صيد الخاطر/فصل: التعليم عبادة
فصل: التعليم عبادة
عدلما زالت نفسي تنازعني بما يوجبه مجلس الوعظ، وتوبة التائبين، ورؤية الزاهدين... إلى الزهد والانقطاع عن الخلق والانفراد بالآخرة. فتأملت ذلك فوجدت عمومه من الشيطان، فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون، يبكون ويندبون على ذنوبهم. ويقوم في الغالب جماعة يتوبون ويقطعون شعور الصبا. وربما اتفق خمسون ومائة. ولقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مائة. وعمومهم صبيان، قد أنشأوا على اللعب والانهماك في المعاصي. فكأن الشيطان لبعد غوره في الشر. رآني أجتذب منه. فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه ليخلو هو بمن أجتذبهم من يده. ولقد حسن إلى الإنقطاع عن المجالس. وقال: لا يخلو من تصنع للخلق. فقلت: أما زخرفة الألفاظ وتزويقها، وأخراج المعنى من مستحسن العبارة، ففضيلة لا رذيلة. وأما أن أقصد الناس بما لا يجوز في الشرع، فمعاذ الله. ثم رأيته يريني في التزهد قطع أسباب ـ ظاهرة الإباحة ـ من الاكتساب. فقلت له: فإن طاب لي في الزهد، وتمكنت من العزلة، فنفذ ما بيدي أو احتاج بعض عائلتي، ألست أعود القهقرى؟ فدعني أجمع ما يسد خلتي، ويصونني عن مسألة الناس، فإن مد عمري، كان نعم السبب، وإلا كان للعائلة. ولا أكون كراكب أراق ماءه لرؤية سراب، فلما ندم وقت الفوات، لم ينتفع بالندم. وإنما الصواب توطئة المضجع قبل النوم، وجمع المال الساد للخلة قبل الكبر أخذا بالحزم. وقد قال الرسول ﷺ: لأن تترك ورثتك أغنياء، خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس. وقال: نعم المال الصالح، للرجل الصالح. وأما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن البشر لا عن الخير، والعزلة عن البشر واجبة على كل حال. وأما تعليم الطالبين، وهداية المرتدين، فإنه عبادة العالم. وإن من تفضيل بعض العلماء إيثاره للتنفل بالصلاة والصوم، عن تصنيف كتاب، أو تعليم علم ينفع، لأن ذلك بذر يكثر ريعه، ويمتد زمان نفعه. وأنما تميل النفس إلى ما يزخرفه الشيطان من ذلك لمعنيين: أحدهما: حب البطالة، لأن الانقطاع عندها أسهل. الثاني: لحب المدحة فإنها إذا توسمت بالزهد كان ميل العوام إليها أكثر. فعليك بالنظر في الشرب الأول، فكن مع الشرب المقدم. وهم الرسول ﷺ وأصحابه، رضي الله تعالى عنهم. فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين والمتصوفة، من الانقطاع عن العلم؟ والانفراد عن الخلق؟ وهل كان شغل الأنبياء إلا معانات الخلق، وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر؟ إلا أن ينقطع من ليس بعالم يقصد الكف عن الشر، فذاك في مرتبة المحتمي يخاف شر التخليط. فأما الطبيب العالم بما يتناول، فأنه ينتفع بما يناله.