له أسباب الفرار، ووفروا له وسائل العيش في تساليا، وكان الفرار مستطاعًا، وكان العرف يعذر الفار في مثل هذه الحال، ولكنه أبى أن يهرب كالعبيد، وأن يخرج على قوانين بلاده، والقوانين سياج الدولة، في ظلها ينشأ الأفراد ويحيون؛ فإن كان الأثينيون قد ظلموه فبأي حق يستهين هو بالقوانين ويظلمها؟ ثم كيف يهرب وهو لم يغادر أثينا قط إلا للحرب دونها؟ وهو أينما يذهب سيثابر على خطته من الوعظ والتأنيب وإلا ضاع لديه كل معنى للحياة وأغضب الإله، فهل يكون الأجانب أوسع صدرًا من مواطنيه؟1
ه - ولما عادت المركب وحل الجل بكر التلاميذ ما خلا أفلاطون فقد كان مريضًا، وجاء بعض الفيثاغوريين فأدخلوا عليه فوجدوا زوجته جالسة بجانبه تحمل ابنهما الصغير، فلما وقع نظرها عليهم أخذت تنتحب وتندب فأمر أن تصرف إلى المنزل، فأخذها بعض الخدم وهي تصيح وتضرب صدرها،2 وجلس إليه مريدوه، وكان هو سعيدًا، وكان شيء من هذه السعادة ينتقل إلى نفوسهم فيتحدثون معه على عادتهم ويضحكون ثم يفكرون في موته فيبكون ثم يستأنفون الحديث وهكذا،3 وكان معظم حديثهم في خلود النفس حتى إذا ما تقدم النهار قام فاستحم ليكفي النساء مئونة إحمام جثة هامدة؛ فلما رجع أدخل عليه قريباته ومعهن أولاده الثلاثة فكلمهم ثم صرفهم، ولما آذنت الشمس بالمغيب دخل السجان وأبلغه دنو الساعة وأثنى على خلقه وبكى — وكان الغروب ميعاد الإعدام عندهم — فأمر سقراط بالسم فأحضر له مسحوقًا في كاس فتناولها بثبات ودعا الآلهة أن يوفقوه في هذا الرحيل من العالم الفاني إلى العالم الباقي،