عبقرية محمد (1941)/مقدمة الكتاب



مقَدّمَة


أحمد الحق تبارك وتعالى ، واصلي واسلم على خاتم أنبيائه ورسله : خير خلق الله ، وأحب عباد الله الى الله .. محمد بن عبد الله ... صلاة وسلاما يليقان بمقامه الكريم، وصلاة وسلاما على سائر اخوانه من النبيين والمرسلين، وصلاة وسلاما على اصحابه والتابعين ، وصلاة وسلاما على كل دعا بدعونه اليوم يوم الدين .

وبعد :

فان الكتابة في رسول الله ، والقراءة عن رسول الله ، عمل تهنأ به النفس ، وينشرح له الصدر ، ويتفتح معه القلب ، ويأخذ بمجامع اللب ، وتستريح في ظله الخواطر ، وتتسع في رحابه الابصار والبصائر . وكيف لا ؟ ومحمد وحده نبع صافي ، وري شافي ، وهدي كافي ، وسيرته العطرة لا ينضب معينها ، ولا يجف مدادها ، لأنها متلاحمة مع كلمات الله : ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا

وكيف لا ؟ وهو مثال الانسانية الكاملة ، وملتقى الأخلاق الفاضلة ، وحامل لواء الدعوة العالمية الشاملة !!

اما انسانيته : فقد ولدت معه ، ولازمته في أطوار حياته ، وميزته على سائر أقرانه ولدانه ، وصانته من كل زلل ، وحمته من كل شطط ، ودفعته دائما الى الخير، ومثالية السلوك .

فكان نبنة رطبة بين قلوب قد قست ، وطباع قد غلظت ، وعواطفه قد جفت ، ومشاعر قد تلبدت ، وعقول قد تحجرت ...

وكان زهرة نضرة وسط غابة من الاشواك ، في اطرافها حدة ، وفي جذوعها خشونة وغلظة ، وفي لمسها اذى وايلام ...

وكان شجرة سامقة مثمرة ظليلة ، وسط صحراء قاحلة ، وفلاة مجدبة ... وهو في حالاته الثلاث : كثير النفع .. عظيم العطاء ..

ولا عجب اذن - قبل أن يكولا رسلا - ان سلطت عليه الأضواء ، ولم تتنازع في انسانيته الأهواء ، وانتزع - عن جدارة - من بين القلوب الغلاظ ، والالسنة الحداد ، اعترافا بعفة نفسه ، وعذوبة حسه ، وسمو سلوكه ، وعلو انسانيته ... فكان الصادق الأمين !

واما اخلاقه : فكانت مستمدة من عند الله ، فهو - سبحانه - الذي صنعه على عينه ، وأدبه فأحسن تأديبه ، وجعله بشرا سويا ، وخلقا رضيا ، وكيف لا ؟ وقد سئلت أم المؤمنين عائشة - رضوان الله عليها - عن أخلاقه، فاجابت : « كان خلقه القرآن »

وهل القرآن الا كتاب الله ، وهدي السماء ؟؟

وكيف لا ؟ – ايضا - والهدف من رسالته ، والغاية من دعوته ، ما انصح عنه في عبارته : « انما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق » .

وكان أحب الناس اليه : أحسنهم خلقا ، وأكثرهم أدبا، وأقومهم سلوكا .. « اإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي منازل يوم القيامة : أحَسانُكُمْ أَخْلَاقًا .. الموطأون أكنافا .. الذين يألفون ويؤلفون » !!.

وكان ارفع وسام لرسول ، واسمي وصف النبي .. ما جاء في محكم التنزيل : « وانك لعلى خلق عظيم »

