عبقرية عمر (المكتبة العصرية)/تقديم


بسم الله الرحمن الرحيم عبقرية عمر حمدا لله، وصلاة وسلاما على البشير النذير، والسراج المنير، سیدنا و مولانا محمد، وعلى آله وصحبه، وكل من سار على نهجه ودربه، ونستعين بخیر معین.. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا. وبعد :

فالكتاب الذي بين أيدينا..امتطى له العقاد صهوة فكره، بغية الاحاطة بعظمة بطله، فبطله ذو لون جديد، وعبقريته ذات طابع فريد..

فنوه الي منهجه في الكتاب.. بأنه ليس سردا لسيرة عمر، ولا عرضا لتاريخ عصره، وانما هو وصف له، ودراسة لاطواره، ودلالة على خصائص عظمه، واستفادة من هذه الخصائص العلم النفس، وعلم الأخلاق، وحقائق الحياة، لذلك ركز على ما يفيد في هذه الدراسة، سواء لديه أكان من حادت صغير أم عطيم.

وأظهر الأستاذ العقاد حرجه عندما حاول أن يجاري من يسمون بالكتاب المنصفين، الذين يفرنون المدائح بالمعايب، ويمزجون النقائص بالمنائب، ولا يأتون بحسنة الا نقبوا عن سيئة تمحوها، أو تقلل منها، وكان سر حرج العقاد، أنه لم يجد عيبا ولا نقيصة ولا مايستحق اللوم في حياة عمر وأطواره. مما جعله بتوقع أن يتهم بالمغالاة والتحيز والاعجاب، وله العذر كل العذر في ذلك، اذ كيف يحاسب — هو أو غيره — عمر بن الخطاب، وقد كان عمر يحاسب نفسه بأعنف مما كان يمكن أن يحاسبه غيره ؟؟؟..

إن طبيعة عمر بن الخطاب وخلائقه، كانت تؤهله للزعامة عن جدارة راقتدار، ولكن أي نوع من الزعامه كان يمكن لعمر أن يناله ؟ لم تكن هناك زعامة مهيأة له — لولا الاسلام — الا زعامة قبيلته « بني عدي » أو زعامة قريش قبيلتة الكبري، لم ينتهي به الأمر عند هذا الحد، ولا يسمع له بعد ذلك خبر، شأنه في ذلك شأن من سبقوه، ولكن الإسلام هو الذي أبرز طاقات عمر وأظهر مواهبه، وفجر فدراته، وكشف النقاب عن عظمته وعبقريته، وحدد له الزعامة اللائقة به، والدور الملائم له، ليعز به الاسلام، ويزداد هو بالاسلام عزا، ويبقى ذكره عطرا، وأثره عبقا..فعمر الذي عرفه تاريخ العالم، ولید الدعوة المحمدية دون سواها، ولولا الإسلام، لما عرف العالم عمر.. ولكن ما دام هذا شان عمر، فلماذا لم يقدم على أبي بكر في الخلافة ؟ الكاتب على هذا السؤال بأن تقديم أبي بكر على عمر لم يكن من باب المفاضلة بين رجلين، وإنما من باب التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه، والمهمة التي ينبغي أن يندب لها، والوقت الذي يحين فيه أوانه..

والرسول — صلى الله عليه وسلم — كان يعرف لكل من الرجلين فضله ومميزاته، وأن عمر أشد المسلمين في الله، وأبو بكر فيه لين وهوادة، وخلافة أبي بكر تجمع للاسلام المزيتين، لان عمر لن يبخل بشدته، ان احتاجها ابو بکر سندا لهوادته ولذلك.. فقد كان عمر أول من بايع ابا بکر، وحث الناس على بيعته، وقال لأبي بكر وهو يمد يده ليبايعه : أنت افضل مني، فيقول له أبو بكر : بل انت أقوى مني، فيجيبه عمر : ان قوتي لك مع فضلك !  ! فكان لأبي بكر وقته الملائم، وكان لعمر حينه المناسب، والحبيب المصطفى — صلى الله عليه وسلم — أشار إلى خلافة أبي بكر، وانها ستكون قصيرة، وسيأتي بعده عمر وذلك حين قال :

«رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا — والله يغفر له —، ثم جاء عمر، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس، وضربوا بعطن،»

وفسر ضعف النزع، وكونه ذنوبا أو ذنوبين، بقصر خلافة أبي بكر : وفسر فیض الري على يد عمر، بأنه فيض العبقرية التي ينفسح لها الأجل، وتتسع أمامها منادح العمل، ويؤتى لها من السبق ما لا يؤتي لغير العبقريين.

