كتاب الأم/كتاب ما اختلف فيه أبو حنيفة وابن أبي ليلى/باب الصدقة والهبة
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا وهبت المرأة لزوجها هبة، أو تصدقت، أو تركت له من مهرها، ثم قالت أكرهني وجاءت على ذلك ببينة فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول لا أقبل بينتها وأمضي عليها ما فعلت من ذلك، وكان ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول أقبل بينتها على ذلك وأبطل ما صنعت.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا تصدقت المرأة على زوجها بشيء، أو وضعت له من مهرها، أو من دين كان لها عليه فأقامت البينة أنه أكرهها على ذلك والزوج في موضع القهر للمرأة أبطلت ذلك عنها كله، وإذا وهب الرجل هبة وقبضها الموهوب له وهي دار فبناها بناء وأعظم النفقة، أو كانت جارية صغيرة فأصلحها، أو صنعها حتى شبت وأدركت فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول لا يرجع الواهب في شيء من ذلك ولا في كل هبة زادت عند صاحبها خيرا، ألا ترى أنه قد حدث فيها في ملك الموهوبة له شيء لم يكن في ملك الواهب؟ أرأيت إن ولدت الجارية ولدا كان للواهب أن يرجع فيه ولم يهبه له ولم يملكه قط؟ وبهذا يأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: له أن يرجع في ذلك كله وفي الولد.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا وهب الرجل للرجل جارية، أو دارا فزادت الجارية في يديه، أو بنى الدار فليس للواهب الذي ذكر أنه وهب للثواب ولم يشترط ذلك أن يرجع في الجارية أي حال ما كانت زادت خيرا، أو نقصت كما لا يكون له إذا أصدق المرأة جارية فزادت في يديها، ثم طلقها أن يرجع بنصفها زائدة فأما الدار فإن الباني إنما بنى ما يملك فلا يكون له أن يبطل بناءه ولا يهدمه ويقال له إن أعطيته قيمة البناء أخذت نصف الدار، والبناء كما يكون لك وعليك في الشفعة يبني فيها صاحبها ولا يرجع بنصفها كما لو أصدقها دارا فبنتها لم يرجع بنصفها؛ لأنه مبنيا أكثر قيمة منه غير مبني، ولو كانت الجارية ولدت كان الولد للموهوبة له؛ لأنه حادث في ملكه بائن منها كمباينة الخراج، والخدمة لها كما لو ولدت في يد المرأة المصدقة، ثم طلقت قبل الدخول كان الولد للمرأة ورجع بنصف الجارية إن أراد ذلك.
وإذا وهب الرجل جارية لابنه وابنه كبير وهو في عياله فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول لا تجوز إلا أن يقبض وبه يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول إذا كان الولد في عيال أبيه وإن كان قد أدرك فهذه الهبة جائزة، وكذلك الرجل إذا وهب لامرأته.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا وهب الرجل لابنه جارية وابنه في عياله فإن كان الابن بالغا لم تكن الهبة تامة حتى يقبضها الابن وسواء كان في عياله، أو لم يكن، وكذلك روي عن أبي بكر وعائشة وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم في البالغين، وعن عثمان أنه رأى أن الأب يحوز لولده ما كانوا صغارا وهذا يدل على أنه لا يحوز لهم إلا في حال الصغر.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وهكذا كل هبة ونحلة وصدقة غير محرمة فهي كلها من العطايا التي لا يؤخذ عليها عوض ولا تتم إلا بقبض المعطى.
