٢٧ – محاكمته ومماته:
أ - إذا كان منهجه قد حشد حوله جماهير الأثينيين وأفاده شهرة واسعة؛ فقد جلب عليه سخط هؤلاء الشعراء والخطباء والسياسيين الذين كانوا يقعون فريسة بين يديه يعبث بهم في الجدل، ويظهر الناس على فراغ رءوسهم وبطلان دعاواهم، وأقدم طعن وجه إليه فيما نعلم رواية «السُّحُب» لأرسطوفان يصوره فيها ذائع الصيت عظيم النفوذ — وكان سقراط حينذاك في السابعة والأربعين — صاحب مدرسة يعيش فيها التلاميذ عيشة مشتركة في فقر وقذارة، ويدرسون عليه الهندسة والطبيعة والفلك والآثار العلوية والجفرافيا وأعماق الأرض والكائنات الحية والبيان والنحو والعروض، ويمثله مرفوعًا في الفضاء يرصد السماء ويعزو إليه القول: إن الهواء مبدأ الأشياء ومبدأ الفكر، ويتهمه بالكفر بآلهة المدينة وبتعليم التلاميذ تغليب الباطل على الحق، ويعلن أن القصاص العادل إحراق المدرسة وقتل صاحبها والتلاميذ جميعًا، فأرسطوفان جمع في شخص سقراط خصائص الطبيعيين والسوفسطائيين، وقد يكون خدع في ذلك لما أراد أن يهجو الجماعة المتفلسفة المبتدعة؛ لما كان من مشابهة ظاهرة بين أسلوب سقراط وأسلوب السوفسطائيين يجادل مثلهم ويخوض مسائلهم، بحيث لم يكن من الميسور تمييزه منهم إلا للمقربين إليه الواقفين على آرائه، فاختاره بطلًا لروايته؛ لشهرته عند الأثينيين وغرابة هيئته، ورآه أدعى المتفلسفين لتكوين شخص رواية هزلية وإسقاط الجماعة الذين يمثلهم، وقد يكون سقراط امتحنه فيمن امتحن وأفحمه أمام الجمهور، فأراد هو أن ينتقم لنفسه ولزملائه، وأن يوقع بهذا الخصم العنيد، ومهما يكن من الباعث له فإن روايته لم تصادف إقبالًا ولم تلحق أي أذى بسقراط.
ب - وبعد ذلك بثلاث وعشرين سنة (٣٩٩) أخذ ثلاثة على أنفسهم