ولئن كانت العبقرية لا تخرج في معناها عن : التفرد، والسبق، والابتكار فكل هذه الصفات قد تجمعت في شخص عمر، لان تاريخه زاخر بتلك المعاني في الكثير مما أنجز.

لقد كان عبقريا ممتازا في تكوينه وأعماله، وكان مهیبا رائع المحضر، حتى في حضرة النبي — عليه الصلاة والسلام — فقد روت السيدة عائشة — رضي الله عنها — : أنها طبخت له — عليه السلام — حريرة، ودعت سودة أن تأكل منها فأبت، فعزمت عليها لتأكلن او لتلطخن وجهها، فلم تاكل فوضعت يدها في الحريرة، ولطختها بها، وضحك النبي صلی الله عليه وسلم — وهو يضع الحريرة بيده لسودة، ويقول لها : لطخي انت وجهها ففعلت… ومر عمر، فناداه النبي : يا عبد الله، وقد ظن أنه سيدخل، فقال لهما : قوما فاغسلا وجهیكما !  !

قالت السيدة عائشة : فما زلت أهاب عمر، لهيبة رسول الله — صلی

الله عليه وسلم — إياه !  !
–٥–

ولنا أن نتصور رجلا له مهابة في نفس الرسول !! وقد كان النبي يرعی تلك الهيبة، رضي عنها، واغتباطا بأثرها في نصرة الحق، وهزيمة الباطل، وتأمين الخير والصدق، واخافة أهل البغي والبهتان..

ولقد كانت هيبة عمر نابعة من قوة نفسه، قبل أن يكون مصدرها قوة جسده..

على أن عمر المهاب، كان سريع البكاء اذا جاشت نفسه بالخضوع والخشوع بين يدي الله، حتى ترك البكاء على صفحتي وجهه خطين أسودين..

ومن السمات التي اتسم بها عمر : أنه كانت له قدرة مذهلة على تمييز المذوفات والمشمومات التي لا يسهل التمييز بينها.. ومن ذلك ما روي : أن غلامه سقاه ذات يوم لبنا، وأنكره، فسأله : ويحك، من أين هذا اللبن ؟ قال الغلام : إن الناقه انفلت عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقة من مال الله !!

و كان ذا فراسة نادرة، وقدرة على كشف الخفايا واستيضاح البواطن وكان يحب التفاؤل، ويعنى بالرؤيا، والنظر أو الشعور على البعد، وهذا ما يطلق عليه علماء النفس المعاصرون اسم : « التلباني،، وله في ذلك من النوادر ما يبهر.. ساق الكاتب عديدا من نماذجها.

والقوة صفة لازمت عمر، ودلت عليها مناقبه وإلى جانب قوته فقد اشتهر بالعدل، والرحمة، والغيرة، والفطنة، والايمان الوثيق، واستمد عمر هذه الصفات من روافد شتی : بعضها من وراثة أهله، وبعضها من تكوين شخصه وبعضها من عبر أيامه، وبعضها من تعلیم دینه ۰۰ واستدل الكاتب على كل صفة من هذه الصفات بما يثبنها ويؤيدها، مبينا أن كل صفة من هذه الصفات، كانت في موضعها تطغى على غيرها، فلا تعطيها إلى جانبها متانه رسوخ واستمرار.

واذا كان المستشرفون قد اتهموا عمر، بأنه كان محدود التفكير، وأنه كان يأخذ الأمور بقياس واحد، فقد رد عليهم الكاتب، بأن عمر كانت له فطنة الرجل العليم بنفائص الأخلاق، وخبايا النفوس، وأنه لو كان محدود التفكير، ينظر الى الأمور من جانب واحد، لما كثرت، مشاوراته للكبار والصغار، والرجال والنساء، مشاورة من يعلم أن جوانب الآراء تتعدد، وأن للامور وجوها لا تنحصر في الوجه الذي يراه، وأنه كثيرا ما قال : « و أخوف ما أخاف علیکم اعجاب المرء برأيه »..

