صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/55

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
–٥٧–

معناه أنهم احتاجوا إلى التصرف، وعمر لم يحتج إليه.

وها هي ذي السنون قد مضت، وتلتها الأحقاب والقرون، فبدا لنا اليوم أنَّ النظر البعيد والعدل الشديد في هذه القضية يلتقيان، وأنَّ عمرَ كان أحسن المتصرفين فيها؛ لأنه اجتنب التصرف الذي يهواه الدُّهاة؛ فقد أفاد الإسلام ما لم يفده بقاء جبلة وأتباعه على دينه، ووقاه ضررًا أضخم وأوخم من نكوص أولئك الصابئين عنه. أفاده ثقة أهله بإقامة أحكامه، واطمئنان الضعفاء إلى كنفه، ورهبة الأقوياء من بأسه، وسمعته في الدنيا برعاية الحق، وإنجاز الوعد، وتصديق معنى الدين، ولا معنى له إن كان أضعف بأسًا من أمير وجب العقاب عليه.

ويجوز أنَّ الفاروق لم ينظر إلى عواقب القرون، كما ننظر إليها الآن، بعد أن برزَتْ من حَيِّز الفرض إلى حَيِّز العيان. غير أنَّ الأمر الذي لا يجوز في اعتقادنا أنه عدل في قضية جبلة ونظائرها عدل آلة أو عدل ميزان. إنَّ الميزان لأقل من مخلوق له حياة، أما الفاروق في هذه القضية فقد كان أكبر من الحياة الفانية، كان بطلًا يؤمن ويعمل بإيمانه، وهكذا يعلو الإنسان ببطولة الإيمان.

والعبرة التي نخرج بها من هذا أنَّ النظرة الأولى في أخلاق عمر بن الخطاب حسنة، ولكن النظرة الثانية هي على الأغلب الأعم أحسن من الأولى!

فالناقدون الأوروبيون الذين فَسَّرُوا عدله المستقيم القاطع بالنظر الضيق والفكر المحدود لم يفهموه ولم ينصفوه، ولو فهموه وأنصفوه لعلموا أنَّ عدله المستقيم القاطع زيادة في القدرة، وليس بنقص في الفطنة، أو أنه زيادة في قوة الثقة، وقوة الإيمان، وليس بنقص في العلم والبداهة، ولم يكن عسيرًا عليهم أن يفقهوا ذلك لو راجعوا أنفسهم وتريثوا في حكمهم؛ لأنَّ قوة الثقة وقوة الإيمان لا تخفيان في خلق من أخلاقه، ولا عمل من أعماله، ولا تزالان ممزوجتين فيه بكل إقدام وبكل إحجام، فكان يُقدِم على أعظم الخطوب، ويحجم عن أهون الهينات تحرجًا منها


(1) أي سي العاقبة • (۲) نكوصهم : ارتدادهم ورجوعهم عن الإسلام " (۳) أي جانبه