صفحة:معاوية بن أبي سفيان.pdf/28

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
تمهيدات الحوادث

ثم انفرد معاوية بالخلافة، ولزمته تبعة الدفاع عن الدولة في وجه أعدائها، فوضع المؤرخون في كفته هذه المأثرة غير مقدورة ولا محدودة، ولا منظور فيها إلى التمهيدات التي من قبيل ما قدمناه أو تربى عليها.

ولا شك أن رأس الدولة الأموية قد عمل على حمايتها، ولا بد له من العمل على هذه الحماية، ولسنا نعني هنا أنه حمى الدولة ليحمي ملكه ويحمي نفسه، فهذا قد يدخل في بيان النيات ولا يدخل في بيان القدرة التي أعانته على عمله، ولكننا نعني أننا لا نزن هذه القدرة بميزانها الصحيح إلا إذا عرفنا ما اضطلعت به، وكان لها يد فيه وعرفنا ما جرى في مجراه بحكم الحوادث، وليست فيه لها يد عاملة أو تدبير مقصود.

فالفتح الإسلامي قد ضعضع دولة الروم الشرقية وفت في أعضادها، وترك فيها رجال الدين والدنيا معًا يائسين من رجعة الشام إلى حوزتها، مؤمنين بتأييد الله للعرب الفاتحين عقابًا للرعاة والرعية على خطاياهم وخطاياها …

وقد سمع هرقل صيحة الوعاظ بهذا النكير بأذنيه في مؤتمر أنطاكية، وغادر سورية وهو يودعها ذلك الوداع الذي كاد الرواة أن يحفظوه بكلماته اللاتينية، كما يحفظون كلمات سليمان الحكيم عن باطل الأباطيل. فقبل أن يفارق الأرض السورية صاح كأنه ينشج بالبكاء: «الوداع يا سورية، الوداع الأخير» Vale Syria et ultimatum vale.

ورسخت هذه العقيدة في قلوب خلفائه، فلم تغن فيها وفرة العدة وكثرة الجند، وأسلحة البر والبحر التي كانوا يجمعونها، ولا تكاد تجتمع حتى تتفرق لأول صدمة أو تتفرق قبل اللقاء من أجل منام أو عيافة1 أوهام، وقد روى جيبون أن حفيد هرقل خنع للتسليم؛ لأنه رأى في المنام أنه في سالونيكا، وهي كلمة تجانسها كلمة باليونانية معناها: «أعط النصر لغيرك!»

وفي تاريخ ميخائيل السوري: «إن المنتقم الجبار أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء؛ ليخرجوا الأمم من ربقة الروم.»

وقد روى ابن الأثير من حوادث سنة خمس وعشرين هجرية: «إن معاوية غزا الروم فبلغ عمورية، فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرطوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة.»

  1. العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها.
27