وذكر الكاتب في كلامه عن صفات عمر : بأنه لم يكن ينثني للخطوب كغيره، وانما كانت تنئني له الخطوب !  ! وعبر عن كل صفاته، بأنها « ترکیبة » ، ولیست « ترکیبا » تشبيها لها بأجزاء الدواء، الذي اذا نقص جزء منه، نقص نفعه كله. ولقد رأى الكاتب أن مفتاح شخصية عمر : " طبيعة الجندي " في صفتها المثلى، وبين أن أهم الخصائص لطبيعة الجندي في صفتها المثلي : الشجاعة والحزم، والصراحة، والخشونة، والغيرة على الشرف، والنجدة . والنخوة، والنظام، والطاعة، وتقدير الواجب، والإيمان بالحق، وحب الإنجاز في حدود التبعات أو المسئوليات...وان هذه الخصائص كلها كانت واضحة في عمر، حتى أنه بمجرد السؤال عن عظيم اتصف بهذه الصفات ياتي الرد : انه عمر.

وعمر في مخالفاته وطاعاته، كانت له مخالفات الجند وطاعاتهم، ولا عجب في هذا، فقد كان فعلا شرطيا لرسول الله - صلی الله عليه وسلم -، وصرح هو نفسه بذلك، حيث قال في احدی خطبه ما فحواء : «..كنت مع رسول الله، فكنت عبده، وخادمه، وجلوازه ( الجلواز : الشرطي ) وكان كما قال الله تعالى :- بالمؤمنين رؤوف رحيم،، و کنت بين يديه كالسيف المسلول، إلا أن يغمدني، أو ينهاني عن أمر فاكف عنه، والا أقدمت على الناس لمكان أمره ...».

و حتى فكاهات عمر نفسها، كانت كفكاهات الجند، فيها طابع الخشونة والحدة.

واستطاع الكاتب أن يبرز كل صفات الجندي المثالي في عمر، بما قدم له من أدلة، وما أتي من برهان.

وتناول الكاتب قصة إسلام عمر، برواياتها المختلفة، مقدما لذلك، بأن أي تغيير يطرأ على الإنسان في شكله، أو زيه، أو وطنه، أو ما إلى ذلك، فهو أمر عادي، أما تغيير معتقده، فهذا أمر يحتاج إلى أسباب وجيهة، ومهيئات عديدة، ذاكرا ان الاسلام بدا يدب في قلب عمر، منذ ان رأی ام عبد الله بنت حثمة، وهي تستعد للهجرة الى الحبشة، فاقترب منها، وقال لها : انه الانطلاق یا ام عبد الله ! قالت : نعم، والله لنخرجن في أرض الله ۰۰۰آذيتمونا، وقهرتمونا.. حتى يجعل الله لنا فرجا، فقال لها في رقة غير معهوذة : صحبكم الله !! .

ثم استعرض اسباب اسلام الكثيرين، وجمع كل هذه الأسباب لعمر، فمن أخذوا - مثلا - ببلاغة القرآن، فأسلموا، فان عمر كان طويل الباع في البلاغة، حسن النقد فيها، هواه منها الصدق، والطبع، وجمال التفصيل، فكان - مثلا - يطرب لقول زهير :

فان الحق مقطعه ثلاث : يمين، أو نفار، أو جلاء.

ويقول كلما أنشده معجبا : ما أحسن ما قسم، وسماه شاعر الشعراء، لانه لا يعاطل بين القوافي، ولا يتبع حواشي الكلام، وربما قضي الليلة ينشد شعره حتى يبرق الفجر، فيقول لجليسه : الان اقرا يا عبد الله !! وقدم الكاتب العديد من الصور الناطقة له بذلك. كما تحدث عن نهج عمر في الاسلام، موضحا بالأمثلة رأيه في المظهر المخالف للمخبر، والعمل للدنيا، والتواكل، والاستكانة والتماوت، ونظافة الثوب وطيب الرائحة، والرمي، والعوم، والفروسية، والعدوى بالطاعون، والضرر والنفع بالنسبة للحجر الاسود وشجرة الرضوان.. ثم تحدث عن تقشفه، وطريقة معاملته للأميين، وحبه وكرمه، وأن كان في حبه وكرهه لا يظلم ولا يحابي وعلى العموم.. فقد دخل عمر الاسلام من كل أبوابه كالعاصفة، و كان اسلامه صفحة جديدة قد تفتحت في العالم الانساني واذا كانت العبقرية لا تخرج عن معنى التفرد، والسبق، والابتكار… فقد تجسدت كل هذه المعاني في عمر، وهو يؤسس الدولة الإسلامية، والتي ارتأي الكاتب أنه بدأ في تأسيسها من يوم أن بايع أبا بكر على الخلافة، بل من يوم أن شرح الله صدره للاسلام..

