صفحة:داعي السماء.pdf/11

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

فمن قديم الزمن يفخر كل عنصر بعراقته وامتيازه على غيره، ويزيده إمعانًا في عادة التفاخر والمباهاة أن تتاح له فرصة الغلبة والاستعلاء فترة من الزمن، فإن كانت الغلبة قائمة حاضرة فهي آية الفخر وحجة المباهاة، وإن كانت غابرة داثرة فهي عنده علامة على عراقة أصله وحداثة غيره، وأنه أحق من ذلك الغير بالفخر والمباهاة، وإن خدمته الحظوظ والمصادفات في حاضر أمره.

فلم تعرف أمة قديمة قط خلت من مفاخرة بعنصرها واعتداد بنشأتها وبيئتها وبلادها. والذي قال:

بلادي وإنْ جارتْ عليَّ عزيزةٌ
وأهلي وإنْ ضَنُّوا عليَّ كرامُ

قد جمع هذه الحقيقة من جميع وجوهها، وهو يدري أو لا يدري، فليس من اللازم أن تكون البلاد أطيب البلاد، ولا أن يكون الآل أكرم الناس ليفخر بهم الرجل الذي ينتمي إليهم، وتحسب سمعتهم عليه وسمعته عليهم، فإنه ليعظمهم ويبجلهم فرارًا من المهانة التي تصيبه إذا تقاصروا عن شأو العناصر الأخرى في التعظيم والتبجيل … فهو فاخر بهم إن عظموا مساهمة منه في فخارهم، وفاخر بهم إن هانوا دفعًا للهوان عنه إذا اعترف بهوانهم، ولا حساب للبحث أو للرأي في الحالتين إلا بعد حساب العاطفة والشعور.

كان المصري القديم يؤمن بأنه هو الإنسان الكامل، ثم تتلاحق الشعوب بعده إلى أن يأتي اليونان في المرتبة السادسة.

وكان اليوناني القديم يؤمن بأنه هو الإنسان المهذب ومن عداه برابرة لا يدركون مكانه من الفهم والحضارة.

وكان العربي القديم يؤمن بأنه هو الإنسان المبين الكريم، ومن عداه «أعاجم» لا يفقهون ما يقال، ولا يدينون بدين المروءة والأحساب.

وكذلك كان أبناء فارس والهند والصين. بل كذلك كانت كل قبيلة من تلك القبائل حين ينظر إلى نظائرها وإن تلاقت جميعًا في أصل قريب من الأحساب والأنساب.


وبقيت هذه الشنشنة بين أمم الحضارة في العصر الحديث فاعتز بها الأوروبيون على أبناء القارات الأخرى، ولكنهم لبثوا فيما بينهم يفاخر كل شعب منهم جاره بالعادات والأخلاق والمآثر وإن تقاربوا في السلالة واللغة والعقيدة، فليس أشد تفاخرًا بين الأوروبيين من الطليان والإسبان والفرنسيين، وهم يرجعون بلغتهم إلى اللاتينية،

10