صفحة:رحلة الصيف إلى بلاد البوسنة والهرسك.pdf/8

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
– ٨ –
قرأنا فيه عنوان بلاده واستطلعنا منه طلع معشره؛ إذ كان ضخم الجثة أسمر اللون طويل الشارب، وكان مما يلفتني إلى هذا الرجل أني وجدته يلبس في يديه قفازين أبيضين، فاستغربت وليس موضع الغرابة إلا كونه مع هذا من عملة السكة الحديدية! ولقد لاقانا هذا القومساري من بشاشة الوجه وطلاقة المحيا بما لا نرتاب معه في أننا سننال من تعهده لراحتنا ما نلنا من أخيه النمساوي، وكان ما يتدفق في أفئدتنا من السرور به أضعاف ما يلوح على وجهه من البشر بنا، وكنت وصديقي محسن بك نتجاذب آونة أطراف الحديث، ونتوارد طرف السمر — وما ألذ التحادث في السفر — وآونة نلزم الصمت ونسرح في مسارح الخيال، حتى نام صديقي ونمت، وما أحوج المسافر إلى النوم والراحة، ولكن كيف ينام من ليس مطمئنًا في مقامه ولا حرًّا في منامه، بل كيف يملك راحته مسافر وفي القطار مثل رئيس المفتشين ذلك الرجل الجافي الطبع، الغليظ القلب، فإنا بعد أن أخذنا مضاجعنا باغتنا أي مباغتة، وفاجأنا أي مفاجأة، نعم فاجأنا بما ينبو عن الأدب وما لا يجمل بالمعاملة، وحظر علينا إقفال الباب من الداخل، فكان ذلك سببًا في كدر صفونا وامتعاض نفوسنا، حتى وصلنا إلى «بودابست» وقد بلغ منا التبرم به والتذمر من أخلاقه حتى إنا لنتحرش به تحرش الأسد بالفريسة، ولكن ما عسانا أن نصنع ولا حيلة لنا إلا امتثال ما أنبه عليه وأشار إليه، على أنه لم يصل إليه منا بارة سوء، اللهم إلا إذا كان التحلم معه وإسلاس القول له بعث في نفسه روح الشر، فركب معنا متن الغرر، وقد قيل الحلم يفسد من أخلاق اللئيم بقدر ما يصلح من أخلاق الكريم.
إذا أنتَ أكْرَمْتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ
وَإنْ أنْتَ أكْرَمْتَ اللَّئيمَ تَمَرَّدَا

كأني بالقارئ يلاحظ عليَّ تعرضي لذكر دقائق الأمور وجزئياتها، وما أدراه أن صغائر الأشياء عنوانات جلائلها، والفرد الواحد قد يكون نموذجًا لكل شعبه، وإذا كان غرضنا أن نقف على عادات القوم وأخلاقهم، فلا سبيل لالتماسها إلا من أفرادهم ولا سيما صغارهم الذين لا يحسنون المواربة ولا يجيدون المماراة، فيتسنى للمستطلع أن يستجلي منهم ما يريد أن يستجليه صافيًا نقيًّا لا تشوبه شائبة الغرض، وقد قيل: إن قلب الجاهل وراء لسانه، كما أن لسان العاقل وراء قلبه.