ومن المعلوم ان الافراط في حب الدنيا يحرم الانسان التمتع بها وان الغلو في في قلوبهم الاجنبي المتغلب انتهى بأن أوجد في نفوسهم هذه الحالة الغريبة التي لم أجد لها شبيهاً في التاريخ الا ما كان منهم يوم زحف التتار المغوليين الى بلاد الاسلام ونسفوا تلك الحضارات الزاهرة التي كانت في تركستان وإيران والعراق وذبحوا الملايين من أهلها ذبح الشياء و دمروا بغداد دار الخلافة وأهلكوا الخليفة المستعصم العباسي تحت أرجل الفيلة وجعلوا من جماجم القتلة آكاماً عالية فوصل الرعب بقلوب المسلمين الى ان صار المغولي الواحد يدخل على المائة منهم فيقتلهم جميعاً وأسلحتهم في أيديهم ولا تحدثهم نفوسهم بأدنى مقاومة ولا يقال لمثل هذا انه مجرد انكسار قوى معنوية بل هو أبعد مدى من هذا بكثير فان انكار القوى المعنوية لا يسلب المغلوب كل آثار النشاط المقاومة وإنما كان ذاك مرضاً زاغت به الطبائع البشرية عن مركزها وعتها استولى على العقول وجودها من خواص الادراك . وقد حدث أحد المؤرخين برواية غريبة عن رجل شهد تلك الوقائع بعينه فقال ما معناه : فروت من التتار فساقني القدر الى بيت وجدت فيه ثمانية عشر رجلا كلهم تخبأوا فيه لعلهم ينجون من الموت فبينما نحن جالسون إذ دخل علينا أحد التتار قرآنا جميعاً وعلى وجوهنا غبرة الموت ولم يكن معه سلاح يقتلنا به فقال لنا : ابقوا هنا حتى آتي بسكين وأذبحكم ومضى ليأتي بالسكين . فلما ذهب قلت للجماعة : ماذا تنتظرون ؟ قالوا : لا تنتظر شيئاً سوى الموت. فقلت لهم : كيف ننتظر الموت من يد رجل واحد ونحن عصبة ۱۹ رجلا ؟ قالوا : ماذا تريد أن نصنع ؟ قلت : نقتله . قالوا : لا تمتد ايدينا اليه لأننا نخاف . قلت : مم تخافون ؟ ان كان خوفكم من الموت فهو قاتلكم على كل حال . قال : وما زلت أشجعهم إلى أن اقتنع بكلامي اثنان منهم لا غير . فلما رجع وبيده السكين الذي يريد ان يقتلنا به هجمنا عليه نحن الثلاثة ونزعنا السكين من يده وقتلناه به وخرجنا ونجونا . هذا وبقي المسلمون في رعب من التتار غير ممكن التعليل الى ان خرجت اليهم العساكر المصرية في زمن الملك قطز ، فتلاقى الجمعان في عين جالوت من فلسطين وانهزم التتار هزيمة شنعاء ثابت بعدها عزائم المسلمين اليهم واخذوا يفتكون بالتتار وصار هؤلاء عندهم كسائر الناس ولو لم يدخل التتار في الاسلام امكان المسلمون أبادوهم . وخلاصة القول ان المسلمين كلما آثروا السلامة ازدادوا مونا وكلما احتقروا الحياة ازدادوا حياة والى هذا أشار الله تعالى في كتابه الكريم حين يقول : يأيُّهَا الذِينَ آمَنُوا مَالَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمْ انفرُوا في المغولي
٨٦