صفحة:داعي السماء.pdf/24

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
مسألة العنصر

فمن المشاهدات — ومن البديهات معًا — أن العزلة في النسب وفي التعرض للمناخ والبيئة وأحوال المعيشة وعادات الاجتماع تعقب العزلة في الصفات الجسدية والخلائق النفسية على السواء.

ومن المشاهدات — ومن البديهات معًا — أن الشعب الذي يقضي عشرة آلاف سنة ولاءً في مكافحة العوارض الجوية والاحتيال على موانع الطبيعة والتأهب للمفاجآت من جيرانه ومن طوارق الأرض والماء والسماء، لا يشبه شعبًا قضى مثل تلك الدهور في الدعة أو في التعويل على المصادفات وهو معفي من الحيلة والجهد في صراع الحياة.

وقد أظهر العلم الحديث أن التوارث في الخَلق والخُلُق منوط بالناسلات Genes التي توجد في خلايا الذكور والإناث، وأن هذه الناسلات تتقارب في أفراد القبيل الواحد كما تتقارب في أفراد الأسرة الواحدة. ولكننا لا نعرف اليوم على وجه التحقيق كم من الزمن يكفي لتحويل العوارض التي تنشأ من البيئة والمعيشة إلى موروثات تستقر في تكوين الناسلات وتنتقل من الآباء إلى الأبناء، ولا نعرف على وجه التحقيق هل ما يوجد الآن من اختلاف الناسلات وليد الاستمرار الطويل في عوارض البيئة والمعيشة، أو هو وليد أصل آخر من أصول الاختلاف في التكوين؟

والذي يلوح لنا من المشاهدة المحسوسة، ونعتقد أن العلم وشيك أن يمثله في تجربة من التجارب المقررة — أن فراسة الوجه الإنساني تدل على كثير، وأن هذه الدالة مرتبطة أوثق الارتباط بالأعصاب ثم بالعظام.

فأنت لا تخطئ تاريخ الأمة كلها إذا نظرت إلى وجوه أبنائها، ولا يفوتك أن تعلم أن هذا الوجه السهل الذي تغلب فيه ملامح اللحم والدم على ملامح الأعصاب والعظام هو وجه أناس مارسوا في ماضيهم قليلًا من الكفاح وقليلًا من التجارب وقليلًا من حوافز النفوس، وأن ذلك الوجه الحازم الذي يلفتك إلى متانة الأعصاب والعظام قبل أن يلفتك إلى بضاضة اللحم والدم هو وجه أناس ثابروا على الاعتزام والجلد ولم يستسلموا لسهولة العيش منذ زمن بعيد، وليس في وسعنا، أن نعلم اليوم كيف تورث هذه الملامح الحازمة في الوجوه، فإن اللحم لا ينقلها والدم قد يخزن الناسلات ولكنه لا يخزن القوى التي هي من قبيل الطاقة الكهربائية في الأحياء وغير الأحياء، فأغلب الظن إذن أنها تُنقل في مخازن الأعصاب ثم في مخازن العظام، ولعلها تنحصر في الأعصاب على نحو لا يصعب على العلم — فيما نقدره — أن يهتدي إليه، وقد يكون للأعصاب فيها اتصال كبير بالدماغ وسرعة الاستجابة بينه وبين مواطن الانتباه والتنبيه.

23