في ليلة حالكة كالهموم

في لَيلَةٍ حالِكَةٍ كَالهُمومِ

​في لَيلَةٍ حالِكَةٍ كَالهُمومِ​ المؤلف إلياس أبو شبكة


في لَيلَةٍ حالِكَةٍ كَالهُمومِ
هابِطَةٍ الجَوِّ بِثِقلِ الغُيوم
كانَ الفَتى الشاعِرُ مخدِعِه
يَبكي فَيَجري القَلبُ في أَدمُعِه
وَكانَت الشَمَعَةُ في حُجرَتِه
تَنزَعُ كَالمَيِّتِ في ساعَتِه
وَكانَت الوحدَةُ كَالمَدفَنِ
موحِشَةً في ذلِكَ المَسكَنِ
وَاِستَيقَظَ الشاعِرُ من سَكرَتِه
وَحَوَّلَ العَينَ الى شَمعَتِه
وَبَعدَ أَن مَرَّت عَلَيهِ ثَوان
كَأَنَّها من دامِياتِ الزَمان
يا شَمعَتي ماذا وَراءَ النَزاع
ما هذِهِ القَطرَةُ تَحتَ الشُعاع
في دَمعِكِ الشاحِبِ نورٌ يَذوب
ماذا تَقولينَ بهِ لِلقُلوب
أَيَنتَهي الحُبُّ كما تَنتَهين
يا شَمعَتي يا مَثَل العاشِقين
وَإِذ تَلاشى نَفَسُ الشَمعَةِ
مِثلَ تَلاشي الروحِ في المَيِّتِ
يا مَدفَنَ الاِنوارِ ماذا وَراء
هذا الدُجى الحالِكِ هذا الغِطاء
لِم يَنقَضي اللَيلُ وَيَأتي السَحَر
مَهزَلَةٌ من مَهزَلاتِ القَدَر
في ذلِك اللَيلِ العَصيبِ الطَويل
تذَكَّرَ الشاعِرُ عَهداً جَميل
إِذا كانَ في مَيعَتِهِ الناعِمَه
يَحلمُ بِالسَعادَةِ الدائِمَه
يا خافِقاً أَلِلَّهَ ما أَوجَعَك
ما أَبخلَ الدُنيا وَما أَطمَعَك
في ذلِكَ اللَيلُ وَما أَظلَمَه
ذِكرُ الصِبى في الأَكبُدِ المُغرَمَه
تَذكَّرَ الشاعِرُ فَجرَ الشَباب
وَذلِكَ الوادي وَتِلكَ الهِضاب
وَوالِداً مَرَّ مُرورَ الشَبح
كَأَنَّه يومُ صَفاءٍ سَنَح
فَقالَ يا قَلبي الى الجَلجَله
حَملتَ آمالَ الصِبى المُثقَلَه
أحلِ غَلواءُ وَأَجلِ العَذاب
كَتَبتَ لي في الحُب هذا الكِتاب
إِذا بِهِ في الحُجرَةِ المُظلِمَه
يُصغي إِلى حَشرَجَةٍ مُؤلِمَه
وَراءَ في قَلبِ الدُجى والِدَه
يَغيمُ في شَفّافَةٍ صاعِدَه
كَأَنَّها وهيَ تَشُقُّ القَتام
لَوحَةُ فَجرٍ في إِطارِ الظَلام
قُدِّستِ يا غَيبوبَةَ الشاعِرِ
رُؤيا كَمَرِّ الحُلُمِ الطاهِرِ
قُدِّسَت في أَحلامِكِ الشاحِبَه
قَدَّستِ في آلامِك الذائِبَه
في كُلِّ ما تَحمِلُ مِنكِ العُيون
في سورَةِ الحُب وَسُكر الجُنون
في جَوفِ تِلكَ اللَيلَةِ البارِدَه
كَأَنَّها ضَمائِرٌ جاحِدَه
وَلِلرياحِ الهوجِ بَينَ الوَرَق
عَزفٌ كَأَنَّ الجِنَّ فيهِ زَعَق
تَحَرَّكَ اللَيلُ وَقالَ الخَيال
من لَيسَ يَبكي في اللَيالي الطِوال
من لَم يَذُق في الخُبزِ طعمَ الأَلَم
وَلم يُنَكِّر وَجنَتَيهِ السَقَم
مَن لا يَرى في الشَمسِ طيفَ الغُروب
وَيَسمَعُ اللَيلَ اِختِلاجَ القُلوب
من لَم يَغمس في هواهُ دمه
من يَمنَع الأَهوالُ أَن تُطعِمَه
من لَيسَ يَرقى ذَروَةَ الجَلجَلَه
وَلم يُسمِّر في الهَوى أَنمُلَه
مَن يَصرف العُمرَ عَلى المخمَلِ
وَلا يَذوقُ البُؤسَ في الأَوَّلِ
لَن يَعرِفَ العُمرَ شعاعَ الإِله
وَلن يَرى آمالَهُ في رؤاه
وَاِنسَحَبَ الطَيفُ الى ظُلمَتِه
يَجُرُّ بِالأَذيالِ من وَمضَتِه
حَتّى إِذا سادَ السُكونُ المُخيفُ
وَكان في الخارِج صَوتُ الحَفيف
أَفاقَ من سَكرَتِهِ الشاعِرُ
وَقالَ هل يُرجى لَه آخِرُ
قَد يَحمِلُ الفَجرَ عَزاءً إِلَيّ
إِن حَمَلَ النورَ إِلى مُقلَتَيَّ
يُخيفُني اللَيلُ بِأَرواحِه
ثائِرَةً كَالهَولِ في ساحِهِ
لا أنشِدُ البُؤسَ وَلا أَرغَبُ
في حَمل حُبٍّ قَومُهُ عُذِّبوا
يُخيفُني في مَخدِعي البارِدِ
خَيالُ حُبِّ مُبهَمٍ جامِدِ
يُخيفُني اللَيلُ فَأَينَ السَحَر
يَطرُدُ مِن عَينَيَّ هذي الصُوَر
كانَ الدُجى لمّا يَزَل ثائِرا
وَالريحُ تُدمي الأُفُقَ الماطِرا
كَأَنَّ لِلَّيلِ هَوىً حائِرا
ذاقَ الأَسى فَلَم يَزَل ساهِرا