قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة/الصفحة السابعة



والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول كلفظ القديم؛ فإنه في لغة الرسول التي جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقا بغيره، كقوله تعالى: 1: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقوله تعالى عن إخوة يوسف 2: {تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} وقوله تعالى 3: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأقْدَمُونَ}.

وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقا بعدم نفسه، ويجعلونه – إذا أريد به هذا – من باب المجاز.

ولفظ "المحدث" في لغة القرآن مقابل للفظ "القديم" في القرآن. وكذلك لفظ "الكلمة" في لغة القرآن والحديث وسائر لغات العرب إنما يراد به الجملة التامة كقوله : "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".

وقوله: "إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلال الله باطل".

ومنه قوله تعالى 4: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}، وقوله تعالى 5: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، وقوله تعالى 6: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا} وأمثال ذلك.

ولا يوجد لفظ الكلام في لغة العرب إلا بهذا المعنى، والنحاة اصطلحوا على أن يسموا الاسم وحده والفعل والحرف كلمة، ثم يقول: بعضهم وقد يراد بالكلمة الكلام. فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب.

وكذلك لفظ "ذوي الأرحام" في الكتاب والسنة يراد به الأقارب من جهة الأبوين فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب، ثم صار ذلك في اصطلاح الفقهاء اسما لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن هذا هو المراد بهذا اللفظ في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة. ونظائر هذا كثيرة.

ولفظ "التوسل" و "الاستشفاع" ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم.

والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقوق. والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله. فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية.

ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلي على النبي ونسلم عليه في كل مكان، فهذا مما اتفق عليه المسلمون، وكذلك رغبنا وحضنا في الحديث الصحيح على أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقاما محمودا الذي وعده.

فهذه الوسيلة التي شرع لنا أن نسألها الله تعالى – كما شرع لنا أن نصلي عليه ونسلم عليه – هي حق له، كما أن الصلاة عليه والسلام حق له . والوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها إليه هي التقرب إلى الله بطاعته، وهذا يدخل فيه كل ما أمرنا الله به ورسوله، وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبي بالإيمان به وطاعته، وهذا التوسل به فرض على كل أحد.

وأما التوسل بدعائه وشفاعته – كما يسأله الناس يوم القيامة أن يشفع لهم، وكما كان الصحابة يتوسلون بشفاعته في الاستسقاء وغيره، مثل توسل الأعمى بدعائه حتى رد الله عليه بصره بدعائه وشفاعته – فهذا نوع ثالث من باب قبول الله دعاءه وشفاعته لكرامته عليه، فمن شفع له الرسول ودعا له فهو بخلاف من لم يَدْعُ له ولم يشفع به.

ولكن بعض الناس ظن أن توسل الصحابة به كان بمعنى أنهم يقسمون به ويسألون به، فظن هذا مشروعا مطلقا لكل أحد في حياته ومماته، وظنوا أن هذا مشروع في حق الأنبياء والملائكة، بل وفي الصالحين وفيمن يظن فيهم الصلاح، وإن لم يكن صالحا في نفس الأمر.

وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديث في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها في الأحاديث – لا في الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره – وإنما يوجد في الكتب التي عرف أن فيها كثيرا من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون بخلاف من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب، فإن هؤلاء توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء.

ولهذا تنازع الحافظ أبو العلاء الهمذاني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: هل في المسند حديث موضوع؟، فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة.

ولا منافاة بين القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه، ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع.

وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء.

وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلا في السلف.

أما الصحابة فلم يعرف فيهم – ولله الحمد – من تعمد الكذب على النبي ، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفرق، ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بين هذا في غير هذا الموضع.

والخضر الذي يأتي كثيرا من الناس إنما هو جني تصور بصورة إنسي أو إنسي كذاب، ولا يجوز أن يكون ملكا مع قوله أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب وإنما يكذب الجني والإنسي.

وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنيا مما يطول ذكره في هذا الموضع.

وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس، وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع.

وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب في التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة بخلاف الشيعة فإن الكذب معروف فيهم، وقد عرف الكذب بعد هؤلاء في طوائف.

وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحيانا وفيمن بعدهم، ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يعلم أنه حق.

فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط، والإمام أحمد نفسه قد بين ذلك وبين أنه رواها لتعرف، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب.

ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن كأبي داود والترمذي مثل نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجودُ من شرط أبي داود في سننه.

والمقصود أن هذه الأحاديث التي تُروى في ذلك من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة بل الموضوعة، التي يرويها من يجمع في الفضائل والمناقب الغث والسمين، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنف في فضائل الأوقات وفضائل العبادات وفضائل الأنبياء والصحابة وفضائل البقاع ونحو ذلك، فإن هذه الأبواب فيها أحاديث صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث ضعيفة وأحاديث كذب موضوعة، ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة.

لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال مالم يُعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب.

وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقا، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجبا أو مستحبا بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع.

وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا عُلم تحريمه وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب مالم يعلم أنه كذب، لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله.

وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يروى منها ما لم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أن الله أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا.

فأما أن يثبت شرعا لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم، ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة.

ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه.

ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح، وضعيف.

والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعف خفيف لا يمنع من ذلك.

وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام – صحيح، وحسن، وضعيف – هو أبو عيسى الترمذي في جامعه.

والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ.

فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفا ويحتج به، ولهذا مثل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما. وهذا مبسوط في موضعه.

والأحاديث التي تروى في هذا الباب – وهو السؤال بنفس المخلوقين – هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها.

مثل الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده أن أبا بكر الصديق أتى النبي فقال: إنني أتعلم القرآن ويتفلت مني فقال له رسول الله :"قل اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وبإبراهيم خليلك وبموسى نجيك وعيسى روحك وكلمتك وبتوارة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد وبكل وحي أوحيته وقضاء قضيته". وذكر تمام الحديث.

وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري في جامعه، ونقله ابن الأثير في جامع الأصول ولم يَعزُه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنه قد رواه من صنف في عمل يوم وليلة كابن السني وأبي نُعيم.

وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء.

وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة كذب موضوعة.

ورواه أبو موسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، وقال: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل.

قال أبو موسى: ورواه محرز بن هشام عن عبد الملك عن أبيه عن جده، عن الصديق رضي الله عنه، وعبد الملك ليس بذاك القوي، وكان بالري، وأبوه وجده ثقتان.

قلت: عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب، قال يحيى بن معين: هو كذاب. وقال السعدي دجال كذاب. وقال أبو حاتم بن حبان: يضع الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أحمد بن حنبل: ضعيف. وقال ابن عدي: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد. وقال الدارقطني: هو وأبوه ضعيفان. وقال الحاكم في كتاب المدخل: عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحاديث موضوعة.

وأخرجه أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات.

وقول الحافظ أبي موسى: "هو منقطع" يريد أنه لو كان رجاله ثقات فإن إسناده منقطع.

وقد روى عبد الملك – هذا الحديث الآخر المناسب لهذا في استفتاح أهل الكتاب به كما سيأتي ذكره، وخالف فيه عامة ما نقله المفسرون وأهل السير وما دل عليه القرآن، وهذا يدل على ما قاله العلماء فيه من أنه متروك؛ إما لتعمده الكذب، وإما لسوء حفظه، وتبين أنه لا حجة لا في هذا ولا في ذاك.

ومثل ذلك الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب مرفوعا وموقوفا عليه "أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال: يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي. قال: وكيف عرفت محمدا؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا": لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد ما خلقتك".

وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن مسلم الفهري عن إسماعيل بن مسلمة عنه. وقال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن في هذا الكتاب. وقال الحاكم: هو صحيح.

ورواه الشيخ أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة موقوفا على عمر من حديث عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم موقوفا.

