عن أربع وعشرين ساعة خصوصاً وأن مستهل سياحتنا ومطلع سفرنا كان كما عرف القارئ أوّلاً لكثرة الزحام مدعاة إلى القلق ومنآة عن الراحة. ويعلم الله أن رأى صديقي لم يكن ليثني رأيي ولا ليفل غرار رغبتي وخصوصاً بعد ما رأيت من حسن شيمها وجيل صنيعها. فإني لما طلبت إلى الخادم خبزاً في المرة الثانية لمحت واحدة من ابنتها تشير إلى والدتها ولا يعلم إلا الله حينذاك ما كانت تقصد إليه ولكنا ما لبثنا أن أهدت إلينا الكونتيسة سلة فيها خبز فعرفنا مغزى إشارة تلك الفتاة الرؤوفة إلى والدتها الشفوقة العطوفة وكانت تلك الهدية المقبولة والمنحة المبرورة أدعى إلى خجلي وأبلغ في أسفي وتمنيت لو أني كنت البادئ بالمعروف
وقف القطار على محطة (بست) فنزل إليها قصادُها من الركاب وخلف من بعدهم خلف من المسافرين الذين كانوا وقوفاً على رصيف (المحطة) ينتظرون هذا القطار فخشينا لكثرتهم أن يضيق القطار بهم فيضطر بعضهم إلى مزاحمتنا في محلنا فنقع هنا فيما كنا نتوفاه هنالك. وقد قام من هذه (المحطة) قبل قيام قطرنا اثنان آخران أحدهما اكسبريس الشرق الذي يكون مبدأ سيره من باريس ويمر على ذلك البلد متجهاً إلى إسلامبول. والثاني يبتدئ منها قاصداً إلى «بوخارست» ولما نزح كل من القطارين براكبيه التفت فلم أر في فناء (المحطة) غير نفر يسير. منهم ثلاثة يلبسون الطربوش على عادة الشرقيين فصبوت إلى معرفتهم وظهر لي أنهم من بلاد البوسنة وأنهم على نية الأوبة إلى أوطانهم وقد امتطوا من الدرجة الثانية – ولم تكن وابورات النمسا لتشتمل إلا على الدرجتين الأولى والثانية – فصادف ركوبهم حيث يركب خدمنا. وبعد قليل علم أولئك البوسناويون «البكوات» ممن كان معهم من الخدم أننا شرقيون ثم تدرج بهم التبحث عنا إلى أن سألوا عما إذا كنا مسلمين أو لا فأجيبوا بأننا مسلمون. هنالك أنساب أولئك النفر في الخدم يؤنبونهم تأنيباً ويبكتونهم تبكيناً على ترديهم شعار الغربيين وتنحيهم عن شارة الشرقيين. هذا ما كان بلغني من رفيقي محسن بك الذي أرسلته لاستطلاع أمرهم وكنت احتطت لمثل ذلك من قبل ونبهت على خدمي بأن لا يشعروا بنا أحداً