كتاب الأم/كتاب الجزية/جماع الهدنة على أن يرد الإمام من جاء بلده مسلما أو مشركا
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ذكر عدد من أهل العلم بالمغازي (أن رسول الله ﷺ هادن قريشا عام الحديبية على أن يأمن بعضهم بعضا وأن من جاء قريشا من المسلمين مرتدا لم يردوه عليه ومن جاء إلى النبي ﷺ بالمدينة منهم رده عليهم، ولم يعطهم أن يرد عليهم من خرج منهم مسلما إلى غير المدينة في بلاد الإسلام والشرك، وإن كان قادرا عليه)، ولم يذكر أحد منهم أنه أعطاهم في مسلم غير أهل مكة شيئا من هذا الشرط وذكروا أنه أنزل عليه في مهادنتهم {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} فقال بعض المفسرين: قضينا لك قضاء مبينا فتم الصلح بين النبي ﷺ وبين أهل مكة على هذا حتى جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة مهاجرة فنسخ الله عز وجل الصلح في النساء وأنزل الله تبارك وتعالى {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} الآية كلها وما بعدها.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ويجوز للإمام من هذا ما روي أن رسول الله ﷺ فعل في الرجال دون النساء؛ لأن الله عز وجل نسخ رد النساء إن كن في الصلح ومنع أن يرددن بكل حال، فإذا صالح الإمام على مثل ما صالح عليه رسول الله ﷺ أهل الحديبية صالح على أن لا يمنع الرجال دون النساء للرجال من أهل دار الحرب إذا جاء أحد من رجال أهل دار الحرب إلى منزل الإمام نفسه وجاء من يطلبه من أوليائه خلى بينه وبينهم بأن لا يمنعه من الذهاب به وأشار على من أسلم أن لا يأتي منزله وأن يذهب في الأرض، فإن أرض الله عز وجل واسعة فيها مراغم كثيرة، وقد (كان أبو بصير لحق بالعيص مسلما ولحقت به جماعة من المسلمين فطلبوهم من النبي ﷺ فقال: إنما أعطيناكم أن لا نؤيهم ثم لا نمنعكم منهم إذا جئتم ونتركهم ينالون من المشركين ما شاءوا).
[قال الشافعي]: رحمه الله وإذا صالح الإمام على أن يبعث إليهم بمن كان يقدر على بعثه منهم ممن لم يأته لم يجز الصلح؛ لأن رسول الله ﷺ لم يبعث إليهم منهم بأحد، ولم يأمر أبا بصير، ولا أصحابه بإتيانهم، وهو يقدر على ذلك، وإنما معنى رددناه إليكم لم نمنعه كما نمنع غيره، وإذا صالحهم على أن لا يمنعهم من نساء مسلمات جئنه لم يجز الصلح وعليه منعهم منهن؛ لأنهن إن لم يكن دخلن في الصلح بالحديبية فليس له أن يصالح على هذا فيهن، وإن كن دخلن فيه، فقد حكم الله عز وجل أن لا ترجعوهن إلى الكفار ومنع رسول الله ﷺ من جاءه من النساء وهكذا من جاءه من معتوه، أو صبي هاربا منهم لم تكن له التخلية بينه وبينهم؛ لأنهما يجامعان النساء في أن لا يمنعا معا ويزيدان على النساء أن لا يعرفا ثوابا في أن ينال منهما المشركون شيئا، ولا يرد إليهم في صبي، ولا في معتوه شيئا كما لا يرد إليهم في النساء غير المتزوجات شيئا؛ لأن الرد إنما هو في المتزوجات.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ومن جاءه من عبيدهم مسلما لم يرده إليهم وأعتقه بخروجه إليه، وفي إعطائهم القيمة قولان أحدهما أن يعطوها ذكرا، أو أنثى؛ لأن رقيقهم ليس منهم ولهم حرمة الإسلام. فإن قال: قائل فكيف لا يكون منهم؟ قيل: فإن الله عز وجل يقول {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فلم يختلف المسلمون أنها على الأحرار دون المماليك ذوي العدل، ولا يقال: لرقيق الرجل هم منك إنما يقال هم مالك، وإنما يرد عليهم القيمة بأنهم إذا صولحوا أمنوا على أموالهم ولهم أمان فلما حكم الله عز وجل بأن يرد نفقة الزوجة؛ لأنها فائتة حكم بأن يرد قيمة المملوك؛ لأنه فائت. وما رددنا عليهم فيه من النفقة. قلنا أن نأخذ منهم إذا فات المسلمين إليهم مثله وما لم نعطهم فيه شيئا من الأحرار الرجال، أو غير ذوات الأزواج لم نأخذ منهم شيئا إذا فات المسلمين إليهم مثله؛ لأن الله عز وجل إنما حكم بأن يرد إليهم العوض في الموضع الذي حكم للمسلمين بأن يأخذوا منهم مثله. والقول الثاني: لا يرد إليهم قيمة، ولا يأخذ منهم فيمن فات إليهم من رقيق عينا، ولا قيمة؛ لأن رقيقهم ليسوا منهم، ولا يجوز للإمام إذا لم يصالح القوم إلا على ما وصفت أن يمكنهم من مسلم كان أسيرا في أيديهم فانفلت منهم، ولا يقضي لهم عليه بشيء، ولو أقر عبدهم أنهم أرسلوه على أن يؤدي إليهم شيئا لم يجز له أن يأخذه لهم، ولم يخرج المسلم بحسبه؛ لأنه أعطاهموه على ضرورة هي أكثر الإكراه وكل ما أعطى المرء على الإكراه لم يلزمه.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولو أن أسيرا في بلاد الحرب أخذ منهم مالا على أن يعطيهم منه عوضا كان بالخيار بين أن يعطيهم مثل مالهم إن كان له مثل أو مثل قيمته إن لم يكن له مثل أو العوض الذي رضوا به، وإن كان في يده رده إليهم بعينه إن لم يكن تغير، وإن كان تغير رده ورد ما نقصه؛ لأنه أخذه على أمان، وإنما أبطلت عنه الشرط بالإكراه والضرورة فيما لم يأخذ به عرضا. وهكذا لو صالحنا قوما من المشركين على مثل ما وصفت فكان في أيديهم أسير من غيرهم فانفلت فأتانا لم يكن لنا رده عليهم من قبل أنه ليس منهم وأنهم قد يمسكون عن قتل وتعذيب من كان منهم إمساكا لا يمسكونه عن غيره.