كتاب الأم/كتاب اختلاف مالك والشافعي رضي الله عنهما/باب صلاة الإمام إذا كان مريضا بالمأمومين جالسا وصلاتهم خلفه قياما
سألت الشافعي: هل للإمام أن يؤم الناس جالسا وكيف يصلون وراءه أيصلون قعودا أو قياما؟ فقال: يأمر من يقوم فيصلي بهم أحب إلي، وإن أمهم جالسا، وصلوا خلفه قياما كان صلاتهم وصلاته مجزية عنهم معا وكان كل صلى فرضه كما يصلي الإمام إذا كان صحيحا قائما، ويصلي خلفه من لم يقدر على القيام جالسا فيكون كل صلى فرضه، وإنما اخترت أن يوكل الإمام إذا مرض رجلا صحيحا يصلي بالناس قائما أن مرض رسول الله ﷺ كان أياما كثيرة وأنا لم نعلمه صلى بالناس جالسا في مرضه إلا مرة لم يصل بهم بعدها علمته حتى لقي الله فدل ذلك على أن التوكيل بهم والصلاة قاعدا جائزان عنده معا وكان صلاتهم مع غيره بأمره أكثر منه فقلت للشافعي: فهل حفظت أن رسول الله ﷺ صلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اقعدوا ثم أمرهم حين فرغ من الصلاة إذا صلى الإمام قاعدا أن يصلوا قعودا أجمعون؟ فقال: نعم.
[قال الشافعي]: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك: (أن رسول الله ﷺ ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن فصلى في بيته قاعدا وصلى خلفه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون).
[قال الشافعي]: أخبرنا مالك عن هشام يعني ابن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (صلى رسول الله ﷺ في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى خلفه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا) فقلت للشافعي: فقد رويت هذا فكيف لم تأخذ به؟ فقال: هذا منسوخ بفعل رسول الله ﷺ فقلت: وما نسخه؟ فقال: الحديث الذي ذكرت لك يدلك على أن هذا كان في صرعة صرعها رسول الله ﷺ فقلت فما نسخه؟ فقال: (صلى رسول الله ﷺ بالناس في مرضه الذي مات فيه جالسا، والناس خلفه قياما لم يأمرهم بجلوس ولم يجلسوا) ولولا أنه منسوخ صاروا إلى الجلوس بمتقدم أمره إياهم بالجلوس ولو ذهب ذلك عليهم لامرهم بالجلوس وقد صلى أبو بكر إلى جنبه بصلاته قائما ومرضه الذي مات فيه آخر فعله وبعد سقطته لأنه لم يركب في مرضه الذي مات فيه حتى قبضه الله بأبي هو وأمي قلت: فاذكر الحديث الذي رويته في هذا فقال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه: (أن رسول الله ﷺ خرج في مرضه فأتى أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله ﷺ أن كما أنت فجلس رسول الله إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي ﷺ وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر) [قال: الشافعي] رحمه الله تعالى أخبرنا الثقة عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بمثل معناه لا يخالفه وأوضح منه قال: وصلى أبو بكر إلى جنبه قائما.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا الثقة عن يحيى بن سعيد عن ابن أبي مليكة عن عبيد بن عمير قال: أخبرتني الثقة كأنه يعني عائشة ثم ذكر صلاة النبي ﷺ وأبو بكر إلى جانبه بمثل معنى حديث هشام بن عروة عن أبيه، قال: وروي عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة بمثل معنى حديث هشام وعبيد بن عمير، فقلت للشافعي: فإنا نقول: لا يصلي أحد بالناس جالسا ونحتج بأنا روينا عن ربيعة أن أبا بكر صلى برسول الله ﷺ.
