صفحة:داعي السماء.pdf/95

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

ولا نعلم كم من الوقت قضاه بلال في صحبة أبي بكر بالمدينة، ولكنه ولا ريب كان في موضع الرعاية والكرامة بين المسلمين، وكان له من جلالة القدر في أنظارهم ما خوله أن يخطب امرأة عربية حرة لأخيه الأسود، وهي رعاية عظمى بين قوم لا يزالون يفخرون بصحة النسب ويسمون أنفسهم بالأحرار أي الخلَّص من النسب الخليط.

ويؤخذ من بعض الأنباء أن بلالًا قد تولى بعض مهام الدولة بعد الخليفة الأول. فلما أراد الخليفة العادل الصارم في عدله — عمر بن الخطاب — أن يحاسب «سيف الله» خالد بن الوليد على بعض أعماله كان بلال هو الذي نزع عمامة خالد وأوثق يديه أمام جماعة المسلمين بالمسجد وهو يردد مشيئة أمير المؤمنين.

ولكننا لا نسمع بعد هذه القصة عن بلال إلا القليل، حتى وصل عمر إلى الشام فنعلم أنه كان يصحب الجيش وأنه كان قد منح بجوار دمشق قطعة من الأرض واعتزل الحياة العامة كل الاعتزال.

وكان معظم الصحابة قد فارقوا الدنيا، ولحق أبو بكر وخالد بالنبي في رضوان ربه، كما لحق به آخرون ممن جاهدوا معه في معارك الإسلام الأولى. ولم يكن الجيل الجديد على نمط الجيل الذي تقدمه في المعيشة، فزالت أو كادت تزول من حياة العرب تلك البساطة البدوية التي درجت عليها، وظهرت بينهم بدع من الترف الآسيوي لم تكن معهودة فيما مضى، وتدفقت أموال فارس على المدينة كأنها سيل من الذهب حتى دمعت عينا الخليفة عمر وهو ينظر إليها ويخشى منها الفتنة والحسد على رعاياه.

وفي خلال ذلك كانت العقيدة التي تعذَّب بلال من أجلها ودان بها زمنًا وهي لا تتجاوز حي أبي طالب، قد جاوزت البرور والبحار إلى سورية وفلسطين وفارس، وشهدها قبل أن يسلم روحه إلى ذلك الذي لا ينام وهي تسلك سبيلها إلى القارة الأفريقية فتضمها إلى فتوح الإسلام. وبهذا أصبحت دعوته الأولى — دعوة الأذان — مستجابة بين أقوام من المتعبدين من تخوم الهند إلى شواطئ الأطلس، وقرع فرسان الصحراء العربية أبواب كابل … ولعل ولدًا من ذرية بلال قد عاش حتى رأى الدولة تمتد على بقاع الأرض مسيرة مائتي يوم بين المشرق والمغرب. وإن ما بلغته الفتوح الإسلامية — حتى في السنة الثانية عشرة للهجرة — لخليق أن يستجيش في صدر الشيخ الهرم حمية الدين التي عمر بها ما بين جانحيه.

سكت صوت بلال عن ترديد الأذان بعد نبيه ووليه؛ لأنه رأى — في حسبانه التقي — أن الصوت الذي أسمع نبي الله ودعاه إلى بيت الصلاة لا ينبغي أن يسمع بعد فراق مولاه.

94