فافتتح بذلك تاريخا، واستهل حضارة، وأنشأ حكومة، ورتب لها دواریں، ونظم أصول القضاء والادارة، واتخذ لها بيت المال، ووصل بین أجزائها بالبريد، وحمى ثغورها بالجيوش، وكان أول واضع لدستور الشوری في الدولة الإسلامية، ووضع دستور الحرب لقواده، ولم يفته أن يضع لنفسه دستورا قوامه : « ان الحكم محنة للحاكم، ومحنه للمحتكرين » « وأنه لا يصلح الا بشدة لا جبرية فيها، ولين لا وهن فيه » ، « وان الخليفة مسئول أمام الله والناس عن جميع ولاته » « وان صلاح الأمر في ثلاث : أداء الأمانة. والاخد بالقوة، والحكم بما أنزل الله » « وصلاح المال في ثلاث : أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل » ... ووضع دستور الولاية وكان قوامه : تمييز بالواجب والكفاءة، وليس تمييزا بالواجب والاستعلاء وبين الكاتب ما يمكن أن يقال في عزل الاكفاء من الولاة، واسلوب عمر في مراقبتهم..

وكان لعمر مذهب في الأخلاق الاجتماعية، يشبه مذهبه في الفضاء فكان يكره أن يكشف المرء من أخيه ما يستره عنه، وينهى أن تظن بكلمة شرا وأنت تجد لها في الخير محملا…

ووضع نظاما لتحصيل الجزية، وأسس ديوان الوقف الخيري، وعددا آخر من الدواوين، وكان له دور ملموس في التعمير، واصطلاع بنفریج الأزمات كما حدث في عام الرمادة… مما يمكن معه أن يقال : ان عمر اکبر مؤسس لدولة الاسلام، قبل أن يكون أكبر فاتح في صدر الإسلام، وانه أسس تلك الدولة على الايمان، لا على الصولجان، وكان من يوم اسلامه آخذا في تشييد هذا البناء، حتی ترکه وهو بين دول العالم أرسخ بناء.

وكانت حكومة عمر قائمة على أساس من العدل والحرية، ولو أردنا أن نقارن بين حكومات العصر وحكومته، لم نجد أساسا للمقارنة، وإذا قسنا أعماله بنظام الحكم في زماننا، وجدنا الكثير من المستغربات التي تحول بيننا وبين تقديرها الصحيح لأول وهلة، فعمر قد أدى الواجب الحكومي على الوجه الأقوم، ولا سبيل لمؤاخذته بقياس حديث أو قدیم.

وركز الكاتب على منهج عمر في التقشف، وبين أنه لم يكن عن عجز، وانما كان وفاء لحق الصداقة، والمراد بالصداقة هنا : صداقته للنبي رصداقته للصديق، فكان لا يستسيغ لنفسه متاعا لم يتحقق لكليهما، وكان يؤثر الشدة، ليقطع الشك، ويدرأ الشبهة، ويقتدي بصاحبيه، ويترك القدوة المثلى لمن يليه.

وفي الوقت الذي نرى فيه عمر بطلا يروع، ويعرف روعة البطولة ويستحق الاعجاب غاية استحقاقه، نراه من فرط ولائه لمن يفوقونه أنه خلق للاعجاب بغيره، ولم يخلق ليكون موضع اعجاب، و كم كانت غبطته حينما ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : «يا أخي» !!

وكان عمر يتصاغر على قدر ما يراه من بواعث الكبرياء، لا على قدر ما يراه من بواعث الصغر، وليس أدل على ذلك من دخوله الشام ماشيا على الرغم من أنه المنتصر، وتذكيره لنفسه كلما حدثته بأنه قد صار في منزلة العظمة والسلطان، بانه كان راعيا لإبل الخطاب ..

وكان اعجابه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفوقه اعجاب، مع أنه لم يكن أحد مستقلا برأيه في مشورة النبي کاستقلال عمر، فهو صاحب المشورة في حجب نساء النبي، وصاحب التأييد في رأيه من رب العالمين في العديد من الأمور، وهو الذي راجع النبي في التبشير بالجنة لمن يشهد أن لا اله الا الله، مخافة أن يركن المسلمون إلى ذلك ..ولكنه مع ذلك كان يضع نفسه بالنسبة للرسول - عليه الصلاة والسلام - موضع المأموم من الامام، والمريد من العالم، والشرطي من القائد ..

وتناول الأستاذ العقاد بالايضاح والتحليل موقف عمر من آل البيت ورد على من اتهموه بأنه كان يناجزهم، وأنه حال بين على والخلافة.