[قال الشافعي]: فإن كان هذا ثابتا فليس فيه خلاف لما أخذنا به ولا ما تركنا من هذه الأحاديث قلت ولم؟ قال: قد مرض رسول الله ﷺ أياما وليالي لم يبلغنا أنه صلى بالناس إلا صلاة واحدة، وكان أبو بكر يصلي بالناس في أيامه تلك، وصلاة النبي ﷺ بالناس مرة لا تمنع أن يكون صلى أبو بكر غير تلك الصلاة بالناس مرة ومرات، وكذلك لو صلى رسول الله ﷺ خلف أبي بكر مرة ومرات لم يمنع ذلك أن يكون صلى خلفه أبو بكر أخرى كما كان أبو بكر يصلي خلف رسول الله ﷺ أكثر عمره فقلت للشافعي: فقد ذهبنا إلى توهين حديث هشام بن عروة بحديث ربيعة قال: فإنما ذهبتم إليه لجهالتكم بالحديث والحجج، حديث ربيعة مرسل لا يثبت مثله ونحن لم نثبت حديث هشام بن عروة عن أبيه حتى أسنده هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، والأسود عن عائشة عن النبي ﷺ ووافقه عبيد بن عمير فكيف احتججتم بما لا يثبت من الحديث على ما ثبت؟ وهو إذا ثبت حتى يكون أثبت حديث يكون كما وصفت لا يخالف حديث عروة ولا أنس ولا موافقه ولا بمعنى فيوهن حديثنا، وهذا منكم جهالة بالحديث وبالحجة.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أو رأيت إذ جهلتم الحديث والحجة فلو كان حديث هشام بن عروة عن أبيه في صلاة النبي ﷺ بأبي بكر غير ثابت فيكون ناسخا لحديث أنس وعائشة عن النبي بأمره إذا صلى جالسا يصلي من خلفه جلوسا أما كنتم خالفتم حديثين ثابتين عن النبي ﷺ إلى غير حديث ثابت عنه، وهو لا يحل خلاف رسول الله ﷺ إلا إلى حديث عنه ينسخ حديثه الذي خالفه إليه، أو يكون أثبت منه؟ فلو لم يثبت حديث هشام حتى يكون ناسخا للحديثين لزمكم أن تأمروا من صلى خلف الإمام قائما أن يجلس إذا جلس كما روى أنس وعائشة أن النبي ﷺ أمره، وإن كان حديث هشام ناسخا فقد خالفتم الناسخ والمنسوخ إلى قول أنفسكم وخلاف السنة ضيق على كل مسلم فقلت للشافعي فهل خالفك في هذا غيرنا؟ فقال: نعم بعض الناس روى عن جابر الجعفي عن الشعبي أن رسول الله ﷺ قال: (لا يؤم أحد بعدي جالسا) قلت: فما كانت حجتك عليه ف[قال الشافعي]: قد علم الذي احتج بهذا أن ليست فيه حجة، وأن هذا حديث لا يثبت مثله بحال على شيء، ولو لم يخالفه غيره فقلت للشافعي: فإن قلت: لم يعمل بهذا أحد بعد النبي ﷺ؟ ف[قال الشافعي]: قد بينا لك قبل هذا ما نرى أنا وأنتم نثبت الحديث عن النبي ﷺ وإن لم يعمل به بعده استغناه بالخبر عن رسول الله ﷺ عما سواه فلا حاجة لنا بإعادته فقلت للشافعي: فهل قال قولك هذا أحد من المشرقيين؟ فقال: نعم أبو حنيفة يقول فيه بقولنا ويخالفه صاحباه فقلت للشافعي: أفرأيت حديثهم عندهم في هذا يثبت؟ فقال: لا فقلت: فلم يحتجون به؟ قال الله أعلم، فأما الذي احتج به عليها فسألناه عنه فقال: لا يثبت؛ لأنه مرسل ولأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه فقلت فهذا سوء نصفة [فقال الشافعي] رحمه الله تعالى: أجل، وأنتم أسوأ منه نصفة حين لا تعتدون بحديثهم الذي هو ثابت عندهم وتخالفون ما رويتم عن رسول الله ﷺ لا مخالف له عنه، والله أعلم.