صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/40

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

–٤٢–

المغزى يهدينا إلى نشأة هذه الفضيلة الإنسانية العالية، ومودة عمر بن الخطاب لرحمه وذوي قرباه لا تنحصر دلائلها في رحمته لأخته الشاكية الثائرة؛ فإن المرأة قد تُرحم لضعفها في موقف شكواها ويأسها، ولو كانت بعيدة الآصرة١، منقطعة النسب. إنما يدل على مودته لذوي قرباه ذلك الحب الذي كان يضمره لأبيه بعد موته، مع شدته عليه وغلظته في زجره وتأديبه، فكان يطيل الحديث عنه، وينقل أخباره، ويقسم باسمه، وظل يقسم باسمه وهو كهل إلى أن نُهي المسلمون عن القسم بأسماء من ماتوا على الجاهلية.

وندر بين الناس من أحب إخوته، كما كان عمر يحب أخاه زيدًا في حياته وبعد مماته، فما شاء أحد أن يبكيه إلا ذكره له ففاضت شئونه، وجعل بعد قتله يتأسى بمن أصيب مثل مصابه، ولا يرى أحدًا فقد أخًا له إلا التمس الأسوة عنده.

حكى أحمد بن عمران العبدي عن أبيه عن جده قال: «صليت مع عمر بن الخطاب الصبح، فلما انفتل٢ من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبًا قوسه، وبيده هراوة٣، فسأله: من هذا؟ فقيل: متمم بن نويرة. فاستنشده رثاءه لأخيه، فأنشده حتى بلغ إلى قوله:

وكنا كندماني جذيمة حقبة٤
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا٥
فلما تفرقنا كأني ومالكًا
لطول افتراق لم نَبِت ليلة معًا

فقال عمر: هذا والله التأبين، يرحم الله زيد بن الخطاب! إني لأحسب أني لو كنت أقدر على أن أقول الشعر لبكيته كما بكيت أخاك. ثم سأله: ما أشد ما لقيت على أخيك من الحزن؟ فقال: كانت عيني هذه قد ذهبت، فبكيت بالصحيحة، فأكثرت البكاء حتى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدمع. فقال عمر: إنَّ هذا لحزن شديد، ما يحزن هكذا أحدٌ على هالك. قال متمم: لو قتل أخي يوم اليمامة كما قتل


  1. لأواصر : الروابط والعلائق
  2. أي انصرف
  3. العصا الضخمة
  4. مدة لا وقت لها، وقيل سنة
  5. يتفرقا