ولقد كان رأي الصحابة في عمر واضحا غاية الوضوح، * يحمل کل اجلال واكبار ... فعثمان بن عفان هو الذي قال لزياد : .«..لن تلقی مثل عمر.. لن تلقی مثل عمر.. لن تلقی مثل عمر». ویکی علی یوم مات عمر، وسئل في ذلك، فقال : «أبكي على موت عمر، إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا ترتق الى يوم القيامة».

وقال فيه ابن مسعود : «كان إسلامه فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمامته رحمة».

وقال معاوية موازنا بين الخلفاء : « أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن».

وقال عمرو بن العاص : " لله در ابن حنتمة ( اسم أم عمر )، أي امری، كان ؟؟ ». اما عمر ، فقد كان يرعى قدر الصحابة ، ويعرف لكل منهم فضله وقدره ، وما أثير حول عزله لخالد بن الوليد من الاتهامات .. تناوله الكاتب بکشف حقائق ، تجعل عمر متهما لو لم يتخذ هذا القرار .. فقد كان هناك مآخذ لعمر على خالد في عهد الرسول ، وفي عهد الصديق ، ثم في عهد عمر ذاته ، ويتوج هذا المأخذ خوف عمر من افتتان الناس بخالد ، أو افتتان خالد بالناس وهذا وحده سبب وجيه لقرار العزل... ثم إن عزل خالد كان سنّة عمرية متبعة مع جميع الولاة. وأما عن ثقافة عمر ، فقد كان موفور الحظ من ثقافة عصره ، و كان ادیبا مؤرخا فقيها ، وخطيبا مطبوعا على الكلام ، وشغوفا بالشعر الجيد وإن لم يقله ، وهو الذي حث على تعليم العربية ، وأوصي بوضع قواعد النحو خاصة بعد أن كثرت الفتوح، وأنكر بعض انواع الشعر : کالهجاء والتشبيب ،وكان ذواقة للشعر .. كما أنه كان عالما بتاريخ العرب ، وايامهم ، ومفاخر أنسابهم وكان عالما فقيها ، قال فيه ابن مسعود : « كان عمر اعلمنا بكتاب الله ، وأفقهنا في دين الله » . وقال : « لو ان علم عمر بن الخطاب في كفة میزان ، ووضع علم الارض في كفة ، لرجح علم عمر بعلمهم » « ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم » . وقال عنه ابن سیرین :« اذا رايت الرجل يزعم أنه أعلم من عمر ، فشك في دينه » ۰۰ ولقد نصح عمر العلماء فأحسن النصح ۰۰ وكان يشجع الاختراعات التي تنفع الناس ، وله علم بجغرافية الشرق ، وكان - رضي الله عنه - وفيا للذكرى ، فأرخ للهجرة ، واحترم توقف بلال عن الأذان بعد وفاة النبي .. و نفي الكاتب عن عمر تهمة أمره بحرق مكتبة الاسكندرية ، بأدلة مقنعة ، وحجة قاطعة • وعمر صاحب السلطان الكبير ، والسيطرة الواسعة ، كان يعيش عيشة الكفاف ، إلى حد أزهد فيه العديدات من النساء ، فرفضن الزواج منه ، وهذا الرفض خیر شهادة على عظمته ۰۰ وقد وصفته احدى الرافضات ، وهي : أم ابان بنت عتبة بن ربيعة ، بقولها : « أنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه ، كأنه ينظر الى ربه بعينه » !! وهل مثل هذه الشهادة تحسب لعمر ، أو على عمر ؟؟ كذلك كان من بين الرافضات : ام کلثوم بنت أبي بكر ، وبينت سبب