ورواه الآجري أيضا من طريق آخر، من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه موقوفا عليه، وقال: حدثنا هارون بن يوسف التاجر، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثني أبو عثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: "من الكلمات التي تاب الله بها على آدم: قال: اللهم إني أسألك بحق محمد عليك. قال الله تعالى: وما يدريك ما محمد؟ قال: يارب رفعت رأسي فرأيت مكتوبا على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك".

قلت: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.

قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرا، ضعفه أحمد بن حنبل وأبوزرعة وأبوحاتم والنسائي، والدارقطني وغيرهم، وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.

وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث.

كما صحح حديث زريب بن ثرملا الذي فيه ذكر وصي المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة كما بين ذلك البيهقي وابن الجوزي وغيرهما.

وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها، وهي عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة.

ومنها ما يكون موقوفا يرفعه.

ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه. وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه.

بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدرا.

وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم.

ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم. ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب. والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحدا أعلم بالعلل منه.

ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثا اختُلف في إسناده أو بعض ألفاظه أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يُغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقرونا بالاختلاف فيه.

ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعه. بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه.

كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روى أنه صلى بركوعين.

والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.

والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم. ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب.

وكذلك روى مسلم: "خلق الله التربة يوم السبت".

ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى بن معين والبخاري وغيرهما فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي .

والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم وكان خلقه يوم الجمعة.

وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في الأيام السبعة.

وقد روي إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد.

وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي أن يتزوج بأم حبيبة وأن يتخذ معاوية كاتبا، وغلّطه في ذلك طائفة من الحفاظ.

ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علما قطعيا أن النبي قالها. وبسط الكلام في هذا له موضع آخر.

وهذا الحديث المذكور في آدم يذكره طائفة من المصنفين بغير إسناد وما هو من جنسه مع زيادات أخر، كما ذكر القاضي عياض قال: وحكى أبو محمد المكي وأبو الليث السمرقندي وغيرهما: "أن آدم عند معصيته قال: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي – قال: ويروى تقبل توبتي – فقال الله له: من أين عرفت محمدا؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

قال: ويروى: محمد عبدي ورسولي، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك، فتاب عليه وغفر له".

ومثل هذا لا يجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا يعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي ، وهذه لو نقلها مثل كعب الأحبار ووهب ابن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ وقصص المتقدمين عن أهل الكتاب لم يجز أن يحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين، فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين، بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يحتج بحديثه، واضطرب عليه فيها اضطرابا يعرف [به] أنه لم يحفظ ذلك، ولم ينقل ذلك ولا ما يشبهه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يعتمد على نقلهم، وإنما هي من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر وأمثاله في كتب المبتدأ، وهذه لو كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعا لهم، وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنيا على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ والنزاع في ذلك مشهور.

لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا مالم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع، لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا أو بما تواتر عنهم، لا بما يروى على هذا الوجه، فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحد من المسلمين.

ومن هذا الباب حديث ذكره موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير بإسناده عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: "من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف، أو في صحف قوارير بعسل وزعفران وماء مطر، وليشربه على الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، ويدعو به في أدبار صلواته: اللهم إني أسألك بأنك مسئول، لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك". وذكر تمام الدعاء.

وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين، قال أبو أحمد بن عدي فيه: منكر الحديث.

وقال أبو حاتم ابن حبان: دجال يضع الحديث، وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابا في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل.

ويروى نحو هذا – دون الصوم – عن ابن مسعود من طريق موسى بن إبراهيم المروزي حدثنا وكيع عن عبيدة عن شقيق عن ابن مسعود.

وموسى بن إبراهيم هذا قال فيه يحيى بن معين: كذاب، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: كان مغفلا يلقن فيتلقن فاستحق الترك.

ويروى هذا عن عمر بن عبد العزيز عن مجاهد بن جبر عن ابن مسعود بطريق أضعف من الأول.