ومما لا ريب فيه ، أن اخلاقياته وشمائله - عليه أفضل صلاة وأزکی تسليم - قد انعكست على أصحابه ، وتأصلت في هديه ، وكانت الصوت العالي في دعوته ، والنور الساطع المشع من رسالته ، فعمت ، واستمرت - ولو لم ينخلق بها المعرضون - وكفاها ... انها اخلاق محمد .. أو اخلاق القرآن واما عن الدعوة في عمومها وشمولها : _ نكانت نورا بدد الظلام .. وعدلا مسخ الظلم .. وأملا أطاح باليأس .. وفيضا بعد جفاف .. وارتواء بعد صدى .. حددت الداء ، ووصفت الدواء ، ليسلم الناس .. كل الناس ، وتسعد البشرية .. في ظل القيم الاسلامية ، وتتخطى حواجز الخلل التي ابعدتها عن فطرتها ، ونات بها عن قيمتها ، وتحيا في جو من الانسانية .. يؤمن بانسانية محمد .. وعظمة محمد .. وعبقرية محمد . والعبقرية ، صفة خلعها الكتاب ، والأدباء ، والباحثون ، علي كل حانق بارع في فن من الفنون ولو قارنا بين عبقرية محمد .. وعبقرية غيره : لوجدنا أن عبقرية غيره قد انحصرت في جانب من الجوانب ، أو اتجاه من الاتجاهات في مدلولها .. محدودة في آناتها .. قاصرة عن عموم النفع ، وشمول الاصلاح .. اما عبقرية محمد : فقد برزت في كل مناحي القيادة ، والاخلاق ، والدعوة ، بل في كل مناحي الحياة .. مما جعلها عبقرية شامخة وفريدة وصلت في شموخها عنان السماء ، فلو تدانت منها غيرها لهوت ، ولو حلقت اليها غيرها لسقطت ومن هنا ... ظهرت « عبقرية » العقاد في كتابه عن « عبقرية محمد »، والأستاذ العقاد : مشهود له بالالمعية والذكاء ، وهو غني من التعريف ، ولا يحتاج الى أضواء تسلط عليه .. فقد عودنا ان يكون هو المسلط للاضواء . بيد اننا نريد ان نقول : ان الاستاذ العقاد قد تصدى في هذا الكتاب للدفاع عن رسول الله ، والذود عن شرعته ، والرد على شانئيه ممن اجترأوا على مناواته ، والاتيان بالبرهان تلو البرهان : على اثبات عظمته ، وعظمة دعوته ، وقدسية رسالته ، وسمو عبقريته وهل يفعل ذلك .. الا محب غيور ، وحاذق هصور و « عبقري » بلا تطاول ولا غرور ؟؟ لقد تناول الكشف عن عبقرية محمد في قوله وفعله ، بل في سكوته وفكره .. فأفاد .. واجاد ، واستعرض فأبدع ، واستقصی فأشبع، وتألقت غيرته على محمد - صلى الله عليه وسلم - في رد سهام مناوئيه الى نحورهم ، واقحامهم في كل باطل من دعاويهم .. وقف لهؤلاء اللاغطين والمغالطين بالمرصاد ، وتعقبا كل لغط لهم وغلط:

فأظهر كيدهم ولجاجتهم وافتراءهم في ادعائهم : ان الاسلام قد قام على حد السيف ، وان محمدا كان يستهوي القتل ، ويتعشق رؤية الدماء ، وأن دين محمد قد أباح العبودية ، وأجاز الرق ، وأن تعدد زوجات محمد كان استجابة للذات حسه ، وان الاسلام قد تخطى الانصاف في اباحته تعدد الزوجات ، وتوقيع العقوبة عند نشوز الزوجة ، وجواز الطلاق ...الخ . واستطاع العقاد - في اقتدار وابداع - أن يحيل مواطن التهم - كما أرادوها - إلى مواقف عظمة ، وعبقرية ، وفخار . ولست براغب في سرد كل ما حواه الكتاب من أبحاث ... لأترك للقارىء الكريم فرصة المتعة في البحث عن الدرر.. بيد أني راغب في الافصاح عن شعوري نحو هذا الكتاب ، وما رغبت في ذلك إلا لأنه قد أبكاني ، وأضحكني ... أبكاني حتى انتفضت ، وأضحكني حتى استلقيت ... أبكاني عند عرضه لاسلام عمر .. وأبكاني عندما وصف حالة رسول الله لما توفي ابنه إبراهيم . وأضحكني عندما قرأت عن دعابات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومزحه ، وحسن قبول الدعابات في نفسه ، وما كان من أمر نعيمان بن عمرو . وعبد الله الخمار .. على أن هذه المواقف لم تكن جديدة علي عندما قرأت هذا الكتاب .. ولكن الذي حرك المشاعر ، وأثار الخواطر ، وأهاج الأحاسيس ، حتى اضحك .. وابكي .. إنما هو : جمال العرض ، وصدق التعبير، ودقة التحليل ، وروعة الاستقصاء ... وهذه سمات تميز بها العقاد. فجزاه الله خير الجزاء.

مهدي عبد الحمید مصطفی
مبعوث الأزهر الشريف في لبنان