رفضها بقولها للسيدة عائشة :« إنه خشن العيش : شديد على النساء »•

10

وقد سلمنا أن خشونة العيش تحسب له، فهل شدته على النساء كذلك ؟ اثبت الأستاذ العقاد أن شدته على المراة لم تكن الا بقدر مجاوزتها لحدودها ، وهذا أمر طبيعي في الرجال .. معظم الرجال .. فما للمراة من حق تعطاه ، وما ليس لها بحق لا تعطاه ، بل وتذاد عنه .. ومن ذلك - مثلا - أن امرأته تشفعت له في وال مقصّر ، وسالته : فيم وجدت عليه ؟ فالتفت اليها غاضبا ، وقال لها : وفيم انت وهذا ؟؟ والمنصفون يحسبون مثل هذا الموقف لعمر لا على عمر ۰۰ ومع ما عرف عنه من الشدة وخشونة العيش ، فنساؤه اللائي عاشرنه ، قد كلفن بحبه ، ورضين عيشه ، لرضاهن بمودته وعطفه ، وكانت احداهن لا تطیق فراقه ، فاذا خرج مشت معه إلى باب الدار ، فقبلته ، ولم تزل في انتظاره .. وعاتكة بنت زيد - من احدى نسائه - تولهت في رثائه حين قتل ، وقالت فيه شعرا يذوب أسى وحسرة ، ولم يكن بكاؤها عليه كبكاء كل زوجة على كل زوج فقید . واشتهر عمر بالغيرة على المرأة ، وفي ذلك يقول الحبيب محمد - الله عليه وسلم - : « إن الله غيور يحب الغيور ، وإن عمر غیور » .. و کانت غيرته على المرأة شطر من غيرته على كل حرم وحوزة. وكان عمر ابناً باراً .. واباً رحيماً .. وعطونا على الاطفال ۰۰وکان له اجمل الصلات برحمه ، وذويه . ولقد أشار الأستاذ العقاد اشارة لطيفة ، عندما قارن بين تحمل الرسول لتطاول نسائه ، ورفض عمر لهذا التطاول ، فقال : محمد « انسان » عظيم ، وعمر « رجل » عظيم ، والرجل العظيم يرحم المرأة كما يرحمها الجندي في معرض القوة والنضال ، ولكنه يأنف أن يستكين لسلطانها في معرض الهوى والفتنة .. اما الانسان العظيم : فهو يشمل ضعف الانسانية كلها ، ويعطف عليه ومنه ضعف المرأة في غرورها ، واعتزازها بدلال الضعف على القوة ۰۰۰ فهو يرى في تكبر المراة - اذا كانت كبيرة عنده - نوعا من الاعتراف بكبره ، وهو لا يقف معها في ميدان كما يقف كل ذكر وانثي ، لان میدانه يشمل الميدانين مجتمعين : اذ هو ميدان الانسان كله ، والانسانية جمعاء . ومع كل ذلك ، فقد كان للمرأة رأي في عمر ، لا يخرج عن الاحترام والتقدير .. فقد وصفته سيدة نساء العصر ، أم المؤمنين عائشة - رضي عنها بأنه : نسيج وحده . وقالت فيه الشفاء بنت عبد الله : « كان اذا تكلم أسمع، وإذا مشی اسرع، واذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقا ».

وقالت أم أيمن، يوم أصيب : « اليوم وهي الاسلام ».

وإذا كان هذا رأي النساء فيه، فما رأي أعلام الصحابة ؟؟؟

قال عنه عارفوه : « باطنه خير من ظاهره ».

وقال فيه الصديق ما فحواه : « أن مبغضيه هم المبغضون للخير ».

وقال فيه ابن مسعود : « لو أعلم عمر کان يحب كلبًا لاحببته ».

وعمرو بن العاص، ومعاوية، كانا يثنيان عليه، مع أنهما ذاقا ضربات عدله وهيبته.

وشاء القدر أن يقنل عمر بيد الغدر والتآمر والخيانة، وقد تكشفت له تلك النهاية قبيل ذلك، حينما رأى في منامه : كأن دیگا نقره نقرتين، فقال : يسوق الله الىّ الشهادة، ويقنلني أعجمي..

وفعلا مات عمر بطعنات من خنجر فیروز « أبي لؤلؤة » الذي كان من سبايا الفرس بالمدينة.. وذهب — رحمه الله — شهید مؤامرة من أعداء الدولة الاسلامية، وصوت الحق ينادي :

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ودفن إلى جوار الحبيبين : محمد.. والصديق.

و بعد هذا العرض الخاطف، الذي لا أدعي أنني قدمت فيه كل ما يجب أن يُقدّم.. أشعر في النهاية — مثلما شعرت في البداية — بالهيبة والوقار، والتجلة و الاكبار، و كل ما يليق ببطل هذه الرحلة : عمر الرجل.. عمر الممتاز.. عمر العبقري.

ولا يفوتني أن أنوه بعظمة الكاتب في احاطته بالموضوع، وعرضه الشيق وأسلوبه الجزل، ومعانيه الحسان، ودقة تحليله، وروعة استنباطه، فما أثبت لعمر صفة الا وأقام عليها الدليل، وما درأ عنه تهمة الا واستند إلى برهان..

رحم الله عمر... ورحم الله العقاد .

مهدي عبد الحمید مصطفی
مبعوث الازهر الشريف في لبنان