ثم نادى منادي (المحطة) حيث أذن القطار بالمسير فسارعت لأقضي ثمن المأكولات الذي كنت أحسبه كثيرًا بالنسبة إلى وفرتها فلم يتقاضوا إلا مبلغاً يسيراً في جانب ما طلبنا من الأكل الكثير!
القيام إلى محطة جالا
سار الوابور بسم الله مجراه واندفع كأنه السهم يشق كبد الفضاء وليس له من هدف إلا بلاد البوسنة. وكنا نشرف من خلال النوافذ ونرسل النظرات إلى أراضي تلك البلدان فنجدها منبسطة ميثاء لا تقل في استوائها عن أراضي الوجه البحري في مصر. وما كاد الليل يحلق بجناحيه في السماء وينشر ديباجه الحالك في ثنيات الفضاء حتى بدا محيا القمر. وكأنه ملك فخم. أناف بسراة قصره. وأشرف على رعائه من خلال ستره. فأرسل عليهم ما شاء أن يرسل من هبات آلقة وأيادٍ بيضاء. وما أجمل هذه المناظر في نفس المغترب المسافر. ثم لم يمضِ على مسير القطار أكثر من ساعة حتى دانينا نهر (الدانوب) وإذ ذاك خارت عزيمة البخار ووهت قوة قوائمه فرقاً من منظر ذلك النهر المهول الذي لا يقلُّ بعد ما بين عِبْريه ولا تضيق مسافة ما بين شاطئيه عن مثلَي النيل عند (كوبري) كفر الزيات. وهنا يذهب العجب بالقارئ كل مذهب إذا قلنا له إنه ليس على ظهر ذلك النهر (كوبري) ولا ممرٌّ ولا قنطرة ولا مَعْبَر والقطار لا محالة واصل. من الساحل إلى الساحل. يسبح على مَهَل. أم يجري على عجل. أم يطير في الهواء؟ وقد يعيا به حمله! أم يقتعد متن الماء؟ وقد يهوي به ثقله! ذلك ما كان يأخذ بالألباب ويذهب بالأحلام. ولكنهم قد قالوا إذا عُرف السبب بطل العجب وليت شعري لقد كانت العلة هنا أغرب والسبب أخفى وأعجب. فلم يزل بنا القطار حتى استوينا إلى شاطئ النهر وما هو إلا أن وافت إليه سفينة بخارية حتى حاذت مكانه ووصلت بقضبانها قضبانه. وإذ ذاك آوى القطار إليها واستوى بجملته عليها. ولا يستطيع واصف أن يشرح ما بلغت تلك السفينة من الطول والمتانة وغير ذلك، مما يدل على تمام الحذق في الصنعة وكمال الإتقان