وإذا وهب الرجل دارا لرجلين، أو متاعا، وذلك المتاع مما يقسم فقبضاه جميعا فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول لا تجوز تلك الهبة إلا أن يقسم لكل واحد منهما منها حصته، وكان ابن أبي ليلى يقول الهبة جائزة وبه يأخذ، وإذا وهب اثنان لواحد وقبض فهو جائز وقال أبو يوسف هما سواء.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا وهب الرجل لرجلين بعض دار لا تقسم، أو طعاما، أو ثيابا، أو عبدا لا ينقسم فقبضا جميعا الهبة فالهبة جائزة كما يجوز البيع، وكذلك لو وهب اثنان دارا بينهما تنقسم، أو لا تنقسم، أو عبدا لرجل وقبض جازت الهبة، وإذا كانت الدار لرجلين فوهب أحدهما حصته لصاحبه ولم يقسمه له فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول الهبة في هذا باطلة ولا تجوز وبه يأخذ ومن حجته في ذلك أنه قال لا تجوز الهبة إلا مقسومة معلومة مقبوضة بلغنا عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه نحل عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها جذاذ عشرين وسقا من نخل له بالعالية فلما حضره الموت قال لعائشة إنك لم تكوني قبضتيه وإنما هو مال الوارث فصار بين الورثة لأنها لم تكن قبضته، وكان إبراهيم يقول لا تجوز الهبة إلا مقبوضة وبه يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول إذا كانت الدار بين رجلين فوهب أحدهما لصاحبه نصيبه فهذا قبض منه للهبة وهذه معلومة وهذه جائزة، وإذا وهب الرجلان دارا لرجل فقبضها فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يفسد الهبة أنها كانت لاثنين وبه يأخذ.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدار بين رجلين فوهب أحدهما لصاحبه نصيبه فقبض الهبة فالهبة جائزة، والقبض أن تكون كانت في يدي الواهب فصارت في يدي الموهوبة له لا وكيل معه فيها، أو يسلمها ربها ويخلي بينه وبينها حتى يكون لا حائل دونها هو ولا وكيل له فإذا كان هذا هكذا كان قبضا، والقبض في الهبات كالقبض في البيوع ما كان قبضا في البيع كان قبضا في الهبة وما لم يكن قبضا في البيع لم يكن قبضا في الهبة.
وإذا وهب الرجل للرجل الهبة وقبضها دارا، أو أرضا، ثم عوضه بعد ذلك منها عوضا وقبض الواهب فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول ذلك جائز ولا يكون فيه شفعة وبه يأخذ وليس هذا بمنزلة الشراء، وكان ابن أبي ليلى يقول هذا بمنزلة الشراء ويأخذ الشفيع بالشفعة بقيمة العوض ولا يستطيع الواهب أن يرجع في الهبة بعد العوض في قولهما جميعا.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا وهب الرجل الرجل شقصا من دار فقبضه، ثم عوضه الموهوبة له شيئا فقبضه الواهب سئل الواهب فإن قال وهبتها لثواب كان فيها الشفعة وإن قال وهبتها لغير ثواب لم يكن فيها شفعة، وكانت المكافأة كابتداء الهبة وهذا كله في قول من قال للواهب الثواب إذا قال أردته فأما من قال لا ثواب للواهب إن لم يشترطه في الهبة فليس له الرجوع في شيء وهبه ولا الثواب منه [قال الربيع]: وفيه قول آخر: إذا وهب واشترط الثواب فالهبة باطلة من قبل أنه اشترط عوضا مجهولا، وإذا وهب لغير الثواب وقبضه الموهوب فليس له أن يرجع في شيء وهبه وهو معنى قول الشافعي.
وإذا وهب الرجل للرجل هبة في مرضه فلم يقبضها الموهوبة له حتى مات الواهب فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول: الهبة في هذا باطلة لا تجوز وبه يأخذ [قال]: ولا تكون له وصية إلا أن يكون ذلك في ذكر وصيته، وكان ابن أبي ليلى يقول هي جائزة من الثلث.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا وهب الرجل في مرضه الهبة فلم يقبضها الموهوبة له حتى مات لم يكن للموهوبة له شيء، وكانت للورثة الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لا تجوز الصدقة إلا مقبوضة الأعمش عن إبراهيم قال: الصدقة إذا علمت جازت، والهبة لا تجوز إلا مقبوضة، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يأخذ بقول ابن عباس في الصدقة وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وليس للواهب أن يرجع في الهبة إلا قبض منها عوضا قل، أو كثر.