أما الفلسفة فالشرقيون فيها متفاوتون: فقد يمكن القول عن البابليين والمصريين والعبرانيين أنهم جهلوا الفلسفة بالرغم مما بلغ إليه علماؤهم من ثقافة عالية ولم يحصلوا فيما يلوح سوى بضعة معارف عامة جدًّا ومختلطة بالدين في الألوهية والنفس والعالم الآخر، عالجوها بالبداهة والخيال دون الاستدلال، وبالعكس قد زاول الفرس والهنود والصينيون النظر العقلي المجرد إلى حد بعيد، ولكنهم قصروا مهمة هذا النظر على تمحيص الدين وإصلاحه ولم يوفقوا إلا بعض التوفيق في تبين ماهية الفلسفة وإقامتها علمًا مستقلًّا، كان قصدهم الأول النجاة من الشر فلم يتخذوا العلم غاية لذاته بل وسيلة لهذه النجاة، وأرادوا أن يجاوزوا العقل إلى نوع من الكشف يستغني عن التحليل والتفصيل ويتصل بموضوعه اتصالًا مباشرًا أو يفنى فيه، فكأنه كان مكتوبًا لليونان أن يعبروا في وقت من الأوقات الهوة الفاصلة بين التجربة والعلم بمعناه الصحيح؛ أي معرفة الماهية والعلة بالحد والبرهان، ويضعوا الفلسفة علمًا كاملًا قائمًا برأسه ويقنعوا بها لا يتطلعون إلى كشف أو إشراق، وإن تطلعوا فهموه كشفًا عقليًّا إلا أن يتأثر بعضهم بالشرق في أواخر عهدهم بالتفلسف فيعدل عن العقل إلى الذوق كما وقع للأفلاطونية الجديدة، في هذه الحدود يصح القول: إن الشرق لم يعلم اليونان؛ أي لم يلقنهم مذهبًا أو منهجًا، ولكنه حفزهم إلى التفكير بما أدى إليهم من مواد جمعها أثناء قرون طويلة فقاموا يعالجونها على نحو علمي، لم يفلحوا دفعة واحدة — وهذا الكتاب تاريخ محاولاتهم — ولكنهم ساروا في طريقهم وأعملوا العقل في نشاط وجرأة عجيبين فكانوا أساتذة الإنسانية.