوجود بالإطلاق، فأدرك أن الوجود واحد قديم ثابت كامل، وأن هذه الصفات لازمة من معنى الوجود فآثر هذا اليقين العقلي وأنكر الكثرة والتغير واعتبرهما وهمًا «وظنًّا»: أليس التغير يعني أن الموجود كان موجودًا ولم يكن موجودًا (ما صار إليه) وأنه باق في الوجود، ومع ذلك فهو ليس موجودًا (على ما كان؟) أوليست الكثرة تعني أن كل وحدة من وحداتها هي كذا أي شيء معين، وليست كذا أي ليست غيرها؟ ولكن قولنا عن شيء إنه ليس كذا معناه أن هذا الشيء حاصل على اللاوجود وهذا معنى غير معقول.

ج – «ولكنه اضطر أن يتبع الظواهر المحسوسة وقال: إن الأشياء واحد في العقل كثير في الحس»1 فانتقل من يقين العقل إلى ظن الحواس، ومن الفلسفة إلى العلم الطبيعي يحاول أن يفسر الظواهر وأن يورد ما يبلغ إليه الظن فيها فقبل الوجود واللاوجود في آن واحد وهو يعلم أن هذا طريق معارض للعقل، ولكنه يعلم أيضًا أنه أهون عند العقل من طريق الذين يعتقدون «أن الوجود واللاوجود شيء واحد، ثم إنهما ليسا شيئًا واحدًا» ، يريد فيما يلوح معاصره هرقليطس، فتصور بارمنيدس الوجود الكامل غير المنقسم كرة مادية كما تصور الفيثاغوريون العدد ممتدًّا، وشرع يسرد آراء تذكر بقصص هزيود وأقوال أنكسيمندريس وأنكسيمانس فهل كان جادًّا في هذا القسم الثاني من الكتاب مغلوبًا على أمره كما يقول أرسطو أم أنه بجمعه بين خيال هزيود وعلم الإيونيين أراد أن يسخر من العلم الطبيعي ومن أصحابه، وأن يؤيد بالخلف القسم الأول


  1. أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ب س٣٠–٣٢.