صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/48

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

–٥٠–

والدهاء المذموم، أو بين الفهم الصحيح والخبث القبيح. فهناك فطنة تسيء الظن؛ لأنها تعرف الشرور التي في طبائع الناس، وفطنة تسيء الظن؛ لأنها تشعر شعور السوء، والفرق بينهما عظيم، كالفرق بين الخير والشر والمحمدة والمذمة. فالفطنة الأولى معرفة حسنة، والفطنة الثانية خلق رديء، وإنما كان عمر بالفطنة الأولى معصومًا من أن يخدع غيره، أو ينخدع لغيره، وهذا هو الحد القوام الذي لا نقص فيه من جانبيه.

وكانت له في استيحاء الخفايا قدرة تقرب من مكاشفة الغيب، لولا أنها تستند إلى التقدير الصحيح، والظن المدعوم بالخبرة، وحكاية واحدة من هذا القبيل تغني عن حكايات، وهي حكايته مع المغيرة الذي استكثر على عمرو بن العاص أن يوحي إلى عمر بمراده ويتداهى عليه. فقد همَّ عمر — رضي الله عنه — بأن يعزل المغيرة عن العراق، ويولي جبير بن مطعم مكانه، وأوصى جبيرًا أن يكتم ذلك ويتجهز للسفر، فأحس المغيرة، وسأل جليسًا له أن يدس امرأته، وهي مشهورة بلقط الأخبار حتى سميت «لقاطة الحصى»، لتستطلع النبأ من بيت جبير، وذهبت إلى بيته، فإذا امرأته تصلح أمره فسألتها: إلى أين يخرج زوجك؟ قالت: إلى العمرة! قالت لقاطة الحصى: بل كتمك، ولو كانت لك عنده منزلة لأطلعك على أمره! فجلست امرأة جبير متغضبة ودخل عليها وهي كذلك، فلم تزل حتى أخبرها وأخبرت لقاطة الحصى. وذهب المغيرة إلى عمر ففاتحه بما علم، وهو يقول له: بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيرًا! فلم يعجب عمر من وقوفه على السر، بل قال: كأني بك يا مغيرة قد فعلت كيت وكيت، كأنما سمع رأي … وأنشدك الله هل كان كذلك؟ قال المغيرة: اللهم نعم. ثم صعد عمر إلى المنبر ونادى في الناس: أيها الناس، من يدلني على المخلط المزيل٢٧ النسيج وحده؟ فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذلك في أمتك أحد غيرك؟ فأبقاه على ولايته ولم يزل واليه على العراق حتى مات.

وإنما كانت مجاراته للداهية من هذا القبيل إعجابًا بحصافته لا انخداعًا (۱) في المستند إلى الخبرة • (۲) أي يجعلها تتجسس لجمع الاخبار (۳) أي أخفي عنك أمره • (4) أي أسألك بالله • (5) من يخالط الأمور (1) الرجل الكيس اللطیف • (۷) أي لا نظير له في العلم وغيره