طوق الحمامة/القنوع

→ باب البين
طوق الحمامة المؤلف ابن حزم
القنوع
باب الضنى


ولا بد للمحب، إذا حرم الوصل، من القنوع بما يجد! وإن في ذلك لمتعللاً للنفس، وشغلاً للرجا، وتجديداً للمنى، وبعض الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكن. فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال، ومن سرى ما يسنح في الدهر مع ما تبدى من الخفر والحياء، لما يعلمه كل واحد منها مما نفس صاحبه. وهي على وجهين: أحدهما أن يزور المحب محبوبه، وهذا الوجه واسع. والوجه الثاني أن يزور المحبوب محبه. ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر. وفي ذلك أقول:

فإن تنأ عني بالوصال فإنني
سأرضى بلحظ العين إن لم يكن وصل
فحسبي أن ألقاك في اليوم مرة
وما كنت أرضى ضعف ذامنك لي قبل
كذا همه الوالي تكون رفيعة
ويرضى خلاص النفس إن وقع العزل

وأما رجع السلام والمخاطبة فأمل من الآمال، وإن كنت أنا أقول في قصيدة لي:

فها أنا ذا أخفي وأقنع راضياً
برجع سلام إن تيسر في الحين

فإنما هذا لمن ينتقل من مرتبة إلى ما هو أدنى منها. وإنما يتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها.

وإني لأعلم من كان يقول لمحبوبه: عدني واكذب، قنوعاً بأن يسلى نفسه في وعده وإن كان غير صادق. فقلت في ذلك:

إن كان وصلك ليس فيه مطمع
والقرت ممنوع فعدني واكذب
فعسى التعلل بالتقائك ممسك
لحياة قلب بالصدود معذب
فلقد يسلى المجدبين إذا رأوا
في الأفق يلع ضوء برق خلب

وما يدخل في هذا الباب شيء رأيته ورآه غيري معي، أن رجلاً من إخواني جرحه من كان يحبه بمدية، فلقد رأيته وهو يقبل مكان الجرح ويندبه مرة بعد مرة. فقلت في ذلك:

يقولون شجك من همت فيه
فقلت لعمري ما شجى
ولكن أحس دمى قربه
فطار إليه ولم ينثن
قافيا تلى ظلماً محسناً
فديتك من ظالم محسن

ومن القنوع أن يسر الإنسان ويرضى ببعض آلات محبوبه، وإن له من النفس لموقعاً حسناً وإن لم يكن فيه إلا ما نص الله تعالى علينا، ومن ارتداد يعقوب بصيراً حين شم قميص يوسف عليهما السلام، وفي ذلك أقول:

لما منعت القرب من سيدي
ولج في هجري ولم ينصف
صرت بإبصاري أثوابه
أو بعض ما قد مسه أكتفي
كذاك يعقوب نبي الهدى
إذ شفه الحزن على يوسف
شم قميصاً جاء من عنده
وكان مكفوفاً فمنه شفي

وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى ولفت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه ذلك لتكون تذكرة عند البين.

وأما تهادي المساويك بعد مضغها والمصطكي إثر استعمالها فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء. وفي ذلك أقول قطعة منها:

أرى ريقها ماء الحياة تيقناً
على أنها لم تبق لي في الهوى حشى

خبر: وأخبرني بعض إخواني عن سليمان بن أحمد الشاعر أنه رأى ابن سهل الحاجب بجزيرة صقلبة، وذكر أنه كان غاية في الجمال، فشاهده يوماً في بعض المتترهات ماشيا وامرأة خلفه تمشي إليه، فلما أبعد أتت إلى المكان الذي قد أثر فيه مشيه فجعلت تقبله وتلثم الأرض التي فيها أثر رجله. وفي ذلك أقول قطعة، أولها:

يلومونني في موطى خفه خطا
ولو علموا عاد الذي لام يحسد
طوق الحمامة (المخطوط)

المقدمة | تقسيم الرسالة | الكلام في ماهية الحب | علامات الحب | من أحب في النوم | من أحب بالوصف | من أحب من نظرة واحدة | من لا يحب إلا مع المطاولة | من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها | التعريض بالقول | الإشارة بالعين | المراسلة | السفير | طي السر | الإذاعة | الطاعة | المخالفة | العاذل | المساعد من الإخوان | الرقيب | الوشي | الوصل | الهجر | الوفاء | الغدر | البين | القنوع | الضنى | السلو | الموت | قبح المعصية | فضل التعفف