صفحة:داعي السماء.pdf/86

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
المؤذن الأول

كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:١٠٦–١٠٥].

وقد ظل بلال وحده ثابت القلب واللسان فلم يصبأ ولم ينل من عقيدته ألم الضرب ولا حر الظمأ ولا طول التعريض للشمس على بطاح مكة المتلهبة، وعجزت كل هذه المحن أن تثني عزيمته الحديدية، فلم يكن له من جواب على كل أمر يتلقاه من معذبيه إلا أن يردد قوله: أحد! أحد! مشيرًا إلى واحدانية الله الذي ليس له شريك.

هذه الفترة في حياة بلال أيام دخوله في الإسلام هي التي اختارها الشاعر الفارسي فريد الدين العطار للإشادة بها في كتابه منطق الطير، فقال:

إن بلالًا قد تلقى على جسده الهزيل ضربات العصي من الخشب، والسياط من الجلد، فتمزق إهابه وسال الدم من جراحه، ولم يمسك قطُّ عن توحيد الله الذي لا إله غيره.

واتفق ذات يوم — والحبشي المسكين يتلظى من ألم ذاك العذاب — أن عبر به رجل نحيف البدن صغير القد جميل الملامح واسع الجبين فشهد فيمن يشهدون ثبات بلال وشدة عذابه.

وكان ذاك الرجل النحيف هو التاجر عبد الله بن عثمان أبي قحافة، ويعرف في التاريخ الإسلامي باسم أبي بكر صديق النبي الحميم وزميله في ذلك الكهف الذي تقول الرواية إن العناكب نسجت على مدخله خيوطها لتخفي اللاجئين إليه عمن يتعقبونهما، ويدعى أبو بكر أيضًا بالصديق أي المخلص الوفي، وكان أبا السيدة عائشة التي قدر لها أن تقترن بالنبي وقدر لأبيها أن يخلف النبي على رعاية شأن المسلمين بعد وفاته، وكان إلى ذلك الحين قد أنفق كثيرًا من ثروته التي تبلغ أربعين ألف درهم في شراء العبيد الذين سيموا العذاب على أيدي ساداتهم من أجل دخولهم في دين الإسلام، ومعظمهم رجال مهازيل أو نساء، فكان أبو قحافة يؤاخذه؛ لأنه ينفق ماله في إعتاق النساء والضعفاء ويقول له: هلا أنفقته في إعتاق الأقوياء الذين يشدون أزرك ويدرءون عنك عدوك؟ وكان أبو بكر يجيبه: كلا. يا أبت. إنما أريد بهم وجه الله.

ويقول الرواة: إن هذا البذل السخي في سبيل التقوى قد أفقر الرجل حتى لبس الثياب الخشنة من شعر المعز الذي يلفق بالسلا.

85