ورواه أبو الشيخ الأصبهاني من حديث أحمد بن إسحاق الجوهري: حدثنا أبو الأشعث، حدثنا زهير بن العلاء العتبي، حدثنا يوسف بن يزيد عن الزهري، ورفع الحديث قال: "من سره أن يَحفظ فليصم سبعة أيام، وليكن إفطاره في آخر هذه الأيام السبعة على هؤلاء الكلمات".

قلت: وهذه أسانيد مظلمة لا يثبت بها شيء.

وقد رواه أبو موسى المديني في أماليه، وأبوعبد الله المقدسي، على عادة أمثالهم في رواية ما يروى في الباب سواء كان صحيحا أو ضعيفا، كما اعتاده أكثر المتأخرين من المحدثين، أنهم يروون ما روي به الفضائل، ويجعلون العهدة في ذلك على الناقل، كما هي عادة المصنفين في فضائل الأوقات والأمكنة والأشخاص والعبادات والعادات.

كما يرويه أبو الشيخ الأصبهاني في فضائل الأعمال وغيره، حيث يجمع أحاديث كثيرة لكثرة روايته، وفيها أحاديث كثيرة قوية صحيحة وحسنة، وأحاديث كثيرة ضعيفة موضوعة وواهية.

وكذلك ما يرويه خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة.

وما يرويه أبو نعيم الأصبهاني في فضائل الخلفاء في كتاب مفرد، وفي أول حلية الأولياء.

وما يرويه أبو الليث السمرقندي وعبد العزيز الكناني وأبوعلي بن البناء وأمثالهم من الشيوخ، وما يرويه أبو بكر الخطيب وأبوالفضل بن ناصر وأبوموسى المديني وأبوالقاسم بن عساكر والحافظ عبد الغني وأمثالهم ممن له معرفة بالحديث، فإنهم كثيرا ما يروون في تصانيفهم ما روي مطلقا على عادتهم الجارية؛ ليعرف ما روي في ذلك الباب لا ليحتج بكل ما روي، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ويقول: غريب، ومنكر، وضعيف. وقد لا يتكلم.

وهذا بخلاف أئمة الحديث الذين يحتجون به ويبنون عليه دينهم مثل مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وابن المنذر، وداود بن علي، ومحمد بن جرير الطبري، وغير هؤلاء، فإن هؤلاء الذين يبنون الأحكام على الأحاديث يحتاجون أن يجتهدوا في معرفة صحيحها وضعيفها وتمييز رجالها.

وكذلك الذين تكلموا في الحديث والرجال ليميزوا بين هذا وهذا لأجل معرفة الحديث كما يفعل أبو أحمد بن عدي، وأبوحاتم البستي، وأبوالحسن الدارقطني وأبوبكر الإسماعيلي، وكما قد يفعل ذلك، أبو بكر البيهقي، وأبوإسماعيل الأنصاري، وأبوالقاسم الزنجاني، وأبوعمر ابن عبد البر، وأبومحمد بن حزم، وأمثال هؤلاء، فإن بسط هذه الأمور له موضع آخر.

ولم يذكر من لا يروي بإسناد – مثل كتاب وسيلة المتعبدين لعمر الملا الموصلي، وكتاب الفردوس لشهريار الديلمي، وأمثال ذلك – فإن هؤلاء دون هؤلاء الطبقات، وفيما يذكرونه من الأكاذيب أمر كبير.

والمقصود هنا، أنه ليس في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي يعتمد عليه في مسألة شرعية، باتفاق أهل المعرفة بحديثه، بل المروي في ذلك إنما يعرف أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات؛ إما تعمدا من واضعه، وإما غلطا منه.


هامش

  1. (36: 39)
  2. (12: 95)
  3. (26: 75 – 76)
  4. (18: 5)
  5. (3: 64)
  6. (9: 40)


قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية
الصفحة الأولى | الثانية | الثالثة | الرابعة | الخامسة | السادسة | السابعة | الثامنة | التاسعة | العاشرة | الحادية عشر | الثانية عشر